الجمعة، 6 مايو 2022

مج 10 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

  مج 10 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

23 - باب الضِّجْعَةِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ
1160 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ"
قوله: "باب الضجعة" بكسر الضاد المعجمة لأن المراد الهيئة، وبفتحها على إرادة المرة. قوله: "أبو الأسود" هو النوفلي يتيم عروة. قوله: "على شقه الأيمن" قيل الحكمة فيه أن القلب في جهة اليسار فلو اضطجع عليه لاستغرق نوما لكونه أبلغ في الراحة، بخلاف اليمين فيكون القلب معلقا فلا يستغرق. وفيه أن الاضطجاع إنما يتم إذا كان على الشق الأيمن، وأما إنكار ابن مسعود الاضطجاع، وقول إبراهيم النخعي هي ضجعة الشيطان كما أخرجهما ابن أبي شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهما الأمر بفعله، وكلام ابن مسعود يدل على أنه إنما أنكر تحتمه فإنه قال في آخر كلامه: إذا سلم فقد فصل، وكذا ما حكى عن ابن عمر أنه بدعة فإنه شذ بذلك حتى روي عنه أنه أمر بحصب من اضطجع كما تقدم. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع، وأرجح الأقوال مشروعيته للفصل لكن لا بعينه كما تقدم. والله أعلم.

(3/43)


24 - باب مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ
1161 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلاَ اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤْذَنَ بِالصَّلاَةِ"
قوله: "باب من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع" أشار بهذه الترجمة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم عليها، وبذلك احتج الأئمة على عدم الوجوب، وحملوا الأمر الوارد بذلك في حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره على الاستحباب، وفائدة ذلك الراحة والنشاط لصلاة الصبح، وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للتهجد وبه جزم ابن العربي، ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأب

(3/43)


26 (1)- باب الْحَدِيثِ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ
1168 – حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال أبو النضر حدثني عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين, فإن كنت مستيقضة حدثني, وإلا اضطجع" قلت لسفيان: فإن
ـــــــ
1 الباب رقم 25 وأحاديثه الستة بأرقام 1167,1166,1165,1164,1163,1162تأتي في ص 48-49 بعد الانتهاء من شرح الحديث رقم 1171 وسينبه الشارح على ذلك هناك.

(3/44)


بعضهم يرويه ركعتي الفجر, قال سفيان: هو ذاك
قوله: "باب الحديث بعد ركعتي الفجر" أعاد فيه الحديث المذكور ولفظه: "كان يصلي ركعتين" وفي آخره: قلت لسفيان فإن بعضهم يرويه "ركعتي الفجر" قال سفيان: هو ذاك. والقائل "قلت لسفيان" هو علي بن المديني شيخ البخاري فيه، ومراده بقوله: "بعضهم" مالك كذا أخرجه الدارقطني من طريق بشر بن عمر عن مالك أنه سأله عن الرجل يتكلم بعد طلوع الفجر فحدثني عن سالم فذكره، وقد أخرجه ابن خزيمة عن سعيد بن عبد الرحمن المحزومي عن ابن عيينة بلفظ: "كان يصلي ركعتي الفجر" واستدل به على جواز الكلام بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح خلافا لمن كره ذلك، وقد نقله ابن أبي شيبة عن ابن مسعود ولا يثبت عنه وأخرجه صحيحا عن إبراهيم وأبي الشعثاء وغيرهما. "تنبيه": وقع هنا في بعض النسخ عن سفيان "قال سالم أبو النضر حدثني أبي" وقوله: "أبي" زيادة لا أصل لها: بل هي غلط محض حمل عليها تقديم الاسم على الصفة فظن بعض من لا خبرة له أن فاعل حدثني راو غير سالم فزاد في السند لفظ أبي، وقد تقدم الحديث بهذا السند قريبا عن بشر بن الحكم عن سفيان عن أبي النضر عن أبي سلمة ليس بينهما أحد، وكذا في الذي قبله من رواية مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة، وقد أخرجه الحميدي في مسنده عن سفيان حدثنا أبو النضر عن أبي سلمة، وليس لوالد أبي النضر مع ذلك رواية أصلا لا في الصحيح ولا في غيره فمن زادها فقد أخطأ. وبالله التوفيق.

(3/45)


27 - باب تَعَاهُدِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَمَنْ سَمَّاهُمَا تَطَوُّعًا
1169 - حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ"
قوله: "باب تعاهد ركعتي الفجر ومن سماهما" في رواية الحموي والمستملي: "ومن سماها" أي سنة الفجر.
قوله: "تطوعا" أورد في الباب بلفظ النوافل، وأشار بلفظ التطوع إلى ما ورد في بعض طرقه، ففي رواية أبي عاصم عن ابن جريج عند البيهقي "قلت لعطاء أواجبة ركعتا الفجر أو هي من التطوع؟ فقال: حدثني عبيد بن عمير" فذكر الحديث. وجاء عن عائشة أيضا تسميتها تطوعا من وجه آخر، فعند مسلم من طريق عبد الله بن شقيق "سألت عائشة عن تطوع النبي صلى الله عليه وسلم: "فذكر الحديث وفيه: "وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين". الحديث: قوله: "بيان" بفتح الموحدة والتحتانية الخفيفة. ويحيى بن سعيد هو القطان. قوله: "عن عطاء" في رواية مسلم عن زهير بن حرب عن يحيي عن ابن جريج" حدثني عطاء". قوله: "عن عبيد بن عمير" في رواية ابن خزيمة عن يحيي بن حكيم عن يحيي بن سعيد بسنده "أخبرني عبيد بن عمير". قوله: "أشد تعاهدا" في رواية ابن خزيمة: "أشد معاهدة" ولمسلم من طريق حفص عن ابن جريج "ما رأيته إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر" زاد ابن خزيمة من هذا الوجه "ولا إلى غنيمة".

(3/45)


28 - باب مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ
1170 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(3/45)


25 - باب مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى
وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَأَنَسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ مَا أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ أَرْضِنَا إِلاَّ يُسَلِّمُونَ فِي كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنْ النَّهَارِ
1162 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَمُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وآجلة فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ"
[الحديث 1162طرفاه في 7390,6382]
1163 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ سَمِعَ أَبَا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِيٍّ الْأنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ"
1164- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ:أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ انْصَرَفَ".
1165 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ"

(3/48)


1166 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ أَوْ قَدْ خَرَجَ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ"
1167 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: "أُتِيَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مَنْزِلِهِ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ قَالَ فَأَقْبَلْتُ فَأَجِدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ وَأَجِدُ بِلاَلًا عِنْدَ الْبَابِ قَائِمًا فَقُلْتُ: يَا بِلاَلُ أَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ: فَأَيْنَ؟ قَالَ: بَيْنَ هَاتَيْنِ الأُسْطُوَانَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَكْعَتَيْ الضُّحَى وَقَالَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ: "غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا امْتَدَّ النَّهَارُ وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ"
قوله: "باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى" أي في صلاة الليل والنهار، قال ابن رشيد: مقصوده أن يبين بالأحاديث والآثار التي أوردها أن المراد بقوله في الحديث: "مثنى مثنى" أن يسلم من كل ثنتين.
قوله: "قال محمد" هو المصنف. قوله: "ويذكر ذلك عن عمار وأبي ذر وأنس وجابر بن زيد وعكرمة والزهري" أما عمار فكأنه أشار إلى ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عمار بن ياسر "أنه دخل المسجد فصلى ركعتين خفيفتين" إسناده حسن. وأما أبو ذر فكأنه أشار إلى ما رواه ابن أبي شيبة أيضا من طريق مالك بن أوس عن أبي ذر "أنه دخل المسجد فأتى سارية وصلى عندها ركعتين". وأما أنس فكأنه أشار إلى حديثه المشهور في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بهم في بيتهم ركعتين وقد تقدم في الصفوف، وذكره في هذا الباب مختصرا. وأما جابر بن زيد وهو أبو الشعثاء البصري فلم أقف عليه بعد، وأما عكرمة فروى ابن أبي شيبة عن حرمي بن عمارة عن أبي خلدة قال: "رأيت عكرمة دخل المسجد فصلى فيه ركعتين" وأما الزهري فلم أقف على ذلك عنه موصولا. قوله: "وقال يحيى بن سعيد الأنصاري إلخ" لم أقف عليه موصولا أيضا. قوله: "فقهاء أرضنا" أي المدينة، وقد أدرك كبار التابعين بها كسعيد بن المسيب، ولحق قليلا من صغار الصحابة كأنس بن مالك ثم أورد المصنف في الباب ثمانية أحاديث مرفوعة ستة منها موصولة واثنان معلقان:. أولهما حديث جابر في صلاة الاستخارة سيأتي الكلام عليه في الدعوات. ثانيها حديث أبي قتادة في تحية المسجد وقد تقدم الكلام عليه في أوائل الصلاة. ثالثها حديث أنس في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم وقد تقدم في الصفوف. رابعها حديث ابن عمر في رواتب الفرائض وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه. خامسها حديث جابر في صلاة التحية والإمام يخطب وسبق الكلام عليه في كتاب الجمعة. سادسها حديث ابن عمر عن بلال في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة وقد تقدم في أبواب القبلة وسيأتي الكلام عليه في الحج، سابعها قوله: "وقال أبو هريرة أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بركعتي الضحى" هذا طرف من حديث سيأتي في كتاب الصيام بتمامه، ثامنها قوله: "وقال عتبان بن مالك" هو طرف من حديث تقدم في مواضع مطولا ومختصرا: منها في "باب المساجد في البيوت" وسيأتي قريبا في "باب صلاة النوافل جماعة". ومراد المصنف بهذه الأحاديث الرد على من زعم أن التطوع في النهار يكون أربعا موصولة، واختار الجمهور التسليم من كل ركعتين في صلاة الليل

(3/49)


والنهار. وقال أبو حنيفة وصاحباه: يخير في صلاة النهار بين الثنتين والأربع وكرهوا الزيادة على ذلك، وقد تقدم في أوائل أبواب الوتر حكاية استدلال من استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى" على أن صلاة النهار بخلاف ذلك. وقال ابن المنير في الحاشية: إنما خص الليل بذلك لأن فيه الوتر فلا يقاس على الوتر غيره فيتنفل المصلي بالليل أوتارا، فبين أن الوتر لا يعاد وأن بقية صلاة الليل مثني، وإذا ظهرت فائدة تخصيص الليل صار حاصل الكلام صلاة النافلة سوى الوتر مثنى فيعم الليل والنهار. والله أعلم.
" خاتمة ": اشتملت أبواب التهجد وما انضم إليها على ستة وستين حديثا، المعلق اثنا عشر حديثا، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثة وأربعون حديثا، والخالص ثلاثة وعشرون وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عائشة في صلاة الليل سبع وتسع وإحدى عشرة، وحديث أنس كان يفطر حتى نظن أن لا يصوم وحديث سمرة في الرؤيا، وحديث سلمان وأبي الدرداء، وحديث عبادة "من تعار من الليل" وحديث أبي هريرة في شعر ابن رواحة، وحديث جابر في الاستخارة. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين عشرة آثار. والله أعلم.

(3/50)


29 - باب التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ
1172 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فَفِي بَيْتِهِ" قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي أَهْلِهِ تَابَعَهُ كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ وَأَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ
1173 - وَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي حَفْصَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَكَانَتْ سَاعَةً لاَ أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ "بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي أَهْلِهِ"
"أبواب التطوع" لم يفرد المصنف هذه الترجمة فيما وقفت عليه من الأصول قوله: "باب التطوع بعد المكتوبة" ترجم أولا بما بعد المكتوبة ثم ترجم بعد ذلك بما قبل المكتوبة. قوله: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم سجدتين" أي ركعتين، والمراد بقوله: "مع" التبعية أي أنهما اشتركا في كون كل منهما صلاة إلا التجميع فلا حجة فيه لمن قال يجمع في رواتب الفرائض، وسيأتي بعد أربعة أبواب من رواية أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: "حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات" فذكرها. قوله: "قبل الظهر" سيأتي الكلام عليه بعد أربعة أبواب. قوله: "فأما المغرب والعشاء ففي بيته" استدل به على أن فعل النوافل الليلية في البيوت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار، وحكى ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به لذلك نظر، والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبا وبالليل يكون في بيته غالبا، وتقدم في الجمعة من طريق مالك عن نافع بلفظ: "وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف" والحكمة في ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة،

(3/50)


بخلاف الظهر فإنه كان يبرد بها وكان يقيل قبلها، وأغرب ابن أبي ليلى فقال: لا تجزئ سنة المغرب في المسجد حكاه عبد الله بن أحمد عنه عقب روايته لحديث محمود بن لبيد رفعه: "إن الركعتين بعد المغرب من صلاة البيوت" وقال إنه حكى ذلك لأبيه عن ابن أبي ليلى فاستحسنه. قوله: "وحدثتني أختي حفصة" أي بنت عمر، وقائل ذلك هو عبد الله بن عمر. قوله: "سجدتين" في رواية الكشميهني: "ركعتين". قوله: "وكانت ساعة" قائل ذلك هو ابن عمر، وسيأتي من رواية أيوب بلفظ: "ركعتين قبل صلاة الصبح وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وحدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر صلى ركعتين" وهذا يدل على أنه إنما أخذ عن حفصة وقت إيقاع الركعتين قبل الصبح لا أصل مشروعيتهما، وقد تقدم في أواخر الجمعة من رواية مالك عن نافع وليس فيه ذكر الركعتين اللتين قبل الصبح أصلا. قوله: "وقال ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن نافع" أي عن ابن عمر "بعد العشاء في أهله" أي بدل قوله في "بيته". قوله: "تابعه كثير بن فرقد وأيوب عن نافع" أما رواية كثير فلم تقع لي موصولة، وأما رواية أيوب فتقدمت الإشارة إليها قريبا، وفيه حجة لمن ذهب إلى أن للفرائض رواتب تستحب المواظبة عليها وهو قول الجمهور، وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا توقيت في ذلك حماية للفرائض، لكن لا يمنع من تطوع بما شاء إذا أمن ذلك، وذهب العراقيون من أصحابه إلى موافقة الجمهور.

(3/51)


30 - باب مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ
1174 - حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن عمرو قال سمعت أبا الشعثاء جابرا قال سمعت بن عباس رضي الله عنهما قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانيا جميعا وسبعا جميعا" قلت يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وعجل العشاء وأخر المغرب قال وأنا أظنه
قوله: "باب من لم يتطوع بعد المكتوبة" أورد فيه حديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين، وقد تقدم الكلام عليه في المواقيت، ومطابقته للترجمة أن الجمع يقتضي عدم التخلل بين الصلاتين بصلاة راتبة أو غيرها فيدل على ترك التطوع بعد الأولى وهو المراد، وأما التطوع بعد الثانية فمسكوت عنه، وكذا التطوع قبل الأولى محتمل.

(3/51)


31 - باب صَلاَةِ الضُّحَى فِي السَّفَرِ
1175 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ تَوْبَةَ عَنْ مُوَرِّقٍ قَالَ "قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتُصَلِّي الضُّحَى قَالَ لاَ قُلْتُ فَعُمَرُ قَالَ لاَ قُلْتُ فَأَبُو بَكْرٍ قَالَ لاَ قُلْتُ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لاَ إِخَالُهُ"
1176 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ مَا حَدَّثَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ فَإِنَّهَا قَالَتْ "إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فَلَمْ أَرَ صَلاَةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ"

(3/51)


32 - باب مَنْ لَمْ يُصَلِّ الضُّحَى وَرَآهُ وَاسِعًا
1177 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى وَإِنِّي لاَسَبِّحُهَا"
قوله: "باب من لم يصل الضحى ورآه" أي الترك "واسعا" أي مباحا. قوله: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى" تقدم أن المراد بقوله السبحة النافلة، وأصلها من التسبيح، وخصت النافلة بذلك لأن التسبيح الذي

(3/55)


في الفريضة نافلة فقيل لصلاة النافلة سبحة لأنها كالتسبيح في الفريضة. قوله: "وإني لأسبحها" كذا هنا من السبحة، وتقدم في "باب التحريض على قيام الليل" بلفظ: "وإني لأستحبها" من الاستحباب، وهو من رواية مالك عن ابن شهاب ولكل منهما وجه، لكن الأول يقتضي الفعل والثاني لا يستلزمه، وجاء عن عائشة في ذلك أشياء مختلفة أوردها مسلم: فعنده من طريق عبد الله بن شقيق "قلت لعائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه"، وعنده من طريق معاذة عنها "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله" ففي الأول نفي رؤيتها لذلك مطلقا، وفي الثاني تقييد النفي بغير المجيء من مغيبه، وفي الثالث الإثبات مطلقا. وقد اختلف العلماء في: ذلك: فذهب ابن عبد البر وجماعة إلى ترجيح ما اتفق الشيخان عليه دون ما انفرد به مسلم وقالوا: إن عدم رؤيتها لذلك لا يستلزم عدم الوقوع، فيقدم من روي عنه من الصحابة الإثبات، وذهب آخرون إلى الجمع بينهما. قال البيهقي: عندي أن المراد بقولها "ما رأيته سبحها" أي داوم عليها. وقولها "وإني لأسبحها" أي أداوم عليها، وكذا قولها "وما أحدث الناس شيئا" تعني المداومة عليها. قال: وفي بقية الحديث - أي الذي تقدم من رواية مالك - إشارة إلى ذلك حيث قالت: "وإن كان ليدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم" انتهى. وحكى المحب الطبري أنه جمع بين قولها "ما كان يصلي إلا أن يجيء من مغيبه" وقولها "كان يصلي أربعا ويزيد ما شاء الله" بأن الأول محمول على صلاته إياها في المسجد، والثاني على البيت. قال: ويعكر عليه حديثها الثالث - يعني حديث الباب - ويجاب عنه بأن المنفي صفة مخصوصة، وأخذ الجمع المذكور من كلام ابن حبان. وقال عياض وغيره: قوله: "ما صلاها" معناها ما رأيته يصليها، والجمع بينه وبين قولها "كان يصليها" أنها أخبرت في الإنكار عن مشاهدتها وفي الإثبات عن غيرها. وقيل في الجمع أيضا: يحتمل أن تكون نفت صلاة الضحى المعهودة حينئذ من هيئة مخصوصة بعدد مخصوص في وقت مخصوص، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يصليها إذا قدم من سفر لا بعدد مخصوص ولا بغيره كما قالت: "يصلي أربعا ويزيد ما شاء الله".
" تنبيه ": حديث عائشة يدل على ضعف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه، وعدها لذلك جماعة من العلماء من خصائصه، ولم يثبت ذلك في خبر صحيح. وقول الماوردي في الحاوي إنه صلى الله عليه وسلم واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات يعكر عليه ما رواه مسلم من حديث أم هانئ أنه لم يصلها قبل ولا بعد. ولا يقال إن نفي أم هانئ لذلك يلزم1 منه العدم لأنا نقول: يحتاج من أثبته إلى دليل، ولو وجد لم يكن حجة، لأن عائشة ذكرت أنه كان إذا عمل عملا أثبته، فلا تستلزم المواظبة على هذا الوجوب عليه.
ـــــــ
13 كذا في النسخ, ولعله "لا يلزم"

(3/56)


33 - باب صَلاَةِ الضُّحَى فِي الْحَضَرِ
قاله عتبان بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
1178 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْجُرَيْرِيُّ هُوَ ابْنُ فَرُّوخَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَلاَةِ الضُّحَى وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ"
[الحديث 1178 – طرفه في: 1981]

(3/56)


1179 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّ قَالَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ وَكَانَ ضَخْمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الصَّلاَةَ مَعَكَ فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَدَعَاهُ إِلَى بَيْتِهِ وَنَضَحَ لَهُ طَرَفَ حَصِيرٍ بِمَاءٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنِ بْنِ جَارُودٍ لِأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى فَقَالَ مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ"
قوله: "باب صلاة الضحى في الحضر، قاله عتبان بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم" كأنه يشير إلى ما رواه أحمد من طريق الزهري عن محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيته سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا بصلاته" أخرجه عن عثمان بن عمر عن يونس عنه، وقد أخرجه مسلم من رواية ابن وهب عن يونس مطولا لكن ليس فيه ذكر السبحة، وكذلك أخرجه المصنف مطولا ومختصرا في مواضع وسيأتي بعد بابين. قوله: "حدثنا عباس" بالموحدة والمهملة، والجريري بضم الجيم. قوله: "أوصاني خليلي" الخليل الصديق الخالص الذي تخللت محبته القلب فصارت في خلاله أي في باطنه، واختلف هل الخلة أرفع من المحبة أو العكس، وقول أبى هريرة هذا لا يعارضه ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر" لأن الممتنع أن يتخذ هو صلى الله عليه وسلم غيره خليلا لا العكس، ولا يقال إن المخاللة لا تتم حني تكون من الجانبين لأنا نقول: إنما نظر الصحابي إلى أحد الجانبين فأطلق ذلك، أو لعله أراد مجرد الصحبة أو المحبة. قوله: "بثلاث لا أدعهن حتى أموت" يحتمل أن يكون قوله: "لا أدعهن إلخ" من جملة الوصية، أي أوصاني أن لا أدعهن، ويحتمل أن يكون من إخبار الصحابي بذلك عن نفسه. قوله: "صوم ثلاثة أيام" بالخفض بدل من قوله: "بثلاث"، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: "من كل شهر" الذي يظهر أن المراد بها البيض، وسيأتي تفسيرها في كتاب الصوم. قوله: "وصلاة الضحى" زاد أحمد في روايته: "كل يوم" وسيأتي في الصيام من طريق أبي التياح عن أبي عثمان بلفظ: "وركعتي الضحى" قال ابن دقيق العيد: لعله ذكر الأقل الذي يوجد التأكيد بفعله، وفي هذا دلالة على استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، وعدم مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها لا ينافي استحبابها لأنه حاصل بدلالة القول، وليس من شرط الحكم أن تتضافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعله مرجح على ما لم يواظب عليه. قوله: "ونوم على وتر" في رواية أبي التياح "وأن أوتر قبل أن أنام" وفيه استحباب تقديم الوتر على النوم وذلك في حق من لم يثق بالاستيقاظ، ويتناول من يصلي بين النومين. وهذه الوصية لأبي هريرة ورد مثلها لأبي الدرداء فيما رواه مسلم، ولأبي ذر فيما رواه النسائي. والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام ليدخل في الواجب منهما بانشراح، ولينجبر ما لعله يقع فيه من نقص. ومن فوائد ركعتي الضحى أنها تجزئ عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يوم وهي ثلاثمائة وستون مفصلا كما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر وقال فيه: "ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى" وحكى شيخنا الحافظ أبو الفضل بن الحسين في شرح الترمذي أنه اشتهر بين العوام أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى، فصار كثير من الناس يتركونها أصلا لذلك، وليس لما قالوه أصل، بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام ليحرمهم الخير الكثير لا سيما ما وقع في حديث أبي ذر.
" تنبيهان ": الأول اقتصر في الوصية للثلاثة المذكورين على الثلاثة المذكورة لأن الصلاة والصيام أشرف العبادات

(3/57)


البدنية، ولم يكن المذكورون من أصحاب الأموال. وخصت الصلاة بشيئين لأنها تقع ليلا ونهارا بخلاف الصيام.
"الثاني" ليس في حديث أبي هريرة تقييد بسفر ولا حضر.والترجمة مختصة بالحضر، لكن الحديث يتضمن الحضر لأن إرادة الحضر فيه ظاهرة، وحمله على الحضر والسفر ممكن، وأما حمله على السفر دون الحضر فبعيد لأن السفر مظنة التخفيف. قوله: "قال رجل من الأنصار" قيل هو عتبان بن مالك، لأن في قصته شبها بقصته، وقد تقدم هذا الحديث عن آدم عن شعبة بهذا الإسناد والمتن في "باب هل يصلي الإمام بمن حضر" من أبواب الإمامة مع الكلام عليه. قوله: "يصلي الضحى" قال ابن رشيد: هذا يدل على أن ذلك كان كالمتعارف عندهم وإلا فصلاته صلى الله عليه وسلم في بيت الأنصاري وإن كانت في وقت صلاة الضحى لا يلزم نسبتها لصلاة الضحى. قلت: إلا أنا قدمنا أن القصة لعتبان بن مالك، وقد تقدم في صدر الباب أن عتبان سماها صلاة الضحى فاستقام مراد المصنف، وتقييده ذلك بالحضر ظاهر لكونه صلى في بيته. قوله: "ما رأيته صلى" في الرواية الماضية "يصلي الضحى". قوله: "إلا ذلك اليوم" يأتي فيه ما تقدم ذكره قي حديث ابن عمر وعائشة من الجمع، والله أعلم.

(3/58)


باب الركعتين بقبل الظهر
...
34 - باب الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ
1180 - حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما قال ثم "حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح كانت ساعة لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها"
1181 - حدثتني حفصة "أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر صلى ركعتين"
1182 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ"
تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَعَمْرٌو عَنْ شُعْبَةَ
قوله: "باب الركعتين قبل الظهر" ترجم أولا بالرواتب التي بعد المكتوبات، ثم أورد ما يتعلق بما قبلها، وقد تقدم الكلام على ركعتي الفجر والكلام على حديث ابن عمر وهو ظاهر فيما ترجم له، وأما حديث عائشة فقوله فيه: "إنه كان لا يدع أربعا قبل الظهر" لا يطابق الترجمة، ويحتمل أن يقال: مراده بيان أن الركعتين قبل الظهر ليستا حتما بحيث يمتنع الزيادة عليهما، قال الداودي: وقع في حديث ابن عمر "إن قبل الظهر ركعتين" وفي حديث عائشة "أربعا" وهو محمول على أن كل واحد منهما وصف ما رأى قال: ويحتمل أن يكون نسي ابن عمر ركعتين من الأربع. قلت: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين: فكان تارة يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعا، وقيل: هو محمول على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته يصلي أربعا، ويحتمل أن يكون يصلي إذا كان في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوي الأول ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة "كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج "

(3/58)


قال أبو جعفر الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله، والركعتان في قليلها. قوله: "عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر" بميم مضمومة ونون ساكنة ومثناة مفتوحة بعدها شين معجمة مكسورة ثم راء. قوله: "عن أبيه عن عائشة" في رواية وكيع عن شعبة عن إبراهيم عن أبيه "سمعت عائشة" أخرجه الإسماعيلي، وحكى عن شيخه أبي القاسم البغوي أنه حدثه به من طريق عثمان بن عمر عن شعبة فأدخل بين محمد بن المنتشر وعائشة مسروقا وأخبره أن حديث وكيع وهم، ورد ذلك الإسماعيلي بأن محمد بن جعفر قد وافق وكيعا على التصريح بسماع محمد من عائشة ثم ساقه بسنده إلى شعبة عن إبراهيم بن محمد أنه سمع أباه أنه سمع عائشة، قال الإسماعيلي: ولم يكن يحيي بن سعيد - يعني القطان الذي أخرجه البخاري من طريقه - ليحمله مدلسا، قال: والوهم عندي فيه من عثمان بن عمر انتهى. وبذلك جزم الدارقطني في "العلل" وأوضح أن رواية عثمان بن عمر من المزيد في متصل الأسانيد، لكن أخرجه الدارمي عن عثمان بن عمر بهذا الإسناد فلم يذكر فيه مسروقا. فإما أن يكون سقط عليه أو على من بعده، أو يكون الوهم في زيادته ممن دون عثمان بن عمر. قوله: "تابعه ابن أبي عدي" زاد الإسماعيلي وابن المبارك ومعاذ بن معاذ ووهب بن جرير كلهم عن شعبة بسنده وليس فيه مسروق.
قوله: "وعمرو عن شعبة" يعني عمرو بن مرزوق، وقد وصل حديثه البرقاني في المصافحة.

(3/59)


باب الركعتين بعد المغرب
...
35 - باب الصَّلاَةِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ
1183 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً"
[الحديث 1183 – طرفه في: 7368]
1184 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْمُقْرِئُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ سَمِعْتُ مَرْثَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيَّ قَالَ "أَتَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ فَقُلْتُ أَلاَ أُعْجِبُكَ مِنْ أَبِي تَمِيمٍ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ فَقَالَ عُقْبَةُ إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ فَمَا يَمْنَعُكَ الآنَ قَالَ الشُّغْلُ"
قوله: "باب الصلاة قبل المغرب" لم يذكر المصنف الصلاة قبل العصر، وقد ورد فيها حديث لأبي هريرة1 مرفوع لفظه: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن حبان، وورد من فعله أيضا من حديث علي بن أبي طالب أخرجه الترمذي والنسائي وفيه: "أنه كان يصلي قبل العصر أربعا" وليسا على شرط البخاري. قوله: "عن الحسين" هو ابن ذكوان المعلم. قوله: "حدثني عبد الله المزني" هو ابن مغفل بالمعجمة والفاء المشددة. قوله: "صلوا قبل صلاة المغرب" زاد أبو داود في روايته عن الفربري عن عبد الوارث بهذا الإسناد "صلوا قبل المغرب ركعتين " ثم قال: "صلوا قبل المغرب ركعتين" وأعادها الإسماعيلي من هذا الوجه
ـــــــ
1 هذا وهم, والصواب "لابن عمر" كما يعلم ذلك من الأصول التي عزاه إليها الشارح, وقد نسبه في بلوغ المرام لابن عمر فأصاب. والله أعلم.

(3/59)


ثلاث مرات، وهو موافق لقوله في رواية المصنف "قال في الثالثة لمن شاء" وفي رواية أبي نعيم في المستخرج "صلوا قبل المغرب ركعتين قالها ثلاثا ثم قال: لمن شاء". قوله: "كراهية أن يتخذها الناس سنة" قال المحب الطبري: لم يرد نفي استحبابها لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابها، ومعنى قوله: "سنة" أي شريعة وطريقة لازمة، وكأن المراد انحطاط مرتبتها عن رواتب الفرائض، ولهذا لم يعدها أكثر الشافعية في الرواتب واستدركها بعضهم، وتعقب بأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها، وتقدم الكلام على ذلك مبسوطا في "باب كم بين الأذان والإقامة" من أبواب الأذان. قوله: "اليزني" بفتح التحتانية والزاي بعدها نون وهو مصري، وكذا بقية رجال الإسناد سوى شيخ البخاري وقد دخلها. قولها: "ألا أعجبك" بضم أوله وتشديد الجيم من التعجب. قوله: "من أبي تميم" هو عبد الله بن مالك الجيشاني بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة تابعي كبير مخضرم أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن على معاذ بن جبل ثم قدم في زمن عمر فشهد فتح مصر وسكنها، قال ابن يونس: وقد عده جماعة في الصحابة لهذا الإدراك، ولم يذكر المزي في "التهذيب" أن البخاري أخرج له، وهو على شرطه فيرد عليه بهذا الحديث1. قوله: "يركع ركعتين" زاد الإسماعيلي: "حين يسمع أذان المغرب" وفيه: "فقلت لعقبة وأنا أريد أن أغمصه" وهو بمعجمة ثم مهملة أي أعيبه. قوله: "فقال عقبة إلخ" استدل به على امتداد وقت المغرب ولا حجة فيه كما بيناه في الباب السابق. وقال قوم: إنما تستحب الركعتان المذكورتان لمن كان متأهبا بالطهر وستر العورة لئلا يؤخر المغرب عن أول وقتها، ولا شك أن إيقاعها في أول الوقت أولى، ولا يخفى أن محل استحبابهما ما لم تقم الصلاة، وقد تقدم الكلام على بقية فوائده في الباب السابق، وفيه رد على قول القاضي أبي بكر بن العربي: لم يفعلهما أحد بعد الصحابة، لأن أبا تميم تابعي وقد فعلهما. وذكر الأثرم عن أحمد أنه قال: ما فعلتهما إلا مرة واحدة حين سمعت الحديث. وفيه أحاديث جياد عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، إلا أنه قال: "لمن شاء" فمن شاء صلى.
ـــــــ
1 ليس الرد عليه بظاهر, لأن البخاري رحمه الله لم يخرج عن تميم هنا خبرا مرفوعا ولا موقوفا, وإنما وقع ذكره في أثناء الرواية من غير احتجاج به. والله أعلم.

(3/60)


36 - باب صَلاَةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً، ذَكَرَهُ أَنَسٌ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1185 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيُّ "أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِهِ مِنْ بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ"
1186 - فَزَعَمَ مَحْمُودٌ أَنَّهُ سَمِعَ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بِبَنِي سَالِمٍ وَكَانَ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَادٍ إِذَا جَاءَتْ الأَمْطَارُ فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ قِبَلَ مَسْجِدِهِمْ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَإِنَّ الْوَادِيَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي يَسِيلُ إِذَا جَاءَتْ الأَمْطَارُ فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ فَوَدِدْتُ أَنَّكَ تَأْتِي فَتُصَلِّي مِنْ بَيْتِي مَكَانًا

(3/60)


أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَأَفْعَلُ فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ فَحَبَسْتُهُ عَلَى خَزِيرٍ يُصْنَعُ لَهُ فَسَمِعَ أَهْلُ الدَّارِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَثَابَ رِجَالٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَثُرَ الرِّجَالُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَا فَعَلَ مَالِكٌ لاَ أَرَاهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ ذَاكَ مُنَافِقٌ لاَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقُلْ ذَاكَ أَلاَ تَرَاهُ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ أَمَّا نَحْنُ فَوَاللَّهِ لاَ نَرَى وُدَّهُ وَلاَ حَدِيثَهُ إِلاَّ إِلَى الْمُنَافِقِينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّه" ِ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ فَحَدَّثْتُهَا قَوْمًا فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهِمْ بِأَرْضِ الرُّومِ فَأَنْكَرَهَا عَلَيَّ أَبُو أَيُّوبَ قَالَ وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مَا قُلْتَ قَطُّ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَجَعَلْتُ لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ سَلَّمَنِي حَتَّى أَقْفُلَ مِنْ غَزْوَتِي أَنْ أَسْأَلَ عَنْهَا عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ وَجَدْتُهُ حَيًّا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ فَقَفَلْتُ فَأَهْلَلْتُ بِحَجَّةٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ سِرْتُ حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ بَنِي سَالِمٍ فَإِذَا عِتْبَانُ شَيْخٌ أَعْمَى يُصَلِّي لِقَوْمِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ مِنْ الصَّلاَةِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرْتُهُ مَنْ أَنَا ثُمَّ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثَنِيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ"
قوله: "باب صلاة النوافل جماعة" قيل مراده النفل المطلق، ويحتمل ما هو أعم من ذلك. قوله: "ذكره أنس وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم" أما حديث أنس فأشار به إلى حديثه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم، وفيه: "فصففت أنا واليتيم وراءه" الحديث، وقد تقدم في الصفوف وغيرها. وأما حديث عائشة فأشار به إلى حديثها في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بهم في المسجد بالليل، وقد تقدم الكلام عليه في "باب التحريض على قيام الليل". قوله: "حدثنا إسحاق" قيل هو ابن راهويه، فإن هذا الحديث وقع في مسنده بهذا الإسناد، لكن في لفظه مخالفة يسيرة فيحتمل أن يكون إسحاق شيخ البخاري فيه هو ابن منصور. قوله: "أخبرنا يعقوب" التعبير بالإخبار قرينة في كون إسحاق هو ابن راهويه، لأنه لا يعبر عن شيوخه إلا بذلك، لكن وقع في رواية كريمة وأبي الوقت وغيرهما بلفظ التحديث، ويعقوب بن إبراهيم المذكور هو ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. قوله: "وعقل مجة" تقدم الكلام عليه في كتاب العلم. قوله: "كان في دارهم" أي الدلو. وفي رواية الكشميهني: "كانت" أي البئر. قوله: "فزعم محمود" أي أخبر، وهو من إطلاق الزعم على القول. قوله: "فيشق علي" في رواية الكشميهني: "فشق" بصيغة الماضي. قوله: "أين تحب أن نصلي" بصيغة الجمع كذا للأكثر. وفي رواية الكشميهني بالإفراد. قوله: "ما فعل مالك" هو ابن الدخشن. قوله: "لا أراه" بفتح الهمزة من الرؤية. قوله: "قال محمود بن الربيع" أي بالإسناد الماضي "فحدثتها قوما" أي رجالا "فيهم أبو أيوب" هو خالد بن زيد الأنصاري الذي نزل عليه

(3/61)


رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة. قوله: "التي توفي فيها" ذكر ابن سعد وغيره أن أبا أيوب أوصى أن يدفن تحت أقدام الخيل ويغيب موضع قبره فدفن إلى جانب جدار القسطنطينية. قوله: "ويزيد بن معاوية" ابن أبي سفيان، قوله: "عليهم" أي كان أميرا، وذلك في سنة خمسين وقيل بعدها في خلافة معاوية، ووصلوا في تلك الغزوة حتى حاصروا القسطنطينية. قوله: "فأنكرها علي" قد بين أبو أيوب وجه الإنكار وهو ما غلب على ظنه من نفي القول المذكور، وما الباعث له على ذلك فقيل إنه استشكل قوله: "إن الله قد حرم النار على من قال لا إله إلا الله" لأن ظاهره لا يدخل أحد من عصاة الموحدين النار، وهو مخالف لآيات كثيرة وأحاديث شهيرة منها أحاديث الشفاعة، لكن الجمع ممكن بأن يحمل التحريم على الخلود، وقد وافق محمودا على رواية هذا الحديث عن عتبان أنس بن مالك كما أخرجه مسلم من طريقه وهو متابع قوي جدا، وكأن الحامل لمحمود على الرجوع إلى عتبان ليسمع الحديث منه ثاني مرة أن أبا أيوب لما أنكر عليه اتهم نفسه بأن يكون ما ضبط القدر الذي أنكره عليه، ولهذا قنع بسماعه عن عتبان ثاني مرة. قوله: "حتى أقفل" بقاف وفاء أي أرجع وزنا ومعنى، وفي هذا الحديث فوائد كثيرة تقدمت مبسوطة في "باب المساجد في البيوت" وفيه ما ترجم له هنا وهو صلاة النوافل جماعة، وروي ابن وهب عن مالك أنه لا بأس بأن يؤم النفر في النافلة، فأما أن يكون مشتهرا ويجمع له الناس فلا، وهذا بناه على قاعدته في سد الذرائع لما يخشى من أن يظن من لا علم له أن ذلك فريضة، واستثنى ابن حبيب من أصحابه قيام رمضان لاشتهار ذلك من فعل الصحابة ومن بعدهم رضى الله عنهم، وفي الحديث من الفوائد ما تقدم بعضه مبسوطا، وملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال، وذكر المرء ما فيه من العلة معتذرا، وطلب عين القبلة، وأن المكان المتخذ مسجدا من البيت لا يخرج عن ملك صاحبه، وأن النهي عن استيطان الرجل مكانا إنما هو في المسجد العام، وفيه عيب من تخلف عن حضور مجلس الكبير، وأن من عيب بما يظهر منه لا يعد غيبة وإن ذكر الإنسان بما فيه على جهة التعريف جائز، وأن التلفظ بالشهادتين كاف في إجراء أحكام المسلمين، وفيه استثبات طالب الحديث شيخه عما حدثه به إذا خشي من نسيانه وإعادة الشيخ الحديث، والرحلة في طلب العلم وغير ذلك. وقد ترجم المصنف بأكثر من ذلك والله المستعان.

(3/62)


37 - باب التَّطَوُّعِ فِي الْبَيْتِ
1187 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا"
تَابَعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ
قوله: "باب التطوع في البيت" أورد فيه حديث ابن عمر " اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم" وقد تقدم بلفظه من وجه آخر عن نافع في "باب كراهية الصلاة في المقابر" من أبواب المساجد مع الكلام عليه. قوله: "تابعه عبد الوهاب" يعني الثقفي عن أيوب، وهذه المتابعة وصلها مسلم عن محمد بن المثني عنه بلفظ: "صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا" .

(3/62)


كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة
باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
20 - كتاب فَضْلِ الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
1 - بَاب فَضْلِ الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
1188 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ قَزَعَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعًا قَالَ سَمِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً
1189 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى"
1190 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ"
قوله: "باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة" ثبت في نسخة الصغاني البسملة قبل الباب، قال ابن رشيد: لم يقل في الترجمة وبيت المقدس وإن كان مجموعا إليهما في الحديث لكونه أفرده بعد ذلك بترجمة، قال: وترجم بفضل الصلاة وليس في الحديث ذكر الصلاة ليبين أن المراد بالرحلة إلى المساجد قصد الصلاة فيها لأن لفظ المساجد مشعر بالصلاة انتهى. وظاهر إيراد المصنف لهذه الترجمة في أبواب التطوع يشعر بأن المراد بالصلاة في الترجمة صلاة النافلة، ويحتمل أن يراد بها ما هو أعم من ذلك فيدخل النافلة وهذا أوجه وبه قال الجمهور في حديث الباب، وذهب الطحاوي إلى أن التفضيل مختص بصلاة الفريضة كما سيأتي. قوله: "أخبرني عبد الملك" هو ابن عمير كما وقع في رواية أبي ذر والأصيلي. قوله: "عن قزعة" بفتح القاف وكذا الزاي، وحكى ابن الأثير سكونها بعدها مهملة، وهو ابن يحيي ويقال ابن الأسود، وسيأتي بند خمسة أبواب في هذا الإسناد "سمعت قزعة مولى زياد" وهو هذا وزياد مولاه هو ابن أبي سفيان الأمير المشهور، ورواية عبد الملك بن عمير عنه من رواية الأقران لأنهما من طبقة واحدة. قوله: "سمعت أبا سعيد أربعا" أي يذكر أربعا أو سمعت منه أربعا أي أربع كلمات. قوله: "وكان غزا" القائل ذلك هو قزعة والمقول عنه أبو سعيد الخدري. قوله: "ثنتي عشرة غزوة" كذا اقتصر المؤلف على هذا القدر ولم يذكر من المتن شيئا، وذكر بعده حديث أبي هريرة في شد الرحال فظن الداودي الشارح أن البخاري ساق الإسنادين لهذا المتن، وفيه نظر لأن حديث أبي سعيد مشتمل على أربعة أشياء كما ذكر المصنف، وحديث أبي هريرة مقتصر على شد الرحال فقط، لكن لا يمنع الجمع بينهما في سياق واحد بناء على قاعدة البخاري في إجازة اختصار الحديث.
وقال ابن رشيد: لما كان أحد الأربع هو قوله: "لا تشد الرحال" ذكر صدر الحديث إلى الموضع الذي

(3/63)


يتلاقى فيه افتتاح أبي هريرة لحديث أبي سعيد فاقتطف الحديث، وكأنه قصد بذلك الإغماض لينبه غير الحافظ على فائدة الحفظ، على أنه ما أخلاه عن الإيضاح عن قرب فإنه ساقه بتمامه خامس ترجمة. قوله: "وحدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وسعيد هو ابن المسيب، ووقع عند البيهقي وجه آخر عن علي بن المديني قال: "حدثنا به سفيان مرة بهذا اللفظ وكان أكثر ما يحدث به بلفظ تشد الرحال". قوله: "لا تشد الرحال" بضم أوله بلفظ النفي، والمراد النهي عن السفر إلى غيرها، قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به، والرحال بالمهملة جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس، وكنى بشد الرحال عن السفر لأنه لازمه وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعني المذكور، ويدل عليه قوله في بعض طرقه: "إنما يسافر" أخرجه مسلم من طريق عمران بن أبي أنس عن سليمان الأغر عن أبي هريرة. قوله: "إلا" الاستثناء مفرغ والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع، ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها، لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام، لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص وهو المسجد كما سيأتي. قوله: " المسجد الحرام" أي المحرم وهو كقولهما الكتاب بمعنى المكتوب، والمسجد بالخفض على البدلية، ويجوز الرفع على الاستئناف والمراد به جميع الحرم، وقيل يختص بالموضع الذي يصلي فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم، قال الطبري: ويتأيد بقوله: "مسجدي هذا" لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة فينبغي أن يكون المستثنى كذلك، وقيل المراد به الكعبة حكاه المحب الطبري وذكر أنه يتأيد بما رواه النسائي بلفظ: "إلا الكعبة" وفيه نظر لأن الذي عند النسائي: "إلا مسجد الكعبة" حتى ولو سقطت لفظة مسجد لكانت مرادة، ويؤيد الأول ما رواه الطيالسي من طريق عطاء أنه قيل له: هذا الفضل في المسجد وحده أو في الحرم؟ قال: بل في الحرم لأنه كله مسجد. قوله: "ومسجد الرسول" أي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي العدول عن "مسجدي" إشارة إلى التعظيم، ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة، ويؤيده قوله في حديث أبي سعيد الآتي قريبا "ومسجدي". قوله: "ومسجد الأقصى" أي بيت المقدس وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وقد جوزه الكوفيون واستشهدوا له بقوله تعالى: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} والبصريون يؤولونه بإضمار المكان، أي الذي بجانب المكان الغربي ومسجد المكان الأقصى ونحو ذلك، وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقيل في الزمان، وفيه نظر لأنه ثبت في الصحيح أن بينهما أربعين سنة، وسيأتي في ترجمة إبراهيم الخليل من أحاديث الأنبياء وبيان ما فيه من الإشكال والجواب عنه. وقال الزمخشري: سمي الأقصى لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وقيل لبعده عن الأقذار والخبث، وقيل هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة لأنه بعيد من مكة وبيت المقدس أبعد منه. ولبيت المقدس عدة أسماء تقرب من العشرين منها إيلياء بالمد والقصر وبحذف الياء الأولى وعن ابن عباس إدخال الألف واللام على هذا الثالث، وبيت المقدس بسكون القاف وبفتحها مع التشديد، والقدس بغير ميم مع ضم القاف وسكون الدال وبضمها أيضا، وشلم بالمعجمة وتشديد اللام وبالمهملة وشلام بمعجمة، وسلم بفتح المهملة وكسر اللام الخفيفة، وأوري سلم بسكون الواو وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة قال الأعشى:

(3/64)


وقد طفت للمال آفاقه ... مشق فحمص فأوري سلم
ومن أسمائه كورة وبيت إيل وصهيون ومصروث آخره مثلثة وكورشيلا وبابوس بموحدتين ومعجمة، وقد تتبع أكثر هذه الأسماء الحسين بن خالويه اللغوي في كتاب "ليس"، وسيأتي ما يتعلق بمكة والمدينة في كتاب الحج. وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء، ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الأمم السالفة، والثالث أسس على التقوى. واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها فقال الشيخ أبو محمد الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضي حسين إلى اختياره وبه قال عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور وقال له "لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت" واستدل بهذا الحديث فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبو هريرة. والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز، وقد وقع في رواية لأحمد سيأتي ذكرها بلفظ: "لا ينبغي للمطي أن تعمل" وهو لفظ ظاهر في غير التحريم1 ومنها أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة فإنه لا يجب الوفاء به قاله ابن بطال. وقال الخطابي: اللفظ لفظ الخبر ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثة، ومنها أن المراد حكم المساجد فقط وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة؛ وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي، ويؤيده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة في الطور فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي" وشهر حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف. ومنها أن المراد قصدها بالاعتكاف فيما حكاه الخطابي عن بعض السلف أنه قال: لا يعتكف في غيرها، وهو أخص من الذي قبله، ولم أر عليه دليلا، واستدل به على أن من نذر إتيان أحد هذه المساجد لزمه ذلك، وبه قال مالك وأحمد والشافعي والبويطي واختاره أبو إسحاق المروزي. وقال أبو حنيفة لا يجب مطلقا. وقال الشافعي في "الأم" يجب في المسجد الحرام لتعلق النسك به بخلاف المسجدين الأخيرين، وهذا هو المنصور لأصحاب الشافعي. وقال ابن المنذر: يجب إلى الحرمين، وأما الأقصى فلا، واستأنس بحديث جابر "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، قال: صل هاهنا" وقال ابن التين: الحجة على الشافعي إن إعمال المطي إلى مسجد المدينة والمسجد الأقصى والصلاة فيهما قربة فوجب أن يلزم بالنذر كالمسجد الحرام انتهى. وفيما يلزم من نذر إتيان هذه المساجد تفصيل وخلاف يطول ذكره محله كتب الفروع، واستدل به على أن من نذر إتيان غير هذه المساجد
ـــــــ
1 ليس الأمر كما قال, بل هو ظاهر في التحريم والمنع, وهذه اللفظة في عرف الشارع شأنها عظيم كما في قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} وقوله تعالى: { قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} الآية

(3/65)


الثلاثة لصلاة أو غيرها لم يلزمه غيرها لأنها لا فضل لبعضها على بعض فتكفي صلاته في أي مسجد كان، قال النووي: لا اختلاف في ذلك إلا ما روي عن الليث أنه قال يجب الوفاء به، وعن الحنابلة رواية يلزمه كفارة يمين ولا ينعقد نذره، وعن المالكية رواية إن تعلقت به عبادة تختص به كرباط لزم وإلا فلا، وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه يلزم في مسجد قباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت كما سيأتي. قال الكرماني: وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة وصنف فيها رسائل من الطرفين، قلت: يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين بن تيمية وما انتصر به الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي وغيره لابن تيمية وهي مشهورة في بلادنا، والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحل1 إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكرنا صورة ذلك، وفي شرح ذلك من الطرفين طول، وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية، ومن جملة ما استدل به على دفع ما ادعاه غيره من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ما نقل عن مالك أنه كره أن يقول زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ أدبا لا أصل الزيارة فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال وإن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع والله الهادي إلى الصواب. قال بعض المحققين: قوله: "إلا إلى ثلاثة مساجد" المستثنى منه محذوف، فإما أن يقدر عاما فيصير: لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة، أو أخص من ذلك. لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها فتعين الثاني، والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة وهو: لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة، فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين والله أعلم. وقال السبكي الكبير: ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى تشد الرحال إليها غير البلاد الثلاثة، ومرادي بالفضل ما شهد الشرع باعتباره ورتب عليه حكما شرعيا، وأما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات، قال: وقد التبس ذلك على بعضهم فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخل في المنع، وهو خطأ لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه، فمعنى الحديث: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان إلا إلى الثلاثة المذكورة، وشد الرحال إلى زيارة أو طلب علم ليس إلى المكان بل إلى من في ذلك المكان والله أعلم. قوله: "زيد بن رباح" بالموحدة، وعبيد الله بالتصغير، والأغر هو سلمان شيخ الزهري المتقدم. قوله: "صلاة في مسجدي هذا" قال النووي: ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمانه صلى الله عليه وسلم دون ما زيد فيه بعده، لأن التضعيف إنما ورد في مسجده، وقد أكده بقوله هذا، بخلاف مسجد مكة فإنه يشمل جميع مكة،
ـــــــ
1 هذا اللازم لا بأس به, وقد التزمه الشيخ, وليس في ذلك بشاعة بحمد الله عند من عرف السنة, مواردها ومصادرها, والأحاديث المروية في فضل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم كلها ضعيفة بل موضوعة كما حقق ذلك أبو العباس, في منسكه وغيره, ولو صحت لم يكن فيها حجة على جواز شد الرحال إلى زيارة قبره عليه الصلاة والسلام من دون قصد المسجد بل تكون عامة مطلقة, وأحاديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة يخصها ويقيدها, والشيخ لم ينكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دون شد الرحال, وإنما أنكر شد الرحل من أجلها مجردا عن قصد المسجد. فتنبه وأفهم. والله أعلم.

(3/66)


بل صحح النووي أنه يعم جميع الحرم. قوله: "إلا المسجد الحرام " قال ابن بطال: يجوز في هذا الاستثناء أن يكون المراد فإنه مساو لمسجد المدينة وفاضلا أو مفضولا. والأول أرجح لأنه لو كان فاضلا أو مفضولا. لم يعلم مقدار ذلك إلا بدليل، بخلاف المساواة انتهى. وكأنه لم يقف على دليل الثاني، وقد أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان من طريق عطاء عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا" وفي رواية ابن حبان: "وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة " قال ابن عبد البر: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت، ومثله لا يقال بالرأي. وفي ابن ماجة من حديث جابر مرفوعا: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" وفي بعض النسخ "من مائة صلاة فيما سواه" فعلى الأول معناه فيما سواه إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه من مائه صلاة في مسجد المدينة ورجال إسناده ثقات، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه، قال ابن عبد البر: جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما، وعلى ذلك يحمله أهل العلم بالحديث، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الرواية معروف بالرواية عن جابر وابن الزبير، وروي البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" قال البزار إسناده حسن. فوضح بذلك أن المراد بالاستثناء تفضيل المسجد الحرام، وهو يرد على تأويل عبد الله بن نافع وغيره، وروى ابن عبد البر من طريق يحيى بن يحيى الليثي أنه سأل عبد الله بن نافع عن تأويل هذا الحديث فقال: معناه فإن الصلاة في مسجدي أفضل من الصلاة فيه بدون ألف صلاة، قال ابن عبد البر: لفظ دون يشمل الواحد فيلزم أن تكون الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بتسعمائة وتسع وتسعين صلاة، وحسبك بقول يؤول إلى هذا ضعفا. قال: وزعم بعض أصحابنا أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بمائة صلاة، واحتج برواية سليمان بن عتيق عن ابن الزبير عن عمر قال: "صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه" وتعقب بأن المحفوظ بهذا الإسناد بلفظ: "صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الرسول فإنما فضله عليه بمائة صلاة" وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني سليمان بن عتيق وعطاء عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول: "صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه: " ويشير إلى مسجد المدينة. وللنسائي من رواية موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر ما يؤيد هذا ولفظه كلفظ أبي هريرة وفي آخره: "إلا المسجد الحرام فإنه أفضل منه بمائة صلاة" واستدل بهذا الحديث على تفضيل مكة على المدينة لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيه مرجوحة وهو قول الجمهور، وحكي عن مالك، وبه قال ابن وهب ومطرف وابن حبيب من أصحابه، لكن المشهور عن مالك وأكثر أصحابه تفضيل المدينة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة" مع قوله: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" قال ابن عبد البر: هذا استدلال بالخبر في غير ما ورد فيه ولا يقاوم النص الوارد في فضل مكة، ثم ساق حديث أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحزورة فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" وهو حديث صحيح أخرجه أصحاب السنن وصححه

(3/67)


الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، قال ابن عبد البر: هذا نص في محل الخلاف فلا ينبغي العدول عنه والله أعلم. وقد رجع عن هذا القول كثير من المصنفين من المالكية، لكن استثنى عياض البقعة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فحكى الاتفاق على أنها أفضل البقاع، وتعقب بأن هذا لا يتعلق بالبحث المذكور لأن محله ما يترتب عليه الفضل للعابد. وأجاب القرافي بأن سبب التفضيل لا ينحصر في كثرة الثواب على العمل بل قد يكون لغيرها كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود. وقال النووي في شرح المهذب: لم أر لأصحابنا نقلا في ذلك. وقال ابن عبد البر: إنما يحتج بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أنكر فضلها، أما من أقر به وأنه ليس أفضل بعد مكة منها فقد أنزلها منزلتها. وقال غيره: سبب تفضيل البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة أنه روي أن المرء يدفن في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يخلق رواه ابن عبد البر في أواخر تمهيده من طريق عطاء الخراساني موقوفا، وعلى هذا فقد روى الزبير بن بكار أن جبريل أخذ التراب الذي خلق منه النبي صلى الله عليه وسلم من تراب الكعبة، فعلى هذا فالبقعة التي ضمت أعضاءه من تراب الكعبة فيرجع الفضل المذكور إلى مكة إن صح ذلك والله أعلم. واستدل به على تضعيف الصلاة مطلقا في المسجدين، وقد تقدم النقل عن الطحاوي وغيره أن ذلك مختص بالفرائض لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" ويمكن أن يقال لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما وكذا في المسجدين وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا. ثم إن التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الإجزاء باتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره، فلو كان عليه صلاتان فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة والله أعلم. وقد أوهم كلام المقري أبي بكر النقاش في تفسيره خلاف ذلك فإنه قال فيه: حسبت الصلاة بالمسجد الحرام فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة انتهى. وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة فإنها تزيد سبعا وعشرين درجة كما تقدم في أبواب الجماعة، لكن هل يجتمع التضعيفان أو لا؟ محل بحث.

(3/68)


2 - باب مَسْجِدِ قُبَاءٍ
1191 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ لاَ يُصَلِّي مِنْ الضُّحَى إِلاَّ فِي يَوْمَيْنِ يَوْمَ يَقْدَمُ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ يَقْدَمُهَا ضُحًى فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ وَيَوْمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَرِهَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ قَالَ وَكَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُهُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا"
[الحديث 1191 – أطرافه في: 7326,1194,1193]
1192 - قَالَ وَكَانَ يَقُولُ "إِنَّمَا أَصْنَعُ كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يَصْنَعُونَ وَلاَ أَمْنَعُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ غَيْرَ أَنْ لاَ تَتَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا"
قوله: "باب مسجد قباء" أي فضله، وقباء بضم القاف ثم موحدة ممدودة عند أكثر أهل اللغة، وأنكر السكري قصره لكن حكاه صاحب العين، قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه ومنهم من يؤنثه فلا

(3/68)


يصرفه. وفي المطالع: هو على ثلاثة أميال من المدينة. وقال ياقوت: على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة. وسمي باسم بئر هناك. والمسجد المذكور هو مسجد بني عمرو بن عوف، وهو أول مسجد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي ذكر الخلاف في كونه المسجد الذي أسس على التقوى في "باب الهجرة" إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا يعقوب بن إبراهيم" في رواية أبي ذر "هو الدورقي". قوله: "كان لا يصلي الضحى" تقدم الكلام عليه قريبا. قوله: "وكان" أي ابن عمر. قوله: "يزوره" أي يزور مسجد قباء. قوله: "وكان يقول" أي ابن عمر، وقد تقدم الكلام على ذلك في أواخر المواقيت. وفي الحديث دلالة على فضل قباء وفضل المسجد الذي بها وفضل الصلاة فيه، لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.

(3/69)


3 - باب مَنْ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ
1193 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ
قوله: "باب من أتى مسجد قباء كل سبت" أراد بهذه الترجمة بيان تقييد ما أطلق في التي قبلها، لأنه قيد فيها في الموقوف بخلاف المرفوع فأطلق، ومن فضائل مسجد قباء ما رواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة" بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: "لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل". قوله: "ماشيا وراكبا" أي بحسب ما تيسر، والواو بمعني أو. قوله: "وكان عبد الله" أي ابن عمر كما ثبت في رواية أبي ذر والأصيلي.
4

(3/69)


4 - باب إِتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا
1194 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ
قوله: "باب إتيان مسجد قباء ماشيا وراكبا" أفرد هذه الترجمة لاشتمال الحديث على حكم آخر غير ما تقدم.
قوله: "حدثنا يحيي" زاد الأصيلي: "ابن سعيد" وهو القطان، وعبيد الله بالتصغير هو ابن عمر العمري. قوله: "زاد ابن نمير" أي عبد الله "عن عبيد الله" أي ابن عمر. وطريق ابن نمير وصلها مسلم وأبو يعلي قالا: "أخبرنا محمد بن عبد الله بن نمير أخبرنا أبي به" وقال أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده "حدثنا عبد الله بن نمير وأبو أسامة عن عبيد الله" فذكره بالزيادة، وادعى الطحاوي أنها مدرجة، وأن أحد الرواة قاله من عنده لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن لا يجلس حتى يصلي. وفي هذا الحديث على اختلاف طرقه دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك، وفيه أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ليس على التحريم1 لكون
ـــــــ
1 هذا فيه نظر. والصواب أنه للتحريم كما هو الأصل في نهيه صلى الله عليه وسلم. والجواب عن حديث قباء أن المراد بشد الرحل في أحاديث النهي الكناية عن السفر لا مجرد شد الرحل, وعليه فلا إشكال في ركوب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسجد قباء, وقد سبق للشارح, يرشد إلى هذا في كلامه على أحاديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة, فتنبه. والله الموفق.

(3/69)


5 - باب فَضْلِ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ
1195 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَازِنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ"
1196 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي"
[الحديث 1196 – أطرافه في: 7335,6588,1888]
قوله: "باب فضل ما بين القبر والمنبر" لما ذكر فضل الصلاة في مسجد المدينة أراد أن ينبه على أن بعض بقاع المسجد أفضل من بعض، وترجم بذكر القبر، وأورد الحديثين بلفظ البيت، لأن القبر صار في البيت وقد ورد في بعض طرقه بلفظ القبر، قال القرطبي: الرواية الصحيحة "بيتي" ويروى "قبري" وكأنه بالمعنى لأنه دفن في بيت سكناه قوله: "عن عبد الله بن أبي بكر" أي ابن محمد بن عمرو بن حزم. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر العمري، وثبت ذلك في رواية أبي ذر والأصيلي. قوله: "ومنبري على حوضي" سقطت هذه الجملة من رواية أبي ذر، وسيأتي هذا الحديث بسنده ومتنه كاملا في أواخر فضل المدينة من أواخر كتاب الحج، ويأتي الكلام على المتن هناك إن شاء الله تعالى مستوفى.

(3/70)


6 - باب مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
1197 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ سَمِعْتُ قَزَعَةَ مَوْلَى زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ بِأَرْبَعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْجَبْنَنِي وَآنَقْنَنِي قَالَ: "لاَ تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلاَّ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ وَلاَ صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ وَلاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِي"
قوله: "باب مسجد بيت المقدس" أي فضله. قوله: "وآنقنني" بالمد ثم نون مفتوحة ثم قاف ساكنة بعدها نونان، يقال آنقه كذا إذا أعجبه، وشيء مونق أي معجب، وقوله وأعجبنني من التأكيد بغير اللفظي، وحكى ابن الأثير أنه روى "أينقنني" بتحتانية بدل الألف قال: وليس بشيء، وضبطه الأصيلي: "أتقنني" بمثناة فوقانية من التوق، وإنما يقال منه توقني كشوقني. قوله: "لا تسافر المرأة" سيأتي الكلام عليه في الحج. قوله: "ولا صوم" سيأتي في الصوم، وقوله في الصلاة تقدم في أواخر المواقيت، وقوله: "ولا تشد الرحال" تقدم قريبا.

(3/70)


كتاب العمل في الصلاة
باب استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
21 - كتاب العمل فِي الصَّلاَةِ
1 - باب اسْتِعَانَةِ الْيَدِ فِي الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلاَةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْتَعِينُ الرَّجُلُ فِي صَلاَتِهِ مِنْ جَسَدِهِ بِمَا شَاءَ وَوَضَعَ أَبُو إِسْحَاقَ قَلَنْسُوَتَهُ فِي الصَّلاَةِ وَرَفَعَهَا وَوَضَعَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَفَّهُ عَلَى رُسْغِهِ الأَيْسَرِ إِلاَّ أَنْ يَحُكَّ جِلْدًا أَوْ يُصْلِحَ ثَوْبًا
1198 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ خَالَتُهُ قَالَ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى عَرْضِ الْوِسَادَةِ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ آيَاتٍ خَوَاتِيمَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا بِيَدِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ
"أبواب العمل في الصلاة" ثبت في نسخة الصغاني هنا بسملة
"باب" في نسخة الصغاني أبواب. قوله: "استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة. وقال ابن عباس: يستعين الرجل في صلاته من جسده بما شاء. ووضع أبو إسحاق - يعني السبيعي - قلنسوته في الصلاة ورفعها.
ووضع علي كفه على رصغه الأيسر، إلا أن يحك جلدا أو يصلح ثوبا" هذا الاستثناء من بقية أثر علي على ما سأوضحه، وظن قوم أنه من تتمة الترجمة، فقال ابن رشيد: قوله: "إلا أن يحك جلدا أو يصلح ثوبا" هو مستثني من قوله: "إذا كان من أمر الصلاة" فاستثنى من ذلك جواز ما تدعو الضرورة إليه من حال المرء مع ما في ذلك من

(3/71)


دفع التشويش عن النفس، قال: وكان الأولى في هذا الاستثناء أن يكون مقدما قبل قوله: "وقال ابن عباس" انتهى. وسبقه إلى دعواه أن الاستثناء من الترجمة الإسماعيلي في مستخرجه فقال: قوله: "إلا أن يحك جلدا" ينبغي أن يكون من صلة الباب عند قوله إذا كان من أمر الصلاة، وصرح بكونه من كلام البخاري لا من كلام علي العلامة علاء الدين مغلطاي في شرحه، وتبعه من أخذ ذلك عنه ممن أدركناه، وهو وهم، وذلك أن الاستثناء بقية أثر علي، كذلك رواه مسلم بن إبراهيم أحد مشايخ البخاري عن عبد السلام بن أبي حازم عن غزوان بن جرير الضبي عن أبيه -وكان شديد اللزوم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه- قال: "كان علي إذا قام إلى الصلاة فكبر ضرب بيده اليمنى على رصغه الأيسر، فلا يزال كذلك حتى يركع، إلا أن يحك جلدا أو يصلح ثوبا" هكذا رويناه في "السفينية الجرائدية" من طريق السلفي بسنده إلى مسلم بن إبراهيم، وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ: "إلا أن يصلح ثوبه أو يحك جسده" وهذا هو الموافق للترجمة ولو كان أثر علي انتهى عند قوله: "الأيسر" لما كان فيه تعلق بالترجمة إلا ببعد، وهذا من فوائد تخريج التعليقات. والرصغ بسكون الصاد المهملة بعدها معجمة قال صاحب العين: هو لغة في الرسغ، وهو مفصل ما بين الكف والساعد. وقال صاحب المحكم: الرصغ مجتمع الساقين والقدمين. ثم إن ظاهر هذه الآثار يخالف الترجمة لأنها مقيدة بما إذا كان العمل من أمر الصلاة وهي مطلقة، وكأن المصنف أشار إلى أن إطلاقها مقيد بما ذكر ليخرج العبث، ويمكن أن يقال: لها تعلق بالصلاة لأن دفع ما يؤذي المصلي يعين على دوام خشوعه المطلوب في الصلاة، ويدخل في الاستعانة التعلق بالحبل عند التعب والاعتماد على العصا ونحوهما، وقد رخص فيه بعض السلف، وقد مر الأمر بحل الحبل في أبواب قيام الليل، وسيأتي ذكر الاختصار بعد أبواب. قوله: "وأخذ بأذني اليمني يفتلها" هو شاهد الترجمة، لأنه أخذ بأذنه أولا لإدارته من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن، وذلك من مصلحة الصلاة. ثم أخذ بها أيضا لتأنيسه لكون ذلك ليلا كما تقدم تقريره في أبواب الصفوف. قال ابن بطال: استنبط البخاري منه أنه لما جاز للمصلي أن يستعين بيده في صلاته فيما يختصن بغيره كانت استعانته في أمر نفسه ليتقوى بذلك على صلاته وينشط لها إذا احتاج إليه أولى، وقد تقدم الكلام على بقية فوائد حديث ابن عباس في أبواب الوتر.

(3/72)


باب ما ينهى من الكلام في الصلاة
...
2 - باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْ الْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ
1199 - حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا وَقَالَ إِنَّ فِي الصَّلاَةِ شُغْلا"
[الحديث 1199 – طرفاه في: 3875,1216]
حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلُولِيُّ حَدَّثَنَا هُرَيْمُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ
1200 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى هُوَ ابْنُ يُونُسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ

(3/72)


قَالَ قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ "إِنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى نَزَلَتْ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية, فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ"
[الحديث 1200 – طرفه في: 4534]
قوله: "باب ما ينهى من الكلام في الصلاة" في رواية الأصيلي والكشميهني: "ما ينهى عنه" وفي الترجمة إشارة إلى أن بعض الكلام لا ينهى عنه كما سيأتي حكاية الخلاف فيه. قوله: "حدثنا ابن نمير" هو محمد بن عبد الله بن نمير، نسب إلى جده، ولم يدرك البخاري عبد الله. قوله: "كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة" في رواية أبي وائل "كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا" وفي رواية أبي الأحوص "خرجت في حاجة ونحن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة" وسيأتي للمصنف بعد باب نحوه في حديث التشهد. قوله: "النجاشي" بفتح النون وحكي كسرها، وسيأتي تسميته والإشارة إلى شيء من أمره في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى. "فائدة": روى ابن أبي شيبة من مرسل ابن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على ابن مسعود في هذه القصة السلام بالإشارة، وقد بوب المصنف لمسألة الإشارة في الصلاة بترجمة مفردة وستأتي في أواخر مسجود السهو قريبا. قوله: "فلم يرد علينا" زاد مسلم في رواية ابن فضيل "قلنا يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا" وكذا في رواية أبي عوانة التي في الهجرة. قوله: "إن في الصلاة شغلا" في رواية أحمد عن ابن فضيل "لشغلا" بزيادة اللام للتأكيد، والتنكير فيه للتنويع، أي بقراءة القرآن والذكر والدعاء، أو للتعظيم أي شغلا وأي شغل لأنها مناجاة مع الله تستدعي الاستغراق بخدمته فلا يصلح فيها الاشتغال بغيره. وقال النووي: معناه أن وظيفة المصلي الاشتغال بصلاته وتدبر ما يقوله فلا ينبغي أن يعرج على غيرها من رد السلام ونحوه، زاد في رواية أبي وائل "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة" وزاد في رواية كلثوم الخزاعي "إلا بذكر الله وما ينبغي لكم فقوموا لله قانتين. فأمرنا بالسكوت". قوله: "هريم" بهاء وراء مصغرا، والسلولي بفتح المهملة ولامين الأولى خفيفة مضمومة، ورجال الإسنادين من الطريقين كلهم كوفيون، وسفيان هو الثوري، ورواية الأعمش بهذا الإسناد مما عد من أصح الأسانيد. قوله: "نحوه" ظاهر في أن لفظ رواية هريم غير متحد مع لفظ رواية ابن فضيل وأن معناهما واحد، وكذا أخرج مسلم الحديث من الطريقين وقال في رواية هريم أيضا: "نحوه" ولم أقف على سياق لفظ هريم إلا عند الجوزقي فإنه ساقه من طريق إبراهيم بن إسحاق الزهري عنه ولم أر بينهما مغايرة، إلا أنه قال: "قدمنا" بدل رجعنا، وزاد: "فقيل له يا رسول الله" والباقي سواء وسيأتي في الهجرة من طريق أبي عوانة عن الأعمش أوضح من هذا، وللحديث طرق أخرى منها عند أبي داود والنسائي من طريق أبي ليلى عن ابن مسعود، وعند النسائي من طريق كلثوم الخزاعي عنه، وعند ابن ماجة والطحاوي من طريق أبي الأحوص عنه، وسيأتي التنبيه عليه في "باب قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} من أواخر كتاب التوحيد. قوله: "عن إسماعيل" هو ابن أبي خالد، والحارث بن شبيل ليس له في البخاري غير هذا الحديث، وأبوه بمعجمة وموحدة وآخره لام مصغر، وليس لأبي عمر وسعد بن أياس الشيباني شيخه عن زيد بن أرقم غيره. قوله: "إن كنا لنتكلم" بتخفيف النون، وهذا حكمه الرفع، وكذا قوله: "أمرنا" لقوله فيه: "على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى ولو لم يقيد بذلك لكان ذكر نزول الآية كافيا في كونه مرفوعا.

(3/73)


قوله: "يكلم أحدنا صاحبه بحاجته" تفسير لقوله: "نتكلم" والذي يظهر أنهم كانوا لا يتكلمون فيها بكل شيء وإنما يقتصرون على الحاجة من رد السلام ونحوه. قوله: "حتى نزلت" ظاهر في أن نسخ الكلام في الصلاة وقع بهذه الآية، فيقتضي أن النسخ وقع بالمدينة لأن الآية مدنية باتفاق، فيشكل ذلك على قول ابن مسعود إن ذلك وقع لما رجعوا من عند النجاشي، وكان رجوعهم من عنده إلى مكة، وذلك أن بعض المسلمين هاجر إلى الحبشة ثم بلغهم أن المشركين أسلموا فرجعوا إلى مكة فوجدوا الأمر بخلاف ذلك واشتد الأذى عليهم فخرجوا إليها أيضا فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأولى، وكان ابن مسعود مع الفريقين، واختلف في مراده بقوله: "فلما رجعنا" هل أراد الرجوع الأول أو الثاني، فجنح القاضي أبو الطيب الطبري وآخرون إلى الأول وقالوا كان تحريم الكلام بمكة، وحملوا حديث زيد على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ وقالوا لا مانع أن يتقدم الحكم ثم تنزل الآية بوفقه. وجنح آخرون إلى الترجيح فقالوا: يترجح حديث ابن مسعود بأنه حكى لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف زيد بن أرقم فلم يحكه. وقال آخرون: إنما أراد ابن مسعود رجوعه الثاني، وقد ورد أنه قدم المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر، وفي مستدرك الحاكم من طريق أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ثمانين رجلا" فذكر الحديث بطوله وفي آخره: "فتعجل عبد الله بن مسعود فشهد بدرا" وفي السير لابن إسحاق: أن المسلمين بالحبشة لما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلا، فمات منهم رجلان بمكة وحبس منهم سبعة وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلا فشهدوا بدرا. فعلى هذا كان ابن مسعود من هؤلاء، فظهر أن اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه كان بالمدينة، وإلى هذا الجمع نحا الخطابي ولم يقفه من تعقب كلامه على مستنده، ويقوي هذا الجمع رواية كلثوم المتقدمة فإنها ظاهرة في أن كلا من ابن مسعود وزيد بن أرقم حكى أن الناسخ قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وأما قول ابن حبان: كان نسخ الكلام بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، قال: ومعنى قول زيد بن أرقم "كنا نتكلم" أي كان قومي يتكلمون لأن قومه كانوا يصلون قبل الهجرة مع مصعب بن عمير الذي كان يعلمهم القرآن، فلما نسخ تحريم الكلام بمكة بلغ ذلك أهل المدينة فتركوه، فهو متعقب بأن الآية مدنية باتفاق، وبأن إسلام الأنصار وتوجه مصعب بن عمير إليهم إنما كان قبل الهجرة بسنة واحدة، وبأن في حديث زيد بن أرقم "كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذا أخرجه الترمذي فانتفى أن يكون المراد الأنصار الذين كانوا يصلون بالمدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. وأجاب ابن حبان في موضع آخر بأن زيد بن أرقم أراد بقوله: "كنا نتكلم" من كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم بمكة من المسلمين، وهو متعقب أيضا بأنهم ما كانوا بمكة يجتمعون إلا نادرا، وبما روى الطبراني من حديث أبي أمامة قال: "كان الرجل إذا دخل المسجد فوجدهم يصلون سأل الذي إلى جنبه فيخبره بما فاته فيقضي ثم يدخل معهم، حتى جاء معاذ يوما فدخل في الصلاة" فذكر الحديث، وهذا كان بالمدينة قطعا لأن أبا أمامة ومعاذ بن جبل إنما أسلما بها. قوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية كذا في رواية كريمة، وساق في رواية أبي ذر وأبي الوقت الآية إلى آخرها، وانتهت رواية الأصيلي إلى قوله: {الْوُسْطَى} وسيأتي الكلام على المراد بالوسطى وبالقنوت في تفسير البقرة، وحديث زيد بن أرقم ظاهر في أن المراد بالقنوت السكوت. قوله: "فأمرنا بالسكوت" أي عن الكلام المتقدم ذكره لا مطلقا فإن الصلاة ليس فيها حال سكوت حقيقية. قال ابن دقيق العيد: ويترجح بما دل عليه لفظ: "حتى" التي للغاية والفاء التي تشعر بتعليل ما سبق عليها لما يأتي بعدها.

(3/74)


" تنبيه ": زاد مسلم في روايته: "ونهينا عن الكلام" ولم يقع في البخاري، وذكرها صاحب العمدة ولم ينبه أحد من شراحها عليها، واستدل بهذه الزيادة على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، إذ لو كان كذلك لم يحتج إلى قوله: "ونهينا عن الكلام" وأجيب بأن دلالته على ضده دلالة التزام، ومن ثم وقع الخلاف فلعله ذكر لكونه أصرح والله أعلم.
قال ابن دقيق العيد: هذا اللفظ أحد ما يستدل به على النسخ وهو تقدم أحد الحكمين على الآخر، وليس كقول الراوي هذا منسوخ لأنه يطرقه احتمال أن يكون قاله عن اجتهاد، وقيل ليس في هذه القصة نسخ لأن إباحة الكلام في الصلاة كان بالبراءة الأصلية، والحكم المزيل لها ليس نسخا. وأجيب بأن الذي يقع في الصلاة ونحوها ما يمنع أو يباح إذا قرره الشارع كان حكما شرعيا، فإذا ورد ما يخالفه كان ناسخا وهو كذلك هنا. قال ابن دقيق العيد: وقوله: "ونهينا عن الكلام" يقتضي أن كل شيء يسمى كلاما فهو منهي عنه حملا للفظ على عمومه، ويحتمل أن تكون اللام للعهد الراجع إلى قوله: "يكلم الرجل منا صاحبه بحاجته" وقوله: "فأمرنا بالسكوت" أي عما كانوا يفعلونه من ذلك. "تكميل": أجمعوا على أن الكلام في الصلاة -من عالم بالتحريم عامد لغير مصلحتها أو إنقاذ مسلم- مبطل لها، واختلفوا في الساهي والجاهل فلا يبطلها القليل منه عند الجمهور، وأبطلها الحنفية مطلقا كما سيأتي في الكلام على حديث ذي اليدين في السهو، واختلفوا في أشياء أيضا كمن جرى على لسانه بغير قصد أو تعمد إصلاح الصلاة لسهو دخل على إمامه أو لإنقاذ مسلم لئلا يقع في مهلكة أو فتح على إمامه أو سبح لمن مر به أو رد السلام أو أجاب دعوة أحد والديه أو أكره على الكلام أو تقرب بقربة كأعتقت عبدي لله، ففي جميع ذلك خلاف محل بسطه كتب الفقه، وستأتي الإشارة إلى بعضه حيث يحتاج إليه. قال ابن المنير في الحاشية: الفرق بين قليل الفعل للعامد فلا يبطل وبين قليل الكلام أن الفعل لا تخلو منه الصلاة غالبا لمصلحتها وتخلو من الكلام الأجنبي غالبا مطردا، والله أعلم.

(3/75)


3 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ فِي الصَّلاَةِ لِلرِّجَالِ
1201 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ وَحَانَتْ الصَّلاَةُ فَجَاءَ بِلاَلٌ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ حُبِسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَؤُمُّ النَّاسَ قَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتُمْ فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ فَأَخَذَ النَّاسُ بِالتَّصْفِيحِ قَالَ سَهْلٌ هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ هُوَ التَّصْفِيقُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرُوا الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّفِّ فَأَشَارَ إِلَيْهِ مَكَانَكَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى"
قوله: "باب ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة" قال ابن رشيد: أراد إلحاق التسبيح بالحمد بجامع الذكر لأن الذي في الحديث الذي ساقه ذكر التحميد دون التسبيح. قلت: بل الحديث مشتمل عليهما لكنه ساقه هنا مختصرا، وقد تقدم في "باب من دخل ليؤم الناس" من أبواب الإمامة من طريق مالك عن أبي حازم وفيه: "فرفع

(3/75)


أبو بكر يديه فحمد الله تعالى" وفي آخره: "من نابه شيء في صلاة فليسبح" وسيأتي في أواخر أبواب السهو عن قتيبة عن عبد العزيز بن أبي حازم وفيه هذا. قوله: "للرجال": قال ابن رشيد: قيده بالرجال لأن ذلك عنده لا يشرع للنساء. وقد أشعر بذلك تبويبه بعد حيث قال: "باب التصفيق للنساء" ووجهه أن دلالة العموم لفظية وضعية ودلالة المفهوم من لوازم اللفظ عند الأكثرين، وقد قال في الحديث: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" فكأنه قال: لا تسبيح إلا للرجال ولا تصفيق إلا للنساء، وكأنه قدم المفهوم على العموم للعمل بالدليلين، لأن في إعمال العموم إبطالا للمفهوم. ولا يقال إن قوله: "للرجال" من باب اللقب، لأنا نقول: بل هو من باب الصفة، لأنه في معني الذكور البالغين انتهى. تقدم الكلام على فوائد هذا الحديث في الباب المذكور. وفيه من الفوائد مما تقدم بعضها مبسوطا: جواز تأخير الصلاة عن أول الوقت، وأن المبادرة إليها أولى من انتظار الإمام الراتب، وأنه لا ينبغي التقدم على الجماعة إلا برضا منهم، يؤخذ ذلك من قول أبي بكر "إن شئتم" مع علمه بأنه أفضل. وأن الالتفات في الصلاة لا يقطعها. وأن من سبح أو حمد لأمر ينوبه لا يقطع صلاته ولو قصد بذلك تنبيه غيره خلافا لمن قال بالبطلان. وقوله فيه: "فقال سهل" أي ابن سعد راوي الحديث: "هل تدرون ما التصفيح هو التصفيق" وهذه حجة لمن قال إنهما قال بمعني واحد، وبه صرح الخطابي وأبو علي القالي والجوهري وغيرهم، وادعى ابن حزم نفي الخلاف في ذلك، وتعقب بما حكاه عياض في الإكمال أنه بالحاء الضرب بظاهر إحدى اليدين على الأخرى، وبالقاف بباطنها على باطن الأخرى، وقيل بالحاء الضرب بأصبعين للإنذار والتنبيه وبالقاف بجميعها للهو واللعب، وأغرب الداودي فزعم أن الصحابة ضربوا بأكفهم على أفخاذهم، قال عياض: كأنه أخذه من حديث معاوية بن الحكم الذي أخرجه مسلم ففيه: "فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم".

(3/76)


4 - باب مَنْ سَمَّى قَوْمًا أَوْ سَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى غَيْرِهِ مُوَاجَهَةً وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ
1202- حدثنا عمرو بن عيسى حدثنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد حدثنا حصين بن عبد الرحمن عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ثم كنا نقول التحية في الصلاة ونسمي ويسلم بعضنا على بعض فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قولوا التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض"
قوله: "باب من سمى قوما أو سلم في الصلاة على غيره وهو لا يعلم" كذا للأكثر، وزاد في رواية كريمة بعد على غيره: "مواجهة" وحكى ابن رشيد أن في رواية أبي ذر عن الحموي إسقاط الهاء من غيره وإضافة مواجهة، قال: ويحتمل أن يكون بتنوين غير وفتح الجيم من مواجهة وبالنصب فيوافق المعنى الأول، ويحتمل أن يكون بتاء التأنيث فيكون المعنى لا تبطل الصلاة إذا سلم على غير مواجهة، ومفهومه أنه إذا كان مواجهة تبطل، قال: وكأن مقصود البخاري بهذه الترجمة أن شيئا من ذلك لا يبطل الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالإعادة وإنما علمهم ما يستقبلون، لكن يرد عليه أنه لا يستوي حال الجاهل قبل وجود الحكم مع حاله بعد ثبوته، ويبعد أن يكون

(3/76)


الذين صدر منهم الفعل كان من غير علم بل الظاهر أن ذلك كان عندهم شرعا مقررا فورد النسخ عليه فيقع الفرق انتهى. وليس في الترجمة تصريح بجواز ولا بطلان. وكأنه ترك ذلك لاشتباه الأمر فيه. وقد تقدم الكلام على فوائد حديث الباب في أواخر صفة الصلاة. وقوله في هذا السياق "وسمى ناسا بأعيانهم" يفسره قوله في السياق المتقدم "السلام على جبريل السلام على ميكائيل إلخ" وقوله: "يسلم بعضنا على بعض" ظاهر فيما ترجم له والله تعالى أعلم.

(3/77)


5- باب التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ
1203 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء"
1204 - حدثنا يحيى أخبرنا وكيع عن سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرجال والتصفيح للنساء"
قوله: "باب التصفيق للنساء" تقدم الكلام عليه قبل باب. وسفيان في الإسناد الأول هو ابن عيينة، وفي الثاني هو الثوري، ويحيي شيخ البخاري هو ابن جعفر، وكأن منع النساء من التسبيح لأنها مأمورة بخفض صوتها في الصلاة مطلقا لما يخشى من الافتتان. ومنع الرجال من التصفيق لأنه من شأن النساء، وعن مالك وغيره في قوله: "التصفيق للنساء" أي هو من شأنهن في غير الصلاة وهو على جهة الذم له ولا ينبغي فعله في الصلاة لرجل ولا امرأة، وتعقب برواية حماد بن زيد عن أبي حازم في الأحكام بصيغة الأمر "فليسبح الرجال وليصفق النساء" فهذا نصن يدفع ما تأوله أهل هذه المقالة، قالا القرطبي: القول بمشروعية التصفيق للنساء هو الصحيح خبرا ونظرا.

(3/77)


6 - باب مَنْ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فِي صَلاَتِهِ أَوْ تَقَدَّمَ بِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ
رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1205 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ يُونُسُ قَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِهِمْ فَفَجِئَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ فَرَحًا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَتُوُفِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمَ"
قوله: "باب من رجع القهقرى في الصلاة أو تقدم بأمر ينزل به، رواه سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير بذلك إلى حديثه الماضي قريبا فقيه "فرفع أبو بكر يديه فحمد الله ثم رجع القهقري". وأما قوله: "أو تقدم" فهو مأخوذ من الحديث أيضا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في الصف الأول خلف أبي بكر على إرادة الائتمام به فامتنع

(3/77)


7 - باب إِذَا دَعَتْ الأُمُّ وَلَدَهَا فِي الصَّلاَةِ
1206 - قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نَادَتْ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وَهُوَ فِي صَوْمَعَةٍ قَالَتْ يَا جُرَيْجُ قَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي قَالَتْ يَا جُرَيْجُ قَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي قَالَتْ يَا جُرَيْجُ قَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي قَالَتْ اللَّهُمَّ لاَ يَمُوتُ جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وُجُوهِ الْمَيَامِيسِ وَكَانَتْ تَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ فَوَلَدَتْ فَقِيلَ لَهَا مِمَّنْ هَذَا الْوَلَدُ قَالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ قَالَ جُرَيْجٌ أَيْنَ هَذِهِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لِي قَالَ يَا بَابُوسُ مَنْ أَبُوكَ قَالَ رَاعِي الْغَنَمِ"
[الحديث 1206 – أطرافه في:2482, 3436, 3466]
قوله: "باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة" أي هل يجب إجابتها أم لا؟ إذا وجبت هل تبطل الصلاة أو لا؟ في المسألتين خلاف، ولذلك حذف المصنف جواب الشرط. قوله: "وقال الليث" وصله الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي أحد شيوخ البخاري عن الليث مطولا، وجعفر هو ابن ربيعة المصري، وجريج بجيمين مصغر. وقوله في وجه المياميس في رواية أبي ذر "وجوه" بصيغة الجمع والمياميس جمع مومسة بكسر الميم وهي الزانية، قال ابن الجوزي: إثبات الياء فيه غلط والصواب حذفها وخرج على إشباع الكسرة وحكى غيره جوازه، قال ابن بطال: سبب دعاء أم جريج على ولدها أن الكلام في الصلاة كان في شرعهم مباحا، فلما آثر استمراره في صلاته ومناجاته على إجابتها دعت عليه لتأخيره حقها انتهى. والذي يظهر من ترديده في قوله: "أمي، وصلاتي" أن الكلام عنده يقطع الصلاة فلذلك لم يجبها، وقد روى الحسن بن سفيان وغيره من طريق الليث عن يزيد بن حوشب عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان جريج عالما لعلم أن إجابته أمه أولى من عبادة ربه" ويزيد هذا مجهول، وحوشب بمهملة ثم معجمة وزن جعفر، ووهم الدمياطي فزعم أنه ذو ظليم، والصواب أنه غيره لأن ذا ظليم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا وقع التصريح بسماعه، وقوله فيه: "يا بابوس" بموحدتين بينهما ألف ساكنة والثانية مضمومة وآخره مهملة قال القزاز: هو الصغير. وقال ابن بطال: الرضيع، وهو بوزن جاسوس. واختلف هل هو عربي أو معرب؟ وأغرب الداودي الشارح فقال: هو اسم ذلك الولد بعينه وفيه نظر، وقد قال الشاعر:

(3/78)


حنت قلوصي إلى بابوسها جزعا. وقال الكرماني: إن صحت الرواية بتنوين السين تكون كنية له ويكون معناه يا أبا الشدة، وسيأتي بقية الكلام عليه في ذكر بني إسرائيل.

(3/79)


8 - باب مَسْحِ الْحَصَا فِي الصَّلاَةِ
1207 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَيْقِيبٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ قَالَ: "إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَوَاحِدَةً"
قوله: "باب مسح الحصى في الصلاة" قال ابن رشيد: ترجم بالحصى والمتن الذي أورده "في التراب" لينبه على إلحاق الحصى بالتراب في الاقتصار على التسوية مرة، وأشار بذلك أيضا إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ: "الحصى" كما أخرجه مسلم من طريق وكيع عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير بلفظ: "المسح في المسجد يعني الحصى" قال ابن رشيد: لما كان في الحديث: "يعني" ولا يدري أهي قول الصحابي أو غيره عدل عنها البخاري إلى ذكر الرواية التي فيها التراب. وقال الكرماني: ترجم بالحصى لأن الغالب أنه يوجد في التراب فيلزم من تسويته مسح الحصى. قلت: قد أخرجه أبو داود عن مسلم بن إبراهيم عن هشام بلفظ: "فإن كنت لا بد فاعلا فواحدة تسوية الحصى" وأخرجه الترمذي من طريق الأوزاعي عن يحيى بلفظ: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى في الصلاة" فلعل البخاري أشار إلى هذه الرواية، أو إلى ما رواه أحمد من حديث حذيفة قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى عن مسح الحصى فقال: واحدة أو دع" ورواه أصحاب السنن من حديث أبي ذر بلفظ: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصى" وقوله: "إذا قام" المراد به الدخول في الصلاة ليوافق حديث الباب فلا يكون منهيا عن المسح قبل الدخول فيها، بل الأولى أن يفعل ذلك حتى لا يشتغل باله وهو في الصلاة به. "تنبيه": التقييد بالحصى وبالتراب خرج للغالب لكونه كان الموجود في فرش المساجد إذ ذاك، فلا يدل تعليق الحكم به على نفيه على غيره مما يصلى عليه من الرمل والقذى وغير ذلك. قوله: "حدثنا شيبان" هو ابن عبد الرحمن، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن أبي سلمة" هو ابن عبد الرحمن. وفي رواية الترمذي من طريق الأوزاعي عن يحيى "حدثني أبو سلمة" ومعيقيب بالمهملة وبالقاف وآخره موحدة مصغر هو ابن أبي فاطمة الدوسي حليف بني عبد شمس، كان من السابقين الأولين، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث الواحد. قوله: "في الرجل" أي حكم الرجل، وذكر للغالب وإلا فالحكم جار في جميع المكلفين. وحكى النووي اتفاق العلماء على كراهة مسح الحصى وغيره في الصلاة، وفيه نظر فقد حكى الخطابي في "المعالم" عن مالك أنه لم ير به بأسا وكان يفعله فكأنه لم يبلغه الخبر، وأفرط بعض أهل الظاهر فقال: إنه حرام إذا زاد على واحدة لظاهر النهي، ولم يفرق بين ما إذا توالى أو لا، مع أنه لم يقل بوجوب الخشوع، والذي يظهر أن علة كراهيته المحافظة على الخشوع، أو لئلا يكثر العمل في الصلاة، لكن حديث أبي ذر المتقدم يدل على أن العلة فيه أن يجعل بينه وبين الرحمة التي تواجهه حائلا. وروى ابن أبي شيبة عن أبي صالح السمان قال: "إذا سجدت فلا تمسح الحصى، فإن كل حصاة تحب أن يسجد عليها" فهذا تعليل آخر والله أعلم. قوله: "حيث يسجد" أي مكان السجود، وهل يتناول العضو الساجد؟ لا يبعد ذلك.
وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء قال: "ما أحب أن لي حمر النعم وأني مسحت مكان جبيني من الحصى" وقال

(3/79)


عياض: كره السلف مسح الجبهة في الصلاة قبل الانصراف. قلت: وقد تقدم في أواخر صفة الصلاة حكاية استدلال الحميدي لذلك بحديث أبي سعيد في رؤيته الماء والطين في جبهة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انصرف من صلاة الصبح. قوله: "فواحدة" بالنصب على إضمار فعل أي فامسح واحدة، أو على النعت لمصدر محذوف، ويجوز الرفع على إضمار الخبر أي فواحدة تكفي، أو إضمار المبتدأ أي فالمشروع واحدة. ووقع في رواية الترمذي "إن كنت فاعلا فمرة واحدة" .

(3/80)


9 - باب بَسْطِ الثَّوْبِ فِي الصَّلاَةِ لِلسُّجُودِ
1208 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا غَالِبٌ الْقَطَّانُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنْ الأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ"
قوله: "باب بسط الثوب في الصلاة للسجود" هذه الترجمة من جملة العمل اليسير في الصلاة أيضا، وهو أن يتعمد إلقاء الثوب على الأرض ليسجد عليه، وقد تقدم الكلام عليه في أوائل الصلاة، وتقدم الخلاف في ذلك وتفرقة من فرق بين الثوب الذي هو لابسه أو غير لابسه. قوله: "حدثنا بشر" هو ابن المفضل، وغالب هو القطان كما وقع في رواية أبي ذر.

(3/80)


10 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الصَّلاَةِ
1209 - حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فإذا سجد غمزني فرفعتها فإذا قام مددتها"
1210 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ صَلَّى صَلاَةً قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ لِيَقْطَعَ الصَّلاَةَ عَلَيَّ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَذَعَتُّهُ وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَم {رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِيًا" ثُمَّ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ فَذَعَتُّهُ بِالذَّالِ أَيْ خَنَقْتُهُ وَفَدَعَّتُّهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ {يَوْمَ يُدَعُّونَ} أَيْ يُدْفَعُونَ وَالصَّوَابُ فَدَعَتُّهُ إِلاَّ أَنَّهُ كَذَا قَالَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَالتَّاءِ
قوله: "باب ما يجوز من العمل في الصلاة" أي غير ما تقدم، أورد فيه حديث عائشة في نومها في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وغمزه لها إذا سجد، وقد تقدم الكلام عليه في "باب الصلاة على الفراش" في أوائل الصلاة. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان، وشبابة بمعجمة وموحدتين الأولى خفيفة. قوله: "إن الشيطان عرض" تقدم في "باب ربط الغريم في المسجد" من أبواب المساجد من وجه آخر عن شعبة بلفظ: "إن عفريتا من الجن تفلت علي" وهو ظاهر في أن المراد بالشيطان في هذه الرواية غير إبليس كبير الشياطين. قوله: "فشد علي" بالمعجمة أي حمل. قوله: "ليقطع" في رواية الحموي والمستملي بحذف اللام. قوله: "فذعته" يأتي ضبطه بعد. قوله: "فتنظروا" في رواية الحموي

(3/80)


11 - باب إِذَا انْفَلَتَتْ الدَّابَّةُ فِي الصَّلاَةِ
1211 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الأَزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ "كُنَّا بِالأَهْوَازِ نُقَاتِلُ الْحَرُورِيَّةَ فَبَيْنَا أَنَا عَلَى جُرُفِ نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ فَجَعَلَتْ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا قَالَ شُعْبَةُ هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الْخَوَارِجِ يَقُولُ اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ فَلَمَّا انْصَرَفَ الشَّيْخُ قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَكُمْ وَإِنِّي غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ غَزَوَاتٍ أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ وَثَمَانِيَ وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ وَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَنْ أُرَاجِعَ مَعَ دَابَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجِعُ إِلَى مَأْلَفِهَا فَيَشُقُّ عَلَيَّ"
[الحديث 1211 – طرفه في: 6127]
1212 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ " خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ بِسُورَةٍ أُخْرَى ثُمَّ رَكَعَ حَتَّى قَضَاهَا وَسَجَدَ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يُفْرَجَ عَنْكُمْ لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُهُ حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنْ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ وَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ"
قوله: "باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة" أي ماذا يصنع؟. قوله: "وقال قتادة إلخ" وصله عبد الرزاق عن معمر عنه بمعناه وزاد: "فيرى صبيا على بئر فيتخوف أن يسقط فيها، قال: ينصرف له". قوله: "كنا بالأهواز" بفتح الهمزة وسكون الهاء هي بلدة معروفة بين البصرة وفارس فتحت في خلافة عمر، قال في المحكم: ليس له واحد من لفظه، قال أبو عبيد البكري: هي بلد يجمعها سبع كور فذكرها. قال ابن خرداذبة: هي بلاد واسعة متصلة بالجبل وأصبهان. قوله: "الحرورية" بمهملات أي الخوارج، وكان الذي يقاتلهم إذ ذاك المهلب بن أبي صفرة كما في رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عند الإسماعيلي، وذكر محمد بن قدامة الجوهري في كتابه "أخبار الخوارج"

(3/81)


أن ذلك كان في سنة خمس وستين من الهجرة، وكان الخوارج قد حاصروا أهل البصرة مع نافع بن الأزرق حتى قتل وقتل من أمراء البصرة جماعة إلى أن ولي عبد الله بن الزبير الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على البصرة وولي المهلب بن أبي صفرة على قتال الخوارج، وكذا ذكر المبرد في الكامل نحوه. وهو يعكر على من أرخ وفاة أبي برزة سنة أربع وستين أو قبلها. قوله: "على جرف نهر" هو بضم الجيم والراء بعدها فاء وقد تسكن الراء، وهو المكان الذي أكله السيل. وللكشميهني بفتح المهملة وسكون الراء أي جانبه، ووقع في رواية حماد بن زيد عن الأزرق في الأدب "كنا على شاطئ نهر قد نضب عنه الماء" أي زال وهو يقوي رواية الكشميهني. وفي رواية مهدي بن ميمون عن الأزرق عن محمد بن قدامة "كنت في ظل قصر مهران بالأهواز على شاطئ دجيل" وعرف بهذا تسمية النهر المذكور وهو بالجيم مصغر. قوله: "إذا رجل" في رواية الحموي والكشميهني: "إذ جاء رجل". قوله: "قال شعبة هو أبو برزة الأسلمي" أي الرجل المصلي، وظاهره أن الأزرق لم يسمه لشعبة ولكن رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة فقال في آخره: "فإذا هو أبو برزة الأسلمي" وفي رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيلي: "فجاء أبو برزة" وفي رواية حماد في الأدب "فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس فصلى وخلاها فانطلقت فاتبعها" ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الأزرق بن قيس "أن أبا برزة الأسلمي مشى إلى دابته وهو في الصلاة" الحديث، وبين مهدي بن ميمون في روايته أن تلك الصلاة كانت صلاة العصر. وفي رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيلي: "فمضت الدابة في قبلته فانطلق فأخذها ثم رجع القهقري". قوله: "فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ" في رواية الطيالسي "فإذا بشيخ يصلي قد عمد إلى عنان دابته فجعله في يده فنكصت الدابة فنكص معها، ومعنا رجل من الخوارج فجعل يسبه" وفي رواية مهدي أنه قال: ألا ترى إلى هذا الحمار. وفي رواية حماد فقال: انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس. قوله: "أو ثمانيا" كذا للكشميهني. وفي رواية غيره: "أو ثماني" بغير ألف ولا تنوين. وقال ابن مالك في شرح التسهيل: الأصل أو ثماني غزوات فحذف المضاف وأبقى المضاف إليه على حاله، وقد رواه عمرو بن مرزوق بلفظ: "سبع غزوات" بغير شك. قوله: "وشهدت تيسيره" كذا في جميع الأصول وفي جميع الطرق "من التيسير"، وحكى ابن التين عن الداودي أنه وقع عنده "وشهدت تستر" بضم المثناة وسكون المهملة وفتح المثناة وقال: معنى شهدت تستر أي فتحها، وكان في زمن عمر انتهى، ولم أر ذلك في شيء من الأصول، ومقتضاه أن لا يبقى في القصة شائبة رفع، بخلاف الرواية المحفوظة فإن فيها إشارة إلى أن ذلك كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم تجويز مثله، وزاد عمرو بن مرزوق في آخره: "قال فقلت للرجل ما أرى الله إلا مخزيك، شتمت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية مهدي بن ميمون "فقلت اسكت فعل الله بك، هل تدري من هذا؟ هو أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية الرجل المذكور، وفي هذا الحديث من الفوائد جواز حكاية الرجل مناقبه إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن في سياق الفخر، وأشار أبو برزة بقوله: "ورأيت تيسيره" إلى الرد على من شدد عليه في أن يترك دابته تذهب ولا يقطع صلاته، وفيه حجة للفقهاء في قولهم: أن كل شيء يخشى إتلافه من متاع وغيره يجوز قطع الصلاة لأجله.
وقوله: "مألفها" يعني الموضع الذي ألفته واعتادته، وهذا بناء على غالب أمرها، ومن الجائز أن لا ترجع إلى مألفها بل تتوجه إلى حيث لا يدري بمكانها فيكون فيه تضييع المال المنهي عنه. "تنبيه": ظاهر سياق هذه القصة أن أبا

(3/82)


برزة لم يقطع صلاته، ويؤيده قوله في رواية عمرو بن مرزوق "فأخذها ثم رجع القهقري" فإنه لو كان قطعها ما بالى أن يرجع مستدبر القبلة، وفي رجوعه القهقري ما يشعر بأن مشيه إلى قصدها ما كان كثيرا، وهو مطابق لثاني حديثي الباب لأنه يدل أنه صلى الله عليه وسلم تأخر في صلاته وتقدم ولم يقطعها، فهو عمل يسير ومشي قليل فليس فيه استدبار القبلة فلا يضر. وفي مصنف ابن أبي شيبة: "سئل الحسن عن رجل صلى فأشفق أن تذهب دابته، قال: ينصرف. قيل له أفيتم؟ قال: إذا ولى ظهره القبلة استأنف" وقد أجمع الفقهاء على أن المشي الكثير في الصلاة المفروضة يبطلها فيحمل حديث أبي برزة على القليل كما قررناه، وقد تقدم أن في بعض طرقه أن الصلاة المذكورة كانت العصر. قوله: "وإني أن كنت أن أرجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها" قال السهيلي: إني وما بعدها اسم مبتدأ وأن أرجع اسم مبدل من الاسم الأول وأحب خبر عن الثاني وخبر كان محذوف، أي إني إن كنت راجعا أحب إلي. وقال غيره أن كنت بفتح الهمزة وحذفت اللام وهي مع كنت بتقدير كوني وفي موضع البدل من الضمير في إني، وأن الثانية بالفتح أيضا مصدرية. ووقع في رواية حماد "فقال إن منزلي متراخ - أي متباعد - فلو صليت وتركته -أي الفرس- لم آت أهلي إلى الليل" أي لبعد المكان. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد، وقد تقدم ما يتعلق بالكسوف من هذا الحديث من طريق عقيل وغيره عن الزهري مستوفى. وقوله: "فلما قضى" أي فرغ ولم يرد القضاء الذي هو ضد الأداء. قوله: "لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدته" في رواية ابن وهب عن يونس عند مسلم: "وعدتم" وله في حديث جابر "عرض علي كل شيء تولجونه". قوله: "لقد رأيت" كذا للأكثر وللحموي والمستملي: "لقد رأيته" ولمسلم: "حتى لقد رأيتني" وهو أوجه. قوله: "أريد أن آخذ قطفا" في حديث جابر " حتى تناولت منها قطفا فقصرت يدي عنه" والقطف بكسر أوله وذكر ابن الأثير أن كثيرا يروونه بالفتح والكسر هو الصواب. قوله: "قطفا من الجنة" يعني عنقود عنب كما تقدم في الكسوف من حديث ابن عباس. قوله: "حين رأيتموني جعلت أتقدم" قال الكرماني: قال في جهنم حين رأيتموني تأخرت لأن التقدم كاد أن يقع بخلاف التأخر فإنه قد وقع كذا قال، وقد وقع التصريح بوقوع التقدم والتأخر جميعا في حديث جابر عند مسلم ولفظه: " لقد جيء بالنار، وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها" وفيه: "ثم جيء بالجنة، وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي" وقد تقدم الكلام على فوائد هذا الحديث في أبواب الكسوف. قوله: "ورأيت فيها عمرو بن لحي" باللام والمهملة مصغر وسيأتي شرح حاله في أخبار الجاهلية. قوله: " وهو الذي سيب السوائب" جمع سائبة، وسيأتي الكلام عليها في تفسير سورة المائدة إن شاء الله تعالى. وفي هذا الحديث أن المشي القليل لا يبطل الصلاة، وكذا العمل اليسير، وأن النار والجنة مخلوقتان موجودتان وغير ذلك من فوائده التي تقدمت مستقصاة في صلاة الكسوف. ووجه تعلق الحديث بالترجمة ظاهر من جهة جواز التقدم والتأخر اليسير، لأن الذي تنفلت دابته يحتاج في حال إمساكها إلى التقدم أو التأخر كما وقع لأبي برزة، وقد أشرت إلى ذلك في آخر حديثه. وأغرب الكرماني فقال: وجه تعلقه بها أن فيه مذمة تسييب الدواب مطلقا سواء كان في الصلاة أم لا.

(3/83)


12 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْبُصَاقِ وَالنَّفْخِ فِي الصَّلاَةِ
وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَفَخَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُجُودِهِ فِي كُسُوفٍ

(3/83)


1213 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَتَغَيَّظَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ فَإِذَا كَانَ فِي صَلاَتِهِ فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَوْ قَالَ لاَ يَتَنَخَّمَنَّ ثُمَّ نَزَلَ فَحَتَّهَا بِيَدِهِ"
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا بَزَقَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْزُقْ عَلَى يَسَارِهِ
1214 - حدثنا محمد حدثنا غندر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا كان في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن شماله تحت قدمه اليسرى"
قوله: "باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة" وجه التسوية بينهما أنه ربما ظهر من كل منهما حرفان وهما أقل ما يتألف منه الكلام، وأشار المصنف إلى أن بعض ذلك يجوز وبعضه لا يجوز، فيحتمل أنه يرى التفرقة بين ما إذا حصل من كل منهما كلام مفهوم أم لا، أو الفرق ما إذا كان حصول ذلك محققا ففعله يضر وإلا فلا. قوله: "ويذكر عن عبد الله بن عمرو" أي ابن العاص "نفخ النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده في كسوف" هذا طرف من حديث أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة والطبري وابن حبان من طريق عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام وقمنا معه" الحديث بطوله، وفيه: "وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد" وذلك في الركعة الثانية، وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض لأن عطاء بن السائب مختلف في الاحتجاج به وقد اختلط في آخر عمره، لكن أخرجه ابن خزيمة من رواية سفيان الثوري عنه وهو ممن سمع منه قبل اختلاطه، وأبوه وثقه العجلي وابن حبان وليس هو من شرط البخاري، ثم أورد البخاري في الباب حديث ابن عمر وحديث أنس في النهي عن البزاق في القبلة، فأما حديث ابن عمر فقوله فيه: "إن الله قبل أحدكم" بكسر القاف وفتح الموحدة أي مواجهة، وقد تقدم في "باب حك البزاق باليد من المسجد" من أبواب المساجد مع الكلام عليه، وزاد في هذه الرواية: "فتغيظ على أهل المسجد" ففيه جواز معاتبة المجموع على الأمر الذي ينكر وإن كان الفعل صدر من بعضهم لأجل التحذير من معاودة ذلك. قوله: "فلا يبزقن أو قال لا يتنخمن " في رواية الإسماعيلي: " لا يبزقن أحدكم بين يديه" . قوله فيه "وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا بزق أحدكم فليبزق على يساره" في رواية الكشميهني: "عن يساره" هكذا ذكره موقوفا ولم تتقدم هذه الزيادة من حديث ابن عمر، لكن وقع عند الإسماعيلي من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن حماد بن زيد بلفظ: "لا يبزقن أحدكم بين يديه، ولكن ليبزق خلفه أو عن شماله أو تحت قدمه" فساقه كله معطوفا بعضه على بعض، وقد بينت رواية البخاري أن المرفوع منه انتهى إلى قوله: "فلا يبزقن بين يديه" والباقي موقوف. وقد اقتصر مسلم وأبو داود وغيرهما على المرفوع منه مع أن هذا الموقوف عن ابن عمر قد ثبت مثله من حديث أنس مرفوعا، وقد تقدم الكلام على فوائد الحديث في الباب الذي أشرت إليه قبل وفيما بعده، قال ابن بطال: وروي عن مالك كراهة النفخ في الصلاة، ولا يقطعها كما يقطعها الكلام، هو قول أبي يوسف وأشهب وأحمد وإسحاق، وفي المدونة: النفخ بمنزلة الكلام يقطع الصلاة.

(3/84)


وعن أبي حنيفة ومحمد: إن كان يسمع فهو بمنزلة الكلام وإلا فلا، قال والقول الأول أولى، وليس في النفخ من النطق بالهمزة والفاء أكثر مما في البصاق من النطق بالتاء والفاء، قال وقد اتفقوا على جواز البصاق في الصلاة فدل على جواز النفخ فيها إذ لا فرق بينهما، ولذلك ذكره البخاري معه في الترجمة انتهى كلامه، ولم يذكر قول الشافعية في ذلك والمصحح عندهم أنه إن ظهر من النفخ أو التنخم أو البكاء أو الأنين أو التأوه أو التنفس أو الضحك أو التنحنح حرفان بطلت الصلاة وإلا فلا، قال ابن دقيق العيد: ولقائل أن يقول لا يلزم من كون الحرفين يتألف منهما الكلام أن يكون كل حرفين كلاما، وإن لم يكن كذلك فالإبطال به لا يكون بالنص بل بالقياس فليراع شرطه في مساواة الفرع للأصل، قال: والأقرب أن ينظر إلى مواقع الإجماع والخلاف حيث لا يسمى الملفوظ به كلاما فما أجمع على إلحاقه بالكلام ألحق به وما لا فلا. قال: ومن ضعيف التعليل قولهم إبطال الصلاة بالنفخ بأنه يشبه الكلام فإنه مردود لثبوت السنة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم نفخ في الكسوف انتهى. وأجيب بأن نفخه صلى الله عليه وسلم محمول على أنه لم يظهر منه شيء من الحروف، ورد بما ثبت في أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو فإن فيه: "ثم نفخ في آخر سجوده فقال أف أف" فصرح بظهور الحرفين. وفي الحديث أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وعرضت علي النار فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرها" والنفخ لهذا الغرض لا يقع إلا بالقصد إليه فانتفى قول من حمله على الغلبة، والزيادة المذكورة من رواية حماد بن سلمة عن عطاء وقد سمع منه قبل الاختلاط في قول يحيى بن معين وأبي داود والطحاوي وغيرهم. وأجاب الخطابي أن أف لا تكون كلاما حتى يشدد الفاء، قال: والنافخ في نفخه لا يخرج الفاء صادقة من مخرجها، وتعقبه ابن الصلاح بأنه لا يستقيم على قول الشافعية أن الحرفين كلام مبطل أفهما أو لم يفهما، وأشار البيهقي إلى أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، ورد بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل. "تنبيهان": الأول: نقل ابن المنذر الإجماع على أن الضحك يبطل الصلاة ولم يقيده بحرف ولا حرفين، وكأن الفرق ببن الضحك والبكاء أن الضحك يهتك حرمة الصلاة بخلاف البكاء ونحوه، ومن ثم قال الحنفية وغيرهم إن كان البكاء من أجل الخوف من الله تعالى لا تبطل به الصلاة مطلقا. "الثاني" ورد في كراهة النفخ في الصلاة حديث مرفوع أخرجه الترمذي من حديث أم سلمة قالت: " رأى النبي صلى الله عليه وسلم غلاما لنا يقال له أفلح إذا سجد نفخ، فقال: يا أفلح ترب وجهك" رواه الترمذي وقال: ضعيف الإسناد. قلت: ولو صح لم يكن فيه حجة على إبطال الصلاة بالنفخ لأنه لم بأمره بإعادة الصلاة، إنما يستفاد من قوله ترب وجهك استحباب السجود على الأرض فهو نحو النهي عن مسح الحصى. وفي الباب عن أبي هريرة في الأوسط للطبراني وعن زيد بن ثابت عند البيهقي وعن أنس وبريدة عند البزار وأسانيد الجميع ضعيفة جدا، وثبت كراهة النفخ عن ابن عباس كما رواه ابن أبي شيبة، والرخصة فيه عن قدامة بن عبد الله أخرجه البيهقي.

(3/85)


13- باب مَنْ صَفَّقَ جَاهِلًا مِنْ الرِّجَالِ فِي صَلاَتِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُ
فِيهِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب من صفق جاهلا من الرجال في صلاته لم تفسد صلاته، فيه سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير بذلك إلى حديثه الآتي بعد بابين، لكنه بلفظ: " ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم بالتصفيح" ، وسيأتي في آخر باب

(3/85)


من أبواب السهو، بلفظ: "التصفيق"، ومناسبته للترجمة من جهة أنه لم يأمرهم بالإعادة.

(3/86)


باب إذا قيل للمصلي تقدم أو انتظر فلا بأس
...
14 - باب إِذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي تَقَدَّمْ أَوْ انْتَظِرْ فَانْتَظَرَ فَلاَ بَأْسَ
1215- -حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنْ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا"
قوله: "باب إذا قيل للمصلي تقدم أو انتظر فانتظر فلا بأس" قال الإسماعيلي: كأنه ظن المخاطبة للنساء وقعت بذلك وهن في الصلاة، وليس كما ظن، بل هو شيء قيل لهن قبل أن يدخلن في الصلاة انتهى. والجواب عن البخاري أنه لم يصرح بكون ذلك قيل لهن وهن داخل الصلاة بل مقصوده بقول ذلك لهن داخل الصلاة أو خارجها. والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاهن بنفسه أو بغيره بالانتظار المذكور قبل أن يدخلن في الصلاة ليدخلن فيها على علم ويحصل المقصود من حيث انتظارهن الذي أمرن به فإن فيه انتظارهن للرجال ومن لازمه تقدم الرجال عليهن، ومحصل مراد البخاري أن الانتظار إن كان شرعيا جاز وإلا فلا. قال ابن بطال: قوله: "تقدم" أي قبل رفيقك وقوله: "انتظر" أي تأخر عنه. استنبط ذلك من قوله للنساء " لا ترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا" فيقتضي امتثال ذلك تقدم الرجال عليهن وتأخرهن عنهم. وفيه من الفقه جواز وقوع فعل المأموم بعد الإمام، وجواز سبق المأمومين بعضهم بعضا في الأفعال، وجواز التربص في أثناء الصلاة لحق الغير ولغير مقصود الصلاة. ويستفاد منه جواز انتظار الإمام في الركوع لمن يدرك الركعة وفي التشهد لمن يدرك الجماعة. وفرع ابن المنير على أنه قيل ذلك للنساء داخل الصلاة فقال: فيه جواز إصغاء المصلي في الصلاة لمن يخاطبه المخاطبة الخفيفة. قوله: "حدثنا محمد بن كثير" هو العبدي البصري، ولم يخرج البخاري للكوفي ولا للشامي ولا للصغاني شيئا. وسفيان هو الثوري. وقد تقدم الكلام على المتن في أوائل كتاب الصلاة.

(3/86)


15 - باب لاَ يَرُدُّ السَّلاَمَ فِي الصَّلاَةِ
1216 - حدثنا عبد الله بن أبي شيبة حدثنا بن فضيل عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال " كنت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علي فلما رجعنا سلمت عليه فلم يرد علي وقال إن في الصلاة شغلا"
1217 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِنْظِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ " بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ لَهُ فَانْطَلَقْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَقَدْ قَضَيْتُهَا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ عَلَيَّ أَنِّي أَبْطَأْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَشَدُّ مِنْ الْمَرَّةِ الأُولَى ثُمَّ سَلَّمْتُ

(3/86)


16 - باب رَفْعِ الأَيْدِي فِي الصَّلاَةِ لِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ
1218 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتْ الصَّلاَةُ فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتْ الصَّلاَةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ قَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيحِ قَالَ سَهْلٌ التَّصْفِيحُ هُوَ التَّصْفِيقُ قَالَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى لِلنَّاسِ فَلَمَّا

(3/87)


فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا كَانَ يَنْبَغِي لابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب رفع الأيدي في الصلاة لأمر ينزل به" ذكر فيه حديث سهل بن سعد من رواية عبد العزيز عن أبي حازم، وعبد العزيز هذا هو ابن أبي حازم. قوله: "وحانت الصلاة" الواو فيه حالية. وفي رواية الكشميهني: "وقد حانت الصلاة". قوله: "إن شئت" في رواية الحموي "إن شئتم". قوله: "من الصف" في رواية الكشميهني: "في الصف". قوله: "فرفع أبو بكر يده" في رواية الكشميهني: "يديه" بالتثنية، وهذا موضع الترجمة. ويؤخذ منه أن رفع اليدين للدعاء ونحوه في الصلاة لا يبطلها ولو كان في غير موضع الرفع لأنها هيئة استسلام وخضوع، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على ذلك. قوله: "حيث أشرت عليك" وفي رواية الكشميهني: "حين أشرت إليك" وقد تقدم الكلام على فوائده كما أشرت إليه قريبا.

(3/88)


17 - باب الْخَصْرِ فِي الصَّلاَةِ
1219 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " نُهِيَ عَنْ الْخَصْرِ فِي الصَّلاَةِ " وَقَالَ هِشَامٌ وَأَبُو هِلاَلٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[الحديث 1219 – طرفه في: 1220]
1220 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا".
قوله: "باب الخصر في الصلاة" بفتح المعجمة وسكون المهملة أي حكم الخصر، والمراد وضع اليدين عليه في الصلاة. قوله: "حدثنا حماد" هو ابن زيد ومحمد هو ابن سيرين. قوله: "نهي" بضم النون على البناء للمجهول وفاعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية هشام. قوله: "وقال هشام" يعني ابن حسان "وأبو هلال" يعني الراسبي "عن ابن سيرين إلخ" أما رواية هشام وهو ابن حسان فوصلها المؤلف في الباب، لكن وقع في رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي: "نهى" على البناء للفاعل ولم يسمه، وسماه الكشميهني في روايته، وقد رواه مسلم والترمذي من طريق أبي أسامة عن هشام بلفظ: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصرا" وكذا رواه أبو داود من طريق محمد بن سلمة عن هشام كذلك، وبلفظ: "عن الخصر في الصلاة" وأما رواية أبي هلال فوصلها الدارقطني في "الأفراد" من طريق عمرو بن مرزوق عنه بلفظ: "عن الاختصار في الصلاة". قوله: "نهي" بالضم على البناء للمفعول.
وفي رواية الكشميهني: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم"قوله: "متخصرا" في رواية الكشميهني: "مخصرا" بتشديد الصاد، وللنسائي: "مختصرا" بزيادة المثناة، وللإسماعيلي من طريق سليمان بن حرب "حدثنا حماد بن زيد قال: قيل لأيوب إن هشاما روى عن محمد عن أبي هريرة قال: نهي عن الاختصار في الصلاة، فقال: إنما قال التخصر. وكأن سبب إنكار

(3/88)


أيوب لفظ الاختصار لكونه يفهم معنى آخر غير التخصر كما سيأتي، وقد فسره ابن أبي شيبة عن أبي أسامة بالسند المذكور فقال فيه: قال ابن سيرين هو أن يضع يده على خاصرته وهو يصلي، وبذلك جزم أبو داود ونقله الترمذي عن بعض أهل العلم، وهذا هو المشهور من تفسيره. وحكى الهروي في الغريبين أن المراد بالاختصار قراءة آية أو آيتين من آخر السورة، وقيل أن يحذف الطمأنينة. وهذان القولان وإن كان أحدهما من الاختصار ممكنا لكن رواية التخصر والخصر تأباهما، وقيل الاختصار أن يحذف الآية التي فيها السجدة إذا مر بها في قراءته حتى لا يسجد في الصلاة لتلاوتها حكاه الغزالي. وحكى الخطابي أن معناه أن يمسك بيده مخصرة أي عصا يتوكأ عليها في الصلاة، وأنكر هذا ابن العربي في شرح الترمذي فأبلغ، ويؤيد الأول ما روى أبو داود والنسائي من طريق سعيد بن زياد قال: صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه. واختلف في حكمة النهي عن ذلك فقيل: لأن إبليس أهبط متخصرا أخرجه ابن أبي شيبة من طريق حميد بن هلال موقوفا. وقيل: لأن اليهود تكثر من فعله فنهي عنه كراهة للتشبه بهم أخرجه المصنف في ذكر بني إسرائيل عن عائشة، زد ابن أبي شيبة فيه: "في الصلاة" وفي رواية له "لا تشبهوا باليهود" وقيل: لأنه راحة أهل النار أخرجه ابن أبي شيبة أيضا عن مجاهد قال: "وضع اليد على الحقو استراحة أهل النار" وقيل لأنها صفة الراجز حين ينشد رواة سعيد بن منصور من طريق قيس بن عباد بإسناد حسن، وقيل لأنه فعل المتكبرين حكاه المهلب، وقيل لأنه فعل أهل المصائب حكاه الخطابي، وقول عائشة أعلى ما ورد في ذلك ولا منافاة بين الجميع.
" تنبيه ": وقع في نسخة الصغاني في "باب الخصر في الصلاة ": وروي أنه استراحة أهل النار، وما أظن أن قوله روي إلخ إلا من كلامه لا من كلام البخاري، وقد ذكرت من رواه ولله الحمد، والله أعلم.

(3/89)


باب يفكر الرجل في الشيء في الصلاة
...
18 - باب يُفْكِرُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي لاَجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ
1221 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا عُمَرُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ سَرِيعًا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ وَرَأَى مَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ لِسُرْعَتِهِ فَقَالَ ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ تِبْرًا عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِيَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَنَا فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ"
1222 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ الأَعْرَجِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُذِّنَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ أَدْبَرَ فَإِذَا سَكَتَ أَقْبَلَ فَلاَ يَزَالُ بِالْمَرْءِ يَقُولُ لَهُ اذْكُرْ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى لاَ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى" قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِذَا فَعَلَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ وَسَمِعَهُ أَبُو سَلَمَةَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ"

(3/89)


1223 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "يَقُولُ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَلَقِيتُ رَجُلاً فَقُلْتُ بِمَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَارِحَةَ فِي الْعَتَمَةِ فَقَالَ لاَ أَدْرِي فَقُلْتُ لَمْ تَشْهَدْهَا قَالَ بَلَى قُلْتُ لَكِنْ أَنَا أَدْرِي قَرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا"
قوله: "باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة" الشيء بالنصب على المفعولية. والتقييد بالرجل لا مفهوم له لأن بقية المكلفين في حكم ذلك سواء، قال المهلب: التفكر أمر غالب لا يمكن الاحتراز منه في الصلاة ولا في غيرها لما جعل الله للشيطان من السبيل على الإنسان، ولكن يفترق الحال في ذلك، فإن كان في أمر الآخرة والدين كان أخف مما يكون في أمر الدنيا. قوله: "وقال عمر: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة" وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي عنه بهذا سواء، قال ابن التين: إنما هذا فيما يقل فيه التفكر كأن يقول: أجهز فلانا، أقدم فلانا، أخرج من العدد كذا وكذا، فيأتي على ما يريد في أقل شيء من الفكرة. فأما أن يتابع التفكر ويكثر حتى لا يدري كم صلى بهذا اللاهي في صلاته فيجب عليه الإعادة انتهى. وليس هذا الإطلاق على وجهه، وقد جاء عن عمر ما يأباه، فروى ابن أبي شيبة من طريق عروة بن الزبير قال: قال عمر "إني لأحسب جزية البحرين وأنا في الصلاة" وروى صالح بن أحمد بن حنبل في "كتاب المسائل" عن أبيه من طريق همام بن الحارث أن عمر صلى المغرب فلم يقرأ، فلما انصرف قالوا: يا أمير المؤمنين إنك لم تقرأ، فقال: إني حدثت نفسي وأنا في الصلاة بعير جهزتها من المدينة حتى دخلت الشام، ثم أعاد وأعاد القراءة. ومن طريق عياض الأشعري قال: "صلى عمر المغرب فلم يقرأ، فقال له أبو موسى: إنك لم تقرأ، فأقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال: صدق، فأعاد. فلما فرغ قال: لا صلاة ليست فيها قراءة، إنما شغلني عير جهزتها إلى الشام فجعلت أتفكر فيها". وهذا يدل على أنه إنما أعاد لترك القراءة لا لكونه كان مستغرقا في الفكرة. ويؤيده ما روى الطحاوي من طريق ضمضم بن جوس عن عبد الرحمن1 بن حنظلة بن الراهب "إن عمر صلى المغرب فلم يقرأ في الركعة الأولى فلما كانت الثانية قرأ بفاتحة الكتاب مرتين فلما فرغ وسلم سجد سجدتي السهو" ورجال هذه الآثار ثقات، وهي محمولة على أحوال مختلفة، والأخير كأنه مذهب لعمر. ولهذه المسألة التفات إلى مسألة الخشوع في الصلاة، وقد تقدم البحث فيه في مكانه. قوله: "حدثنا روح" هو ابن عبادة، وعمر بن سعيد هو ابن أبي حسين المكي، وقد تقدم هذا الحديث وشيء من فوائده في أواخر صفة الصلاة، وهو ظاهر فيما ترجم له لأنه صلى الله عليه وسلم تفكر في أمر التبر المذكور ثم لم يعد الصلاة. قوله: "عن جعفر" هو ابن ربيعة المصري، وقد تقدم الكلام على المتن في أوائل أبواب الأذان مستوفى، وشاهد الترجمة قوله: "حتى لا يدري كم صلى" فإنه يدل على أن التفكر لا يقدح في صحة الصلاة ما لم يترك شيئا من أركانها. قوله: "قال
ـــــــ
1 كذا في الأصول التي في أيدينا, ولعل الصواب "عن عبد الرحمن" لأن ضمضم المذكور إنما روى عن عبد الله بن حنظلة وهو يكنى أبا عبد الرحمن, وليس له رواية عن عبد الرحمن بن حنظلة كما يعلم ذلك من "الاستيعاب" و "الإصابة" و "تهذيب التهذيب"

(3/90)


أبو سلمة بن عبد الرحمن: إذا فعل أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو قاعد، وسمعه أبو سلمة من أبي هريرة" هذا التعليق طرف من الحديث الذي قبله في رواية أبي سلمة كما سيأتي في خامس ترجمة من أبواب السهو، لكنه من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وربما تبادر إلى الذهن من سياق المصنف أن هذه الزيادة من رواية جعفر بن ربيعة عن أبي سلمة، وليس كذلك، وسيأتي في سادس ترجمة أيضا من طريق الزهري عن أبي سلمة لكن باختصار ذكر الأذان وهو من طريق هذين عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا بخلاف ما يوهمه سياقه هنا، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى هناك. قوله: "قال قال أبو هريرة" في رواية الإسماعيلي: "عن أبي هريرة" قوله: "يقول الناس أكثر أبو هريرة" أخرجه البيهقي في المدخل من طريق أبي مصعب عن محمد بن إبراهيم بن دينار عن ابن أبي ذئب بلفظ: "إن الناس قالوا قد أكثر أبو هريرة من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني كنت ألزمه لشبع بطني، فلقيت رجلا فقلت له: بأي سورة" فذكر الحديث وقال في آخره: أخرجه البخاري عن أبي مصعب انتهى. ولم أر هذه الطريق في صحيح البخاري، وكأن البيهقي تبع أطراف خلف فإنه ذكرها، وقد قال ابن عساكر: لم أجدها ولا ذكرها أبو مسعود انتهى. ثم وجدت في مناقب جعفر صدر هذا الحديث، لكن قال بعد قوله: "لشبع بطني" حين لا آكل الخمير ولا ألبس الحرير؛ فذكر قصة جعفر بن أبي طالب، فلعل البيهقي أراد هذا، وكأن المقبري وغيره من رواته كان يحدث به تاما تارة ومختصرا أخرى. وقد وقع عند الإسماعيلي من طريق بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب في أول هذا الحديث: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءين" الحديث وفيه: "إن الناس قالوا: أكثر أبو هريرة" فذكره، وقوله: "حفظت إلخ" تقدم في العلم مع الكلام عليه، وتقدم في العلم أيضا من طريق الأعرج عن أبي هريرة "إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، والله لولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت" الحديث وسيأتي في أوائل البيوع من طريق سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة قال: "إنكم تقولون إن أبا هريرة أكثر" الحديث وفيه الإشارة إلى سبب إكثاره وأن المهاجرين والأنصار كانوا يشغلهم المعاش، وهذا يدل على أنه كان يقول هذه المقالة أمام ما يريد أن يحدث به مما يدل على صحة إكثاره وعلى السبب في ذلك وعلى سبب استمراره على التحديث. قوله: "فلقيت رجلا" لم أقف على تسميته ولا على تسمية السورة، وقوله: "بم" بكسر الموحدة بغير ألف لأبي ذر وهو المعروف، وللأكثر بإثبات الألف وهو قليل، أي بأي شيء. قوله: "البارحة" أي أقرب ليلة مضت. وفي هذه القصة إشارة إلى سبب إكثار أبي هريرة وشدة إتقانه وضبطه، بخلاف غيره. وشاهد الترجمة دلالة الحديث على عدم ضبط ذلك الرجل كأنه اشتغل بغير أمر الصلاة حتى نسي السورة التي قرئت، أو دلالته على ضبط أبي هريرة كأنه شغل فكره بأفعال الصلاة حتى ضبطها وأتقنها، كذا ذكر الكرماني هذين الاحتمالين، وبالأول جزم غيره والله أعلم.
" خاتمة " اشتملت أبواب العمل في الصلاة من الأحاديث المرفوعة على اثنين وثلاثين حديثا، المعلق من ذلك ستة والبقية موصولة, المكرر منها فيها وفيما مضى ثلاثة وعشرون حديثا والبقية خالصة، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي برزة في قصة انفلات دابته، وحديث عبد الله بن عمرو المعلق في النفخ في السجود، وحديث أبي هريرة في التخصر، وحديثه في القراءة في العتمة. وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم ستة آثار. والله أعلم.

(3/91)


كتاب السهو
باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
22 – كتاب السهو
1 - بَاب مَا جَاءَ فِي السَّهْوِ إِذَا قَامَ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَرِيضَةِ
1224 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ سَلَّمَ"
حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة" وللكشميهني والأصيلي وأبي الوقت "ركعتي الفرض" وسقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر. والسهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب إلى غيره، وفرق بعضهم بين السهو والنسيان، وليس بشيء. واختلف في حكمه فقال الشافعية: مسنون كله، وعن المالكية السجود للنقص واجب دون الزيادة، وعن الحنابلة التفصيل بين الواجبات غير الأركان فيجب لتركها سهوا، وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطلها عمده. وعن الحنفية واجب كله وحجتهم قوله في حديث ابن مسعود الماضي في أبواب القبلة "ثم ليسجد سجدتين" ومثله لمسلم من حديث أبي سعيد والأمر للوجوب. وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله في الصلاة محمولة على البيان وبيان الواجب واجب ولا سيما مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". قوله: "عن عبد الرحمن الأعرج" كذا في رواية كريمة، ولم يسم في رواية الباقين. قوله: "عن عبد الله ابن بحينة" تقدم في التشهد أن بحينة اسم أمه أو أم أبيه، وعلى هذا فينبغي أن يكتب ابن بحينة بألف. قوله: "صلى لنا" أي بنا أو لأجلنا، وقد تقدم في أبواب التشهد من رواية شعيب عن ابن شهاب بلفظ: "صلى بهم" ويأتي في الأيمان والنذور من رواية ابن أبي ذئب عن ابن شهاب بلفظ: "صلى بنا". قوله: "من بعض الصلوات" بين في الرواية التي تليها أنها الظهر. قوله: "ثم قام" زاد الضحاك بن عثمان عن الأعرج "فسبحوا به فمضى حتى فرغ من صلاته" أخرجه ابن خزيمة. وفي حديث معاوية عند النسائي وعقبة بن عامر عند الحاكم جميعا نحو هذه القصة بهذه الزيادة. قوله: "فلما قضى صلاته" أي فرغ منها كذا رواه مالك عن شيخه، وقد استدل به لمن زعم أن السلام ليس من الصلاة حتى لو أحدث بعد أن جلس وقبل أن يسلم تمت صلاته وهو قول بعض الصحابة والتابعين وبه قال أبو حنيفة، وتعقب بأن السلام لما كان للتحليل من الصلاة كان المصلي إذا انتهى إليه كمن فرغ من صلاته

(3/92)


ويدل على ذلك قوله في رواية ابن ماجه من طريق جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد عن الأعرج "حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم" فدل على أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه، والزيادة من الحافظ مقبولة. قوله: "ونظرنا تسليمه": أي انتظرنا، وتقدم في رواية شعيب بلفظ: "وانتظر الناس تسليمه" وفي هذه الجملة رد على من زعم أنه صلى الله عليه وسلم سجد في قصة ابن بحينة قبل السلام سهوا، أو أن المراد بالسجدتين سجدتا الصلاة، أو المراد بالتسليم التسليمة الثانية، ولا يخفى ضعف ذلك وبعده. قوله: "كبر قبل التسليم فسجد سجدتين" فيه مشروعية سجود السهو وأنه سجدتان فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيا لم يلزمه شيء أو عامدا بطلت صلاته لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة، وأنه يكبر لهما كما يكبر في غيرهما من السجود. وفي رواية الليث عن ابن شهاب كما سيأتي بعد ثلاثة أبواب "يكبر في كل سجدة" وفي رواية الأوزاعي "فكبر ثم سجد ثم كبر فرفع رأسه ثم كبر فسجد ثم كبر فرفع رأسه ثم سلم" أخرجه ابن ماجه، ونحوه في رواية ابن جريج كما سيأتي بيانه عقب حديث الليث. واستدل به على مشروعية التكبير فيهما والجهر به كما في الصلاة وأن بينهما جلسة فاصلة، واستدل به بعض الشافعية على الاكتفاء بالسجدتين للسهو في الصلاة، ولو تكرر من جهة أن الذي فات في هذه القصة الجلوس والتشهد فيه وكل منهما لو سها المصلي عنه على انفراده سجد لأجله ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم سجد في هذه الحالة غير سجدتين، وتعقب بأنه ينبني على ثبوت مشروعية السجود لترك ما ذكر، ولم يستدلوا على مشروعية ذلك بغير هذا الحديث فيستلزم إثبات الشيء بنفسه وفيه ما فيه، وقد صرح في بقية الحديث بأن السجود مكان ما نسي من الجلوس كما سيأتي من رواية الليث، نعم حديث ذي اليدين دال لذلك كما سيأتي. قوله: "وهو جالس" جملة حالية متعلقة بقوله: "سجد" أي أنشأ السجود جالسا. قوله: "ثم سلم" زاد في رواية يحيى بن سعيد ثم سلم بعد ذلك وزاد في رواية الليث الآتية "وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس" واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام ولا حجة فيه في كون جميعه كذلك، نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية وسيأتي ذكر مستندهم في الباب الذي بعده، واستدل بزيادة الليث المذكورة على أن السجود خاص بالسهو فلو تعمد ترك شيء مما يجبر بسجود السهو لا يسجد وهو قول الجمهور، ورجحه الغزالي وناس من الشافعية، واستدل به أيضا على أن المأموم يسجد مع الإمام إذا سها الإمام وإن لم يسه المأموم، ونقل ابن حزم فيه الإجماع، لكن استثنى غيره ما إذا ظن الإمام أنه سها فسجد وتحقق المأموم أن الإمام لم يسه فيما سجد له وفي تصويرها عسر، وما إذا تبين أن الإمام محدث، ونقل أبو الطيب الطبري أن ابن سيرين استثنى المسبوق أيضا، وفي هذا الحديث أن سجود السهو لا تشهد بعده إذا كان قبل السلام وقد ترجم له المصنف قريبا وأن التشهد الأول غير واجب وقد تقدم في أواخر صفة الصلاة، وأن من سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة ثم ذكر لا يرجع فقد سبحوا به صلى الله عليه وسلم فلم يرجع، فلو تعمد المصلي الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعي خلافا للجمهور، وأن السهو والنسيان جائزان على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما طريقه التشريع، وأن محل سجود السهو آخر الصلاة فلو سجد للسهو قبل أن يتشهد ساهيا أعاد عند من يوجب التشهد الأخير وهم الجمهور.

(3/93)


2 - باب إِذَا صَلَّى خَمْسًا
1226 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(3/93)


"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَقِيلَ لَهُ أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ صَلَّيْتَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ"
قوله: "باب إذا صلى خمسا" قيل أراد البخاري التفرقة بين ما إذا كان السهو بالنقصان أو الزيادة، ففي الأول يسجد قبل السلام كما في الترجمة الماضية وفي الزيادة يسجد بعده، وبالتفرقة هكذا قال مالك والمزني وأبو ثور من الشافعية، وزعم ابن عبد البر أنه أولى من قول غيره للجمع بين الخبرين قال: وهو موافق للنظر لأنه في النقص جبر فينبغي أن يكون من أصل الصلاة، وفي الزيادة ترغيم للشيطان فيكون خارجها. وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ، ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وفقها. كانت علة فيعم الحكم جميع محالها فلا تخصص إلا بنص، وتعقب بأن كون السجود في الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع، بل هو جبر أيضا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادة فهو نقص في المعنى، وإنما سمى النبي صلى الله عليه وسلم سجود السهو ترغيما للشيطان في حالة الشك كما في حديث أبي سعد عند مسلم. وقال الخطابي: لم يرجع من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح. وأيضا فقصة ذي اليدين وقع السجود فيها بعد السلام وهي عن نقصان، وأما قول النووي: أقوى المذاهب فيها قول مالك ثم أحمد، فقد قال غيره: بل طريق أحمد أقوى لأنه قال يستعمل كل حديث فيما ورد فيه، وما لم يرد فيه شيء يسجد قبل السلام، قال: ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لرأيته كله قبل السلام، لأنه من شأن الصلاة فيفعله قبل السلام. وقال إسحاق مثله، إلا أنه قال: ما لم يرد فيه شيء يفرق فيه بين الزيادة والنقصان، فحرر مذهبه من قولي أحمد ومالك، وهو أعدل المذاهب فيما يظهر. وأما داود فجرى على ظاهريته فقال: لا يشرع سجود السهود إلا في المواضع التي سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقط. وعند الشافعي سجود السهو كله قبل السلام. وعند الحنفية كله بعد السلام، واعتمد الحنفية على حديث الباب. وتعقب بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه: هل زيد في الصلاة؟ وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله لعدم علمه بالسهو، وإنما تابعه الصحابة لتجويزهم الزيادة في الصلاة لأنه كان زمان توقع النسخ. وأجاب بعضهم بما وقع في حديث ابن مسعود من الزيادة وهي "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين" وقد تقدم في أبواب القبلة، وأجيب بأنه معارض بحديث أبي سعيد عند مسلم ولفظه: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم" وبه تمسك الشافعية. وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين. ورجح البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده. ونقل الماوردي وغيره الإجماع على الجواز وإنما الخلاف في الأفضل. وكذا أطلق النووي. وتعقب بأن إمام الحرمين نقل في "النهاية" الخلاف في الإجزاء عن المذهب واستبعد القول بالجواز، وكذا نقل القرطبي الخلاف في مذهبهم، وهو مخالف لما قاله ابن عبد البر إنه لا خلاف عن مالك أنه لو سجد للسهو كله قبل السلام أو بعده أن لا شيء عليه، فيجمع بأن الخلاف بين أصحابه، والخلاف عند الحنفية قال القدوري: لو سجد للسهو قبل السلام روي عن بعض أصحابنا لا يجوز لأنه أداء قبل وقته، وصرح صاحب الهداية بأن الخلاف عندهم في الأولوية. وقال ابن قدامة في "المقنع" من ترك سجود السهو الذي قبل السلام بطلت صلاته إن تعمد، وإلا فيتداركه

(3/94)


ما لم يطل الفصل. ويمكن أن يقال: الإجماع الذي نقله الماوردي وغيره قبل هذه الآراء في المذاهب المذكورة. وقال ابن خزيمة: لا حجة للعراقيين في حديث ابن مسعود لأنهم خالفوه فقالوا: إن جلس المصلي في الرابعة مقدار التشهد أضاف إلى الخامسة سادسة ثم سلم وسجد للسهو، وإن لم يجلس في الرابعة لم تصح صلاته. ولم ينقل في حديث ابن مسعود إضافة سادسة ولا إعادة ولا بد من أحدهما عندهم. قال: ويحرم على العالم أن يخالف السنة بعد علمه بها. قوله: "عن الحكم" هو ابن عتيبة الفقيه الكوفي. قوله: "عن إبراهيم" هو ابن يزيد النخعي. قوله: "صلى الظهر خمسا" كذا جزم به الحكم، وقد تقدم في أبواب القبلة من رواية منصور عن إبراهيم أتم من هذا السياق وفيه قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص. قوله: "فقيل له أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟" أخرجه مسلم وأبو داود من طريق إبراهيم بن سويد النخعي عن ابن مسعود بلفظ: "فلما انفتل توشوش القوم بينهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله هل زيد في الصلاة؟ قال: لا" فتبين أن سؤالهم لذلك كان بعد استفساره لهم عن مساررتهم، وهو دال على عظيم أدبهم معه صلى الله عليه وسلم، وقولهم "هل زيد في الصلاة" يفسر الرواية الماضية في أبواب القبلة بلفظ: "هل حدث في الصلاة شيء". "تنبيه": روى الأعمش عن إبراهيم هذا الحديث مختصرا ولفظه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن خزيمة وغيرهم، قال ابن خزيمة: إن كان المراد بالكلام قوله: "وما ذاك" في جواب قولهم "أزيد في الصلاة" فهذا نظير ما وقع في قصة ذي اليدين وسيأتي البحث فيه فيها، وإن كان المراد به قوله: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون" فقد اختلف الرواة في الموضع الذي قالها فيه، ففي رواية منصور أن ذلك كان بعد سلامه من سجدتي السهو. وفي رواية غيره أن ذلك كان قبل، ورواية منصور أرجح. والله أعلم. قوله: "فسجد سجدتين بعدما سلم" يأتي في خبر الواحد من طريق شعبة أيضا بلفظ: "فثني رجليه وسجد سجدتين" وتقدم في رواية منصور "واستقبل القبلة" وفيه الزيادة المشار إليها وهي " إذا شك أحدكم في صلاة فليتحر الصواب فليتم عليه " ولمسلم من طريق مسعر عن منصور "فأيكم شك في صلاة فلينتظر أحرى ذلك إلى الصواب" وله من طريق شعبة عن منصور "فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب" وله من طريق فضيل بن عياض عن منصور "فليتحر الذي يرى أنه الصواب" زاد ابن حبان من طريق مسعر "فليتم عليه" واختلف في المراد بالتحري فقال الشافعية: هو البناء على اليقين لا على الأغلب، لأن الصلاة في الذمة بيقين فلا تسقط إلا بيقين. وقال ابن حزم: التحري في حديث ابن مسعود يفسره حديث أبي سعيد، يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ: " وإذا لم يدر أصلى ثلاثا أو أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن" وروى سفيان في جامعه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتوخ حتى يعلم أنه قد أتم" انتهى. وفي كلام الشافعي نحوه ولفظه: قوله: "فليتحر" أي في الذي يظن أنه نقصه فليتمه، فيكون التحري أن يعيد ما شك فيه ويبني على ما استيقن، وهو كلام عربي مطابق لحديث أبي سعيد، إلا أن الألفاظ تختلف. وقيل: التحري الأخذ بغالب الظن، وهو ظاهر الروايات التي عند مسلم. وقال ابن حبان في صحيحه: البناء غير التحري، فالبناء أن يشك في الثلاث أو الأربع مثلا فعليه أن يلغي الشك، والتحري أن يشك في صلاته فلا يدري ما صلى فعليه أن يبني على الأغلب عنده. وقال غيره: التحري لمن اعتراه الشك مرة بعد أخرى فيبني على غلبة ظنه، وبه قال مالك وأحمد، وعن أحمد في المشهور: التحري يتعلق بالإمام فهو الذي يبني على ما غلب على ظنه، وأما المنفرد فيبني على اليقين دائما. وعن أحمد رواية

(3/95)


أخرى كالشافعية، وأخرى كالحنفية. وقال أبو حنيفة: إن طرأ الشك أولا استأنف، وإن كثر بنى على غالب ظنه، وإلا فعلى اليقين. ونقل النووي أن الجمهور مع الشافعي، وأن التحري هو القصد قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} وحكى الأثرم عن أحمد في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا غرار في صلاة" قالا: أن لا يخرج منها إلا على يقين، فهذا يقوي قول الشافعي. وأبعد من زعم أن لفظ التحري في الخبر مدرج من كلام ابن مسعود أو ممن دونه لتفرد منصور بذلك عن إبراهيم دون رفقته، لأن الإدراج لا يثبت بالاحتمال، واستدل به على أن من صلى خمسا ساهيا ولم يجلس في الرابعة أن صلاته لا تفسد خلافا للكوفيين، وقولهم يحمل على أنه قعد في الرابعة يحتاج إلى دليل بل السياق يرشد إلى خلافه، وعلى أن الزيادة في الصلاة على سبيل السهو لا تبطلها خلافا لبعض المالكية إذا كثرت، وقيد بعضهم الزيادة بما يزيد على نصف الصلاة، وعلى أن من لم يعلم بسهوه إلا بعد السلام يسجد للسهو، فإن طال الفصل فالأصح عند الشافعية أنه يفوت محله، واحتج له بعضهم من هذا الحديث بتعقيب إعلامهم لذلك بالفاء، وتعقيبه السجود أيضا بالفاء، وفيه نظر لا يخفى. وعلى أن الكلام العمد فيما يصلح به الصلاة لا يفسدها، وسيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده، وأن من تحول عن القبلة ساهيا لا إعادة عليه، وفيه إقبال الإمام على الجماعة بعد الصلاة. واستدل البيهقي على أن عزوب النية بعد الإحرام بالصلاة لا يبطلها. وقد تقدمت بقية مباحثه في أبواب القبلة.

(3/96)


باب إذا سلم في ركعتين أو ثلاث فسجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول
...
3 - باب إِذَا سَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ فِي ثَلاَثٍ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ مِثْلَ سُجُودِ الصَّلاَةِ أَوْ أَطْوَلَ
1227 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَقَصَتْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ قَالُوا نَعَمْ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ" قَالَ سَعْدٌ وَرَأَيْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ صَلَّى مِنْ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فَسَلَّمَ وَتَكَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِيَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَقَالَ هَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "باب إذا سلم في ركعتين أو في ثلاث سجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول" في رواية لغير أبي ذر "فسجد" والأول أوجه، وعلى الثاني يكون الجواب محذوفا تقديره ما يكون الحكم في نظائره. أورد فيه حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وليس في شيء من طرقه إلا التسليم في ثنتين، نعم ورد التسليم في ثلاث في حديث عمران بن حصين عند مسلم، وسيأتي البحث في كونهما قصتين أولا في الكلام على تسمية ذي اليدين، وأما قوله: "مثل سجود الصلاة أو أطول" فهو في بعض طرق حديث أبي هريرة كما في الباب الذي بعده. قوله: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" ظاهر في أن أبا هريرة حضر القصة، وحمله الطحاوي على المجاز فقال إن المراد به صلى بالمسلمين وسبب ذلك قول الزهري: إن صاحب القصة استشهد ببدر، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر وهي قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين1 لكن اتفق أئمة الحديث - كما نقله ابن عبد البر وغيره - على أن الزهري
ـــــــ
1 صوابه بأكثر من أربع سنين, لأن غزوة بدر وقعت في رمضان من السنة الثانية من الهجرة, وإسلام أبي هريرة وقع في عام خيبر في أول سنة سبع, فتأمل. والله أعلم.

(3/96)


وهم في ذلك، وسببه أنه حمل القصة لذي الشمالين، وذو الشمالين هو الذي قتل ببدر وهو خزاعي واسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة، وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الطبراني وغيره، وهو سلمي واسمه الخرباق على ما سيأتي البحث فيه. وقد وقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة "فقام رجل من بني سليم" فلما وقع عند الزهري بلفظ: "فقام ذو الشمالين" وهو يعرف أنه قتل ببدر قال لأجل ذلك أن القصة وقعت قبل بدر، وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما وهو قصة ذي الشمالين وشاهد الآخر وهي قصة ذي اليدين، وهذا محتمل من طريق الجمع، وقيل يحمل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضا ذو اليدين وبالعكس فكان ذلك سببا للاشتباه. ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطحاوي ما رواه مسلم وأحمد وغيرهما من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: "بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين ونص على ذلك الشافعي رحمه الله في "اختلاف الحديث". قوله: "الظهر أو العصر" كذا في هذه الطريق عن آدم عن شعبة بالشك، وتقدم في أبواب الإمامة عن أبي الوليد عن شعبة بلفظ: "الظهر" بغير الشك، ولمسلم من طريق أبي سلمة المذكور "صلاة الظهر" وله من طريق أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة "العصر "بغير شك، وسيأتي بعد باب للمصنف من طريق ابن سيرين أنه قال: وأكثر ظني أنها العصر، وقد تقدم في "باب تشبيك الأصابع في المسجد" من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ: "إحدى صلاتي العشي" قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا، ولمسلم: "إحدى صلاتي العشي، إما الظهر وإما العصر" والظاهر أن الاختلاف فيه من الرواة. وأبعد من قال: يحمل على أن القصة وقعت مرتين، بل روى النسائي من طريق ابن عون عن ابن سيرين أن الشك فيه من أبي هريرة ولفظه: "صلى صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي - قال أبو هريرة - ولكني نسيتها" فالظاهر أن أبا هريرة رواه كثيرا على الشك، وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها، وتارة غلب على ظنه أنها العصر فجزم بها، وطرأ الشك في تعيينها أيضا على ابن سيرين وكان السبب في ذلك الاهتمام بما في القصة من الأحكام الشرعية، ولم تختلف الرواة في حديث عمران في قصة الخرباق أنها العصر، فإن قلنا أنهما قصة واحدة فيترجح رواية من عين العصر في حديث أبي هريرة. قوله: "فسلم" زاد أبو داود من طريق معاذ عن شعبة "في الركعتين" وسيأتي في الباب الذي بعده من طريق أيوب عن ابن سيرين وفي الذي يليه من طريق أخرى عن ابن سيرين بأتم من هذا السياق ونستوفي الكلام عليه ثم. قوله: "قال سعد" يعني ابن إبراهيم راوي الحديث، وهو بالإسناد المصدر به الحديث، وقد أخرجه ابن أبي شيبة عن غندر عن شعبة مفردا. وهذا الأثر يقوي قول من قال: إن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، لكن يحتمل أن يكون عروة تكلم ساهيا أو ظانا أن الصلاة تمت، ومرسل عروة هذا مما يقوي طريق أبي سلمة الموصولة، ويحتمل أن يكون عروة حمله عن أبي هريرة، فقد رواه عن أبي هريرة جماعة من رفقة عروة من أهل المدينة كابن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وغيرهم من الفقهاء.

(3/97)


4 - باب مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ
وَسَلَّمَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَلَمْ يَتَشَهَّدَا. وَقَالَ قَتَادَةُ لاَ يَتَشَهَّدُ

(3/97)


1228 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتْ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ النَّاسُ نَعَمْ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ"
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ تَشَهُّدٌ قَالَ لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
قوله: "باب من لم يتشهد في سجدتي السهو" أي إذا سجدهما بعد السلام من الصلاة، وأما قبل السلام فالجمهور على أنه لا يعيد التشهد، وحكى ابن عبد البر عن الليث أنه يعيده، وعن البويطي عن الشافعي مثله وخطؤوه في هذا النقل فإنه لا يعرف، وعن عطاء يتخير، واختلف فيه عند المالكية، وأما من سجد بعد السلام فحكى الترمذي عن أحمد وإسحاق أنه يتشهد، وهو قول بعض المالكية والشافعية، ونقله أبو حامد الإسفرايني عن القديم، لكن وقع في "مختصر المزني "سمعت الشافعي يقول: إذا سجد بعد السلام تشهد، أو قبل السلام أجزأه التشهد الأول، وتأول بعضهم هذا النص على أنه تفريع على القول القديم وفيه ما لا يخفى. قوله: "وسلم أنس والحسن ولم يتشهدا" وصله ابن أبي شيبة وغيره من طريق قتادة عنهما. قوله: "وقال قتادة لا يتشهد" كذا في الأصول التي وقفت عليها من البخاري، وفيه نظر فقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: يتشهد في سجدتي السهو ويسلم، فلعل "لا "في الترجمة زائدة ويكون قتادة اختلف عليه في ذلك. قوله: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين" لم يقع في غير هذه الرواية لفظ القيام، وقد استشكل لأنه صلى الله عليه وسلم كان قائما. وأجيب بأن المراد بقوله فقام أي اعتدل، لأنه كان مستندا إلى الخشبة كما سيأتي، أو هو كناية عن الدخول في الصلاة. وقال ابن المنير في الحاشية: فيه إيماء إلى أنه أحرم ثم جلس ثم قام، كذا قال وهو بعيد جدا. قوله في آخره "ثم رفع" زاد في "باب خبر الواحد" من هذا الوجه "ثم كبر ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده ثم رفع" وسيأتي الكلام على التكبير في الباب الذي يليه. قوله: "حدثنا حماد" هو ابن زيد، وكذا ثبت في رواية الإسماعيلي من طريق سليمان بن حرب. قوله: "عن سلمة بن علقمة" هو التميمي أبو بشر، وربما اشتبه بمسلمة بن علقمة المزني وكنيته أبو محمد لكونهما بصريين متقاربي الطبقة، لكن الثاني بزيادة ميم في أوله ولم يخرج له البخاري شيئا. قوله: "قلت لمحمد" هو ابن سيرين. وفي رواية أبي نعيم في المستخرج "سألت محمد بن سيرين". قوله: "قال ليس في حديث أبي هريرة" في رواية أبي نعيم "فقال لم أحفظ فيه عن أبي هريرة شيئا وأحب إلي أن يتشهد" وقد يفهم من قوله: "ليس في حديث أبي هريرة" أنه ورد في حديث غيره وهو كذلك. فقد رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك "عن محمد بن سيرين عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم" قال الترمذي: حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث انتهى. وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر. وضعفه البيهقي وابن عبد البر

(3/98)


وغيرهما ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فإن المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد. وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة أيضا في هذه القصة "قلت لابن سيرين: فالتشهد؟ قال: لم أسمع في التشهد شيئا" وقد تقدم في "باب تشبيك الأصابع" من طريق ابن عون عن ابن سيرين قال: "نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم" وكذا المحفوظ عن خالد بهذا الإسناد في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد كما أخرجه مسلم، فصارت زيادة أشعث شاذة، ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت. لكن قد ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة عند البيهقي وفي إسنادهما ضعف، فقد يقال إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن، قال العلائي: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله أخرجه ابن أبي شيبة.

(3/99)


5 - باب مَنْ يُكَبِّرُ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ
1229 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلاَتَيْ الْعَشِيِّ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَكْثَرُ ظَنِّي الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا أَقَصُرَتْ الصَّلاَةُ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ فَقَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ قَالَ بَلَى قَدْ نَسِيتَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ"
1230 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ الأَسْدِيِّ حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِي صَلاَةِ الظُّهْرِ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ فَلَمَّا أَتَمَّ صَلاَتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَكَبَّرَ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنْ الْجُلُوسِ" تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ فِي التَّكْبِيرِ
قوله: "باب يكبر في سجدتي السهو" اختلف في سجود السهو بعد السلام هل يشترط له تكبيرة إحرام أو يكتفى بتكبير السجود؟ فالجمهور على الاكتفاء، وهو ظاهر غالب الأحاديث. وحكى القرطبي أن قول مالك لم يختلف في وجوب السلام بعد سجدتي السهو، قال: وما يتحلل منه بسلام لا بد له من تكبيرة إحرام، ويؤيده ما رواه أبو داود من طريق حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين في هذا الحديث قال: "فكبر ثم كبر وسجد للسهو "قال أبو داود: لم يقل أحد فكبر ثم كبر إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الزيادة. وقال القرطبي أيضا: قوله يعني في رواية مالك الماضية "فصلى ركعتين ثم سلم ثم كبر ثم سجد" يدل على أن التكبيرة للإحرام لأنه أتى بثم التي تقتضي التراخي، فلو كان التكبير للسجود لكان معه، وتعقب بأن ذلك من تصرف الرواة، فقد تقدم من طريق ابن عون عن ابن سيرين بلفظ: "فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد "فأتى بواو المصاحبة التي تقتضي المعية.

(3/99)


والله أعلم. قوله: "حدثنا يزيد بن إبراهيم" هو التستري، ومحمد هو ابن سيرين، والإسناد كله بصريون. قوله: "وأكثر ظني أنها العصر" هو قول ابن سيرين بالإسناد المذكور، وإنما رجح ذلك عنده لأن في حديث عمران الجزم بأنها العصر كما تقدمت الإشارة إليه قبل. قوله: "ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد" أي في جهة القبلة. قوله: "فوضع يده عليها" تقدم في رواية ابن عون عن ابن سيرين بلفظ: "فقام إلى خشبة معروضة في المسجد" أي موضوعة بالعرض، ولمسلم من طريق ابن عيينة عن أيوب "ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبا "ولا تنافي بين هذه الروايات لأنها تحمل على أن الجذع قبل اتخاذ المنبر كان ممتدا بالعرض، وكأنه الجذع الذي كان صلى الله عليه وسلم يستند إليه قبل اتخاذ المنبر، وبذلك جزم بعض الشراح. قوله: "فهابا أن يكلماه" في رواية ابن عون "فهاباه "بزيادة الضمير، والمعنى أنهما غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه. وأما ذو اليدين فغلب عليه حرصه على تعلم العلم. قوله: "وخرج سرعان" بفتح المهملات، ومنهم من سكن الراء وحكى عياض أن الأصيلي ضبطه بضم ثم إسكان كأنه جمع سريع ككثيب وكثبان والمراد بهم أوائل الناس خروجا من المسجد وهم أصحاب الحاجات غالبا. قوله: "فقالوا أقصرت الصلاة" كذا هنا بهمزة الاستفهام، وتقدم في رواية ابن عون بحذفها فتحمل تلك على هذه، وفيه دليل على ورعهم إذ لم يجزموا بوقوع شيء بغير علم وهابوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوه، وإنما استفهموه لأن الزمان زمان النسخ. وقصرت بضم القاف وكسر المهملة على البناء للمفعول أي أن الله قصرها، وبفتح ثم ضم على البناء للفاعل أي صارت قصيرة. قال النووي: هذا أكثر وأرجح. قوله: "ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم" أي يسميه "ذا اليدين" والتقدير وهناك رجل. وفي رواية ابن عون "وفي القوم رجل في يده طول يقال له ذو اليدين" وهو محمول على الحقيقة، ويحتمل أن يكون كناية عن طولها بالعمل أو بالبذل قاله القرطبي، وجزم ابن قتيبة بأنه كان يعمل بيديه جميعا، وحكي عن بعض شراح "التنبيه" أنه قال: كان قصير اليدين فكأنه ظن أنه حميد الطويل فهو الذي فيه الخلاف، وقد تقدم أن الصواب التفرقة بين ذي اليدين وذي الشمالين، وذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق بكسر المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة وآخره قاف اعتمادا على ما وقع في حديث عمران بن حصين عند مسلم ولفظه: "فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول" وهذا صنيع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظري، وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد، والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين، ففي حديث أبي هريرة أن السلام وقع من اثنتين وأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة في المسجد، وفي حديث عمران أنه سلم من ثلاث ركعات وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة، فأما الأول فقد حكى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك واستفهم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن صحة قوله، وأما الثاني فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله لكون الخشبة كانت في جهة منزله، فإن كان كذلك وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه كما أخرجه الشافعي وأبو دواد وابن ماجه وابن خزيمة، ولموافقة ذي اليدين نفسه له على سياقه كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وأبو بكر بن أبي خيثمة وغيرهم وقد تقدم في "باب تشبيك الأصابع" ما يدل على أن محمد بن سيرين راوي الحديث عن أبي هريرة كان يرى التوحيد بينهما، وذلك أنه

(3/100)


قال في آخر حديث أبي هريرة "نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم". قوله: "فقال: لم أنس ولم تقصر" كذا في أكثر الطرق، وهو صريح في نفي النسيان ونفي القصر، وفيه تفسير للمراد بقوله في رواية أبي سفيان عن أبي هريرة عند مسلم: "كل ذلك لم يكن" وتأييد لما قاله أصحاب المعاني: إن لفظ كل إذا تقدم وعقبها النفي كان نفيا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت كأن يقول لم يكن كل ذلك، ولهذا أجاب ذو اليدين في رواية أبي سفيان بقوله: "قد كان بعض ذلك" وأجابه في هذه الرواية بقوله: "بلى قد نسيت" لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابي أن السهو غير جائز عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا بالقصر، وهو حجة لمن قال: إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع، وإن كان عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية وخص الخلاف بالأفعال، لكنهم تعقبوه. نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه بل يقع له بيان ذلك إما متصلا بالفعل أو بعده كما وقع في هذا الحديث من قوله: "لم أنس ولم تقصر" ثم تبين أنه نسي، ومعنى قوله لم أنس أي في اعتقادي لا في نفس الأمر، ويستفاد منه أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين، وفائدة جواز السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره، وأما من منع السهو مطلقا فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة فقيل: قوله لم أنس نفي للنسيان، ولا يلزم منه نفي السهو. وهذا قول من فرق بينهما، وقد تقدم رده. ويكفي فيه قوله في هذه الرواية: "بلى قد نسيت" وأقره على ذلك. وقيل: قوله لم أنس على ظاهره وحقيقته وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل لكونه أبلغ من القول، وتعقب بحديث ابن مسعود الماضي في "باب التوجه نحو القبلة" ففيه: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون" فأثبت العلة قبل الحكم وقيد الحكم بقوله: "إنما أنا بشر" ولم يكتف بإثبات وصف النسيان حتى دفع قول من عساه يقول ليس نسيانه كنسياننا فقال: "كما تنسون" وبهذا الحديث يرد أيضا قول من قال معنى قوله لم أنس إنكار اللفظ الذي نفاه عن نفسه حيث قال إني لا أنسى ولكن أنسى، وإنكار اللفظ الذي أنكره على غيره حيث قال: "بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا " وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث إني لا أنسى لا أصل له فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شيء فإن الفرق بينهما واضح جدا، وقيل إن قوله لم أنس راجع إلى السلام أي سلمت قصدا بانيا على ما في اعتقادي أني صليت أربعا وهذا جيد، وكأن ذا اليدين فهم العموم فقال: "بلى قد نسيت" وكأن هذا القول أوقع شكا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين. وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذي اليدين عدلا ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسئول مغاير لما في اعتقاده. وبهذا يجاب من قال إن من أخبر بأمر حسي بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ ولا حامل لهم على السكوت عنه ثم لم يكذبوه أنه لا يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارضا باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به. وفيه أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المجلس متحدا أو منعت العادة 1 غفلتهم عن ذلك أن لا يقبل خبره. وفيه العمل بالاستصحاب لأن ذا اليدين استصحب حكم الإتمام فسأل، مع كون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع، والأصل عدم السهو والوقت قابل للنسخ، وبقية الصحابة ترددوا بين الاستصحاب وتجويز النسخ فسكتوا، والسرعان هم الذين بنوا على النسخ فجزموا بأن الصلاة
ـــــــ
1 في نسخة "ومنعت العادة" بدون همزة

(3/101)


قصرت فيؤخذ منه جواز الاجتهاد في الأحكام.وفيه جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافي سهوا، قال سحنون: إنما يبني من سلم من ركعتين كما في قصة ذي اليدين لأن ذلك أوقع على غير القياس فيقتصر به على مورد النص وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشي فيمنعه مثلا في الصبح، والذين قالوا يجوز البناء مطلقا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل، واختلفوا في قدر الطول فحده الشافعي في "الأم "بالعرف، وفي البويطي بقدر ركعة، وعن أبي هريرة قدر الصلاة التي يقع السهو فيها. وفيه أن الباني لا يحتاج إلى تكبيرة الإحرام، وأن السلام ونية الخروج من الصلاة سهوا لا يقطع الصلاة، وأن سجود السهو بعد السلام وقد تقدم البحث فيه، وأن الكلام سهوا لا يقطع الصلاة خلافا للحنفية. وأما قول بعضهم إن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصلاة فضعيف لأنه اعتمد على قول الزهري، إنها كانت قبل بدر، وقد قدمنا أنه إما وهم في ذلك أو تعددت القصة لذي الشمالين المقتول ببدر ولذي اليدين الذي تأخرت وفاته بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصة كما تقدم وشهدها عمران بن حصين وإسلامه متأخر أيضا، وروى معاوية بن حديج بمهملة وجيم مصغرا قصة أخرى في السهو ووقع فيها الكلام ثم البناء أخرجها أبو داود وابن خزيمة وغيرهما وكان إسلامه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين. وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون قول زيد بن أرقم "ونهينا عن الكلام" أي إلا إذا وقع سهوا، أو عمدا لمصلحة الصلاة، فلا يعارض قصة ذي اليدين انتهى. وسيأتي البحث في الكلام العمد لمصلحة الصلاة بعد هذا.
واستدل به على أن المقدر في حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" أي إثمهما وحكمهما خلافا لمن قصره على الإثم، واستدل به على أن تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم إلا ناسيا، وأما قول ذي اليدين له "بلى قد نسيت" وقول الصحابة له "صدق ذو اليدين" فإنهم تكلموا معتقدين النسخ في وقت يمكن وقوعه فيه فتكلموا ظنا أنهم ليسوا في صلاة، كذا قيل وهو فاسد، لأنهم كلموه بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "لم تقصر" وأجيب بأنهم لم ينطقوا وإنما أومئوا كما عند أبي داود في رواية ساق مسلم إسنادها، وهذا اعتمده الخطابي وقال: حمل القول على الإشارة مجاز سائغ بخلاف عكسه فينبني رد الروايات التي فيها التصريح بالقول إلى هذه، وهو قوي، وهو أقوى من قول غيره: يحمل على أن بعضهم قال بالنطق وبعضهم بالإشارة، لكن يبقى قول ذي اليدين "بلى قد نسيت" ويجاب عنه وعن البقية على تقدير ترجيح أنهم نطقوا بأن كلامهم كان جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه لا يقطع الصلاة كما سيأتي البحث فيه في تفسير سورة الأنفال، وتعقب بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة، وأجيب بأنه ثبت مخاطبته في التشهد وهو حي بقولهم "السلام عليك أيها النبي" ولم تفسد الصلاة، والظاهر أن ذلك من خصائصه، ويحتمل أن يقال ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يراجع المصلي فجائز له جوابه حتى تنقضي المراجعة فلا يختص الجواز بالجواب لقول ذي اليدين "بلى قد نسيت" ولم تبطل صلاته والله أعلم. وفيه أن سجود السهو لا يتكرر بتكرر السهو -ولو اختلف الجنس- خلافا للأوزاعي، وروى ابن أبي شيبة عن النخعي والشعبي أن لكل سهو سجدتين، وورد على وفقه حديث ثوبان عند أحمد وإسناده منقطع، وحمل على أن معناه أن من سها بأي سهو كان شرع له السجود أي لا يختص بما سجد فيه الشارع، وروى البيهقي من حديث عائشة "سجدتا السهو تجزئان من كل زيادة ونقصان". وفيه أن اليقين لا يترك إلا باليقين، لأن ذا اليدين كان على يقين أن فرضهم الأربع، فلما اقتصر فيها على اثنتين سأل عن ذلك ولم ينكر عليه سؤاله. وفيه أن الظن قد يصير يقينا بخبر أهل الصدق، وهذا مبني على أنه صلى الله عليه وسلم رجع لخبر الجماعة، واستدل به على أن الإمام

(3/102)


يرجع لقول المأمومين في أفعال الصلاة ولو لم يتذكر وبه قال مالك وأحمد وغيرهما، ومنهم من قيده بما إذا كان الإمام مجوزا لوقوع السهو منه، بخلاف ما إذا كان متحققا لخلاف ذلك أخذا من ترك رجوعه صلى الله عليه وسلم لذي اليدين ورجوعه للصحابة، ومن حجتهم قوله في حديث ابن مسعود الماضي "فإذا نسيت فذكروني "وقال الشافعي: معنى قوله: "فذكروني" أي لأتذكر، ولا يلزم منه أن يرجع لمجرد إخبارهم، واحتمال كونه تذكر عند إخبارهم لا يدفع، وقد تقدم في "باب هل يأخذ الإمام بقول الناس" من أبواب الإمامة ما يقوي ذلك. وفرق بعض المالكية والشافعية أيضا بين ما إذا كان المخبرون ممن يحصل العلم بخبرهم فيقبل ويقدم على ظن الإمام أنه قد كمل الصلاة بخلاف غيرهم، واستنبط منه بعض العلماء القائلين بالرجوع اشتراط العدد في مثل هذا وألحقوه بالشهادة، وفرعوا عليه أن الحاكم إذا نسي حكمه وشهد به شاهدان أنه يعتمد عليهما، واستدل به الحنفية على أن الهلال لا يقبل بشهادة الآحاد إذا كانت السماء مصحية بل لا بد فيه من عدد الاستفاضة، وتعقب بأن سبب الاستثبات كونه أخبر عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف رؤية الهلال فإن الأبصار ليست متساوية في رؤيته بل متفاوتة قطعا، وعلى أن من سلم معتقدا أنه أتم ثم طرأ عليه شك هل أتم أو نقص أنه يكتفي باعتقاده الأول ولا يجب عليه الأخذ باليقين، ووجهه أن ذا اليدين لما أخبر أثار خبره شكا، ومع ذلك لم يرجع النبي صلى الله عليه وسلم حتى استثبت. واستدل به البخاري على جواز تشبيك الأصابع في المسجد وقد تقدم في أبواب المساجد، وعلى أن الإمام يرجع لقول المأمومين إذا شك وقد تقدم في الإمامة، وعلى جواز التعريف باللقب وسيأتي في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى، وعلى الترجيح بكثرة الرواة وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المقصود كان تقوية الأمر المسئول عنه لا ترجيح خبر على خبر. قوله: "الأسدي" بسكون المهملة وقد تقدم الكلام على حديثه في أول أبواب السهو وأنه يشرع التكبير لسجود السهو كتكبير الصلاة وهو مطابق لهذه الترجمة، وقد تقدم في "باب من لم ير التشهد الأول واجبا "أن قول من قال فيه: "حليف بني عبد المطلب "وهم وأن الصواب حليف بني المطلب بإسقاط "عبد". قوله: "تابعه ابن جريج عن ابن شهاب في التكبير" وصله عبد الرزاق عنه ومن طريقه الطبراني ولفظه: "يكبر في كل سجدة "وأخرجه أحمد عن عبد الرزاق ومحمد بن بكر كلاهما عن ابن جريج بلفظ: "فكبر فسجد ثم كبر فسجد ثم سلم".

(3/103)


6 - باب إِذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ
1231 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ الأَذَانَ فَإِذَا قُضِيَ الأَذَانُ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ"
قوله: "باب إذا لم يدر كم صلى: ثلاثا أو أربعا سجد سجدتين وهو جالس" تقدم الكلام على ما يتعلق بأول المتن في أبواب الأذان. وأما قوله: "حتى يظل الرجل إن يدري" فقوله: "إن" بكسر الهمزة وهي نافية، وقوله: "فإذا

(3/103)


لم يدر أحدكم كم صلى إلخ" مساو للترجمة من غير مزيد وظاهره أنه لا يبني على اليقين لأنه أعم من أن يكون داخل الصلاة أو خارجها، وقد تقدم الكلام على خارجها في أواخر الباب الذي قبله، وأما داخلها فهو معارض بحديث أبي سعيد الذي عند مسلم فإنه صريح في الأمر بطرح الشك والبناء على اليقين، فقيل يجمع بينهما بحمل حديث أبي هريرة على من طرأ عليه الشك وقد فرغ قبل أن يسلم فإنه لا يلتفت إلى ذلك الشك ويسجد للسهو كمن طرأ عليه بعد أن سلم، فلو طرأ عليه قبل ذلك بنى على اليقين كما في حديث أبي سعيد. وعلى هذا فقوله فيه: "وهو جالس" يتعلق بقوله إذا شك لا بقوله سجد، وهذا أولى من قول من سلك طريق الترجيح فقال حديث أبي سعيد اختلف في وصله وإرساله بخلاف حديث أبي هريرة وقد وافقه حديث ابن مسعود فهو أرجح، لأن لمخالفه أن يقول: بل حديث أبي سعيد صححه مسلم والذي وصله حافظ فزيادته مقبولة وقد وافقه حديث أبي هريرة الآتي قريبا فيتعارض الترجيح، وقيل يجمع بينهما بحمل حديث أبي هريرة على حكم ما يجبر به الساهي صلاته وحديث أبي سعيد على ما يصنعه من الإتمام وعدمه. "تنبيه": لم يقع في هذه الرواية تعيين محل السجود ولا في رواية الزهري التي في الباب الذي يليه، وقد روى الدارقطني من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد مرفوعا: " إذا سها أحدكم فلم يدر أزاد أو نقص فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم " إسناده قوي، ولأبي داود من طريق ابن أخي الزهري عن عمه نحوه بلفظ: "وهو جالس قبل التسليم "وله من طريق ابن إسحاق قال حدثني الزهري بإسناده وقال فيه: "فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم يسلم" قال العلائي: هذه الزيادة في هذا الحديث بمجموع هذه الطرق لا تنزل عن درجة الحسن المحتج به. والله أعلم.

(3/104)


7 - باب السَّهْوِ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ
حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس"
قوله: "باب" بالتنوين. قوله: "السهو في الفرض والتطوع" أي هل يفترق حكمه أم يتحد؟ إلى الثاني ذهب الجمهور، وخالف في ذلك ابن سيرين وقتادة ونقل عن عطاء، ووجه أخذه من حديث الباب من جهة قوله: "وإذا صلى" أي الصلاة الشرعية وهو أعم من أن تكون فريضة أو نافلة. وقد اختلف في إطلاق الصلاة عليهما هل هو من الاشتراك اللفظي أو المعنوي؟ وإلى الثاني ذهب جمهور أهل الأصول لجامع ما بينهما من الشروط التي لا تنفك، ومال الفخر الرازي إلى أنه من الاشتراك اللفظي لما بينهما من التباين في بعض الشروط، ولكن طريقة الشافعي ومن تبعه في أعمال المشترك في معانيه عند التجرد تقتضي دخول النافلة أيضا في هذه العبارة، فإن قيل أن قوله في الرواية التي قبل هذه "إذا نودي للصلاة" قرينة في أن المراد الفريضة وكذا قوله: "إذا ثوب" أجيب بأن ذلك لا يمنع تناول النافلة لأن الإتيان حينئذ بها مطلوب لقوله: "بين كل أذانين صلاة" . "وَسَجَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ

(3/104)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرِهِ" قوله: "وسجد ابن عباس سجدتين بعد وتره" وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي العالية قال: "رأيت ابن عباس يسجد بعد وتره سجدتين" وتعلق هذا الأثر بالترجمة من جهة أن ابن عباس كان يرى أن الوتر غير واجب ويسجد مع ذلك فيه للسهو، وقد تقدم الكلام على المتن في الباب الذي قبله.

(3/105)


8 - باب إِذَا كُلِّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَاسْتَمَعَ
1233 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ "أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالُوا اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنَّا جَمِيعًا وَسَلْهَا عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ وَقُلْ لَهَا إِنَّا أُخْبِرْنَا عَنْكِ أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكُنْتُ أَضْرِبُ النَّاسَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ عَنْهَا فَقَالَ كُرَيْبٌ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي فَقَالَتْ سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلُونِي بِهِ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْهَا ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ فَقُلْتُ قُومِي بِجَنْبِهِ فَقُولِي لَهُ تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ فَفَعَلَتْ الْجَارِيَةُ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ"
[الحديث 1233 – طرفه في: 4370]
قوله: "باب إذا كلم" بضم الكاف في الصلاة "واستمع" أي المصلي لم تفسد صلاته. قوله: "أخبرني عمرو" هو ابن الحارث وبكير بالتصغير هو ابن عبد الله بن الأشج، ونصف هذا الإسناد المبدأ به مصريون والثاني مدنيون. قوله: "وقد بلغنا" فيه إشارة إلى أنهم لم يسمعوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم فأما ابن عباس فقد سمى الواسطة وهو عمر كما تقدم في المواقيت من قوله: "شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر" الحديث، وأما المسور وابن أزهر فلم أقف عنهما على تسمية الواسطة، وقوله قبل ذلك "وإنا أخبرنا" بضم الهمزة ولم أقف على تسمية المخبر وكأنه عبد الله بن الزبير فسيأتي في الحج من روايته عن عائشة ما يشهد لذلك، وروى ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن الحارث قال: "دخلت مع ابن عباس على معاوية فأجلسه على السرير ثم قال: ما ركعتان يصليهما الناس بعد العصر؟ قال ذلك ما يفتي به الناس ابن الزبير، فأرسل إلى ابن الزبير فسأله فقال: أخبرتني بذلك عائشة، فأرسل إلى عائشة فقالت: أخبرتني أم سلمة، فأرسل إلى أم سلمة فانطلقت مع الرسول "فذكر القصة، واسم الرسول المذكور كثير بن الصلت سماه الطحاوي بإسناد صحيح إلى أبي سلمة "إن معاوية قال وهو على المنبر لكثير بن

(3/105)


الصلت: اذهب إلى عائشة فاسألها، فقال أبو سلمة: فقمت معه. وقال ابن عباس لعبد الله بن الحارث: اذهب منه، فجئناها فسألناها" فذكره. قوله: "تصلينهما" في رواية الكشميهني: "تصليهما" بحذف النون وهو جائز. قوله: "وقال ابن عباس كنت أضرب الناس مع عمر عنها" أي لأجلها في رواية الكشميهني: "عنه" وكذا في قوله: "نهى عنها" وكأنه ذكر الضمير على إرادة الفعل، وهذا موصول بالإسناد المذكور، وقد روى ابن أبي شيبة من طريق الزهري عن السائب هو ابن يزيد قال: "رأيت عمر يضرب المنكدر على الصلاة بعد العصر". قوله: "قال كريب" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "فقالت سل أم سلمة" زاد مسلم في روايته من هذا الوجه "فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها فردوني إلى أم سلمة" وفي رواية أخرى للطحاوي "فقالت عائشة ليس عندي، ولكن حدثتني أم سلمة". قوله: "ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر ثم دخل علي" أي فصلاهما حينئذ بعد الدخول. وفي رواية مسلم: "ثم رأيته يصليهما، أما حين صلاهما فإنه صلى العصر ثم دخل عندي فصلاهما". قوله: "من بني حرام" بفتح المهملتين. قوله: "فأرسلت إليه الجارية" لم أقف على اسمها، ويحتمل أن تكون بنتها زينب لكن في رواية المصنف في المغازي "فأرسلت إليه الخادم". قوله: "فقال يا ابنة أبي أمية" هو والد أم سلمة واسمه حذيفة - وقيل سهيل - ابن المغيرة المخزومي. قوله: "عن الركعتين" أي اللتين صليتهما الآن. قوله: "وإنه أتاني ناس من عبد القيس" زاد في المغازي "بالإسلام من قومهم فشغلوني "وللطحاوي من وجه آخر "قدم علي قلائص من الصدقة فنسيتهما ثم ذكرتهما فكرهت أن أصليهما في المسجد والناس يرون فصليتهما عندك" وله من وجه آخر "فجاءني مال فشغلني" وله من وجه آخر "قدم علي وفد من بني تميم، أو جاءتني صدقة" وقوله: "من بني تميم" وهم وإنما هم من عبد القيس وكأنهم حضروا معهم بمال المصالحة من أهل البحرين كما سيأتي في الجزية من طريق عمرو بن عوف "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي وأرسل أبا عبيدة فأتاه بجزيتهم" ويؤيده أن في رواية عبد الله بن الحارث المتقدم ذكرها أنه كان بعث ساعيا وكان قد أهمه شأن المهاجرين، وفيه: "فقلت ما هاتان الركعتان؟ فقال: شغلني أمر الساعي". قوله: "فهما هاتان" في رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أم سلمة عند الطحاوي من الزيادة "فقلت أمرت بهما؟ فقال: لا، ولكن كنت أصليهما بعد الظهر فشغلت عنهما فصليتهما الآن" وله من وجه آخر عنها "لم أره صلاهما قبل ولا بعد" لكن هذا لا ينفي الوقوع فقد ثبت في مسلم عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عنهما فقالت: "كان يصليهما قبل العصر فشغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها" أي داوم عليها. ومن طريق عروة عنها "ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط" ومن ثم اختلف نظر العلماء فقيل: تقضى الفوائت في أوقات الكراهة لهذا الحديث، وقيل هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل هو خاص بمن وقع له نظير ما وقع له. وقد تقدم البحث في ذلك مبسوطا في أواخر المواقيت. وفي الحديث من الفوائد سوى ما مضى جواز استماع المصلي إلى كلام غيره وفهمه له ولا يقدح ذلك في صلاته. وأن الأدب في ذلك أن يقوم المتكلم إلى جنبه لا خلفه ولا أمامه لئلا يشوش عليه بأن لا تمكنه الإشارة إليه إلا بمشقة، وجواز الإشارة في الصلاة وسيأتي في باب مفرد. وفيه البحث عن علة الحكم وعن دليله، والترغيب في علو الإسناد، والفحص عن الجمع بين المتعارضين، وأن الصحابي إذا عمل بخلاف ما رواه لا يكون كافيا في الحكم بنسخ مرويه، وأن الحكم إذا ثبت لا يزيله إلا شيء مقطوع به، وأن الأصل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله، وأن الجليل من الصحابة

(3/106)


قد يخفى عليه ما اطلع عليه غيره، وأنه لا يعدل إلى الفتوى بالرأي مع وجود النص، وأن العالم لا نقص عليه إذا سئل عما لا يدري فوكل الأمر إلى غيره. وفيه قبول إخبار الآحاد والاعتماد عليه في الأحكام ولو كان شخصا واحدا رجلا أو امرأة لاكتفاء أم مسلمة بإخبار الجارية. وفيه دلالة على فطنة أم سلمة وحسن تأتيها بملاطفة سؤالها واهتمامها بأمر الدين، وكأنها لم تباشر السؤال لحال النسوة اللاتي كن عندها فيؤخذ منه إكرام الضيف واحترامه، وفيه زيارة النساء المرأة ولو كان زوجها عندها، والتنفل في البيت ولو كان فيه من ليس منهم، وكراهة القرب من المصلي لغير ضرورة، وترك تفويت طلب العلم وإن طرأ ما يشغل عنه، وجواز الاستنابة في ذلك، وأن الوكيل لا يشترط أن يكون مثل موكله في الفضل، وتعليم الوكيل التصرف إذا كان ممن يجهل ذلك، وفيه الاستفهام بعد التحقق لقولها "وأراك تصليهما "والمبادرة إلى معرفة الحكم المشكل فرارا من الوسوسة، وأن النسيان جائز على النبي صلى الله عليه وسلم لأن فائدة استفسار أم سلمة عن ذلك تجويزها إما النسيان وإما النسخ وإما التخصيص به، فظهر وقوع الثالث. والله أعلم.

(3/107)


9 - باب الإِشَارَةِ فِي الصَّلاَةِ. قَالَهُ كُرَيْبٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1234 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتْ الصَّلاَةُ فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتْ الصَّلاَةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ قَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَأَقَامَ بِلاَلٌ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيقِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ فِي التَّصْفِيقِ إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُهُ أَحَدٌ حِينَ يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ إِلاَّ الْتَفَتَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
1235 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ "دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تُصَلِّي قَائِمَةً وَالنَّاسُ قِيَامٌ فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ آيَةٌ فَقَالَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ نَعَمْ"

(3/107)


1236 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ " صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا"
قوله: "باب الإشارة في الصلاة" قال ابن رشيد: هذه الترجمة أعم من كونها مرتبة على استدعاء ذلك أو غير مرتبة، بخلاف الترجمة التي قبلها فإن الإشارة فيها لزمت من الكلام واستماعه فهي مرتبة. "قاله كريب عن أم سلمة" يشير إلى حديث الباب الذي قبله. حديث سهل بن سعد في الإصلاح بين بني عمرو بن عوف، وفيه إرادة أبي بكر الصلاة بالناس، وشاهد الترجمة قوله فيه: "فأخذ الناس في التصفيق" فإنه صلى الله عليه وسلم وإن كان أنكره عليهم لكنه لم يأمرهم بإعادة الصلاة، وحركة اليد بالتصفيق كحركتها بالإشارة، وأخذه من جهة الالتفات والإصغاء إلى كلام الغير لأنه في معنى الإشارة، وأما قوله: " يا أبا بكر ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك" فليس بمطابق للترجمة لأن إشارته صدرت منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم بالصلاة كما تقدم في الكلام على حديث سهل مستوفى في أبواب الإمامة، ويحتمل أن يكون فهم من قوله: "قام في الصف" الدخول في الصلاة لعدوله صلى الله عليه وسلم عن الكلام الذي هو أدل من الإشارة، ولما يفهمه السياق من طول مقامه في الصف قبل أن تقع الإشارة المذكورة، ولأنه دخل بنية الائتمام بأبي بكر، ولأن السنة الدخول مع الإمام على أي حالة وجده لقوله صلى الله عليه وسلم: "فما أدركتم فصلوا" . حديث أسماء في الصلاة في الكسوف، أورده مختصرا جدا، وشاهد الترجمة قولها فيه: "فأشارت برأسها" وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في الكسوف. حديث عائشة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته جالسا، وشاهدها قوله فيه: "فأشار إليهم أن اجلسوا" وقد تقدم مستوفى في أبواب الإمامة أيضا، وفيه رد على من منع الإشارة بالسلام وجوز مطلق الإشارة لأنه لا فرق بين أن يشير آمرا بالجلوس أو يشير مخبرا برد السلام. والله أعلم.
" خاتمة ": اشتملت أبواب السهو من الأحاديث المرفوعة على تسعة عشر حديثا، منها اثنان معلقان بمقتضى حديث كريب عن أم سلمة وابن عباس وعبد الرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة أربعة أحاديث لقولهم فيه - سوى أم سلمة - "بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها" وجميعها مكررة فيه وفيما مضى سواه، إلا أنه تكرر منه في المواقيت طرف مختصر عن أم سلمة، وسوى حديث أبي هريرة "فليسجد سجدتين وهو جالس" وقد وافقه مسلم على تخريجها جميعها، وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم خمسة آثار: منها أثر عروة الموصول في آخر الباب، ومنها أثر عمر في ضربه على الصلاة بعد العصر. والله الهادي إلى الصواب، ومنه المبدأ وإليه المآب.

(3/108)


كتاب الجنائز
باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
23 - كتاب الجنائز
1 - باب مَا جَاءَ فِي الْجَنَائِزِ وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَلَيْسَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلاَّ لَهُ أَسْنَانٌ فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ وَإِلاَ لَمْ يُفْتَحْ لَكَ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب الجنائز" كذا للأصيلي وأبي الوقت، والبسملة من الأصل، ولكريمة: "باب في الجنائز "وكذا لأبي ذر لكن بحذف "باب" والجنائز بفتح الجيم لا غير جمع جنازة بالفتح والكسر لغتان، قال ابن قتيبة وجماعة: الكسر أفصح، وقيل بالكسر للنعش وبالفتح للميت. وقالوا لا يقال نعش إلا إذا كان عليه الميت.
" تنبيه ": أورد المصنف وغيره كتاب الجنائز بين الصلاة والزكاة لتعلقها بهما، ولأن الذي يفعل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك أهمه الصلاة عليه لما فيها من فائدة الدعاء له بالنجاة من العذاب ولا سيما عذاب القبر الذي سيدفن فيه. قوله: "ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله" قيل أشار بهذا إلى ما رواه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن مرة الحضرمي عن معاذ بن جبل قال: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" قال الزين بن المنير: حذف المصنف جواب "من" من الترجمة مراعاة لتأويل وهب بن منبه فأبقاه إما ليوافقه أو ليبقي الخبر على ظاهره. وقد روى ابن أبي حاتم في ترجمة أبي زرعة: أنه لما احتضر أرادوا تلقينه، فتذكروا حديث معاذ، فحدثهم به أبو زرعة بإسناده، وخرجت روحه في آخر قول لا إله إلا الله.
" تنبيه ": كأن المصنف لم يثبت عنده في التلقين شيء على شرطه فاكتفى بما دل عليه، وقد أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة من وجه آخر بلفظ: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" وعن أبي سعيد كذلك، قال الزين بن المنير: هذا الخبر يتناول بلفظه من قالها فبغته الموت، أو طالت حياته لكن لم يتكلم بشيء غيرها، ويخرج بمفهومه من تكلم لكن استصحب حكمها من غير تجديد نطق بها، فإن عمل أعمالا سيئة كان في المشيئة، وإن عمل أعمالا صالحة فقضية سعة رحمة الله أن لا فرق بين الإسلام النطقي والحكمي المستصحب والله أعلم. انتهى. وحكى الترمذي عن عبد الله بن المبارك أنه لقن عند الموت فأكثر عليه فقال: إذا قلت مرة فأنا على ذلك ما لم أتكلم بكلام. وهذا يدل على أنه كان يرى التفرقة فيهذا المقام. والله أعلم. قوله: "وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله إلخ" يجوز نصب مفتاح على أنه خبر مقدم ورفعه على أنه مبتدأ، كأن القائل أشار إلى ما ذكر ابن إسحاق في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل العلاء بن الحضرمي قال له "إذا سئلت عن مفتاح الجنة فقل: مفتاحها لا إله إلا الله" وروي عن معاذ بن جبل مرفوعا نحوه أخرجه البيهقي في الشعب وزاد: "ولكن مفتاح بلا أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك" وهذه الزيادة نظير ما أجاب به وهب، فيحتمل أن تكون مدرجة في حديث معاذ. وأما أثر وهب فوصله المصنف في التاريخ وأبو نعيم في الحلية من طريق محمد بن سعيد بن رمانة بضم الراء وتشديد الميم وبعد الألف نون قال:

(3/109)


أخبرني أبي قال قيل لوهب بن منبه فذكره. والمراد بقوله لا إله إلا الله في هذا الحديث وغيره كلمتا الشهادة، فلا يرد إشكال ترك ذكر الرسالة. قال الزين بن المنير: قول لا إله إلا الله لقب جرى على النطق بالشهادتين شرعا. وأما قول وهب فمراده بالأسنان التزام الطاعة فلا يرد إشكال موافقة الخوارج وغيرهم أن أهل الكبائر لا يدخلون الجنة. وأما قوله: "لم يفتح له" فكأن مراده لم يفتح له فتحا تاما، أو لم يفتح له في أولي الأمر، وهذا بالنسبة إلى الغالب، وإلا فالحق أنهم في مشيئة الله تعالى. وقد أخرج سعيد بن منصور بسند حسن عن وهب بن منبه قريبا من كلامه هذا في التهليل ولفظه: "عن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه مثل الداعي بلا عمل مثل الرامي بلا وتر" قال الداودي: قول وهب محمول على التشديد، ولعله لم يبلغه حديث أبي ذر، أي حديث الباب. والحق أن من قال لا إله إلا الله مخلصا أتي بمفتاح وله أسنان، لكن من خلط ذلك بالكبائر حتى مات مصرا عليها لم تكن أسنانه قوية، فربما طال علاجه. وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكون مراد البخاري الإشارة إلى أن من قال لا إله إلا الله مخلصا عند الموت كان ذلك مسقطا لما تقدم له، والإخلاص يستلزم التوبة والندم، ويكون النطق علما على ذلك. وأدخل حديث أبي ذر ليبين أنه لا بد من الاعتقاد، ولهذا قال عقب حديث أبي ذر في كتاب اللباس: قال أبو عبد الله: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم. ومعنى قول وهب إن جئت بمفتاح له أسنان جياد فهو من باب حذف النعت إذا دل عليه السياق لأن مسمى المفتاح لا يعقل إلا بالأسنان وإلا فهو عود أو حديدة.
1237 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَأَخْبَرَنِي أَوْ قَالَ بَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ"
[الحديث 1237 – أطرفه في: 1408, 2388, 3222, 5827, 6268, 6443, 7487]
1238 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ"
[الحديث 1238 – طرفاه في: 4497, 6683]
قوله: "أتاني آت" سماه في التوحيد من طريق شعبة عن واصل "جبريل" وجزم بقوله: "فبشرني" وزاد الإسماعيلي من طريق مهدي في أوله قصة قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له، فلما كان في بعض الليل تنحى فلبث طويلا، ثم أتانا فقال" فذكر الحديث. وأورده المصنف في اللباس من طريق أبي الأسود عن أبي ذر قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ" فدل على أنها رؤيا منام. قوله: "من أمتي" أي من أمة الإجابة، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك أي أمة الدعوة وهو متجه. قوله: "لا يشرك بالله شيئا" أورده المصنف في اللباس بلفظ: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك" الحديث. إنما لم يورده المصنف هنا جريا على عادته في إيثار الخفي على الجلي، وذلك أن نفي الشرك يستلزم إثبات التوحيد، ويشهد له استنباط عبد الله بن مسعود في ثاني

(3/110)


حديثي الباب من مفهوم قوله: "من مات يشرك بالله دخل النار" وقال القرطبي: معنى نفي الشرك أن لا يتخذ مع الله شريكا في الإلهية، لكن هذا القول صار بحكم العرف عبارة عن الإيمان الشرعي. قوله: "فقلت وإن زنى أو سرق" قد يتبادر إلى الذهن أن القائل ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم والمقول له الملك الذي بشره به، وليس كذلك، بل القائل هو أبو ذر والمقول له هو النبي صلى الله عليه وسلم كما بينه المؤلف في اللباس. وللترمذي "قال أبو ذر يا رسول الله" ويمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله مستوضحا وأبو ذر قاله مستبعدا، وقد جمع بينهما في الرقاق من طريق زيد بن وهب عن أبي ذر. قال الزين بن المنير: حديث أبي ذر من أحاديث الرجاء التي أفضى الاتكال عليها ببعض الجهلة إلى الإقدام على الموبقات، وليس هو على ظاهره فإن القواعد استقرت على أن حقوق الآدميين لا تسقط بمجرد الموت على الإيمان، ولكن لا يلزم من عدم سقوطها أن لا يتكفل الله بها عمن يريد أن يدخله الجنة، ومن ثم رد صلى الله عليه وسلم على أبي ذر استبعاده. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "دخل الجنة" أي صار إليها إما ابتداء من أول الحال وإما بعد أن يقع ما يقع من العذاب، نسأل الله العفو والعافية. وفي هذا الحديث: " من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من الدهر، أصابه قبل ذلك ما أصابه" وسيأتي بيان حاله في كتاب الرقاق. وفي الحديث أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان، وأن غير الموحدين لا يدخلون الجنة. والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى جنس حق الله تعالى وحق العباد، وكأن أبا ذر استحضر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" لأن ظاهره معارض لظاهر هذا الخبر، لكن الجمع بينهما على قواعد أهل السنة بحمل هذا على الإيمان الكامل ويحمل حديث الباب على عدم التخليد في النار. قوله: "على رغم أنف أبي ذر"1 بفتح الراء وسكون المعجمة ويقال بضمها وكسرها، وهو مصدر رغم بفتح الغين وكسرها مأخوذ من الرغم وهو التراب، وكأنه دعا عليه بأن يلصق أنفه بالتراب. قوله: "حدثنا عمر بن حفص" أي ابن غياث، وشقيق هو أبو وائل، وعبد الله هو ابن مسعود، وكلهم كوفيون. قوله: "من مات يشرك بالله" في رواية أبي حمزة عن الأعمش في تفسير البقرة "من مات وهو يدعو من دون الله ندا" وفي أوله "قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أنا أخرى"، ولم تختلف الروايات في الصحيحين في أن المرفوع الوعيد والموقوف الوعد. وزعم الحميدي في "الجمع" وتبعه مغلطاي في شرحه ومن أخذ عنه أن في رواية مسلم من طريق وكيع وابن نمير بالعكس بلفظ: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، وقلت أنا من مات يشرك بالله شيئا دخل النار " وكأن سبب الوهم في ذلك ما وقع عند أبي عوانة والإسماعيلي من طريق وكيع بالعكس، لكن بين الإسماعيلي أن المحفوظ عن وكيع كما في البخاري، قال: وإنما المحفوظ أن الذي قلبه أبو عوانة2 وحده وبذلك جزم ابن خزيمة في صحيحه، والصواب رواية الجماعة، وكذلك أخرجه أحمد من طريق عاصم وابن خزيمة من طريق يسار3 وابن حبان من طريق المغيرة كلهم عن شقيق، وهذا هو الذي يقتضيه النظر لأن جانب الوعيد ثابت بالقرآن وجاءت السنة على وفقه فلا يحتاج إلى استنباط، بخلاف جانب الوعد فإنه في محل البحث إذ لا يصح حمله على ظاهره كما تقدم. وكأن ابن مسعود لم يبلغه حديث جابر الذي أخرجه مسلم بلفظ: "قيل: يا رسول الله
ـــــــ
1 قول الشارح "قوله على رغم أنف أبي ذر" ليست في النسخ التي بأيدينا في هذا الباب. اهـ مصححه
2 في نسخة "أبو معاوية"
3 في نسخة "سيار"

(3/111)


ما الموجبتان؟ قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار" وقال النووي: الجيد أن يقال سمع ابن مسعود اللفظتين من النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه في وقت حفظ إحداهما وتيقنها ولم يحفظ الأخرى فرفع المحفوظة وضم الأخرى إليها، وفي وقت بالعكس، قال: فهذا جمع بين روايتي ابن مسعود وموافقته لرواية غيره في رفع اللفظتين انتهى. وهذا الذي قال محتمل بلا شك، لكن فيه بعد مع اتحاد مخرج الحديث، فلو تعدد مخرجه إلى ابن مسعود لكان احتمالا قريبا مع أنه يستغرب من انفراد راو من الرواة بذلك دون رفقته وشيخهم ومن فوقه، فنسبة السهو إلى شخص ليس بمعصوم أولى من هذا التعسف. "فائدة": حكى الخطيب في "المدرج "أن أحمد بن عبد الجبار رواه عن أبي بكر بن عياش عن عاصم مرفوعا كله وأنه وهم في ذلك، وفي حديث ابن مسعود دلالة على أنه كان يقول بدليل الخطاب، ويحتمل أن يكون أثر ابن مسعود أخذه من ضرورة انحصار الجزاء في الجنة والنار، وفيه إطلاق الكلمة على الكلام الكثير وسيأتي البحث فيه في الأيمان والنذور.

(3/112)


2 - باب الأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ
1239 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَشْعَثِ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَرَدِّ السَّلاَمِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَهَانَا عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالإِسْتَبْرَقِ"
[الحديث 1239 – أطرافه في: 2445, 175, 5635, 5650, 5838, 5849, 5863, 6222, 6235, 6654, ]
1240 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلاَمِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ"
تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. وَرَوَاهُ سَلاَمَةُ بْنُ رَوْحٍ عَنْ عُقَيْلٍ
قوله: "باب الأمر باتباع الجنائز" قال الزين بن المنير: لم يفصح بحكمه لأن قوله: "أمرنا" أعم من أن يكون للوجوب أو للندب. قوله: "عن الأشعث" هو ابن أبي الشعثاء المحاربي. قوله: "عن البراء بن عازب" أورده في المظالم عن سعيد بن الربيع عن شعبة عن الأشعث فقال فيه: "سمعت البراء بن عازب"، ولمسلم من طريق زهير بن معاوية عن الأشعث عن معاوية بن سويد قال: "دخلت على البراء بن عازب فسمعته يقول" فذكر الحديث. قوله: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع" أما المأمورات فسنذكر شرحها في كتابي الأدب واللباس، والذي يتعلق منها بهذا الباب اتباع الجنائز. وأما المنهيات فمحل شرحها كتاب اللباس وسيأتي الكلام عليها فيه، وسقط من المنهيات في هذا الباب واحدة سهوا إما من المصنف أو من شيخه. قوله: "حدثنا محمد" كذا في جميع الروايات غير منسوب. وقال الكلاباذي: هو الذهلي، وعمرو بن أبي سلمة هو التنيسي وقد ضعفه ابن معين بسبب أن في حديثه عن الأوزاعي مناولة وإجازة، لكن بين أحمد بن صالح المصري أنه كان يقول فيما سمعه "حدثنا "ولا

(3/112)


يقول ذلك فيما لم يسمعه، وعلى هذا فقد عنعن هذا الحديث فدل على أنه لم يسمعه، والجواب عن البخاري أنه يعتمد على المناولة ويحتج بها، وقصارى هذا الحديث أن يكون منها، وقد قواه بالمتابعة التي ذكرها عقبة، ولم ينفرد به عمرو، ومع ذلك فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعي، وكأن البخاري اختار طريق عمرو لوقوع التصريح فيها بالإخبار بين الأوزاعي والزهري، ومتابعة عبد الرزاق التي ذكرها وصلها مسلم وقال في آخره: كان معمر يرسل هذا الحديث وأسنده مرة عن ابن المسيب عن أبي هريرة. وقد وقع لي معلقا في جزء الذهلي "قال أخبرنا عبد الرزاق" فذكر الحديث. وأما رواية سلامة وهو بتخفيف اللام وهو ابن أخي عقيل فأظنها في الزهريات للذهلي، وله نسخة عن عمه عن الزهري، ويقال إنه كان يرويها من كتاب. قوله: "حق المسلم على المسلم خمس" في رواية مسلم من طريق عبد الرزاق "خمس تجب للمسلم على المسلم" وله من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة "حق المسلم على المسلم ست" وزاد: " وإذا استنصحك فانصح له " وقد تبين أن معنى "الحق" هنا الوجوب خلافا لقول ابن بطال: المراد حق الحرمة والصحبة، والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية. قوله: "رد السلام" يأتي الكلام على أحكامه في الاستئذان، وعيادة المريض يأتي الكلام عليها في المرضى، وإجابة الداعي يأتي الكلام عليها في الوليمة، وتشميت العاطس يأتي الكلام عليه في الأدب. وأما اتباع الجنائز فسيأتي الكلام عليه في "باب فضل اتباع الجنائز" في وسط كتاب الجنائز، والمقصود هنا إثبات مشروعيته فلا تكرار.

(3/113)


3 - باب الدُّخُولِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذَا أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ
1242,1241 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَيُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ "أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمْ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ اجْلِسْ فَأَبَى فَقَالَ اجْلِسْ فَأَبَى فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إِلَى {الشَّاكِرِينَ} وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلاَّ يَتْلُوهَا"

(3/113)


[الحديث 1241 – أطرافه في: 3667, 3669, 4452, 4455, 5710
[الحديث 1242 – أطرافه في: 3668, 3670, 4453, 4454, 4457, 5711]
1243 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ "أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لاَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا"
1244 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ مِثْلَهُ وَقَالَ نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقَيْلٍ "مَا يُفْعَلُ بِهِ" وَتَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمَعْمَرٌ
[الحديث 1243 – أطرافه في: 2687, 3929, 7003, 7018]
1244 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي وَيَنْهَوْنِي عَنْهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَنْهَانِي فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَبْكِينَ أَوْ لاَ تَبْكِينَ مَا زَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ" تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[الحديث 1244 – أطرافه في: 1293, 2816, 4080]
قوله: "باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه" أي لف فيها، قال ابن رشيد: موقع هذه الترجمة من الفقه أن الموت لما كان سبب تغيير محاسن الحي التي عهد عليها - ولذلك أمر بتغميضه وتغطيته - كان ذلك مظنة للمنع من كشفه حتى قال النخعي: ينبغي أن لا يطلع عليه إلا الغاسل له ومن يليه، فترجم البخاري على جواز ذلك، ثم أورد فيه ثلاثة أحاديث: أولها حديث عائشة في دخول أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن مات، وسيأتي مستوفى في باب الوفاة آخر المغازي، ومطابقته للترجمة واضحة كما سنبينه، وأشد ما فيه إشكالا قول أبي بكر لا يجمع الله عليك موتتين، وعنه أجوبة: فقيل هو على حقيقته وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال، لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، وكالذي مر على قرية، وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها. وقيل أراد لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره إذ يحيا ليسأل ثم يموت، وهذا جواب الداودي، وقيل لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك. وقيل كنى بالموت الثاني عن الكرب، أي لا نلقى بعد كرب هذا الموت كربا آخر. ثانيها

(3/114)


حديث أم العلاء الأنصارية في قصة عثمان بن مظعون وسيأتي بأتم من هذا السياق في "باب القرعة "آخر الشهادات، وفي التعبير. ثالثها حديث جابر في موت أبيه وسيأتي في كتاب الجهاد. ودلالة الأول والثالث مشكلة لأن أبا بكر إنما دخل قبل الغسل فضلا عن التكفين وعمر ينكر حينئذ أن يكون مات، ولأن جابرا كشف الثوب عن وجه أبيه قبل تكفينه. وقد يقال في الجواب عن الأول: إن الذي وقع دخول أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى أي مغطى، فيؤخذ منه أن الدخول على الميت يمتنع إلا إن كان مدرجا في أكفانه أو في حكم المدرج لئلا يطلع منه على ما يكره الاطلاع عليه. وقال الزين بن المنير ما محصله: كان أبو بكر عالما بأنه صلى الله عليه وسلم لا يزال مصونا عن كل أذى فساغ له الدخول من غير تنقيب عن الحال، وليس ذلك لغيره. وأما الجواب عن حديث جابر فأجاب ابن المنير أيضا بأن ثياب الشهيد التي قتل فيها هي أكفانه فهو كالمدرج، ويمكن أن يقال نهيهم له عن كشف وجهه يدل على المنع من الاقتراب من الميت، ولكن يتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينهه، ويجاب بأن عدم نهيهم عن نهيه يدل على تقرير نهيهم، فتبين أن الدخول الثابت في الأحاديث الثلاثة كان في حالة الإدراج أو في حالة تقوم مقامها. قال ابن رشيد: المعنى الذي في الحديثين من كشف الميت بعد تسجيته مساو لحاله بعد تكفينه والله أعلم. وفي هذه الأحاديث جواز تقبيل الميت تعظيما وتبركا1 وجواز التفدية بالآباء والأمهات، وقد يقال هي لفظة اعتادت العرب أن تقولها ولا تقصد معناها الحقيقي إذ حقيقة التفدية بعد الموت لا تتصور، وجواز البكاء على الميت، وسيأتي مبسوطا. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك، ومعمر هو ابن راشد، ويونس هو ابن يزيد، والسنح بضم المهملة وسكون النون بعدها حاء مهملة منازل بني الحارث بن الخزرج وكان أبو بكر متزوجا فيهم. قوله: "فتيمم" أي قصد. وبرد حبرة بكسر المهملة وفتح الموحدة بوزن عنبة، ويجوز فيه التنوين على الوصف، وعدمه على الإضافة، وهي نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن. قوله: "فقبله" أي بين عينيه. وقد ترجم عليه النسائي وأورده صريحا. وقوله: "التي كتب الله" في رواية الكشميهني: "التي كتب" بضم أوله على البناء للمجهول. قوله: "أنه اقتسم" الهاء ضمير الشأن واقتسم بضم المثناة، والمعنى أن الأنصار اقترعوا على سكنى المهاجرين لما دخلوا عليهم المدينة. وقولها "فطار لنا" أي وقع في سهمنا، وذكره بعض المغاربة بالصاد "فصار لنا" وهو صحيح من حيث المعنى إن ثبتت الرواية. وقولها "أبا السائب" تعني عثمان المذكور. قوله: "ما يفعل بي" في رواية الكشميهني: "به" وهو غلط منه، فإن المحفوظ في رواية الليث هذا، ولذلك عقبه المصنف برواية نافع بن يزيد عن عقيل التي لفظها "ما يفعل به" وعلق منها هذا القدر فقط إشارة إلى أن باقي الحديث لم يختلف فيه، ورواية نافع المذكورة وصلها الإسماعيلي، وأما متابعة شعيب فستأتي في أواخر الشهادات موصولة، وأما متابعة عمرو بن دينار فوصلها ابن أبي عمر في مسنده عن ابن عيينة عنه، وأما متابعة معمر فوصلها المصنف في التعبير من طريق ابن المبارك عنه، وقد وصلها عبد الرزاق عن معمر أيضا. ورويناها في مسند عبد بن حميد قال أخبرنا عبد الرزاق ولفظه: "فوالله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم" وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك موافقة لقوله تعالى في سورة الأحقاف {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ}
ـــــــ
1 قوله: "وتبركا" هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم جائز لما جعل الله في جسده من البركة, وأما من سواه من الأموات فلا يجوز أن يقبل للتبرك, لأن غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليه, ولأن فعل ذلك مع غيره وسيلة إلى الشرك فيمنع, لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا مثل هذا مع غير النبي صلى الله عليه وسلم للتبرك وهم أعلم الناس بما يجيزه الشرع. والله أعلم.

(3/115)


وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} لأن الأحقاف مكية، وسورة الفتح مدنية بلا خلاف فيهما، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أول من يدخل الجنة" وغير ذلك من الأخبار الصريحة في معناه، فيحتمل أن يحمل الإثبات في ذلك على العلم المجمل، والنفي على الإحاطة من حيث التفصيل. قوله: "وينهوني" في رواية الكشميهني: "وينهونني" وهو أوجه، وفاطمة عمة جابر وهي شقيقة أبيه عبد الله بن عمرو، و "أو" في قوله: "تبكين أو لا تبكين" للتخيير، ومعناه أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه، ويحتمل أن يكون شكا من الراوي، وسيأتي البحث فيه في كتاب الجهاد. قوله: "تابعه ابن جريج إلخ" وصله مسلم من طريق عبد الرزاق عنه، وأوله "جاء قومي بأبي قتيلا يوم أحد".

(3/116)


4 - باب الرَّجُلِ يَنْعَى إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ
1245 - حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه خرج إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعا"
[الحديث 1245 – أطرافه في: 1318, 1327, 1333, 3880, 3881]
1246 - حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن حميد بن هلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب -وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان- ثم أخذها خالد بن الوليد إمرة ففتح له"
[الحديث 1246 – أطرافه في: 2798, 3063, 3630, 3757, 6342]
قوله: "باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه" كذا في أكثر الروايات، ووقع للكشميهني بحذف الموحدة.
وفي رواية الأصيلي بحذف "أهل" فعلى الرواية المشهورة يكون المفعول محذوفا والضمير في قوله: "بنفسه" للراجل الذي ينعى الميت إلى أهل الميت بنفسه. وقال الزين بن المنير: الضمير للميت لأن الذي ينكر عادة هو نعي الناس لما يدخل على القلب من هول الموت انتهى، والأول أولى، وأشار المهلب إلى أن في الترجمة خللا قال: والصواب الرجل ينعى إلى الناس الميت بنفسه كذا قال، ولم يصنع شيئا إلا أنه أبدل لفظ الأهل بالناس، وأثبت المفعول المحذوف، ولعله كان ثابتا في الأصل فسقط أو حذف عمدا لدلالة الكلام عليه، أو لفظ: "ينعى" بضم أوله، والمراد بالرجل الميت والضمير حينئذ له كما قال الزين بن المنير، ويستقيم عليه رواية الكشميهني. وأما التفكير بالأهل فلا خلل فيه لأن مراده به ما هو أعم من القرابة وهو أخوة الدين، وهو أولى من التعبير بالناس لأنه يخرج من ليس له به أهلية كالكفار، وأما رواية الأصيلي فقال ابن رشيد إنها فاسدة، قال: وفائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعا كله، وإنما نهي عما كان أهل الجاهلية يصنعونه فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق. وقال ابن المرابط: مراده أن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح وإن

(3/116)


كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمة لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته وتهيئة أمره والصلاة عليه والدعاء له والاستغفار وتنفيذ وصاياه وما يترتب على ذلك من الأحكام.
وأما نعي الجاهلية فقال سعيد بن منصور "أخبرنا ابن علية عن ابن عون قال قلت لإبراهيم: أكانوا يكرهون النعي؟ قال: نعم. قال ابن عون: كانوا إذا توفي الرجل ركب رجل دابة ثم صاح في الناس: أنعي فلانا" وبه إلى ابن عون قال: قال ابن سيرين: لا أعلم بأسا أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه. وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره، فإن زاد على ذلك فلا، وقد كان بعض السلف يشدد في ذلك حتى "كان حذيفة إذا مات له الميت يقول: لا تؤذنوا به أحدا، إني أخاف أن يكون نعيا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين ينهى عن النعي" أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن، قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات، الأولى إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة، الثانية دعوة الحفل للمفاخرة فهذه تكره، الثالثة الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث أبي هريرة في الصلاة على النجاشي وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الجنائز، ثانيهما حديث أنس في قصة قتل الأمراء بمؤتة وسيأتي الكلام عليه في المغازي. وورد في علامات النبوة بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا" الحديث، قال الزين بن المنير: وجه دخول قصة الأمراء في الترجمة أن نعيهم كان لأقاربهم وللمسلمين الذين هم أهلهم من جهة الدين، ووجه دخول قصة النجاشي كونه كان غريبا في ديار قومه فكان للمسلمين من حيث الإسلام أخا فكانوا أخص به من قرابته. قلت: ويحتمل أن يكون بعض أقرباء النجاشي كان بالمدينة حينئذ ممن قدم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة كذي مخمر ابن أخي النجاشي فيستوي الحديثان في إعلام أهل كل منهما حقيقة ومجازا.

(3/117)


باب الإذن باجنازة
...
5 - باب الإِذْنِ بِالْجَنَازَةِ
وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ كنتم آذَنْتُمُونِي" ؟
1247 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلاً فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ فَقَالَ مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي قَالُوا كَانَ اللَّيْلُ فَكَرِهْنَا وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْه"ِ
قوله: "باب الإذن بالجنازة" قال ابن رشيد: ضبطناه بكسر الهمزة وسكون المعجمة، وضبطه ابن المرابط بمد الهمزة وكسر الذال على وزن الفاعل. قلت: والأول أوجه، والمعنى الإعلام بالجنازة إذا انتهى أمرها ليصلى عليها. قيل: هذه الترجمة تغاير التي قبلها من جهة أن المراد بها الإعلام بالنفس وبالغير، قال الزين بن المنير: هي مرتبة على التي قبلها لأن النعي إعلام من لم يتقدم له علم بالميت، والإذن إعلام من علم بتهيئة أمره وهو حسن. قوله: "قال أبو رافع عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا كنتم آذنتموني" هذا طرف من حديث تقدم الكلام عليه مستوفى في "باب كنس المسجد" ومناسبته للترجمة واضحة. قوله: "حدثني محمد" هو ابن سلام كما جزم به أبو علي بن السكن في روايته عن الفربري، وأبو معاوية هو الضرير. قوله: "مات إنسان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده" وقع في شرح الشيخ سراج الدين عمر بن الملقن أنه الميت المذكور في حديث أبي هريرة الذي كان يقم المسجد،

(3/117)


وهو وهم منه لتغاير القصتين، فقد تقدم أن الصحيح في الأول أنها امرأة وأنها أم محجن، وأما هذا فهو رجل واسمه طلحة بن البراء بن عمير البلوي حليف الأنصار روى حديثه أبو داود مختصرا والطبراني من طريق عروة بن سعيد الأنصاري عن أبيه عن حسين بن وحوح الأنصاري وهو بمهملتين بوزن جعفر "أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال. إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا" فلم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بني سالم بن عوف حتى توفي، وكان قال لأهله لما دخل الليل: إذا مت فادفنوني ولا تدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخاف عليه يهودا أن يصاب بسببي، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبح فجاء حتى وقف على قبره فصف الناس معه، ثم رفع يديه فقال: اللهم الق طلحة يضحك إليك وتضحك إليه. قوله: "كان الليل" بالرفع، وكذا قوله: "وكانت ظلمة" فكان فيهما تامة، وسيأتي الكلام على حكم الصلاة على القبر في "باب صفوف الصبيان مع الرجال على الجنازة" مع بقية الكلام على هذا الحديث.

(3/118)


6 - باب فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: من الآية155]
1248 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلاَثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ"
[الحديث 1248 – طرفه في: 1381]
1249 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا فَوَعَظَهُنَّ وَقَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ كَانُوا حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ "
1250 - وَقَالَ شَرِيكٌ عَنْ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَبُو هُرَيْرَةَ "لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ"
1251 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}
[الحديث 1251 – طرفه في: 6656]
قوله: "باب فضل من مات له ولد فاحتسب" قال الزين بن المنير: عبر المصنف بالفضل ليجمع بين مختلف الأحاديث الثلاثة التي أوردها، لأن في الأول دخول الجنة، وفي الثاني الحجب عن النار، وفي الثالث تقييد الولوج بتحلة القسم، وفي كل منها ثبوت الفضل لمن وقع له ذلك. ويجمع بينها بأن يقال: الدخول لا يستلزم الحجب ففي

(3/118)


ذكر الحجب فائدة زائدة لأنها تستلزم الدخول من أول وهلة، وأما الثالث فالمراد بالولوج الورود وهو المرور على النار كما سيأتي البحث فيه عند قوله: "إلا تحلة القسم" والمار عليها على أقسام: منهم من لا يسمع حسيسها وهم الذين سبقت لهم الحسنى من الله كما في القرآن، فلا تنافي مع هذا بين الولوج والحجب، وعبر بقوله: "ولد" ليتناول الواحد فصاعدا وإن كان حديث الباب قد قيد بثلاثة أو اثنتين، لكن وقع في بعض طرقه ذكر الواحد ففي حديث جابر بن سمرة مرفوعا: " من دفن ثلاثة فصبر عليهم واحتسب وجبت له الجنة، فقالت أم أيمن: أو اثنين؟ فقال: أو اثنين. فقالت: وواحد؟ فسكت ثم قال: وواحد " أخرجه الطبراني في الأوسط. وحديث ابن مسعود مرفوعا: "من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا من النار. قال أبو ذر: قدمت اثنين، قال: واثنين. قال أبي بن كعب: قدمت واحدا، قال: وواحدا" أخرجه الترمذي وقال: غريب، وعنده من حديث ابن عباس رفعه: "من كان له فرطان من أمتي أدخله الله الجنة. فقالت عائشة: فمن كان له فرط؟ قال: ومن كان له فرط" الحديث. وليس في شيء من هذه الطرق ما يصلح للاحتجاج، بل وقع في رواية شريك التي علق المصنف إسنادها كما سيأتي ولم يسأله عن الواحد، وروى النسائي وابن حبان من طريق حفص بن عبيد الله عن أنس أن المرأة التي قالت واثنان قالت بعد ذلك يا ليتني قلت وواحد. وروى أحمد من طريق محمود بن لبيد عن جابر رفعه: "من مات له ثلاث من الولد فاحتسبهم دخل الجنة. قلنا: يا رسول الله واثنان؟ قال محمود قلت لجابر أراكم لو قلتم وواحد لقال وواحد، قال: وأنا أظن ذلك" وهذه الأحاديث الثلاثة أصح من تلك الثلاثة، لكن روى المصنف من حديث أبي هريرة كما سيأتي في الرقاق مرفوعا: "يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" وهذا يدخل فيه الواحد فما فوقه، وهو أصح ما ورد في ذلك، وقوله: "فاحتسب" أي صبر راضيا بقضاء الله راجيا فضله، ولم يقع التقييد بذلك أيضا في أحاديث الباب، وكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه أيضا كما في حديث جابر بن سمرة المذكور قبل، وكذا في حديث جابر بن عبد الله. وفي رواية ابن حبان والنسائي من طريق حفص بن عبيد الله بن أنس عن أنس رفعه: "من احتسب من صلبه ثلاثة دخل الجنة" الحديث، ولمسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبهم إلا دخلت الجنة" الحديث، ولأحمد والطبراني من حديث عقبة بن عامر رفعه: "من أعطى ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله وجبت له الجنة" وفي الموطأ عن أبي النضر السلمي رفعه: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا جنة من النار" الحديث. وقد عرف من القواعد الشرعية أن الثواب لا يترتب إلا على النية، فلا بد من قيد الاحتساب، والأحاديث المطلقة محمولة على المقيدة، ولكن أشار الإسماعيلي إلى اعتراض لفظي فقال: يقال في البالغ احتسب وفي الصغير افترط انتهى. وبذلك قال الكثير من أهل اللغة، لكن لا يلزم من كون ذلك هو الأصل أن لا يستعمل هذا موضع هذا، بل ذكر ابن دريد وغيره احتسب فلان بكذا طلب أجرا عند الله، وهذا أعم من أن يكون لكبير أو صغير، وقد ثبت ذلك في الأحاديث التي ذكرناها وهي حجة في صحة هذا الاستعمال. قوله: "وقول الله عز وجل {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} " في رواية كريمة والأصيلي: "وقال الله" وأراد بذلك الآية التي في البقرة وقد وصف فيها الصابرون بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فكأن المصنف أراد تقييد ما أطلق في الحديث بهذه الآية الدالة على ترك

(3/119)


القلق والجزع، ولفظ: "المصيبة" قي الآية وإن كان عاما لكنه يتناول المصيبة بالولد فهو من أفراده. قوله: "حدثنا عبد العزيز" هو ابن صهيب وصرح به في رواية ابن ماجه والإسماعيلي من هذا الوجه، والإسناد كله بصريون. قوله: "ما من الناس من مسلم" قيده به ليخرج الكافر، ومن الأولى بيانية والثانية زائدة، وسقطت من في رواية ابن علية عن عبد العزيز كما سيأتي في أواخر الجنائز، و "مسلم" اسم ما والاستثناء وما معه الخبر، والحديث ظاهر في اختصاص ذلك بالمسلم لكن هل يحصل ذلك لمن مات له أولاد في الكفر ثم أسلم؟ فيه نظر، ويدل على عدم ذلك حديث أبي ثعلبة الأشجعي قال: " قلت يا رسول الله مات لي ولدان، قال: من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة " أخرجه أحمد والطبراني، وعن عمرو بن عبسة مرفوعا: "من مات له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا أدخله الله الجنة" أخرجه أحمد أيضا. وأخرج أيضا عن رجاء الأسلمية قالت: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله لي في ابن لي بالبركة فإنه قد توفي له ثلاثة، فقال: أمنذ أسلمت؟ قالت: نعم" . فذكر الحديث. قوله: "يتوفى له" بضم أوله ووقع في رواية ابن ماجه المذكورة "ما من مسلمين يتوفى لهما "والظاهر أن المراد من ولده الرجل حقيقة، ويدل عليه رواية النسائي المذكورة من طريق حفص عن أنس ففيها "ثلاثة من صلبه"، وكذا حديث عقبة بن عامر، وهل يدخل في الأولاد أولاد الأولاد؟ محل بحث، والذي يظهر أن أولاد الصلب يدخلون ولا سيما عند فقد الوسائط بينهم وبين الأب، وفي التقيد بكونهم من صلبه ما يدل على إخراج أولاد البنات. قوله: "ثلاثة" كذا للأكثر وهو الموجود في غير البخاري ووقع في رواية الأصيلي وكريمة: "ثلاث" بحذف الهاء وهو جائز لكون المميز محذوفا. قوله: "لم يبلغوا الحنث" كذا للجميع بكسر المهملة وسكون النون بعدها مثلثة، وحكى ابن قرقول عن الداودي أنه ضبطه بفتح المعجمة والموحدة وفسره بأن المراد لم يبلغوا أن يعملوا المعاصي، قال ولم يذكره كذلك غيره، والمحفوظ الأول، والمعنى لم يبلغوا الحلم فتكتب عليهم الآثام. قال الخليل: بلغ الغلام الحنث إذا جرى عليه القلم، والحنث الذنب قال الله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} وقيل المراد بلغ إلى زمان يؤاخذ بيمينه إذا حنث. وقال الراغب: عبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان يؤاخذ بما يرتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر لأنه الذي يحصل بالبلوغ لأن الصبي قد يثاب، وخص الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر، وعلى هذا فمن بلع الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة، وبهذا صرح كثير من العلماء، وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصور منه العقوق المقتضى لعدم الرحمة بخلاف الصغير فإنه لا يتصور منه ذلك إذ ليس بمخاطب. وقال الزين بن المنير: بل يدخل الكبير في ذلك من طريق الفحوي لأنه إذا ثبت ذلك في الطفل الذي هو كل على أبويه فكيف لا يثبت في الكبير الذي بلغ معه السعي ووصل له منه النفع وتوجه إليه الخطاب بالحقوق؟ قال: ولعل هذا هو السر في إلغاء البخاري التقييد بذلك في الترجمة. انتهى. ويقوي الأول قوله في بقية الحديث: "بفضل رحمته إياهم "لأن الرحمة للصغار أكثر لعدم حصول الإثم منهم، وهل يلتحق بالصغار من بلغ مجنونا مثلا واستمر على ذلك فمات؟ فيه نظر لأن كونهم لا إثم عليهم يقتضي الإلحاق، وكون الامتحان بهم يخف بموتهم يقتضي عدمه، ولم يقع التقييد في طرق الحديث بشده الحب ولا عدمه، وكان القياس يقتضي ذلك لما يوجد من كراهة بعض الناس

(3/120)


لولده وتبرمه منه ولا سيما من كان ضيق الحال، لكن لما كان الولد مظنة المحبة والشفقة نيط به الحكم وإن تخلف في بعض الأفراد. قوله: "إلا أدخله الله الجنة" في حديث عتبة بن عبد الله السلمي عند ابن ماجه بإسناد حسن نحو حديث الباب لكن فيه: "إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل" وهذا زائد على مطلق دخول الجنة، ويشهد له ما رواه النسائي بإسناد صحيح من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا في أثناء حديث: "ما يسرك أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك". قوله: "بفضل رحمته إياهم" أي بفضل رحمة الله للأولاد. وقال ابن التين: قيل إن الضمير في رحمته للأب لكونه كان يرحمهم في الدنيا فيجازى بالرحمة في الآخرة والأول أولى، ويؤيده أن في رواية ابن ماجه من هذا الوجه "بفضل رحمة الله إياهم "وللنسائي من حديث أبي ذر "إلا غفر الله لهما بفضل رحمته" وللطبراني وابن حبان من حديث الحارث بن أقيش وهو بقاف ومعجمة مصغر مرفوعا: "ما من مسلمين يموت لهما أربعة أولاد إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته" وكذا في حديث عمرو بن عبسة كما سنذكره قريبا. وقال الكرماني: الظاهر أن المراد بقوله: "إياهم" جنس المسلم الذي مات أولاده لا الأولاد، أي بفضل رحمة الله لمن مات لهم، قال وساغ الجمع لكونه نكرة في سياق النفي فتعمم انتهى. وهذا الذي زعم أنه ظاهر ليس بظاهر، بل في غير هذا الطريق ما يدل على أن الضمير للأولاد، ففي حديث عمرو بن عبسة عند الطبراني "إلا أدخله الله برحمته هو وإياهم الجنة" وفي حديث أبي ثعلبة الأشجعي المقدم ذكره "أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم" قاله بعد قوله: "من مات له ولدان" فوضح بذلك أن الضمير في قوله: "إياهم" للأولاد لا للآباء والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد الرحمن ابن الأصبهاني" في رواية الأصيلي: "أخبرنا" واسم والد عبد الرحمن المذكور عبد الله، قال البخاري في التاريخ: إن أصله من أصبهان لما فتحها أبو موسى. وقال غيره كان عبد الله يتجر إلى أصبهان فقيل له الأصبهاني، ولا منافاة بين القولين فيما يظهر لي. قوله: "عن ذكوان" هو أبو صالح السمان المذكور في الإسناد المعلق الذي يليه، وقد تقدم في العلم من رواية ابن الأصبهاني أيضا عن أبي حازم عن أبي هريرة، فتحصل له روايته عن شيخين، ولشيخه أبي صالح روايته عن شيخين. قوله: "اجعل لنا يوما" تقدم في العلم بأتم من هذا السياق مع الكلام منه على ما لا يتكرر هنا إن شاء الله تعالى. قوله: "أيما امرأة" إنما خص المرأة بالذكر لأن الخطاب حينئذ كان للنساء وليس له مفهوم لما في بقية الطرق. قوله: "ثلاثة" في رواية أبي ذر "ثلاث" وقد تقدم توجيهه. قوله: "من الولد" بفتحتين وهو يشمل الذكر والأنثى والمفرد والجمع. قوله: "كانوا" في رواية المستملي والحموي "كن" بضم الكاف وتشديد النون، وكأنه أنث باعتبار النفس أو النسمة. وفي رواية أبي الوقت "إلا كانوا لها حجابا". قوله: "قالت امرأة" هي أم سليم الأنصارية والدة أنس بن مالك كما رواه الطبراني بإسناد جيد عنها قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده: ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة لم يبلغوا الحلم إلا أدخله الجنة بفضل رحمته إياهم، فقلت: واثنان؟ قال: واثنان" وأخرجه أحمد لكن الحديث دون القصة، ووقع لأم مبشر الأنصارية أيضا السؤال عن ذلك، فروى الطبراني أيضا من طريق ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم مبشر فقال: يا أم مبشر، من مات له ثلاثة من الولد دخل الجنة. فقلت: يا رسول الله واثنان؟ فسكت ثم قال: نعم واثنان" وقد تقدم من حديث جابر بن سمرة أن أم أيمن ممن سأل عن ذلك ومن حديث ابن عباس أن عائشة أيضا منهن، وحكى ابن بشكوال أن أم

(3/121)


هانئ أيضا سألت عن ذلك، ويحتمل أن يكون كل منهن سأل عن ذلك في ذلك المجلس، وأما تعدد القصة ففيه بعد لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الاثنين بعد ذكر الثلاثة وأجاب بأن الاثنين كذلك فالظاهر أنه كان أوحي إليه ذلك في الحال، وبذلك جزم ابن بطال وغيره، وإذا كان كذلك كان الاقتصار على الثلاثة بعد ذلك مستبعدا جدا لأن مفهومه يخرج الاثنين اللذين ثبت لهما ذلك الحكم بالوحي بناء على القول بمفهوم العدد وهو معتبر هنا كما سيأتي البحث فيه، نعم قد تقدم في حديث جابر بن عبد الله أنه ممن سأل عن ذلك، وروى الحاكم والبزار من حديث بريدة أن عمر سأل عن ذلك أيضا ولفظه: " ما من امرئ ولا امرأة يموت له ثلاثة أولاد إلا أدخله الله الجنة. فقال عمر: يا رسول الله واثنان؟ قال: واثنان" . قال الحاكم صحيح الإسناد، وهذا لا بعد في تعدده لأن خطاب النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال به. قوله: "واثنان" قال ابن التين تبعا لعياض: هذا يدل على أن مفهوم العدد ليس بحجة لأن الصحابية من أهل اللسان ولم تعتبره إذ لو اعتبرته لانتفى الحكم عندها عما عدا الثلاثة لكنها جوزت لك فسألته، كذا قال والظاهر أنها اعتبرت مفهوم العدد إذ لو لم تعتبره لم تسأل، والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست يقينية إنما هي محتملة ومن ثم وقع السؤال عن ذلك. قال القرطبي: وإنما خصمت الثلاثة بالذكر لأنها أول مراتب الكثرة فبعظم المصيبة يكثر الأجر، فأما إذا زاد عليها فقد يخف أمر المصيبة لأنها تصير كالعادة كما قيل:
روعت بالبين حتى ما أراع له. انتهى. وهذا مصير منه إلى انحصار الأجر المذكور في الثلاثة ثم في الاثنين بخلاف الأربعة والخمسة، وهو جمود شديد، فإن من مات له أربعة فقد مات له ثلاثة ضرورة لأنهم إن ماتوا دفعة واحدة فقد مات له ثلاثة وزيادة، ولا خفاء بأن المصيبة بذلك أشد، وإن ماتوا واحدا بعد واحد فإن الأجر يحصل له عند موت الثالث بمقتضى وعد الصادق، فيلزم على قول القرطبي أنه إن مات له الرابع أن يرتفع عنه ذلك الأجر مع تجدد المصيبة وكفى بهذا فسادا، والحق أن تناول الخبر الأربعة فما فوقها من باب أولى وأحرى، ويؤيد ذلك أنهم لم يسألوا عن الأربعة ولا ما فوقها لأنه كالمعلوم عندهم إذ المصيبة إذا كثرت كان الأجر أعظم والله أعلم. وقال القرطبي أيضا: يحتمل أن يفترق الحال في ذلك بافتراق حال المصاب من زيادة رقة القلب وشدة الحب ونحو ذلك، وقد قدمنا الجواب عن ذلك.
" تنبيه ": قوله: "واثنان" أي وإذا مات اثنان ما الحكم؟ فقال: "واثنان "أي وإذا مات اثنان فالحكم كذلك. ووقع في رواية مسلم من هذا الوجه "واثنين بالنصب" أي وما حكم اثنين. وفي رواية سهل المتقدم ذكرها أو اثنان، وهو ظاهر في التسوية بين حكم الثلاثة والاثنين، وقد تقدم النقل عن ابن بطال أنه محمول على أنه أوحى إليه بذلك في الحال، ولا بعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين، ويحتمل أن يكون كان العلم عنده بذلك حاصلا لكنه أشفق عليهم أن يتكلوا لأن موت الاثنين غالبا أكثر من موت الثلاثة ما وقع في حديث معاذ وغيره في الشهادة بالتوحيد، ثم لما سئل عن ذلك لم يكن بد من الجواب والله أعلم. قوله: "وقال شريك إلخ" وصله ابن أبي شيبة عنه بلفظ: "حدثنا عبد الرحمن ابن الأصبهاني قال: أتاني أبو صالح يعزيني عن ابن لي فأخذ يحدث عن أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من امرأة تدفن ثلاثة أفراط إلا كانوا لها حجابا من النار. فقالت امرأة: يا رسول الله قدمت اثنين، قال: واثنين " ولم تسأله عن الواحد. قال أبو هريرة "من لم يبلغ الحنث" وهذا السياق ظاهره أن هذه الزيادة عن أبي هريرة موقوفة، ويحتمل أن يكون المراد أن أبا هريرة وأبا سعيد اتفقا على السياق المرفوع، وزاد أبو هريرة في حديثه هذا القيد وهو مرفوع أيضا، وقد تقدم في العلم

(3/122)


من طريق أخرى عن شعبة بالإسناد الأول وقال في آخره: "وعن ابن الأصبهاني سمعت أبا حازم عن أبي هريرة وقال: ثلاثة لم يبلغوا الحنث" وهذه الزيادة في حديث أبي سعيد من رواية شريك وفي حفظه نطر، لكنها ثابتة عند مسلم من رواية شعبة عن ابن الأصبهاني. وقوله: "ولم تسأله عن الواحد" تقدم ما يتعلق به في أول الباب ويأتي مزيد لذلك في "باب ثناء الناس على الميت" في أواخر كتاب الجنائز، ويأتي زيادة على ذلك في كتاب الرقاق في الكلام على الحديث الذي فيه موت الصبي وأن الصبي يتناول الولد الواحد. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد " وقع في "الأطراف" للمزي هنا "لم يبلغوا الحنث" وليست في رواية ابن عينة عند البخاري ولا مسلم وإنما هي في متن الطريق الآخر، وفائدة إيراد هذه الطريق الأخيرة عن أبي هريرة أيضا ما في سياقها من العموم في قوله: "لا يموت لمسلم إلخ" لشموله النساء والرجال، بخلاف روايته الماضية فإنها مقيدة بالنساء. قوله: "فيلج النار" بالنصب لأن الفعل المضارع ينصب بعد النفي بتقدير أن، لكن حكى الطيبي أن شرطه أن يكون بين ما قبل الفاء وما بعدها سببية ولا سببية هنا إذ لا يجوز أن يكون موت الأولاد ولا عدمه سببا لولوج من ولدهم النار، قال: وإنما الفاء بمعنى الواو التي للجمع وتقريره لا يجتمع لمسلم موت ثلاثة من ولده وولوجه النار، لا محيد عن ذلك إن كانت الرواية بالنصب، وهذا قد تلقاه جماعة عن الطيبي وأقروه عليه، وفيه نظر لأن السببية حاصلة بالنظر إلى الإسناء لأن الاستثناء بعد النفي إثبات، فكأن المعنى أن تخفيف الولوج مسبب عن موت الأولاد، وهو ظاهر لأن الولوج عام وتخفيفه يقع بأمور منها موت الأولاد بشرطه، وما ادعاه من أن الفاء بمعنى الواو التي للجمع فيه نظر، ووجدت في شرح المشارق للشيخ أكمل الدين المعنى أن الفعل الثاني لم يحصل عقب الأول فكأنه نفي وقوعهما بصفة أن يكون الثاني عقب الأول لأن المقصود نفي الولوج عقب الموت، قال الطيبي: وإن كانت الرواية بالرفع فمعناه لا يوجد ولوج النار عقب موت الأولاد إلا مقدارا يسيرا انتهى. ووقع في رواية مالك عن الزهري كما سيأتي في الأيمان والنذور بلفظ: " لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم" وقوله تمسه بالرفع جزما والله أعلم. قوله: "إلا تحلة القسم" بفتح المثناة وكسر المهملة وتشديد اللام أي ما ينحل به القسم وهو اليمين وهو مصدر حلل اليمين أي كفرها يقال حلل تحليلا وتحلة وتحلا بغير هاء والثالث شاذ. وقال أهل اللغة يقال فعلته تحلة القسم أي قدر ما حللت به يميني ولم أبالغ. وقال الخطابي: حللت القسم تحلة أي أبررتها. وقال القرطبي: اختلف في المراد بهذا القسم فقيل هو معين وقيل غير معين. فالجمهور على الأول، وقيل لم يعن به قسم بعينه وإنما معناه التقليل لأمر ورودها وهذا اللفظ يستعمل في هذا تقول: لا ينام هذا إلا لتحليل الألية، وتقول ما ضربته إلا تحليلا إذا لم تبالغ في الضرب أي قدرا يصيبه منه مكروه. وقيل: الاستثناء بمعنى الواو أي لا تمسه النار قليلا ولا كثيرا ولا تحلة القسم، وقد جوز الفراء والأخفش مجيء إلا بمعنى الواو وجعلوا منه قوله تعالى: {لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ} والأول قول الجمهور وبه جزم أبو عبيد وغيره, وقالوا: المراد به قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قال الخطابي: معناه لا يدخل النار ليعاقب بها ولكنه يدخلها مجتازا ولا يكون ذلك الجواز إلا قدر ما يحلل به الرجل يمينه، ويدل على ذلك ما وقع عند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في آخر هذا الحديث: "إلا تحلة القسم " يعني الورود. وفي سنن سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة في آخره: ثم قرأ سفيان {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ومن

(3/123)


طريق زمعة بن صالح عن الزهري في آخره: قيل وما تحلة القسم؟ قال: قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} وكذا وقع في رواية كريمة في الأصل، قال أبو عبد الله {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} وكذا حكاه عبد الملك بن حبيب عن مالك في تفسير هذا الحديث، وورد نحوه من طريق أخرى في هذا الحديث رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن بشر الأنصاري مرفوعا: " من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل" يعني الجواز على الصراط، وجاء مثله من حديث آخر أخرجه الطبراني من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه مرفوعا: " من حرس وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله عز وجل قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} , واختلف في موضع القسم من الآية فقيل هو مقدر أي والله إن منكم، وقيل معطوف على القسم الماضي في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} أي وربك إن منكم، وقيل هو مستفاد من قوله تعالى: {حَتْماً مَقْضِيّاً} أي قسما واجبا كذا رواه الطبراني وغيره من طريق مرة عن ابن مسعود ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ومن طريق سعيد عن قتادة في تفسير هذه الآية. وقال الطيبي يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق، فإن قوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ} تذييل وتقرير لقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ} فهذا بمنزلة القسم بل أبلغ لمجيء الاستثناء بالنفي والإثبات، واختلف السلف في المراد بالورود في الآية، فقيل هو الدخول روى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار أخبرني من سمع من ابن عباس فذكره، وروى أحمد والنسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعا: "الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما"، وروى الترمذي وابن أبي حاتم من طريق السدي سمعت مرة يحدث عن عبد الله بن مسعود قال يردونها أو يلجونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم، قال عبد الرحمن ابن مهدي قلت لشعبة: إن إسرائيل يرفعه، قال: صدق وعمدا أدعه. ثم رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل مرفوعا، وقيل المراد بالورود الممر عليها رواه الطبري وغيره من طريق بشر بن سعيد عن أبي هريرة، ومن طريق أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، ومن طريق معمر وسعيد عن قتادة، ومن طريق كعب الأحبار وزاد: "يستوون كلهم على متنها، ثم ينادي مناد أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فيخرج المؤمنون ندية أبدانهم"، وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك ولا تنافي بينهما، لأن من عبر بالدخول تجوز به عن المرور، ووجهه أن المار عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوال المارة باختلاف أعمالهم فأعلاهم درجة من يمر كلمع البرق كما سيأتي تفصيل ذلك عند شرح حديث الشفاعة في الرقاق إن شاء الله تعالى، ويؤيد صحة هذا التأويل ما رواه مسلم من حديث أم مبشر "إن حفصة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: لا يدخل أحد شهد الحديبية النار: أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فقال لها: أليس الله تعالى يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية" وفي هذا بيان ضعف قول من قال الورود مختص بالكفار ومن قال معنى الورود الدنو منها ومن قال معناه الإشراف عليها ومن قال معنى ورودها ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمى، على أن هذا الأخير ليس ببعيد ولا ينافيه بقية الأحاديث والله أعلم. وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم أن أولاد المسلمين في الجنة لأنه يبعد أن الله يغفر للآباء بفضل رحمته للأبناء ولا يرحم الأبناء قاله المهلب. وكون أولاد المسلمين في الجنة قاله الجمهور ووقفت طائفة قليلة وسيأتي البحث في ذلك في أواخر كتاب

(3/124)


الجنائز إن شاء الله تعالى، وفيه أن من حلف أن لا يفعل1 كذا ثم فعل منه شيئا ولو قل برت يمينه خلافا لمالك قاله عياض وغيره.
ـــــــ
1 كذا في النسخ, والصواب "أن يفعل" باسقاط حرف النفي, وبذلك يستقيم الكلام. والله أعلم

(3/125)


7 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ اصْبِرِي
12452 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي"
[الحديث 1252 - أطر]فه في: 1283, 1302, 7154
قوله: "باب قول الرجل للمرأة عند القبر: اصبري" قال الزين بن المنير ما محصله: عبر بقوله رجل ليوضح أن ذلك لا يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعبر بالقول دون الموعظة ونحوها لكون ذلك الأمر يقع على القدر المشترك من الوعظ وغيره، واقتصر على ذكر الصبر دون التقوى لأنه المتيسر حينئذ المناسب لما هي فيه. قال: وموضع الترجمة من الفقه جواز مخاطبة الرجال النساء في مثل ذلك بما هو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو موعظة أو تعزية وأن ذلك لا يختص بعجوز دون شابة لما يترتب عليه من المصالح الدينية والله أعلم. قوله: "حدثنا آدم" سيأتي هذا الحديث بهذا الإسناد بعينه أتم من هذا في "باب زيارة القبور "بعد زياد على عشرين بابا، وسيأتي الكلام عليه هناك مستوفي إن شاء الله تعالى. ومناسبة هذه الترجمة لما قبلها لجامع ما بينهما من مخاطبة الرجل المرأة بالموعظة، لأن في الأول جواز مخاطبتها بما يرغبها في الأجر إذا احتسبت مصيبتها، وفي هذا مخاطبتها بما يرهبها من الإثم لما تضمنه الحديث من الإشارة إلى أن عدم الصبر ينافي التقوى. والله أعلم.

(3/125)


8 - باب غُسْلِ الْمَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ
وَحَنَّطَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ابْنًا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَلَهُ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْمُسْلِمُ لاَ يَنْجُسُ حَيًّا وَلاَ مَيِّتًا وَقَالَ سَعِيدٌ لَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسِسْتُهُ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ لاَ يَنْجُسُ"
1253 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ تَعْنِي إِزَارَهُ"
قوله: "باب غسل الميت ووضوئه" أي بيان حكمه، وقد نقل النووي الإجماع على أن غسل الميت فرض كفاية، وهو ذهول شديد، فإن الخلاف مشهور لمالكية حتى أن القرطبي رجح في شرح مسلم أنه سنة، ولكن

(3/125)


9 - باب مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغْسَلَ وِتْرًا
1254 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ" فَقَالَ أَيُّوبُ وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ وَكَانَ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ اغْسِلْنَهَا وِتْرًا وَكَانَ فِيهِ " ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا " وَكَانَ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ: " ابْدَءُوا بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا" وَكَانَ فِيهِ "أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ وَمَشَطْنَاهَا ثَلاَثَةَ قُرُونٍ"
قوله: "باب ما يستحب أن يغسل وترا" قال الزين بن المنير: يحتمل أن تكون "ما" مصدرية أو موصولة، والثاني أظهر. كذا قال وفيه نظر، لأنه لو كان المراد ذلك لوقع التعبير بمن التي لمن يعقل. ثم أورد المصنف فيه حديث أم عطية أيضا من رواية أيوب عن محمد وليس فيه التصريح بالوتر، ومن رواية أيوب قال حدثتني حفصة وفيه ذلك، وقد تقدم الكلام فيه قبل. ومحمد شيخه لم ينسب في أكثر الروايات، وقع عند الأصيلي حدثنا محمد بن المثنى. وقال الجياني: يحتمل أن يكون محمد بن سلام. وأخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن الوليد وهو البسري عن عبد الوهاب وهو من شيوخ البخاري أيضا. قوله: "فقال أيوب" كذا للأكثر بالفاء وهو بالإسناد المذكور، ووقع عند الأصيلي وقال بالواو فربما ظن معلقا وليس كذلك. وقد رواه الإسماعيلي بالإسنادين معا موصولا وسيأتي الكلام على ما في رواية حفصة من الزيادة فيما بعد. وقوله فيه: "وترا ثلاثا أو خمسا" استدل به على أن أقل الوتر ثلاث، ولا دلالة فيه لأنه سيق مساق البيان للمراد إذ لو أطلق لتناول الواحدة فما فوقها.

(3/130)


10 - باب يُبْدَأُ بِمَيَامِنِ الْمَيِّتِ
1525 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ: "ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا"
قوله: "باب يبدأ بميامن الميت" أي عند غسله، وكأنه أطلق في الترجمة ليشعر بأن غير الغسل يلحق به قياسا عليه. قوله: "حدثنا خالد" هو الحذاء، وحفصة هي بنت سيرين. قوله. "في غسل ابنته" في رواية هشيم عن خالد عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمرها أن تغسل ابنته قال لها.. فذكره. قوله: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء

(3/130)


11 - باب مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْ الْمَيِّتِ
1256 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "لَمَّا غَسَّلْنَا بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا وَنَحْنُ نَغْسِلُهَا: ابْدَءُوا بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ "
قوله: "باب مواضع الوضوء من الميت" أي يستحب البداءة بها. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "ابدؤوا" كذا للأكثر وللكشميهني: "ابدأن" وهو الوجه1 لأنه خطاب للنسوة. قوله: "ومواضع الوضوء" زاد أبو ذر "منها" واستدل به على استحباب المضمضة والاستنشاق في غسل الميت خلافا للحنفية، بل قالوا: لا يستحب وضوؤه أصلا، وإذا قلنا باستحبابه فهل يكون وضوءا حقيقيا بحيث يعاد غسل تلك لأعضاء في الغسل أو جزءا من الغسل بدئت به هذه الأعضاء تشريفا؟ الثاني أظهر من سياق الحديث، والبداءة بالميامن وبمواضع الوضوء مما زادته حفصة في روايتها عن أم عطية على أخيها محمد، وكذا المشط والضفر كما سيأتي.
ـــــــ
1 في نسخة "وهو الأوجه"

(3/131)


12 - باب هَلْ تُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِي إِزَارِ الرَّجُلِ
1257 - حدثنا عبد الرحمن بن حماد أخبرنا بن عون عن محمد عن أم عطية قالت "توفيت بنت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لنا: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن, فإذا فرغتن فآذنني. فلما فرغنا آذناه, فنزع من حقوه إزاره وقال: أشعرنها إياه"
قوله: "باب هل تكفن المرأة في إزار الرجل" أورد فيه حديث أم عطية أيضا. وشاهد الترجمة قوله فيه: "فأعطاها إزاره" قال ابن رشيد: أشار بقوله: "هل" إلى تردد عنده في المسألة، فكأنه أومأ إلى احتمال اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن المعنى الموجود فيه من البركة ونحوها قد لا يكون في غيره ولا سيما مع قرب عهده بعرقه الكريم، ولكن الأظهر الجواز، وقد نقل ابن بطال الاتفاق على ذلك، لكن لا يلزم من ذلك التعقب على البخاري لأنه إنما ترجم بالنظر إلى سياق الحديث وهو قابل للاحتمال. وقال الزين بن المنير نحوه وزاد احتمال الاختصاص بالمحرم أم بمن يكون في مثل إزار النبي صلى الله عليه وسلم وجسده من تحقق النظافة وعدم نفرة الزوج وغيرته أن تلبس زوجته لباس غيره.

(3/131)


باب يجعل الكافور في الأخيرة
...
13 - باب يُجْعَلُ الْكَافُورُ فِي آخِرِهِ
1258 - حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ "تُوُفِّيَتْ

(3/131)


14 - باب نَقْضِ شَعَرِ الْمَرْأَةِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لاَ بَأْسَ أَنْ يُنْقَضَ شَعَرُ الْمَيِّتِ
1260 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَيُّوبُ وَسَمِعْتُ حَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ قَالَتْ حَدَّثَتْنَا أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ نَقَضْنَهُ ثُمَّ غَسَلْنَهُ ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ"
قوله: "باب نقض شعر المرأة" أي الميتة قبل الغسل، والتقييد بالمرأة خرج مخرج الغالب أو الأكثر، وإلا فالرجل إذا كان له شعر ينقض لأجل التنظيف وليبلغ الماء البشرة، وذهب من منعه إلى أنه قد يفضي إلى انتتاف شعره، وأجاب من أثبته بأنه يضم إلى ما انتثر منه. قوله: "وقال ابن سيرين إلخ" وصله سعيد بن منصور من طريق أيوب عنه. قوله: "حدثنا أحمد" كذا للأكثر غير منسوب، ونسبه أبو علي بن شبويه عن الفربري "أحمد بن صالح". قوله: "قال أيوب" في رواية الإسماعيلي من طريق حرملة عن ابن وهب عن ابن جريج "أن أيوب بن أبي تميمة أخبره". قوله: "وسمعت" هو معطوف على محذوف تقديره سمعت كذا وسمعت حفصة، وسيأتي بيانه في الباب الذي بعده. قوله: "أنهن جعلن رأس بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون نقضنه ثم غسلنه" في رواية الإسماعيلي: "قالت نقضته" والظاهر أن القائلة أم عطية، ولعبد الرزاق عن معمر عن أيوب في هذا الحديث: "فقلت نقضته فغسلته

(3/132)


فجعلته ثلاثة قرون قالت نعم" والمراد بالرأس شعر الرأس فهو من مجاز المجاورة، وفائدة النقض تبليغ الماء البشرة وتنظيف الشعر من الأوساخ. ولمسلم من رواية أيوب عن حفصة عن أم عطية "مشطناها ثلاثة قرون" وهو بتخفيف المعجمة أي سرحناها بالمشط، وفيه حجة للشافعي ومن وافقه على استحباب تسريح الشعر، واعتل من كرهه بتقطيع الشعر، والرفق يؤمن معه ذلك.

(3/133)


15 - باب كَيْفَ الإِشْعَارُ لِلْمَيِّتِ ؟
وَقَالَ الْحَسَنُ الْخِرْقَةُ الْخَامِسَةُ تَشُدُّ بِهَا الْفَخِذَيْنِ وَالْوَرِكَيْنِ تَحْتَ الدِّرْعِ
1261 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ سِيرِينَ يَقُولُ "جَاءَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ مِنْ اللاَتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَتْ الْبَصْرَةَ تُبَادِرُ ابْنًا لَهَا فَلَمْ تُدْرِكْهُ فَحَدَّثَتْنَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي قَالَتْ فَلَمَّا فَرَغْنَا أَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ" وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. وَلاَ أَدْرِي أَيُّ بَنَاتِهِ وَزَعَمَ أَنَّ الإِشْعَارَ الْفُفْنَهَا فِيهِ وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَأْمُرُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُشْعَرَ وَلاَ تُؤْزَرَ
قوله: "باب كيف الإشعار للميت" أورد فيه حديث أم عطية أيضا، وإنما أفرد له هذه الترجمة لقوله في هذا السياق "وزعم أن الإشعار الففنها فيه" وفيه اختصار والتقدير وزعم أن معنى قوله أشعرنها إياها الففنها، وهو ظاهر اللفظ، لأن الشعار ما يلي الجسد من الثياب. والقائل في هذه الرواية: "وزعم" هو أيوب. وذكر ابن بطال أنه ابن سيرين، والأول أولى، ومد بينه عبد الرزاق في روايته عن ابن جريج قال: "قلت لأيوب قوله أشعرنها تؤزر به؟ قال: ما أراه إلا قال الففنها فيه". قوله: "وقال الحسن الخرقة الخامسة إلخ" هذا يدل على أن أول الكلام أن المرأة تكفن في خمسة أثواب. وقد وصله ابن أبي شيبة نحوه. وروى الجوزقي من طريق إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن هشام عن حفصة عن أم عطية قالت: "فكفناها في خمسة أثواب وخمرناها كما يخمر الحي" وهذه الزيادة صحيحة الإسناد، وقول الحسن في الخرقة الخامسة قال به زفر. وقالت طائفة: تشد على صدرها لتضم أكفانها، وكأن المصنف أشار إلى موافقة قول زفر: ولا يكره القميص للمرأة على الراجح عند الشافعية والحنابلة. قوله: "حدثنا أحمد" كذا للأكثر غير منسوب. وقال أبو علي بن شبويه في روايته: "حدثنا أحمد يعني ابن صالح".
"فائدة": قوله: "ولا أدري أي بناته" هو مقول أيوب، وفيه دليل على أنه لم يسمع تسميتها من حفصة، وقد تقدم قريبا من وجه آخر عنه أنها أم كلثوم.

(3/133)


16 - باب هَلْ يُجْعَلُ شَعَرُ الْمَرْأَةِ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ
قوله: "باب يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون" أي ضفائر.
1262 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أُمِّ الْهُذَيْلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "ضَفَرْنَا شَعَرَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" تَعْنِي ثَلاَثَةَ قُرُونٍ وَقَالَ وَكِيعٌ قَالَ سُفْيَانُ "نَاصِيَتَهَا وَقَرْنَيْهَا"

(3/133)


17 - باب يُلْقَى شَعَرُ الْمَرْأَةِ خَلْفَهَا
1263 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ قَالَ حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا بِالسِّدْرِ وِتْرًا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَضَفَرْنَا شَعَرَهَا ثَلاَثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا"
قوله: "باب يلقى شعر المرأة خلفها" في رواية الأصيلي وأبي الوقت "يجعل" وزاد الحموي "ثلاثة قرون" ثم أورد المصنف حديث أم عطية من رواية هشام بن حسان عن حفصة وفيه: "فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها" أخرجه مسدد عن يحيى بن سعيد، وقد أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بلفظ: "ومشطناها" وقد تقدم ذلك من رواية الثوري عن هشام أيضا، وعند عبد الرزاق من طريق أيوب عن حفصة "ضفرنا رأسها ثلاثة قرون ناصيتها وقرنيها وألقيناه إلى خلفها" قال ابن دقيق العيد: فيه استحباب تسريح المرأة وتضفيرها، وزاد بعض الشافعية أن تجعل الثلاث خلف ظهرها، وأورد فيه حديثا غريبا، كذا قال وهو مما يتعجب منه مع كون الزيادة في صحيح البخاري، وقد توبع راويها عليها كما تراه. في هذا الحديث من الفوائد -غير ما تقدم في هذه التراجم العشر- تعليم الإمام من لا علم له بالأمر الذي يقع فيه، وتفويضه إليه إذا كان أهلا لذلك بعد أن ينبهه على علة الحكم.

(3/134)


واستدل به على أن الغسل من غسل الميت ليس بواجب لأنه موضع تعليم ولم يأمر به، وفيه نظر لاحتمال أن يكون شرع بعد هذه الواقعة. وقال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بوجوبه. وكأنه ما درى أن الشافعي علق القول به على صحة الحديث، والخلاف فيه ثابت عند المالكية وصار إليه بعض الشافعية أيضا. وقال ابن بزيزة: الظاهر أنه مستحب، والحكمة فيه تتعلق بالميت، لأن الغاسل إذا علم أنه سيغتسل لم يتحفظ من شيء يصيبه من أثر الغسل فيبالغ في تنظيف الميت وهو مطمئن، ويحتمل أن يتعلق بالغاسل ليكون عند فراغه على يقين من طهارة جسده مما لعله أن يكون أصابه من رشاش ونحوه انتهى1 واستدل به بعض الحنفية على أن الزوج لا يتولى غسل زوجته، لأن زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم كان حاضرا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم النسوة بغسل ابنته دون الزوج، وتعقب بأنه يتوقف على صحة دعوى أنه كان حاضرا، وعلى تقدير تسليمه فيحتاج إلى ثبوت أنه لم يكن به مانع من ذلك ولا آثر النسوة على نفسه، وعلى تسليمه فغاية ما فيه أن يستدل به على أن النسوة أولى منه لا على منعه من ذلك لو أراده. والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
1 وقال بعضهم "إن الحكمة في ذلك –والله أعلم– جبر ما يحصل للغاسل من الضعف بسبب مشاهدة الميت وذكر الموت وما بعده, وهو معنى مناسب. والله أعلم

(3/135)


18 - باب الثِّيَابِ الْبِيضِ لِلْكَفَنِ
1264 - حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب يمانية وعثمان سحولية من كرسف ليس فيهن قميص ولا عمامة"
[الحديث 1264 – أطرافه في: 1271, 1272, 1273, 13887]
قوله: "باب الثياب البيض للكفن" أورد فيه حديث عائشة "كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض" الحديث، وتقرير الاستدلال به أن الله لم يكن ليختار لنبيه إلا الأفضل، وكأن المصنف لم يثبت على شرطه الحديث الصريح في الباب وهو ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس بلفظ: "البسوا ثياب البياض فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم" صححه الترمذي والحاكم، وله شاهد من حديث سمرة بن جندب أخرجوه وإسناده صحيح أيضا، وحكى بعض من صنف في الخلاف عن الحنفية أن المستحب عندهم أن يكون في أحدها ثوب حبرة، وكأنهم أخذوا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام كفن في ثوبين وبرد حبرة أخرجه أبو داود من حديث جابر وإسناده حسن، لكن روى مسلم والترمذي من حديث عائشة أنهم نزعوها عنه، قال الترمذي: وتكفينه في ثلاثة أثواب بيض أصح ما ورد في كفنه. وقال عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة "لف في برد حبرة جفف فيه ثم نوع عنه" يمكن أن يستدل لهم بعموم حديث أنس "كان أحب اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة" أخرجه الشيخان، وسيأتي في اللباس. والحبرة بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة ما كان من البرود مخططا.

(3/135)


19 - باب الْكَفَنِ فِي ثَوْبَيْنِ
1265 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

(3/135)


20 - باب الْحَنُوطِ لِلْمَيِّتِ
1266 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَأَقْصَعَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَقْعَصَتْهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلاَ تُحَنِّطُوهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا"
قوله: "باب الحنوط للميت" أي غير المحرم. حديث ابن عباس المذكور في الباب ورد عن شيخ آخر، وشاهد الترجمة قوله: "ولا تحنطوه" ثم علل بأنه يبعث ملبيا، فدل على أن سبب النهي أنه كان محرما، فإذا انتفت العلة انتفى النهي، وكأن الحنوط للميت كان مقررا عندهم. وكذا قوله: "لا تخمروا رأسه" أي لا تغطوه، قال البيهقي: فيه دليل على أن غير المحرم يحنط كما يخمر رأسه، وأن النهي إنما وقع لأجل الإحرام خلافا لمن قال من المالكية غيرهم إن الإحرام ينقطع بالموت فيصنع بالميت ما يصنع بالحي، قال ابن دقيق العيد: وهو مقتضى القياس، لكن الحديث بعد أن ثبت يقدم على القياس، وقد قال بعض المالكية: إثبات الحنوط في هذا الخبر بطريق المفهوم من منع الحنوط للمحرم، ولكنها واقعة حال يتطرق الاحتمال إلى منطوقها فلا يستدل بمفهومها. وقال بعض

(3/136)


الحنفية: هذا الحديث ليس عاما بلفظه لأنه في شخص معين، ولا بمعناه لأنه لم يقل يبعث ملبيا لأنه محرم فلا يتعدى حكمه إلى غيره إلا بدليل منفصل. وقال ابن بزيزة: وأجاب بعض أصحابنا عن هذا الحديث بأن هذا مخصوص بذلك الرجل لأن إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه يبعث ملبيا شهادة بأن حجه قبل، وذلك غير محقق لغيره، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن هذه العلة إنما ثبتت لأجل الإحرام فتعم كل محرم، وأما القبول وعدمه فأمر مغيب. واعتل بعضهم بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وبقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث" وليس هذا منها فينبغي أن ينقطع عمله بالموت، وأجيب بأن تكفينه في ثوبي إحرامه وتبقيته على هيئة إحرامه من عمل الحي بعده كغسله والصلاة عليه فلا معنى لما ذكروه. وقال ابن المنير في الحاشية: وقد قال صلى الله عليه وسلم في الشهداء "زملوهم بدمائهم" مع قوله: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" فعمم الحكم في الظاهر بناء على ظاهر السبب فينبغي أن يعمم الحكم في كل محرم، وبين المجاهد والمحرم جامع لأن كلا منهما في سبيل الله. وقد اعتذر الداودي عن مالك فقال: لم يبلغه هذا الحديث، وأورد بعضهم أنه لو كان إحرامه باقيا لوجب أن يكمل به المناسك ولا قائل به. وأجيب بأن ذلك ورد على خلافه الأصل فيقتصر به على مورد النص ولا سيما وقد وضح، أن الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام كاستبقاء دم الشهيد.

(3/137)


21 - باب كَيْفَ يُكَفَّنُ الْمُحْرِمُ
1267 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ "أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلاَ تُمِسُّوهُ طِيبًا وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا"
1268 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو وَأَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ "كَانَ رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ فَوَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ قَالَ أَيُّوبُ فَوَقَصَتْهُ - وَقَالَ عَمْرٌو فَأَقْصَعَتْهُ - فَمَاتَ فَقَالَ: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلاَ تُحَنِّطُوهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَيُّوبُ يُلَبِّي وَقَالَ عَمْرٌو مُلَبِّيًا"
قوله: "باب كيف يكفن المحرم" سقطت هذه الترجمة للأصيلي وثبتت لغيره وهو أوجه. وأورد المصنف فيها حديث ابن عباس المذكور من طريقين، ففي الأول "فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" كذا للمستملي وللباقين "ملبدا" بدال بدل التحتانية، والتلبيد جمع الشعر بصمغ أو غيره ليخف شعثه، وكانت عادتهم في الإحرام أن يصنعوا ذلك. وقد أنكر عياض هذه الرواية وقال: ليس للتلبيد معنى، وسيأتي في الحج بلفظ: "يهل" ورواه النسائي بلفظ: "فإنه يبعث يوم القيامة محرما" لكن ليس قوله ملبدا فاسد المعنى بل توجيهه ظاهر. قوله في الرواية الأخرى "كان رجل واقفا" كذا لأبي ذر وللباقين "واقف" على أنه صفة لرجل، وكان تامة أي حصل رجل واقف. قوله: "ولا تمسوه" بضم أوله وكسر الميم من أمس. قوله: "فأقصعته" أي هشمته يقال أقصع القملة إذا هشمها، وقيل هو خاص بكسر العظم، ولو سلم فلا مانع أن يستعار لكسر الرقبة. وفي رواية الكشميهني بتقديم العين على الصاد، والقعص القتل في الحال ومنه قعاص الغنم وهو موتها. قال الزين بن

(3/137)


المنير: تضمنت هذه الترجمة الاستفهام عن الكيفية مع أنها مبينة، لكنها لما كانت تحتمل أن تكون خاصة بذلك الرجل، وأن تكون عامة لكل محرم، آثر المصنف الاستفهام. قلت: والذي يظهر أن المراد بقوله: "كيف يكفن" أي كيفية التكفين ولم يرد الاستفهام، وكيف يظن به أنه متردد فيه وقد جزم قبل ذلك بأنه عام في حق كل أحد حيث ترجم بجواز التكفين في ثوبين. قال ابن المنذر: في حديث ابن عباس إباحة غسل المحرم الحي بالسدر خلافا لمن كرهه له، وأن الوتر في الكفن ليس بشرط في الصحة، وأن الكفن من رأس المال لأمره صلى الله عليه وسلم بتكفينه في ثوبيه ولم يستفصل هل عليه دين يستغرق أم لا. وفيه استحباب تكفين المحرم في ثياب إحرامه، وأن إحرامه باق، وأنه لا يكفن في المخيط. وفيه التعليل بالفاء لقوله فإنه، وفيه التكفين في الثياب الملبوسة، وفيه استحباب دوام التلبية إلى أن ينتهي الإحرام، وأن الإحرام يتعلق بالرأس لا بالوجه، وسيأتي الكلام على ما وقع في مسلم بلفظ: "ولا تخمروا وجهه "في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. وأغرب القرطبي فحكى عن الشافعي أن المحرم لا يصلي عليه، وليس ذلك بمعروف عنه.
" فائدة ": يحتمل اقتصاره له على التكفين في ثوبيه لكونه مات فيهما وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة، ويحتمل أنه لم يجد له غيرهما.

(3/138)


باب الكفن في القيص الذي يكف أو لايكف ومن كفن بغير قميص
...
22 - باب الْكَفَنِ فِي الْقَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أَوْ لاَ يُكَفُّ وَمَنْ كُفِّنَ بِغَيْرِ قَمِيصٍ
1269 - حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال حدثني نافع عن بن عمر رضي الله عنهما "أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفر له فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فقال آذني أصلي عليه فآذنه فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه فقال أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين فقال أنا بين خيرتين قال {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فصلى عليه, فنزلت {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً}
[الحديث 1269 – أطرافه في: 4670, 4672, 7596]
1270 - حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا بن عيينة عن عمرو سمع جابرا رضي الله عنه قال "أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما دفن فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه"
[الحديث 1270 – أطرافه في: 1350, 3008, 5795]
قوله: "باب الكفن في القميص الذي يكف أو لا يكف" قال ابن التين: ضبط بعضهم يكف بضم أوله وفتح الكاف وبعضهم بالعكس، والفاء مشدودة فيهما. وضبطه بعضهم بفتح أوله وسكون الكاف وتخفيف الفاء وكسرها، والأول أشبه بالمعنى. وتعقبه ابن رشيد بأن الثاني هو الصواب قال: وكذا وقع في نسخة حاتم الطرابلسي، وكذا رأيته في أصل أبي القاسم بن الورد، قال: والذي يظهر لي أن البخاري لحظ قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه سواء كان يكف عنه العذاب أو لا يكف استصلاحا للقلوب

(3/138)


المؤلفة، فكأنه يقول يؤخذ من هذا التبرك بآثار الصالحين1 سواء علمنا أنه مؤثر في حال الميت أو لا. قال: ولا يصح أن يراد به سواء كان الثوب مكفوف الأطراف أو غير مكفوف لأن ذلك وصف لا أثر له، قال: وأما الضبط الثالث فهو لحن إذ لا موجب لحذف الياء الثانية فيه انتهى. وقد جزم المهلب بأنه الصواب، وأن الياء سقطت من الكاتب غلطا، قال ابن بطال: والمراد طويلا كان القميص سابغا أو قصيرا فإنه يجوز أن يكفن فيه، كذا قال، ووجهه بعضهم بأن عبد الله كان مفرط الطول كما سيأتي في ذكر السبب في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم له قميصه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم معتدل الخلق، وقد أعطاه مع ذلك قميصه ليكفن فيه ولم يلتفت إلى كونه ساترا لجميع بدنه أو لا. وتعقب بأن حديث جابر دال على أنه كفن في غيره فلا تنتهض الحجة بذلك. وأما قول ابن رشيد إن المكفوف الأطراف لا أثر له فغير مسلم، بل المتبادر إلى الذهن أنه مراد البخاري كما فهمه ابن التين، والمعنى أن التكفين في القميص ليس ممتنعا سواء كان مكفوف الأطراف أو غير مكفوف، أو المراد بالكف تزريره دفعا لقول من يدعي أن القميص لا يسوغ إلا إذا كانت أطرافه غير مكفوفة أو كان غير مزرر ليشبه الرداء، وأشار بذلك إلى الرد على من خالف في ذلك، وإلى أن التكفين في غير قميص مستحب، ولا يكره التكفين في القميص. وفي الخلافيات للبيهقي من طريق ابن عون قال: كان محمد بن سيرين يستحب أن يكون قميص الميت كقميص الحي مكففا مزررا، وسيأتي الكلام على حديث عبد الله بن عمر في قصة عبد الله بن أبي في تفسير براءة إن شاء الله تعالى، ونذكر فيه جواب الإشكال الواقع في قول عمر: أليس الله قد نهاك أن تصلي على المنافقين؟ مع أن نزول قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} كان بعد ذلك كما سيأتي في سياق حديث الباب حيث قال: فنزلت: {وَلا تُصَلِّ} ، ومحصل الجواب أن عمر فهم من قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} منع الصلاة عليهم، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن لا منع، وأن الرجاء لم ينقطع بعد. ثم إن ظاهر قوله في حديث جابر "أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدما دفن فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه" مخالف لقوله في حديث ابن عمر "لما مات عبد الله بن أبي جاء ابنه فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه قميصه وقال: آذني أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر" الحديث. وقد جمع بينهما بأن معنى قوله في حديث ابن عمر "فأعطاه" أي أنعم له بذلك، فأطلق على العدة اسم العطية مجازا لتحقيق وقوعها. وكذا قوله في حديث جابر "بعد ما دفن عبد الله بن أبي" أي دلي في حفرته، وكأن أهل عبد الله بن أبي خشوا على النبي صلى الله عليه وسلم المشقة في حضوره فبادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل وجدهم قد دلوه في حفرته فأمر بإخراجه إنجازا لوعده في تكفينه في القميص والصلاة عليه والله أعلم. وقيل: أعطاه صلى الله عليه وسلم أحد قميصيه أولا، ثم لما حضر أعطاه الثاني بسؤال ولده. وفي "الإكليل" للحاكم ما يؤيد ذلك. وقيل: ليس في حديث جابر دلالة على أنه ألبسه قميصه بعد إخراجه من القبر، لأن لفظه: "فوضعه على ركبتيه وألبسه قميصه" والواو لا ترتب فلعله أراد أن يذكر ما وقع في الجملة من إكرامه له من غير إرادة ترتيب، وسيأتي في الجهاد ذكر السبب في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبد الله بن أبي، وبقية القصة في التفسير وأن اسم ابنه المذكور عبد الله كاسم أبيه إن شاء الله تعالى. واستنبط منه الإسماعيلي جواز طلب أثار أهل الخير منهم للتبرك بها وإن كان السائل غنيا.
ـــــــ
1 أنظر ما تقدم في ص 130 وغيرها من منع التبرك بآثار الصالحين سوي النبي صلى الله عليه وسلم

(3/139)


23 - باب الْكَفَنِ بِغَيْرِ قَمِيصٍ
1271 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كُفِّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابِ سُحُولٍ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ"
1272 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن هشام حدثني أبي عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة"
قوله: "باب الكفن بغير قميص" ثبتت هذه الترجمة للأكثر وسقطت للمستملي، ولكنه ضمنها الترجمة التي قبلها فقال بعد قوله أو لا يكف "ومن كفن بغير قميص" والخلاف في هذه المسألة بين الحنفية وغيرهم في الاستحباب وعدمه، والثاني عن الجمهور، وعن بعض الحنفية يستحب القميص دون العمامة. وأجاب بعض من خالف بأن قولها ليس فيها قميص ولا عمامة يحتمل نفي وجودهما جملة، ويحتمل أن يكون المراد نفي المعدود أي الثلاثة خارجة عن القميص والعمامة والأول أظهر. وقال بعض الحنفية: معناه ليس فيها قميص أي جديد، وقيل ليس فيها القميص الذي غسل فيه، أو ليس فيها قميص مكفوف الأطراف. قوله. "حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله: "سحول" بضم المهملتين وآخره لام أي بيض، وهو جمع سحل، والثوب الأبيض النقي لا يكون إلا من قطن، وقد تقدم في "باب الثياب البيض للكفن" بلفظ: "يمانية بيض سحولية في كرسف" وعن ابن وهب: السحول القطن، وفيه نظر، وهو بضم أوله ويروى بفتحه نسبة إلى سحول قرية باليمن. وقال الأزهري: بالفتح المدينة، وبالضم الثياب. وقيل النسب إلى القرية بالضم، وأما بالفتح فنسبة إلى القصار لأنه يسحل الثياب أي ينقيها، والكرسف بضم الكاف والمهملة بينهما راء ساكنة هو القطن، ووقع في رواية للبيهقي "سحولية جدد"

(3/140)


24 - باب الْكَفَنِ بِلاَ عِمَامَةٍ
1273 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ"
قوله: "باب الكفن بلا عمامة" كذا للأكثر، وللمستملي: "الكفن في الثياب البيض" والأول أولى لئلا تتكرر الترجمة بغير فائدة، وقد تقدم ما في هذا النفي في الباب الذي قبله. قوله: "ثلاثة أثواب" في طبقات ابن سعد عن الشعبي "إزار ورداء ولفافة".

(3/140)


25 - باب الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَقَتَادَةُ
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الْحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ يُبْدَأُ بِالْكَفَنِ ثُمَّ بِالدَّيْنِ ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ
وَقَالَ سُفْيَانُ أَجْرُ الْقَبْرِ وَالْغَسْلِ هُوَ مِنْ الْكَفَنِ
1274 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "أُتِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ

(3/140)


26 - باب إِذَا لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ
1275 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ "أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ وَأُرَاهُ قَالَ وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ أَوْ قَالَ أُعْطِينَا مِنْ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ"
قوله: "باب إذا لم يوجد إلا ثوب واحد" أي اقتصر عليه ولا ينتظر بدفنه ارتقاب شيء آخر. قول عبد الرحمن بن عوف "وهو خير مني" دلالة على تواضعه. وفيه إشارة إلى تعظيم فضل من قتل في المشاهد الفاضلة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد في هذا الطريق "إن غطى رأسه بدت رجلاه" وهو موافق لما في الرواية التي في الباب الذي يليه. وروى الحاكم في المستدرك من حديث أنس أن حمزة أيضا كفن كذلك.

(3/142)


27 - باب إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا إِلاَّ مَا يُوَارِي رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى رَأْسَهُ
1276 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ حَدَّثَنَا خَبَّابٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلاَّ بُرْدَةً إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الإِذْخِرِ"
[الحديث 1276 – أطرافه في: 3897, 3914, 4047, 4082, 6432, 6448]
قوله: "باب إذا لم يجد كفنا إلا ما يواري رأسه أو قدميه" أي رأسه مع بقية جسده إلا قدميه أو العكس، كأنه قال: ما يواري جسده إلا رأسه، أو جسده إلا قدميه، وذلك بين من حديث الباب حيث قال: "خرجت رجلاه" ولو كان المراد أنه يغطي رأسه فقط دون سائر جسده لكان تغطية العورة أولى. ويستفاد منه أنه إذا لم يوجد ساتر البتة أنه يغطي جميعه بإذخر، فإن لم يوجد فبما تيسر من نبات الأرض، وسيأتي في كتاب الحج قول العباس "إلا الإذخر فإنه بيوتنا وقبورنا" فكأنها كانت عادة لهم استعماله في القبور، قال المهلب: وإنما استحب لهم النبي صلى الله عليه وسلم التكفين في تلك الثياب التي ليست سابغة لأنهم قتلوا فيها انتهى. وفي هذا الجزم نظر، بل الظاهر أنه لم يجد لهم غيرها كما هو مقتضى الترجمة. قوله: "حدثنا شقيق" هو ابن سلمة أبو وائل، وخباب بمعجمة وموحدتين الأولى مثقلة هو ابن الأرت، والإسناد كله كوفيون. قوله: "لم يأكل من أجره شيئا" كناية عن الغنائم التي تناولها من أدرك زمن الفتوح، وكأن المراد بالأجر ثمرته، فليس مقصورا على أجر الآخرة. قوله: "أينعت" بفتح الهمزة وسكون التحتانية وفتح النون أي نضجت. قوله: "فهو يهد بها" بفتح أوله وكسر المهملة أي يجتنيها، وضبطه النووي بضم الدال، وحكى ابن التين تثليثها. قوله: "ما نكفنه به" سقط لفظ: "به" من رواية غير أبي ذر،

(3/142)


وسيأتي بقية الكلام على فوائده في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(3/143)


28 - باب مَنْ اسْتَعَدَّ الْكَفَنَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ
1277 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ قَالُوا الشَّمْلَةُ قَالَ نَعَمْ قَالَتْ نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لأَكْسُوَكَهَا فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ فَحَسَّنَهَا فُلاَنٌ فَقَالَ اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا قَالَ الْقَوْمُ مَا أَحْسَنْتَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ قَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي قَالَ سَهْلٌ فَكَانَتْ كَفَنَهُ"
[الحديث 1277 – أطرافه في: 2093, 5810, 6036]
قوله: "باب من استعد الكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه" ضبط في روايتنا بفتح الكاف على البناء للمجهول وحكي الكسر على أن فاعل الإنكار النبي صلى الله عليه وسلم، وحكى الزين بن المنير عن بعض الروايات فلم ينكره بهاء بدل عليه وهو بمعني الرواية التي بالكسر، وإنما قيد الترجمة بذلك ليشير إلى أن الإنكار الذي وقع من الصحابة كان على الصحابي في طلب البردة فلما أخبرهم بعذره لم ينكروا ذلك عليه، فيستفاد منه جواز تحصيل ما لا بد للميت منه من كفن ونحوه في حال حياته، وهل يلتحق بذلك حفر القبر؟ فيه بحث سيأتي. قوله: "أن امرأة" لم أقف على اسمها. قوله: "فيها حاشيتها" قال الداودي يعني إنها لم تقطع من ثوب فتكون بلا حاشية. وقال غيره حاشية الثوب هدبه فكأنه قال إنها جديدة لم يقطع هدبها ولم تلبس بعد. وقال القزاز: حاشيتا الثوب ناحيتاه اللتان في طرفهما الهدب. قوله: "أتدرون" هو مقول سهل بن سعد بينه أبو غسان عن أبي حازم كما أخرجه المصنف في الأدب ولفظه: "فقال سهل للقوم أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشملة". انتهى. وفي تفسير البردة بالشملة تجوز لأن البردة كساء والشملة ما يشتمل به فهي أعم، لكن لما كان أكثر اشتمالهم بها أطلقوا عليها اسمها. قوله: "فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها" كأنهم عرفوا ذلك بقرينة حال أو تقدم قول صريح. قوله: "فخرج إلينا وإنها إزاره" في رواية ابن ماجه عن هشام بن عمار عن عبد العزيز "فخرج إلينا فيها" وفي رواية هشام بن سعد عن أبي حازم عند الطبراني "فاتزر بها ثم خرج". قوله: "فحسنها فلان فقال اكسنيها ما أحسنها" كذا في جميع الروايات هنا بالمهملتين من التحسين. وللمصنف في اللباس من طريق يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم "فجسها" بالجيم بغير نون وكذا للطبراني والإسماعيلي من طريق أخرى عن أبي حازم، وقوله: "فلان" أفاد المحب الطبري في الأحكام له أنه عبد الرحمن بن عوف، وعزاه للطبراني ولم أره في المعجم الكبير لا في مسند سهل ولا عبد الرحمن، ونقله شيخنا ابن الملقن عن المحب في شرح العمدة، وكذا قال لنا شيخنا الحافظ أبو الحسن الهيتمي إنه وقف عليه، لكن لم يستحضر مكانه، ووقع لشيخنا ابن الملقن في "شرح التنبيه" أنه سهل بن سعد وهو غلط فكأنه التبس على شيخنا اسم القائل باسم الراوي، نعم أخرج الطبراني الحديث المذكور عن أحمد بن عبد الرحمن بن يسار1 عن قتيبة بن سعيد عن يعقوب بن عبد الرحمن
ـــــــ
1 في نسخة "ابن بشار"

(3/143)


عن أبي حازم عن سهل وقال في آخره: "قال قتيبة هو سعد بن أبي وقاص" انتهى، وقد أخرجه البخاري في اللباس والنسائي في الزينة عن قتيبة ولم يذكرا عنه ذلك، وقد رواه ابن ماجة بسنده المتقدم وقال فيه: "فجاء فلان رجل سماه يومئذ" وهو دال على أن الراوي كان ربما سماه. ووقع في رواية أخرى للطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم أن السائل المذكور أعرابي، فلو لم يكن زمعة ضعيفا لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن بن عوف أو سعد بن أبي وقاص، أو يقال تعددت القصة على ما فيه من بعد والله أعلم. قوله: "ما أحسنها" بنصب النون وما للتعجب. وفي رواية ابن ماجه والطبراني من هذا الوجه قال نعم فلما دخل طواها وأرسل بها إليه، وهو للمصنف في اللباس من طريق يعقوب بن عبد الرحمن بلفظ: "فقال نعم فجلس ما شاء الله في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه". قوله: "قال القوم ما أحسنت" ما نافية، وقد وقعت تسمية المعاتب له من الصحابة في طريق هشام بن سعد المذكورة ولفظه قال سهل فقلت للرجل لم سألته وقد رأيت حاجته إليها؟ فقال: رأيت ما رأيتم، ولكن أردت أن أخبأها حتى أكفن فيها. قوله: "أنه لا يرد" كذا وقع هنا بحذف المفعول، وثبت في رواية ابن ماجه بلفظ: "لا يرد سائلا" ونحوه في رواية يعقوب في البيوع. وفي رواية أبي غسان في الأدب لا يسأل شيئا فيمنعه. قوله: "ما سألته لألبسها" في رواية أبي غسان "فقال رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم" وأفاد الطبراني في رواية زمعة بن صالح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يصنع له غيرها فمات قبل أن تفرغ. وفي هذا الحديث من الفوائد حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وسعة جوده وقبوله الهدية، واستنبط منه المهلب جواز ترك مكافأة الفقير على هديته، وليس ذلك بظاهر منه فإن المكافأة كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم مستمرة فلا يلزم من السكوت عنها هنا أن لا يكون فعلها، بل ليس في سياق هذا الحديث الجزم بكون ذلك كان هدية فيحتمل أن تكون عرضتها عليه ليشتريها منها، قال: وفيه جواز الاعتماد على القرائن ولو تجردت لقولهم "فأخذها محتاجا إليها" وفيه نظر لاحتمال أن يكون سبق لهم منه قول يدل على ذلك كما تقدم. قال: وفيه الترغيب في المصنوع بالنسبة إلى صانعه إذا كان ماهرا، ويحتمل أن تكون أرادت بنسبته إليها إزالة ما يخشى من التدليس. وفيه جواز استحسان الإنسان ما يراه على غيره من الملابس وغيرها إما ليعرفه قدرها وأما ليعرض له بطلبه منه حيث يسوغ له ذلك. وفيه مشروعية الإنكار عند مخالفة الأدب ظاهرا وإن لم يبلغ المنكر درجة التحريم. وفيه التبرك بآثار الصالحين1 وقال ابن بطال. فيه جواز إعداد الشيء قبل وقت الحاجة إليه، قال: وقد حفر جماعة من الصالحين قبورهم قبل الموت. وتعقبه الزين بن المنير بأن ذلك لم يقع من أحد من الصحابة، قال: ولو كان مستحبا لكثر فيهم. وقال بعض الشافعية: ينبغي لمن استعد شيئا من ذلك أن يجتهد في تحصيله من جهة يثق بحلها أو من أثر من يعتقد فيه الصلاح والبركة.
ـــــــ
1 هذا خطأ, والصواب المنع من ذلك لوجهين: أحدهما أن الصحابة لم يفعلوا ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم, ولو كان خيرا لسبقونا إليه, والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليه غيره لما بينه وبين غيره من الفروق الكثيرة. الوجه الثاني سد ذريعة الشرك, لأن جواز التبرك بآثار الصالحين يفضي إلى الغلو فيهم وعبادتهم من دون الله فوجب المنع من ذلك. وقد سبق بيان ذلك مرارا.

(3/144)


29 - باب اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ
1278 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أُمِّ الْهُذَيْلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا"

(3/144)


قوله: "باب اتباع النساء الجنازة" قال الزين بن المنير: فصل المصنف بين هذه الترجمة وبين فضل اتباع الجنائز بتراجم كثيرة تشعر بالتفرقة بين النساء. والرجال، وأن الفضل الثابت في ذلك يختص بالرجال دون النساء لأن النهي يقتضي التحريم أو الكراهة، والفضل يدل على الاستحباب، ولا يجتمعان. وأطلق الحكم هنا لما يتطرق إليه من الاحتمال، ومن ثم اختلف العلماء في ذلك. ولا يخفى أن محل النزاع إنما هو حيث تؤمن المفسدة. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري وأم الهذيل هي حفصة بنت سيرين. قوله: "نهينا" تقدم في الحيض من رواية هشام بن حسان عن حفصة عنها بلفظ: "كنا نهينا عن اتباع الجنائز" ورواه يزيد بن أبي حكيم عن الثوري بإسناد هذا الباب بلفظ: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه الإسماعيلي وفيه رد على من قال: لا حجة في هذا الحديث لأنه لم يسم الناهي فيه، لما رواه الشيخان وغيرهما أن كل ما ورد بهذه الصيغة كان مرفوعا وهو الأصح عند غيرهما من المحدثين، ويؤيد رواية الإسماعيلي ما رواه الطبراني من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع النساء في بيت ثم بعث إلينا عمر فقال: إني رسول رسول الله إليكن، بعثني إليكن لأبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا" الحديث، وفي آخره: "وأمرنا أن نخرج في العيد العواتق، ونهانا أن نخرج في جنازة" وهذا يدل على أن رواية أم عطية الأولى من مرسل الصحابة. قوله: "ولم يعزم علينا" أي ولم يؤكد علينا في المنع كما أكد علينا في غيره من المنهيات، فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم. وقال القرطبي: ظاهر سياق أم عطية أن النهي نهي تنزيه، وبه قال جمهور أهل العلم، ومال مالك إلى الجواز وهو قول أهل المدينة. ويدل على الجواز ما رواه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال: "دعها يا عمر" الحديث. وأخرجه ابن ماجه والنسائي من هذا الوجه، ومن طريق أخرى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سلمة بن الأزرق عن أبي هريرة ورجاله ثقات. وقال المهلب: في حديث أم عطية دلالة على أن النهي من الشارع على درجات. وقال الداودي: قولها "نهينا عن اتباع الجنائز "أي إلى أن نصل إلى القبور، وقوله: "ولم يعزم علينا" أي أن لا نأتي أهل الميت فنعزيهم ونترحم على ميتهم من غير أن نتبع جنازته انتهى. وفي أخذ هذا التفصيل من هذا السياق نظر، نعم هو في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة مقبلة فقال: من أين جئت؟ فقالت: رحمت على أهل هذا الميت ميتهم. فقال: لعلك بلغت معهم الكدى؟ قالت: لا" الحديث أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما. فأنكر عليها بلوغ الكدى، وهو بالضم وتخفيف الدال المقصورة وهي المقادير، ولم ينكر عليها التعزية. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون المراد بقولها "ولم يعزم علينا" أي كما عزم على الرجال بترغيبهم في اتباعها بحصول القيراط ونحو ذلك، والأول أظهر. والله أعلم.

(3/145)


30 - باب إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا
1279 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ "تُوُفِّيَ ابْنٌ لأُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَتَمَسَّحَتْ بِهِ وَقَالَتْ نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ إِلاَّ بِزَوْجٍ"

(3/145)


1280 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ "لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ الشَّأْمِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِصُفْرَةٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَمَسَحَتْ عَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً لَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
[الحديث 1280 – أطرافه في: 1281, 5334, 5339, 5345]
1281 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
1282 - "ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ بِهِ ثُمَّ قَالَتْ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: " لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
[الحديث 1282 – طرفه في: 5335]
قوله: "باب إحداد المرأة على غير زوجها" قال ابن بطال: الإحداد بالمهملة امتناع المرأة المتوفى عنها زوجها من الزينة كلها من لباس وطيب وغيرهما وكل ما كان من دواعي الجماع. وأباح الشارع للمرأة أن تحد على غير زوجها ثلاثة أيام لما يغلب من لوعة الحزن ويهجم من ألم الوجد، وليس ذلك واجبا لاتفاقهم على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه من تلك الحال، وسيأتي قي كتاب الطلاق بقية الكلام على مباحث الإحداد. وقوله في الترجمة "على غير زوجها" يعم كل ميت غير الزوج سواء كان قريبا أو أجنبيا، ودلالة الحديث له ظاهرة، ولم يقيده في الترجمة بالموت لأنه يختص به عرفا، ولم يبين حكمه لأن الخبر دل على عدم التحريم في الثلاث وأقل ما يقتضيه إثبات المشروعية. قوله: "فلما كان يوم الثالث" كذا للأكثر وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وللمستملي: "اليوم الثالث". قوله: "دعت بصفرة" سيأتي الكلام عليها قريبا. قوله: "نهينا" رواه أيوب عن ابن سيرين بلفظ: "أمرنا بأن لا نحد على هالك فوق ثلاث" الحديث أخرجه عبد الرزاق، وللطبراني من طريق قتادة عن ابن سيرين عن أم عطية قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" فذكره معناه. قوله: "أن نحد" بضم أوله من الرباعي، ولم يعرف الأصمعي غيره، وحكى غيره فتح أوله وضم ثانيه من الثلاثي يقال حدت المرأة وأحدت بمعنى. قوله: "إلا بزوج" وفي رواية الكشميهني: "إلا لزوج" باللام، ووقع في العدد من طريقه بلفظ: "إلا على زوج" والكل بمعنى السببية. قوله: "عن زينب بنت أبي سلمة" هي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح في العدد بالإخبار بينها وبين حمد بن

(3/146)


نافع. قوله: "نعي" بفتح النون وسكون المهملة وتخفيف الياء -وكسر المهملة وتشديد الياء- هو الخبر بموت الشخص، وأبو سفيان هو ابن حرب بن أمية والد معاوية. قوله: "دعت أم حبيبة" هي بنت أبي سفيان المذكور. وفي قوله: "من الشام" نظر، لأن أبا سفيان مات بالمدينة بلا خلاف بين أهل العلم بالأخبار، والجمهور على أنه مات سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة ثلاث، ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييده بذلك إلا في رواية سفيان بن عيينة هذه وأظنها وهما، وكنت أظن أنه حذف منه لفظ: "ابن" لأن الذي جاء نعيه من الشام وأم حبيبة في الحياة هو أخوها يزيد بن أبي سفيان الذي كان أميرا على الشام، لكن رواه المصنف في العدد من طريق مالك ومن طريق سفيان الثوري كلاهما عن عبد الله بن بكر بن حزم عن حميد بن نافع بلفظ: "حين توفي عنها أبوها أبو سفيان بن حرب" فظهر أنه لم يسقط منه شيء، ولم يقل فيه واحد منهما من الشام، وكذا أخرجه ابن سعد في ترجمة أم حبيبة من طريق صفية بنت أبي عبيد عنها. ثم وجدت الحديث في مسند ابن أبي شيبة قال: "حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن حميد بن نافع - ولفظه - جاء نعي أخي أم حبيبة أو حميم لها فدعت بصفرة فلطخت به ذراعيها" وكذا رواه الدارمي عن هاشم بن القاسم عن شعبة لكن بلفظ: "إن أخا لأم حبيبة مات أو حميما لها" ورواه أحمد عن حجاج ومحمد بن جعفر جميعا عن شعبة بلفظ: "أن حميما لها مات" من غير تردد، وإطلاق الحميم على الأخ أقرب من إطلاقه على الأب، فقوي الظن عند هذا أن تكون القصة تعددت لزينب مع أم حبيبة عند وفاة أخيها يزيد ثم عند وفاة أبيها أبي سفيان لا مانع من ذلك. والله أعلم. قوله: "بصفرة" في رواية مالك المذكورة "بطيب فيه صفرة خلوق" وزاد فيه: "فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها" أي بعارضي نفسها. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس ابن أخت مالك. وساق الحديث هنا من طريق مالك مختصرا، وأورده مطولا من طريقه في العدد كما سيأتي. قوله: "ثم دخلت" هو مقول زينب بنت أم سلمة، وهو مصرح به في الرواية التي في العدد وظاهره أن هذه القصة وقعت بعد قصة أم حبيبة، ولا يصح ذلك إلا إن قلنا بالتعدد، ويكون ذلك عقب وفاة يزيد بن أبي سفيان لأن وفاته سنة ثمان عشرة أو تسع عشرة، ولا يصح أن يكون ذلك عند وفاة أبيه لأن زينب بنت جحش ماتت قبل أبي سفيان بأكثر من عشر سنين على الصحيح المشهور عند أهل العلم بالأخبار، فيحمل على أنها لم ترد ترتيب الوقائع وإنما أرادت ترتيب الأخبار. وقد وقع في رواية أبي داود بلفظ: "ودخلت" وذلك لا يقتضي الترتيب والله أعلم. قوله: "حين توفي أخوها" لم أتحقق من المراد به، لأن لزينب ثلاثة إخوة: عبد الله وعبد يغير إضافة وعبيد الله بالتصغير، فأما الكبير فاستشهد بأحد وكانت زينب إذ ذاك صغيرة جدا لأن أباها أبا سلمة مات بعد بدر وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمها أم سلمة وهي صغيرة ترضع كما سيأتي في الرضاع أن أمها حلت من عدتها من أبي سلمة بوضع زينب هذه، فانتفى أن يكون هو المراد هنا، وإن كان وقع في كثير من الموطآت بلفظ: "حين توفي أخوها عبد الله" كما أخرجه الدارقطني من طريق ابن وهب وغيره عن مالك، وأما عبد بغير إضافة فيعرفه بأبي حميد وكان شاعرا أعمى وعاش إلى خلافة عمر، وقد جزم إسحاق وغيره من أهل العلم بالأخبار بأنه مات بعد أخته زينب بسنة، وروى ابن سعد في ترجمتها في الطبقات من وجهين أن أبا حميد المذكور حضر جنازة زينب مع عمر وحكي عنه مراجعة له بسببها، وإن كان في إسنادهما الواقدي لكن يستشهد به في مثل هذا، فانتفى أن كون هذا الأخير المراد، وأما عبيد الله المصغر فأسلم قديما وهاجر بزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى الحبشة ثم تنصر هناك ومات فتزوج النبي

(3/147)


صلى الله عليه وسلم بعده أم حبيبة، فهذا يحتمل أن يكون هو المراد لأن زينب بنت أبي سلمة عندما جاء الخبر بوفاة عبيد الله كانت في سن من يضبط، ولا مانع أن يحزن المرء على قريبه الكافر ولا سيما إذا تذكر سوء مصيره. ولعل الرواية التي في الموطأ "حين توفي أخوها عبد الله" كانت عبيد الله بالتصغير فلم يضبطها الكاتب والله أعلم. ويعكر على هذا قول من قال إن عبيد الله مات بأرض الحبشة فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم حبيبة، فإن ظاهرها أن تزوجها كان بعد موت عبيد الله، وتزويجها وقع وهي بأرض الحبشة وقبل أن تسمع النهي، وأيضا ففي السياق "ثم دخلت على زينب" بعد قولها دخلت على أم حبيبة، وهو ظاهر في أن ذلك كان بعد موت قريب زينب بنت جحش المذكور وهو بعد مجيء أم حبيبة من الحبشة بمدة طويلة، فإن لم يكن هذا الظن هو الواقع احتمل أن يكون أخا لزينب بنت جحش من أمها أو من الرضاعة، أو يرجح ما حكاه ابن عبد البر وغيره من أن زينب بنت أبى سلمة ولدت بأرض الحبشة فإن مقتضى ذلك أن يكون لها عند وفاة عبد الله بن جحش أربع سنين، وما مثلها1 يضبط في مثلها والله أعلم. قوله: "فمست به" أي شيئا من جسدها، وسيأتي في الطريق التي في العدد بلفظ: "فمست منه "وسيأتي فيه لزينب حديث آخر عن أمها أم سلمة في الإحداد أيضا، وسيأتي الكلام على الأحاديث الثلاثة مستوفي إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
1 في مخطوطة الرياض "ومثلها"

(3/148)


31 - باب زِيَارَةِ الْقُبُورِ
1283 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَ إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى"
قوله: "باب زيارة القبور" أي مشروعيتها وكأنه لم يصرح بالحكم لما فيه من الخلاف كما سيأتي، وكأن المصنف لم يثبت على شرطه الأحاديث المصرحة بالجواز، وقد أخرجه مسلم من حديث بريدة وفيه نسخ النهي عن ذلك ولفظه: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها" وزاد أبو داود والنسائي من حديث أنس "فإنها تذكر الآخرة" وللحاكم من حديثه فيه: "وترق القلب وتدمع العين، فلا تقولوا هجرا" أي كلاما فاحشا، وهو بضم الهاء وسكون الجيم وله من حديث ابن مسعود "فإنها تزهد في الدنيا" ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: " زوروا القبور فإنها تذكر الموت" قال النووي تبعا للعبدري والحازمي وغيرهما: اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة. كذا أطلقوا، وفيه نظر لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي والشعبي الكراهة مطلقا حتى قال الشعبي: لولا نهي النبي صلى الله عليه وسلم لزرت قبر ابنتي. فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر عليه الأمر بعد هؤلاء، وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ والله أعلم. ومقابل هذا قول ابن حزم: إن زيارة القبور واجبة ولو مرة واحدة في العمر لورود الأمر به. واختلف في النساء فقيل: دخلن في عموم الإذن وهو قول الأكثر، ومحله ما إذا أمنت الفتنة ويؤيد الجواز حديث الباب، وموضع الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة.

(3/148)


وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة فروى الحاكم من طريق ابن أبي مليكة أنه رآها زارت قبر أخيها عبد الرحمن "فقيل لها: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قالت نعم، كان نهي ثم أمر بزيارتها" وقيل الإذن خاص بالرجال ولا يجوز للنساء زيارة القبور، وبه جزم الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" واستدل له بحديث عبد الله بن عمرو الذي تقدمت الإشارة إليه في "باب اتباع النساء الجنائز" وبحديث: "لعن الله زوارات القبور" أخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة، وله شاهد من حديث ابن عباس ومن حديث حسان بن ثابت. واختلف من قال بالكراهة في حقهن هل هي كراهة تحريم أو تنزيه؟ قال القرطبي: هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصفة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك، فقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء. قوله: "بامرأة" لم أقف على اسمها ولا اسم صاحب القبر. وفي رواية لمسلم ما يشعر بأنه ولدها ولفظه: "تبكي على صبي لها" وصرح به في مرسل يحيى بن أبي كثير عند عبد الرزاق ولفظه: "قد أصيبت بولدها" وسيأتي في أوائل كتاب الأحكام من طريق أخرى عن شعبة عن ثابت "أن أنسا قال لامرأة من أهله: تعرفين فلانة؟ قالت: نعم. قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مر بها" فذكر هذا الحديث. قوله: "فقال: اتقي الله" في رواية أبي نعيم في المستخرج "فقال: يا أمة الله اتقي الله " قال القرطبي: الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى. قلت: يؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور "فسمع منها ما يكره فوقف عليها "وقال الطيبي: قوله: "اتقي الله" توطئة لقوله: "واصبري" كأنه قيل لها خافي غضب الله إن لم تصبري ولا تجزعي ليحصل لك الثواب. قوله: "إليك عني" هو من أسماء الأفعال، ومعناها تنح وابعد. قوله: "لم تصب بمصيبتي" سيأتي في الأحكام من وجه آخر عن شعبة بلفظ: "فإنك خلو من مصيبتي "وهو بكسر المعجمة وسكون اللام، ولمسلم: "ما تبالي بمصيبتي" ولأبي يعلى من حديث أبي هريرة أنها قالت: "يا عبد الله إني أنا الحرى الثكلي، ولو كنت مصابا عذرتني". قوله: "ولم تعرفه" جملة حالية أي خاطبته بذلك ولم تعرف أنه رسول الله. قوله: "فقيل لها" في رواية الأحكام "فمر بها رجل فقال لها: إنه رسول الله، فقالت: ما عرفته" وفي رواية أبي يعلى المذكورة "قال فهل تعرفينه؟ قالت: لا" وللطبراني في الأوسط من طريق عطية عن أنس أن الذي سألها هو الفضل بن العباس، وزاد مسلم في رواية له "فأخذها مثل الموت" أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه صلى الله عليه وسلم خجلا منه ومهابة. قوله: "فلم تجد عنده بوابين" في رواية الأحكام "بوابا" بالإفراد قال الزين بن المنير: فائدة هذه الجملة من هذا الخبر بيان عذر هذه المرأة في كونها لم تعرفه، وذلك أنه كان من شأنه أن لا يتخذ بوابا مع قدرته على ذلك تواضعا، وكان من شأنه أنه لا يستتبع الناس وراءه إذا مشى كما جرت عادة الملوك والأكابر، فلذلك اشتبه على المرأة فلم تعرفه مع ما كانت فيه من شاغل الوجد والبكاء. وقال الطيبي: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم استشعرت خوفا وهيبة في نفسها فتصورت أنه مثل الملوك له حاجب وبواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته. قوله: "فقالت: لم أعرفك" في حديث أبي هريرة "فقالت والله ما عرفتك". قوله: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" في رواية الأحكام "عند أول صدمة" ونحوه لمسلم، والمعني إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير للمصيبة الواردة على القلب، قال الخطابي:

(3/149)


المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يسلو. وحكى الخطابي عن غيره أن المرء لا يؤجر على المصيبة لأنها ليست من صنعه، وإنما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره. وقال ابن بطال: أراد أن لا يجتمع عليها مصيبة الهلاك وفقد الأجر. وقال الطيبي: صدر هذا الجواب منه صلى الله عليه وسلم عن قولها لم أعرفك على أسلوب الحكيم كأنه قال لها: دعي الاعتذار فإني لا أغضب لغير الله وانظري لنفسك. وقال الزين بن المنير:. فائدة جواب المرأة بذلك أنها لما جاءت طائعة لما أمرها به من التقوى والصبر معتذرة عن قولها الصادر عن الحزن بين لها أن حق هذا الصبر أن يكون في أول الحال، فهو الذي يترتب عليه الثواب انتهى. ويؤيده أن في رواية أبي هريرة المذكورة "فقالت أنا أصبر، أنا أصبر" وفي مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور "فقال اذهبي إليك، فإن الصبر عند الصدمة الأولى" وزاد عبد الرزاق فيه من مرسل الحسن "والعبرة لا يملكها ابن آدم". وذكر هذا الحديث في زيارة القبور مع احتمال أن تكون المرأة المذكورة تأخرت بعد الدفن عند القبر والزيارة إنما تطلق على من أنشأ إلى القبر قصدا من جهة استواء الحكم في حقها حيث أمرها بالتقوى والصبر لما رأى من جزعها ولم ينكر عليها الخروج من بيتها فدل على أنه جائز، وهو أعم من أن يكون خروجها لتشييع ميتها فأقامت عند القبر بعد الدفن أو أنشأت قصد زيارته بالخروج بسبب الميت. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من التواضع والرفق بالجاهل، ومسامحة المصاب وقبول اعتذاره، وملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيه أن القاضي لا ينبغي له أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس، وأن من أمر بمعروف ينبغي له أن يقبل ولو لم يعرف الآمر. وفيه أن الجزع من المنهيات لأمره لها بالتقوى مقرونا بالصبر. وفيه الترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة ونشر الموعظة، وأن المواجهة بالخطاب إذا لم تصادف المنوي لا أثر لها. وبني عليه بعضهم ما إذا قال يا هند أنت طالق فصادف عمرة أن عمرة لا تطلق. واستدل به على جواز زيارة القبور سواء كان الزائر رجلا أو امرأة كما تقدم، وسواء كان المزور مسلما أو كافرا، لعدم الاستفصال في ذلك. قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور. وقال صاحب الحاوي: لا تجوز زيارة قبر الكافر، وهو غلط انتهى. وحجة الماوردي قوله تعالى: {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ، وفي الاستدلال به نظر لا يخفى.
" تنبيه ": قال الزين بن المنير: قدم المصنف ترجمة زيارة القبور على غيرها من أحكام تشييع الجنازة وما بعد ذلك مما يتقدم الزيارة لأن الزيارة يتكرر وقوعها فجعلها أصلا ومفتاحا لتلك الأحكام انتهى ملخصا. وأشار أيضا إلى أن مناسبة ترجمة زيارة القبور تناسب اتباع النساء الجنائز، فكأنه أراد حصر الأحكام المتعلقة بخروج النساء متوالية. والله أعلم.

(3/150)


باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النواح من سنته"
...
32 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ"
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
وَهُوَ كَقَوْلِهِ {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ –ذنوبا- إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} وَمَا يُرَخَّصُ مِنْ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ نَوْحٍ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا" وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ

(3/150)


1284 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ وَمُحَمَّدٌ قَالاَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا فَقَالَ هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"
[الحديث 1284 – أطرافه في: 5655, 6602, 6655, 7377, 7448]
1285 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ قَالَ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ قَالَ فَقَالَ هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَنَا قَالَ فَانْزِلْ قَالَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا"
[الحديث 1285 – طرفه في: 1342]
1286 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ "تُوُفِّيَتْ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا أَوْ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَلاَ تَنْهَى عَنْ الْبُكَاءِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"
1287 - فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ حَدَّثَ قَالَ صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلاَءِ الرَّكْبُ قَالَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ادْعُهُ لِي فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ وَا أَخَاهُ وَا صَاحِبَاهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"
1288 - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(3/151)


عَنْهَا فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" وَقَالَتْ حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ {هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَيْئًا"
[الحديث 1288 – طرفاه في: 1289, 3978]
1289 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ "إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ: "إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا"
1290 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ وَهْوَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ وَا أَخَاهُ فَقَالَ عُمَرُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببعض بكاء أهله إذا كان النوح من سنته" هذا تقييد من المصنف لمطلق الحديث وحمل منه لرواية ابن عباس المقيدة بالبعضية على رواية ابن عمر المطلقة كما ساقه في الباب عنهما، وتفسير منه للبعض المبهم في رواية ابن عباس بأنه النوح، ويؤيده أن المحذور بعض البكاء لا جميعه كما سيأتي بيانه. قوله: "إذا كان النوح من سنته" يوهم أنه بقية الحديث المرفوع، وليس كذلك بل هو كلام المصنف قاله تفقها، وبقية السياق يرشد إلى ذلك، وهذا الذي جزم به هو أحد الأقوال في تأويل الحديث المذكور كما سيأتي بيانه. واختلف في ضبط قوله: "من سنته "فللأكثر في الموضعين بضم المهملة وتشديد النون أي طريقته وعادته، وضبط بعضهم بفتح المهملة بعدها موحدتان الأولى مفتوحة أي من أجله، قال صاحب المطالع: حكي عن أبي الفضل بن ناصر أنه رجح هذا وأنكر الأول فقال: وأي سنه للميت؟ انتهى. وقال الزين بن المنير: بل الأول أولى لإشعاره بالعناية بذلك إذ لا يقال من سنته إلا عند غلبة ذلك عليه واشتهاره به. قلت: وكأن البخاري ألهم هذا الخلاف فأشار إلى ترجيح الأول حيث استشهد بالحديث الذي فيه: لأنه أول من سن القتل، فإنه يثبت ما استبعده ابن ناصر بقوله: وأي سنة للميت؟ وأما تعبير المصنف بالنوح فمراده ما كان من البكاء بصياح وعويل، وما يلتحق بذلك من لطم خد وشق جيب وغير ذلك من المنهيات. قوله: "لقول الله تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا" وجه الاستدلال لما ذهب إليه من هذه الآية أن هذا الأمر عام في جهات الوقاية ومن جملتها أن لا يكون الأصل مولعا بأمر منكر لئلا يجري أهله عليه بعده، أو يكون قد عرف أن لأهله عادة بفعل أمر منكر وأهمل نهيهم عنه فيكون لم يق نفسه ولا أهله. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلكم راع الحديث" هو طرف من حديث لابن عمر تقدم موصولا في الجمعة، ووجه الاستدلال منه ما تقدم، لأن من جملة رعايته لهم أن يكون الشر من طريقته فيجري أهله عليه أو يراهم يفعلون الشر فلا ينهاهم

(3/152)


عنه فيسأل عن ذلك ويؤاخذ به. وقد تعقب استدلال البخاري بهذه الآية والحديث على ما ذهب إليه من حمل حديث الباب عليه لأن الحديث ناطق بأن الميت يعذب ببكاء أهله، والآية والحديث يقتضيان أنه يعذب بسنته فلم يتحد الموردان، والجواب أنه لا مانع في سلوك طريق الجمع من تخصيص بعض العمومات وتقييد بعض المطلقات، فالحديث وإن كان دالا على تعذيب كل ميت بكل بكاء لكن دلت أدلة أخرى على تخصيص ذلك ببعض البكاء كما سيأتي توجيهه وتقييد ذلك بمن كانت تلك سنته أو أهمل النهي عن ذلك، فالمعنى على هذا أن الذي يعذب ببعض بكاء أهله من كان راضيا بذلك بأن تكون تلك طريقته إلخ، ولذلك قال المصنف "فإذا لم يكن من سنته" أي كمن كان لا شعور عنده بأنهم يفعلون شيئا من ذلك، أو أدى ما عليه بأن نهاهم فهذا لا مؤاخذة عليه بفعل غيره، ومن ثم قال ابن المبارك: إذا كان ينهاهم في حياته ففعلوا شيئا من ذلك بعد وفاته لم يكن عليه شيء. قوله: "فهو كما قالت عائشة" أي كما استدلت عائشة بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي ولا تحمل حاملة ذنبا ذنب أخرى عنها، وهذا حمل منه لإنكار عائشة على أنها أنكرت عموم التعذيب لكل ميت بكي عليه. وأما قوله: "وهو كقوله وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء" فوقع في رواية أبي ذر وحده "وإن تدع مثقلة ذنوبا إلى حملها" وليست ذنوبا في التلاوة وإنما هو في تفسير مجاهد فنقله المصنف عنه، وموقع التشبيه في قوله أن الجملة الأولى دلت على أن النفس المذنبة لا يؤاخذ غيرها بذنبها، فكذلك الثانية دلت على أن النفس المذنبة لا يحمل عنها غيرها شيئا من ذنوبها ولو طلبت ذلك ودعت إليه، ومحل ذلك كله إنما هو في حق من لم يكن له في شيء من ذلك تسبب، وإلا فهو يشاركه كما في قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم: " فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين" . قوله: "وما يرخص من البكاء في غير نوح" هذا معطوف على أول الترجمة وكأنه أشار بذلك إلى حديث عامر بن سعد عن أبي مسعود الأنصاري وقرظة بن كعب قالا "رخص لنا في البكاء عند المصيبة في غير نوح "أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني وصححه الحاكم، لكن ليس إسناده على شرط البخاري فاكتفى بالإشارة إليه واستغنى عنه بأحاديث الباب الدالة على مقتضاه. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلما.. الحديث" هو طرف من حديث لابن مسعود وصله المصنف في الديات وغيرها، ووجه الاستدلال به أن القاتل المذكور يشارك من صنع صنيعه لكونه فتح له الباب ونهج له الطريق، فكذلك من كانت طريقته النوح على الميت يكون قد نهج لأهله تلك الطريقة فيؤاخذ على فعله الأول. وحاصل ما بحثه المصنف في هذه الترجمة أن الشخص لا يعذب بفعل غيره إلا إذا كان له فيه تسبب، فمن أثبت تعذيب شخص بفعل غيره فمراده هذا، ومن نفاه فمراده ما إذا لم يكن له فيه تسبب أصلا والله أعلم. وقد اعترض بعضهم على استدلال البخاري بهذا الحديث لأن ظاهره أن الوزر يختص بالبادئ دون من أتى بعده، فعلى هذا يختص التعذيب بأول من سن النوح على الموتى. والجواب أنه ليس في الحديث ما ينفي الإثم عن غير البادئ فيستدل على ذلك بدليل آخر، وإنما أراد المصنف بهذا الحديث الرد على من يقول إن الإنسان لا يعذب إلا بذنب باشره بقوله أو فعله فأراد أن يبين أنه قد يعذب بفعل غيره إذا كان له فيه تسبب. وقد اختلف العلماء في مسألة تعذيب الميت بالبكاء عليه فمنهم من حمله على ظاهره وهو بين من قصة عمر مع صهيب كما سيأتي في ثالث أحاديث هذا الباب، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى أن المؤاخذة تقع على الميت إذا كان قادرا على النهي ولم يقع منه، فلذلك بادر إلى نهي صهيب، وكذلك نهى حفصة كما رواه مسلم من طريق نافع عن ابن عمر عنه، وممن أخذ بظاهره أيضا عبد الله

(3/153)


ابن عمر فروى عبد الرزاق من طريقه أنه شهد جنازة رافع بن خديج فقال لأهله "إن رافعا شيخ كبير لا طاقة له بالعذاب، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" ويقابل قول هؤلاء قول من رد هذا الحديث وعارضه بقوله تعالى :{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وممن روي عنه الإنكار مطلقا أبو هريرة كما رواه أبو يعلى من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال أبو هريرة "والله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد فعمدت امرأته سفها وجهلا فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة" وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية منهم أبو حامد وغيره، ومنهم من أول قوله: "ببكاء أهله عليه" على أن الباء للحال، أي أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك أن شدة بكائهم غالبا إنما تقع عند دفنه، وفي تلك الحالة يسأل ويبتدأ به عذاب القبر، فكأن معنى الحديث أن الميت يعذب حالة بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سبا لتعذيبه حكاه الخطابي، ولا يخفى ما فيه من التكلف. ولعل قائله إنما أخذه من قول عائشة "إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن" أخرجه مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها، وعلى هذا يكون خاصا ببعض الموتى. ومنهم من أوله على أن الرواي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه، وأن اللام في الميت لمعهود معين كما جزم به القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره، وحجتهم ما سيأتي في رواية عمرة عن عائشة في رابع أحاديث الباب، وقد رواه مسلم من الوجه الذي أخرجه منه البخاري وزاد في أوله "ذكر لعائشة أن ابن عمر يقول أن الميت ليعذب ببكاء الحي، فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية "فذكرت الحديث. ومنهم من أوله على أن ذلك مختص بالكافر وأن المؤمن لا يعذب بذنب غيره أصلا، وهو بين من رواية ابن عباس عن عائشة وهو ثالث أحاديث الباب. وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيه إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر بل بما استشعرته من معارضه القرآن. قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة أثبتت ما نفته عمرة وعروة عنها، إلا أنها خصته بالكافر لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذابا ببكاء أهله، فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء؟ وقال القرطبي: إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضا ولم يسمع بعضا بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح. وقد جمع كثير من أهل العلم بين حديثي عمر وعائشة بضروب من الجمع: أولها طريقة البخاري كما تقدم توجيهها. ثانيها وهو أخص من الذي قبله ما إذا أوصى أهله بذلك وبه قال المزني وإبراهيم الحربي وآخرون من الشافعية وغيرهم حتى قال أبو الليث السمرقندي. إنه قول عامة أهل العلم، وكذا نقله النووي عن الجمهور قالوا: وكان معروفا للقدماء حتى قال طرفة بن العبد:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
واعترض بأن التعذيب بسبب الوصية يستحق بمجرد صدور الوصية، والحديث دال على أنه إنما يقع عند وقوع الامتثال. والجواب أنه ليس في السياق حصر، فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أنه لا يقع إذا لم يتمثلوا مثلا. ثالثها يقع ذلك أيضا لمن أهمل نهي أهله عن ذلك، وهو قول داود وطائفة، ولا يخفى أن محله ما إذا لم يتحقق أنه ليست لهم بذلك عادة، ولا ظن أنهم يفعلون ذلك قال ابن المرابط: إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النوح وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه فإذا عذب على ذلك عذب بفعل

(3/154)


نفسه لا بفعل غيره بمجرده. رابعها معنى قوله: " يعذب ببكاء أهله " أي بنظير ما يبكيه أهله به، وذلك أن الأفعال التي يعددون بها عليه غالبا تكون من الأمور المنهية فهم يمدحونه بها وهو يعذب بصنيعه ذلك وهو عين ما يمدحونه به، وهذا اختيار ابن حزم وطائفة، واستدل له بحديث ابن عمر الآتي بعد عشرة أبواب في قصة موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: "ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه". قال ابن حزم: فصح أن البكاء الذي يعذب به الإنسان ما كان منه باللسان إذ يندبونه برياسته التي جار فيها، وشجاعته التي صرفا في غير طاعة الله، وجوده الذي لم يضعه في الحق، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخر وهو يعذب بذلك. وقال الإسماعيلي كثر كلام العلماء في هذه المسألة وقال كل مجتهدا على حسب ما قدر له، ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغيرون ويسبون ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الأفعال المحرمة، فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به، لأن الميت يندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر، وهي زيادة ذنب من ذنوبه يستحق العذاب عليها. خامسها معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعا: "الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه واناصراه واكاسياه، جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها" ؟ ورواه ابن ماجه: "يتعتع به ويقال: أنت كذلك"؟ ورواه الترمذي بلفظ: "ما من ميت يموت فتقوم نادبته فتقول: واجبلاه واسنداه أو شبه ذلك من القول إلا وكل به ملكان يلهزانه، أهكذا كنت" ؟ وشاهده ما روى المصنف في المغازي من حديث النعمان بن بشير قال: "أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعت أخته تبكي وتقول: واجبلاه واكذا واكذا، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لي أنت كذلك"؟ سادسها معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها، وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين، ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين، واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة وهي بفتح القاف وسكون التحتانية وأبوها بفتح الميم وسكون المعجمة ثقفية "قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولدته فقاتل معك يوم الربذة ثم أصابته الحمى فمات ونزل علي البكاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا، وإذا مات استرجع، فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم" وهذا طرف من حديث طويل حسن الإسناد أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم. وأخرج أبو داود والترمذي أطرافا منه. قال الطبري: ويؤيد ما قاله أبو هريرة أن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم، ثم ساقه بإسناد صحيح إليه، وشاهده حديث النعمان بن بشير مرفوعا أخرجه البخاري في تاريخه وصححه الحاكم، قال ابن المرابط: حديث قيلة نص في المسألة فلا يعدل عنه. واعترضه ابن رشيد بأنه ليس نصا، وإنما هو محتمل، فإن قوله: "فيستعبر إليه صويحبه "ليس نصا في أن المراد به الميت، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي، وأن الميت يعذب حينئذ ببكاء الجماعة عليه، ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلا: من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته أو بالغ بذلك عذب بصنعه، ومن كان ظالما فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها فإن كان راضيا بذلك التحق بالأول وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كي أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم. والله

(3/155)


تعالى أعلم بالصواب. وحكى الكرماني تفصيلا آخر وحسنه وهو التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} على يوم القيامة، وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ. ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع في الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون الحال في البرزخ بخلاف يوم القيامة والله أعلم. ثم أورد المصنف في الباب خمسة أحاديث: الأول حديث أسامة, قوله: "حدثنا عبدان ومحمد" هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "عن أبي عثمان" هو النهدي كما صرح به في التوحيد من طريق حماد عن عاصم. وفي رواية شعبة في أواخر الطب عن عاصم سمعت أبا عثمان. قوله: "أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم" هي زينب كما وقع في رواية أبي معاوية عن عاصم المذكور في مصنف ابن أبي شيبة. قوله: "إن ابنا لي" قيل هو علي بن أبي العاص بن الربيع، وهو من زينب كذا كتب الدمياطي بخطه في الحاشية، وفيه نظر لأنه لم يقع مسمى في شيء من طرق هذا الحديث. وأيضا فقد ذكر الزبير بن بكار وغيره من أهل العلم بالأخبار أن عليا المذكور عاش حتى ناهز الحلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه على راحلته يوم فتح مكة، ومثل هذا لا يقال في حقه صبي عرفا، وإن جاز من حيث اللغة. ووجدت في الأنساب للبلاذري أن عبد الله بن عثمان بن عفان من رقية بن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره وقال: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء "وفي مسند البزار من حديث أبي هريرة قال ثقل ابن لفاطمة فبعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث الباب وفيه مراجعة سعد بن عبادة في البكاء، فعلى هذا فالابن المذكور محسن بن علي بن أبي طالب، وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيرا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أولى أن يفسر به الابن إن ثبت أن القصة كانت لصبي ولم يثبت أن المرسلة زينب، لكن الصواب في حديث الباب أن المرسلة زينب وإن الولد صبية كما ثبت في مسند أحمد عن أبي معاوية بالسند المذكور ولفظه: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بأمامة بنت زينب" زاد سعدان بن نصر في الثاني من حديثه عن أبي معاوية بهذا الإسناد "وهي لأبي العاص بن الربيع ونفسها تقعقع كأنها في شن" فذكر حديث الباب، وفيه مراجعة سعد بن عبادة. وهكذا أخرجه أبو سعيد بن الأعرابي في معجمه عن سعدان، ووقع في رواية بعضهم أميمة بالتصغير، وهي أمامة المذكورة، فقد اتفق أهل العلم بالنسب أن زينب لم تلد لأبي العاص إلا عليا وأمامة فقط، وقد استشكل ذلك من حيث أن أهل العلم بالأخبار اتفقوا على أن أمامة بنت أبي العاص من زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة، ثم عاشت عند علي حتى قتل عنها. ويجاب بأن المراد بقوله في حديث الباب: "أن ابنا لي قبض" أي قارب أن يقبض، ويدل على ذلك أن في رواية حماد "أرسلت تدعوه إلى ابنها في الموت" وفي رواية شعبة "أن ابنتي قد حضرت" وهو عند أبي داود من طريقه أن ابني أو ابنتي، وقد قدمنا أن الصواب قول من قال ابنتي لا ابني، ومؤيده ما رواه الطبراني في ترجمة عبد الرحمن بن عوف في المعجم الكبير من طريق الوليد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده قال: "استعز بأمامة بنت أبي العاص فبعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه تقول له" فذكر نحو حديث أسامة وفيه مراجعة سعد في البكاء وغير ذلك، وقوله في هذه الرواية: "استعز" بضم المثناة وكسر المهملة وتشديد الزاي أي اشتد بها المرض وأشرفت على الموت، والذي يظهر أن الله تعالى أكرم نبيه صلى الله عليه وسلم لما سلم لأمر ربه وصبر ابنته ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة بأن عافى الله ابنة ابنته في ذلك الوقت فخلصت من تلك الشدة وعاشت

(3/156)


تلك المدة، وهذا ينبغي أن يذكر في دلائل النبوة والله المستعان. قوله: "يقرئ السلام" بضم أوله. قوله: "إن لله ما أخذ وله ما أعطى" قدم ذكر الأخذ على الإعطاء - وإن كان متأخرا في الواقع - لما يقتضيه المقام، والمعنى أن الذي أراد الله أن يأخذه هو الذي كان أعطاه، فإن أخذه أخذ ما هو له، فلا ينبغي الجزع لأن مستودع الأمانة لا ينبغي له أن يجزع إذا استعيدت منه، ويحتمل أن يكون المراد بالإعطاء إعطاء الحياة لمن بقي بعد الميت، أو ثوابهم على المصيبة، أو ما هو أعم من ذلك. و "ما" في الموضعين مصدرية، ويحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف، فعل الأول التقدير لله الأخذ والإعطاء، وعلى الثاني لله الذي أخذه من الأولاد وله ما أعطى منهم، أو ما هو أعم من ذلك كما تقدم. قوله: "وكل" أي من الأخذ والإعطاء -أو من الأنفس- أو ما هو أعم من ذلك، وهي جملة ابتدائية معطوفة على الجملة المؤكدة، ويجوز في كل النصب عطفا على اسم أن فينسحب التأكيد أيضا عليه، ومعنى العندية العلم فهو من مجاز الملازمة، والأجل يطلق على الحد الأخير وعلى مجموع العمر، و قوله: "مسمى" أي معلوم مقدر أو نحو ذلك. قوله: "ولتحتسب" أي تنوي بصبرها طلب الثواب من ربها، ليحسب لها ذلك من عملها الصالح قوله: "فأرسلت إليه تقسم" وقع في حديث عبد الرحمن بن عوف أنها راجعته مرتين وأنه إنما قام في ثالث مرة، وكأنها ألحت عليه في ذلك دفعا لما يظنه بعض أهل الجهل أنها ناقصة المكانة عنده، أو ألهمها الله تعالى أن حضور نبيه عندها يدفع عنها ما هي فيه من الألم ببركة دعائه وحضوره، فحقق الله ظنها. والظاهر أنه امتنع أولا مبالغة في إظهار التسليم لربه، أو ليبين الجواز في أن من دعي لمثل ذلك لم تجب عليه الإجابة بخلاف الوليمة مثلا. قوله: "فقام ومعه" في رواية حماد "فقام وقام معه رجال" وقد سمي منهم غير من ذكر في هذه الرواية عبادة بن الصامت وهو في رواية عبد الواحد في أوائل التوحيد. وفي رواية شعبة أن أسامة راوي الحديث كان معهم. وفي رواية عبد الرحمن بن عوف أنه كان معهم، ووقع في رواية شعبة في الأيمان والنور وأبي أو أبي كذا فيه بالشك هل قالها بفتح الهمزة وكسر الموحدة وتخفيف الياء أو بضم الهمزة وفتح الموحدة والتشديد، فعلى الأول يكون معهم زيد بن حارثة أيضا لكن الثاني أرجح لأنه ثبت في رواية هذا الباب بلفظ: "وأبي بن كعب" والظاهر أن الشك فيه من شعبة لأن ذلك لم يقع في رواية غيره والله أعلم. قوله: "فرفع" كدا هنا بالراء. وفي رواية حماد "فدفع "بالدال وبين في رواية شعبة أنه وضع في حجره صلى الله عليه وسلم. وفي هذا السياق حذف والتقدير فمشوا إلى أن وصلوا إلى بيتها فاستأذنوا فأذن لهم فدخلوا فرفع، ووقع بعض هذا المحذوف في رواية عبد الواحد ولفظه: "فلما دخلنا ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي". قوله: "ونفسه تقعقع قال. حسبت أنه قال كأنها شن" كذا في هذه الرواية، وجزم بذلك في رواية حماد ولفظه: "ونفسه تقعقع كأنها في شن" والقعقعة حكاية صوت الشيء اليابس إذا حرك، والشن بفتح المعجمة وتشديد النون القربة الخلقة اليابسة، وعلى الرواية الثانية شبه البدن بالجلد اليابس الخلق وحركة الروح فيه بما يطرح في الجلد من حصاة ونحوها. وأما الرواية الأولى فكأنه شبه النفس بنفس الجلد وهو أبلغ قي الإشارة إلى شدة الضعف وذلك أظهر في التشبيه. قوله: "ففاضت عيناه" أي النبي صلى الله عليه وسلم وصرح به في رواية شعبة. قوله: "فقال سعد" أي ابن عبادة المذكور، وصرح به في رواية عبد الواحد، ووقع في رواية ابن ماجه من طريق عبد الواحد "فقال عبادة بن الصامت" والصواب ما في الصحيح. قوله: "ما هذا" في رواية عبد الواحد "فقال سعد بن عبادة أتبكي" زاد أبو نعيم في المستخرج "وتنهي عن البكاء". قوله: "فقال هذه" أي الدمعة أثر رحمة، أي أن

(3/157)


الذي يفيض من الدمع من حزن القلب بغير تعمد من صاحبه ولا استدعاء لا مؤاخذة عليه، وإنما المنهي عنه الجزع وعدم الصبر. قوله: "وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" في رواية شعبة في أواخر الطب "ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء" ومن في قوله من عباده بيانية، وهي حال من المفعول قدمه فيكون أوقع، والرحماء جمع رحيم وهو من صيغ المبالغة ومقتضاه أن رحمة الله تختص بمن اتصف بالرحمة وتحقق بها بخلاف من فيه أدنى رحمة، لكن ثبت في حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود وغيره: "الراحمون يرحمهم الرحمن" والراحمون جمع راحم فيدخل كل من فيه أدنى رحمة، وقد ذكر الحربي مناسبة الإتيان بلفظ الرحماء في حديث الباب بما حاصله أن لفظ الجلالة دال على العظمة، وقد عرف بالاستقراء أنه حيث ورد يكون الكلام مسوقا للتعظيم، فلما ذكر هنا ناسب ذكر من كثرت رحمته وعظمته ليكون الكلام جاريا على نسق التعظيم، بخلاف الحديث الآخر فإن لفظ الرحمن دال على العفو فناسب أن يذكر معه كل ذي رحمة وإن قلت، والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم جواز استحضار ذوي الفضل للمحتضر لرجاه بركتهم ودعائهم وجواز القسم عليهم لذلك، وجواز المشي إلى التعزية والعيادة بغير إذن بخلاف الوليمة، وجواز إطلاق اللفظ الموهم لما لم يقع بأنه يقع مبالغة في ذلك لينبعث خاطر المسؤول في المجيء للإجابة إلى ذلك، وفيه استحباب أبرار القسم وأمر صاحب المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت ليقع وهو مستشعر بالرضا مقاوما للحزن بالصبر، وإخبار من يستدعي بالأمر الذي يستدعى من أجله، وتقديم السلام على الكلام، وعيادة المريض ولو كان مفضولا أو صبيا صغيرا. وفيه أن أهل الفضل لا ينبغي أن يقطعوا الناس عن فضلهم ولو ردوا أول مرة، واستفهام التابع من إمامه عما يشكل عليه مما يتعارض ظاهره، وحسن الأدب في السؤال لتقديمه قوله: "يا رسول الله" على الاستفهام. وفيه الترغيب في الشفقة على خلق الله والرحمة لهم والترهيب من قساوة القلب وجمود العين، وجواز البكاء من غير نوح ونحوه. الحديث الثاني حديث أنس: قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو المسندي، وأبو عامر هو العقدي. قوله: "عن هلال" في رواية محمد بن سنان الآتية بعد أبواب "حدثنا هلال". قوله: "شهدنا بنتا للنبي صلى الله عليه وسلم" هي أم كلثوم زوج عثمان رواه الواقدي عن فليح بن سليمان بهذا الإسناد، وأخرجه ابن سعد في الطبقات في ترجمة أم كلثوم، وكذا الدولابي في الذرية الطاهرة، وكذلك رواه الطبري والطحاوي من هذا الوجه، ورواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فسماها رقية أخرجه البخاري في التاريخ الأوسط والحاكم في المستدرك، قال البخاري: ما أدري ما هذا، فإن رقية ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر لم يشهدها. قلت: وهم حماد في تسميتها فقط، ويؤيد الأول ما رواه ابن سعد أيضا في ترجمة أم كلثوم من طريق عمرة بنت عبد الرحمن قالت: نزل في حفرتها أبو طلحة. وأغرب الخطابي فقال: هذه البنت كانت لبعض بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسبت إليه. انتهى ملخصا. وكأنه ظن أن الميتة في حديث أنس هي المحتضرة في حديث أسامة، وليس كذلك كما بينته. قوله: "لم يقارف" بقاف وفاء، زاد ابن المبارك عن فليح "أراه يعني الذنب" ذكره المصنف في "باب من يدخل قبر المرأة" تعليقا، ووصله الإسماعيلي، وكذا سريج بن النعمان عن فليح أخرجه أحمد عنه، وقيل معناه لم يجامع تلك الليلة وبه جزم ابن حزم وقال: معاذ الله أن يتبجح أبو طلحة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يذنب تلك الليلة انتهى. ويقويه أن في رواية ثابت المذكورة بلفظ لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة، فتنحى عثمان. وحكي عن الطحاوي أنه قال: لم يقارف تصحيف، والصواب لم يقاول أي لم ينازع غيره الكلام، لأنهم كانوا يكرهون الحديث بعد العشاء وتعقب بأنه تغليط للثقة بغير

(3/158)


مستند، وكأنه استبعد أن يقع لعثمان ذلك لحرصه على مراعاة الخاطر الشريف. ويجاب عنه باحتمال أن يكون مرض المرأة طال واحتاج عثمان إلى الوقاع، ولم يظن عثمان أنها تموت ملك الليلة، وليس في الخبر ما يقتضي أنه واقع بعد موتها بل ولا حين احتضارها والعلم عند الله تعالى. وفي هذا الحديث جواز البكاء كما ترجم له، وإدخال الرجال المرأة قبرها لكونهم أقوى على ذلك من النساء، وإيثار البعيد العهد عن الملاذ في مواراة الميت -ولو كان امرأة- على الأب والزوج، وقيل إنما آثره بذلك لأنها كانت صنعته، وفيه نظر فإن ظاهر السياق أنه صلى الله عليه وسلم اختاره لذلك لكونه لم يقع منه في تلك الليلة جماع، وعلل ذلك بعضهم بأنه حينئذ يأمن من أن يذكره الشيطان بما كان منه تلك الليلة، وحكي عن ابن حبيب أن السر في إيثار أبي طلحة على عثمان أن عثمان كان قد جامع بعض جواريه في تلك الليلة فتلطف صلى الله عليه وسلم في منعه من النزول في قبر زوجته بغير تصريح، ووقع في رواية حماد المذكورة "فلم يدخل عثمان القبر "وفيه جواز الجلوس على شفير القبر عند الدفن، واستدل به على جواز البكاء بعد الموت، وحكى ابن قدامة في المغني عن الشافعي أنه يكره لحديث جبر بن عتيك في الموطأ فإن فيه: "فإذا وجب فلا تبكين باكية "يعني إذا مات. وهو محمول على الأولوية، والمراد لا ترفع صوتها بالبكاء، ويمكن أن يفرق بين الرجال والنساء في ذلك لأن النساء قد يفضي بهن البكاء إلى ما يحذر من النوح لقلة صبرهن، واستدل به بعضهم على جواز الجلوس عليه مطلقا وفيه نظر، وسيأتي البحث فيه في باب مفرد إن شاء الله تعالى. وفيه فضيلة لعثمان لإيثاره الصدق وإن كان عليه فيه غضاضة. الحديث الثالث قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "بنت لعثمان" هي أم أبان كما سيأتي من رواية أيوب. قوله. "وإني لجالس بينهما، أو قال جلست إلى أحدهما" هذا شك من ابن جريج، ولمسلم من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة قال: "كنت جالسا إلى جنب ابن عمر ونحن ننتظر جنازة أم أبان بنت عثمان وعنده عمرو من عثمان، فجاء ابن عباس يقوده قائده فأراه أخبره بمكان ابن عمر فجاء حتى جلس إلى جنبي فكنت بينهما، فإذا صوت من الدار" وفي رواية عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة عند الحميدي "فبكى النساء "فظهر السبب في قول ابن عمر لعمرو بن عثمان ما قال، والظاهر أن المكان الذي جلس فيه ابن عباس كان أوفق له من الجلوس بجنب ابن عمر، أو اختار أن لا يقيم ابن أبي مليكة من مكانه ويجلس فيه للنهي عن ذلك. قوله: "فلما أصيب عمر" يعني بالقتل، وأفاد أيوب في روايته أن ذلك كان عقب الحجة المذكورة ولفظه: "فلما قدمنا لم يلبث عمر أن أصيب" وفي رواية عمرو بن دينار "لم يلبث أن طعن". قوله: "قال ابن عباس: فلما مات عمر" هذا صريح في أن حديث عائشة من رواية ابن عباس عنها، ورواية مسلم توهم أنه من رواية ابن أبي مليكة عنها، والقصة كانت بعد موت عائشة لقوله فيها "فجاء ابن عباس يقوده قائده" فإنه إنما عمي في أواخر عمره، ويؤيد كون ابن أبي مليكة لم يحمله عنها أن عند مسلم في أواخر القصة "قال ابن أبي مليكة: وحدثني القاسم بن محمد قال لما بلغ عائشة قول ابن عمر قالت: إنكم لتحدثونني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ" وهذا يدل على أن ابن عمر كان قد حدث به مرارا. وسيأتي في الحديث الذي بعده أنه حدث بذلك أيضا لما مات رافع بن خديج. قوله: "ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم" بسكون نون لكن ويجوز تشديدها. قوله: "حسبكم" بسكون السين المهملة أي كافيكم "القرآن" أي في تأييد ما ذهبت إليه من رد الخبر. قوله: "قال ابن عباس عند ذلك" أي عند انتهاء حديثه عن عائشة "والله هو أضحك وأبكى" أي أن العبرة لا يملكها ابن آدم ولا تسبب له فيها فكيف يعاقب عليها فضلا عن الميت. وقال الداودي: معناه أن الله تعالى أذن في الجميل من

(3/159)


البكاء فلا يعذب على ما أذن فيه. وقال الطيبي: غرضه تقرير قول عائشة أي أن بكاء الإنسان وضحكه من الله يظهره فيه فلا أثر له في ذلك. قوله: "ما قال ابن عمر شيئا" قال الطيب وغيره: ظهرت لابن عمر الحجة فسكت مذعنا. وقال الزين بن المنير: سكوته لا يدل على الإذعان فلعله كره المجادلة في ذلك المقام. وقال القرطبي: ليس سكوته لشك طرأ له بعدما صرح برفع الحديث، ولكن احتمل عنده أن يكون الحديث قابلا للتأويل، ولم يتعين له محمل يحمله عليه إذ ذاك أو كان المجلس لا يقبل المماراة ولم تتعين الحاجة إلى ذلك حينئذ. ويحتمل أن يكون ابن عمر فهم من استشهاد ابن عباس بالآية قبول روايته لأنها يمكن أن يتمسك بها في أن لله أن يعذب بلا ذنب فيكون بكاء الحي علامة لذلك، أشار إلى ذلك الكرماني. الحديث الرابع قوله: "عن عبد الله بن أبي بكر" أي ابن محمد بن عمرو بن حزم. قوله: "إنما مر" كذا أخرجه من طريق مالك مختصرا، وهو في الموطأ بلفظ: "ذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه، فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما أنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر" وكذا أخرجه مسلم، وأخرجه أبو عوانة من رواية سفيان عن عبد الله بن أبي بكر كذلك وزاد: "أن ابن عمر لما مات رافع قال لهم: لا تبكوا عليه فإن بكاء الحي على الميت عذاب على الميت. قالت عمرة: فسألت عائشة عن ذلك فقالت: يرحمه الله إنما مر" فذكر الحديث، ورافع المذكور هو رافع بن خديج كما تقدمت الإشارة إليه في الحديث الأول. الحديث الخامس قوله: "عن أبي بردة" هو ابن أبي موسى الأشعري. قوله: "لما أصيب عمر جعل صهيب يقول وا أخاه" أخرجه مسلم من طريق عبد الملك بن عمير عن أبي بردة أتم من هذا السياق وفيه قول عمر "علام تبكي". قوله: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي" الظاهر أن الحي من يقابل الميت، ويحتمل أن يكون المراد به القبيلة وتكون اللام فيه بدل الضمير والتقدير يعذب ببكاء حيه أي قبيلته. فيوافق قوله في الرواية الأخرى "ببكاء أهله" وفي رواية مسلم المذكورة "من يبكي عليه يعذب" ولفظها أعم. وفيه دلالة على أن الحكم ليس خاصا بالكافر، وعلى أن صهيبا أحد من سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه نسيه حتى ذكره به عمر، وزاد فيه عبد الملك بن عمير عن أبي بردة "فذكرت ذلك لموسى بن طلحة فقال: كانت عائشة تقول إنما كان أولئك اليهود" أخرجه مسلم. قال الزين بن المنير: أنكر عمر على صهيب بكاءه لرفع صوته بقوله وا أخاه، ففهم منه أن إظهاره لذلك قبل موت عمر يشعر باستصحابه ذلك بعد وفاته أو زيادته عليه فابتدره بالإنكار لذلك والله أعلم. وقال ابن بطال: إن قيل كيف نهى صهيبا عن البكاء وأقر نساء بني المغيرة على البكاء على خالد كما سيأتي في الباب الذي يليه؟ فالجواب أنه خشي أن يكون رفعه لصوته من باب ما نهي عنه ولهذا قال في قصة خالد "ما لم يكن نقع أو لقلقة".

(3/160)


33 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ
وَالنَّقْعُ التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ وَاللَّقْلَقَةُ الصَّوْتُ
1291 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ"

(3/160)


1292 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ " تَابَعَهُ عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ وَقَالَ آدَمُ عَنْ شُعْبَةَ "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ"
قوله: "باب ما يكره من النياحة على الميت" قال الزين بن المنير: ما موصولة ومن لبيان الجنس فالتقدير: الذي يكره من جنس البكاء هو النياحة، والمراد بالكراهة كراهة التحريم لما تقدم من الوعيد عليه انتهى. ويحتمل أن تكون ما مصدرية ومن تبعيضية والتقدير كراهية بعض النياحة، أشار إلى ذلك ابن المرابط وغيره. ونقل ابن قدامة عن أحمد رواية أن بعض النياحة لا تحرم وفيه نظر، وكأنه أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم لم ينه عمة جابر لما ناحت عليه فدل على أن النياحة إنما تحرم إذا انضاف إليها فعل من ضرب خد أو شق جيب، وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن النياحة بعد هذه القصة لأنها كانت بأحد، وقد قال في أحد "لكن حمزة لا بواكي له" ثم نهى عن ذلك وتوعد عليه، وذلك بين فيما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم من طريق أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنساء بني عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد فقال: لكن حمزة لا بواكي له. فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ويحهن، ما انقلبن بعد، مروهن فلينقلبن، ولا يبكين على هالك بعد اليوم" وله شاهد أخرجه عبد الرزاق من طريق عكرمة مرسلا ورجاله ثقات. قوله: "وقال عمر: دعهن يبكين على أبي سليمان إلخ" هذا الأثر وصله المصنف في التاريخ الأوسط من طريق الأعمش عن شقيق قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة -أي ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم- وهن بنات عم خالد بن الوليد بن المغيرة يبكين عليه، فقيل لعمر: أرسل إليهن فانههن، فذكره. وأخرجه ابن سعد عن وكيع وغير واحد عن الأعمش. قوله: "ما لم يكن نقع أو لقلقة" بقافين الأولى ساكنة، وقد فسره المصنف بأن النقع التراب أي وضعه على الرأس، واللقلقة الصوت أي المرتفع وهذا قول الفراء، فأما تفسير اللقلقة فمتفق عليه كما قال أبو عبيد في غريب الحديث، وأما النقع فروى سعيد بن منصور عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: النقع الشق أي شق الجيوب، وكذا قال وكيع فيما رواه ابن سعد عنه. وقال الكسائي هو صنعة الطعام للمأتم، كأنه ظنه من النقيعة وهي طعام المأتم، والمشهور أن النقيعة طعام القادم من السفر كما سيأتي في آخر الجهاد، وقد أنكره أبو عبيد عليه وقال: الذي رأيت عليه أكثر أهل العلم أنه رفع الصوت، يعني بالبكاء. وقال بعضهم: هو وضع التراب على الرأس، لأن النقع هو الغبار. وقيل: هو شق الجيوب وهو قول شمر، وقيل: هو صوت لطم الخدود حكاه الأزهري. وقال الإسماعيلي معترضا على البخاري: النقع لعمري هو الغبار ولكن ليس هذا موضعه، وإنما هو هنا الصوت العالي، واللقلقة ترديد صوت النواحة انتهى. ولا مانع من حمله على المعنيين بعد أن فسر المراد بكونه وضع التراب على الرأس لأن ذلك من صنيع أهل المصائب، بل قال ابن الأثير: المرجح أنه وضع التراب على الرأس، وأما من فسره بالصوت فيلزم موافقته للقلقة، فحمل اللفظين على معنيين أولى من حملهما على معني واحد، وأجيب بأن بينهما مغايرة من وجه كما تقدم فلا مانع من إرادة ذلك. "تنبيه": كانت وفاة خالد بن الوليد بالشام سنة إحدى
ـــــــ
(1) مراده لما ناحت على أخيها عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما

(3/161)


وعشرين. قوله: "حدثنا سعيد بن عبيد" هو الطائي. قوله: "عن علي بن ربيعة" هو الأسدي، وليس له في البخاري غير هذا الحديث، والإسناد كله كوفيون، وصرح في رواية مسلم بسماع سعيد من علي ولفظه: "حدثنا"، والمغيرة هو ابن شعبة وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن سعيد بن عبيد وفيه علي بن ربيعة قال: "أتيت المسجد والمغيرة أمير الكوفة فقال: سمعت" فذكره. ورواه أيضا من طريق وكيع عن سعيد بن عبيد ومحمد بن قيس الأسدي كلاهما عن علي بن ربيعة قال: "أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب" وفي رواية الترمذي "مات رجل من الأنصار يقال له قرظة بن كعب فنيح عليه، فجاء المغيرة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال النوح في الإسلام" انتهى. وقرظة المذكور بفتح القاف والراء والظاء المشالة أنصاري خزرجي كان أحد من وجهه عمر إلى الكوفة ليفقه الناس، وكان على يده فتح الري، واستخلفه علي1 على الكوفة، وجزم ابن سعد وغير بأنه مات في خلافته وهو قول مرجوح لما ثبت في صحيح مسلم أن وفاته حيث كان المغيرة بن شعبة أميرا على الكوفة، وكانت إمارة المغيرة على الكوفة من قبل معاوية من سنة إحدى وأربعين إلى أن مات وهو عليها سنة خمسين. قوله: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد" أي "غيري"، ومعناه أن الكذب على الغير قد ألف واستسهل خطبه، وليس الكذب علي بالغا مبلغ ذاك في السهولة وإن كان دونه في السهولة فهو أشد منه في الإثم، وبهذا التقرير يندفع اعتراض من أورد أن الذي تدخل عليه الكاف أعلى والله أعلم. وكذا لا يلزم من إثبات الوعيد المذكور على الكذب عليه أن يكون الكذب على غيره مباحا، بل يستدل على تحريم الكذب على غيره بدليل آخر، والفرق بينهما أن الكذب عليه توعد فاعله بجعل النار له مسكنا بخلاف الكذب على غيره، وقد تقدمت بقية مباحث الحديث في كتاب العلم، ويأتي كثير منها في شرح حديث واثلة في أوائل مناقب قريش إن شاء الله تعالى. قوله: "من ينح عليه يعذب " ضبطه الأكثر بضم أوله وفتح النون وجزم المهملة على أن من شرطية وتجزم الجواب، ويجوز رفعه على تقدير فإنه يعذب، وروي بكسر النون وسكون التحتانية وفتح المهملة. وفي رواية الكشميهني: "من يناح" على أن "من" موصولة، وقد أخرجه الطبراني عن علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم بلفظ: "إذا نيح على الميت عذب بالنياحة عليه" وهو يؤيد الرواية الثانية. قوله: "بما نيح عليه" كذا للجميع بكسر النون، ولبعضهم ما نيح بغير موحدة على أن ما ظرفية. قوله: "عن سعيد بن المسيب" في رواية حدثنا سعيد. قوله: "تابعه عبد الأعلى" هو ابن حماد، وسعيد هو ابن أبي عروبة. قوله: "حدثنا قتادة" يعني عن سعيد بن المسيب إلخ، وقد وصله أبو يعلى في مسنده عن عبد الأعلى بن حماد كذلك. قوله: "وقال آدم عن شعبة" يعني بإسناد حديث الباب لكن بغير لفظ المتن وهو قوله: "يعذب ببكاء الحي عليه" تفرد آدم بهذا اللفظ، وقد رواه أحمد عن محمد بن جعفر غندر ويحيى بن سعيد القطان وحجاج بن محمد كلهم عن شعبة كالأول، وكذا أخرجه مسلم عن محمد بن بشار عن محمد بن جعفر، وأخرجه أبو عوانة من طريق أبي النضر وعبد الصمد بن عبد الوارث وأبي زيد الهروي وأسود بن عامر كلهم عن سعيد كذلك، وفي الحديث تقديم من يحدث كلاما يقتضي تصديقه فيما يحدث به فإن المغيرة قدم قبل تحديثه بتحريم النوح أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من الكذب على غيره، وأشار إلى أن الوعيد على ذلك يمنعه أن يخبر عنه بما لم يقل.
ـــــــ
(1) في نسخة أخرى "واستخلفه"

(3/162)


34 – باب – 1293- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ قَدْ مُثِّلَ بِهِ حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُجِّيَ ثَوْبًا فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُفِعَ فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ فَقَالُوا ابْنَةُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو قَالَ فَلِمَ تَبْكِي أَوْ لاَ تَبْكِي فَمَا زَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ"
قوله: "باب" كذا في رواية الأصيلي، وسقط من رواية أبي ذر وكريمة، وعلى ثبوته فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله كما تقدم تقريره غير مرة، وعلى التقديرين فلا بد له من تعلق بالذي قبله، وقد تقدم توجيهه في أول الترجمة. قوله: "قد مثل به" بضم الميم وتشديد المثلثة يقال مثل بالقتيل إذا جدع أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيء من أجزائه. والاسم المثلة بضم الميم وسكون المثلثة. قوله: "سجي ثوبا" بضم المهملة وتشديد الجيم الثقيلة أي غطي بثوب قوله: "ابنة عمرو أو أخت عمرو" هذا شك من سفيان، والصواب بنت عمرو وهي فاطمة بنت عمرو، وقد تقدم على الصواب من رواية شعبة عن ابن المنكدر في أوائل الجنائز بلفظ: "فذهبت عمتي فاطمة" ووقع في "الأكليل" للحاكم تسميتها هند بنت عمرو، فلعل لها اسمين أو أحدهما اسمها والأخر لقبها أو كانتا جميعا حاضرتين. قوله: "قال فلم؟ تبكي أو لا تبكي" هكذا في هذه الرواية بكسر اللام وفتح الميم على أنه استفهام عن غائبة، وأما قوله: "أو لا تبكي "فالظاهر أنه شك من الرواي هل استفهم أو نهى، لكن تقدم في أوائل الجنائز من رواية شعبة "تبكي أو لا تبكي "وتقدم شرحه على التخيير، ومحصله أن هذا الجليل القدر الذي تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يبكي عليه بل يفرح له بما صار إليه.

(3/163)


35 - باب لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ
1294 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ الْيَامِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ"
[الحديث 1294 – أطرافه في: 1297, 1298, 3519]
قوله: "باب ليس منا من شق الجيوب" قال الزين بن المنير: أفرد هذا القدر بترجمة ليشعر بأن النفي الذي حاصله التبري يقع بكل واحد من المذكورات لا بمجموعها. قلت: ويؤيده رواية لمسلم بلفظ: "أو شق الجيوب، أو دعا" إلخ. قوله: "حدثنا زبيد" بزاي وموحدة مصغر. قوله: "اليامي" بالتحتانية والميم الخفيفة وفي رواية الكشميهني: "الأيامي "بزيادة همزة في أوله. والإسناد كله كوفيون، ولسفيان وهو الثوري فيه إسناد آخر سيذكر بعد بابين. قوله: "ليس منا" أي من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست مني، أي ما أنت على طريقتي. وقال الزين بن المنير ما ملخصه: التأويل الأول يستلزم أن يكون الخبر إنما ورد عن أمر وجودي، وهذا يصان كلام الشارع عن الحمل عليه. والأولى أن يقال: المراد أن الواقع في ذلك يكون قد تعرض

(3/163)


لأن يهجر ويعرض عنه فلا يختلط بجماعة السنة تأديبا له على استصحابه حاله الجاهلية التي قبحها الإسلام، فهذا أولى من الحمل على ما لا يستفاد منه قدر زائد على الفعل الموجود. وحكي عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويله ويقول: ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر. وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل، أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله، حكاه ابن العربي. ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبري الأتي في حديث أبي موسى بعد باب حيث قال: "برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم" وأصل البراءة الانفصال من الشيء، وكأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته مثلا. وقال المهلب: قوله أنا بريء أي من فاعل ما ذكر وقت ذلك الفعل، ولم يرد نفيه عن الإسلام. قلت: بينهما واسطة تعرف مما تقدم أول الكلام، وهذا يدل على تحريم ما ذكر من شق الجيب وغيره. وكأن السبب في ذلك ما تضمنه ذلك من عدم الرضا بالقضاء، فإن وقع التصريح بالاستحلال مع العلم بالتحريم أو التسخط مثلا بما وقع فلا مانع من حمل النفي على الإخراج من الدين. قوله: "لطم الخدود" خص الخد بذلك لكونه الغالب في ذلك، وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك. قوله: "وشق الجيوب" جمع جيب بالجيم الموحدة وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقه إكمال فتحه إلى آخره وهو من علامات التسخط. قوله: "ودعا بدعوى الجاهلية" في رواية مسلم بدعوى أهل الجاهلية، أي من النياحة ونحوها، وكذا الندبة كقولهم: واجبلاه، وكذا الدعاء بالويل والثبور كما سيأتي بعد ثلاثة أبواب.

(3/164)


36 - باب رِثَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ
1295 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لاَ فَقُلْتُ بِالشَّطْرِ فَقَالَ لاَ ثُمَّ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ"
قوله: "باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة" سعد بالنصب علق المفعولية، وخولة بفتح المعجمة وسكون الواو والرثاء بكسر الراء وبالمثلثة بعدها مدة مدح الميت وذكر محاسنه، وليس هو المراد من الحديث حيث قال الراوي "يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولهذا اعترض الإسماعيلي الترجمة فقال: ليس هذا من مراثي الموتى وإنما هو من التوجع، يقال رثيته إذا مدحته بعد موته ورثيت له إذا تحزنت عليه. ويمكن أن يكون مراد البخاري هذا بعينه كأنه يقول ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من التحزن والتوجع وهو مباح، وليس معارضا لنهيه عن المراثي التي هي ذكر أوصاف الميت المباعثة على تهييج الحزن وتجديد اللوعة، وهذا هو المراد بما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه

(3/164)


الحاكم من حديث عيد الله بن أبي أوفى قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي" وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ: "نهانا أن نتراثى"، ولا شك أن الجامع بين الأمرين التوجع والتحزن. ويؤخذ من هذا التقرير مناسبة إدخال هذه الترجمة في تضاعيف التراجم المتعلقة بحال من يحضر الميت. قوله: "أن مات" بفتح الهمزة ولا يصح كسرها لأنها تكون شرطية والشرط لما يستقبل وهو قد كان مات، والمعنى أن سعد بن خولة وهو من المهاجرين من مكة إلى المدينة وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها وتركوها مع حبهم فيها لله تعالى، فمن ثم خشي سعد بن أبي وقاص أن يموت بها، وتوجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة لكونه مات بها، وأفاد أبو داود الطيالسي في روايته لهذا الحديث عن إبراهيم بن سعد عن الزهري أن القاتل يرثي له إلخ هو الزهري، ويؤيده أن هاشم بن هاشم وسعد بن إبراهيم رويا هذا الحديث عن عامر بن سعد فلم يذكرا ذلك فيه، وكذا في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها كما سيأتي في كتاب الوصايا مع بقية الكلام عليه وذكر الاختلاف في تسمية البنت المذكورة إن شاء الله تعالى.

(3/165)


باب ما ينهى عن الحلق عند المصيبة
...
37 - باب مَا يُنْهَى مِنْ الْحَلْقِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
1296 - وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا شَدِيدًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ"
قوله: "باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة" تقدم الكلام على هذا التركيب في "باب ما يكره من النياحة على الميت" وعلى الحكمة في اقتصاره على الحلق دون ما ذكر معه في الباب الذي قبله، وقوله: "عند المصيبة "مصر للحكم على تلك الحالة ومر واضح. قوله: "وقال الحكم بن موسى" هو القنطري بقاف مفتوحة ونون ساكنة، ووقع في رواية أبي الوقت "حدثنا الحكم" وهو وهم فإن الذين جمعوا رجال البخاري في صحيحه أطبقوا على ترك ذكره في شيوخه فدل على أن الصواب رواية الجماعة بصيغة التعليق. وقد وصله مسلم في صحيحه فقال: "حدثنا الحكم بن موسى" وكذا ابن حبان فقال: "أخبرنا أبو يعلى حدثنا الحكم". قوله: "عن عبد الرحمن بن جابر" هو ابن يزيد بن جابر، نسب إلى جده في هذه الرواية وصرح به في رواية مسلم، ومخيمرة بمعجمة وراء مصغر. قوله: "وجع" بكسر الجيم. قوله: "في حجر امرأة من أهله" زاد مسلم: "فصاحت" وله من وجه آخر من طريق أبي صخرة عن أبي بردة وغيره: "قالوا أغمي على أبي موسى، فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة" الحديث. وللنسائي من طريق يزيد بن أ