الجمعة، 6 مايو 2022

مج 10 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

  مج 10 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

23 - باب الضِّجْعَةِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ
1160 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ"
قوله: "باب الضجعة" بكسر الضاد المعجمة لأن المراد الهيئة، وبفتحها على إرادة المرة. قوله: "أبو الأسود" هو النوفلي يتيم عروة. قوله: "على شقه الأيمن" قيل الحكمة فيه أن القلب في جهة اليسار فلو اضطجع عليه لاستغرق نوما لكونه أبلغ في الراحة، بخلاف اليمين فيكون القلب معلقا فلا يستغرق. وفيه أن الاضطجاع إنما يتم إذا كان على الشق الأيمن، وأما إنكار ابن مسعود الاضطجاع، وقول إبراهيم النخعي هي ضجعة الشيطان كما أخرجهما ابن أبي شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهما الأمر بفعله، وكلام ابن مسعود يدل على أنه إنما أنكر تحتمه فإنه قال في آخر كلامه: إذا سلم فقد فصل، وكذا ما حكى عن ابن عمر أنه بدعة فإنه شذ بذلك حتى روي عنه أنه أمر بحصب من اضطجع كما تقدم. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع، وأرجح الأقوال مشروعيته للفصل لكن لا بعينه كما تقدم. والله أعلم.

(3/43)


24 - باب مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ
1161 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلاَ اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤْذَنَ بِالصَّلاَةِ"
قوله: "باب من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع" أشار بهذه الترجمة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم عليها، وبذلك احتج الأئمة على عدم الوجوب، وحملوا الأمر الوارد بذلك في حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره على الاستحباب، وفائدة ذلك الراحة والنشاط لصلاة الصبح، وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للتهجد وبه جزم ابن العربي، ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأب

(3/43)


26 (1)- باب الْحَدِيثِ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ
1168 – حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال أبو النضر حدثني عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين, فإن كنت مستيقضة حدثني, وإلا اضطجع" قلت لسفيان: فإن
ـــــــ
1 الباب رقم 25 وأحاديثه الستة بأرقام 1167,1166,1165,1164,1163,1162تأتي في ص 48-49 بعد الانتهاء من شرح الحديث رقم 1171 وسينبه الشارح على ذلك هناك.

(3/44)


بعضهم يرويه ركعتي الفجر, قال سفيان: هو ذاك
قوله: "باب الحديث بعد ركعتي الفجر" أعاد فيه الحديث المذكور ولفظه: "كان يصلي ركعتين" وفي آخره: قلت لسفيان فإن بعضهم يرويه "ركعتي الفجر" قال سفيان: هو ذاك. والقائل "قلت لسفيان" هو علي بن المديني شيخ البخاري فيه، ومراده بقوله: "بعضهم" مالك كذا أخرجه الدارقطني من طريق بشر بن عمر عن مالك أنه سأله عن الرجل يتكلم بعد طلوع الفجر فحدثني عن سالم فذكره، وقد أخرجه ابن خزيمة عن سعيد بن عبد الرحمن المحزومي عن ابن عيينة بلفظ: "كان يصلي ركعتي الفجر" واستدل به على جواز الكلام بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح خلافا لمن كره ذلك، وقد نقله ابن أبي شيبة عن ابن مسعود ولا يثبت عنه وأخرجه صحيحا عن إبراهيم وأبي الشعثاء وغيرهما. "تنبيه": وقع هنا في بعض النسخ عن سفيان "قال سالم أبو النضر حدثني أبي" وقوله: "أبي" زيادة لا أصل لها: بل هي غلط محض حمل عليها تقديم الاسم على الصفة فظن بعض من لا خبرة له أن فاعل حدثني راو غير سالم فزاد في السند لفظ أبي، وقد تقدم الحديث بهذا السند قريبا عن بشر بن الحكم عن سفيان عن أبي النضر عن أبي سلمة ليس بينهما أحد، وكذا في الذي قبله من رواية مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة، وقد أخرجه الحميدي في مسنده عن سفيان حدثنا أبو النضر عن أبي سلمة، وليس لوالد أبي النضر مع ذلك رواية أصلا لا في الصحيح ولا في غيره فمن زادها فقد أخطأ. وبالله التوفيق.

(3/45)


27 - باب تَعَاهُدِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَمَنْ سَمَّاهُمَا تَطَوُّعًا
1169 - حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ"
قوله: "باب تعاهد ركعتي الفجر ومن سماهما" في رواية الحموي والمستملي: "ومن سماها" أي سنة الفجر.
قوله: "تطوعا" أورد في الباب بلفظ النوافل، وأشار بلفظ التطوع إلى ما ورد في بعض طرقه، ففي رواية أبي عاصم عن ابن جريج عند البيهقي "قلت لعطاء أواجبة ركعتا الفجر أو هي من التطوع؟ فقال: حدثني عبيد بن عمير" فذكر الحديث. وجاء عن عائشة أيضا تسميتها تطوعا من وجه آخر، فعند مسلم من طريق عبد الله بن شقيق "سألت عائشة عن تطوع النبي صلى الله عليه وسلم: "فذكر الحديث وفيه: "وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين". الحديث: قوله: "بيان" بفتح الموحدة والتحتانية الخفيفة. ويحيى بن سعيد هو القطان. قوله: "عن عطاء" في رواية مسلم عن زهير بن حرب عن يحيي عن ابن جريج" حدثني عطاء". قوله: "عن عبيد بن عمير" في رواية ابن خزيمة عن يحيي بن حكيم عن يحيي بن سعيد بسنده "أخبرني عبيد بن عمير". قوله: "أشد تعاهدا" في رواية ابن خزيمة: "أشد معاهدة" ولمسلم من طريق حفص عن ابن جريج "ما رأيته إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر" زاد ابن خزيمة من هذا الوجه "ولا إلى غنيمة".

(3/45)


28 - باب مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ
1170 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(3/45)


25 - باب مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى
وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَأَنَسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ مَا أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ أَرْضِنَا إِلاَّ يُسَلِّمُونَ فِي كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنْ النَّهَارِ
1162 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَمُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وآجلة فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ"
[الحديث 1162طرفاه في 7390,6382]
1163 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ سَمِعَ أَبَا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِيٍّ الْأنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ"
1164- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ:أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ انْصَرَفَ".
1165 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ"

(3/48)


1166 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ أَوْ قَدْ خَرَجَ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ"
1167 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: "أُتِيَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مَنْزِلِهِ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ قَالَ فَأَقْبَلْتُ فَأَجِدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ وَأَجِدُ بِلاَلًا عِنْدَ الْبَابِ قَائِمًا فَقُلْتُ: يَا بِلاَلُ أَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ: فَأَيْنَ؟ قَالَ: بَيْنَ هَاتَيْنِ الأُسْطُوَانَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَكْعَتَيْ الضُّحَى وَقَالَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ: "غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا امْتَدَّ النَّهَارُ وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ"
قوله: "باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى" أي في صلاة الليل والنهار، قال ابن رشيد: مقصوده أن يبين بالأحاديث والآثار التي أوردها أن المراد بقوله في الحديث: "مثنى مثنى" أن يسلم من كل ثنتين.
قوله: "قال محمد" هو المصنف. قوله: "ويذكر ذلك عن عمار وأبي ذر وأنس وجابر بن زيد وعكرمة والزهري" أما عمار فكأنه أشار إلى ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عمار بن ياسر "أنه دخل المسجد فصلى ركعتين خفيفتين" إسناده حسن. وأما أبو ذر فكأنه أشار إلى ما رواه ابن أبي شيبة أيضا من طريق مالك بن أوس عن أبي ذر "أنه دخل المسجد فأتى سارية وصلى عندها ركعتين". وأما أنس فكأنه أشار إلى حديثه المشهور في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بهم في بيتهم ركعتين وقد تقدم في الصفوف، وذكره في هذا الباب مختصرا. وأما جابر بن زيد وهو أبو الشعثاء البصري فلم أقف عليه بعد، وأما عكرمة فروى ابن أبي شيبة عن حرمي بن عمارة عن أبي خلدة قال: "رأيت عكرمة دخل المسجد فصلى فيه ركعتين" وأما الزهري فلم أقف على ذلك عنه موصولا. قوله: "وقال يحيى بن سعيد الأنصاري إلخ" لم أقف عليه موصولا أيضا. قوله: "فقهاء أرضنا" أي المدينة، وقد أدرك كبار التابعين بها كسعيد بن المسيب، ولحق قليلا من صغار الصحابة كأنس بن مالك ثم أورد المصنف في الباب ثمانية أحاديث مرفوعة ستة منها موصولة واثنان معلقان:. أولهما حديث جابر في صلاة الاستخارة سيأتي الكلام عليه في الدعوات. ثانيها حديث أبي قتادة في تحية المسجد وقد تقدم الكلام عليه في أوائل الصلاة. ثالثها حديث أنس في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم وقد تقدم في الصفوف. رابعها حديث ابن عمر في رواتب الفرائض وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه. خامسها حديث جابر في صلاة التحية والإمام يخطب وسبق الكلام عليه في كتاب الجمعة. سادسها حديث ابن عمر عن بلال في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة وقد تقدم في أبواب القبلة وسيأتي الكلام عليه في الحج، سابعها قوله: "وقال أبو هريرة أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بركعتي الضحى" هذا طرف من حديث سيأتي في كتاب الصيام بتمامه، ثامنها قوله: "وقال عتبان بن مالك" هو طرف من حديث تقدم في مواضع مطولا ومختصرا: منها في "باب المساجد في البيوت" وسيأتي قريبا في "باب صلاة النوافل جماعة". ومراد المصنف بهذه الأحاديث الرد على من زعم أن التطوع في النهار يكون أربعا موصولة، واختار الجمهور التسليم من كل ركعتين في صلاة الليل

(3/49)


والنهار. وقال أبو حنيفة وصاحباه: يخير في صلاة النهار بين الثنتين والأربع وكرهوا الزيادة على ذلك، وقد تقدم في أوائل أبواب الوتر حكاية استدلال من استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى" على أن صلاة النهار بخلاف ذلك. وقال ابن المنير في الحاشية: إنما خص الليل بذلك لأن فيه الوتر فلا يقاس على الوتر غيره فيتنفل المصلي بالليل أوتارا، فبين أن الوتر لا يعاد وأن بقية صلاة الليل مثني، وإذا ظهرت فائدة تخصيص الليل صار حاصل الكلام صلاة النافلة سوى الوتر مثنى فيعم الليل والنهار. والله أعلم.
" خاتمة ": اشتملت أبواب التهجد وما انضم إليها على ستة وستين حديثا، المعلق اثنا عشر حديثا، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثة وأربعون حديثا، والخالص ثلاثة وعشرون وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عائشة في صلاة الليل سبع وتسع وإحدى عشرة، وحديث أنس كان يفطر حتى نظن أن لا يصوم وحديث سمرة في الرؤيا، وحديث سلمان وأبي الدرداء، وحديث عبادة "من تعار من الليل" وحديث أبي هريرة في شعر ابن رواحة، وحديث جابر في الاستخارة. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين عشرة آثار. والله أعلم.

(3/50)


29 - باب التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ
1172 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فَفِي بَيْتِهِ" قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي أَهْلِهِ تَابَعَهُ كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ وَأَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ
1173 - وَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي حَفْصَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَكَانَتْ سَاعَةً لاَ أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ "بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي أَهْلِهِ"
"أبواب التطوع" لم يفرد المصنف هذه الترجمة فيما وقفت عليه من الأصول قوله: "باب التطوع بعد المكتوبة" ترجم أولا بما بعد المكتوبة ثم ترجم بعد ذلك بما قبل المكتوبة. قوله: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم سجدتين" أي ركعتين، والمراد بقوله: "مع" التبعية أي أنهما اشتركا في كون كل منهما صلاة إلا التجميع فلا حجة فيه لمن قال يجمع في رواتب الفرائض، وسيأتي بعد أربعة أبواب من رواية أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: "حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات" فذكرها. قوله: "قبل الظهر" سيأتي الكلام عليه بعد أربعة أبواب. قوله: "فأما المغرب والعشاء ففي بيته" استدل به على أن فعل النوافل الليلية في البيوت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار، وحكى ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به لذلك نظر، والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبا وبالليل يكون في بيته غالبا، وتقدم في الجمعة من طريق مالك عن نافع بلفظ: "وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف" والحكمة في ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة،

(3/50)


بخلاف الظهر فإنه كان يبرد بها وكان يقيل قبلها، وأغرب ابن أبي ليلى فقال: لا تجزئ سنة المغرب في المسجد حكاه عبد الله بن أحمد عنه عقب روايته لحديث محمود بن لبيد رفعه: "إن الركعتين بعد المغرب من صلاة البيوت" وقال إنه حكى ذلك لأبيه عن ابن أبي ليلى فاستحسنه. قوله: "وحدثتني أختي حفصة" أي بنت عمر، وقائل ذلك هو عبد الله بن عمر. قوله: "سجدتين" في رواية الكشميهني: "ركعتين". قوله: "وكانت ساعة" قائل ذلك هو ابن عمر، وسيأتي من رواية أيوب بلفظ: "ركعتين قبل صلاة الصبح وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وحدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر صلى ركعتين" وهذا يدل على أنه إنما أخذ عن حفصة وقت إيقاع الركعتين قبل الصبح لا أصل مشروعيتهما، وقد تقدم في أواخر الجمعة من رواية مالك عن نافع وليس فيه ذكر الركعتين اللتين قبل الصبح أصلا. قوله: "وقال ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن نافع" أي عن ابن عمر "بعد العشاء في أهله" أي بدل قوله في "بيته". قوله: "تابعه كثير بن فرقد وأيوب عن نافع" أما رواية كثير فلم تقع لي موصولة، وأما رواية أيوب فتقدمت الإشارة إليها قريبا، وفيه حجة لمن ذهب إلى أن للفرائض رواتب تستحب المواظبة عليها وهو قول الجمهور، وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا توقيت في ذلك حماية للفرائض، لكن لا يمنع من تطوع بما شاء إذا أمن ذلك، وذهب العراقيون من أصحابه إلى موافقة الجمهور.

(3/51)


30 - باب مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ
1174 - حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن عمرو قال سمعت أبا الشعثاء جابرا قال سمعت بن عباس رضي الله عنهما قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانيا جميعا وسبعا جميعا" قلت يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وعجل العشاء وأخر المغرب قال وأنا أظنه
قوله: "باب من لم يتطوع بعد المكتوبة" أورد فيه حديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين، وقد تقدم الكلام عليه في المواقيت، ومطابقته للترجمة أن الجمع يقتضي عدم التخلل بين الصلاتين بصلاة راتبة أو غيرها فيدل على ترك التطوع بعد الأولى وهو المراد، وأما التطوع بعد الثانية فمسكوت عنه، وكذا التطوع قبل الأولى محتمل.

(3/51)


31 - باب صَلاَةِ الضُّحَى فِي السَّفَرِ
1175 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ تَوْبَةَ عَنْ مُوَرِّقٍ قَالَ "قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتُصَلِّي الضُّحَى قَالَ لاَ قُلْتُ فَعُمَرُ قَالَ لاَ قُلْتُ فَأَبُو بَكْرٍ قَالَ لاَ قُلْتُ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لاَ إِخَالُهُ"
1176 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ مَا حَدَّثَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ فَإِنَّهَا قَالَتْ "إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فَلَمْ أَرَ صَلاَةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ"

(3/51)


32 - باب مَنْ لَمْ يُصَلِّ الضُّحَى وَرَآهُ وَاسِعًا
1177 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى وَإِنِّي لاَسَبِّحُهَا"
قوله: "باب من لم يصل الضحى ورآه" أي الترك "واسعا" أي مباحا. قوله: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى" تقدم أن المراد بقوله السبحة النافلة، وأصلها من التسبيح، وخصت النافلة بذلك لأن التسبيح الذي

(3/55)


في الفريضة نافلة فقيل لصلاة النافلة سبحة لأنها كالتسبيح في الفريضة. قوله: "وإني لأسبحها" كذا هنا من السبحة، وتقدم في "باب التحريض على قيام الليل" بلفظ: "وإني لأستحبها" من الاستحباب، وهو من رواية مالك عن ابن شهاب ولكل منهما وجه، لكن الأول يقتضي الفعل والثاني لا يستلزمه، وجاء عن عائشة في ذلك أشياء مختلفة أوردها مسلم: فعنده من طريق عبد الله بن شقيق "قلت لعائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه"، وعنده من طريق معاذة عنها "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله" ففي الأول نفي رؤيتها لذلك مطلقا، وفي الثاني تقييد النفي بغير المجيء من مغيبه، وفي الثالث الإثبات مطلقا. وقد اختلف العلماء في: ذلك: فذهب ابن عبد البر وجماعة إلى ترجيح ما اتفق الشيخان عليه دون ما انفرد به مسلم وقالوا: إن عدم رؤيتها لذلك لا يستلزم عدم الوقوع، فيقدم من روي عنه من الصحابة الإثبات، وذهب آخرون إلى الجمع بينهما. قال البيهقي: عندي أن المراد بقولها "ما رأيته سبحها" أي داوم عليها. وقولها "وإني لأسبحها" أي أداوم عليها، وكذا قولها "وما أحدث الناس شيئا" تعني المداومة عليها. قال: وفي بقية الحديث - أي الذي تقدم من رواية مالك - إشارة إلى ذلك حيث قالت: "وإن كان ليدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم" انتهى. وحكى المحب الطبري أنه جمع بين قولها "ما كان يصلي إلا أن يجيء من مغيبه" وقولها "كان يصلي أربعا ويزيد ما شاء الله" بأن الأول محمول على صلاته إياها في المسجد، والثاني على البيت. قال: ويعكر عليه حديثها الثالث - يعني حديث الباب - ويجاب عنه بأن المنفي صفة مخصوصة، وأخذ الجمع المذكور من كلام ابن حبان. وقال عياض وغيره: قوله: "ما صلاها" معناها ما رأيته يصليها، والجمع بينه وبين قولها "كان يصليها" أنها أخبرت في الإنكار عن مشاهدتها وفي الإثبات عن غيرها. وقيل في الجمع أيضا: يحتمل أن تكون نفت صلاة الضحى المعهودة حينئذ من هيئة مخصوصة بعدد مخصوص في وقت مخصوص، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يصليها إذا قدم من سفر لا بعدد مخصوص ولا بغيره كما قالت: "يصلي أربعا ويزيد ما شاء الله".
" تنبيه ": حديث عائشة يدل على ضعف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه، وعدها لذلك جماعة من العلماء من خصائصه، ولم يثبت ذلك في خبر صحيح. وقول الماوردي في الحاوي إنه صلى الله عليه وسلم واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات يعكر عليه ما رواه مسلم من حديث أم هانئ أنه لم يصلها قبل ولا بعد. ولا يقال إن نفي أم هانئ لذلك يلزم1 منه العدم لأنا نقول: يحتاج من أثبته إلى دليل، ولو وجد لم يكن حجة، لأن عائشة ذكرت أنه كان إذا عمل عملا أثبته، فلا تستلزم المواظبة على هذا الوجوب عليه.
ـــــــ
13 كذا في النسخ, ولعله "لا يلزم"

(3/56)


33 - باب صَلاَةِ الضُّحَى فِي الْحَضَرِ
قاله عتبان بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
1178 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْجُرَيْرِيُّ هُوَ ابْنُ فَرُّوخَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَلاَةِ الضُّحَى وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ"
[الحديث 1178 – طرفه في: 1981]

(3/56)


1179 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّ قَالَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ وَكَانَ ضَخْمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الصَّلاَةَ مَعَكَ فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَدَعَاهُ إِلَى بَيْتِهِ وَنَضَحَ لَهُ طَرَفَ حَصِيرٍ بِمَاءٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنِ بْنِ جَارُودٍ لِأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى فَقَالَ مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ"
قوله: "باب صلاة الضحى في الحضر، قاله عتبان بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم" كأنه يشير إلى ما رواه أحمد من طريق الزهري عن محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيته سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا بصلاته" أخرجه عن عثمان بن عمر عن يونس عنه، وقد أخرجه مسلم من رواية ابن وهب عن يونس مطولا لكن ليس فيه ذكر السبحة، وكذلك أخرجه المصنف مطولا ومختصرا في مواضع وسيأتي بعد بابين. قوله: "حدثنا عباس" بالموحدة والمهملة، والجريري بضم الجيم. قوله: "أوصاني خليلي" الخليل الصديق الخالص الذي تخللت محبته القلب فصارت في خلاله أي في باطنه، واختلف هل الخلة أرفع من المحبة أو العكس، وقول أبى هريرة هذا لا يعارضه ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر" لأن الممتنع أن يتخذ هو صلى الله عليه وسلم غيره خليلا لا العكس، ولا يقال إن المخاللة لا تتم حني تكون من الجانبين لأنا نقول: إنما نظر الصحابي إلى أحد الجانبين فأطلق ذلك، أو لعله أراد مجرد الصحبة أو المحبة. قوله: "بثلاث لا أدعهن حتى أموت" يحتمل أن يكون قوله: "لا أدعهن إلخ" من جملة الوصية، أي أوصاني أن لا أدعهن، ويحتمل أن يكون من إخبار الصحابي بذلك عن نفسه. قوله: "صوم ثلاثة أيام" بالخفض بدل من قوله: "بثلاث"، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: "من كل شهر" الذي يظهر أن المراد بها البيض، وسيأتي تفسيرها في كتاب الصوم. قوله: "وصلاة الضحى" زاد أحمد في روايته: "كل يوم" وسيأتي في الصيام من طريق أبي التياح عن أبي عثمان بلفظ: "وركعتي الضحى" قال ابن دقيق العيد: لعله ذكر الأقل الذي يوجد التأكيد بفعله، وفي هذا دلالة على استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، وعدم مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها لا ينافي استحبابها لأنه حاصل بدلالة القول، وليس من شرط الحكم أن تتضافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعله مرجح على ما لم يواظب عليه. قوله: "ونوم على وتر" في رواية أبي التياح "وأن أوتر قبل أن أنام" وفيه استحباب تقديم الوتر على النوم وذلك في حق من لم يثق بالاستيقاظ، ويتناول من يصلي بين النومين. وهذه الوصية لأبي هريرة ورد مثلها لأبي الدرداء فيما رواه مسلم، ولأبي ذر فيما رواه النسائي. والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام ليدخل في الواجب منهما بانشراح، ولينجبر ما لعله يقع فيه من نقص. ومن فوائد ركعتي الضحى أنها تجزئ عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يوم وهي ثلاثمائة وستون مفصلا كما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر وقال فيه: "ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى" وحكى شيخنا الحافظ أبو الفضل بن الحسين في شرح الترمذي أنه اشتهر بين العوام أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى، فصار كثير من الناس يتركونها أصلا لذلك، وليس لما قالوه أصل، بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام ليحرمهم الخير الكثير لا سيما ما وقع في حديث أبي ذر.
" تنبيهان ": الأول اقتصر في الوصية للثلاثة المذكورين على الثلاثة المذكورة لأن الصلاة والصيام أشرف العبادات

(3/57)


البدنية، ولم يكن المذكورون من أصحاب الأموال. وخصت الصلاة بشيئين لأنها تقع ليلا ونهارا بخلاف الصيام.
"الثاني" ليس في حديث أبي هريرة تقييد بسفر ولا حضر.والترجمة مختصة بالحضر، لكن الحديث يتضمن الحضر لأن إرادة الحضر فيه ظاهرة، وحمله على الحضر والسفر ممكن، وأما حمله على السفر دون الحضر فبعيد لأن السفر مظنة التخفيف. قوله: "قال رجل من الأنصار" قيل هو عتبان بن مالك، لأن في قصته شبها بقصته، وقد تقدم هذا الحديث عن آدم عن شعبة بهذا الإسناد والمتن في "باب هل يصلي الإمام بمن حضر" من أبواب الإمامة مع الكلام عليه. قوله: "يصلي الضحى" قال ابن رشيد: هذا يدل على أن ذلك كان كالمتعارف عندهم وإلا فصلاته صلى الله عليه وسلم في بيت الأنصاري وإن كانت في وقت صلاة الضحى لا يلزم نسبتها لصلاة الضحى. قلت: إلا أنا قدمنا أن القصة لعتبان بن مالك، وقد تقدم في صدر الباب أن عتبان سماها صلاة الضحى فاستقام مراد المصنف، وتقييده ذلك بالحضر ظاهر لكونه صلى في بيته. قوله: "ما رأيته صلى" في الرواية الماضية "يصلي الضحى". قوله: "إلا ذلك اليوم" يأتي فيه ما تقدم ذكره قي حديث ابن عمر وعائشة من الجمع، والله أعلم.

(3/58)


باب الركعتين بقبل الظهر
...
34 - باب الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ
1180 - حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما قال ثم "حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح كانت ساعة لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها"
1181 - حدثتني حفصة "أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر صلى ركعتين"
1182 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ"
تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَعَمْرٌو عَنْ شُعْبَةَ
قوله: "باب الركعتين قبل الظهر" ترجم أولا بالرواتب التي بعد المكتوبات، ثم أورد ما يتعلق بما قبلها، وقد تقدم الكلام على ركعتي الفجر والكلام على حديث ابن عمر وهو ظاهر فيما ترجم له، وأما حديث عائشة فقوله فيه: "إنه كان لا يدع أربعا قبل الظهر" لا يطابق الترجمة، ويحتمل أن يقال: مراده بيان أن الركعتين قبل الظهر ليستا حتما بحيث يمتنع الزيادة عليهما، قال الداودي: وقع في حديث ابن عمر "إن قبل الظهر ركعتين" وفي حديث عائشة "أربعا" وهو محمول على أن كل واحد منهما وصف ما رأى قال: ويحتمل أن يكون نسي ابن عمر ركعتين من الأربع. قلت: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين: فكان تارة يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعا، وقيل: هو محمول على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته يصلي أربعا، ويحتمل أن يكون يصلي إذا كان في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوي الأول ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة "كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج "

(3/58)


قال أبو جعفر الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله، والركعتان في قليلها. قوله: "عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر" بميم مضمومة ونون ساكنة ومثناة مفتوحة بعدها شين معجمة مكسورة ثم راء. قوله: "عن أبيه عن عائشة" في رواية وكيع عن شعبة عن إبراهيم عن أبيه "سمعت عائشة" أخرجه الإسماعيلي، وحكى عن شيخه أبي القاسم البغوي أنه حدثه به من طريق عثمان بن عمر عن شعبة فأدخل بين محمد بن المنتشر وعائشة مسروقا وأخبره أن حديث وكيع وهم، ورد ذلك الإسماعيلي بأن محمد بن جعفر قد وافق وكيعا على التصريح بسماع محمد من عائشة ثم ساقه بسنده إلى شعبة عن إبراهيم بن محمد أنه سمع أباه أنه سمع عائشة، قال الإسماعيلي: ولم يكن يحيي بن سعيد - يعني القطان الذي أخرجه البخاري من طريقه - ليحمله مدلسا، قال: والوهم عندي فيه من عثمان بن عمر انتهى. وبذلك جزم الدارقطني في "العلل" وأوضح أن رواية عثمان بن عمر من المزيد في متصل الأسانيد، لكن أخرجه الدارمي عن عثمان بن عمر بهذا الإسناد فلم يذكر فيه مسروقا. فإما أن يكون سقط عليه أو على من بعده، أو يكون الوهم في زيادته ممن دون عثمان بن عمر. قوله: "تابعه ابن أبي عدي" زاد الإسماعيلي وابن المبارك ومعاذ بن معاذ ووهب بن جرير كلهم عن شعبة بسنده وليس فيه مسروق.
قوله: "وعمرو عن شعبة" يعني عمرو بن مرزوق، وقد وصل حديثه البرقاني في المصافحة.

(3/59)


باب الركعتين بعد المغرب
...
35 - باب الصَّلاَةِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ
1183 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً"
[الحديث 1183 – طرفه في: 7368]
1184 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْمُقْرِئُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ سَمِعْتُ مَرْثَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيَّ قَالَ "أَتَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ فَقُلْتُ أَلاَ أُعْجِبُكَ مِنْ أَبِي تَمِيمٍ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ فَقَالَ عُقْبَةُ إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ فَمَا يَمْنَعُكَ الآنَ قَالَ الشُّغْلُ"
قوله: "باب الصلاة قبل المغرب" لم يذكر المصنف الصلاة قبل العصر، وقد ورد فيها حديث لأبي هريرة1 مرفوع لفظه: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن حبان، وورد من فعله أيضا من حديث علي بن أبي طالب أخرجه الترمذي والنسائي وفيه: "أنه كان يصلي قبل العصر أربعا" وليسا على شرط البخاري. قوله: "عن الحسين" هو ابن ذكوان المعلم. قوله: "حدثني عبد الله المزني" هو ابن مغفل بالمعجمة والفاء المشددة. قوله: "صلوا قبل صلاة المغرب" زاد أبو داود في روايته عن الفربري عن عبد الوارث بهذا الإسناد "صلوا قبل المغرب ركعتين " ثم قال: "صلوا قبل المغرب ركعتين" وأعادها الإسماعيلي من هذا الوجه
ـــــــ
1 هذا وهم, والصواب "لابن عمر" كما يعلم ذلك من الأصول التي عزاه إليها الشارح, وقد نسبه في بلوغ المرام لابن عمر فأصاب. والله أعلم.

(3/59)


ثلاث مرات، وهو موافق لقوله في رواية المصنف "قال في الثالثة لمن شاء" وفي رواية أبي نعيم في المستخرج "صلوا قبل المغرب ركعتين قالها ثلاثا ثم قال: لمن شاء". قوله: "كراهية أن يتخذها الناس سنة" قال المحب الطبري: لم يرد نفي استحبابها لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابها، ومعنى قوله: "سنة" أي شريعة وطريقة لازمة، وكأن المراد انحطاط مرتبتها عن رواتب الفرائض، ولهذا لم يعدها أكثر الشافعية في الرواتب واستدركها بعضهم، وتعقب بأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها، وتقدم الكلام على ذلك مبسوطا في "باب كم بين الأذان والإقامة" من أبواب الأذان. قوله: "اليزني" بفتح التحتانية والزاي بعدها نون وهو مصري، وكذا بقية رجال الإسناد سوى شيخ البخاري وقد دخلها. قولها: "ألا أعجبك" بضم أوله وتشديد الجيم من التعجب. قوله: "من أبي تميم" هو عبد الله بن مالك الجيشاني بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة تابعي كبير مخضرم أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن على معاذ بن جبل ثم قدم في زمن عمر فشهد فتح مصر وسكنها، قال ابن يونس: وقد عده جماعة في الصحابة لهذا الإدراك، ولم يذكر المزي في "التهذيب" أن البخاري أخرج له، وهو على شرطه فيرد عليه بهذا الحديث1. قوله: "يركع ركعتين" زاد الإسماعيلي: "حين يسمع أذان المغرب" وفيه: "فقلت لعقبة وأنا أريد أن أغمصه" وهو بمعجمة ثم مهملة أي أعيبه. قوله: "فقال عقبة إلخ" استدل به على امتداد وقت المغرب ولا حجة فيه كما بيناه في الباب السابق. وقال قوم: إنما تستحب الركعتان المذكورتان لمن كان متأهبا بالطهر وستر العورة لئلا يؤخر المغرب عن أول وقتها، ولا شك أن إيقاعها في أول الوقت أولى، ولا يخفى أن محل استحبابهما ما لم تقم الصلاة، وقد تقدم الكلام على بقية فوائده في الباب السابق، وفيه رد على قول القاضي أبي بكر بن العربي: لم يفعلهما أحد بعد الصحابة، لأن أبا تميم تابعي وقد فعلهما. وذكر الأثرم عن أحمد أنه قال: ما فعلتهما إلا مرة واحدة حين سمعت الحديث. وفيه أحاديث جياد عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، إلا أنه قال: "لمن شاء" فمن شاء صلى.
ـــــــ
1 ليس الرد عليه بظاهر, لأن البخاري رحمه الله لم يخرج عن تميم هنا خبرا مرفوعا ولا موقوفا, وإنما وقع ذكره في أثناء الرواية من غير احتجاج به. والله أعلم.

(3/60)


36 - باب صَلاَةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً، ذَكَرَهُ أَنَسٌ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1185 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيُّ "أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِهِ مِنْ بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ"
1186 - فَزَعَمَ مَحْمُودٌ أَنَّهُ سَمِعَ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بِبَنِي سَالِمٍ وَكَانَ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَادٍ إِذَا جَاءَتْ الأَمْطَارُ فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ قِبَلَ مَسْجِدِهِمْ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَإِنَّ الْوَادِيَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي يَسِيلُ إِذَا جَاءَتْ الأَمْطَارُ فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ فَوَدِدْتُ أَنَّكَ تَأْتِي فَتُصَلِّي مِنْ بَيْتِي مَكَانًا

(3/60)


أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَأَفْعَلُ فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ فَحَبَسْتُهُ عَلَى خَزِيرٍ يُصْنَعُ لَهُ فَسَمِعَ أَهْلُ الدَّارِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَثَابَ رِجَالٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَثُرَ الرِّجَالُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَا فَعَلَ مَالِكٌ لاَ أَرَاهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ ذَاكَ مُنَافِقٌ لاَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقُلْ ذَاكَ أَلاَ تَرَاهُ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ أَمَّا نَحْنُ فَوَاللَّهِ لاَ نَرَى وُدَّهُ وَلاَ حَدِيثَهُ إِلاَّ إِلَى الْمُنَافِقِينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّه" ِ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ فَحَدَّثْتُهَا قَوْمًا فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهِمْ بِأَرْضِ الرُّومِ فَأَنْكَرَهَا عَلَيَّ أَبُو أَيُّوبَ قَالَ وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مَا قُلْتَ قَطُّ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَجَعَلْتُ لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ سَلَّمَنِي حَتَّى أَقْفُلَ مِنْ غَزْوَتِي أَنْ أَسْأَلَ عَنْهَا عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ وَجَدْتُهُ حَيًّا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ فَقَفَلْتُ فَأَهْلَلْتُ بِحَجَّةٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ سِرْتُ حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ بَنِي سَالِمٍ فَإِذَا عِتْبَانُ شَيْخٌ أَعْمَى يُصَلِّي لِقَوْمِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ مِنْ الصَّلاَةِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرْتُهُ مَنْ أَنَا ثُمَّ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثَنِيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ"
قوله: "باب صلاة النوافل جماعة" قيل مراده النفل المطلق، ويحتمل ما هو أعم من ذلك. قوله: "ذكره أنس وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم" أما حديث أنس فأشار به إلى حديثه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم، وفيه: "فصففت أنا واليتيم وراءه" الحديث، وقد تقدم في الصفوف وغيرها. وأما حديث عائشة فأشار به إلى حديثها في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بهم في المسجد بالليل، وقد تقدم الكلام عليه في "باب التحريض على قيام الليل". قوله: "حدثنا إسحاق" قيل هو ابن راهويه، فإن هذا الحديث وقع في مسنده بهذا الإسناد، لكن في لفظه مخالفة يسيرة فيحتمل أن يكون إسحاق شيخ البخاري فيه هو ابن منصور. قوله: "أخبرنا يعقوب" التعبير بالإخبار قرينة في كون إسحاق هو ابن راهويه، لأنه لا يعبر عن شيوخه إلا بذلك، لكن وقع في رواية كريمة وأبي الوقت وغيرهما بلفظ التحديث، ويعقوب بن إبراهيم المذكور هو ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. قوله: "وعقل مجة" تقدم الكلام عليه في كتاب العلم. قوله: "كان في دارهم" أي الدلو. وفي رواية الكشميهني: "كانت" أي البئر. قوله: "فزعم محمود" أي أخبر، وهو من إطلاق الزعم على القول. قوله: "فيشق علي" في رواية الكشميهني: "فشق" بصيغة الماضي. قوله: "أين تحب أن نصلي" بصيغة الجمع كذا للأكثر. وفي رواية الكشميهني بالإفراد. قوله: "ما فعل مالك" هو ابن الدخشن. قوله: "لا أراه" بفتح الهمزة من الرؤية. قوله: "قال محمود بن الربيع" أي بالإسناد الماضي "فحدثتها قوما" أي رجالا "فيهم أبو أيوب" هو خالد بن زيد الأنصاري الذي نزل عليه

(3/61)


رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة. قوله: "التي توفي فيها" ذكر ابن سعد وغيره أن أبا أيوب أوصى أن يدفن تحت أقدام الخيل ويغيب موضع قبره فدفن إلى جانب جدار القسطنطينية. قوله: "ويزيد بن معاوية" ابن أبي سفيان، قوله: "عليهم" أي كان أميرا، وذلك في سنة خمسين وقيل بعدها في خلافة معاوية، ووصلوا في تلك الغزوة حتى حاصروا القسطنطينية. قوله: "فأنكرها علي" قد بين أبو أيوب وجه الإنكار وهو ما غلب على ظنه من نفي القول المذكور، وما الباعث له على ذلك فقيل إنه استشكل قوله: "إن الله قد حرم النار على من قال لا إله إلا الله" لأن ظاهره لا يدخل أحد من عصاة الموحدين النار، وهو مخالف لآيات كثيرة وأحاديث شهيرة منها أحاديث الشفاعة، لكن الجمع ممكن بأن يحمل التحريم على الخلود، وقد وافق محمودا على رواية هذا الحديث عن عتبان أنس بن مالك كما أخرجه مسلم من طريقه وهو متابع قوي جدا، وكأن الحامل لمحمود على الرجوع إلى عتبان ليسمع الحديث منه ثاني مرة أن أبا أيوب لما أنكر عليه اتهم نفسه بأن يكون ما ضبط القدر الذي أنكره عليه، ولهذا قنع بسماعه عن عتبان ثاني مرة. قوله: "حتى أقفل" بقاف وفاء أي أرجع وزنا ومعنى، وفي هذا الحديث فوائد كثيرة تقدمت مبسوطة في "باب المساجد في البيوت" وفيه ما ترجم له هنا وهو صلاة النوافل جماعة، وروي ابن وهب عن مالك أنه لا بأس بأن يؤم النفر في النافلة، فأما أن يكون مشتهرا ويجمع له الناس فلا، وهذا بناه على قاعدته في سد الذرائع لما يخشى من أن يظن من لا علم له أن ذلك فريضة، واستثنى ابن حبيب من أصحابه قيام رمضان لاشتهار ذلك من فعل الصحابة ومن بعدهم رضى الله عنهم، وفي الحديث من الفوائد ما تقدم بعضه مبسوطا، وملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال، وذكر المرء ما فيه من العلة معتذرا، وطلب عين القبلة، وأن المكان المتخذ مسجدا من البيت لا يخرج عن ملك صاحبه، وأن النهي عن استيطان الرجل مكانا إنما هو في المسجد العام، وفيه عيب من تخلف عن حضور مجلس الكبير، وأن من عيب بما يظهر منه لا يعد غيبة وإن ذكر الإنسان بما فيه على جهة التعريف جائز، وأن التلفظ بالشهادتين كاف في إجراء أحكام المسلمين، وفيه استثبات طالب الحديث شيخه عما حدثه به إذا خشي من نسيانه وإعادة الشيخ الحديث، والرحلة في طلب العلم وغير ذلك. وقد ترجم المصنف بأكثر من ذلك والله المستعان.

(3/62)


37 - باب التَّطَوُّعِ فِي الْبَيْتِ
1187 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا"
تَابَعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ
قوله: "باب التطوع في البيت" أورد فيه حديث ابن عمر " اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم" وقد تقدم بلفظه من وجه آخر عن نافع في "باب كراهية الصلاة في المقابر" من أبواب المساجد مع الكلام عليه. قوله: "تابعه عبد الوهاب" يعني الثقفي عن أيوب، وهذه المتابعة وصلها مسلم عن محمد بن المثني عنه بلفظ: "صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا" .

(3/62)


كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة
باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
20 - كتاب فَضْلِ الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
1 - بَاب فَضْلِ الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
1188 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ قَزَعَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعًا قَالَ سَمِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً
1189 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى"
1190 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ"
قوله: "باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة" ثبت في نسخة الصغاني البسملة قبل الباب، قال ابن رشيد: لم يقل في الترجمة وبيت المقدس وإن كان مجموعا إليهما في الحديث لكونه أفرده بعد ذلك بترجمة، قال: وترجم بفضل الصلاة وليس في الحديث ذكر الصلاة ليبين أن المراد بالرحلة إلى المساجد قصد الصلاة فيها لأن لفظ المساجد مشعر بالصلاة انتهى. وظاهر إيراد المصنف لهذه الترجمة في أبواب التطوع يشعر بأن المراد بالصلاة في الترجمة صلاة النافلة، ويحتمل أن يراد بها ما هو أعم من ذلك فيدخل النافلة وهذا أوجه وبه قال الجمهور في حديث الباب، وذهب الطحاوي إلى أن التفضيل مختص بصلاة الفريضة كما سيأتي. قوله: "أخبرني عبد الملك" هو ابن عمير كما وقع في رواية أبي ذر والأصيلي. قوله: "عن قزعة" بفتح القاف وكذا الزاي، وحكى ابن الأثير سكونها بعدها مهملة، وهو ابن يحيي ويقال ابن الأسود، وسيأتي بند خمسة أبواب في هذا الإسناد "سمعت قزعة مولى زياد" وهو هذا وزياد مولاه هو ابن أبي سفيان الأمير المشهور، ورواية عبد الملك بن عمير عنه من رواية الأقران لأنهما من طبقة واحدة. قوله: "سمعت أبا سعيد أربعا" أي يذكر أربعا أو سمعت منه أربعا أي أربع كلمات. قوله: "وكان غزا" القائل ذلك هو قزعة والمقول عنه أبو سعيد الخدري. قوله: "ثنتي عشرة غزوة" كذا اقتصر المؤلف على هذا القدر ولم يذكر من المتن شيئا، وذكر بعده حديث أبي هريرة في شد الرحال فظن الداودي الشارح أن البخاري ساق الإسنادين لهذا المتن، وفيه نظر لأن حديث أبي سعيد مشتمل على أربعة أشياء كما ذكر المصنف، وحديث أبي هريرة مقتصر على شد الرحال فقط، لكن لا يمنع الجمع بينهما في سياق واحد بناء على قاعدة البخاري في إجازة اختصار الحديث.
وقال ابن رشيد: لما كان أحد الأربع هو قوله: "لا تشد الرحال" ذكر صدر الحديث إلى الموضع الذي

(3/63)


يتلاقى فيه افتتاح أبي هريرة لحديث أبي سعيد فاقتطف الحديث، وكأنه قصد بذلك الإغماض لينبه غير الحافظ على فائدة الحفظ، على أنه ما أخلاه عن الإيضاح عن قرب فإنه ساقه بتمامه خامس ترجمة. قوله: "وحدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وسعيد هو ابن المسيب، ووقع عند البيهقي وجه آخر عن علي بن المديني قال: "حدثنا به سفيان مرة بهذا اللفظ وكان أكثر ما يحدث به بلفظ تشد الرحال". قوله: "لا تشد الرحال" بضم أوله بلفظ النفي، والمراد النهي عن السفر إلى غيرها، قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به، والرحال بالمهملة جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس، وكنى بشد الرحال عن السفر لأنه لازمه وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعني المذكور، ويدل عليه قوله في بعض طرقه: "إنما يسافر" أخرجه مسلم من طريق عمران بن أبي أنس عن سليمان الأغر عن أبي هريرة. قوله: "إلا" الاستثناء مفرغ والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع، ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها، لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام، لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص وهو المسجد كما سيأتي. قوله: " المسجد الحرام" أي المحرم وهو كقولهما الكتاب بمعنى المكتوب، والمسجد بالخفض على البدلية، ويجوز الرفع على الاستئناف والمراد به جميع الحرم، وقيل يختص بالموضع الذي يصلي فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم، قال الطبري: ويتأيد بقوله: "مسجدي هذا" لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة فينبغي أن يكون المستثنى كذلك، وقيل المراد به الكعبة حكاه المحب الطبري وذكر أنه يتأيد بما رواه النسائي بلفظ: "إلا الكعبة" وفيه نظر لأن الذي عند النسائي: "إلا مسجد الكعبة" حتى ولو سقطت لفظة مسجد لكانت مرادة، ويؤيد الأول ما رواه الطيالسي من طريق عطاء أنه قيل له: هذا الفضل في المسجد وحده أو في الحرم؟ قال: بل في الحرم لأنه كله مسجد. قوله: "ومسجد الرسول" أي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي العدول عن "مسجدي" إشارة إلى التعظيم، ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة، ويؤيده قوله في حديث أبي سعيد الآتي قريبا "ومسجدي". قوله: "ومسجد الأقصى" أي بيت المقدس وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وقد جوزه الكوفيون واستشهدوا له بقوله تعالى: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} والبصريون يؤولونه بإضمار المكان، أي الذي بجانب المكان الغربي ومسجد المكان الأقصى ونحو ذلك، وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقيل في الزمان، وفيه نظر لأنه ثبت في الصحيح أن بينهما أربعين سنة، وسيأتي في ترجمة إبراهيم الخليل من أحاديث الأنبياء وبيان ما فيه من الإشكال والجواب عنه. وقال الزمخشري: سمي الأقصى لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وقيل لبعده عن الأقذار والخبث، وقيل هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة لأنه بعيد من مكة وبيت المقدس أبعد منه. ولبيت المقدس عدة أسماء تقرب من العشرين منها إيلياء بالمد والقصر وبحذف الياء الأولى وعن ابن عباس إدخال الألف واللام على هذا الثالث، وبيت المقدس بسكون القاف وبفتحها مع التشديد، والقدس بغير ميم مع ضم القاف وسكون الدال وبضمها أيضا، وشلم بالمعجمة وتشديد اللام وبالمهملة وشلام بمعجمة، وسلم بفتح المهملة وكسر اللام الخفيفة، وأوري سلم بسكون الواو وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة قال الأعشى:

(3/64)


وقد طفت للمال آفاقه ... مشق فحمص فأوري سلم
ومن أسمائه كورة وبيت إيل وصهيون ومصروث آخره مثلثة وكورشيلا وبابوس بموحدتين ومعجمة، وقد تتبع أكثر هذه الأسماء الحسين بن خالويه اللغوي في كتاب "ليس"، وسيأتي ما يتعلق بمكة والمدينة في كتاب الحج. وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء، ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الأمم السالفة، والثالث أسس على التقوى. واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها فقال الشيخ أبو محمد الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضي حسين إلى اختياره وبه قال عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور وقال له "لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت" واستدل بهذا الحديث فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبو هريرة. والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز، وقد وقع في رواية لأحمد سيأتي ذكرها بلفظ: "لا ينبغي للمطي أن تعمل" وهو لفظ ظاهر في غير التحريم1 ومنها أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة فإنه لا يجب الوفاء به قاله ابن بطال. وقال الخطابي: اللفظ لفظ الخبر ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثة، ومنها أن المراد حكم المساجد فقط وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة؛ وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي، ويؤيده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة في الطور فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي" وشهر حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف. ومنها أن المراد قصدها بالاعتكاف فيما حكاه الخطابي عن بعض السلف أنه قال: لا يعتكف في غيرها، وهو أخص من الذي قبله، ولم أر عليه دليلا، واستدل به على أن من نذر إتيان أحد هذه المساجد لزمه ذلك، وبه قال مالك وأحمد والشافعي والبويطي واختاره أبو إسحاق المروزي. وقال أبو حنيفة لا يجب مطلقا. وقال الشافعي في "الأم" يجب في المسجد الحرام لتعلق النسك به بخلاف المسجدين الأخيرين، وهذا هو المنصور لأصحاب الشافعي. وقال ابن المنذر: يجب إلى الحرمين، وأما الأقصى فلا، واستأنس بحديث جابر "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، قال: صل هاهنا" وقال ابن التين: الحجة على الشافعي إن إعمال المطي إلى مسجد المدينة والمسجد الأقصى والصلاة فيهما قربة فوجب أن يلزم بالنذر كالمسجد الحرام انتهى. وفيما يلزم من نذر إتيان هذه المساجد تفصيل وخلاف يطول ذكره محله كتب الفروع، واستدل به على أن من نذر إتيان غير هذه المساجد
ـــــــ
1 ليس الأمر كما قال, بل هو ظاهر في التحريم والمنع, وهذه اللفظة في عرف الشارع شأنها عظيم كما في قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} وقوله تعالى: { قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} الآية

(3/65)


الثلاثة لصلاة أو غيرها لم يلزمه غيرها لأنها لا فضل لبعضها على بعض فتكفي صلاته في أي مسجد كان، قال النووي: لا اختلاف في ذلك إلا ما روي عن الليث أنه قال يجب الوفاء به، وعن الحنابلة رواية يلزمه كفارة يمين ولا ينعقد نذره، وعن المالكية رواية إن تعلقت به عبادة تختص به كرباط لزم وإلا فلا، وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه يلزم في مسجد قباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت كما سيأتي. قال الكرماني: وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة وصنف فيها رسائل من الطرفين، قلت: يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين بن تيمية وما انتصر به الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي وغيره لابن تيمية وهي مشهورة في بلادنا، والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحل1 إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكرنا صورة ذلك، وفي شرح ذلك من الطرفين طول، وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية، ومن جملة ما استدل به على دفع ما ادعاه غيره من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ما نقل عن مالك أنه كره أن يقول زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ أدبا لا أصل الزيارة فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال وإن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع والله الهادي إلى الصواب. قال بعض المحققين: قوله: "إلا إلى ثلاثة مساجد" المستثنى منه محذوف، فإما أن يقدر عاما فيصير: لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة، أو أخص من ذلك. لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها فتعين الثاني، والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة وهو: لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة، فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين والله أعلم. وقال السبكي الكبير: ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى تشد الرحال إليها غير البلاد الثلاثة، ومرادي بالفضل ما شهد الشرع باعتباره ورتب عليه حكما شرعيا، وأما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات، قال: وقد التبس ذلك على بعضهم فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخل في المنع، وهو خطأ لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه، فمعنى الحديث: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان إلا إلى الثلاثة المذكورة، وشد الرحال إلى زيارة أو طلب علم ليس إلى المكان بل إلى من في ذلك المكان والله أعلم. قوله: "زيد بن رباح" بالموحدة، وعبيد الله بالتصغير، والأغر هو سلمان شيخ الزهري المتقدم. قوله: "صلاة في مسجدي هذا" قال النووي: ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمانه صلى الله عليه وسلم دون ما زيد فيه بعده، لأن التضعيف إنما ورد في مسجده، وقد أكده بقوله هذا، بخلاف مسجد مكة فإنه يشمل جميع مكة،
ـــــــ
1 هذا اللازم لا بأس به, وقد التزمه الشيخ, وليس في ذلك بشاعة بحمد الله عند من عرف السنة, مواردها ومصادرها, والأحاديث المروية في فضل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم كلها ضعيفة بل موضوعة كما حقق ذلك أبو العباس, في منسكه وغيره, ولو صحت لم يكن فيها حجة على جواز شد الرحال إلى زيارة قبره عليه الصلاة والسلام من دون قصد المسجد بل تكون عامة مطلقة, وأحاديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة يخصها ويقيدها, والشيخ لم ينكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دون شد الرحال, وإنما أنكر شد الرحل من أجلها مجردا عن قصد المسجد. فتنبه وأفهم. والله أعلم.

(3/66)


بل صحح النووي أنه يعم جميع الحرم. قوله: "إلا المسجد الحرام " قال ابن بطال: يجوز في هذا الاستثناء أن يكون المراد فإنه مساو لمسجد المدينة وفاضلا أو مفضولا. والأول أرجح لأنه لو كان فاضلا أو مفضولا. لم يعلم مقدار ذلك إلا بدليل، بخلاف المساواة انتهى. وكأنه لم يقف على دليل الثاني، وقد أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان من طريق عطاء عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا" وفي رواية ابن حبان: "وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة " قال ابن عبد البر: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت، ومثله لا يقال بالرأي. وفي ابن ماجة من حديث جابر مرفوعا: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" وفي بعض النسخ "من مائة صلاة فيما سواه" فعلى الأول معناه فيما سواه إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه من مائه صلاة في مسجد المدينة ورجال إسناده ثقات، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه، قال ابن عبد البر: جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما، وعلى ذلك يحمله أهل العلم بالحديث، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الرواية معروف بالرواية عن جابر وابن الزبير، وروي البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" قال البزار إسناده حسن. فوضح بذلك أن المراد بالاستثناء تفضيل المسجد الحرام، وهو يرد على تأويل عبد الله بن نافع وغيره، وروى ابن عبد البر من طريق يحيى بن يحيى الليثي أنه سأل عبد الله بن نافع عن تأويل هذا الحديث فقال: معناه فإن الصلاة في مسجدي أفضل من الصلاة فيه بدون ألف صلاة، قال ابن عبد البر: لفظ دون يشمل الواحد فيلزم أن تكون الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بتسعمائة وتسع وتسعين صلاة، وحسبك بقول يؤول إلى هذا ضعفا. قال: وزعم بعض أصحابنا أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بمائة صلاة، واحتج برواية سليمان بن عتيق عن ابن الزبير عن عمر قال: "صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه" وتعقب بأن المحفوظ بهذا الإسناد بلفظ: "صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الرسول فإنما فضله عليه بمائة صلاة" وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني سليمان بن عتيق وعطاء عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول: "صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه: " ويشير إلى مسجد المدينة. وللنسائي من رواية موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر ما يؤيد هذا ولفظه كلفظ أبي هريرة وفي آخره: "إلا المسجد الحرام فإنه أفضل منه بمائة صلاة" واستدل بهذا الحديث على تفضيل مكة على المدينة لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيه مرجوحة وهو قول الجمهور، وحكي عن مالك، وبه قال ابن وهب ومطرف وابن حبيب من أصحابه، لكن المشهور عن مالك وأكثر أصحابه تفضيل المدينة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة" مع قوله: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" قال ابن عبد البر: هذا استدلال بالخبر في غير ما ورد فيه ولا يقاوم النص الوارد في فضل مكة، ثم ساق حديث أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحزورة فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" وهو حديث صحيح أخرجه أصحاب السنن وصححه

(3/67)


الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، قال ابن عبد البر: هذا نص في محل الخلاف فلا ينبغي العدول عنه والله أعلم. وقد رجع عن هذا القول كثير من المصنفين من المالكية، لكن استثنى عياض البقعة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فحكى الاتفاق على أنها أفضل البقاع، وتعقب بأن هذا لا يتعلق بالبحث المذكور لأن محله ما يترتب عليه الفضل للعابد. وأجاب القرافي بأن سبب التفضيل لا ينحصر في كثرة الثواب على العمل بل قد يكون لغيرها كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود. وقال النووي في شرح المهذب: لم أر لأصحابنا نقلا في ذلك. وقال ابن عبد البر: إنما يحتج بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أنكر فضلها، أما من أقر به وأنه ليس أفضل بعد مكة منها فقد أنزلها منزلتها. وقال غيره: سبب تفضيل البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة أنه روي أن المرء يدفن في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يخلق رواه ابن عبد البر في أواخر تمهيده من طريق عطاء الخراساني موقوفا، وعلى هذا فقد روى الزبير بن بكار أن جبريل أخذ التراب الذي خلق منه النبي صلى الله عليه وسلم من تراب الكعبة، فعلى هذا فالبقعة التي ضمت أعضاءه من تراب الكعبة فيرجع الفضل المذكور إلى مكة إن صح ذلك والله أعلم. واستدل به على تضعيف الصلاة مطلقا في المسجدين، وقد تقدم النقل عن الطحاوي وغيره أن ذلك مختص بالفرائض لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" ويمكن أن يقال لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما وكذا في المسجدين وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا. ثم إن التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الإجزاء باتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره، فلو كان عليه صلاتان فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة والله أعلم. وقد أوهم كلام المقري أبي بكر النقاش في تفسيره خلاف ذلك فإنه قال فيه: حسبت الصلاة بالمسجد الحرام فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة انتهى. وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة فإنها تزيد سبعا وعشرين درجة كما تقدم في أبواب الجماعة، لكن هل يجتمع التضعيفان أو لا؟ محل بحث.

(3/68)


2 - باب مَسْجِدِ قُبَاءٍ
1191 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ لاَ يُصَلِّي مِنْ الضُّحَى إِلاَّ فِي يَوْمَيْنِ يَوْمَ يَقْدَمُ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ يَقْدَمُهَا ضُحًى فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ وَيَوْمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَرِهَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ قَالَ وَكَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُهُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا"
[الحديث 1191 – أطرافه في: 7326,1194,1193]
1192 - قَالَ وَكَانَ يَقُولُ "إِنَّمَا أَصْنَعُ كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يَصْنَعُونَ وَلاَ أَمْنَعُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ غَيْرَ أَنْ لاَ تَتَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا"
قوله: "باب مسجد قباء" أي فضله، وقباء بضم القاف ثم موحدة ممدودة عند أكثر أهل اللغة، وأنكر السكري قصره لكن حكاه صاحب العين، قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه ومنهم من يؤنثه فلا

(3/68)


يصرفه. وفي المطالع: هو على ثلاثة أميال من المدينة. وقال ياقوت: على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة. وسمي باسم بئر هناك. والمسجد المذكور هو مسجد بني عمرو بن عوف، وهو أول مسجد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي ذكر الخلاف في كونه المسجد الذي أسس على التقوى في "باب الهجرة" إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا يعقوب بن إبراهيم" في رواية أبي ذر "هو الدورقي". قوله: "كان لا يصلي الضحى" تقدم الكلام عليه قريبا. قوله: "وكان" أي ابن عمر. قوله: "يزوره" أي يزور مسجد قباء. قوله: "وكان يقول" أي ابن عمر، وقد تقدم الكلام على ذلك في أواخر المواقيت. وفي الحديث دلالة على فضل قباء وفضل المسجد الذي بها وفضل الصلاة فيه، لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.

(3/69)


3 - باب مَنْ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ
1193 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ
قوله: "باب من أتى مسجد قباء كل سبت" أراد بهذه الترجمة بيان تقييد ما أطلق في التي قبلها، لأنه قيد فيها في الموقوف بخلاف المرفوع فأطلق، ومن فضائل مسجد قباء ما رواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة" بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: "لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل". قوله: "ماشيا وراكبا" أي بحسب ما تيسر، والواو بمعني أو. قوله: "وكان عبد الله" أي ابن عمر كما ثبت في رواية أبي ذر والأصيلي.
4

(3/69)


4 - باب إِتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا
1194 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ
قوله: "باب إتيان مسجد قباء ماشيا وراكبا" أفرد هذه الترجمة لاشتمال الحديث على حكم آخر غير ما تقدم.
قوله: "حدثنا يحيي" زاد الأصيلي: "ابن سعيد" وهو القطان، وعبيد الله بالتصغير هو ابن عمر العمري. قوله: "زاد ابن نمير" أي عبد الله "عن عبيد الله" أي ابن عمر. وطريق ابن نمير وصلها مسلم وأبو يعلي قالا: "أخبرنا محمد بن عبد الله بن نمير أخبرنا أبي به" وقال أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده "حدثنا عبد الله بن نمير وأبو أسامة عن عبيد الله" فذكره بالزيادة، وادعى الطحاوي أنها مدرجة، وأن أحد الرواة قاله من عنده لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن لا يجلس حتى يصلي. وفي هذا الحديث على اختلاف طرقه دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك، وفيه أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ليس على التحريم1 لكون
ـــــــ
1 هذا فيه نظر. والصواب أنه للتحريم كما هو الأصل في نهيه صلى الله عليه وسلم. والجواب عن حديث قباء أن المراد بشد الرحل في أحاديث النهي الكناية عن السفر لا مجرد شد الرحل, وعليه فلا إشكال في ركوب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسجد قباء, وقد سبق للشارح, يرشد إلى هذا في كلامه على أحاديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة, فتنبه. والله الموفق.

(3/69)


5 - باب فَضْلِ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ
1195 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَازِنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ"
1196 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي"
[الحديث 1196 – أطرافه في: 7335,6588,1888]
قوله: "باب فضل ما بين القبر والمنبر" لما ذكر فضل الصلاة في مسجد المدينة أراد أن ينبه على أن بعض بقاع المسجد أفضل من بعض، وترجم بذكر القبر، وأورد الحديثين بلفظ البيت، لأن القبر صار في البيت وقد ورد في بعض طرقه بلفظ القبر، قال القرطبي: الرواية الصحيحة "بيتي" ويروى "قبري" وكأنه بالمعنى لأنه دفن في بيت سكناه قوله: "عن عبد الله بن أبي بكر" أي ابن محمد بن عمرو بن حزم. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر العمري، وثبت ذلك في رواية أبي ذر والأصيلي. قوله: "ومنبري على حوضي" سقطت هذه الجملة من رواية أبي ذر، وسيأتي هذا الحديث بسنده ومتنه كاملا في أواخر فضل المدينة من أواخر كتاب الحج، ويأتي الكلام على المتن هناك إن شاء الله تعالى مستوفى.

(3/70)


6 - باب مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
1197 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ سَمِعْتُ قَزَعَةَ مَوْلَى زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ بِأَرْبَعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْجَبْنَنِي وَآنَقْنَنِي قَالَ: "لاَ تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلاَّ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ وَلاَ صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ وَلاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِي"
قوله: "باب مسجد بيت المقدس" أي فضله. قوله: "وآنقنني" بالمد ثم نون مفتوحة ثم قاف ساكنة بعدها نونان، يقال آنقه كذا إذا أعجبه، وشيء مونق أي معجب، وقوله وأعجبنني من التأكيد بغير اللفظي، وحكى ابن الأثير أنه روى "أينقنني" بتحتانية بدل الألف قال: وليس بشيء، وضبطه الأصيلي: "أتقنني" بمثناة فوقانية من التوق، وإنما يقال منه توقني كشوقني. قوله: "لا تسافر المرأة" سيأتي الكلام عليه في الحج. قوله: "ولا صوم" سيأتي في الصوم، وقوله في الصلاة تقدم في أواخر المواقيت، وقوله: "ولا تشد الرحال" تقدم قريبا.

(3/70)


كتاب العمل في الصلاة
باب استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
21 - كتاب العمل فِي الصَّلاَةِ
1 - باب اسْتِعَانَةِ الْيَدِ فِي الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلاَةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْتَعِينُ الرَّجُلُ فِي صَلاَتِهِ مِنْ جَسَدِهِ بِمَا شَاءَ وَوَضَعَ أَبُو إِسْحَاقَ قَلَنْسُوَتَهُ فِي الصَّلاَةِ وَرَفَعَهَا وَوَضَعَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَفَّهُ عَلَى رُسْغِهِ الأَيْسَرِ إِلاَّ أَنْ يَحُكَّ جِلْدًا أَوْ يُصْلِحَ ثَوْبًا
1198 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ خَالَتُهُ قَالَ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى عَرْضِ الْوِسَادَةِ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ آيَاتٍ خَوَاتِيمَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا بِيَدِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ
"أبواب العمل في الصلاة" ثبت في نسخة الصغاني هنا بسملة
"باب" في نسخة الصغاني أبواب. قوله: "استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة. وقال ابن عباس: يستعين الرجل في صلاته من جسده بما شاء. ووضع أبو إسحاق - يعني السبيعي - قلنسوته في الصلاة ورفعها.
ووضع علي كفه على رصغه الأيسر، إلا أن يحك جلدا أو يصلح ثوبا" هذا الاستثناء من بقية أثر علي على ما سأوضحه، وظن قوم أنه من تتمة الترجمة، فقال ابن رشيد: قوله: "إلا أن يحك جلدا أو يصلح ثوبا" هو مستثني من قوله: "إذا كان من أمر الصلاة" فاستثنى من ذلك جواز ما تدعو الضرورة إليه من حال المرء مع ما في ذلك من

(3/71)


دفع التشويش عن النفس، قال: وكان الأولى في هذا الاستثناء أن يكون مقدما قبل قوله: "وقال ابن عباس" انتهى. وسبقه إلى دعواه أن الاستثناء من الترجمة الإسماعيلي في مستخرجه فقال: قوله: "إلا أن يحك جلدا" ينبغي أن يكون من صلة الباب عند قوله إذا كان من أمر الصلاة، وصرح بكونه من كلام البخاري لا من كلام علي العلامة علاء الدين مغلطاي في شرحه، وتبعه من أخذ ذلك عنه ممن أدركناه، وهو وهم، وذلك أن الاستثناء بقية أثر علي، كذلك رواه مسلم بن إبراهيم أحد مشايخ البخاري عن عبد السلام بن أبي حازم عن غزوان بن جرير الضبي عن أبيه -وكان شديد اللزوم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه- قال: "كان علي إذا قام إلى الصلاة فكبر ضرب بيده اليمنى على رصغه الأيسر، فلا يزال كذلك حتى يركع، إلا أن يحك جلدا أو يصلح ثوبا" هكذا رويناه في "السفينية الجرائدية" من طريق السلفي بسنده إلى مسلم بن إبراهيم، وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ: "إلا أن يصلح ثوبه أو يحك جسده" وهذا هو الموافق للترجمة ولو كان أثر علي انتهى عند قوله: "الأيسر" لما كان فيه تعلق بالترجمة إلا ببعد، وهذا من فوائد تخريج التعليقات. والرصغ بسكون الصاد المهملة بعدها معجمة قال صاحب العين: هو لغة في الرسغ، وهو مفصل ما بين الكف والساعد. وقال صاحب المحكم: الرصغ مجتمع الساقين والقدمين. ثم إن ظاهر هذه الآثار يخالف الترجمة لأنها مقيدة بما إذا كان العمل من أمر الصلاة وهي مطلقة، وكأن المصنف أشار إلى أن إطلاقها مقيد بما ذكر ليخرج العبث، ويمكن أن يقال: لها تعلق بالصلاة لأن دفع ما يؤذي المصلي يعين على دوام خشوعه المطلوب في الصلاة، ويدخل في الاستعانة التعلق بالحبل عند التعب والاعتماد على العصا ونحوهما، وقد رخص فيه بعض السلف، وقد مر الأمر بحل الحبل في أبواب قيام الليل، وسيأتي ذكر الاختصار بعد أبواب. قوله: "وأخذ بأذني اليمني يفتلها" هو شاهد الترجمة، لأنه أخذ بأذنه أولا لإدارته من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن، وذلك من مصلحة الصلاة. ثم أخذ بها أيضا لتأنيسه لكون ذلك ليلا كما تقدم تقريره في أبواب الصفوف. قال ابن بطال: استنبط البخاري منه أنه لما جاز للمصلي أن يستعين بيده في صلاته فيما يختصن بغيره كانت استعانته في أمر نفسه ليتقوى بذلك على صلاته وينشط لها إذا احتاج إليه أولى، وقد تقدم الكلام على بقية فوائد حديث ابن عباس في أبواب الوتر.

(3/72)


باب ما ينهى من الكلام في الصلاة
...
2 - باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْ الْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ
1199 - حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا وَقَالَ إِنَّ فِي الصَّلاَةِ شُغْلا"
[الحديث 1199 – طرفاه في: 3875,1216]
حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلُولِيُّ حَدَّثَنَا هُرَيْمُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ
1200 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى هُوَ ابْنُ يُونُسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ

(3/72)


قَالَ قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ "إِنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى نَزَلَتْ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية, فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ"
[الحديث 1200 – طرفه في: 4534]
قوله: "باب ما ينهى من الكلام في الصلاة" في رواية الأصيلي والكشميهني: "ما ينهى عنه" وفي الترجمة إشارة إلى أن بعض الكلام لا ينهى عنه كما سيأتي حكاية الخلاف فيه. قوله: "حدثنا ابن نمير" هو محمد بن عبد الله بن نمير، نسب إلى جده، ولم يدرك البخاري عبد الله. قوله: "كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة" في رواية أبي وائل "كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا" وفي رواية أبي الأحوص "خرجت في حاجة ونحن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة" وسيأتي للمصنف بعد باب نحوه في حديث التشهد. قوله: "النجاشي" بفتح النون وحكي كسرها، وسيأتي تسميته والإشارة إلى شيء من أمره في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى. "فائدة": روى ابن أبي شيبة من مرسل ابن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على ابن مسعود في هذه القصة السلام بالإشارة، وقد بوب المصنف لمسألة الإشارة في الصلاة بترجمة مفردة وستأتي في أواخر مسجود السهو قريبا. قوله: "فلم يرد علينا" زاد مسلم في رواية ابن فضيل "قلنا يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا" وكذا في رواية أبي عوانة التي في الهجرة. قوله: "إن في الصلاة شغلا" في رواية أحمد عن ابن فضيل "لشغلا" بزيادة اللام للتأكيد، والتنكير فيه للتنويع، أي بقراءة القرآن والذكر والدعاء، أو للتعظيم أي شغلا وأي شغل لأنها مناجاة مع الله تستدعي الاستغراق بخدمته فلا يصلح فيها الاشتغال بغيره. وقال النووي: معناه أن وظيفة المصلي الاشتغال بصلاته وتدبر ما يقوله فلا ينبغي أن يعرج على غيرها من رد السلام ونحوه، زاد في رواية أبي وائل "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة" وزاد في رواية كلثوم الخزاعي "إلا بذكر الله وما ينبغي لكم فقوموا لله قانتين. فأمرنا بالسكوت". قوله: "هريم" بهاء وراء مصغرا، والسلولي بفتح المهملة ولامين الأولى خفيفة مضمومة، ورجال الإسنادين من الطريقين كلهم كوفيون، وسفيان هو الثوري، ورواية الأعمش بهذا الإسناد مما عد من أصح الأسانيد. قوله: "نحوه" ظاهر في أن لفظ رواية هريم غير متحد مع لفظ رواية ابن فضيل وأن معناهما واحد، وكذا أخرج مسلم الحديث من الطريقين وقال في رواية هريم أيضا: "نحوه" ولم أقف على سياق لفظ هريم إلا عند الجوزقي فإنه ساقه من طريق إبراهيم بن إسحاق الزهري عنه ولم أر بينهما مغايرة، إلا أنه قال: "قدمنا" بدل رجعنا، وزاد: "فقيل له يا رسول الله" والباقي سواء وسيأتي في الهجرة من طريق أبي عوانة عن الأعمش أوضح من هذا، وللحديث طرق أخرى منها عند أبي داود والنسائي من طريق أبي ليلى عن ابن مسعود، وعند النسائي من طريق كلثوم الخزاعي عنه، وعند ابن ماجة والطحاوي من طريق أبي الأحوص عنه، وسيأتي التنبيه عليه في "باب قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} من أواخر كتاب التوحيد. قوله: "عن إسماعيل" هو ابن أبي خالد، والحارث بن شبيل ليس له في البخاري غير هذا الحديث، وأبوه بمعجمة وموحدة وآخره لام مصغر، وليس لأبي عمر وسعد بن أياس الشيباني شيخه عن زيد بن أرقم غيره. قوله: "إن كنا لنتكلم" بتخفيف النون، وهذا حكمه الرفع، وكذا قوله: "أمرنا" لقوله فيه: "على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى ولو لم يقيد بذلك لكان ذكر نزول الآية كافيا في كونه مرفوعا.

(3/73)


قوله: "يكلم أحدنا صاحبه بحاجته" تفسير لقوله: "نتكلم" والذي يظهر أنهم كانوا لا يتكلمون فيها بكل شيء وإنما يقتصرون على الحاجة من رد السلام ونحوه. قوله: "حتى نزلت" ظاهر في أن نسخ الكلام في الصلاة وقع بهذه الآية، فيقتضي أن النسخ وقع بالمدينة لأن الآية مدنية باتفاق، فيشكل ذلك على قول ابن مسعود إن ذلك وقع لما رجعوا من عند النجاشي، وكان رجوعهم من عنده إلى مكة، وذلك أن بعض المسلمين هاجر إلى الحبشة ثم بلغهم أن المشركين أسلموا فرجعوا إلى مكة فوجدوا الأمر بخلاف ذلك واشتد الأذى عليهم فخرجوا إليها أيضا فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأولى، وكان ابن مسعود مع الفريقين، واختلف في مراده بقوله: "فلما رجعنا" هل أراد الرجوع الأول أو الثاني، فجنح القاضي أبو الطيب الطبري وآخرون إلى الأول وقالوا كان تحريم الكلام بمكة، وحملوا حديث زيد على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ وقالوا لا مانع أن يتقدم الحكم ثم تنزل الآية بوفقه. وجنح آخرون إلى الترجيح فقالوا: يترجح حديث ابن مسعود بأنه حكى لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف زيد بن أرقم فلم يحكه. وقال آخرون: إنما أراد ابن مسعود رجوعه الثاني، وقد ورد أنه قدم المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر، وفي مستدرك الحاكم من طريق أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ثمانين رجلا" فذكر الحديث بطوله وفي آخره: "فتعجل عبد الله بن مسعود فشهد بدرا" وفي السير لابن إسحاق: أن المسلمين بالحبشة لما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلا، فمات منهم رجلان بمكة وحبس منهم سبعة وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلا فشهدوا بدرا. فعلى هذا كان ابن مسعود من هؤلاء، فظهر أن اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه كان بالمدينة، وإلى هذا الجمع نحا الخطابي ولم يقفه من تعقب كلامه على مستنده، ويقوي هذا الجمع رواية كلثوم المتقدمة فإنها ظاهرة في أن كلا من ابن مسعود وزيد بن أرقم حكى أن الناسخ قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وأما قول ابن حبان: كان نسخ الكلام بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، قال: ومعنى قول زيد بن أرقم "كنا نتكلم" أي كان قومي يتكلمون لأن قومه كانوا يصلون قبل الهجرة مع مصعب بن عمير الذي كان يعلمهم القرآن، فلما نسخ تحريم الكلام بمكة بلغ ذلك أهل المدينة فتركوه، فهو متعقب بأن الآية مدنية باتفاق، وبأن إسلام الأنصار وتوجه مصعب بن عمير إليهم إنما كان قبل الهجرة بسنة واحدة، وبأن في حديث زيد بن أرقم "كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذا أخرجه الترمذي فانتفى أن يكون المراد الأنصار الذين كانوا يصلون بالمدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. وأجاب ابن حبان في موضع آخر بأن زيد بن أرقم أراد بقوله: "كنا نتكلم" من كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم بمكة من المسلمين، وهو متعقب أيضا بأنهم ما كانوا بمكة يجتمعون إلا نادرا، وبما روى الطبراني من حديث أبي أمامة قال: "كان الرجل إذا دخل المسجد فوجدهم يصلون سأل الذي إلى جنبه فيخبره بما فاته فيقضي ثم يدخل معهم، حتى جاء معاذ يوما فدخل في الصلاة" فذكر الحديث، وهذا كان بالمدينة قطعا لأن أبا أمامة ومعاذ بن جبل إنما أسلما بها. قوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية كذا في رواية كريمة، وساق في رواية أبي ذر وأبي الوقت الآية إلى آخرها، وانتهت رواية الأصيلي إلى قوله: {الْوُسْطَى} وسيأتي الكلام على المراد بالوسطى وبالقنوت في تفسير البقرة، وحديث زيد بن أرقم ظاهر في أن المراد بالقنوت السكوت. قوله: "فأمرنا بالسكوت" أي عن الكلام المتقدم ذكره لا مطلقا فإن الصلاة ليس فيها حال سكوت حقيقية. قال ابن دقيق العيد: ويترجح بما دل عليه لفظ: "حتى" التي للغاية والفاء التي تشعر بتعليل ما سبق عليها لما يأتي بعدها.

(3/74)


" تنبيه ": زاد مسلم في روايته: "ونهينا عن الكلام" ولم يقع في البخاري، وذكرها صاحب العمدة ولم ينبه أحد من شراحها عليها، واستدل بهذه الزيادة على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، إذ لو كان كذلك لم يحتج إلى قوله: "ونهينا عن الكلام" وأجيب بأن دلالته على ضده دلالة التزام، ومن ثم وقع الخلاف فلعله ذكر لكونه أصرح والله أعلم.
قال ابن دقيق العيد: هذا اللفظ أحد ما يستدل به على النسخ وهو تقدم أحد الحكمين على الآخر، وليس كقول الراوي هذا منسوخ لأنه يطرقه احتمال أن يكون قاله عن اجتهاد، وقيل ليس في هذه القصة نسخ لأن إباحة الكلام في الصلاة كان بالبراءة الأصلية، والحكم المزيل لها ليس نسخا. وأجيب بأن الذي يقع في الصلاة ونحوها ما يمنع أو يباح إذا قرره الشارع كان حكما شرعيا، فإذا ورد ما يخالفه كان ناسخا وهو كذلك هنا. قال ابن دقيق العيد: وقوله: "ونهينا عن الكلام" يقتضي أن كل شيء يسمى كلاما فهو منهي عنه حملا للفظ على عمومه، ويحتمل أن تكون اللام للعهد الراجع إلى قوله: "يكلم الرجل منا صاحبه بحاجته" وقوله: "فأمرنا بالسكوت" أي عما كانوا يفعلونه من ذلك. "تكميل": أجمعوا على أن الكلام في الصلاة -من عالم بالتحريم عامد لغير مصلحتها أو إنقاذ مسلم- مبطل لها، واختلفوا في الساهي والجاهل فلا يبطلها القليل منه عند الجمهور، وأبطلها الحنفية مطلقا كما سيأتي في الكلام على حديث ذي اليدين في السهو، واختلفوا في أشياء أيضا كمن جرى على لسانه بغير قصد أو تعمد إصلاح الصلاة لسهو دخل على إمامه أو لإنقاذ مسلم لئلا يقع في مهلكة أو فتح على إمامه أو سبح لمن مر به أو رد السلام أو أجاب دعوة أحد والديه أو أكره على الكلام أو تقرب بقربة كأعتقت عبدي لله، ففي جميع ذلك خلاف محل بسطه كتب الفقه، وستأتي الإشارة إلى بعضه حيث يحتاج إليه. قال ابن المنير في الحاشية: الفرق بين قليل الفعل للعامد فلا يبطل وبين قليل الكلام أن الفعل لا تخلو منه الصلاة غالبا لمصلحتها وتخلو من الكلام الأجنبي غالبا مطردا، والله أعلم.

(3/75)


3 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ فِي الصَّلاَةِ لِلرِّجَالِ
1201 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ وَحَانَتْ الصَّلاَةُ فَجَاءَ بِلاَلٌ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ حُبِسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَؤُمُّ النَّاسَ قَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتُمْ فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ فَأَخَذَ النَّاسُ بِالتَّصْفِيحِ قَالَ سَهْلٌ هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ هُوَ التَّصْفِيقُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرُوا الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّفِّ فَأَشَارَ إِلَيْهِ مَكَانَكَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى"
قوله: "باب ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة" قال ابن رشيد: أراد إلحاق التسبيح بالحمد بجامع الذكر لأن الذي في الحديث الذي ساقه ذكر التحميد دون التسبيح. قلت: بل الحديث مشتمل عليهما لكنه ساقه هنا مختصرا، وقد تقدم في "باب من دخل ليؤم الناس" من أبواب الإمامة من طريق مالك عن أبي حازم وفيه: "فرفع

(3/75)


أبو بكر يديه فحمد الله تعالى" وفي آخره: "من نابه شيء في صلاة فليسبح" وسيأتي في أواخر أبواب السهو عن قتيبة عن عبد العزيز بن أبي حازم وفيه هذا. قوله: "للرجال": قال ابن رشيد: قيده بالرجال لأن ذلك عنده لا يشرع للنساء. وقد أشعر بذلك تبويبه بعد حيث قال: "باب التصفيق للنساء" ووجهه أن دلالة العموم لفظية وضعية ودلالة المفهوم من لوازم اللفظ عند الأكثرين، وقد قال في الحديث: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" فكأنه قال: لا تسبيح إلا للرجال ولا تصفيق إلا للنساء، وكأنه قدم المفهوم على العموم للعمل بالدليلين، لأن في إعمال العموم إبطالا للمفهوم. ولا يقال إن قوله: "للرجال" من باب اللقب، لأنا نقول: بل هو من باب الصفة، لأنه في معني الذكور البالغين انتهى. تقدم الكلام على فوائد هذا الحديث في الباب المذكور. وفيه من الفوائد مما تقدم بعضها مبسوطا: جواز تأخير الصلاة عن أول الوقت، وأن المبادرة إليها أولى من انتظار الإمام الراتب، وأنه لا ينبغي التقدم على الجماعة إلا برضا منهم، يؤخذ ذلك من قول أبي بكر "إن شئتم" مع علمه بأنه أفضل. وأن الالتفات في الصلاة لا يقطعها. وأن من سبح أو حمد لأمر ينوبه لا يقطع صلاته ولو قصد بذلك تنبيه غيره خلافا لمن قال بالبطلان. وقوله فيه: "فقال سهل" أي ابن سعد راوي الحديث: "هل تدرون ما التصفيح هو التصفيق" وهذه حجة لمن قال إنهما قال بمعني واحد، وبه صرح الخطابي وأبو علي القالي والجوهري وغيرهم، وادعى ابن حزم نفي الخلاف في ذلك، وتعقب بما حكاه عياض في الإكمال أنه بالحاء الضرب بظاهر إحدى اليدين على الأخرى، وبالقاف بباطنها على باطن الأخرى، وقيل بالحاء الضرب بأصبعين للإنذار والتنبيه وبالقاف بجميعها للهو واللعب، وأغرب الداودي فزعم أن الصحابة ضربوا بأكفهم على أفخاذهم، قال عياض: كأنه أخذه من حديث معاوية بن الحكم الذي أخرجه مسلم ففيه: "فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم".

(3/76)


4 - باب مَنْ سَمَّى قَوْمًا أَوْ سَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى غَيْرِهِ مُوَاجَهَةً وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ
1202- حدثنا عمرو بن عيسى حدثنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد حدثنا حصين بن عبد الرحمن عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ثم كنا نقول التحية في الصلاة ونسمي ويسلم بعضنا على بعض فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قولوا التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض"
قوله: "باب من سمى قوما أو سلم في الصلاة على غيره وهو لا يعلم" كذا للأكثر، وزاد في رواية كريمة بعد على غيره: "مواجهة" وحكى ابن رشيد أن في رواية أبي ذر عن الحموي إسقاط الهاء من غيره وإضافة مواجهة، قال: ويحتمل أن يكون بتنوين غير وفتح الجيم من مواجهة وبالنصب فيوافق المعنى الأول، ويحتمل أن يكون بتاء التأنيث فيكون المعنى لا تبطل الصلاة إذا سلم على غير مواجهة، ومفهومه أنه إذا كان مواجهة تبطل، قال: وكأن مقصود البخاري بهذه الترجمة أن شيئا من ذلك لا يبطل الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالإعادة وإنما علمهم ما يستقبلون، لكن يرد عليه أنه لا يستوي حال الجاهل قبل وجود الحكم مع حاله بعد ثبوته، ويبعد أن يكون

(3/76)


الذين صدر منهم الفعل كان من غير علم بل الظاهر أن ذلك كان عندهم شرعا مقررا فورد النسخ عليه فيقع الفرق انتهى. وليس في الترجمة تصريح بجواز ولا بطلان. وكأنه ترك ذلك لاشتباه الأمر فيه. وقد تقدم الكلام على فوائد حديث الباب في أواخر صفة الصلاة. وقوله في هذا السياق "وسمى ناسا بأعيانهم" يفسره قوله في السياق المتقدم "السلام على جبريل السلام على ميكائيل إلخ" وقوله: "يسلم بعضنا على بعض" ظاهر فيما ترجم له والله تعالى أعلم.

(3/77)


5- باب التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ
1203 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء"
1204 - حدثنا يحيى أخبرنا وكيع عن سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرجال والتصفيح للنساء"
قوله: "باب التصفيق للنساء" تقدم الكلام عليه قبل باب. وسفيان في الإسناد الأول هو ابن عيينة، وفي الثاني هو الثوري، ويحيي شيخ البخاري هو ابن جعفر، وكأن منع النساء من التسبيح لأنها مأمورة بخفض صوتها في الصلاة مطلقا لما يخشى من الافتتان. ومنع الرجال من التصفيق لأنه من شأن النساء، وعن مالك وغيره في قوله: "التصفيق للنساء" أي هو من شأنهن في غير الصلاة وهو على جهة الذم له ولا ينبغي فعله في الصلاة لرجل ولا امرأة، وتعقب برواية حماد بن زيد عن أبي حازم في الأحكام بصيغة الأمر "فليسبح الرجال وليصفق النساء" فهذا نصن يدفع ما تأوله أهل هذه المقالة، قالا القرطبي: القول بمشروعية التصفيق للنساء هو الصحيح خبرا ونظرا.

(3/77)


6 - باب مَنْ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فِي صَلاَتِهِ أَوْ تَقَدَّمَ بِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ
رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1205 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ يُونُسُ قَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِهِمْ فَفَجِئَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ فَرَحًا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَتُوُفِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمَ"
قوله: "باب من رجع القهقرى في الصلاة أو تقدم بأمر ينزل به، رواه سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير بذلك إلى حديثه الماضي قريبا فقيه "فرفع أبو بكر يديه فحمد الله ثم رجع القهقري". وأما قوله: "أو تقدم" فهو مأخوذ من الحديث أيضا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في الصف الأول خلف أبي بكر على إرادة الائتمام به فامتنع

(3/77)


7 - باب إِذَا دَعَتْ الأُمُّ وَلَدَهَا فِي الصَّلاَةِ
1206 - قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نَادَتْ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وَهُوَ فِي صَوْمَعَةٍ قَالَتْ يَا جُرَيْجُ قَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي قَالَتْ يَا جُرَيْجُ قَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي قَالَتْ يَا جُرَيْجُ قَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي قَالَتْ اللَّهُمَّ لاَ يَمُوتُ جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وُجُوهِ الْمَيَامِيسِ وَكَانَتْ تَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ فَوَلَدَتْ فَقِيلَ لَهَا مِمَّنْ هَذَا الْوَلَدُ قَالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ قَالَ جُرَيْجٌ أَيْنَ هَذِهِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لِي قَالَ يَا بَابُوسُ مَنْ أَبُوكَ قَالَ رَاعِي الْغَنَمِ"
[الحديث 1206 – أطرافه في:2482, 3436, 3466]
قوله: "باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة" أي هل يجب إجابتها أم لا؟ إذا وجبت هل تبطل الصلاة أو لا؟ في المسألتين خلاف، ولذلك حذف المصنف جواب الشرط. قوله: "وقال الليث" وصله الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي أحد شيوخ البخاري عن الليث مطولا، وجعفر هو ابن ربيعة المصري، وجريج بجيمين مصغر. وقوله في وجه المياميس في رواية أبي ذر "وجوه" بصيغة الجمع والمياميس جمع مومسة بكسر الميم وهي الزانية، قال ابن الجوزي: إثبات الياء فيه غلط والصواب حذفها وخرج على إشباع الكسرة وحكى غيره جوازه، قال ابن بطال: سبب دعاء أم جريج على ولدها أن الكلام في الصلاة كان في شرعهم مباحا، فلما آثر استمراره في صلاته ومناجاته على إجابتها دعت عليه لتأخيره حقها انتهى. والذي يظهر من ترديده في قوله: "أمي، وصلاتي" أن الكلام عنده يقطع الصلاة فلذلك لم يجبها، وقد روى الحسن بن سفيان وغيره من طريق الليث عن يزيد بن حوشب عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان جريج عالما لعلم أن إجابته أمه أولى من عبادة ربه" ويزيد هذا مجهول، وحوشب بمهملة ثم معجمة وزن جعفر، ووهم الدمياطي فزعم أنه ذو ظليم، والصواب أنه غيره لأن ذا ظليم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا وقع التصريح بسماعه، وقوله فيه: "يا بابوس" بموحدتين بينهما ألف ساكنة والثانية مضمومة وآخره مهملة قال القزاز: هو الصغير. وقال ابن بطال: الرضيع، وهو بوزن جاسوس. واختلف هل هو عربي أو معرب؟ وأغرب الداودي الشارح فقال: هو اسم ذلك الولد بعينه وفيه نظر، وقد قال الشاعر:

(3/78)


حنت قلوصي إلى بابوسها جزعا. وقال الكرماني: إن صحت الرواية بتنوين السين تكون كنية له ويكون معناه يا أبا الشدة، وسيأتي بقية الكلام عليه في ذكر بني إسرائيل.

(3/79)


8 - باب مَسْحِ الْحَصَا فِي الصَّلاَةِ
1207 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَيْقِيبٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ قَالَ: "إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَوَاحِدَةً"
قوله: "باب مسح الحصى في الصلاة" قال ابن رشيد: ترجم بالحصى والمتن الذي أورده "في التراب" لينبه على إلحاق الحصى بالتراب في الاقتصار على التسوية مرة، وأشار بذلك أيضا إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ: "الحصى" كما أخرجه مسلم من طريق وكيع عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير بلفظ: "المسح في المسجد يعني الحصى" قال ابن رشيد: لما كان في الحديث: "يعني" ولا يدري أهي قول الصحابي أو غيره عدل عنها البخاري إلى ذكر الرواية التي فيها التراب. وقال الكرماني: ترجم بالحصى لأن الغالب أنه يوجد في التراب فيلزم من تسويته مسح الحصى. قلت: قد أخرجه أبو داود عن مسلم بن إبراهيم عن هشام بلفظ: "فإن كنت لا بد فاعلا فواحدة تسوية الحصى" وأخرجه الترمذي من طريق الأوزاعي عن يحيى بلفظ: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى في الصلاة" فلعل البخاري أشار إلى هذه الرواية، أو إلى ما رواه أحمد من حديث حذيفة قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى عن مسح الحصى فقال: واحدة أو دع" ورواه أصحاب السنن من حديث أبي ذر بلفظ: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصى" وقوله: "إذا قام" المراد به الدخول في الصلاة ليوافق حديث الباب فلا يكون منهيا عن المسح قبل الدخول فيها، بل الأولى أن يفعل ذلك حتى لا يشتغل باله وهو في الصلاة به. "تنبيه": التقييد بالحصى وبالتراب خرج للغالب لكونه كان الموجود في فرش المساجد إذ ذاك، فلا يدل تعليق الحكم به على نفيه على غيره مما يصلى عليه من الرمل والقذى وغير ذلك. قوله: "حدثنا شيبان" هو ابن عبد الرحمن، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن أبي سلمة" هو ابن عبد الرحمن. وفي رواية الترمذي من طريق الأوزاعي عن يحيى "حدثني أبو سلمة" ومعيقيب بالمهملة وبالقاف وآخره موحدة مصغر هو ابن أبي فاطمة الدوسي حليف بني عبد شمس، كان من السابقين الأولين، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث الواحد. قوله: "في الرجل" أي حكم الرجل، وذكر للغالب وإلا فالحكم جار في جميع المكلفين. وحكى النووي اتفاق العلماء على كراهة مسح الحصى وغيره في الصلاة، وفيه نظر فقد حكى الخطابي في "المعالم" عن مالك أنه لم ير به بأسا وكان يفعله فكأنه لم يبلغه الخبر، وأفرط بعض أهل الظاهر فقال: إنه حرام إذا زاد على واحدة لظاهر النهي، ولم يفرق بين ما إذا توالى أو لا، مع أنه لم يقل بوجوب الخشوع، والذي يظهر أن علة كراهيته المحافظة على الخشوع، أو لئلا يكثر العمل في الصلاة، لكن حديث أبي ذر المتقدم يدل على أن العلة فيه أن يجعل بينه وبين الرحمة التي تواجهه حائلا. وروى ابن أبي شيبة عن أبي صالح السمان قال: "إذا سجدت فلا تمسح الحصى، فإن كل حصاة تحب أن يسجد عليها" فهذا تعليل آخر والله أعلم. قوله: "حيث يسجد" أي مكان السجود، وهل يتناول العضو الساجد؟ لا يبعد ذلك.
وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء قال: "ما أحب أن لي حمر النعم وأني مسحت مكان جبيني من الحصى" وقال

(3/79)


عياض: كره السلف مسح الجبهة في الصلاة قبل الانصراف. قلت: وقد تقدم في أواخر صفة الصلاة حكاية استدلال الحميدي لذلك بحديث أبي سعيد في رؤيته الماء والطين في جبهة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انصرف من صلاة الصبح. قوله: "فواحدة" بالنصب على إضمار فعل أي فامسح واحدة، أو على النعت لمصدر محذوف، ويجوز الرفع على إضمار الخبر أي فواحدة تكفي، أو إضمار المبتدأ أي فالمشروع واحدة. ووقع في رواية الترمذي "إن كنت فاعلا فمرة واحدة" .

(3/80)


9 - باب بَسْطِ الثَّوْبِ فِي الصَّلاَةِ لِلسُّجُودِ
1208 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا غَالِبٌ الْقَطَّانُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنْ الأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ"
قوله: "باب بسط الثوب في الصلاة للسجود" هذه الترجمة من جملة العمل اليسير في الصلاة أيضا، وهو أن يتعمد إلقاء الثوب على الأرض ليسجد عليه، وقد تقدم الكلام عليه في أوائل الصلاة، وتقدم الخلاف في ذلك وتفرقة من فرق بين الثوب الذي هو لابسه أو غير لابسه. قوله: "حدثنا بشر" هو ابن المفضل، وغالب هو القطان كما وقع في رواية أبي ذر.

(3/80)


10 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الصَّلاَةِ
1209 - حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فإذا سجد غمزني فرفعتها فإذا قام مددتها"
1210 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ صَلَّى صَلاَةً قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ لِيَقْطَعَ الصَّلاَةَ عَلَيَّ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَذَعَتُّهُ وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَم {رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِيًا" ثُمَّ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ فَذَعَتُّهُ بِالذَّالِ أَيْ خَنَقْتُهُ وَفَدَعَّتُّهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ {يَوْمَ يُدَعُّونَ} أَيْ يُدْفَعُونَ وَالصَّوَابُ فَدَعَتُّهُ إِلاَّ أَنَّهُ كَذَا قَالَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَالتَّاءِ
قوله: "باب ما يجوز من العمل في الصلاة" أي غير ما تقدم، أورد فيه حديث عائشة في نومها في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وغمزه لها إذا سجد، وقد تقدم الكلام عليه في "باب الصلاة على الفراش" في أوائل الصلاة. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان، وشبابة بمعجمة وموحدتين الأولى خفيفة. قوله: "إن الشيطان عرض" تقدم في "باب ربط الغريم في المسجد" من أبواب المساجد من وجه آخر عن شعبة بلفظ: "إن عفريتا من الجن تفلت علي" وهو ظاهر في أن المراد بالشيطان في هذه الرواية غير إبليس كبير الشياطين. قوله: "فشد علي" بالمعجمة أي حمل. قوله: "ليقطع" في رواية الحموي والمستملي بحذف اللام. قوله: "فذعته" يأتي ضبطه بعد. قوله: "فتنظروا" في رواية الحموي

(3/80)


11 - باب إِذَا انْفَلَتَتْ الدَّابَّةُ فِي الصَّلاَةِ
1211 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الأَزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ "كُنَّا بِالأَهْوَازِ نُقَاتِلُ الْحَرُورِيَّةَ فَبَيْنَا أَنَا عَلَى جُرُفِ نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ فَجَعَلَتْ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا قَالَ شُعْبَةُ هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الْخَوَارِجِ يَقُولُ اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ فَلَمَّا انْصَرَفَ الشَّيْخُ قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَكُمْ وَإِنِّي غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ غَزَوَاتٍ أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ وَثَمَانِيَ وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ وَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَنْ أُرَاجِعَ مَعَ دَابَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجِعُ إِلَى مَأْلَفِهَا فَيَشُقُّ عَلَيَّ"
[الحديث 1211 – طرفه في: 6127]
1212 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ " خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ بِسُورَةٍ أُخْرَى ثُمَّ رَكَعَ حَتَّى قَضَاهَا وَسَجَدَ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يُفْرَجَ عَنْكُمْ لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُهُ حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنْ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ وَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ"
قوله: "باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة" أي ماذا يصنع؟. قوله: "وقال قتادة إلخ" وصله عبد الرزاق عن معمر عنه بمعناه وزاد: "فيرى صبيا على بئر فيتخوف أن يسقط فيها، قال: ينصرف له". قوله: "كنا بالأهواز" بفتح الهمزة وسكون الهاء هي بلدة معروفة بين البصرة وفارس فتحت في خلافة عمر، قال في المحكم: ليس له واحد من لفظه، قال أبو عبيد البكري: هي بلد يجمعها سبع كور فذكرها. قال ابن خرداذبة: هي بلاد واسعة متصلة بالجبل وأصبهان. قوله: "الحرورية" بمهملات أي الخوارج، وكان الذي يقاتلهم إذ ذاك المهلب بن أبي صفرة كما في رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عند الإسماعيلي، وذكر محمد بن قدامة الجوهري في كتابه "أخبار الخوارج"

(3/81)


أن ذلك كان في سنة خمس وستين من الهجرة، وكان الخوارج قد حاصروا أهل البصرة مع نافع بن الأزرق حتى قتل وقتل من أمراء البصرة جماعة إلى أن ولي عبد الله بن الزبير الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على البصرة وولي المهلب بن أبي صفرة على قتال الخوارج، وكذا ذكر المبرد في الكامل نحوه. وهو يعكر على من أرخ وفاة أبي برزة سنة أربع وستين أو قبلها. قوله: "على جرف نهر" هو بضم الجيم والراء بعدها فاء وقد تسكن الراء، وهو المكان الذي أكله السيل. وللكشميهني بفتح المهملة وسكون الراء أي جانبه، ووقع في رواية حماد بن زيد عن الأزرق في الأدب "كنا على شاطئ نهر قد نضب عنه الماء" أي زال وهو يقوي رواية الكشميهني. وفي رواية مهدي بن ميمون عن الأزرق عن محمد بن قدامة "كنت في ظل قصر مهران بالأهواز على شاطئ دجيل" وعرف بهذا تسمية النهر المذكور وهو بالجيم مصغر. قوله: "إذا رجل" في رواية الحموي والكشميهني: "إذ جاء رجل". قوله: "قال شعبة هو أبو برزة الأسلمي" أي الرجل المصلي، وظاهره أن الأزرق لم يسمه لشعبة ولكن رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة فقال في آخره: "فإذا هو أبو برزة الأسلمي" وفي رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيلي: "فجاء أبو برزة" وفي رواية حماد في الأدب "فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس فصلى وخلاها فانطلقت فاتبعها" ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الأزرق بن قيس "أن أبا برزة الأسلمي مشى إلى دابته وهو في الصلاة" الحديث، وبين مهدي بن ميمون في روايته أن تلك الصلاة كانت صلاة العصر. وفي رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيلي: "فمضت الدابة في قبلته فانطلق فأخذها ثم رجع القهقري". قوله: "فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ" في رواية الطيالسي "فإذا بشيخ يصلي قد عمد إلى عنان دابته فجعله في يده فنكصت الدابة فنكص معها، ومعنا رجل من الخوارج فجعل يسبه" وفي رواية مهدي أنه قال: ألا ترى إلى هذا الحمار. وفي رواية حماد فقال: انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس. قوله: "أو ثمانيا" كذا للكشميهني. وفي رواية غيره: "أو ثماني" بغير ألف ولا تنوين. وقال ابن مالك في شرح التسهيل: الأصل أو ثماني غزوات فحذف المضاف وأبقى المضاف إليه على حاله، وقد رواه عمرو بن مرزوق بلفظ: "سبع غزوات" بغير شك. قوله: "وشهدت تيسيره" كذا في جميع الأصول وفي جميع الطرق "من التيسير"، وحكى ابن التين عن الداودي أنه وقع عنده "وشهدت تستر" بضم المثناة وسكون المهملة وفتح المثناة وقال: معنى شهدت تستر أي فتحها، وكان في زمن عمر انتهى، ولم أر ذلك في شيء من الأصول، ومقتضاه أن لا يبقى في القصة شائبة رفع، بخلاف الرواية المحفوظة فإن فيها إشارة إلى أن ذلك كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم تجويز مثله، وزاد عمرو بن مرزوق في آخره: "قال فقلت للرجل ما أرى الله إلا مخزيك، شتمت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية مهدي بن ميمون "فقلت اسكت فعل الله بك، هل تدري من هذا؟ هو أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية الرجل المذكور، وفي هذا الحديث من الفوائد جواز حكاية الرجل مناقبه إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن في سياق الفخر، وأشار أبو برزة بقوله: "ورأيت تيسيره" إلى الرد على من شدد عليه في أن يترك دابته تذهب ولا يقطع صلاته، وفيه حجة للفقهاء في قولهم: أن كل شيء يخشى إتلافه من متاع وغيره يجوز قطع الصلاة لأجله.
وقوله: "مألفها" يعني الموضع الذي ألفته واعتادته، وهذا بناء على غالب أمرها، ومن الجائز أن لا ترجع إلى مألفها بل تتوجه إلى حيث لا يدري بمكانها فيكون فيه تضييع المال المنهي عنه. "تنبيه": ظاهر سياق هذه القصة أن أبا

(3/82)


برزة لم يقطع صلاته، ويؤيده قوله في رواية عمرو بن مرزوق "فأخذها ثم رجع القهقري" فإنه لو كان قطعها ما بالى أن يرجع مستدبر القبلة، وفي رجوعه القهقري ما يشعر بأن مشيه إلى قصدها ما كان كثيرا، وهو مطابق لثاني حديثي الباب لأنه يدل أنه صلى الله عليه وسلم تأخر في صلاته وتقدم ولم يقطعها، فهو عمل يسير ومشي قليل فليس فيه استدبار القبلة فلا يضر. وفي مصنف ابن أبي شيبة: "سئل الحسن عن رجل صلى فأشفق أن تذهب دابته، قال: ينصرف. قيل له أفيتم؟ قال: إذا ولى ظهره القبلة استأنف" وقد أجمع الفقهاء على أن المشي الكثير في الصلاة المفروضة يبطلها فيحمل حديث أبي برزة على القليل كما قررناه، وقد تقدم أن في بعض طرقه أن الصلاة المذكورة كانت العصر. قوله: "وإني أن كنت أن أرجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها" قال السهيلي: إني وما بعدها اسم مبتدأ وأن أرجع اسم مبدل من الاسم الأول وأحب خبر عن الثاني وخبر كان محذوف، أي إني إن كنت راجعا أحب إلي. وقال غيره أن كنت بفتح الهمزة وحذفت اللام وهي مع كنت بتقدير كوني وفي موضع البدل من الضمير في إني، وأن الثانية بالفتح أيضا مصدرية. ووقع في رواية حماد "فقال إن منزلي متراخ - أي متباعد - فلو صليت وتركته -أي الفرس- لم آت أهلي إلى الليل" أي لبعد المكان. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد، وقد تقدم ما يتعلق بالكسوف من هذا الحديث من طريق عقيل وغيره عن الزهري مستوفى. وقوله: "فلما قضى" أي فرغ ولم يرد القضاء الذي هو ضد الأداء. قوله: "لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدته" في رواية ابن وهب عن يونس عند مسلم: "وعدتم" وله في حديث جابر "عرض علي كل شيء تولجونه". قوله: "لقد رأيت" كذا للأكثر وللحموي والمستملي: "لقد رأيته" ولمسلم: "حتى لقد رأيتني" وهو أوجه. قوله: "أريد أن آخذ قطفا" في حديث جابر " حتى تناولت منها قطفا فقصرت يدي عنه" والقطف بكسر أوله وذكر ابن الأثير أن كثيرا يروونه بالفتح والكسر هو الصواب. قوله: "قطفا من الجنة" يعني عنقود عنب كما تقدم في الكسوف من حديث ابن عباس. قوله: "حين رأيتموني جعلت أتقدم" قال الكرماني: قال في جهنم حين رأيتموني تأخرت لأن التقدم كاد أن يقع بخلاف التأخر فإنه قد وقع كذا قال، وقد وقع التصريح بوقوع التقدم والتأخر جميعا في حديث جابر عند مسلم ولفظه: " لقد جيء بالنار، وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها" وفيه: "ثم جيء بالجنة، وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي" وقد تقدم الكلام على فوائد هذا الحديث في أبواب الكسوف. قوله: "ورأيت فيها عمرو بن لحي" باللام والمهملة مصغر وسيأتي شرح حاله في أخبار الجاهلية. قوله: " وهو الذي سيب السوائب" جمع سائبة، وسيأتي الكلام عليها في تفسير سورة المائدة إن شاء الله تعالى. وفي هذا الحديث أن المشي القليل لا يبطل الصلاة، وكذا العمل اليسير، وأن النار والجنة مخلوقتان موجودتان وغير ذلك من فوائده التي تقدمت مستقصاة في صلاة الكسوف. ووجه تعلق الحديث بالترجمة ظاهر من جهة جواز التقدم والتأخر اليسير، لأن الذي تنفلت دابته يحتاج في حال إمساكها إلى التقدم أو التأخر كما وقع لأبي برزة، وقد أشرت إلى ذلك في آخر حديثه. وأغرب الكرماني فقال: وجه تعلقه بها أن فيه مذمة تسييب الدواب مطلقا سواء كان في الصلاة أم لا.

(3/83)


12 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْبُصَاقِ وَالنَّفْخِ فِي الصَّلاَةِ
وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَفَخَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُجُودِهِ فِي كُسُوفٍ

(3/83)


1213 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَتَغَيَّظَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ فَإِذَا كَانَ فِي صَلاَتِهِ فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَوْ قَالَ لاَ يَتَنَخَّمَنَّ ثُمَّ نَزَلَ فَحَتَّهَا بِيَدِهِ"
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا بَزَقَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْزُقْ عَلَى يَسَارِهِ
1214 - حدثنا محمد حدثنا غندر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا كان في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن شماله تحت قدمه اليسرى"
قوله: "باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة" وجه التسوية بينهما أنه ربما ظهر من كل منهما حرفان وهما أقل ما يتألف منه الكلام، وأشار المصنف إلى أن بعض ذلك يجوز وبعضه لا يجوز، فيحتمل أنه يرى التفرقة بين ما إذا حصل من كل منهما كلام مفهوم أم لا، أو الفرق ما إذا كان حصول ذلك محققا ففعله يضر وإلا فلا. قوله: "ويذكر عن عبد الله بن عمرو" أي ابن العاص "نفخ النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده في كسوف" هذا طرف من حديث أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة والطبري وابن حبان من طريق عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام وقمنا معه" الحديث بطوله، وفيه: "وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد" وذلك في الركعة الثانية، وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض لأن عطاء بن السائب مختلف في الاحتجاج به وقد اختلط في آخر عمره، لكن أخرجه ابن خزيمة من رواية سفيان الثوري عنه وهو ممن سمع منه قبل اختلاطه، وأبوه وثقه العجلي وابن حبان وليس هو من شرط البخاري، ثم أورد البخاري في الباب حديث ابن عمر وحديث أنس في النهي عن البزاق في القبلة، فأما حديث ابن عمر فقوله فيه: "إن الله قبل أحدكم" بكسر القاف وفتح الموحدة أي مواجهة، وقد تقدم في "باب حك البزاق باليد من المسجد" من أبواب المساجد مع الكلام عليه، وزاد في هذه الرواية: "فتغيظ على أهل المسجد" ففيه جواز معاتبة المجموع على الأمر الذي ينكر وإن كان الفعل صدر من بعضهم لأجل التحذير من معاودة ذلك. قوله: "فلا يبزقن أو قال لا يتنخمن " في رواية الإسماعيلي: " لا يبزقن أحدكم بين يديه" . قوله فيه "وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا بزق أحدكم فليبزق على يساره" في رواية الكشميهني: "عن يساره" هكذا ذكره موقوفا ولم تتقدم هذه الزيادة من حديث ابن عمر، لكن وقع عند الإسماعيلي من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن حماد بن زيد بلفظ: "لا يبزقن أحدكم بين يديه، ولكن ليبزق خلفه أو عن شماله أو تحت قدمه" فساقه كله معطوفا بعضه على بعض، وقد بينت رواية البخاري أن المرفوع منه انتهى إلى قوله: "فلا يبزقن بين يديه" والباقي موقوف. وقد اقتصر مسلم وأبو داود وغيرهما على المرفوع منه مع أن هذا الموقوف عن ابن عمر قد ثبت مثله من حديث أنس مرفوعا، وقد تقدم الكلام على فوائد الحديث في الباب الذي أشرت إليه قبل وفيما بعده، قال ابن بطال: وروي عن مالك كراهة النفخ في الصلاة، ولا يقطعها كما يقطعها الكلام، هو قول أبي يوسف وأشهب وأحمد وإسحاق، وفي المدونة: النفخ بمنزلة الكلام يقطع الصلاة.

(3/84)


وعن أبي حنيفة ومحمد: إن كان يسمع فهو بمنزلة الكلام وإلا فلا، قال والقول الأول أولى، وليس في النفخ من النطق بالهمزة والفاء أكثر مما في البصاق من النطق بالتاء والفاء، قال وقد اتفقوا على جواز البصاق في الصلاة فدل على جواز النفخ فيها إذ لا فرق بينهما، ولذلك ذكره البخاري معه في الترجمة انتهى كلامه، ولم يذكر قول الشافعية في ذلك والمصحح عندهم أنه إن ظهر من النفخ أو التنخم أو البكاء أو الأنين أو التأوه أو التنفس أو الضحك أو التنحنح حرفان بطلت الصلاة وإلا فلا، قال ابن دقيق العيد: ولقائل أن يقول لا يلزم من كون الحرفين يتألف منهما الكلام أن يكون كل حرفين كلاما، وإن لم يكن كذلك فالإبطال به لا يكون بالنص بل بالقياس فليراع شرطه في مساواة الفرع للأصل، قال: والأقرب أن ينظر إلى مواقع الإجماع والخلاف حيث لا يسمى الملفوظ به كلاما فما أجمع على إلحاقه بالكلام ألحق به وما لا فلا. قال: ومن ضعيف التعليل قولهم إبطال الصلاة بالنفخ بأنه يشبه الكلام فإنه مردود لثبوت السنة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم نفخ في الكسوف انتهى. وأجيب بأن نفخه صلى الله عليه وسلم محمول على أنه لم يظهر منه شيء من الحروف، ورد بما ثبت في أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو فإن فيه: "ثم نفخ في آخر سجوده فقال أف أف" فصرح بظهور الحرفين. وفي الحديث أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وعرضت علي النار فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرها" والنفخ لهذا الغرض لا يقع إلا بالقصد إليه فانتفى قول من حمله على الغلبة، والزيادة المذكورة من رواية حماد بن سلمة عن عطاء وقد سمع منه قبل الاختلاط في قول يحيى بن معين وأبي داود والطحاوي وغيرهم. وأجاب الخطابي أن أف لا تكون كلاما حتى يشدد الفاء، قال: والنافخ في نفخه لا يخرج الفاء صادقة من مخرجها، وتعقبه ابن الصلاح بأنه لا يستقيم على قول الشافعية أن الحرفين كلام مبطل أفهما أو لم يفهما، وأشار البيهقي إلى أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، ورد بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل. "تنبيهان": الأول: نقل ابن المنذر الإجماع على أن الضحك يبطل الصلاة ولم يقيده بحرف ولا حرفين، وكأن الفرق ببن الضحك والبكاء أن الضحك يهتك حرمة الصلاة بخلاف البكاء ونحوه، ومن ثم قال الحنفية وغيرهم إن كان البكاء من أجل الخوف من الله تعالى لا تبطل به الصلاة مطلقا. "الثاني" ورد في كراهة النفخ في الصلاة حديث مرفوع أخرجه الترمذي من حديث أم سلمة قالت: " رأى النبي صلى الله عليه وسلم غلاما لنا يقال له أفلح إذا سجد نفخ، فقال: يا أفلح ترب وجهك" رواه الترمذي وقال: ضعيف الإسناد. قلت: ولو صح لم يكن فيه حجة على إبطال الصلاة بالنفخ لأنه لم بأمره بإعادة الصلاة، إنما يستفاد من قوله ترب وجهك استحباب السجود على الأرض فهو نحو النهي عن مسح الحصى. وفي الباب عن أبي هريرة في الأوسط للطبراني وعن زيد بن ثابت عند البيهقي وعن أنس وبريدة عند البزار وأسانيد الجميع ضعيفة جدا، وثبت كراهة النفخ عن ابن عباس كما رواه ابن أبي شيبة، والرخصة فيه عن قدامة بن عبد الله أخرجه البيهقي.

(3/85)


13- باب مَنْ صَفَّقَ جَاهِلًا مِنْ الرِّجَالِ فِي صَلاَتِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُ
فِيهِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب من صفق جاهلا من الرجال في صلاته لم تفسد صلاته، فيه سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير بذلك إلى حديثه الآتي بعد بابين، لكنه بلفظ: " ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم بالتصفيح" ، وسيأتي في آخر باب

(3/85)


من أبواب السهو، بلفظ: "التصفيق"، ومناسبته للترجمة من جهة أنه لم يأمرهم بالإعادة.

(3/86)


باب إذا قيل للمصلي تقدم أو انتظر فلا بأس
...
14 - باب إِذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي تَقَدَّمْ أَوْ انْتَظِرْ فَانْتَظَرَ فَلاَ بَأْسَ
1215- -حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنْ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا"
قوله: "باب إذا قيل للمصلي تقدم أو انتظر فانتظر فلا بأس" قال الإسماعيلي: كأنه ظن المخاطبة للنساء وقعت بذلك وهن في الصلاة، وليس كما ظن، بل هو شيء قيل لهن قبل أن يدخلن في الصلاة انتهى. والجواب عن البخاري أنه لم يصرح بكون ذلك قيل لهن وهن داخل الصلاة بل مقصوده بقول ذلك لهن داخل الصلاة أو خارجها. والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاهن بنفسه أو بغيره بالانتظار المذكور قبل أن يدخلن في الصلاة ليدخلن فيها على علم ويحصل المقصود من حيث انتظارهن الذي أمرن به فإن فيه انتظارهن للرجال ومن لازمه تقدم الرجال عليهن، ومحصل مراد البخاري أن الانتظار إن كان شرعيا جاز وإلا فلا. قال ابن بطال: قوله: "تقدم" أي قبل رفيقك وقوله: "انتظر" أي تأخر عنه. استنبط ذلك من قوله للنساء " لا ترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا" فيقتضي امتثال ذلك تقدم الرجال عليهن وتأخرهن عنهم. وفيه من الفقه جواز وقوع فعل المأموم بعد الإمام، وجواز سبق المأمومين بعضهم بعضا في الأفعال، وجواز التربص في أثناء الصلاة لحق الغير ولغير مقصود الصلاة. ويستفاد منه جواز انتظار الإمام في الركوع لمن يدرك الركعة وفي التشهد لمن يدرك الجماعة. وفرع ابن المنير على أنه قيل ذلك للنساء داخل الصلاة فقال: فيه جواز إصغاء المصلي في الصلاة لمن يخاطبه المخاطبة الخفيفة. قوله: "حدثنا محمد بن كثير" هو العبدي البصري، ولم يخرج البخاري للكوفي ولا للشامي ولا للصغاني شيئا. وسفيان هو الثوري. وقد تقدم الكلام على المتن في أوائل كتاب الصلاة.

(3/86)


15 - باب لاَ يَرُدُّ السَّلاَمَ فِي الصَّلاَةِ
1216 - حدثنا عبد الله بن أبي شيبة حدثنا بن فضيل عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال " كنت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علي فلما رجعنا سلمت عليه فلم يرد علي وقال إن في الصلاة شغلا"
1217 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِنْظِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ " بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ لَهُ فَانْطَلَقْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَقَدْ قَضَيْتُهَا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ عَلَيَّ أَنِّي أَبْطَأْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَشَدُّ مِنْ الْمَرَّةِ الأُولَى ثُمَّ سَلَّمْتُ

(3/86)


16 - باب رَفْعِ الأَيْدِي فِي الصَّلاَةِ لِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ
1218 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتْ الصَّلاَةُ فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتْ الصَّلاَةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ قَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيحِ قَالَ سَهْلٌ التَّصْفِيحُ هُوَ التَّصْفِيقُ قَالَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى لِلنَّاسِ فَلَمَّا

(3/87)


فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا كَانَ يَنْبَغِي لابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب رفع الأيدي في الصلاة لأمر ينزل به" ذكر فيه حديث سهل بن سعد من رواية عبد العزيز عن أبي حازم، وعبد العزيز هذا هو ابن أبي حازم. قوله: "وحانت الصلاة" الواو فيه حالية. وفي رواية الكشميهني: "وقد حانت الصلاة". قوله: "إن شئت" في رواية الحموي "إن شئتم". قوله: "من الصف" في رواية الكشميهني: "في الصف". قوله: "فرفع أبو بكر يده" في رواية الكشميهني: "يديه" بالتثنية، وهذا موضع الترجمة. ويؤخذ منه أن رفع اليدين للدعاء ونحوه في الصلاة لا يبطلها ولو كان في غير موضع الرفع لأنها هيئة استسلام وخضوع، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على ذلك. قوله: "حيث أشرت عليك" وفي رواية الكشميهني: "حين أشرت إليك" وقد تقدم الكلام على فوائده كما أشرت إليه قريبا.

(3/88)


17 - باب الْخَصْرِ فِي الصَّلاَةِ
1219 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " نُهِيَ عَنْ الْخَصْرِ فِي الصَّلاَةِ " وَقَالَ هِشَامٌ وَأَبُو هِلاَلٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[الحديث 1219 – طرفه في: 1220]
1220 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا".
قوله: "باب الخصر في الصلاة" بفتح المعجمة وسكون المهملة أي حكم الخصر، والمراد وضع اليدين عليه في الصلاة. قوله: "حدثنا حماد" هو ابن زيد ومحمد هو ابن سيرين. قوله: "نهي" بضم النون على البناء للمجهول وفاعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية هشام. قوله: "وقال هشام" يعني ابن حسان "وأبو هلال" يعني الراسبي "عن ابن سيرين إلخ" أما رواية هشام وهو ابن حسان فوصلها المؤلف في الباب، لكن وقع في رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي: "نهى" على البناء للفاعل ولم يسمه، وسماه الكشميهني في روايته، وقد رواه مسلم والترمذي من طريق أبي أسامة عن هشام بلفظ: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصرا" وكذا رواه أبو داود من طريق محمد بن سلمة عن هشام كذلك، وبلفظ: "عن الخصر في الصلاة" وأما رواية أبي هلال فوصلها الدارقطني في "الأفراد" من طريق عمرو بن مرزوق عنه بلفظ: "عن الاختصار في الصلاة". قوله: "نهي" بالضم على البناء للمفعول.
وفي رواية الكشميهني: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم"قوله: "متخصرا" في رواية الكشميهني: "مخصرا" بتشديد الصاد، وللنسائي: "مختصرا" بزيادة المثناة، وللإسماعيلي من طريق سليمان بن حرب "حدثنا حماد بن زيد قال: قيل لأيوب إن هشاما روى عن محمد عن أبي هريرة قال: نهي عن الاختصار في الصلاة، فقال: إنما قال التخصر. وكأن سبب إنكار

(3/88)


أيوب لفظ الاختصار لكونه يفهم معنى آخر غير التخصر كما سيأتي، وقد فسره ابن أبي شيبة عن أبي أسامة بالسند المذكور فقال فيه: قال ابن سيرين هو أن يضع يده على خاصرته وهو يصلي، وبذلك جزم أبو داود ونقله الترمذي عن بعض أهل العلم، وهذا هو المشهور من تفسيره. وحكى الهروي في الغريبين أن المراد بالاختصار قراءة آية أو آيتين من آخر السورة، وقيل أن يحذف الطمأنينة. وهذان القولان وإن كان أحدهما من الاختصار ممكنا لكن رواية التخصر والخصر تأباهما، وقيل الاختصار أن يحذف الآية التي فيها السجدة إذا مر بها في قراءته حتى لا يسجد في الصلاة لتلاوتها حكاه الغزالي. وحكى الخطابي أن معناه أن يمسك بيده مخصرة أي عصا يتوكأ عليها في الصلاة، وأنكر هذا ابن العربي في شرح الترمذي فأبلغ، ويؤيد الأول ما روى أبو داود والنسائي من طريق سعيد بن زياد قال: صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه. واختلف في حكمة النهي عن ذلك فقيل: لأن إبليس أهبط متخصرا أخرجه ابن أبي شيبة من طريق حميد بن هلال موقوفا. وقيل: لأن اليهود تكثر من فعله فنهي عنه كراهة للتشبه بهم أخرجه المصنف في ذكر بني إسرائيل عن عائشة، زد ابن أبي شيبة فيه: "في الصلاة" وفي رواية له "لا تشبهوا باليهود" وقيل: لأنه راحة أهل النار أخرجه ابن أبي شيبة أيضا عن مجاهد قال: "وضع اليد على الحقو استراحة أهل النار" وقيل لأنها صفة الراجز حين ينشد رواة سعيد بن منصور من طريق قيس بن عباد بإسناد حسن، وقيل لأنه فعل المتكبرين حكاه المهلب، وقيل لأنه فعل أهل المصائب حكاه الخطابي، وقول عائشة أعلى ما ورد في ذلك ولا منافاة بين الجميع.
" تنبيه ": وقع في نسخة الصغاني في "باب الخصر في الصلاة ": وروي أنه استراحة أهل النار، وما أظن أن قوله روي إلخ إلا من كلامه لا من كلام البخاري، وقد ذكرت من رواه ولله الحمد، والله أعلم.

(3/89)


باب يفكر الرجل في الشيء في الصلاة
...
18 - باب يُفْكِرُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي لاَجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ
1221 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا عُمَرُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ سَرِيعًا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ وَرَأَى مَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ لِسُرْعَتِهِ فَقَالَ ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ تِبْرًا عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِيَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَنَا فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ"
1222 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ الأَعْرَجِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُذِّنَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ أَدْبَرَ فَإِذَا سَكَتَ أَقْبَلَ فَلاَ يَزَالُ بِالْمَرْءِ يَقُولُ لَهُ اذْكُرْ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى لاَ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى" قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِذَا فَعَلَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ وَسَمِعَهُ أَبُو سَلَمَةَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ"

(3/89)


1223 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "يَقُولُ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَلَقِيتُ رَجُلاً فَقُلْتُ بِمَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَارِحَةَ فِي الْعَتَمَةِ فَقَالَ لاَ أَدْرِي فَقُلْتُ لَمْ تَشْهَدْهَا قَالَ بَلَى قُلْتُ لَكِنْ أَنَا أَدْرِي قَرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا"
قوله: "باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة" الشيء بالنصب على المفعولية. والتقييد بالرجل لا مفهوم له لأن بقية المكلفين في حكم ذلك سواء، قال المهلب: التفكر أمر غالب لا يمكن الاحتراز منه في الصلاة ولا في غيرها لما جعل الله للشيطان من السبيل على الإنسان، ولكن يفترق الحال في ذلك، فإن كان في أمر الآخرة والدين كان أخف مما يكون في أمر الدنيا. قوله: "وقال عمر: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة" وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي عنه بهذا سواء، قال ابن التين: إنما هذا فيما يقل فيه التفكر كأن يقول: أجهز فلانا، أقدم فلانا، أخرج من العدد كذا وكذا، فيأتي على ما يريد في أقل شيء من الفكرة. فأما أن يتابع التفكر ويكثر حتى لا يدري كم صلى بهذا اللاهي في صلاته فيجب عليه الإعادة انتهى. وليس هذا الإطلاق على وجهه، وقد جاء عن عمر ما يأباه، فروى ابن أبي شيبة من طريق عروة بن الزبير قال: قال عمر "إني لأحسب جزية البحرين وأنا في الصلاة" وروى صالح بن أحمد بن حنبل في "كتاب المسائل" عن أبيه من طريق همام بن الحارث أن عمر صلى المغرب فلم يقرأ، فلما انصرف قالوا: يا أمير المؤمنين إنك لم تقرأ، فقال: إني حدثت نفسي وأنا في الصلاة بعير جهزتها من المدينة حتى دخلت الشام، ثم أعاد وأعاد القراءة. ومن طريق عياض الأشعري قال: "صلى عمر المغرب فلم يقرأ، فقال له أبو موسى: إنك لم تقرأ، فأقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال: صدق، فأعاد. فلما فرغ قال: لا صلاة ليست فيها قراءة، إنما شغلني عير جهزتها إلى الشام فجعلت أتفكر فيها". وهذا يدل على أنه إنما أعاد لترك القراءة لا لكونه كان مستغرقا في الفكرة. ويؤيده ما روى الطحاوي من طريق ضمضم بن جوس عن عبد الرحمن1 بن حنظلة بن الراهب "إن عمر صلى المغرب فلم يقرأ في الركعة الأولى فلما كانت الثانية قرأ بفاتحة الكتاب مرتين فلما فرغ وسلم سجد سجدتي السهو" ورجال هذه الآثار ثقات، وهي محمولة على أحوال مختلفة، والأخير كأنه مذهب لعمر. ولهذه المسألة التفات إلى مسألة الخشوع في الصلاة، وقد تقدم البحث فيه في مكانه. قوله: "حدثنا روح" هو ابن عبادة، وعمر بن سعيد هو ابن أبي حسين المكي، وقد تقدم هذا الحديث وشيء من فوائده في أواخر صفة الصلاة، وهو ظاهر فيما ترجم له لأنه صلى الله عليه وسلم تفكر في أمر التبر المذكور ثم لم يعد الصلاة. قوله: "عن جعفر" هو ابن ربيعة المصري، وقد تقدم الكلام على المتن في أوائل أبواب الأذان مستوفى، وشاهد الترجمة قوله: "حتى لا يدري كم صلى" فإنه يدل على أن التفكر لا يقدح في صحة الصلاة ما لم يترك شيئا من أركانها. قوله: "قال
ـــــــ
1 كذا في الأصول التي في أيدينا, ولعل الصواب "عن عبد الرحمن" لأن ضمضم المذكور إنما روى عن عبد الله بن حنظلة وهو يكنى أبا عبد الرحمن, وليس له رواية عن عبد الرحمن بن حنظلة كما يعلم ذلك من "الاستيعاب" و "الإصابة" و "تهذيب التهذيب"

(3/90)


أبو سلمة بن عبد الرحمن: إذا فعل أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو قاعد، وسمعه أبو سلمة من أبي هريرة" هذا التعليق طرف من الحديث الذي قبله في رواية أبي سلمة كما سيأتي في خامس ترجمة من أبواب السهو، لكنه من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وربما تبادر إلى الذهن من سياق المصنف أن هذه الزيادة من رواية جعفر بن ربيعة عن أبي سلمة، وليس كذلك، وسيأتي في سادس ترجمة أيضا من طريق الزهري عن أبي سلمة لكن باختصار ذكر الأذان وهو من طريق هذين عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا بخلاف ما يوهمه سياقه هنا، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى هناك. قوله: "قال قال أبو هريرة" في رواية الإسماعيلي: "عن أبي هريرة" قوله: "يقول الناس أكثر أبو هريرة" أخرجه البيهقي في المدخل من طريق أبي مصعب عن محمد بن إبراهيم بن دينار عن ابن أبي ذئب بلفظ: "إن الناس قالوا قد أكثر أبو هريرة من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني كنت ألزمه لشبع بطني، فلقيت رجلا فقلت له: بأي سورة" فذكر الحديث وقال في آخره: أخرجه البخاري عن أبي مصعب انتهى. ولم أر هذه الطريق في صحيح البخاري، وكأن البيهقي تبع أطراف خلف فإنه ذكرها، وقد قال ابن عساكر: لم أجدها ولا ذكرها أبو مسعود انتهى. ثم وجدت في مناقب جعفر صدر هذا الحديث، لكن قال بعد قوله: "لشبع بطني" حين لا آكل الخمير ولا ألبس الحرير؛ فذكر قصة جعفر بن أبي طالب، فلعل البيهقي أراد هذا، وكأن المقبري وغيره من رواته كان يحدث به تاما تارة ومختصرا أخرى. وقد وقع عند الإسماعيلي من طريق بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب في أول هذا الحديث: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءين" الحديث وفيه: "إن الناس قالوا: أكثر أبو هريرة" فذكره، وقوله: "حفظت إلخ" تقدم في العلم مع الكلام عليه، وتقدم في العلم أيضا من طريق الأعرج عن أبي هريرة "إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، والله لولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت" الحديث وسيأتي في أوائل البيوع من طريق سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة قال: "إنكم تقولون إن أبا هريرة أكثر" الحديث وفيه الإشارة إلى سبب إكثاره وأن المهاجرين والأنصار كانوا يشغلهم المعاش، وهذا يدل على أنه كان يقول هذه المقالة أمام ما يريد أن يحدث به مما يدل على صحة إكثاره وعلى السبب في ذلك وعلى سبب استمراره على التحديث. قوله: "فلقيت رجلا" لم أقف على تسميته ولا على تسمية السورة، وقوله: "بم" بكسر الموحدة بغير ألف لأبي ذر وهو المعروف، وللأكثر بإثبات الألف وهو قليل، أي بأي شيء. قوله: "البارحة" أي أقرب ليلة مضت. وفي هذه القصة إشارة إلى سبب إكثار أبي هريرة وشدة إتقانه وضبطه، بخلاف غيره. وشاهد الترجمة دلالة الحديث على عدم ضبط ذلك الرجل كأنه اشتغل بغير أمر الصلاة حتى نسي السورة التي قرئت، أو دلالته على ضبط أبي هريرة كأنه شغل فكره بأفعال الصلاة حتى ضبطها وأتقنها، كذا ذكر الكرماني هذين الاحتمالين، وبالأول جزم غيره والله أعلم.
" خاتمة " اشتملت أبواب العمل في الصلاة من الأحاديث المرفوعة على اثنين وثلاثين حديثا، المعلق من ذلك ستة والبقية موصولة, المكرر منها فيها وفيما مضى ثلاثة وعشرون حديثا والبقية خالصة، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي برزة في قصة انفلات دابته، وحديث عبد الله بن عمرو المعلق في النفخ في السجود، وحديث أبي هريرة في التخصر، وحديثه في القراءة في العتمة. وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم ستة آثار. والله أعلم.

(3/91)


كتاب السهو
باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
22 – كتاب السهو
1 - بَاب مَا جَاءَ فِي السَّهْوِ إِذَا قَامَ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَرِيضَةِ
1224 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ سَلَّمَ"
حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة" وللكشميهني والأصيلي وأبي الوقت "ركعتي الفرض" وسقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر. والسهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب إلى غيره، وفرق بعضهم بين السهو والنسيان، وليس بشيء. واختلف في حكمه فقال الشافعية: مسنون كله، وعن المالكية السجود للنقص واجب دون الزيادة، وعن الحنابلة التفصيل بين الواجبات غير الأركان فيجب لتركها سهوا، وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطلها عمده. وعن الحنفية واجب كله وحجتهم قوله في حديث ابن مسعود الماضي في أبواب القبلة "ثم ليسجد سجدتين" ومثله لمسلم من حديث أبي سعيد والأمر للوجوب. وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله في الصلاة محمولة على البيان وبيان الواجب واجب ولا سيما مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". قوله: "عن عبد الرحمن الأعرج" كذا في رواية كريمة، ولم يسم في رواية الباقين. قوله: "عن عبد الله ابن بحينة" تقدم في التشهد أن بحينة اسم أمه أو أم أبيه، وعلى هذا فينبغي أن يكتب ابن بحينة بألف. قوله: "صلى لنا" أي بنا أو لأجلنا، وقد تقدم في أبواب التشهد من رواية شعيب عن ابن شهاب بلفظ: "صلى بهم" ويأتي في الأيمان والنذور من رواية ابن أبي ذئب عن ابن شهاب بلفظ: "صلى بنا". قوله: "من بعض الصلوات" بين في الرواية التي تليها أنها الظهر. قوله: "ثم قام" زاد الضحاك بن عثمان عن الأعرج "فسبحوا به فمضى حتى فرغ من صلاته" أخرجه ابن خزيمة. وفي حديث معاوية عند النسائي وعقبة بن عامر عند الحاكم جميعا نحو هذه القصة بهذه الزيادة. قوله: "فلما قضى صلاته" أي فرغ منها كذا رواه مالك عن شيخه، وقد استدل به لمن زعم أن السلام ليس من الصلاة حتى لو أحدث بعد أن جلس وقبل أن يسلم تمت صلاته وهو قول بعض الصحابة والتابعين وبه قال أبو حنيفة، وتعقب بأن السلام لما كان للتحليل من الصلاة كان المصلي إذا انتهى إليه كمن فرغ من صلاته

(3/92)


ويدل على ذلك قوله في رواية ابن ماجه من طريق جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد عن الأعرج "حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم" فدل على أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه، والزيادة من الحافظ مقبولة. قوله: "ونظرنا تسليمه": أي انتظرنا، وتقدم في رواية شعيب بلفظ: "وانتظر الناس تسليمه" وفي هذه الجملة رد على من زعم أنه صلى الله عليه وسلم سجد في قصة ابن بحينة قبل السلام سهوا، أو أن المراد بالسجدتين سجدتا الصلاة، أو المراد بالتسليم التسليمة الثانية، ولا يخفى ضعف ذلك وبعده. قوله: "كبر قبل التسليم فسجد سجدتين" فيه مشروعية سجود السهو وأنه سجدتان فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيا لم يلزمه شيء أو عامدا بطلت صلاته لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة، وأنه يكبر لهما كما يكبر في غيرهما من السجود. وفي رواية الليث عن ابن شهاب كما سيأتي بعد ثلاثة أبواب "يكبر في كل سجدة" وفي رواية الأوزاعي "فكبر ثم سجد ثم كبر فرفع رأسه ثم كبر فسجد ثم كبر فرفع رأسه ثم سلم" أخرجه ابن ماجه، ونحوه في رواية ابن جريج كما سيأتي بيانه عقب حديث الليث. واستدل به على مشروعية التكبير فيهما والجهر به كما في الصلاة وأن بينهما جلسة فاصلة، واستدل به بعض الشافعية على الاكتفاء بالسجدتين للسهو في الصلاة، ولو تكرر من جهة أن الذي فات في هذه القصة الجلوس والتشهد فيه وكل منهما لو سها المصلي عنه على انفراده سجد لأجله ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم سجد في هذه الحالة غير سجدتين، وتعقب بأنه ينبني على ثبوت مشروعية السجود لترك ما ذكر، ولم يستدلوا على مشروعية ذلك بغير هذا الحديث فيستلزم إثبات الشيء بنفسه وفيه ما فيه، وقد صرح في بقية الحديث بأن السجود مكان ما نسي من الجلوس كما سيأتي من رواية الليث، نعم حديث ذي اليدين دال لذلك كما سيأتي. قوله: "وهو جالس" جملة حالية متعلقة بقوله: "سجد" أي أنشأ السجود جالسا. قوله: "ثم سلم" زاد في رواية يحيى بن سعيد ثم سلم بعد ذلك وزاد في رواية الليث الآتية "وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس" واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام ولا حجة فيه في كون جميعه كذلك، نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية وسيأتي ذكر مستندهم في الباب الذي بعده، واستدل بزيادة الليث المذكورة على أن السجود خاص بالسهو فلو تعمد ترك شيء مما يجبر بسجود السهو لا يسجد وهو قول الجمهور، ورجحه الغزالي وناس من الشافعية، واستدل به أيضا على أن المأموم يسجد مع الإمام إذا سها الإمام وإن لم يسه المأموم، ونقل ابن حزم فيه الإجماع، لكن استثنى غيره ما إذا ظن الإمام أنه سها فسجد وتحقق المأموم أن الإمام لم يسه فيما سجد له وفي تصويرها عسر، وما إذا تبين أن الإمام محدث، ونقل أبو الطيب الطبري أن ابن سيرين استثنى المسبوق أيضا، وفي هذا الحديث أن سجود السهو لا تشهد بعده إذا كان قبل السلام وقد ترجم له المصنف قريبا وأن التشهد الأول غير واجب وقد تقدم في أواخر صفة الصلاة، وأن من سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة ثم ذكر لا يرجع فقد سبحوا به صلى الله عليه وسلم فلم يرجع، فلو تعمد المصلي الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعي خلافا للجمهور، وأن السهو والنسيان جائزان على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما طريقه التشريع، وأن محل سجود السهو آخر الصلاة فلو سجد للسهو قبل أن يتشهد ساهيا أعاد عند من يوجب التشهد الأخير وهم الجمهور.

(3/93)


2 - باب إِذَا صَلَّى خَمْسًا
1226 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(3/93)


"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَقِيلَ لَهُ أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ صَلَّيْتَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ"
قوله: "باب إذا صلى خمسا" قيل أراد البخاري التفرقة بين ما إذا كان السهو بالنقصان أو الزيادة، ففي الأول يسجد قبل السلام كما في الترجمة الماضية وفي الزيادة يسجد بعده، وبالتفرقة هكذا قال مالك والمزني وأبو ثور من الشافعية، وزعم ابن عبد البر أنه أولى من قول غيره للجمع بين الخبرين قال: وهو موافق للنظر لأنه في النقص جبر فينبغي أن يكون من أصل الصلاة، وفي الزيادة ترغيم للشيطان فيكون خارجها. وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ، ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وفقها. كانت علة فيعم الحكم جميع محالها فلا تخصص إلا بنص، وتعقب بأن كون السجود في الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع، بل هو جبر أيضا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادة فهو نقص في المعنى، وإنما سمى النبي صلى الله عليه وسلم سجود السهو ترغيما للشيطان في حالة الشك كما في حديث أبي سعد عند مسلم. وقال الخطابي: لم يرجع من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح. وأيضا فقصة ذي اليدين وقع السجود فيها بعد السلام وهي عن نقصان، وأما قول النووي: أقوى المذاهب فيها قول مالك ثم أحمد، فقد قال غيره: بل طريق أحمد أقوى لأنه قال يستعمل كل حديث فيما ورد فيه، وما لم يرد فيه شيء يسجد قبل السلام، قال: ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لرأيته كله قبل السلام، لأنه من شأن الصلاة فيفعله قبل السلام. وقال إسحاق مثله، إلا أنه قال: ما لم يرد فيه شيء يفرق فيه بين الزيادة والنقصان، فحرر مذهبه من قولي أحمد ومالك، وهو أعدل المذاهب فيما يظهر. وأما داود فجرى على ظاهريته فقال: لا يشرع سجود السهود إلا في المواضع التي سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقط. وعند الشافعي سجود السهو كله قبل السلام. وعند الحنفية كله بعد السلام، واعتمد الحنفية على حديث الباب. وتعقب بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه: هل زيد في الصلاة؟ وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله لعدم علمه بالسهو، وإنما تابعه الصحابة لتجويزهم الزيادة في الصلاة لأنه كان زمان توقع النسخ. وأجاب بعضهم بما وقع في حديث ابن مسعود من الزيادة وهي "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين" وقد تقدم في أبواب القبلة، وأجيب بأنه معارض بحديث أبي سعيد عند مسلم ولفظه: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم" وبه تمسك الشافعية. وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين. ورجح البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده. ونقل الماوردي وغيره الإجماع على الجواز وإنما الخلاف في الأفضل. وكذا أطلق النووي. وتعقب بأن إمام الحرمين نقل في "النهاية" الخلاف في الإجزاء عن المذهب واستبعد القول بالجواز، وكذا نقل القرطبي الخلاف في مذهبهم، وهو مخالف لما قاله ابن عبد البر إنه لا خلاف عن مالك أنه لو سجد للسهو كله قبل السلام أو بعده أن لا شيء عليه، فيجمع بأن الخلاف بين أصحابه، والخلاف عند الحنفية قال القدوري: لو سجد للسهو قبل السلام روي عن بعض أصحابنا لا يجوز لأنه أداء قبل وقته، وصرح صاحب الهداية بأن الخلاف عندهم في الأولوية. وقال ابن قدامة في "المقنع" من ترك سجود السهو الذي قبل السلام بطلت صلاته إن تعمد، وإلا فيتداركه

(3/94)


ما لم يطل الفصل. ويمكن أن يقال: الإجماع الذي نقله الماوردي وغيره قبل هذه الآراء في المذاهب المذكورة. وقال ابن خزيمة: لا حجة للعراقيين في حديث ابن مسعود لأنهم خالفوه فقالوا: إن جلس المصلي في الرابعة مقدار التشهد أضاف إلى الخامسة سادسة ثم سلم وسجد للسهو، وإن لم يجلس في الرابعة لم تصح صلاته. ولم ينقل في حديث ابن مسعود إضافة سادسة ولا إعادة ولا بد من أحدهما عندهم. قال: ويحرم على العالم أن يخالف السنة بعد علمه بها. قوله: "عن الحكم" هو ابن عتيبة الفقيه الكوفي. قوله: "عن إبراهيم" هو ابن يزيد النخعي. قوله: "صلى الظهر خمسا" كذا جزم به الحكم، وقد تقدم في أبواب القبلة من رواية منصور عن إبراهيم أتم من هذا السياق وفيه قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص. قوله: "فقيل له أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟" أخرجه مسلم وأبو داود من طريق إبراهيم بن سويد النخعي عن ابن مسعود بلفظ: "فلما انفتل توشوش القوم بينهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله هل زيد في الصلاة؟ قال: لا" فتبين أن سؤالهم لذلك كان بعد استفساره لهم عن مساررتهم، وهو دال على عظيم أدبهم معه صلى الله عليه وسلم، وقولهم "هل زيد في الصلاة" يفسر الرواية الماضية في أبواب القبلة بلفظ: "هل حدث في الصلاة شيء". "تنبيه": روى الأعمش عن إبراهيم هذا الحديث مختصرا ولفظه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن خزيمة وغيرهم، قال ابن خزيمة: إن كان المراد بالكلام قوله: "وما ذاك" في جواب قولهم "أزيد في الصلاة" فهذا نظير ما وقع في قصة ذي اليدين وسيأتي البحث فيه فيها، وإن كان المراد به قوله: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون" فقد اختلف الرواة في الموضع الذي قالها فيه، ففي رواية منصور أن ذلك كان بعد سلامه من سجدتي السهو. وفي رواية غيره أن ذلك كان قبل، ورواية منصور أرجح. والله أعلم. قوله: "فسجد سجدتين بعدما سلم" يأتي في خبر الواحد من طريق شعبة أيضا بلفظ: "فثني رجليه وسجد سجدتين" وتقدم في رواية منصور "واستقبل القبلة" وفيه الزيادة المشار إليها وهي " إذا شك أحدكم في صلاة فليتحر الصواب فليتم عليه " ولمسلم من طريق مسعر عن منصور "فأيكم شك في صلاة فلينتظر أحرى ذلك إلى الصواب" وله من طريق شعبة عن منصور "فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب" وله من طريق فضيل بن عياض عن منصور "فليتحر الذي يرى أنه الصواب" زاد ابن حبان من طريق مسعر "فليتم عليه" واختلف في المراد بالتحري فقال الشافعية: هو البناء على اليقين لا على الأغلب، لأن الصلاة في الذمة بيقين فلا تسقط إلا بيقين. وقال ابن حزم: التحري في حديث ابن مسعود يفسره حديث أبي سعيد، يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ: " وإذا لم يدر أصلى ثلاثا أو أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن" وروى سفيان في جامعه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتوخ حتى يعلم أنه قد أتم" انتهى. وفي كلام الشافعي نحوه ولفظه: قوله: "فليتحر" أي في الذي يظن أنه نقصه فليتمه، فيكون التحري أن يعيد ما شك فيه ويبني على ما استيقن، وهو كلام عربي مطابق لحديث أبي سعيد، إلا أن الألفاظ تختلف. وقيل: التحري الأخذ بغالب الظن، وهو ظاهر الروايات التي عند مسلم. وقال ابن حبان في صحيحه: البناء غير التحري، فالبناء أن يشك في الثلاث أو الأربع مثلا فعليه أن يلغي الشك، والتحري أن يشك في صلاته فلا يدري ما صلى فعليه أن يبني على الأغلب عنده. وقال غيره: التحري لمن اعتراه الشك مرة بعد أخرى فيبني على غلبة ظنه، وبه قال مالك وأحمد، وعن أحمد في المشهور: التحري يتعلق بالإمام فهو الذي يبني على ما غلب على ظنه، وأما المنفرد فيبني على اليقين دائما. وعن أحمد رواية

(3/95)


أخرى كالشافعية، وأخرى كالحنفية. وقال أبو حنيفة: إن طرأ الشك أولا استأنف، وإن كثر بنى على غالب ظنه، وإلا فعلى اليقين. ونقل النووي أن الجمهور مع الشافعي، وأن التحري هو القصد قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} وحكى الأثرم عن أحمد في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا غرار في صلاة" قالا: أن لا يخرج منها إلا على يقين، فهذا يقوي قول الشافعي. وأبعد من زعم أن لفظ التحري في الخبر مدرج من كلام ابن مسعود أو ممن دونه لتفرد منصور بذلك عن إبراهيم دون رفقته، لأن الإدراج لا يثبت بالاحتمال، واستدل به على أن من صلى خمسا ساهيا ولم يجلس في الرابعة أن صلاته لا تفسد خلافا للكوفيين، وقولهم يحمل على أنه قعد في الرابعة يحتاج إلى دليل بل السياق يرشد إلى خلافه، وعلى أن الزيادة في الصلاة على سبيل السهو لا تبطلها خلافا لبعض المالكية إذا كثرت، وقيد بعضهم الزيادة بما يزيد على نصف الصلاة، وعلى أن من لم يعلم بسهوه إلا بعد السلام يسجد للسهو، فإن طال الفصل فالأصح عند الشافعية أنه يفوت محله، واحتج له بعضهم من هذا الحديث بتعقيب إعلامهم لذلك بالفاء، وتعقيبه السجود أيضا بالفاء، وفيه نظر لا يخفى. وعلى أن الكلام العمد فيما يصلح به الصلاة لا يفسدها، وسيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده، وأن من تحول عن القبلة ساهيا لا إعادة عليه، وفيه إقبال الإمام على الجماعة بعد الصلاة. واستدل البيهقي على أن عزوب النية بعد الإحرام بالصلاة لا يبطلها. وقد تقدمت بقية مباحثه في أبواب القبلة.

(3/96)


باب إذا سلم في ركعتين أو ثلاث فسجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول
...
3 - باب إِذَا سَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ فِي ثَلاَثٍ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ مِثْلَ سُجُودِ الصَّلاَةِ أَوْ أَطْوَلَ
1227 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَقَصَتْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ قَالُوا نَعَمْ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ" قَالَ سَعْدٌ وَرَأَيْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ صَلَّى مِنْ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فَسَلَّمَ وَتَكَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِيَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَقَالَ هَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "باب إذا سلم في ركعتين أو في ثلاث سجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول" في رواية لغير أبي ذر "فسجد" والأول أوجه، وعلى الثاني يكون الجواب محذوفا تقديره ما يكون الحكم في نظائره. أورد فيه حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وليس في شيء من طرقه إلا التسليم في ثنتين، نعم ورد التسليم في ثلاث في حديث عمران بن حصين عند مسلم، وسيأتي البحث في كونهما قصتين أولا في الكلام على تسمية ذي اليدين، وأما قوله: "مثل سجود الصلاة أو أطول" فهو في بعض طرق حديث أبي هريرة كما في الباب الذي بعده. قوله: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" ظاهر في أن أبا هريرة حضر القصة، وحمله الطحاوي على المجاز فقال إن المراد به صلى بالمسلمين وسبب ذلك قول الزهري: إن صاحب القصة استشهد ببدر، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر وهي قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين1 لكن اتفق أئمة الحديث - كما نقله ابن عبد البر وغيره - على أن الزهري
ـــــــ
1 صوابه بأكثر من أربع سنين, لأن غزوة بدر وقعت في رمضان من السنة الثانية من الهجرة, وإسلام أبي هريرة وقع في عام خيبر في أول سنة سبع, فتأمل. والله أعلم.

(3/96)


وهم في ذلك، وسببه أنه حمل القصة لذي الشمالين، وذو الشمالين هو الذي قتل ببدر وهو خزاعي واسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة، وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الطبراني وغيره، وهو سلمي واسمه الخرباق على ما سيأتي البحث فيه. وقد وقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة "فقام رجل من بني سليم" فلما وقع عند الزهري بلفظ: "فقام ذو الشمالين" وهو يعرف أنه قتل ببدر قال لأجل ذلك أن القصة وقعت قبل بدر، وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما وهو قصة ذي الشمالين وشاهد الآخر وهي قصة ذي اليدين، وهذا محتمل من طريق الجمع، وقيل يحمل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضا ذو اليدين وبالعكس فكان ذلك سببا للاشتباه. ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطحاوي ما رواه مسلم وأحمد وغيرهما من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: "بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين ونص على ذلك الشافعي رحمه الله في "اختلاف الحديث". قوله: "الظهر أو العصر" كذا في هذه الطريق عن آدم عن شعبة بالشك، وتقدم في أبواب الإمامة عن أبي الوليد عن شعبة بلفظ: "الظهر" بغير الشك، ولمسلم من طريق أبي سلمة المذكور "صلاة الظهر" وله من طريق أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة "العصر "بغير شك، وسيأتي بعد باب للمصنف من طريق ابن سيرين أنه قال: وأكثر ظني أنها العصر، وقد تقدم في "باب تشبيك الأصابع في المسجد" من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ: "إحدى صلاتي العشي" قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا، ولمسلم: "إحدى صلاتي العشي، إما الظهر وإما العصر" والظاهر أن الاختلاف فيه من الرواة. وأبعد من قال: يحمل على أن القصة وقعت مرتين، بل روى النسائي من طريق ابن عون عن ابن سيرين أن الشك فيه من أبي هريرة ولفظه: "صلى صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي - قال أبو هريرة - ولكني نسيتها" فالظاهر أن أبا هريرة رواه كثيرا على الشك، وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها، وتارة غلب على ظنه أنها العصر فجزم بها، وطرأ الشك في تعيينها أيضا على ابن سيرين وكان السبب في ذلك الاهتمام بما في القصة من الأحكام الشرعية، ولم تختلف الرواة في حديث عمران في قصة الخرباق أنها العصر، فإن قلنا أنهما قصة واحدة فيترجح رواية من عين العصر في حديث أبي هريرة. قوله: "فسلم" زاد أبو داود من طريق معاذ عن شعبة "في الركعتين" وسيأتي في الباب الذي بعده من طريق أيوب عن ابن سيرين وفي الذي يليه من طريق أخرى عن ابن سيرين بأتم من هذا السياق ونستوفي الكلام عليه ثم. قوله: "قال سعد" يعني ابن إبراهيم راوي الحديث، وهو بالإسناد المصدر به الحديث، وقد أخرجه ابن أبي شيبة عن غندر عن شعبة مفردا. وهذا الأثر يقوي قول من قال: إن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، لكن يحتمل أن يكون عروة تكلم ساهيا أو ظانا أن الصلاة تمت، ومرسل عروة هذا مما يقوي طريق أبي سلمة الموصولة، ويحتمل أن يكون عروة حمله عن أبي هريرة، فقد رواه عن أبي هريرة جماعة من رفقة عروة من أهل المدينة كابن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وغيرهم من الفقهاء.

(3/97)


4 - باب مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ
وَسَلَّمَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَلَمْ يَتَشَهَّدَا. وَقَالَ قَتَادَةُ لاَ يَتَشَهَّدُ

(3/97)


1228 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتْ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ النَّاسُ نَعَمْ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ"
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ تَشَهُّدٌ قَالَ لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
قوله: "باب من لم يتشهد في سجدتي السهو" أي إذا سجدهما بعد السلام من الصلاة، وأما قبل السلام فالجمهور على أنه لا يعيد التشهد، وحكى ابن عبد البر عن الليث أنه يعيده، وعن البويطي عن الشافعي مثله وخطؤوه في هذا النقل فإنه لا يعرف، وعن عطاء يتخير، واختلف فيه عند المالكية، وأما من سجد بعد السلام فحكى الترمذي عن أحمد وإسحاق أنه يتشهد، وهو قول بعض المالكية والشافعية، ونقله أبو حامد الإسفرايني عن القديم، لكن وقع في "مختصر المزني "سمعت الشافعي يقول: إذا سجد بعد السلام تشهد، أو قبل السلام أجزأه التشهد الأول، وتأول بعضهم هذا النص على أنه تفريع على القول القديم وفيه ما لا يخفى. قوله: "وسلم أنس والحسن ولم يتشهدا" وصله ابن أبي شيبة وغيره من طريق قتادة عنهما. قوله: "وقال قتادة لا يتشهد" كذا في الأصول التي وقفت عليها من البخاري، وفيه نظر فقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: يتشهد في سجدتي السهو ويسلم، فلعل "لا "في الترجمة زائدة ويكون قتادة اختلف عليه في ذلك. قوله: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين" لم يقع في غير هذه الرواية لفظ القيام، وقد استشكل لأنه صلى الله عليه وسلم كان قائما. وأجيب بأن المراد بقوله فقام أي اعتدل، لأنه كان مستندا إلى الخشبة كما سيأتي، أو هو كناية عن الدخول في الصلاة. وقال ابن المنير في الحاشية: فيه إيماء إلى أنه أحرم ثم جلس ثم قام، كذا قال وهو بعيد جدا. قوله في آخره "ثم رفع" زاد في "باب خبر الواحد" من هذا الوجه "ثم كبر ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده ثم رفع" وسيأتي الكلام على التكبير في الباب الذي يليه. قوله: "حدثنا حماد" هو ابن زيد، وكذا ثبت في رواية الإسماعيلي من طريق سليمان بن حرب. قوله: "عن سلمة بن علقمة" هو التميمي أبو بشر، وربما اشتبه بمسلمة بن علقمة المزني وكنيته أبو محمد لكونهما بصريين متقاربي الطبقة، لكن الثاني بزيادة ميم في أوله ولم يخرج له البخاري شيئا. قوله: "قلت لمحمد" هو ابن سيرين. وفي رواية أبي نعيم في المستخرج "سألت محمد بن سيرين". قوله: "قال ليس في حديث أبي هريرة" في رواية أبي نعيم "فقال لم أحفظ فيه عن أبي هريرة شيئا وأحب إلي أن يتشهد" وقد يفهم من قوله: "ليس في حديث أبي هريرة" أنه ورد في حديث غيره وهو كذلك. فقد رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك "عن محمد بن سيرين عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم" قال الترمذي: حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث انتهى. وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر. وضعفه البيهقي وابن عبد البر

(3/98)


وغيرهما ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فإن المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد. وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة أيضا في هذه القصة "قلت لابن سيرين: فالتشهد؟ قال: لم أسمع في التشهد شيئا" وقد تقدم في "باب تشبيك الأصابع" من طريق ابن عون عن ابن سيرين قال: "نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم" وكذا المحفوظ عن خالد بهذا الإسناد في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد كما أخرجه مسلم، فصارت زيادة أشعث شاذة، ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت. لكن قد ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة عند البيهقي وفي إسنادهما ضعف، فقد يقال إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن، قال العلائي: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله أخرجه ابن أبي شيبة.

(3/99)


5 - باب مَنْ يُكَبِّرُ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ
1229 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلاَتَيْ الْعَشِيِّ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَكْثَرُ ظَنِّي الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا أَقَصُرَتْ الصَّلاَةُ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ فَقَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ قَالَ بَلَى قَدْ نَسِيتَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ"
1230 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ الأَسْدِيِّ حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِي صَلاَةِ الظُّهْرِ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ فَلَمَّا أَتَمَّ صَلاَتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَكَبَّرَ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنْ الْجُلُوسِ" تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ فِي التَّكْبِيرِ
قوله: "باب يكبر في سجدتي السهو" اختلف في سجود السهو بعد السلام هل يشترط له تكبيرة إحرام أو يكتفى بتكبير السجود؟ فالجمهور على الاكتفاء، وهو ظاهر غالب الأحاديث. وحكى القرطبي أن قول مالك لم يختلف في وجوب السلام بعد سجدتي السهو، قال: وما يتحلل منه بسلام لا بد له من تكبيرة إحرام، ويؤيده ما رواه أبو داود من طريق حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين في هذا الحديث قال: "فكبر ثم كبر وسجد للسهو "قال أبو داود: لم يقل أحد فكبر ثم كبر إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الزيادة. وقال القرطبي أيضا: قوله يعني في رواية مالك الماضية "فصلى ركعتين ثم سلم ثم كبر ثم سجد" يدل على أن التكبيرة للإحرام لأنه أتى بثم التي تقتضي التراخي، فلو كان التكبير للسجود لكان معه، وتعقب بأن ذلك من تصرف الرواة، فقد تقدم من طريق ابن عون عن ابن سيرين بلفظ: "فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد "فأتى بواو المصاحبة التي تقتضي المعية.

(3/99)


والله أعلم. قوله: "حدثنا يزيد بن إبراهيم" هو التستري، ومحمد هو ابن سيرين، والإسناد كله بصريون. قوله: "وأكثر ظني أنها العصر" هو قول ابن سيرين بالإسناد المذكور، وإنما رجح ذلك عنده لأن في حديث عمران الجزم بأنها العصر كما تقدمت الإشارة إليه قبل. قوله: "ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد" أي في جهة القبلة. قوله: "فوضع يده عليها" تقدم في رواية ابن عون عن ابن سيرين بلفظ: "فقام إلى خشبة معروضة في المسجد" أي موضوعة بالعرض، ولمسلم من طريق ابن عيينة عن أيوب "ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبا "ولا تنافي بين هذه الروايات لأنها تحمل على أن الجذع قبل اتخاذ المنبر كان ممتدا بالعرض، وكأنه الجذع الذي كان صلى الله عليه وسلم يستند إليه قبل اتخاذ المنبر، وبذلك جزم بعض الشراح. قوله: "فهابا أن يكلماه" في رواية ابن عون "فهاباه "بزيادة الضمير، والمعنى أنهما غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه. وأما ذو اليدين فغلب عليه حرصه على تعلم العلم. قوله: "وخرج سرعان" بفتح المهملات، ومنهم من سكن الراء وحكى عياض أن الأصيلي ضبطه بضم ثم إسكان كأنه جمع سريع ككثيب وكثبان والمراد بهم أوائل الناس خروجا من المسجد وهم أصحاب الحاجات غالبا. قوله: "فقالوا أقصرت الصلاة" كذا هنا بهمزة الاستفهام، وتقدم في رواية ابن عون بحذفها فتحمل تلك على هذه، وفيه دليل على ورعهم إذ لم يجزموا بوقوع شيء بغير علم وهابوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوه، وإنما استفهموه لأن الزمان زمان النسخ. وقصرت بضم القاف وكسر المهملة على البناء للمفعول أي أن الله قصرها، وبفتح ثم ضم على البناء للفاعل أي صارت قصيرة. قال النووي: هذا أكثر وأرجح. قوله: "ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم" أي يسميه "ذا اليدين" والتقدير وهناك رجل. وفي رواية ابن عون "وفي القوم رجل في يده طول يقال له ذو اليدين" وهو محمول على الحقيقة، ويحتمل أن يكون كناية عن طولها بالعمل أو بالبذل قاله القرطبي، وجزم ابن قتيبة بأنه كان يعمل بيديه جميعا، وحكي عن بعض شراح "التنبيه" أنه قال: كان قصير اليدين فكأنه ظن أنه حميد الطويل فهو الذي فيه الخلاف، وقد تقدم أن الصواب التفرقة بين ذي اليدين وذي الشمالين، وذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق بكسر المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة وآخره قاف اعتمادا على ما وقع في حديث عمران بن حصين عند مسلم ولفظه: "فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول" وهذا صنيع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظري، وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد، والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين، ففي حديث أبي هريرة أن السلام وقع من اثنتين وأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة في المسجد، وفي حديث عمران أنه سلم من ثلاث ركعات وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة، فأما الأول فقد حكى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك واستفهم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن صحة قوله، وأما الثاني فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله لكون الخشبة كانت في جهة منزله، فإن كان كذلك وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه كما أخرجه الشافعي وأبو دواد وابن ماجه وابن خزيمة، ولموافقة ذي اليدين نفسه له على سياقه كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وأبو بكر بن أبي خيثمة وغيرهم وقد تقدم في "باب تشبيك الأصابع" ما يدل على أن محمد بن سيرين راوي الحديث عن أبي هريرة كان يرى التوحيد بينهما، وذلك أنه

(3/100)


قال في آخر حديث أبي هريرة "نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم". قوله: "فقال: لم أنس ولم تقصر" كذا في أكثر الطرق، وهو صريح في نفي النسيان ونفي القصر، وفيه تفسير للمراد بقوله في رواية أبي سفيان عن أبي هريرة عند مسلم: "كل ذلك لم يكن" وتأييد لما قاله أصحاب المعاني: إن لفظ كل إذا تقدم وعقبها النفي كان نفيا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت كأن يقول لم يكن كل ذلك، ولهذا أجاب ذو اليدين في رواية أبي سفيان بقوله: "قد كان بعض ذلك" وأجابه في هذه الرواية بقوله: "بلى قد نسيت" لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابي أن السهو غير جائز عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا بالقصر، وهو حجة لمن قال: إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع، وإن كان عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية وخص الخلاف بالأفعال، لكنهم تعقبوه. نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه بل يقع له بيان ذلك إما متصلا بالفعل أو بعده كما وقع في هذا الحديث من قوله: "لم أنس ولم تقصر" ثم تبين أنه نسي، ومعنى قوله لم أنس أي في اعتقادي لا في نفس الأمر، ويستفاد منه أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين، وفائدة جواز السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره، وأما من منع السهو مطلقا فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة فقيل: قوله لم أنس نفي للنسيان، ولا يلزم منه نفي السهو. وهذا قول من فرق بينهما، وقد تقدم رده. ويكفي فيه قوله في هذه الرواية: "بلى قد نسيت" وأقره على ذلك. وقيل: قوله لم أنس على ظاهره وحقيقته وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل لكونه أبلغ من القول، وتعقب بحديث ابن مسعود الماضي في "باب التوجه نحو القبلة" ففيه: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون" فأثبت العلة قبل الحكم وقيد الحكم بقوله: "إنما أنا بشر" ولم يكتف بإثبات وصف النسيان حتى دفع قول من عساه يقول ليس نسيانه كنسياننا فقال: "كما تنسون" وبهذا الحديث يرد أيضا قول من قال معنى قوله لم أنس إنكار اللفظ الذي نفاه عن نفسه حيث قال إني لا أنسى ولكن أنسى، وإنكار اللفظ الذي أنكره على غيره حيث قال: "بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا " وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث إني لا أنسى لا أصل له فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شيء فإن الفرق بينهما واضح جدا، وقيل إن قوله لم أنس راجع إلى السلام أي سلمت قصدا بانيا على ما في اعتقادي أني صليت أربعا وهذا جيد، وكأن ذا اليدين فهم العموم فقال: "بلى قد نسيت" وكأن هذا القول أوقع شكا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين. وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذي اليدين عدلا ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسئول مغاير لما في اعتقاده. وبهذا يجاب من قال إن من أخبر بأمر حسي بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ ولا حامل لهم على السكوت عنه ثم لم يكذبوه أنه لا يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارضا باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به. وفيه أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المجلس متحدا أو منعت العادة 1 غفلتهم عن ذلك أن لا يقبل خبره. وفيه العمل بالاستصحاب لأن ذا اليدين استصحب حكم الإتمام فسأل، مع كون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع، والأصل عدم السهو والوقت قابل للنسخ، وبقية الصحابة ترددوا بين الاستصحاب وتجويز النسخ فسكتوا، والسرعان هم الذين بنوا على النسخ فجزموا بأن الصلاة
ـــــــ
1 في نسخة "ومنعت العادة" بدون همزة

(3/101)


قصرت فيؤخذ منه جواز الاجتهاد في الأحكام.وفيه جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافي سهوا، قال سحنون: إنما يبني من سلم من ركعتين كما في قصة ذي اليدين لأن ذلك أوقع على غير القياس فيقتصر به على مورد النص وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشي فيمنعه مثلا في الصبح، والذين قالوا يجوز البناء مطلقا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل، واختلفوا في قدر الطول فحده الشافعي في "الأم "بالعرف، وفي البويطي بقدر ركعة، وعن أبي هريرة قدر الصلاة التي يقع السهو فيها. وفيه أن الباني لا يحتاج إلى تكبيرة الإحرام، وأن السلام ونية الخروج من الصلاة سهوا لا يقطع الصلاة، وأن سجود السهو بعد السلام وقد تقدم البحث فيه، وأن الكلام سهوا لا يقطع الصلاة خلافا للحنفية. وأما قول بعضهم إن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصلاة فضعيف لأنه اعتمد على قول الزهري، إنها كانت قبل بدر، وقد قدمنا أنه إما وهم في ذلك أو تعددت القصة لذي الشمالين المقتول ببدر ولذي اليدين الذي تأخرت وفاته بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصة كما تقدم وشهدها عمران بن حصين وإسلامه متأخر أيضا، وروى معاوية بن حديج بمهملة وجيم مصغرا قصة أخرى في السهو ووقع فيها الكلام ثم البناء أخرجها أبو داود وابن خزيمة وغيرهما وكان إسلامه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين. وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون قول زيد بن أرقم "ونهينا عن الكلام" أي إلا إذا وقع سهوا، أو عمدا لمصلحة الصلاة، فلا يعارض قصة ذي اليدين انتهى. وسيأتي البحث في الكلام العمد لمصلحة الصلاة بعد هذا.
واستدل به على أن المقدر في حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" أي إثمهما وحكمهما خلافا لمن قصره على الإثم، واستدل به على أن تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم إلا ناسيا، وأما قول ذي اليدين له "بلى قد نسيت" وقول الصحابة له "صدق ذو اليدين" فإنهم تكلموا معتقدين النسخ في وقت يمكن وقوعه فيه فتكلموا ظنا أنهم ليسوا في صلاة، كذا قيل وهو فاسد، لأنهم كلموه بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "لم تقصر" وأجيب بأنهم لم ينطقوا وإنما أومئوا كما عند أبي داود في رواية ساق مسلم إسنادها، وهذا اعتمده الخطابي وقال: حمل القول على الإشارة مجاز سائغ بخلاف عكسه فينبني رد الروايات التي فيها التصريح بالقول إلى هذه، وهو قوي، وهو أقوى من قول غيره: يحمل على أن بعضهم قال بالنطق وبعضهم بالإشارة، لكن يبقى قول ذي اليدين "بلى قد نسيت" ويجاب عنه وعن البقية على تقدير ترجيح أنهم نطقوا بأن كلامهم كان جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه لا يقطع الصلاة كما سيأتي البحث فيه في تفسير سورة الأنفال، وتعقب بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة، وأجيب بأنه ثبت مخاطبته في التشهد وهو حي بقولهم "السلام عليك أيها النبي" ولم تفسد الصلاة، والظاهر أن ذلك من خصائصه، ويحتمل أن يقال ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يراجع المصلي فجائز له جوابه حتى تنقضي المراجعة فلا يختص الجواز بالجواب لقول ذي اليدين "بلى قد نسيت" ولم تبطل صلاته والله أعلم. وفيه أن سجود السهو لا يتكرر بتكرر السهو -ولو اختلف الجنس- خلافا للأوزاعي، وروى ابن أبي شيبة عن النخعي والشعبي أن لكل سهو سجدتين، وورد على وفقه حديث ثوبان عند أحمد وإسناده منقطع، وحمل على أن معناه أن من سها بأي سهو كان شرع له السجود أي لا يختص بما سجد فيه الشارع، وروى البيهقي من حديث عائشة "سجدتا السهو تجزئان من كل زيادة ونقصان". وفيه أن اليقين لا يترك إلا باليقين، لأن ذا اليدين كان على يقين أن فرضهم الأربع، فلما اقتصر فيها على اثنتين سأل عن ذلك ولم ينكر عليه سؤاله. وفيه أن الظن قد يصير يقينا بخبر أهل الصدق، وهذا مبني على أنه صلى الله عليه وسلم رجع لخبر الجماعة، واستدل به على أن الإمام

(3/102)


يرجع لقول المأمومين في أفعال الصلاة ولو لم يتذكر وبه قال مالك وأحمد وغيرهما، ومنهم من قيده بما إذا كان الإمام مجوزا لوقوع السهو منه، بخلاف ما إذا كان متحققا لخلاف ذلك أخذا من ترك رجوعه صلى الله عليه وسلم لذي اليدين ورجوعه للصحابة، ومن حجتهم قوله في حديث ابن مسعود الماضي "فإذا نسيت فذكروني "وقال الشافعي: معنى قوله: "فذكروني" أي لأتذكر، ولا يلزم منه أن يرجع لمجرد إخبارهم، واحتمال كونه تذكر عند إخبارهم لا يدفع، وقد تقدم في "باب هل يأخذ الإمام بقول الناس" من أبواب الإمامة ما يقوي ذلك. وفرق بعض المالكية والشافعية أيضا بين ما إذا كان المخبرون ممن يحصل العلم بخبرهم فيقبل ويقدم على ظن الإمام أنه قد كمل الصلاة بخلاف غيرهم، واستنبط منه بعض العلماء القائلين بالرجوع اشتراط العدد في مثل هذا وألحقوه بالشهادة، وفرعوا عليه أن الحاكم إذا نسي حكمه وشهد به شاهدان أنه يعتمد عليهما، واستدل به الحنفية على أن الهلال لا يقبل بشهادة الآحاد إذا كانت السماء مصحية بل لا بد فيه من عدد الاستفاضة، وتعقب بأن سبب الاستثبات كونه أخبر عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف رؤية الهلال فإن الأبصار ليست متساوية في رؤيته بل متفاوتة قطعا، وعلى أن من سلم معتقدا أنه أتم ثم طرأ عليه شك هل أتم أو نقص أنه يكتفي باعتقاده الأول ولا يجب عليه الأخذ باليقين، ووجهه أن ذا اليدين لما أخبر أثار خبره شكا، ومع ذلك لم يرجع النبي صلى الله عليه وسلم حتى استثبت. واستدل به البخاري على جواز تشبيك الأصابع في المسجد وقد تقدم في أبواب المساجد، وعلى أن الإمام يرجع لقول المأمومين إذا شك وقد تقدم في الإمامة، وعلى جواز التعريف باللقب وسيأتي في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى، وعلى الترجيح بكثرة الرواة وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المقصود كان تقوية الأمر المسئول عنه لا ترجيح خبر على خبر. قوله: "الأسدي" بسكون المهملة وقد تقدم الكلام على حديثه في أول أبواب السهو وأنه يشرع التكبير لسجود السهو كتكبير الصلاة وهو مطابق لهذه الترجمة، وقد تقدم في "باب من لم ير التشهد الأول واجبا "أن قول من قال فيه: "حليف بني عبد المطلب "وهم وأن الصواب حليف بني المطلب بإسقاط "عبد". قوله: "تابعه ابن جريج عن ابن شهاب في التكبير" وصله عبد الرزاق عنه ومن طريقه الطبراني ولفظه: "يكبر في كل سجدة "وأخرجه أحمد عن عبد الرزاق ومحمد بن بكر كلاهما عن ابن جريج بلفظ: "فكبر فسجد ثم كبر فسجد ثم سلم".

(3/103)


6 - باب إِذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ
1231 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ الأَذَانَ فَإِذَا قُضِيَ الأَذَانُ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ"
قوله: "باب إذا لم يدر كم صلى: ثلاثا أو أربعا سجد سجدتين وهو جالس" تقدم الكلام على ما يتعلق بأول المتن في أبواب الأذان. وأما قوله: "حتى يظل الرجل إن يدري" فقوله: "إن" بكسر الهمزة وهي نافية، وقوله: "فإذا

(3/103)


لم يدر أحدكم كم صلى إلخ" مساو للترجمة من غير مزيد وظاهره أنه لا يبني على اليقين لأنه أعم من أن يكون داخل الصلاة أو خارجها، وقد تقدم الكلام على خارجها في أواخر الباب الذي قبله، وأما داخلها فهو معارض بحديث أبي سعيد الذي عند مسلم فإنه صريح في الأمر بطرح الشك والبناء على اليقين، فقيل يجمع بينهما بحمل حديث أبي هريرة على من طرأ عليه الشك وقد فرغ قبل أن يسلم فإنه لا يلتفت إلى ذلك الشك ويسجد للسهو كمن طرأ عليه بعد أن سلم، فلو طرأ عليه قبل ذلك بنى على اليقين كما في حديث أبي سعيد. وعلى هذا فقوله فيه: "وهو جالس" يتعلق بقوله إذا شك لا بقوله سجد، وهذا أولى من قول من سلك طريق الترجيح فقال حديث أبي سعيد اختلف في وصله وإرساله بخلاف حديث أبي هريرة وقد وافقه حديث ابن مسعود فهو أرجح، لأن لمخالفه أن يقول: بل حديث أبي سعيد صححه مسلم والذي وصله حافظ فزيادته مقبولة وقد وافقه حديث أبي هريرة الآتي قريبا فيتعارض الترجيح، وقيل يجمع بينهما بحمل حديث أبي هريرة على حكم ما يجبر به الساهي صلاته وحديث أبي سعيد على ما يصنعه من الإتمام وعدمه. "تنبيه": لم يقع في هذه الرواية تعيين محل السجود ولا في رواية الزهري التي في الباب الذي يليه، وقد روى الدارقطني من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد مرفوعا: " إذا سها أحدكم فلم يدر أزاد أو نقص فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم " إسناده قوي، ولأبي داود من طريق ابن أخي الزهري عن عمه نحوه بلفظ: "وهو جالس قبل التسليم "وله من طريق ابن إسحاق قال حدثني الزهري بإسناده وقال فيه: "فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم يسلم" قال العلائي: هذه الزيادة في هذا الحديث بمجموع هذه الطرق لا تنزل عن درجة الحسن المحتج به. والله أعلم.

(3/104)


7 - باب السَّهْوِ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ
حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس"
قوله: "باب" بالتنوين. قوله: "السهو في الفرض والتطوع" أي هل يفترق حكمه أم يتحد؟ إلى الثاني ذهب الجمهور، وخالف في ذلك ابن سيرين وقتادة ونقل عن عطاء، ووجه أخذه من حديث الباب من جهة قوله: "وإذا صلى" أي الصلاة الشرعية وهو أعم من أن تكون فريضة أو نافلة. وقد اختلف في إطلاق الصلاة عليهما هل هو من الاشتراك اللفظي أو المعنوي؟ وإلى الثاني ذهب جمهور أهل الأصول لجامع ما بينهما من الشروط التي لا تنفك، ومال الفخر الرازي إلى أنه من الاشتراك اللفظي لما بينهما من التباين في بعض الشروط، ولكن طريقة الشافعي ومن تبعه في أعمال المشترك في معانيه عند التجرد تقتضي دخول النافلة أيضا في هذه العبارة، فإن قيل أن قوله في الرواية التي قبل هذه "إذا نودي للصلاة" قرينة في أن المراد الفريضة وكذا قوله: "إذا ثوب" أجيب بأن ذلك لا يمنع تناول النافلة لأن الإتيان حينئذ بها مطلوب لقوله: "بين كل أذانين صلاة" . "وَسَجَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ

(3/104)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرِهِ" قوله: "وسجد ابن عباس سجدتين بعد وتره" وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي العالية قال: "رأيت ابن عباس يسجد بعد وتره سجدتين" وتعلق هذا الأثر بالترجمة من جهة أن ابن عباس كان يرى أن الوتر غير واجب ويسجد مع ذلك فيه للسهو، وقد تقدم الكلام على المتن في الباب الذي قبله.

(3/105)


8 - باب إِذَا كُلِّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَاسْتَمَعَ
1233 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ "أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالُوا اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنَّا جَمِيعًا وَسَلْهَا عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ وَقُلْ لَهَا إِنَّا أُخْبِرْنَا عَنْكِ أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكُنْتُ أَضْرِبُ النَّاسَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ عَنْهَا فَقَالَ كُرَيْبٌ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي فَقَالَتْ سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلُونِي بِهِ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْهَا ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ فَقُلْتُ قُومِي بِجَنْبِهِ فَقُولِي لَهُ تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ فَفَعَلَتْ الْجَارِيَةُ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ"
[الحديث 1233 – طرفه في: 4370]
قوله: "باب إذا كلم" بضم الكاف في الصلاة "واستمع" أي المصلي لم تفسد صلاته. قوله: "أخبرني عمرو" هو ابن الحارث وبكير بالتصغير هو ابن عبد الله بن الأشج، ونصف هذا الإسناد المبدأ به مصريون والثاني مدنيون. قوله: "وقد بلغنا" فيه إشارة إلى أنهم لم يسمعوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم فأما ابن عباس فقد سمى الواسطة وهو عمر كما تقدم في المواقيت من قوله: "شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر" الحديث، وأما المسور وابن أزهر فلم أقف عنهما على تسمية الواسطة، وقوله قبل ذلك "وإنا أخبرنا" بضم الهمزة ولم أقف على تسمية المخبر وكأنه عبد الله بن الزبير فسيأتي في الحج من روايته عن عائشة ما يشهد لذلك، وروى ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن الحارث قال: "دخلت مع ابن عباس على معاوية فأجلسه على السرير ثم قال: ما ركعتان يصليهما الناس بعد العصر؟ قال ذلك ما يفتي به الناس ابن الزبير، فأرسل إلى ابن الزبير فسأله فقال: أخبرتني بذلك عائشة، فأرسل إلى عائشة فقالت: أخبرتني أم سلمة، فأرسل إلى أم سلمة فانطلقت مع الرسول "فذكر القصة، واسم الرسول المذكور كثير بن الصلت سماه الطحاوي بإسناد صحيح إلى أبي سلمة "إن معاوية قال وهو على المنبر لكثير بن

(3/105)


الصلت: اذهب إلى عائشة فاسألها، فقال أبو سلمة: فقمت معه. وقال ابن عباس لعبد الله بن الحارث: اذهب منه، فجئناها فسألناها" فذكره. قوله: "تصلينهما" في رواية الكشميهني: "تصليهما" بحذف النون وهو جائز. قوله: "وقال ابن عباس كنت أضرب الناس مع عمر عنها" أي لأجلها في رواية الكشميهني: "عنه" وكذا في قوله: "نهى عنها" وكأنه ذكر الضمير على إرادة الفعل، وهذا موصول بالإسناد المذكور، وقد روى ابن أبي شيبة من طريق الزهري عن السائب هو ابن يزيد قال: "رأيت عمر يضرب المنكدر على الصلاة بعد العصر". قوله: "قال كريب" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "فقالت سل أم سلمة" زاد مسلم في روايته من هذا الوجه "فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها فردوني إلى أم سلمة" وفي رواية أخرى للطحاوي "فقالت عائشة ليس عندي، ولكن حدثتني أم سلمة". قوله: "ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر ثم دخل علي" أي فصلاهما حينئذ بعد الدخول. وفي رواية مسلم: "ثم رأيته يصليهما، أما حين صلاهما فإنه صلى العصر ثم دخل عندي فصلاهما". قوله: "من بني حرام" بفتح المهملتين. قوله: "فأرسلت إليه الجارية" لم أقف على اسمها، ويحتمل أن تكون بنتها زينب لكن في رواية المصنف في المغازي "فأرسلت إليه الخادم". قوله: "فقال يا ابنة أبي أمية" هو والد أم سلمة واسمه حذيفة - وقيل سهيل - ابن المغيرة المخزومي. قوله: "عن الركعتين" أي اللتين صليتهما الآن. قوله: "وإنه أتاني ناس من عبد القيس" زاد في المغازي "بالإسلام من قومهم فشغلوني "وللطحاوي من وجه آخر "قدم علي قلائص من الصدقة فنسيتهما ثم ذكرتهما فكرهت أن أصليهما في المسجد والناس يرون فصليتهما عندك" وله من وجه آخر "فجاءني مال فشغلني" وله من وجه آخر "قدم علي وفد من بني تميم، أو جاءتني صدقة" وقوله: "من بني تميم" وهم وإنما هم من عبد القيس وكأنهم حضروا معهم بمال المصالحة من أهل البحرين كما سيأتي في الجزية من طريق عمرو بن عوف "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي وأرسل أبا عبيدة فأتاه بجزيتهم" ويؤيده أن في رواية عبد الله بن الحارث المتقدم ذكرها أنه كان بعث ساعيا وكان قد أهمه شأن المهاجرين، وفيه: "فقلت ما هاتان الركعتان؟ فقال: شغلني أمر الساعي". قوله: "فهما هاتان" في رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أم سلمة عند الطحاوي من الزيادة "فقلت أمرت بهما؟ فقال: لا، ولكن كنت أصليهما بعد الظهر فشغلت عنهما فصليتهما الآن" وله من وجه آخر عنها "لم أره صلاهما قبل ولا بعد" لكن هذا لا ينفي الوقوع فقد ثبت في مسلم عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عنهما فقالت: "كان يصليهما قبل العصر فشغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها" أي داوم عليها. ومن طريق عروة عنها "ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط" ومن ثم اختلف نظر العلماء فقيل: تقضى الفوائت في أوقات الكراهة لهذا الحديث، وقيل هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل هو خاص بمن وقع له نظير ما وقع له. وقد تقدم البحث في ذلك مبسوطا في أواخر المواقيت. وفي الحديث من الفوائد سوى ما مضى جواز استماع المصلي إلى كلام غيره وفهمه له ولا يقدح ذلك في صلاته. وأن الأدب في ذلك أن يقوم المتكلم إلى جنبه لا خلفه ولا أمامه لئلا يشوش عليه بأن لا تمكنه الإشارة إليه إلا بمشقة، وجواز الإشارة في الصلاة وسيأتي في باب مفرد. وفيه البحث عن علة الحكم وعن دليله، والترغيب في علو الإسناد، والفحص عن الجمع بين المتعارضين، وأن الصحابي إذا عمل بخلاف ما رواه لا يكون كافيا في الحكم بنسخ مرويه، وأن الحكم إذا ثبت لا يزيله إلا شيء مقطوع به، وأن الأصل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله، وأن الجليل من الصحابة

(3/106)


قد يخفى عليه ما اطلع عليه غيره، وأنه لا يعدل إلى الفتوى بالرأي مع وجود النص، وأن العالم لا نقص عليه إذا سئل عما لا يدري فوكل الأمر إلى غيره. وفيه قبول إخبار الآحاد والاعتماد عليه في الأحكام ولو كان شخصا واحدا رجلا أو امرأة لاكتفاء أم مسلمة بإخبار الجارية. وفيه دلالة على فطنة أم سلمة وحسن تأتيها بملاطفة سؤالها واهتمامها بأمر الدين، وكأنها لم تباشر السؤال لحال النسوة اللاتي كن عندها فيؤخذ منه إكرام الضيف واحترامه، وفيه زيارة النساء المرأة ولو كان زوجها عندها، والتنفل في البيت ولو كان فيه من ليس منهم، وكراهة القرب من المصلي لغير ضرورة، وترك تفويت طلب العلم وإن طرأ ما يشغل عنه، وجواز الاستنابة في ذلك، وأن الوكيل لا يشترط أن يكون مثل موكله في الفضل، وتعليم الوكيل التصرف إذا كان ممن يجهل ذلك، وفيه الاستفهام بعد التحقق لقولها "وأراك تصليهما "والمبادرة إلى معرفة الحكم المشكل فرارا من الوسوسة، وأن النسيان جائز على النبي صلى الله عليه وسلم لأن فائدة استفسار أم سلمة عن ذلك تجويزها إما النسيان وإما النسخ وإما التخصيص به، فظهر وقوع الثالث. والله أعلم.

(3/107)


9 - باب الإِشَارَةِ فِي الصَّلاَةِ. قَالَهُ كُرَيْبٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1234 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتْ الصَّلاَةُ فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتْ الصَّلاَةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ قَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَأَقَامَ بِلاَلٌ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيقِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ فِي التَّصْفِيقِ إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُهُ أَحَدٌ حِينَ يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ إِلاَّ الْتَفَتَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
1235 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ "دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تُصَلِّي قَائِمَةً وَالنَّاسُ قِيَامٌ فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ آيَةٌ فَقَالَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ نَعَمْ"

(3/107)


1236 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ " صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا"
قوله: "باب الإشارة في الصلاة" قال ابن رشيد: هذه الترجمة أعم من كونها مرتبة على استدعاء ذلك أو غير مرتبة، بخلاف الترجمة التي قبلها فإن الإشارة فيها لزمت من الكلام واستماعه فهي مرتبة. "قاله كريب عن أم سلمة" يشير إلى حديث الباب الذي قبله. حديث سهل بن سعد في الإصلاح بين بني عمرو بن عوف، وفيه إرادة أبي بكر الصلاة بالناس، وشاهد الترجمة قوله فيه: "فأخذ الناس في التصفيق" فإنه صلى الله عليه وسلم وإن كان أنكره عليهم لكنه لم يأمرهم بإعادة الصلاة، وحركة اليد بالتصفيق كحركتها بالإشارة، وأخذه من جهة الالتفات والإصغاء إلى كلام الغير لأنه في معنى الإشارة، وأما قوله: " يا أبا بكر ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك" فليس بمطابق للترجمة لأن إشارته صدرت منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم بالصلاة كما تقدم في الكلام على حديث سهل مستوفى في أبواب الإمامة، ويحتمل أن يكون فهم من قوله: "قام في الصف" الدخول في الصلاة لعدوله صلى الله عليه وسلم عن الكلام الذي هو أدل من الإشارة، ولما يفهمه السياق من طول مقامه في الصف قبل أن تقع الإشارة المذكورة، ولأنه دخل بنية الائتمام بأبي بكر، ولأن السنة الدخول مع الإمام على أي حالة وجده لقوله صلى الله عليه وسلم: "فما أدركتم فصلوا" . حديث أسماء في الصلاة في الكسوف، أورده مختصرا جدا، وشاهد الترجمة قولها فيه: "فأشارت برأسها" وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في الكسوف. حديث عائشة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته جالسا، وشاهدها قوله فيه: "فأشار إليهم أن اجلسوا" وقد تقدم مستوفى في أبواب الإمامة أيضا، وفيه رد على من منع الإشارة بالسلام وجوز مطلق الإشارة لأنه لا فرق بين أن يشير آمرا بالجلوس أو يشير مخبرا برد السلام. والله أعلم.
" خاتمة ": اشتملت أبواب السهو من الأحاديث المرفوعة على تسعة عشر حديثا، منها اثنان معلقان بمقتضى حديث كريب عن أم سلمة وابن عباس وعبد الرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة أربعة أحاديث لقولهم فيه - سوى أم سلمة - "بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها" وجميعها مكررة فيه وفيما مضى سواه، إلا أنه تكرر منه في المواقيت طرف مختصر عن أم سلمة، وسوى حديث أبي هريرة "فليسجد سجدتين وهو جالس" وقد وافقه مسلم على تخريجها جميعها، وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم خمسة آثار: منها أثر عروة الموصول في آخر الباب، ومنها أثر عمر في ضربه على الصلاة بعد العصر. والله الهادي إلى الصواب، ومنه المبدأ وإليه المآب.

(3/108)


كتاب الجنائز
باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
23 - كتاب الجنائز
1 - باب مَا جَاءَ فِي الْجَنَائِزِ وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَلَيْسَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلاَّ لَهُ أَسْنَانٌ فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ وَإِلاَ لَمْ يُفْتَحْ لَكَ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب الجنائز" كذا للأصيلي وأبي الوقت، والبسملة من الأصل، ولكريمة: "باب في الجنائز "وكذا لأبي ذر لكن بحذف "باب" والجنائز بفتح الجيم لا غير جمع جنازة بالفتح والكسر لغتان، قال ابن قتيبة وجماعة: الكسر أفصح، وقيل بالكسر للنعش وبالفتح للميت. وقالوا لا يقال نعش إلا إذا كان عليه الميت.
" تنبيه ": أورد المصنف وغيره كتاب الجنائز بين الصلاة والزكاة لتعلقها بهما، ولأن الذي يفعل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك أهمه الصلاة عليه لما فيها من فائدة الدعاء له بالنجاة من العذاب ولا سيما عذاب القبر الذي سيدفن فيه. قوله: "ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله" قيل أشار بهذا إلى ما رواه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن مرة الحضرمي عن معاذ بن جبل قال: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" قال الزين بن المنير: حذف المصنف جواب "من" من الترجمة مراعاة لتأويل وهب بن منبه فأبقاه إما ليوافقه أو ليبقي الخبر على ظاهره. وقد روى ابن أبي حاتم في ترجمة أبي زرعة: أنه لما احتضر أرادوا تلقينه، فتذكروا حديث معاذ، فحدثهم به أبو زرعة بإسناده، وخرجت روحه في آخر قول لا إله إلا الله.
" تنبيه ": كأن المصنف لم يثبت عنده في التلقين شيء على شرطه فاكتفى بما دل عليه، وقد أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة من وجه آخر بلفظ: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" وعن أبي سعيد كذلك، قال الزين بن المنير: هذا الخبر يتناول بلفظه من قالها فبغته الموت، أو طالت حياته لكن لم يتكلم بشيء غيرها، ويخرج بمفهومه من تكلم لكن استصحب حكمها من غير تجديد نطق بها، فإن عمل أعمالا سيئة كان في المشيئة، وإن عمل أعمالا صالحة فقضية سعة رحمة الله أن لا فرق بين الإسلام النطقي والحكمي المستصحب والله أعلم. انتهى. وحكى الترمذي عن عبد الله بن المبارك أنه لقن عند الموت فأكثر عليه فقال: إذا قلت مرة فأنا على ذلك ما لم أتكلم بكلام. وهذا يدل على أنه كان يرى التفرقة فيهذا المقام. والله أعلم. قوله: "وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله إلخ" يجوز نصب مفتاح على أنه خبر مقدم ورفعه على أنه مبتدأ، كأن القائل أشار إلى ما ذكر ابن إسحاق في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل العلاء بن الحضرمي قال له "إذا سئلت عن مفتاح الجنة فقل: مفتاحها لا إله إلا الله" وروي عن معاذ بن جبل مرفوعا نحوه أخرجه البيهقي في الشعب وزاد: "ولكن مفتاح بلا أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك" وهذه الزيادة نظير ما أجاب به وهب، فيحتمل أن تكون مدرجة في حديث معاذ. وأما أثر وهب فوصله المصنف في التاريخ وأبو نعيم في الحلية من طريق محمد بن سعيد بن رمانة بضم الراء وتشديد الميم وبعد الألف نون قال:

(3/109)


أخبرني أبي قال قيل لوهب بن منبه فذكره. والمراد بقوله لا إله إلا الله في هذا الحديث وغيره كلمتا الشهادة، فلا يرد إشكال ترك ذكر الرسالة. قال الزين بن المنير: قول لا إله إلا الله لقب جرى على النطق بالشهادتين شرعا. وأما قول وهب فمراده بالأسنان التزام الطاعة فلا يرد إشكال موافقة الخوارج وغيرهم أن أهل الكبائر لا يدخلون الجنة. وأما قوله: "لم يفتح له" فكأن مراده لم يفتح له فتحا تاما، أو لم يفتح له في أولي الأمر، وهذا بالنسبة إلى الغالب، وإلا فالحق أنهم في مشيئة الله تعالى. وقد أخرج سعيد بن منصور بسند حسن عن وهب بن منبه قريبا من كلامه هذا في التهليل ولفظه: "عن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه مثل الداعي بلا عمل مثل الرامي بلا وتر" قال الداودي: قول وهب محمول على التشديد، ولعله لم يبلغه حديث أبي ذر، أي حديث الباب. والحق أن من قال لا إله إلا الله مخلصا أتي بمفتاح وله أسنان، لكن من خلط ذلك بالكبائر حتى مات مصرا عليها لم تكن أسنانه قوية، فربما طال علاجه. وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكون مراد البخاري الإشارة إلى أن من قال لا إله إلا الله مخلصا عند الموت كان ذلك مسقطا لما تقدم له، والإخلاص يستلزم التوبة والندم، ويكون النطق علما على ذلك. وأدخل حديث أبي ذر ليبين أنه لا بد من الاعتقاد، ولهذا قال عقب حديث أبي ذر في كتاب اللباس: قال أبو عبد الله: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم. ومعنى قول وهب إن جئت بمفتاح له أسنان جياد فهو من باب حذف النعت إذا دل عليه السياق لأن مسمى المفتاح لا يعقل إلا بالأسنان وإلا فهو عود أو حديدة.
1237 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَأَخْبَرَنِي أَوْ قَالَ بَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ"
[الحديث 1237 – أطرفه في: 1408, 2388, 3222, 5827, 6268, 6443, 7487]
1238 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ"
[الحديث 1238 – طرفاه في: 4497, 6683]
قوله: "أتاني آت" سماه في التوحيد من طريق شعبة عن واصل "جبريل" وجزم بقوله: "فبشرني" وزاد الإسماعيلي من طريق مهدي في أوله قصة قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له، فلما كان في بعض الليل تنحى فلبث طويلا، ثم أتانا فقال" فذكر الحديث. وأورده المصنف في اللباس من طريق أبي الأسود عن أبي ذر قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ" فدل على أنها رؤيا منام. قوله: "من أمتي" أي من أمة الإجابة، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك أي أمة الدعوة وهو متجه. قوله: "لا يشرك بالله شيئا" أورده المصنف في اللباس بلفظ: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك" الحديث. إنما لم يورده المصنف هنا جريا على عادته في إيثار الخفي على الجلي، وذلك أن نفي الشرك يستلزم إثبات التوحيد، ويشهد له استنباط عبد الله بن مسعود في ثاني

(3/110)


حديثي الباب من مفهوم قوله: "من مات يشرك بالله دخل النار" وقال القرطبي: معنى نفي الشرك أن لا يتخذ مع الله شريكا في الإلهية، لكن هذا القول صار بحكم العرف عبارة عن الإيمان الشرعي. قوله: "فقلت وإن زنى أو سرق" قد يتبادر إلى الذهن أن القائل ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم والمقول له الملك الذي بشره به، وليس كذلك، بل القائل هو أبو ذر والمقول له هو النبي صلى الله عليه وسلم كما بينه المؤلف في اللباس. وللترمذي "قال أبو ذر يا رسول الله" ويمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله مستوضحا وأبو ذر قاله مستبعدا، وقد جمع بينهما في الرقاق من طريق زيد بن وهب عن أبي ذر. قال الزين بن المنير: حديث أبي ذر من أحاديث الرجاء التي أفضى الاتكال عليها ببعض الجهلة إلى الإقدام على الموبقات، وليس هو على ظاهره فإن القواعد استقرت على أن حقوق الآدميين لا تسقط بمجرد الموت على الإيمان، ولكن لا يلزم من عدم سقوطها أن لا يتكفل الله بها عمن يريد أن يدخله الجنة، ومن ثم رد صلى الله عليه وسلم على أبي ذر استبعاده. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "دخل الجنة" أي صار إليها إما ابتداء من أول الحال وإما بعد أن يقع ما يقع من العذاب، نسأل الله العفو والعافية. وفي هذا الحديث: " من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من الدهر، أصابه قبل ذلك ما أصابه" وسيأتي بيان حاله في كتاب الرقاق. وفي الحديث أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان، وأن غير الموحدين لا يدخلون الجنة. والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى جنس حق الله تعالى وحق العباد، وكأن أبا ذر استحضر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" لأن ظاهره معارض لظاهر هذا الخبر، لكن الجمع بينهما على قواعد أهل السنة بحمل هذا على الإيمان الكامل ويحمل حديث الباب على عدم التخليد في النار. قوله: "على رغم أنف أبي ذر"1 بفتح الراء وسكون المعجمة ويقال بضمها وكسرها، وهو مصدر رغم بفتح الغين وكسرها مأخوذ من الرغم وهو التراب، وكأنه دعا عليه بأن يلصق أنفه بالتراب. قوله: "حدثنا عمر بن حفص" أي ابن غياث، وشقيق هو أبو وائل، وعبد الله هو ابن مسعود، وكلهم كوفيون. قوله: "من مات يشرك بالله" في رواية أبي حمزة عن الأعمش في تفسير البقرة "من مات وهو يدعو من دون الله ندا" وفي أوله "قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أنا أخرى"، ولم تختلف الروايات في الصحيحين في أن المرفوع الوعيد والموقوف الوعد. وزعم الحميدي في "الجمع" وتبعه مغلطاي في شرحه ومن أخذ عنه أن في رواية مسلم من طريق وكيع وابن نمير بالعكس بلفظ: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، وقلت أنا من مات يشرك بالله شيئا دخل النار " وكأن سبب الوهم في ذلك ما وقع عند أبي عوانة والإسماعيلي من طريق وكيع بالعكس، لكن بين الإسماعيلي أن المحفوظ عن وكيع كما في البخاري، قال: وإنما المحفوظ أن الذي قلبه أبو عوانة2 وحده وبذلك جزم ابن خزيمة في صحيحه، والصواب رواية الجماعة، وكذلك أخرجه أحمد من طريق عاصم وابن خزيمة من طريق يسار3 وابن حبان من طريق المغيرة كلهم عن شقيق، وهذا هو الذي يقتضيه النظر لأن جانب الوعيد ثابت بالقرآن وجاءت السنة على وفقه فلا يحتاج إلى استنباط، بخلاف جانب الوعد فإنه في محل البحث إذ لا يصح حمله على ظاهره كما تقدم. وكأن ابن مسعود لم يبلغه حديث جابر الذي أخرجه مسلم بلفظ: "قيل: يا رسول الله
ـــــــ
1 قول الشارح "قوله على رغم أنف أبي ذر" ليست في النسخ التي بأيدينا في هذا الباب. اهـ مصححه
2 في نسخة "أبو معاوية"
3 في نسخة "سيار"

(3/111)


ما الموجبتان؟ قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار" وقال النووي: الجيد أن يقال سمع ابن مسعود اللفظتين من النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه في وقت حفظ إحداهما وتيقنها ولم يحفظ الأخرى فرفع المحفوظة وضم الأخرى إليها، وفي وقت بالعكس، قال: فهذا جمع بين روايتي ابن مسعود وموافقته لرواية غيره في رفع اللفظتين انتهى. وهذا الذي قال محتمل بلا شك، لكن فيه بعد مع اتحاد مخرج الحديث، فلو تعدد مخرجه إلى ابن مسعود لكان احتمالا قريبا مع أنه يستغرب من انفراد راو من الرواة بذلك دون رفقته وشيخهم ومن فوقه، فنسبة السهو إلى شخص ليس بمعصوم أولى من هذا التعسف. "فائدة": حكى الخطيب في "المدرج "أن أحمد بن عبد الجبار رواه عن أبي بكر بن عياش عن عاصم مرفوعا كله وأنه وهم في ذلك، وفي حديث ابن مسعود دلالة على أنه كان يقول بدليل الخطاب، ويحتمل أن يكون أثر ابن مسعود أخذه من ضرورة انحصار الجزاء في الجنة والنار، وفيه إطلاق الكلمة على الكلام الكثير وسيأتي البحث فيه في الأيمان والنذور.

(3/112)


2 - باب الأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ
1239 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَشْعَثِ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَرَدِّ السَّلاَمِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَهَانَا عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالإِسْتَبْرَقِ"
[الحديث 1239 – أطرافه في: 2445, 175, 5635, 5650, 5838, 5849, 5863, 6222, 6235, 6654, ]
1240 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلاَمِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ"
تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. وَرَوَاهُ سَلاَمَةُ بْنُ رَوْحٍ عَنْ عُقَيْلٍ
قوله: "باب الأمر باتباع الجنائز" قال الزين بن المنير: لم يفصح بحكمه لأن قوله: "أمرنا" أعم من أن يكون للوجوب أو للندب. قوله: "عن الأشعث" هو ابن أبي الشعثاء المحاربي. قوله: "عن البراء بن عازب" أورده في المظالم عن سعيد بن الربيع عن شعبة عن الأشعث فقال فيه: "سمعت البراء بن عازب"، ولمسلم من طريق زهير بن معاوية عن الأشعث عن معاوية بن سويد قال: "دخلت على البراء بن عازب فسمعته يقول" فذكر الحديث. قوله: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع" أما المأمورات فسنذكر شرحها في كتابي الأدب واللباس، والذي يتعلق منها بهذا الباب اتباع الجنائز. وأما المنهيات فمحل شرحها كتاب اللباس وسيأتي الكلام عليها فيه، وسقط من المنهيات في هذا الباب واحدة سهوا إما من المصنف أو من شيخه. قوله: "حدثنا محمد" كذا في جميع الروايات غير منسوب. وقال الكلاباذي: هو الذهلي، وعمرو بن أبي سلمة هو التنيسي وقد ضعفه ابن معين بسبب أن في حديثه عن الأوزاعي مناولة وإجازة، لكن بين أحمد بن صالح المصري أنه كان يقول فيما سمعه "حدثنا "ولا

(3/112)


يقول ذلك فيما لم يسمعه، وعلى هذا فقد عنعن هذا الحديث فدل على أنه لم يسمعه، والجواب عن البخاري أنه يعتمد على المناولة ويحتج بها، وقصارى هذا الحديث أن يكون منها، وقد قواه بالمتابعة التي ذكرها عقبة، ولم ينفرد به عمرو، ومع ذلك فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعي، وكأن البخاري اختار طريق عمرو لوقوع التصريح فيها بالإخبار بين الأوزاعي والزهري، ومتابعة عبد الرزاق التي ذكرها وصلها مسلم وقال في آخره: كان معمر يرسل هذا الحديث وأسنده مرة عن ابن المسيب عن أبي هريرة. وقد وقع لي معلقا في جزء الذهلي "قال أخبرنا عبد الرزاق" فذكر الحديث. وأما رواية سلامة وهو بتخفيف اللام وهو ابن أخي عقيل فأظنها في الزهريات للذهلي، وله نسخة عن عمه عن الزهري، ويقال إنه كان يرويها من كتاب. قوله: "حق المسلم على المسلم خمس" في رواية مسلم من طريق عبد الرزاق "خمس تجب للمسلم على المسلم" وله من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة "حق المسلم على المسلم ست" وزاد: " وإذا استنصحك فانصح له " وقد تبين أن معنى "الحق" هنا الوجوب خلافا لقول ابن بطال: المراد حق الحرمة والصحبة، والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية. قوله: "رد السلام" يأتي الكلام على أحكامه في الاستئذان، وعيادة المريض يأتي الكلام عليها في المرضى، وإجابة الداعي يأتي الكلام عليها في الوليمة، وتشميت العاطس يأتي الكلام عليه في الأدب. وأما اتباع الجنائز فسيأتي الكلام عليه في "باب فضل اتباع الجنائز" في وسط كتاب الجنائز، والمقصود هنا إثبات مشروعيته فلا تكرار.

(3/113)


3 - باب الدُّخُولِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذَا أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ
1242,1241 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَيُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ "أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمْ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ اجْلِسْ فَأَبَى فَقَالَ اجْلِسْ فَأَبَى فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إِلَى {الشَّاكِرِينَ} وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلاَّ يَتْلُوهَا"

(3/113)


[الحديث 1241 – أطرافه في: 3667, 3669, 4452, 4455, 5710
[الحديث 1242 – أطرافه في: 3668, 3670, 4453, 4454, 4457, 5711]
1243 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ "أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لاَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا"
1244 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ مِثْلَهُ وَقَالَ نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقَيْلٍ "مَا يُفْعَلُ بِهِ" وَتَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمَعْمَرٌ
[الحديث 1243 – أطرافه في: 2687, 3929, 7003, 7018]
1244 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي وَيَنْهَوْنِي عَنْهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَنْهَانِي فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَبْكِينَ أَوْ لاَ تَبْكِينَ مَا زَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ" تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[الحديث 1244 – أطرافه في: 1293, 2816, 4080]
قوله: "باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه" أي لف فيها، قال ابن رشيد: موقع هذه الترجمة من الفقه أن الموت لما كان سبب تغيير محاسن الحي التي عهد عليها - ولذلك أمر بتغميضه وتغطيته - كان ذلك مظنة للمنع من كشفه حتى قال النخعي: ينبغي أن لا يطلع عليه إلا الغاسل له ومن يليه، فترجم البخاري على جواز ذلك، ثم أورد فيه ثلاثة أحاديث: أولها حديث عائشة في دخول أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن مات، وسيأتي مستوفى في باب الوفاة آخر المغازي، ومطابقته للترجمة واضحة كما سنبينه، وأشد ما فيه إشكالا قول أبي بكر لا يجمع الله عليك موتتين، وعنه أجوبة: فقيل هو على حقيقته وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال، لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، وكالذي مر على قرية، وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها. وقيل أراد لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره إذ يحيا ليسأل ثم يموت، وهذا جواب الداودي، وقيل لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك. وقيل كنى بالموت الثاني عن الكرب، أي لا نلقى بعد كرب هذا الموت كربا آخر. ثانيها

(3/114)


حديث أم العلاء الأنصارية في قصة عثمان بن مظعون وسيأتي بأتم من هذا السياق في "باب القرعة "آخر الشهادات، وفي التعبير. ثالثها حديث جابر في موت أبيه وسيأتي في كتاب الجهاد. ودلالة الأول والثالث مشكلة لأن أبا بكر إنما دخل قبل الغسل فضلا عن التكفين وعمر ينكر حينئذ أن يكون مات، ولأن جابرا كشف الثوب عن وجه أبيه قبل تكفينه. وقد يقال في الجواب عن الأول: إن الذي وقع دخول أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى أي مغطى، فيؤخذ منه أن الدخول على الميت يمتنع إلا إن كان مدرجا في أكفانه أو في حكم المدرج لئلا يطلع منه على ما يكره الاطلاع عليه. وقال الزين بن المنير ما محصله: كان أبو بكر عالما بأنه صلى الله عليه وسلم لا يزال مصونا عن كل أذى فساغ له الدخول من غير تنقيب عن الحال، وليس ذلك لغيره. وأما الجواب عن حديث جابر فأجاب ابن المنير أيضا بأن ثياب الشهيد التي قتل فيها هي أكفانه فهو كالمدرج، ويمكن أن يقال نهيهم له عن كشف وجهه يدل على المنع من الاقتراب من الميت، ولكن يتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينهه، ويجاب بأن عدم نهيهم عن نهيه يدل على تقرير نهيهم، فتبين أن الدخول الثابت في الأحاديث الثلاثة كان في حالة الإدراج أو في حالة تقوم مقامها. قال ابن رشيد: المعنى الذي في الحديثين من كشف الميت بعد تسجيته مساو لحاله بعد تكفينه والله أعلم. وفي هذه الأحاديث جواز تقبيل الميت تعظيما وتبركا1 وجواز التفدية بالآباء والأمهات، وقد يقال هي لفظة اعتادت العرب أن تقولها ولا تقصد معناها الحقيقي إذ حقيقة التفدية بعد الموت لا تتصور، وجواز البكاء على الميت، وسيأتي مبسوطا. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك، ومعمر هو ابن راشد، ويونس هو ابن يزيد، والسنح بضم المهملة وسكون النون بعدها حاء مهملة منازل بني الحارث بن الخزرج وكان أبو بكر متزوجا فيهم. قوله: "فتيمم" أي قصد. وبرد حبرة بكسر المهملة وفتح الموحدة بوزن عنبة، ويجوز فيه التنوين على الوصف، وعدمه على الإضافة، وهي نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن. قوله: "فقبله" أي بين عينيه. وقد ترجم عليه النسائي وأورده صريحا. وقوله: "التي كتب الله" في رواية الكشميهني: "التي كتب" بضم أوله على البناء للمجهول. قوله: "أنه اقتسم" الهاء ضمير الشأن واقتسم بضم المثناة، والمعنى أن الأنصار اقترعوا على سكنى المهاجرين لما دخلوا عليهم المدينة. وقولها "فطار لنا" أي وقع في سهمنا، وذكره بعض المغاربة بالصاد "فصار لنا" وهو صحيح من حيث المعنى إن ثبتت الرواية. وقولها "أبا السائب" تعني عثمان المذكور. قوله: "ما يفعل بي" في رواية الكشميهني: "به" وهو غلط منه، فإن المحفوظ في رواية الليث هذا، ولذلك عقبه المصنف برواية نافع بن يزيد عن عقيل التي لفظها "ما يفعل به" وعلق منها هذا القدر فقط إشارة إلى أن باقي الحديث لم يختلف فيه، ورواية نافع المذكورة وصلها الإسماعيلي، وأما متابعة شعيب فستأتي في أواخر الشهادات موصولة، وأما متابعة عمرو بن دينار فوصلها ابن أبي عمر في مسنده عن ابن عيينة عنه، وأما متابعة معمر فوصلها المصنف في التعبير من طريق ابن المبارك عنه، وقد وصلها عبد الرزاق عن معمر أيضا. ورويناها في مسند عبد بن حميد قال أخبرنا عبد الرزاق ولفظه: "فوالله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم" وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك موافقة لقوله تعالى في سورة الأحقاف {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ}
ـــــــ
1 قوله: "وتبركا" هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم جائز لما جعل الله في جسده من البركة, وأما من سواه من الأموات فلا يجوز أن يقبل للتبرك, لأن غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليه, ولأن فعل ذلك مع غيره وسيلة إلى الشرك فيمنع, لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا مثل هذا مع غير النبي صلى الله عليه وسلم للتبرك وهم أعلم الناس بما يجيزه الشرع. والله أعلم.

(3/115)


وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} لأن الأحقاف مكية، وسورة الفتح مدنية بلا خلاف فيهما، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أول من يدخل الجنة" وغير ذلك من الأخبار الصريحة في معناه، فيحتمل أن يحمل الإثبات في ذلك على العلم المجمل، والنفي على الإحاطة من حيث التفصيل. قوله: "وينهوني" في رواية الكشميهني: "وينهونني" وهو أوجه، وفاطمة عمة جابر وهي شقيقة أبيه عبد الله بن عمرو، و "أو" في قوله: "تبكين أو لا تبكين" للتخيير، ومعناه أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه، ويحتمل أن يكون شكا من الراوي، وسيأتي البحث فيه في كتاب الجهاد. قوله: "تابعه ابن جريج إلخ" وصله مسلم من طريق عبد الرزاق عنه، وأوله "جاء قومي بأبي قتيلا يوم أحد".

(3/116)


4 - باب الرَّجُلِ يَنْعَى إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ
1245 - حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه خرج إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعا"
[الحديث 1245 – أطرافه في: 1318, 1327, 1333, 3880, 3881]
1246 - حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن حميد بن هلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب -وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان- ثم أخذها خالد بن الوليد إمرة ففتح له"
[الحديث 1246 – أطرافه في: 2798, 3063, 3630, 3757, 6342]
قوله: "باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه" كذا في أكثر الروايات، ووقع للكشميهني بحذف الموحدة.
وفي رواية الأصيلي بحذف "أهل" فعلى الرواية المشهورة يكون المفعول محذوفا والضمير في قوله: "بنفسه" للراجل الذي ينعى الميت إلى أهل الميت بنفسه. وقال الزين بن المنير: الضمير للميت لأن الذي ينكر عادة هو نعي الناس لما يدخل على القلب من هول الموت انتهى، والأول أولى، وأشار المهلب إلى أن في الترجمة خللا قال: والصواب الرجل ينعى إلى الناس الميت بنفسه كذا قال، ولم يصنع شيئا إلا أنه أبدل لفظ الأهل بالناس، وأثبت المفعول المحذوف، ولعله كان ثابتا في الأصل فسقط أو حذف عمدا لدلالة الكلام عليه، أو لفظ: "ينعى" بضم أوله، والمراد بالرجل الميت والضمير حينئذ له كما قال الزين بن المنير، ويستقيم عليه رواية الكشميهني. وأما التفكير بالأهل فلا خلل فيه لأن مراده به ما هو أعم من القرابة وهو أخوة الدين، وهو أولى من التعبير بالناس لأنه يخرج من ليس له به أهلية كالكفار، وأما رواية الأصيلي فقال ابن رشيد إنها فاسدة، قال: وفائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعا كله، وإنما نهي عما كان أهل الجاهلية يصنعونه فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق. وقال ابن المرابط: مراده أن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح وإن

(3/116)


كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمة لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته وتهيئة أمره والصلاة عليه والدعاء له والاستغفار وتنفيذ وصاياه وما يترتب على ذلك من الأحكام.
وأما نعي الجاهلية فقال سعيد بن منصور "أخبرنا ابن علية عن ابن عون قال قلت لإبراهيم: أكانوا يكرهون النعي؟ قال: نعم. قال ابن عون: كانوا إذا توفي الرجل ركب رجل دابة ثم صاح في الناس: أنعي فلانا" وبه إلى ابن عون قال: قال ابن سيرين: لا أعلم بأسا أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه. وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره، فإن زاد على ذلك فلا، وقد كان بعض السلف يشدد في ذلك حتى "كان حذيفة إذا مات له الميت يقول: لا تؤذنوا به أحدا، إني أخاف أن يكون نعيا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين ينهى عن النعي" أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن، قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات، الأولى إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة، الثانية دعوة الحفل للمفاخرة فهذه تكره، الثالثة الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث أبي هريرة في الصلاة على النجاشي وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الجنائز، ثانيهما حديث أنس في قصة قتل الأمراء بمؤتة وسيأتي الكلام عليه في المغازي. وورد في علامات النبوة بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا" الحديث، قال الزين بن المنير: وجه دخول قصة الأمراء في الترجمة أن نعيهم كان لأقاربهم وللمسلمين الذين هم أهلهم من جهة الدين، ووجه دخول قصة النجاشي كونه كان غريبا في ديار قومه فكان للمسلمين من حيث الإسلام أخا فكانوا أخص به من قرابته. قلت: ويحتمل أن يكون بعض أقرباء النجاشي كان بالمدينة حينئذ ممن قدم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة كذي مخمر ابن أخي النجاشي فيستوي الحديثان في إعلام أهل كل منهما حقيقة ومجازا.

(3/117)


باب الإذن باجنازة
...
5 - باب الإِذْنِ بِالْجَنَازَةِ
وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ كنتم آذَنْتُمُونِي" ؟
1247 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلاً فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ فَقَالَ مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي قَالُوا كَانَ اللَّيْلُ فَكَرِهْنَا وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْه"ِ
قوله: "باب الإذن بالجنازة" قال ابن رشيد: ضبطناه بكسر الهمزة وسكون المعجمة، وضبطه ابن المرابط بمد الهمزة وكسر الذال على وزن الفاعل. قلت: والأول أوجه، والمعنى الإعلام بالجنازة إذا انتهى أمرها ليصلى عليها. قيل: هذه الترجمة تغاير التي قبلها من جهة أن المراد بها الإعلام بالنفس وبالغير، قال الزين بن المنير: هي مرتبة على التي قبلها لأن النعي إعلام من لم يتقدم له علم بالميت، والإذن إعلام من علم بتهيئة أمره وهو حسن. قوله: "قال أبو رافع عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا كنتم آذنتموني" هذا طرف من حديث تقدم الكلام عليه مستوفى في "باب كنس المسجد" ومناسبته للترجمة واضحة. قوله: "حدثني محمد" هو ابن سلام كما جزم به أبو علي بن السكن في روايته عن الفربري، وأبو معاوية هو الضرير. قوله: "مات إنسان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده" وقع في شرح الشيخ سراج الدين عمر بن الملقن أنه الميت المذكور في حديث أبي هريرة الذي كان يقم المسجد،

(3/117)


وهو وهم منه لتغاير القصتين، فقد تقدم أن الصحيح في الأول أنها امرأة وأنها أم محجن، وأما هذا فهو رجل واسمه طلحة بن البراء بن عمير البلوي حليف الأنصار روى حديثه أبو داود مختصرا والطبراني من طريق عروة بن سعيد الأنصاري عن أبيه عن حسين بن وحوح الأنصاري وهو بمهملتين بوزن جعفر "أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال. إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا" فلم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بني سالم بن عوف حتى توفي، وكان قال لأهله لما دخل الليل: إذا مت فادفنوني ولا تدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخاف عليه يهودا أن يصاب بسببي، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبح فجاء حتى وقف على قبره فصف الناس معه، ثم رفع يديه فقال: اللهم الق طلحة يضحك إليك وتضحك إليه. قوله: "كان الليل" بالرفع، وكذا قوله: "وكانت ظلمة" فكان فيهما تامة، وسيأتي الكلام على حكم الصلاة على القبر في "باب صفوف الصبيان مع الرجال على الجنازة" مع بقية الكلام على هذا الحديث.

(3/118)


6 - باب فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: من الآية155]
1248 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلاَثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ"
[الحديث 1248 – طرفه في: 1381]
1249 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا فَوَعَظَهُنَّ وَقَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ كَانُوا حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ "
1250 - وَقَالَ شَرِيكٌ عَنْ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَبُو هُرَيْرَةَ "لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ"
1251 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}
[الحديث 1251 – طرفه في: 6656]
قوله: "باب فضل من مات له ولد فاحتسب" قال الزين بن المنير: عبر المصنف بالفضل ليجمع بين مختلف الأحاديث الثلاثة التي أوردها، لأن في الأول دخول الجنة، وفي الثاني الحجب عن النار، وفي الثالث تقييد الولوج بتحلة القسم، وفي كل منها ثبوت الفضل لمن وقع له ذلك. ويجمع بينها بأن يقال: الدخول لا يستلزم الحجب ففي

(3/118)


ذكر الحجب فائدة زائدة لأنها تستلزم الدخول من أول وهلة، وأما الثالث فالمراد بالولوج الورود وهو المرور على النار كما سيأتي البحث فيه عند قوله: "إلا تحلة القسم" والمار عليها على أقسام: منهم من لا يسمع حسيسها وهم الذين سبقت لهم الحسنى من الله كما في القرآن، فلا تنافي مع هذا بين الولوج والحجب، وعبر بقوله: "ولد" ليتناول الواحد فصاعدا وإن كان حديث الباب قد قيد بثلاثة أو اثنتين، لكن وقع في بعض طرقه ذكر الواحد ففي حديث جابر بن سمرة مرفوعا: " من دفن ثلاثة فصبر عليهم واحتسب وجبت له الجنة، فقالت أم أيمن: أو اثنين؟ فقال: أو اثنين. فقالت: وواحد؟ فسكت ثم قال: وواحد " أخرجه الطبراني في الأوسط. وحديث ابن مسعود مرفوعا: "من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا من النار. قال أبو ذر: قدمت اثنين، قال: واثنين. قال أبي بن كعب: قدمت واحدا، قال: وواحدا" أخرجه الترمذي وقال: غريب، وعنده من حديث ابن عباس رفعه: "من كان له فرطان من أمتي أدخله الله الجنة. فقالت عائشة: فمن كان له فرط؟ قال: ومن كان له فرط" الحديث. وليس في شيء من هذه الطرق ما يصلح للاحتجاج، بل وقع في رواية شريك التي علق المصنف إسنادها كما سيأتي ولم يسأله عن الواحد، وروى النسائي وابن حبان من طريق حفص بن عبيد الله عن أنس أن المرأة التي قالت واثنان قالت بعد ذلك يا ليتني قلت وواحد. وروى أحمد من طريق محمود بن لبيد عن جابر رفعه: "من مات له ثلاث من الولد فاحتسبهم دخل الجنة. قلنا: يا رسول الله واثنان؟ قال محمود قلت لجابر أراكم لو قلتم وواحد لقال وواحد، قال: وأنا أظن ذلك" وهذه الأحاديث الثلاثة أصح من تلك الثلاثة، لكن روى المصنف من حديث أبي هريرة كما سيأتي في الرقاق مرفوعا: "يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" وهذا يدخل فيه الواحد فما فوقه، وهو أصح ما ورد في ذلك، وقوله: "فاحتسب" أي صبر راضيا بقضاء الله راجيا فضله، ولم يقع التقييد بذلك أيضا في أحاديث الباب، وكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه أيضا كما في حديث جابر بن سمرة المذكور قبل، وكذا في حديث جابر بن عبد الله. وفي رواية ابن حبان والنسائي من طريق حفص بن عبيد الله بن أنس عن أنس رفعه: "من احتسب من صلبه ثلاثة دخل الجنة" الحديث، ولمسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبهم إلا دخلت الجنة" الحديث، ولأحمد والطبراني من حديث عقبة بن عامر رفعه: "من أعطى ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله وجبت له الجنة" وفي الموطأ عن أبي النضر السلمي رفعه: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا جنة من النار" الحديث. وقد عرف من القواعد الشرعية أن الثواب لا يترتب إلا على النية، فلا بد من قيد الاحتساب، والأحاديث المطلقة محمولة على المقيدة، ولكن أشار الإسماعيلي إلى اعتراض لفظي فقال: يقال في البالغ احتسب وفي الصغير افترط انتهى. وبذلك قال الكثير من أهل اللغة، لكن لا يلزم من كون ذلك هو الأصل أن لا يستعمل هذا موضع هذا، بل ذكر ابن دريد وغيره احتسب فلان بكذا طلب أجرا عند الله، وهذا أعم من أن يكون لكبير أو صغير، وقد ثبت ذلك في الأحاديث التي ذكرناها وهي حجة في صحة هذا الاستعمال. قوله: "وقول الله عز وجل {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} " في رواية كريمة والأصيلي: "وقال الله" وأراد بذلك الآية التي في البقرة وقد وصف فيها الصابرون بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فكأن المصنف أراد تقييد ما أطلق في الحديث بهذه الآية الدالة على ترك

(3/119)


القلق والجزع، ولفظ: "المصيبة" قي الآية وإن كان عاما لكنه يتناول المصيبة بالولد فهو من أفراده. قوله: "حدثنا عبد العزيز" هو ابن صهيب وصرح به في رواية ابن ماجه والإسماعيلي من هذا الوجه، والإسناد كله بصريون. قوله: "ما من الناس من مسلم" قيده به ليخرج الكافر، ومن الأولى بيانية والثانية زائدة، وسقطت من في رواية ابن علية عن عبد العزيز كما سيأتي في أواخر الجنائز، و "مسلم" اسم ما والاستثناء وما معه الخبر، والحديث ظاهر في اختصاص ذلك بالمسلم لكن هل يحصل ذلك لمن مات له أولاد في الكفر ثم أسلم؟ فيه نظر، ويدل على عدم ذلك حديث أبي ثعلبة الأشجعي قال: " قلت يا رسول الله مات لي ولدان، قال: من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة " أخرجه أحمد والطبراني، وعن عمرو بن عبسة مرفوعا: "من مات له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا أدخله الله الجنة" أخرجه أحمد أيضا. وأخرج أيضا عن رجاء الأسلمية قالت: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله لي في ابن لي بالبركة فإنه قد توفي له ثلاثة، فقال: أمنذ أسلمت؟ قالت: نعم" . فذكر الحديث. قوله: "يتوفى له" بضم أوله ووقع في رواية ابن ماجه المذكورة "ما من مسلمين يتوفى لهما "والظاهر أن المراد من ولده الرجل حقيقة، ويدل عليه رواية النسائي المذكورة من طريق حفص عن أنس ففيها "ثلاثة من صلبه"، وكذا حديث عقبة بن عامر، وهل يدخل في الأولاد أولاد الأولاد؟ محل بحث، والذي يظهر أن أولاد الصلب يدخلون ولا سيما عند فقد الوسائط بينهم وبين الأب، وفي التقيد بكونهم من صلبه ما يدل على إخراج أولاد البنات. قوله: "ثلاثة" كذا للأكثر وهو الموجود في غير البخاري ووقع في رواية الأصيلي وكريمة: "ثلاث" بحذف الهاء وهو جائز لكون المميز محذوفا. قوله: "لم يبلغوا الحنث" كذا للجميع بكسر المهملة وسكون النون بعدها مثلثة، وحكى ابن قرقول عن الداودي أنه ضبطه بفتح المعجمة والموحدة وفسره بأن المراد لم يبلغوا أن يعملوا المعاصي، قال ولم يذكره كذلك غيره، والمحفوظ الأول، والمعنى لم يبلغوا الحلم فتكتب عليهم الآثام. قال الخليل: بلغ الغلام الحنث إذا جرى عليه القلم، والحنث الذنب قال الله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} وقيل المراد بلغ إلى زمان يؤاخذ بيمينه إذا حنث. وقال الراغب: عبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان يؤاخذ بما يرتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر لأنه الذي يحصل بالبلوغ لأن الصبي قد يثاب، وخص الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر، وعلى هذا فمن بلع الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة، وبهذا صرح كثير من العلماء، وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصور منه العقوق المقتضى لعدم الرحمة بخلاف الصغير فإنه لا يتصور منه ذلك إذ ليس بمخاطب. وقال الزين بن المنير: بل يدخل الكبير في ذلك من طريق الفحوي لأنه إذا ثبت ذلك في الطفل الذي هو كل على أبويه فكيف لا يثبت في الكبير الذي بلغ معه السعي ووصل له منه النفع وتوجه إليه الخطاب بالحقوق؟ قال: ولعل هذا هو السر في إلغاء البخاري التقييد بذلك في الترجمة. انتهى. ويقوي الأول قوله في بقية الحديث: "بفضل رحمته إياهم "لأن الرحمة للصغار أكثر لعدم حصول الإثم منهم، وهل يلتحق بالصغار من بلغ مجنونا مثلا واستمر على ذلك فمات؟ فيه نظر لأن كونهم لا إثم عليهم يقتضي الإلحاق، وكون الامتحان بهم يخف بموتهم يقتضي عدمه، ولم يقع التقييد في طرق الحديث بشده الحب ولا عدمه، وكان القياس يقتضي ذلك لما يوجد من كراهة بعض الناس

(3/120)


لولده وتبرمه منه ولا سيما من كان ضيق الحال، لكن لما كان الولد مظنة المحبة والشفقة نيط به الحكم وإن تخلف في بعض الأفراد. قوله: "إلا أدخله الله الجنة" في حديث عتبة بن عبد الله السلمي عند ابن ماجه بإسناد حسن نحو حديث الباب لكن فيه: "إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل" وهذا زائد على مطلق دخول الجنة، ويشهد له ما رواه النسائي بإسناد صحيح من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا في أثناء حديث: "ما يسرك أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك". قوله: "بفضل رحمته إياهم" أي بفضل رحمة الله للأولاد. وقال ابن التين: قيل إن الضمير في رحمته للأب لكونه كان يرحمهم في الدنيا فيجازى بالرحمة في الآخرة والأول أولى، ويؤيده أن في رواية ابن ماجه من هذا الوجه "بفضل رحمة الله إياهم "وللنسائي من حديث أبي ذر "إلا غفر الله لهما بفضل رحمته" وللطبراني وابن حبان من حديث الحارث بن أقيش وهو بقاف ومعجمة مصغر مرفوعا: "ما من مسلمين يموت لهما أربعة أولاد إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته" وكذا في حديث عمرو بن عبسة كما سنذكره قريبا. وقال الكرماني: الظاهر أن المراد بقوله: "إياهم" جنس المسلم الذي مات أولاده لا الأولاد، أي بفضل رحمة الله لمن مات لهم، قال وساغ الجمع لكونه نكرة في سياق النفي فتعمم انتهى. وهذا الذي زعم أنه ظاهر ليس بظاهر، بل في غير هذا الطريق ما يدل على أن الضمير للأولاد، ففي حديث عمرو بن عبسة عند الطبراني "إلا أدخله الله برحمته هو وإياهم الجنة" وفي حديث أبي ثعلبة الأشجعي المقدم ذكره "أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم" قاله بعد قوله: "من مات له ولدان" فوضح بذلك أن الضمير في قوله: "إياهم" للأولاد لا للآباء والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد الرحمن ابن الأصبهاني" في رواية الأصيلي: "أخبرنا" واسم والد عبد الرحمن المذكور عبد الله، قال البخاري في التاريخ: إن أصله من أصبهان لما فتحها أبو موسى. وقال غيره كان عبد الله يتجر إلى أصبهان فقيل له الأصبهاني، ولا منافاة بين القولين فيما يظهر لي. قوله: "عن ذكوان" هو أبو صالح السمان المذكور في الإسناد المعلق الذي يليه، وقد تقدم في العلم من رواية ابن الأصبهاني أيضا عن أبي حازم عن أبي هريرة، فتحصل له روايته عن شيخين، ولشيخه أبي صالح روايته عن شيخين. قوله: "اجعل لنا يوما" تقدم في العلم بأتم من هذا السياق مع الكلام منه على ما لا يتكرر هنا إن شاء الله تعالى. قوله: "أيما امرأة" إنما خص المرأة بالذكر لأن الخطاب حينئذ كان للنساء وليس له مفهوم لما في بقية الطرق. قوله: "ثلاثة" في رواية أبي ذر "ثلاث" وقد تقدم توجيهه. قوله: "من الولد" بفتحتين وهو يشمل الذكر والأنثى والمفرد والجمع. قوله: "كانوا" في رواية المستملي والحموي "كن" بضم الكاف وتشديد النون، وكأنه أنث باعتبار النفس أو النسمة. وفي رواية أبي الوقت "إلا كانوا لها حجابا". قوله: "قالت امرأة" هي أم سليم الأنصارية والدة أنس بن مالك كما رواه الطبراني بإسناد جيد عنها قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده: ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة لم يبلغوا الحلم إلا أدخله الجنة بفضل رحمته إياهم، فقلت: واثنان؟ قال: واثنان" وأخرجه أحمد لكن الحديث دون القصة، ووقع لأم مبشر الأنصارية أيضا السؤال عن ذلك، فروى الطبراني أيضا من طريق ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم مبشر فقال: يا أم مبشر، من مات له ثلاثة من الولد دخل الجنة. فقلت: يا رسول الله واثنان؟ فسكت ثم قال: نعم واثنان" وقد تقدم من حديث جابر بن سمرة أن أم أيمن ممن سأل عن ذلك ومن حديث ابن عباس أن عائشة أيضا منهن، وحكى ابن بشكوال أن أم

(3/121)


هانئ أيضا سألت عن ذلك، ويحتمل أن يكون كل منهن سأل عن ذلك في ذلك المجلس، وأما تعدد القصة ففيه بعد لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الاثنين بعد ذكر الثلاثة وأجاب بأن الاثنين كذلك فالظاهر أنه كان أوحي إليه ذلك في الحال، وبذلك جزم ابن بطال وغيره، وإذا كان كذلك كان الاقتصار على الثلاثة بعد ذلك مستبعدا جدا لأن مفهومه يخرج الاثنين اللذين ثبت لهما ذلك الحكم بالوحي بناء على القول بمفهوم العدد وهو معتبر هنا كما سيأتي البحث فيه، نعم قد تقدم في حديث جابر بن عبد الله أنه ممن سأل عن ذلك، وروى الحاكم والبزار من حديث بريدة أن عمر سأل عن ذلك أيضا ولفظه: " ما من امرئ ولا امرأة يموت له ثلاثة أولاد إلا أدخله الله الجنة. فقال عمر: يا رسول الله واثنان؟ قال: واثنان" . قال الحاكم صحيح الإسناد، وهذا لا بعد في تعدده لأن خطاب النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال به. قوله: "واثنان" قال ابن التين تبعا لعياض: هذا يدل على أن مفهوم العدد ليس بحجة لأن الصحابية من أهل اللسان ولم تعتبره إذ لو اعتبرته لانتفى الحكم عندها عما عدا الثلاثة لكنها جوزت لك فسألته، كذا قال والظاهر أنها اعتبرت مفهوم العدد إذ لو لم تعتبره لم تسأل، والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست يقينية إنما هي محتملة ومن ثم وقع السؤال عن ذلك. قال القرطبي: وإنما خصمت الثلاثة بالذكر لأنها أول مراتب الكثرة فبعظم المصيبة يكثر الأجر، فأما إذا زاد عليها فقد يخف أمر المصيبة لأنها تصير كالعادة كما قيل:
روعت بالبين حتى ما أراع له. انتهى. وهذا مصير منه إلى انحصار الأجر المذكور في الثلاثة ثم في الاثنين بخلاف الأربعة والخمسة، وهو جمود شديد، فإن من مات له أربعة فقد مات له ثلاثة ضرورة لأنهم إن ماتوا دفعة واحدة فقد مات له ثلاثة وزيادة، ولا خفاء بأن المصيبة بذلك أشد، وإن ماتوا واحدا بعد واحد فإن الأجر يحصل له عند موت الثالث بمقتضى وعد الصادق، فيلزم على قول القرطبي أنه إن مات له الرابع أن يرتفع عنه ذلك الأجر مع تجدد المصيبة وكفى بهذا فسادا، والحق أن تناول الخبر الأربعة فما فوقها من باب أولى وأحرى، ويؤيد ذلك أنهم لم يسألوا عن الأربعة ولا ما فوقها لأنه كالمعلوم عندهم إذ المصيبة إذا كثرت كان الأجر أعظم والله أعلم. وقال القرطبي أيضا: يحتمل أن يفترق الحال في ذلك بافتراق حال المصاب من زيادة رقة القلب وشدة الحب ونحو ذلك، وقد قدمنا الجواب عن ذلك.
" تنبيه ": قوله: "واثنان" أي وإذا مات اثنان ما الحكم؟ فقال: "واثنان "أي وإذا مات اثنان فالحكم كذلك. ووقع في رواية مسلم من هذا الوجه "واثنين بالنصب" أي وما حكم اثنين. وفي رواية سهل المتقدم ذكرها أو اثنان، وهو ظاهر في التسوية بين حكم الثلاثة والاثنين، وقد تقدم النقل عن ابن بطال أنه محمول على أنه أوحى إليه بذلك في الحال، ولا بعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين، ويحتمل أن يكون كان العلم عنده بذلك حاصلا لكنه أشفق عليهم أن يتكلوا لأن موت الاثنين غالبا أكثر من موت الثلاثة ما وقع في حديث معاذ وغيره في الشهادة بالتوحيد، ثم لما سئل عن ذلك لم يكن بد من الجواب والله أعلم. قوله: "وقال شريك إلخ" وصله ابن أبي شيبة عنه بلفظ: "حدثنا عبد الرحمن ابن الأصبهاني قال: أتاني أبو صالح يعزيني عن ابن لي فأخذ يحدث عن أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من امرأة تدفن ثلاثة أفراط إلا كانوا لها حجابا من النار. فقالت امرأة: يا رسول الله قدمت اثنين، قال: واثنين " ولم تسأله عن الواحد. قال أبو هريرة "من لم يبلغ الحنث" وهذا السياق ظاهره أن هذه الزيادة عن أبي هريرة موقوفة، ويحتمل أن يكون المراد أن أبا هريرة وأبا سعيد اتفقا على السياق المرفوع، وزاد أبو هريرة في حديثه هذا القيد وهو مرفوع أيضا، وقد تقدم في العلم

(3/122)


من طريق أخرى عن شعبة بالإسناد الأول وقال في آخره: "وعن ابن الأصبهاني سمعت أبا حازم عن أبي هريرة وقال: ثلاثة لم يبلغوا الحنث" وهذه الزيادة في حديث أبي سعيد من رواية شريك وفي حفظه نطر، لكنها ثابتة عند مسلم من رواية شعبة عن ابن الأصبهاني. وقوله: "ولم تسأله عن الواحد" تقدم ما يتعلق به في أول الباب ويأتي مزيد لذلك في "باب ثناء الناس على الميت" في أواخر كتاب الجنائز، ويأتي زيادة على ذلك في كتاب الرقاق في الكلام على الحديث الذي فيه موت الصبي وأن الصبي يتناول الولد الواحد. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد " وقع في "الأطراف" للمزي هنا "لم يبلغوا الحنث" وليست في رواية ابن عينة عند البخاري ولا مسلم وإنما هي في متن الطريق الآخر، وفائدة إيراد هذه الطريق الأخيرة عن أبي هريرة أيضا ما في سياقها من العموم في قوله: "لا يموت لمسلم إلخ" لشموله النساء والرجال، بخلاف روايته الماضية فإنها مقيدة بالنساء. قوله: "فيلج النار" بالنصب لأن الفعل المضارع ينصب بعد النفي بتقدير أن، لكن حكى الطيبي أن شرطه أن يكون بين ما قبل الفاء وما بعدها سببية ولا سببية هنا إذ لا يجوز أن يكون موت الأولاد ولا عدمه سببا لولوج من ولدهم النار، قال: وإنما الفاء بمعنى الواو التي للجمع وتقريره لا يجتمع لمسلم موت ثلاثة من ولده وولوجه النار، لا محيد عن ذلك إن كانت الرواية بالنصب، وهذا قد تلقاه جماعة عن الطيبي وأقروه عليه، وفيه نظر لأن السببية حاصلة بالنظر إلى الإسناء لأن الاستثناء بعد النفي إثبات، فكأن المعنى أن تخفيف الولوج مسبب عن موت الأولاد، وهو ظاهر لأن الولوج عام وتخفيفه يقع بأمور منها موت الأولاد بشرطه، وما ادعاه من أن الفاء بمعنى الواو التي للجمع فيه نظر، ووجدت في شرح المشارق للشيخ أكمل الدين المعنى أن الفعل الثاني لم يحصل عقب الأول فكأنه نفي وقوعهما بصفة أن يكون الثاني عقب الأول لأن المقصود نفي الولوج عقب الموت، قال الطيبي: وإن كانت الرواية بالرفع فمعناه لا يوجد ولوج النار عقب موت الأولاد إلا مقدارا يسيرا انتهى. ووقع في رواية مالك عن الزهري كما سيأتي في الأيمان والنذور بلفظ: " لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم" وقوله تمسه بالرفع جزما والله أعلم. قوله: "إلا تحلة القسم" بفتح المثناة وكسر المهملة وتشديد اللام أي ما ينحل به القسم وهو اليمين وهو مصدر حلل اليمين أي كفرها يقال حلل تحليلا وتحلة وتحلا بغير هاء والثالث شاذ. وقال أهل اللغة يقال فعلته تحلة القسم أي قدر ما حللت به يميني ولم أبالغ. وقال الخطابي: حللت القسم تحلة أي أبررتها. وقال القرطبي: اختلف في المراد بهذا القسم فقيل هو معين وقيل غير معين. فالجمهور على الأول، وقيل لم يعن به قسم بعينه وإنما معناه التقليل لأمر ورودها وهذا اللفظ يستعمل في هذا تقول: لا ينام هذا إلا لتحليل الألية، وتقول ما ضربته إلا تحليلا إذا لم تبالغ في الضرب أي قدرا يصيبه منه مكروه. وقيل: الاستثناء بمعنى الواو أي لا تمسه النار قليلا ولا كثيرا ولا تحلة القسم، وقد جوز الفراء والأخفش مجيء إلا بمعنى الواو وجعلوا منه قوله تعالى: {لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ} والأول قول الجمهور وبه جزم أبو عبيد وغيره, وقالوا: المراد به قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قال الخطابي: معناه لا يدخل النار ليعاقب بها ولكنه يدخلها مجتازا ولا يكون ذلك الجواز إلا قدر ما يحلل به الرجل يمينه، ويدل على ذلك ما وقع عند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في آخر هذا الحديث: "إلا تحلة القسم " يعني الورود. وفي سنن سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة في آخره: ثم قرأ سفيان {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ومن

(3/123)


طريق زمعة بن صالح عن الزهري في آخره: قيل وما تحلة القسم؟ قال: قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} وكذا وقع في رواية كريمة في الأصل، قال أبو عبد الله {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} وكذا حكاه عبد الملك بن حبيب عن مالك في تفسير هذا الحديث، وورد نحوه من طريق أخرى في هذا الحديث رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن بشر الأنصاري مرفوعا: " من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل" يعني الجواز على الصراط، وجاء مثله من حديث آخر أخرجه الطبراني من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه مرفوعا: " من حرس وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله عز وجل قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} , واختلف في موضع القسم من الآية فقيل هو مقدر أي والله إن منكم، وقيل معطوف على القسم الماضي في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} أي وربك إن منكم، وقيل هو مستفاد من قوله تعالى: {حَتْماً مَقْضِيّاً} أي قسما واجبا كذا رواه الطبراني وغيره من طريق مرة عن ابن مسعود ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ومن طريق سعيد عن قتادة في تفسير هذه الآية. وقال الطيبي يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق، فإن قوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ} تذييل وتقرير لقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ} فهذا بمنزلة القسم بل أبلغ لمجيء الاستثناء بالنفي والإثبات، واختلف السلف في المراد بالورود في الآية، فقيل هو الدخول روى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار أخبرني من سمع من ابن عباس فذكره، وروى أحمد والنسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعا: "الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما"، وروى الترمذي وابن أبي حاتم من طريق السدي سمعت مرة يحدث عن عبد الله بن مسعود قال يردونها أو يلجونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم، قال عبد الرحمن ابن مهدي قلت لشعبة: إن إسرائيل يرفعه، قال: صدق وعمدا أدعه. ثم رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل مرفوعا، وقيل المراد بالورود الممر عليها رواه الطبري وغيره من طريق بشر بن سعيد عن أبي هريرة، ومن طريق أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، ومن طريق معمر وسعيد عن قتادة، ومن طريق كعب الأحبار وزاد: "يستوون كلهم على متنها، ثم ينادي مناد أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فيخرج المؤمنون ندية أبدانهم"، وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك ولا تنافي بينهما، لأن من عبر بالدخول تجوز به عن المرور، ووجهه أن المار عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوال المارة باختلاف أعمالهم فأعلاهم درجة من يمر كلمع البرق كما سيأتي تفصيل ذلك عند شرح حديث الشفاعة في الرقاق إن شاء الله تعالى، ويؤيد صحة هذا التأويل ما رواه مسلم من حديث أم مبشر "إن حفصة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: لا يدخل أحد شهد الحديبية النار: أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فقال لها: أليس الله تعالى يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية" وفي هذا بيان ضعف قول من قال الورود مختص بالكفار ومن قال معنى الورود الدنو منها ومن قال معناه الإشراف عليها ومن قال معنى ورودها ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمى، على أن هذا الأخير ليس ببعيد ولا ينافيه بقية الأحاديث والله أعلم. وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم أن أولاد المسلمين في الجنة لأنه يبعد أن الله يغفر للآباء بفضل رحمته للأبناء ولا يرحم الأبناء قاله المهلب. وكون أولاد المسلمين في الجنة قاله الجمهور ووقفت طائفة قليلة وسيأتي البحث في ذلك في أواخر كتاب

(3/124)


الجنائز إن شاء الله تعالى، وفيه أن من حلف أن لا يفعل1 كذا ثم فعل منه شيئا ولو قل برت يمينه خلافا لمالك قاله عياض وغيره.
ـــــــ
1 كذا في النسخ, والصواب "أن يفعل" باسقاط حرف النفي, وبذلك يستقيم الكلام. والله أعلم

(3/125)


7 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ اصْبِرِي
12452 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي"
[الحديث 1252 - أطر]فه في: 1283, 1302, 7154
قوله: "باب قول الرجل للمرأة عند القبر: اصبري" قال الزين بن المنير ما محصله: عبر بقوله رجل ليوضح أن ذلك لا يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعبر بالقول دون الموعظة ونحوها لكون ذلك الأمر يقع على القدر المشترك من الوعظ وغيره، واقتصر على ذكر الصبر دون التقوى لأنه المتيسر حينئذ المناسب لما هي فيه. قال: وموضع الترجمة من الفقه جواز مخاطبة الرجال النساء في مثل ذلك بما هو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو موعظة أو تعزية وأن ذلك لا يختص بعجوز دون شابة لما يترتب عليه من المصالح الدينية والله أعلم. قوله: "حدثنا آدم" سيأتي هذا الحديث بهذا الإسناد بعينه أتم من هذا في "باب زيارة القبور "بعد زياد على عشرين بابا، وسيأتي الكلام عليه هناك مستوفي إن شاء الله تعالى. ومناسبة هذه الترجمة لما قبلها لجامع ما بينهما من مخاطبة الرجل المرأة بالموعظة، لأن في الأول جواز مخاطبتها بما يرغبها في الأجر إذا احتسبت مصيبتها، وفي هذا مخاطبتها بما يرهبها من الإثم لما تضمنه الحديث من الإشارة إلى أن عدم الصبر ينافي التقوى. والله أعلم.

(3/125)


8 - باب غُسْلِ الْمَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ
وَحَنَّطَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ابْنًا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَلَهُ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْمُسْلِمُ لاَ يَنْجُسُ حَيًّا وَلاَ مَيِّتًا وَقَالَ سَعِيدٌ لَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسِسْتُهُ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ لاَ يَنْجُسُ"
1253 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ تَعْنِي إِزَارَهُ"
قوله: "باب غسل الميت ووضوئه" أي بيان حكمه، وقد نقل النووي الإجماع على أن غسل الميت فرض كفاية، وهو ذهول شديد، فإن الخلاف مشهور لمالكية حتى أن القرطبي رجح في شرح مسلم أنه سنة، ولكن

(3/125)


9 - باب مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغْسَلَ وِتْرًا
1254 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ" فَقَالَ أَيُّوبُ وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ وَكَانَ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ اغْسِلْنَهَا وِتْرًا وَكَانَ فِيهِ " ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا " وَكَانَ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ: " ابْدَءُوا بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا" وَكَانَ فِيهِ "أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ وَمَشَطْنَاهَا ثَلاَثَةَ قُرُونٍ"
قوله: "باب ما يستحب أن يغسل وترا" قال الزين بن المنير: يحتمل أن تكون "ما" مصدرية أو موصولة، والثاني أظهر. كذا قال وفيه نظر، لأنه لو كان المراد ذلك لوقع التعبير بمن التي لمن يعقل. ثم أورد المصنف فيه حديث أم عطية أيضا من رواية أيوب عن محمد وليس فيه التصريح بالوتر، ومن رواية أيوب قال حدثتني حفصة وفيه ذلك، وقد تقدم الكلام فيه قبل. ومحمد شيخه لم ينسب في أكثر الروايات، وقع عند الأصيلي حدثنا محمد بن المثنى. وقال الجياني: يحتمل أن يكون محمد بن سلام. وأخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن الوليد وهو البسري عن عبد الوهاب وهو من شيوخ البخاري أيضا. قوله: "فقال أيوب" كذا للأكثر بالفاء وهو بالإسناد المذكور، ووقع عند الأصيلي وقال بالواو فربما ظن معلقا وليس كذلك. وقد رواه الإسماعيلي بالإسنادين معا موصولا وسيأتي الكلام على ما في رواية حفصة من الزيادة فيما بعد. وقوله فيه: "وترا ثلاثا أو خمسا" استدل به على أن أقل الوتر ثلاث، ولا دلالة فيه لأنه سيق مساق البيان للمراد إذ لو أطلق لتناول الواحدة فما فوقها.

(3/130)


10 - باب يُبْدَأُ بِمَيَامِنِ الْمَيِّتِ
1525 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ: "ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا"
قوله: "باب يبدأ بميامن الميت" أي عند غسله، وكأنه أطلق في الترجمة ليشعر بأن غير الغسل يلحق به قياسا عليه. قوله: "حدثنا خالد" هو الحذاء، وحفصة هي بنت سيرين. قوله. "في غسل ابنته" في رواية هشيم عن خالد عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمرها أن تغسل ابنته قال لها.. فذكره. قوله: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء

(3/130)


11 - باب مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْ الْمَيِّتِ
1256 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "لَمَّا غَسَّلْنَا بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا وَنَحْنُ نَغْسِلُهَا: ابْدَءُوا بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ "
قوله: "باب مواضع الوضوء من الميت" أي يستحب البداءة بها. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "ابدؤوا" كذا للأكثر وللكشميهني: "ابدأن" وهو الوجه1 لأنه خطاب للنسوة. قوله: "ومواضع الوضوء" زاد أبو ذر "منها" واستدل به على استحباب المضمضة والاستنشاق في غسل الميت خلافا للحنفية، بل قالوا: لا يستحب وضوؤه أصلا، وإذا قلنا باستحبابه فهل يكون وضوءا حقيقيا بحيث يعاد غسل تلك لأعضاء في الغسل أو جزءا من الغسل بدئت به هذه الأعضاء تشريفا؟ الثاني أظهر من سياق الحديث، والبداءة بالميامن وبمواضع الوضوء مما زادته حفصة في روايتها عن أم عطية على أخيها محمد، وكذا المشط والضفر كما سيأتي.
ـــــــ
1 في نسخة "وهو الأوجه"

(3/131)


12 - باب هَلْ تُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِي إِزَارِ الرَّجُلِ
1257 - حدثنا عبد الرحمن بن حماد أخبرنا بن عون عن محمد عن أم عطية قالت "توفيت بنت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لنا: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن, فإذا فرغتن فآذنني. فلما فرغنا آذناه, فنزع من حقوه إزاره وقال: أشعرنها إياه"
قوله: "باب هل تكفن المرأة في إزار الرجل" أورد فيه حديث أم عطية أيضا. وشاهد الترجمة قوله فيه: "فأعطاها إزاره" قال ابن رشيد: أشار بقوله: "هل" إلى تردد عنده في المسألة، فكأنه أومأ إلى احتمال اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن المعنى الموجود فيه من البركة ونحوها قد لا يكون في غيره ولا سيما مع قرب عهده بعرقه الكريم، ولكن الأظهر الجواز، وقد نقل ابن بطال الاتفاق على ذلك، لكن لا يلزم من ذلك التعقب على البخاري لأنه إنما ترجم بالنظر إلى سياق الحديث وهو قابل للاحتمال. وقال الزين بن المنير نحوه وزاد احتمال الاختصاص بالمحرم أم بمن يكون في مثل إزار النبي صلى الله عليه وسلم وجسده من تحقق النظافة وعدم نفرة الزوج وغيرته أن تلبس زوجته لباس غيره.

(3/131)


باب يجعل الكافور في الأخيرة
...
13 - باب يُجْعَلُ الْكَافُورُ فِي آخِرِهِ
1258 - حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ "تُوُفِّيَتْ

(3/131)


14 - باب نَقْضِ شَعَرِ الْمَرْأَةِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لاَ بَأْسَ أَنْ يُنْقَضَ شَعَرُ الْمَيِّتِ
1260 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَيُّوبُ وَسَمِعْتُ حَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ قَالَتْ حَدَّثَتْنَا أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ نَقَضْنَهُ ثُمَّ غَسَلْنَهُ ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ"
قوله: "باب نقض شعر المرأة" أي الميتة قبل الغسل، والتقييد بالمرأة خرج مخرج الغالب أو الأكثر، وإلا فالرجل إذا كان له شعر ينقض لأجل التنظيف وليبلغ الماء البشرة، وذهب من منعه إلى أنه قد يفضي إلى انتتاف شعره، وأجاب من أثبته بأنه يضم إلى ما انتثر منه. قوله: "وقال ابن سيرين إلخ" وصله سعيد بن منصور من طريق أيوب عنه. قوله: "حدثنا أحمد" كذا للأكثر غير منسوب، ونسبه أبو علي بن شبويه عن الفربري "أحمد بن صالح". قوله: "قال أيوب" في رواية الإسماعيلي من طريق حرملة عن ابن وهب عن ابن جريج "أن أيوب بن أبي تميمة أخبره". قوله: "وسمعت" هو معطوف على محذوف تقديره سمعت كذا وسمعت حفصة، وسيأتي بيانه في الباب الذي بعده. قوله: "أنهن جعلن رأس بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون نقضنه ثم غسلنه" في رواية الإسماعيلي: "قالت نقضته" والظاهر أن القائلة أم عطية، ولعبد الرزاق عن معمر عن أيوب في هذا الحديث: "فقلت نقضته فغسلته

(3/132)


فجعلته ثلاثة قرون قالت نعم" والمراد بالرأس شعر الرأس فهو من مجاز المجاورة، وفائدة النقض تبليغ الماء البشرة وتنظيف الشعر من الأوساخ. ولمسلم من رواية أيوب عن حفصة عن أم عطية "مشطناها ثلاثة قرون" وهو بتخفيف المعجمة أي سرحناها بالمشط، وفيه حجة للشافعي ومن وافقه على استحباب تسريح الشعر، واعتل من كرهه بتقطيع الشعر، والرفق يؤمن معه ذلك.

(3/133)


15 - باب كَيْفَ الإِشْعَارُ لِلْمَيِّتِ ؟
وَقَالَ الْحَسَنُ الْخِرْقَةُ الْخَامِسَةُ تَشُدُّ بِهَا الْفَخِذَيْنِ وَالْوَرِكَيْنِ تَحْتَ الدِّرْعِ
1261 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ سِيرِينَ يَقُولُ "جَاءَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ مِنْ اللاَتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَتْ الْبَصْرَةَ تُبَادِرُ ابْنًا لَهَا فَلَمْ تُدْرِكْهُ فَحَدَّثَتْنَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي قَالَتْ فَلَمَّا فَرَغْنَا أَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ" وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. وَلاَ أَدْرِي أَيُّ بَنَاتِهِ وَزَعَمَ أَنَّ الإِشْعَارَ الْفُفْنَهَا فِيهِ وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَأْمُرُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُشْعَرَ وَلاَ تُؤْزَرَ
قوله: "باب كيف الإشعار للميت" أورد فيه حديث أم عطية أيضا، وإنما أفرد له هذه الترجمة لقوله في هذا السياق "وزعم أن الإشعار الففنها فيه" وفيه اختصار والتقدير وزعم أن معنى قوله أشعرنها إياها الففنها، وهو ظاهر اللفظ، لأن الشعار ما يلي الجسد من الثياب. والقائل في هذه الرواية: "وزعم" هو أيوب. وذكر ابن بطال أنه ابن سيرين، والأول أولى، ومد بينه عبد الرزاق في روايته عن ابن جريج قال: "قلت لأيوب قوله أشعرنها تؤزر به؟ قال: ما أراه إلا قال الففنها فيه". قوله: "وقال الحسن الخرقة الخامسة إلخ" هذا يدل على أن أول الكلام أن المرأة تكفن في خمسة أثواب. وقد وصله ابن أبي شيبة نحوه. وروى الجوزقي من طريق إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن هشام عن حفصة عن أم عطية قالت: "فكفناها في خمسة أثواب وخمرناها كما يخمر الحي" وهذه الزيادة صحيحة الإسناد، وقول الحسن في الخرقة الخامسة قال به زفر. وقالت طائفة: تشد على صدرها لتضم أكفانها، وكأن المصنف أشار إلى موافقة قول زفر: ولا يكره القميص للمرأة على الراجح عند الشافعية والحنابلة. قوله: "حدثنا أحمد" كذا للأكثر غير منسوب. وقال أبو علي بن شبويه في روايته: "حدثنا أحمد يعني ابن صالح".
"فائدة": قوله: "ولا أدري أي بناته" هو مقول أيوب، وفيه دليل على أنه لم يسمع تسميتها من حفصة، وقد تقدم قريبا من وجه آخر عنه أنها أم كلثوم.

(3/133)


16 - باب هَلْ يُجْعَلُ شَعَرُ الْمَرْأَةِ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ
قوله: "باب يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون" أي ضفائر.
1262 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أُمِّ الْهُذَيْلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "ضَفَرْنَا شَعَرَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" تَعْنِي ثَلاَثَةَ قُرُونٍ وَقَالَ وَكِيعٌ قَالَ سُفْيَانُ "نَاصِيَتَهَا وَقَرْنَيْهَا"

(3/133)


17 - باب يُلْقَى شَعَرُ الْمَرْأَةِ خَلْفَهَا
1263 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ قَالَ حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا بِالسِّدْرِ وِتْرًا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَضَفَرْنَا شَعَرَهَا ثَلاَثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا"
قوله: "باب يلقى شعر المرأة خلفها" في رواية الأصيلي وأبي الوقت "يجعل" وزاد الحموي "ثلاثة قرون" ثم أورد المصنف حديث أم عطية من رواية هشام بن حسان عن حفصة وفيه: "فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها" أخرجه مسدد عن يحيى بن سعيد، وقد أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بلفظ: "ومشطناها" وقد تقدم ذلك من رواية الثوري عن هشام أيضا، وعند عبد الرزاق من طريق أيوب عن حفصة "ضفرنا رأسها ثلاثة قرون ناصيتها وقرنيها وألقيناه إلى خلفها" قال ابن دقيق العيد: فيه استحباب تسريح المرأة وتضفيرها، وزاد بعض الشافعية أن تجعل الثلاث خلف ظهرها، وأورد فيه حديثا غريبا، كذا قال وهو مما يتعجب منه مع كون الزيادة في صحيح البخاري، وقد توبع راويها عليها كما تراه. في هذا الحديث من الفوائد -غير ما تقدم في هذه التراجم العشر- تعليم الإمام من لا علم له بالأمر الذي يقع فيه، وتفويضه إليه إذا كان أهلا لذلك بعد أن ينبهه على علة الحكم.

(3/134)


واستدل به على أن الغسل من غسل الميت ليس بواجب لأنه موضع تعليم ولم يأمر به، وفيه نظر لاحتمال أن يكون شرع بعد هذه الواقعة. وقال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بوجوبه. وكأنه ما درى أن الشافعي علق القول به على صحة الحديث، والخلاف فيه ثابت عند المالكية وصار إليه بعض الشافعية أيضا. وقال ابن بزيزة: الظاهر أنه مستحب، والحكمة فيه تتعلق بالميت، لأن الغاسل إذا علم أنه سيغتسل لم يتحفظ من شيء يصيبه من أثر الغسل فيبالغ في تنظيف الميت وهو مطمئن، ويحتمل أن يتعلق بالغاسل ليكون عند فراغه على يقين من طهارة جسده مما لعله أن يكون أصابه من رشاش ونحوه انتهى1 واستدل به بعض الحنفية على أن الزوج لا يتولى غسل زوجته، لأن زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم كان حاضرا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم النسوة بغسل ابنته دون الزوج، وتعقب بأنه يتوقف على صحة دعوى أنه كان حاضرا، وعلى تقدير تسليمه فيحتاج إلى ثبوت أنه لم يكن به مانع من ذلك ولا آثر النسوة على نفسه، وعلى تسليمه فغاية ما فيه أن يستدل به على أن النسوة أولى منه لا على منعه من ذلك لو أراده. والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
1 وقال بعضهم "إن الحكمة في ذلك –والله أعلم– جبر ما يحصل للغاسل من الضعف بسبب مشاهدة الميت وذكر الموت وما بعده, وهو معنى مناسب. والله أعلم

(3/135)


18 - باب الثِّيَابِ الْبِيضِ لِلْكَفَنِ
1264 - حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب يمانية وعثمان سحولية من كرسف ليس فيهن قميص ولا عمامة"
[الحديث 1264 – أطرافه في: 1271, 1272, 1273, 13887]
قوله: "باب الثياب البيض للكفن" أورد فيه حديث عائشة "كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض" الحديث، وتقرير الاستدلال به أن الله لم يكن ليختار لنبيه إلا الأفضل، وكأن المصنف لم يثبت على شرطه الحديث الصريح في الباب وهو ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس بلفظ: "البسوا ثياب البياض فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم" صححه الترمذي والحاكم، وله شاهد من حديث سمرة بن جندب أخرجوه وإسناده صحيح أيضا، وحكى بعض من صنف في الخلاف عن الحنفية أن المستحب عندهم أن يكون في أحدها ثوب حبرة، وكأنهم أخذوا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام كفن في ثوبين وبرد حبرة أخرجه أبو داود من حديث جابر وإسناده حسن، لكن روى مسلم والترمذي من حديث عائشة أنهم نزعوها عنه، قال الترمذي: وتكفينه في ثلاثة أثواب بيض أصح ما ورد في كفنه. وقال عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة "لف في برد حبرة جفف فيه ثم نوع عنه" يمكن أن يستدل لهم بعموم حديث أنس "كان أحب اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة" أخرجه الشيخان، وسيأتي في اللباس. والحبرة بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة ما كان من البرود مخططا.

(3/135)


19 - باب الْكَفَنِ فِي ثَوْبَيْنِ
1265 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

(3/135)


20 - باب الْحَنُوطِ لِلْمَيِّتِ
1266 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَأَقْصَعَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَقْعَصَتْهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلاَ تُحَنِّطُوهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا"
قوله: "باب الحنوط للميت" أي غير المحرم. حديث ابن عباس المذكور في الباب ورد عن شيخ آخر، وشاهد الترجمة قوله: "ولا تحنطوه" ثم علل بأنه يبعث ملبيا، فدل على أن سبب النهي أنه كان محرما، فإذا انتفت العلة انتفى النهي، وكأن الحنوط للميت كان مقررا عندهم. وكذا قوله: "لا تخمروا رأسه" أي لا تغطوه، قال البيهقي: فيه دليل على أن غير المحرم يحنط كما يخمر رأسه، وأن النهي إنما وقع لأجل الإحرام خلافا لمن قال من المالكية غيرهم إن الإحرام ينقطع بالموت فيصنع بالميت ما يصنع بالحي، قال ابن دقيق العيد: وهو مقتضى القياس، لكن الحديث بعد أن ثبت يقدم على القياس، وقد قال بعض المالكية: إثبات الحنوط في هذا الخبر بطريق المفهوم من منع الحنوط للمحرم، ولكنها واقعة حال يتطرق الاحتمال إلى منطوقها فلا يستدل بمفهومها. وقال بعض

(3/136)


الحنفية: هذا الحديث ليس عاما بلفظه لأنه في شخص معين، ولا بمعناه لأنه لم يقل يبعث ملبيا لأنه محرم فلا يتعدى حكمه إلى غيره إلا بدليل منفصل. وقال ابن بزيزة: وأجاب بعض أصحابنا عن هذا الحديث بأن هذا مخصوص بذلك الرجل لأن إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه يبعث ملبيا شهادة بأن حجه قبل، وذلك غير محقق لغيره، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن هذه العلة إنما ثبتت لأجل الإحرام فتعم كل محرم، وأما القبول وعدمه فأمر مغيب. واعتل بعضهم بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وبقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث" وليس هذا منها فينبغي أن ينقطع عمله بالموت، وأجيب بأن تكفينه في ثوبي إحرامه وتبقيته على هيئة إحرامه من عمل الحي بعده كغسله والصلاة عليه فلا معنى لما ذكروه. وقال ابن المنير في الحاشية: وقد قال صلى الله عليه وسلم في الشهداء "زملوهم بدمائهم" مع قوله: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" فعمم الحكم في الظاهر بناء على ظاهر السبب فينبغي أن يعمم الحكم في كل محرم، وبين المجاهد والمحرم جامع لأن كلا منهما في سبيل الله. وقد اعتذر الداودي عن مالك فقال: لم يبلغه هذا الحديث، وأورد بعضهم أنه لو كان إحرامه باقيا لوجب أن يكمل به المناسك ولا قائل به. وأجيب بأن ذلك ورد على خلافه الأصل فيقتصر به على مورد النص ولا سيما وقد وضح، أن الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام كاستبقاء دم الشهيد.

(3/137)


21 - باب كَيْفَ يُكَفَّنُ الْمُحْرِمُ
1267 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ "أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلاَ تُمِسُّوهُ طِيبًا وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا"
1268 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو وَأَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ "كَانَ رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ فَوَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ قَالَ أَيُّوبُ فَوَقَصَتْهُ - وَقَالَ عَمْرٌو فَأَقْصَعَتْهُ - فَمَاتَ فَقَالَ: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلاَ تُحَنِّطُوهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَيُّوبُ يُلَبِّي وَقَالَ عَمْرٌو مُلَبِّيًا"
قوله: "باب كيف يكفن المحرم" سقطت هذه الترجمة للأصيلي وثبتت لغيره وهو أوجه. وأورد المصنف فيها حديث ابن عباس المذكور من طريقين، ففي الأول "فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" كذا للمستملي وللباقين "ملبدا" بدال بدل التحتانية، والتلبيد جمع الشعر بصمغ أو غيره ليخف شعثه، وكانت عادتهم في الإحرام أن يصنعوا ذلك. وقد أنكر عياض هذه الرواية وقال: ليس للتلبيد معنى، وسيأتي في الحج بلفظ: "يهل" ورواه النسائي بلفظ: "فإنه يبعث يوم القيامة محرما" لكن ليس قوله ملبدا فاسد المعنى بل توجيهه ظاهر. قوله في الرواية الأخرى "كان رجل واقفا" كذا لأبي ذر وللباقين "واقف" على أنه صفة لرجل، وكان تامة أي حصل رجل واقف. قوله: "ولا تمسوه" بضم أوله وكسر الميم من أمس. قوله: "فأقصعته" أي هشمته يقال أقصع القملة إذا هشمها، وقيل هو خاص بكسر العظم، ولو سلم فلا مانع أن يستعار لكسر الرقبة. وفي رواية الكشميهني بتقديم العين على الصاد، والقعص القتل في الحال ومنه قعاص الغنم وهو موتها. قال الزين بن

(3/137)


المنير: تضمنت هذه الترجمة الاستفهام عن الكيفية مع أنها مبينة، لكنها لما كانت تحتمل أن تكون خاصة بذلك الرجل، وأن تكون عامة لكل محرم، آثر المصنف الاستفهام. قلت: والذي يظهر أن المراد بقوله: "كيف يكفن" أي كيفية التكفين ولم يرد الاستفهام، وكيف يظن به أنه متردد فيه وقد جزم قبل ذلك بأنه عام في حق كل أحد حيث ترجم بجواز التكفين في ثوبين. قال ابن المنذر: في حديث ابن عباس إباحة غسل المحرم الحي بالسدر خلافا لمن كرهه له، وأن الوتر في الكفن ليس بشرط في الصحة، وأن الكفن من رأس المال لأمره صلى الله عليه وسلم بتكفينه في ثوبيه ولم يستفصل هل عليه دين يستغرق أم لا. وفيه استحباب تكفين المحرم في ثياب إحرامه، وأن إحرامه باق، وأنه لا يكفن في المخيط. وفيه التعليل بالفاء لقوله فإنه، وفيه التكفين في الثياب الملبوسة، وفيه استحباب دوام التلبية إلى أن ينتهي الإحرام، وأن الإحرام يتعلق بالرأس لا بالوجه، وسيأتي الكلام على ما وقع في مسلم بلفظ: "ولا تخمروا وجهه "في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. وأغرب القرطبي فحكى عن الشافعي أن المحرم لا يصلي عليه، وليس ذلك بمعروف عنه.
" فائدة ": يحتمل اقتصاره له على التكفين في ثوبيه لكونه مات فيهما وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة، ويحتمل أنه لم يجد له غيرهما.

(3/138)


باب الكفن في القيص الذي يكف أو لايكف ومن كفن بغير قميص
...
22 - باب الْكَفَنِ فِي الْقَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أَوْ لاَ يُكَفُّ وَمَنْ كُفِّنَ بِغَيْرِ قَمِيصٍ
1269 - حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال حدثني نافع عن بن عمر رضي الله عنهما "أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفر له فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فقال آذني أصلي عليه فآذنه فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه فقال أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين فقال أنا بين خيرتين قال {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فصلى عليه, فنزلت {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً}
[الحديث 1269 – أطرافه في: 4670, 4672, 7596]
1270 - حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا بن عيينة عن عمرو سمع جابرا رضي الله عنه قال "أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما دفن فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه"
[الحديث 1270 – أطرافه في: 1350, 3008, 5795]
قوله: "باب الكفن في القميص الذي يكف أو لا يكف" قال ابن التين: ضبط بعضهم يكف بضم أوله وفتح الكاف وبعضهم بالعكس، والفاء مشدودة فيهما. وضبطه بعضهم بفتح أوله وسكون الكاف وتخفيف الفاء وكسرها، والأول أشبه بالمعنى. وتعقبه ابن رشيد بأن الثاني هو الصواب قال: وكذا وقع في نسخة حاتم الطرابلسي، وكذا رأيته في أصل أبي القاسم بن الورد، قال: والذي يظهر لي أن البخاري لحظ قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه سواء كان يكف عنه العذاب أو لا يكف استصلاحا للقلوب

(3/138)


المؤلفة، فكأنه يقول يؤخذ من هذا التبرك بآثار الصالحين1 سواء علمنا أنه مؤثر في حال الميت أو لا. قال: ولا يصح أن يراد به سواء كان الثوب مكفوف الأطراف أو غير مكفوف لأن ذلك وصف لا أثر له، قال: وأما الضبط الثالث فهو لحن إذ لا موجب لحذف الياء الثانية فيه انتهى. وقد جزم المهلب بأنه الصواب، وأن الياء سقطت من الكاتب غلطا، قال ابن بطال: والمراد طويلا كان القميص سابغا أو قصيرا فإنه يجوز أن يكفن فيه، كذا قال، ووجهه بعضهم بأن عبد الله كان مفرط الطول كما سيأتي في ذكر السبب في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم له قميصه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم معتدل الخلق، وقد أعطاه مع ذلك قميصه ليكفن فيه ولم يلتفت إلى كونه ساترا لجميع بدنه أو لا. وتعقب بأن حديث جابر دال على أنه كفن في غيره فلا تنتهض الحجة بذلك. وأما قول ابن رشيد إن المكفوف الأطراف لا أثر له فغير مسلم، بل المتبادر إلى الذهن أنه مراد البخاري كما فهمه ابن التين، والمعنى أن التكفين في القميص ليس ممتنعا سواء كان مكفوف الأطراف أو غير مكفوف، أو المراد بالكف تزريره دفعا لقول من يدعي أن القميص لا يسوغ إلا إذا كانت أطرافه غير مكفوفة أو كان غير مزرر ليشبه الرداء، وأشار بذلك إلى الرد على من خالف في ذلك، وإلى أن التكفين في غير قميص مستحب، ولا يكره التكفين في القميص. وفي الخلافيات للبيهقي من طريق ابن عون قال: كان محمد بن سيرين يستحب أن يكون قميص الميت كقميص الحي مكففا مزررا، وسيأتي الكلام على حديث عبد الله بن عمر في قصة عبد الله بن أبي في تفسير براءة إن شاء الله تعالى، ونذكر فيه جواب الإشكال الواقع في قول عمر: أليس الله قد نهاك أن تصلي على المنافقين؟ مع أن نزول قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} كان بعد ذلك كما سيأتي في سياق حديث الباب حيث قال: فنزلت: {وَلا تُصَلِّ} ، ومحصل الجواب أن عمر فهم من قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} منع الصلاة عليهم، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن لا منع، وأن الرجاء لم ينقطع بعد. ثم إن ظاهر قوله في حديث جابر "أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدما دفن فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه" مخالف لقوله في حديث ابن عمر "لما مات عبد الله بن أبي جاء ابنه فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه قميصه وقال: آذني أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر" الحديث. وقد جمع بينهما بأن معنى قوله في حديث ابن عمر "فأعطاه" أي أنعم له بذلك، فأطلق على العدة اسم العطية مجازا لتحقيق وقوعها. وكذا قوله في حديث جابر "بعد ما دفن عبد الله بن أبي" أي دلي في حفرته، وكأن أهل عبد الله بن أبي خشوا على النبي صلى الله عليه وسلم المشقة في حضوره فبادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل وجدهم قد دلوه في حفرته فأمر بإخراجه إنجازا لوعده في تكفينه في القميص والصلاة عليه والله أعلم. وقيل: أعطاه صلى الله عليه وسلم أحد قميصيه أولا، ثم لما حضر أعطاه الثاني بسؤال ولده. وفي "الإكليل" للحاكم ما يؤيد ذلك. وقيل: ليس في حديث جابر دلالة على أنه ألبسه قميصه بعد إخراجه من القبر، لأن لفظه: "فوضعه على ركبتيه وألبسه قميصه" والواو لا ترتب فلعله أراد أن يذكر ما وقع في الجملة من إكرامه له من غير إرادة ترتيب، وسيأتي في الجهاد ذكر السبب في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبد الله بن أبي، وبقية القصة في التفسير وأن اسم ابنه المذكور عبد الله كاسم أبيه إن شاء الله تعالى. واستنبط منه الإسماعيلي جواز طلب أثار أهل الخير منهم للتبرك بها وإن كان السائل غنيا.
ـــــــ
1 أنظر ما تقدم في ص 130 وغيرها من منع التبرك بآثار الصالحين سوي النبي صلى الله عليه وسلم

(3/139)


23 - باب الْكَفَنِ بِغَيْرِ قَمِيصٍ
1271 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كُفِّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابِ سُحُولٍ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ"
1272 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن هشام حدثني أبي عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة"
قوله: "باب الكفن بغير قميص" ثبتت هذه الترجمة للأكثر وسقطت للمستملي، ولكنه ضمنها الترجمة التي قبلها فقال بعد قوله أو لا يكف "ومن كفن بغير قميص" والخلاف في هذه المسألة بين الحنفية وغيرهم في الاستحباب وعدمه، والثاني عن الجمهور، وعن بعض الحنفية يستحب القميص دون العمامة. وأجاب بعض من خالف بأن قولها ليس فيها قميص ولا عمامة يحتمل نفي وجودهما جملة، ويحتمل أن يكون المراد نفي المعدود أي الثلاثة خارجة عن القميص والعمامة والأول أظهر. وقال بعض الحنفية: معناه ليس فيها قميص أي جديد، وقيل ليس فيها القميص الذي غسل فيه، أو ليس فيها قميص مكفوف الأطراف. قوله. "حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله: "سحول" بضم المهملتين وآخره لام أي بيض، وهو جمع سحل، والثوب الأبيض النقي لا يكون إلا من قطن، وقد تقدم في "باب الثياب البيض للكفن" بلفظ: "يمانية بيض سحولية في كرسف" وعن ابن وهب: السحول القطن، وفيه نظر، وهو بضم أوله ويروى بفتحه نسبة إلى سحول قرية باليمن. وقال الأزهري: بالفتح المدينة، وبالضم الثياب. وقيل النسب إلى القرية بالضم، وأما بالفتح فنسبة إلى القصار لأنه يسحل الثياب أي ينقيها، والكرسف بضم الكاف والمهملة بينهما راء ساكنة هو القطن، ووقع في رواية للبيهقي "سحولية جدد"

(3/140)


24 - باب الْكَفَنِ بِلاَ عِمَامَةٍ
1273 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ"
قوله: "باب الكفن بلا عمامة" كذا للأكثر، وللمستملي: "الكفن في الثياب البيض" والأول أولى لئلا تتكرر الترجمة بغير فائدة، وقد تقدم ما في هذا النفي في الباب الذي قبله. قوله: "ثلاثة أثواب" في طبقات ابن سعد عن الشعبي "إزار ورداء ولفافة".

(3/140)


25 - باب الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَقَتَادَةُ
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الْحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ يُبْدَأُ بِالْكَفَنِ ثُمَّ بِالدَّيْنِ ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ
وَقَالَ سُفْيَانُ أَجْرُ الْقَبْرِ وَالْغَسْلِ هُوَ مِنْ الْكَفَنِ
1274 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "أُتِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ

(3/140)


26 - باب إِذَا لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ
1275 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ "أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ وَأُرَاهُ قَالَ وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ أَوْ قَالَ أُعْطِينَا مِنْ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ"
قوله: "باب إذا لم يوجد إلا ثوب واحد" أي اقتصر عليه ولا ينتظر بدفنه ارتقاب شيء آخر. قول عبد الرحمن بن عوف "وهو خير مني" دلالة على تواضعه. وفيه إشارة إلى تعظيم فضل من قتل في المشاهد الفاضلة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد في هذا الطريق "إن غطى رأسه بدت رجلاه" وهو موافق لما في الرواية التي في الباب الذي يليه. وروى الحاكم في المستدرك من حديث أنس أن حمزة أيضا كفن كذلك.

(3/142)


27 - باب إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا إِلاَّ مَا يُوَارِي رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى رَأْسَهُ
1276 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ حَدَّثَنَا خَبَّابٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلاَّ بُرْدَةً إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الإِذْخِرِ"
[الحديث 1276 – أطرافه في: 3897, 3914, 4047, 4082, 6432, 6448]
قوله: "باب إذا لم يجد كفنا إلا ما يواري رأسه أو قدميه" أي رأسه مع بقية جسده إلا قدميه أو العكس، كأنه قال: ما يواري جسده إلا رأسه، أو جسده إلا قدميه، وذلك بين من حديث الباب حيث قال: "خرجت رجلاه" ولو كان المراد أنه يغطي رأسه فقط دون سائر جسده لكان تغطية العورة أولى. ويستفاد منه أنه إذا لم يوجد ساتر البتة أنه يغطي جميعه بإذخر، فإن لم يوجد فبما تيسر من نبات الأرض، وسيأتي في كتاب الحج قول العباس "إلا الإذخر فإنه بيوتنا وقبورنا" فكأنها كانت عادة لهم استعماله في القبور، قال المهلب: وإنما استحب لهم النبي صلى الله عليه وسلم التكفين في تلك الثياب التي ليست سابغة لأنهم قتلوا فيها انتهى. وفي هذا الجزم نظر، بل الظاهر أنه لم يجد لهم غيرها كما هو مقتضى الترجمة. قوله: "حدثنا شقيق" هو ابن سلمة أبو وائل، وخباب بمعجمة وموحدتين الأولى مثقلة هو ابن الأرت، والإسناد كله كوفيون. قوله: "لم يأكل من أجره شيئا" كناية عن الغنائم التي تناولها من أدرك زمن الفتوح، وكأن المراد بالأجر ثمرته، فليس مقصورا على أجر الآخرة. قوله: "أينعت" بفتح الهمزة وسكون التحتانية وفتح النون أي نضجت. قوله: "فهو يهد بها" بفتح أوله وكسر المهملة أي يجتنيها، وضبطه النووي بضم الدال، وحكى ابن التين تثليثها. قوله: "ما نكفنه به" سقط لفظ: "به" من رواية غير أبي ذر،

(3/142)


وسيأتي بقية الكلام على فوائده في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(3/143)


28 - باب مَنْ اسْتَعَدَّ الْكَفَنَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ
1277 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ قَالُوا الشَّمْلَةُ قَالَ نَعَمْ قَالَتْ نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لأَكْسُوَكَهَا فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ فَحَسَّنَهَا فُلاَنٌ فَقَالَ اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا قَالَ الْقَوْمُ مَا أَحْسَنْتَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ قَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي قَالَ سَهْلٌ فَكَانَتْ كَفَنَهُ"
[الحديث 1277 – أطرافه في: 2093, 5810, 6036]
قوله: "باب من استعد الكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه" ضبط في روايتنا بفتح الكاف على البناء للمجهول وحكي الكسر على أن فاعل الإنكار النبي صلى الله عليه وسلم، وحكى الزين بن المنير عن بعض الروايات فلم ينكره بهاء بدل عليه وهو بمعني الرواية التي بالكسر، وإنما قيد الترجمة بذلك ليشير إلى أن الإنكار الذي وقع من الصحابة كان على الصحابي في طلب البردة فلما أخبرهم بعذره لم ينكروا ذلك عليه، فيستفاد منه جواز تحصيل ما لا بد للميت منه من كفن ونحوه في حال حياته، وهل يلتحق بذلك حفر القبر؟ فيه بحث سيأتي. قوله: "أن امرأة" لم أقف على اسمها. قوله: "فيها حاشيتها" قال الداودي يعني إنها لم تقطع من ثوب فتكون بلا حاشية. وقال غيره حاشية الثوب هدبه فكأنه قال إنها جديدة لم يقطع هدبها ولم تلبس بعد. وقال القزاز: حاشيتا الثوب ناحيتاه اللتان في طرفهما الهدب. قوله: "أتدرون" هو مقول سهل بن سعد بينه أبو غسان عن أبي حازم كما أخرجه المصنف في الأدب ولفظه: "فقال سهل للقوم أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشملة". انتهى. وفي تفسير البردة بالشملة تجوز لأن البردة كساء والشملة ما يشتمل به فهي أعم، لكن لما كان أكثر اشتمالهم بها أطلقوا عليها اسمها. قوله: "فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها" كأنهم عرفوا ذلك بقرينة حال أو تقدم قول صريح. قوله: "فخرج إلينا وإنها إزاره" في رواية ابن ماجه عن هشام بن عمار عن عبد العزيز "فخرج إلينا فيها" وفي رواية هشام بن سعد عن أبي حازم عند الطبراني "فاتزر بها ثم خرج". قوله: "فحسنها فلان فقال اكسنيها ما أحسنها" كذا في جميع الروايات هنا بالمهملتين من التحسين. وللمصنف في اللباس من طريق يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم "فجسها" بالجيم بغير نون وكذا للطبراني والإسماعيلي من طريق أخرى عن أبي حازم، وقوله: "فلان" أفاد المحب الطبري في الأحكام له أنه عبد الرحمن بن عوف، وعزاه للطبراني ولم أره في المعجم الكبير لا في مسند سهل ولا عبد الرحمن، ونقله شيخنا ابن الملقن عن المحب في شرح العمدة، وكذا قال لنا شيخنا الحافظ أبو الحسن الهيتمي إنه وقف عليه، لكن لم يستحضر مكانه، ووقع لشيخنا ابن الملقن في "شرح التنبيه" أنه سهل بن سعد وهو غلط فكأنه التبس على شيخنا اسم القائل باسم الراوي، نعم أخرج الطبراني الحديث المذكور عن أحمد بن عبد الرحمن بن يسار1 عن قتيبة بن سعيد عن يعقوب بن عبد الرحمن
ـــــــ
1 في نسخة "ابن بشار"

(3/143)


عن أبي حازم عن سهل وقال في آخره: "قال قتيبة هو سعد بن أبي وقاص" انتهى، وقد أخرجه البخاري في اللباس والنسائي في الزينة عن قتيبة ولم يذكرا عنه ذلك، وقد رواه ابن ماجة بسنده المتقدم وقال فيه: "فجاء فلان رجل سماه يومئذ" وهو دال على أن الراوي كان ربما سماه. ووقع في رواية أخرى للطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم أن السائل المذكور أعرابي، فلو لم يكن زمعة ضعيفا لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن بن عوف أو سعد بن أبي وقاص، أو يقال تعددت القصة على ما فيه من بعد والله أعلم. قوله: "ما أحسنها" بنصب النون وما للتعجب. وفي رواية ابن ماجه والطبراني من هذا الوجه قال نعم فلما دخل طواها وأرسل بها إليه، وهو للمصنف في اللباس من طريق يعقوب بن عبد الرحمن بلفظ: "فقال نعم فجلس ما شاء الله في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه". قوله: "قال القوم ما أحسنت" ما نافية، وقد وقعت تسمية المعاتب له من الصحابة في طريق هشام بن سعد المذكورة ولفظه قال سهل فقلت للرجل لم سألته وقد رأيت حاجته إليها؟ فقال: رأيت ما رأيتم، ولكن أردت أن أخبأها حتى أكفن فيها. قوله: "أنه لا يرد" كذا وقع هنا بحذف المفعول، وثبت في رواية ابن ماجه بلفظ: "لا يرد سائلا" ونحوه في رواية يعقوب في البيوع. وفي رواية أبي غسان في الأدب لا يسأل شيئا فيمنعه. قوله: "ما سألته لألبسها" في رواية أبي غسان "فقال رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم" وأفاد الطبراني في رواية زمعة بن صالح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يصنع له غيرها فمات قبل أن تفرغ. وفي هذا الحديث من الفوائد حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وسعة جوده وقبوله الهدية، واستنبط منه المهلب جواز ترك مكافأة الفقير على هديته، وليس ذلك بظاهر منه فإن المكافأة كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم مستمرة فلا يلزم من السكوت عنها هنا أن لا يكون فعلها، بل ليس في سياق هذا الحديث الجزم بكون ذلك كان هدية فيحتمل أن تكون عرضتها عليه ليشتريها منها، قال: وفيه جواز الاعتماد على القرائن ولو تجردت لقولهم "فأخذها محتاجا إليها" وفيه نظر لاحتمال أن يكون سبق لهم منه قول يدل على ذلك كما تقدم. قال: وفيه الترغيب في المصنوع بالنسبة إلى صانعه إذا كان ماهرا، ويحتمل أن تكون أرادت بنسبته إليها إزالة ما يخشى من التدليس. وفيه جواز استحسان الإنسان ما يراه على غيره من الملابس وغيرها إما ليعرفه قدرها وأما ليعرض له بطلبه منه حيث يسوغ له ذلك. وفيه مشروعية الإنكار عند مخالفة الأدب ظاهرا وإن لم يبلغ المنكر درجة التحريم. وفيه التبرك بآثار الصالحين1 وقال ابن بطال. فيه جواز إعداد الشيء قبل وقت الحاجة إليه، قال: وقد حفر جماعة من الصالحين قبورهم قبل الموت. وتعقبه الزين بن المنير بأن ذلك لم يقع من أحد من الصحابة، قال: ولو كان مستحبا لكثر فيهم. وقال بعض الشافعية: ينبغي لمن استعد شيئا من ذلك أن يجتهد في تحصيله من جهة يثق بحلها أو من أثر من يعتقد فيه الصلاح والبركة.
ـــــــ
1 هذا خطأ, والصواب المنع من ذلك لوجهين: أحدهما أن الصحابة لم يفعلوا ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم, ولو كان خيرا لسبقونا إليه, والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليه غيره لما بينه وبين غيره من الفروق الكثيرة. الوجه الثاني سد ذريعة الشرك, لأن جواز التبرك بآثار الصالحين يفضي إلى الغلو فيهم وعبادتهم من دون الله فوجب المنع من ذلك. وقد سبق بيان ذلك مرارا.

(3/144)


29 - باب اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ
1278 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أُمِّ الْهُذَيْلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا"

(3/144)


قوله: "باب اتباع النساء الجنازة" قال الزين بن المنير: فصل المصنف بين هذه الترجمة وبين فضل اتباع الجنائز بتراجم كثيرة تشعر بالتفرقة بين النساء. والرجال، وأن الفضل الثابت في ذلك يختص بالرجال دون النساء لأن النهي يقتضي التحريم أو الكراهة، والفضل يدل على الاستحباب، ولا يجتمعان. وأطلق الحكم هنا لما يتطرق إليه من الاحتمال، ومن ثم اختلف العلماء في ذلك. ولا يخفى أن محل النزاع إنما هو حيث تؤمن المفسدة. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري وأم الهذيل هي حفصة بنت سيرين. قوله: "نهينا" تقدم في الحيض من رواية هشام بن حسان عن حفصة عنها بلفظ: "كنا نهينا عن اتباع الجنائز" ورواه يزيد بن أبي حكيم عن الثوري بإسناد هذا الباب بلفظ: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه الإسماعيلي وفيه رد على من قال: لا حجة في هذا الحديث لأنه لم يسم الناهي فيه، لما رواه الشيخان وغيرهما أن كل ما ورد بهذه الصيغة كان مرفوعا وهو الأصح عند غيرهما من المحدثين، ويؤيد رواية الإسماعيلي ما رواه الطبراني من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع النساء في بيت ثم بعث إلينا عمر فقال: إني رسول رسول الله إليكن، بعثني إليكن لأبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا" الحديث، وفي آخره: "وأمرنا أن نخرج في العيد العواتق، ونهانا أن نخرج في جنازة" وهذا يدل على أن رواية أم عطية الأولى من مرسل الصحابة. قوله: "ولم يعزم علينا" أي ولم يؤكد علينا في المنع كما أكد علينا في غيره من المنهيات، فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم. وقال القرطبي: ظاهر سياق أم عطية أن النهي نهي تنزيه، وبه قال جمهور أهل العلم، ومال مالك إلى الجواز وهو قول أهل المدينة. ويدل على الجواز ما رواه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال: "دعها يا عمر" الحديث. وأخرجه ابن ماجه والنسائي من هذا الوجه، ومن طريق أخرى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سلمة بن الأزرق عن أبي هريرة ورجاله ثقات. وقال المهلب: في حديث أم عطية دلالة على أن النهي من الشارع على درجات. وقال الداودي: قولها "نهينا عن اتباع الجنائز "أي إلى أن نصل إلى القبور، وقوله: "ولم يعزم علينا" أي أن لا نأتي أهل الميت فنعزيهم ونترحم على ميتهم من غير أن نتبع جنازته انتهى. وفي أخذ هذا التفصيل من هذا السياق نظر، نعم هو في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة مقبلة فقال: من أين جئت؟ فقالت: رحمت على أهل هذا الميت ميتهم. فقال: لعلك بلغت معهم الكدى؟ قالت: لا" الحديث أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما. فأنكر عليها بلوغ الكدى، وهو بالضم وتخفيف الدال المقصورة وهي المقادير، ولم ينكر عليها التعزية. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون المراد بقولها "ولم يعزم علينا" أي كما عزم على الرجال بترغيبهم في اتباعها بحصول القيراط ونحو ذلك، والأول أظهر. والله أعلم.

(3/145)


30 - باب إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا
1279 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ "تُوُفِّيَ ابْنٌ لأُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَتَمَسَّحَتْ بِهِ وَقَالَتْ نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ إِلاَّ بِزَوْجٍ"

(3/145)


1280 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ "لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ الشَّأْمِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِصُفْرَةٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَمَسَحَتْ عَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً لَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
[الحديث 1280 – أطرافه في: 1281, 5334, 5339, 5345]
1281 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
1282 - "ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ بِهِ ثُمَّ قَالَتْ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: " لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
[الحديث 1282 – طرفه في: 5335]
قوله: "باب إحداد المرأة على غير زوجها" قال ابن بطال: الإحداد بالمهملة امتناع المرأة المتوفى عنها زوجها من الزينة كلها من لباس وطيب وغيرهما وكل ما كان من دواعي الجماع. وأباح الشارع للمرأة أن تحد على غير زوجها ثلاثة أيام لما يغلب من لوعة الحزن ويهجم من ألم الوجد، وليس ذلك واجبا لاتفاقهم على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه من تلك الحال، وسيأتي قي كتاب الطلاق بقية الكلام على مباحث الإحداد. وقوله في الترجمة "على غير زوجها" يعم كل ميت غير الزوج سواء كان قريبا أو أجنبيا، ودلالة الحديث له ظاهرة، ولم يقيده في الترجمة بالموت لأنه يختص به عرفا، ولم يبين حكمه لأن الخبر دل على عدم التحريم في الثلاث وأقل ما يقتضيه إثبات المشروعية. قوله: "فلما كان يوم الثالث" كذا للأكثر وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وللمستملي: "اليوم الثالث". قوله: "دعت بصفرة" سيأتي الكلام عليها قريبا. قوله: "نهينا" رواه أيوب عن ابن سيرين بلفظ: "أمرنا بأن لا نحد على هالك فوق ثلاث" الحديث أخرجه عبد الرزاق، وللطبراني من طريق قتادة عن ابن سيرين عن أم عطية قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" فذكره معناه. قوله: "أن نحد" بضم أوله من الرباعي، ولم يعرف الأصمعي غيره، وحكى غيره فتح أوله وضم ثانيه من الثلاثي يقال حدت المرأة وأحدت بمعنى. قوله: "إلا بزوج" وفي رواية الكشميهني: "إلا لزوج" باللام، ووقع في العدد من طريقه بلفظ: "إلا على زوج" والكل بمعنى السببية. قوله: "عن زينب بنت أبي سلمة" هي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح في العدد بالإخبار بينها وبين حمد بن

(3/146)


نافع. قوله: "نعي" بفتح النون وسكون المهملة وتخفيف الياء -وكسر المهملة وتشديد الياء- هو الخبر بموت الشخص، وأبو سفيان هو ابن حرب بن أمية والد معاوية. قوله: "دعت أم حبيبة" هي بنت أبي سفيان المذكور. وفي قوله: "من الشام" نظر، لأن أبا سفيان مات بالمدينة بلا خلاف بين أهل العلم بالأخبار، والجمهور على أنه مات سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة ثلاث، ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييده بذلك إلا في رواية سفيان بن عيينة هذه وأظنها وهما، وكنت أظن أنه حذف منه لفظ: "ابن" لأن الذي جاء نعيه من الشام وأم حبيبة في الحياة هو أخوها يزيد بن أبي سفيان الذي كان أميرا على الشام، لكن رواه المصنف في العدد من طريق مالك ومن طريق سفيان الثوري كلاهما عن عبد الله بن بكر بن حزم عن حميد بن نافع بلفظ: "حين توفي عنها أبوها أبو سفيان بن حرب" فظهر أنه لم يسقط منه شيء، ولم يقل فيه واحد منهما من الشام، وكذا أخرجه ابن سعد في ترجمة أم حبيبة من طريق صفية بنت أبي عبيد عنها. ثم وجدت الحديث في مسند ابن أبي شيبة قال: "حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن حميد بن نافع - ولفظه - جاء نعي أخي أم حبيبة أو حميم لها فدعت بصفرة فلطخت به ذراعيها" وكذا رواه الدارمي عن هاشم بن القاسم عن شعبة لكن بلفظ: "إن أخا لأم حبيبة مات أو حميما لها" ورواه أحمد عن حجاج ومحمد بن جعفر جميعا عن شعبة بلفظ: "أن حميما لها مات" من غير تردد، وإطلاق الحميم على الأخ أقرب من إطلاقه على الأب، فقوي الظن عند هذا أن تكون القصة تعددت لزينب مع أم حبيبة عند وفاة أخيها يزيد ثم عند وفاة أبيها أبي سفيان لا مانع من ذلك. والله أعلم. قوله: "بصفرة" في رواية مالك المذكورة "بطيب فيه صفرة خلوق" وزاد فيه: "فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها" أي بعارضي نفسها. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس ابن أخت مالك. وساق الحديث هنا من طريق مالك مختصرا، وأورده مطولا من طريقه في العدد كما سيأتي. قوله: "ثم دخلت" هو مقول زينب بنت أم سلمة، وهو مصرح به في الرواية التي في العدد وظاهره أن هذه القصة وقعت بعد قصة أم حبيبة، ولا يصح ذلك إلا إن قلنا بالتعدد، ويكون ذلك عقب وفاة يزيد بن أبي سفيان لأن وفاته سنة ثمان عشرة أو تسع عشرة، ولا يصح أن يكون ذلك عند وفاة أبيه لأن زينب بنت جحش ماتت قبل أبي سفيان بأكثر من عشر سنين على الصحيح المشهور عند أهل العلم بالأخبار، فيحمل على أنها لم ترد ترتيب الوقائع وإنما أرادت ترتيب الأخبار. وقد وقع في رواية أبي داود بلفظ: "ودخلت" وذلك لا يقتضي الترتيب والله أعلم. قوله: "حين توفي أخوها" لم أتحقق من المراد به، لأن لزينب ثلاثة إخوة: عبد الله وعبد يغير إضافة وعبيد الله بالتصغير، فأما الكبير فاستشهد بأحد وكانت زينب إذ ذاك صغيرة جدا لأن أباها أبا سلمة مات بعد بدر وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمها أم سلمة وهي صغيرة ترضع كما سيأتي في الرضاع أن أمها حلت من عدتها من أبي سلمة بوضع زينب هذه، فانتفى أن يكون هو المراد هنا، وإن كان وقع في كثير من الموطآت بلفظ: "حين توفي أخوها عبد الله" كما أخرجه الدارقطني من طريق ابن وهب وغيره عن مالك، وأما عبد بغير إضافة فيعرفه بأبي حميد وكان شاعرا أعمى وعاش إلى خلافة عمر، وقد جزم إسحاق وغيره من أهل العلم بالأخبار بأنه مات بعد أخته زينب بسنة، وروى ابن سعد في ترجمتها في الطبقات من وجهين أن أبا حميد المذكور حضر جنازة زينب مع عمر وحكي عنه مراجعة له بسببها، وإن كان في إسنادهما الواقدي لكن يستشهد به في مثل هذا، فانتفى أن كون هذا الأخير المراد، وأما عبيد الله المصغر فأسلم قديما وهاجر بزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى الحبشة ثم تنصر هناك ومات فتزوج النبي

(3/147)


صلى الله عليه وسلم بعده أم حبيبة، فهذا يحتمل أن يكون هو المراد لأن زينب بنت أبي سلمة عندما جاء الخبر بوفاة عبيد الله كانت في سن من يضبط، ولا مانع أن يحزن المرء على قريبه الكافر ولا سيما إذا تذكر سوء مصيره. ولعل الرواية التي في الموطأ "حين توفي أخوها عبد الله" كانت عبيد الله بالتصغير فلم يضبطها الكاتب والله أعلم. ويعكر على هذا قول من قال إن عبيد الله مات بأرض الحبشة فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم حبيبة، فإن ظاهرها أن تزوجها كان بعد موت عبيد الله، وتزويجها وقع وهي بأرض الحبشة وقبل أن تسمع النهي، وأيضا ففي السياق "ثم دخلت على زينب" بعد قولها دخلت على أم حبيبة، وهو ظاهر في أن ذلك كان بعد موت قريب زينب بنت جحش المذكور وهو بعد مجيء أم حبيبة من الحبشة بمدة طويلة، فإن لم يكن هذا الظن هو الواقع احتمل أن يكون أخا لزينب بنت جحش من أمها أو من الرضاعة، أو يرجح ما حكاه ابن عبد البر وغيره من أن زينب بنت أبى سلمة ولدت بأرض الحبشة فإن مقتضى ذلك أن يكون لها عند وفاة عبد الله بن جحش أربع سنين، وما مثلها1 يضبط في مثلها والله أعلم. قوله: "فمست به" أي شيئا من جسدها، وسيأتي في الطريق التي في العدد بلفظ: "فمست منه "وسيأتي فيه لزينب حديث آخر عن أمها أم سلمة في الإحداد أيضا، وسيأتي الكلام على الأحاديث الثلاثة مستوفي إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
1 في مخطوطة الرياض "ومثلها"

(3/148)


31 - باب زِيَارَةِ الْقُبُورِ
1283 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَ إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى"
قوله: "باب زيارة القبور" أي مشروعيتها وكأنه لم يصرح بالحكم لما فيه من الخلاف كما سيأتي، وكأن المصنف لم يثبت على شرطه الأحاديث المصرحة بالجواز، وقد أخرجه مسلم من حديث بريدة وفيه نسخ النهي عن ذلك ولفظه: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها" وزاد أبو داود والنسائي من حديث أنس "فإنها تذكر الآخرة" وللحاكم من حديثه فيه: "وترق القلب وتدمع العين، فلا تقولوا هجرا" أي كلاما فاحشا، وهو بضم الهاء وسكون الجيم وله من حديث ابن مسعود "فإنها تزهد في الدنيا" ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: " زوروا القبور فإنها تذكر الموت" قال النووي تبعا للعبدري والحازمي وغيرهما: اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة. كذا أطلقوا، وفيه نظر لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي والشعبي الكراهة مطلقا حتى قال الشعبي: لولا نهي النبي صلى الله عليه وسلم لزرت قبر ابنتي. فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر عليه الأمر بعد هؤلاء، وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ والله أعلم. ومقابل هذا قول ابن حزم: إن زيارة القبور واجبة ولو مرة واحدة في العمر لورود الأمر به. واختلف في النساء فقيل: دخلن في عموم الإذن وهو قول الأكثر، ومحله ما إذا أمنت الفتنة ويؤيد الجواز حديث الباب، وموضع الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة.

(3/148)


وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة فروى الحاكم من طريق ابن أبي مليكة أنه رآها زارت قبر أخيها عبد الرحمن "فقيل لها: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قالت نعم، كان نهي ثم أمر بزيارتها" وقيل الإذن خاص بالرجال ولا يجوز للنساء زيارة القبور، وبه جزم الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" واستدل له بحديث عبد الله بن عمرو الذي تقدمت الإشارة إليه في "باب اتباع النساء الجنائز" وبحديث: "لعن الله زوارات القبور" أخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة، وله شاهد من حديث ابن عباس ومن حديث حسان بن ثابت. واختلف من قال بالكراهة في حقهن هل هي كراهة تحريم أو تنزيه؟ قال القرطبي: هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصفة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك، فقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء. قوله: "بامرأة" لم أقف على اسمها ولا اسم صاحب القبر. وفي رواية لمسلم ما يشعر بأنه ولدها ولفظه: "تبكي على صبي لها" وصرح به في مرسل يحيى بن أبي كثير عند عبد الرزاق ولفظه: "قد أصيبت بولدها" وسيأتي في أوائل كتاب الأحكام من طريق أخرى عن شعبة عن ثابت "أن أنسا قال لامرأة من أهله: تعرفين فلانة؟ قالت: نعم. قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مر بها" فذكر هذا الحديث. قوله: "فقال: اتقي الله" في رواية أبي نعيم في المستخرج "فقال: يا أمة الله اتقي الله " قال القرطبي: الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى. قلت: يؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور "فسمع منها ما يكره فوقف عليها "وقال الطيبي: قوله: "اتقي الله" توطئة لقوله: "واصبري" كأنه قيل لها خافي غضب الله إن لم تصبري ولا تجزعي ليحصل لك الثواب. قوله: "إليك عني" هو من أسماء الأفعال، ومعناها تنح وابعد. قوله: "لم تصب بمصيبتي" سيأتي في الأحكام من وجه آخر عن شعبة بلفظ: "فإنك خلو من مصيبتي "وهو بكسر المعجمة وسكون اللام، ولمسلم: "ما تبالي بمصيبتي" ولأبي يعلى من حديث أبي هريرة أنها قالت: "يا عبد الله إني أنا الحرى الثكلي، ولو كنت مصابا عذرتني". قوله: "ولم تعرفه" جملة حالية أي خاطبته بذلك ولم تعرف أنه رسول الله. قوله: "فقيل لها" في رواية الأحكام "فمر بها رجل فقال لها: إنه رسول الله، فقالت: ما عرفته" وفي رواية أبي يعلى المذكورة "قال فهل تعرفينه؟ قالت: لا" وللطبراني في الأوسط من طريق عطية عن أنس أن الذي سألها هو الفضل بن العباس، وزاد مسلم في رواية له "فأخذها مثل الموت" أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه صلى الله عليه وسلم خجلا منه ومهابة. قوله: "فلم تجد عنده بوابين" في رواية الأحكام "بوابا" بالإفراد قال الزين بن المنير: فائدة هذه الجملة من هذا الخبر بيان عذر هذه المرأة في كونها لم تعرفه، وذلك أنه كان من شأنه أن لا يتخذ بوابا مع قدرته على ذلك تواضعا، وكان من شأنه أنه لا يستتبع الناس وراءه إذا مشى كما جرت عادة الملوك والأكابر، فلذلك اشتبه على المرأة فلم تعرفه مع ما كانت فيه من شاغل الوجد والبكاء. وقال الطيبي: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم استشعرت خوفا وهيبة في نفسها فتصورت أنه مثل الملوك له حاجب وبواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته. قوله: "فقالت: لم أعرفك" في حديث أبي هريرة "فقالت والله ما عرفتك". قوله: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" في رواية الأحكام "عند أول صدمة" ونحوه لمسلم، والمعني إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير للمصيبة الواردة على القلب، قال الخطابي:

(3/149)


المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يسلو. وحكى الخطابي عن غيره أن المرء لا يؤجر على المصيبة لأنها ليست من صنعه، وإنما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره. وقال ابن بطال: أراد أن لا يجتمع عليها مصيبة الهلاك وفقد الأجر. وقال الطيبي: صدر هذا الجواب منه صلى الله عليه وسلم عن قولها لم أعرفك على أسلوب الحكيم كأنه قال لها: دعي الاعتذار فإني لا أغضب لغير الله وانظري لنفسك. وقال الزين بن المنير:. فائدة جواب المرأة بذلك أنها لما جاءت طائعة لما أمرها به من التقوى والصبر معتذرة عن قولها الصادر عن الحزن بين لها أن حق هذا الصبر أن يكون في أول الحال، فهو الذي يترتب عليه الثواب انتهى. ويؤيده أن في رواية أبي هريرة المذكورة "فقالت أنا أصبر، أنا أصبر" وفي مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور "فقال اذهبي إليك، فإن الصبر عند الصدمة الأولى" وزاد عبد الرزاق فيه من مرسل الحسن "والعبرة لا يملكها ابن آدم". وذكر هذا الحديث في زيارة القبور مع احتمال أن تكون المرأة المذكورة تأخرت بعد الدفن عند القبر والزيارة إنما تطلق على من أنشأ إلى القبر قصدا من جهة استواء الحكم في حقها حيث أمرها بالتقوى والصبر لما رأى من جزعها ولم ينكر عليها الخروج من بيتها فدل على أنه جائز، وهو أعم من أن يكون خروجها لتشييع ميتها فأقامت عند القبر بعد الدفن أو أنشأت قصد زيارته بالخروج بسبب الميت. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من التواضع والرفق بالجاهل، ومسامحة المصاب وقبول اعتذاره، وملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيه أن القاضي لا ينبغي له أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس، وأن من أمر بمعروف ينبغي له أن يقبل ولو لم يعرف الآمر. وفيه أن الجزع من المنهيات لأمره لها بالتقوى مقرونا بالصبر. وفيه الترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة ونشر الموعظة، وأن المواجهة بالخطاب إذا لم تصادف المنوي لا أثر لها. وبني عليه بعضهم ما إذا قال يا هند أنت طالق فصادف عمرة أن عمرة لا تطلق. واستدل به على جواز زيارة القبور سواء كان الزائر رجلا أو امرأة كما تقدم، وسواء كان المزور مسلما أو كافرا، لعدم الاستفصال في ذلك. قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور. وقال صاحب الحاوي: لا تجوز زيارة قبر الكافر، وهو غلط انتهى. وحجة الماوردي قوله تعالى: {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ، وفي الاستدلال به نظر لا يخفى.
" تنبيه ": قال الزين بن المنير: قدم المصنف ترجمة زيارة القبور على غيرها من أحكام تشييع الجنازة وما بعد ذلك مما يتقدم الزيارة لأن الزيارة يتكرر وقوعها فجعلها أصلا ومفتاحا لتلك الأحكام انتهى ملخصا. وأشار أيضا إلى أن مناسبة ترجمة زيارة القبور تناسب اتباع النساء الجنائز، فكأنه أراد حصر الأحكام المتعلقة بخروج النساء متوالية. والله أعلم.

(3/150)


باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النواح من سنته"
...
32 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ"
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
وَهُوَ كَقَوْلِهِ {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ –ذنوبا- إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} وَمَا يُرَخَّصُ مِنْ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ نَوْحٍ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا" وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ

(3/150)


1284 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ وَمُحَمَّدٌ قَالاَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا فَقَالَ هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"
[الحديث 1284 – أطرافه في: 5655, 6602, 6655, 7377, 7448]
1285 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ قَالَ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ قَالَ فَقَالَ هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَنَا قَالَ فَانْزِلْ قَالَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا"
[الحديث 1285 – طرفه في: 1342]
1286 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ "تُوُفِّيَتْ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا أَوْ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَلاَ تَنْهَى عَنْ الْبُكَاءِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"
1287 - فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ حَدَّثَ قَالَ صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلاَءِ الرَّكْبُ قَالَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ادْعُهُ لِي فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ وَا أَخَاهُ وَا صَاحِبَاهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"
1288 - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(3/151)


عَنْهَا فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" وَقَالَتْ حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ {هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَيْئًا"
[الحديث 1288 – طرفاه في: 1289, 3978]
1289 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ "إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ: "إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا"
1290 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ وَهْوَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ وَا أَخَاهُ فَقَالَ عُمَرُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببعض بكاء أهله إذا كان النوح من سنته" هذا تقييد من المصنف لمطلق الحديث وحمل منه لرواية ابن عباس المقيدة بالبعضية على رواية ابن عمر المطلقة كما ساقه في الباب عنهما، وتفسير منه للبعض المبهم في رواية ابن عباس بأنه النوح، ويؤيده أن المحذور بعض البكاء لا جميعه كما سيأتي بيانه. قوله: "إذا كان النوح من سنته" يوهم أنه بقية الحديث المرفوع، وليس كذلك بل هو كلام المصنف قاله تفقها، وبقية السياق يرشد إلى ذلك، وهذا الذي جزم به هو أحد الأقوال في تأويل الحديث المذكور كما سيأتي بيانه. واختلف في ضبط قوله: "من سنته "فللأكثر في الموضعين بضم المهملة وتشديد النون أي طريقته وعادته، وضبط بعضهم بفتح المهملة بعدها موحدتان الأولى مفتوحة أي من أجله، قال صاحب المطالع: حكي عن أبي الفضل بن ناصر أنه رجح هذا وأنكر الأول فقال: وأي سنه للميت؟ انتهى. وقال الزين بن المنير: بل الأول أولى لإشعاره بالعناية بذلك إذ لا يقال من سنته إلا عند غلبة ذلك عليه واشتهاره به. قلت: وكأن البخاري ألهم هذا الخلاف فأشار إلى ترجيح الأول حيث استشهد بالحديث الذي فيه: لأنه أول من سن القتل، فإنه يثبت ما استبعده ابن ناصر بقوله: وأي سنة للميت؟ وأما تعبير المصنف بالنوح فمراده ما كان من البكاء بصياح وعويل، وما يلتحق بذلك من لطم خد وشق جيب وغير ذلك من المنهيات. قوله: "لقول الله تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا" وجه الاستدلال لما ذهب إليه من هذه الآية أن هذا الأمر عام في جهات الوقاية ومن جملتها أن لا يكون الأصل مولعا بأمر منكر لئلا يجري أهله عليه بعده، أو يكون قد عرف أن لأهله عادة بفعل أمر منكر وأهمل نهيهم عنه فيكون لم يق نفسه ولا أهله. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلكم راع الحديث" هو طرف من حديث لابن عمر تقدم موصولا في الجمعة، ووجه الاستدلال منه ما تقدم، لأن من جملة رعايته لهم أن يكون الشر من طريقته فيجري أهله عليه أو يراهم يفعلون الشر فلا ينهاهم

(3/152)


عنه فيسأل عن ذلك ويؤاخذ به. وقد تعقب استدلال البخاري بهذه الآية والحديث على ما ذهب إليه من حمل حديث الباب عليه لأن الحديث ناطق بأن الميت يعذب ببكاء أهله، والآية والحديث يقتضيان أنه يعذب بسنته فلم يتحد الموردان، والجواب أنه لا مانع في سلوك طريق الجمع من تخصيص بعض العمومات وتقييد بعض المطلقات، فالحديث وإن كان دالا على تعذيب كل ميت بكل بكاء لكن دلت أدلة أخرى على تخصيص ذلك ببعض البكاء كما سيأتي توجيهه وتقييد ذلك بمن كانت تلك سنته أو أهمل النهي عن ذلك، فالمعنى على هذا أن الذي يعذب ببعض بكاء أهله من كان راضيا بذلك بأن تكون تلك طريقته إلخ، ولذلك قال المصنف "فإذا لم يكن من سنته" أي كمن كان لا شعور عنده بأنهم يفعلون شيئا من ذلك، أو أدى ما عليه بأن نهاهم فهذا لا مؤاخذة عليه بفعل غيره، ومن ثم قال ابن المبارك: إذا كان ينهاهم في حياته ففعلوا شيئا من ذلك بعد وفاته لم يكن عليه شيء. قوله: "فهو كما قالت عائشة" أي كما استدلت عائشة بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي ولا تحمل حاملة ذنبا ذنب أخرى عنها، وهذا حمل منه لإنكار عائشة على أنها أنكرت عموم التعذيب لكل ميت بكي عليه. وأما قوله: "وهو كقوله وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء" فوقع في رواية أبي ذر وحده "وإن تدع مثقلة ذنوبا إلى حملها" وليست ذنوبا في التلاوة وإنما هو في تفسير مجاهد فنقله المصنف عنه، وموقع التشبيه في قوله أن الجملة الأولى دلت على أن النفس المذنبة لا يؤاخذ غيرها بذنبها، فكذلك الثانية دلت على أن النفس المذنبة لا يحمل عنها غيرها شيئا من ذنوبها ولو طلبت ذلك ودعت إليه، ومحل ذلك كله إنما هو في حق من لم يكن له في شيء من ذلك تسبب، وإلا فهو يشاركه كما في قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم: " فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين" . قوله: "وما يرخص من البكاء في غير نوح" هذا معطوف على أول الترجمة وكأنه أشار بذلك إلى حديث عامر بن سعد عن أبي مسعود الأنصاري وقرظة بن كعب قالا "رخص لنا في البكاء عند المصيبة في غير نوح "أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني وصححه الحاكم، لكن ليس إسناده على شرط البخاري فاكتفى بالإشارة إليه واستغنى عنه بأحاديث الباب الدالة على مقتضاه. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلما.. الحديث" هو طرف من حديث لابن مسعود وصله المصنف في الديات وغيرها، ووجه الاستدلال به أن القاتل المذكور يشارك من صنع صنيعه لكونه فتح له الباب ونهج له الطريق، فكذلك من كانت طريقته النوح على الميت يكون قد نهج لأهله تلك الطريقة فيؤاخذ على فعله الأول. وحاصل ما بحثه المصنف في هذه الترجمة أن الشخص لا يعذب بفعل غيره إلا إذا كان له فيه تسبب، فمن أثبت تعذيب شخص بفعل غيره فمراده هذا، ومن نفاه فمراده ما إذا لم يكن له فيه تسبب أصلا والله أعلم. وقد اعترض بعضهم على استدلال البخاري بهذا الحديث لأن ظاهره أن الوزر يختص بالبادئ دون من أتى بعده، فعلى هذا يختص التعذيب بأول من سن النوح على الموتى. والجواب أنه ليس في الحديث ما ينفي الإثم عن غير البادئ فيستدل على ذلك بدليل آخر، وإنما أراد المصنف بهذا الحديث الرد على من يقول إن الإنسان لا يعذب إلا بذنب باشره بقوله أو فعله فأراد أن يبين أنه قد يعذب بفعل غيره إذا كان له فيه تسبب. وقد اختلف العلماء في مسألة تعذيب الميت بالبكاء عليه فمنهم من حمله على ظاهره وهو بين من قصة عمر مع صهيب كما سيأتي في ثالث أحاديث هذا الباب، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى أن المؤاخذة تقع على الميت إذا كان قادرا على النهي ولم يقع منه، فلذلك بادر إلى نهي صهيب، وكذلك نهى حفصة كما رواه مسلم من طريق نافع عن ابن عمر عنه، وممن أخذ بظاهره أيضا عبد الله

(3/153)


ابن عمر فروى عبد الرزاق من طريقه أنه شهد جنازة رافع بن خديج فقال لأهله "إن رافعا شيخ كبير لا طاقة له بالعذاب، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" ويقابل قول هؤلاء قول من رد هذا الحديث وعارضه بقوله تعالى :{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وممن روي عنه الإنكار مطلقا أبو هريرة كما رواه أبو يعلى من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال أبو هريرة "والله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد فعمدت امرأته سفها وجهلا فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة" وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية منهم أبو حامد وغيره، ومنهم من أول قوله: "ببكاء أهله عليه" على أن الباء للحال، أي أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك أن شدة بكائهم غالبا إنما تقع عند دفنه، وفي تلك الحالة يسأل ويبتدأ به عذاب القبر، فكأن معنى الحديث أن الميت يعذب حالة بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سبا لتعذيبه حكاه الخطابي، ولا يخفى ما فيه من التكلف. ولعل قائله إنما أخذه من قول عائشة "إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن" أخرجه مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها، وعلى هذا يكون خاصا ببعض الموتى. ومنهم من أوله على أن الرواي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه، وأن اللام في الميت لمعهود معين كما جزم به القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره، وحجتهم ما سيأتي في رواية عمرة عن عائشة في رابع أحاديث الباب، وقد رواه مسلم من الوجه الذي أخرجه منه البخاري وزاد في أوله "ذكر لعائشة أن ابن عمر يقول أن الميت ليعذب ببكاء الحي، فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية "فذكرت الحديث. ومنهم من أوله على أن ذلك مختص بالكافر وأن المؤمن لا يعذب بذنب غيره أصلا، وهو بين من رواية ابن عباس عن عائشة وهو ثالث أحاديث الباب. وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيه إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر بل بما استشعرته من معارضه القرآن. قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة أثبتت ما نفته عمرة وعروة عنها، إلا أنها خصته بالكافر لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذابا ببكاء أهله، فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء؟ وقال القرطبي: إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضا ولم يسمع بعضا بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح. وقد جمع كثير من أهل العلم بين حديثي عمر وعائشة بضروب من الجمع: أولها طريقة البخاري كما تقدم توجيهها. ثانيها وهو أخص من الذي قبله ما إذا أوصى أهله بذلك وبه قال المزني وإبراهيم الحربي وآخرون من الشافعية وغيرهم حتى قال أبو الليث السمرقندي. إنه قول عامة أهل العلم، وكذا نقله النووي عن الجمهور قالوا: وكان معروفا للقدماء حتى قال طرفة بن العبد:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
واعترض بأن التعذيب بسبب الوصية يستحق بمجرد صدور الوصية، والحديث دال على أنه إنما يقع عند وقوع الامتثال. والجواب أنه ليس في السياق حصر، فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أنه لا يقع إذا لم يتمثلوا مثلا. ثالثها يقع ذلك أيضا لمن أهمل نهي أهله عن ذلك، وهو قول داود وطائفة، ولا يخفى أن محله ما إذا لم يتحقق أنه ليست لهم بذلك عادة، ولا ظن أنهم يفعلون ذلك قال ابن المرابط: إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النوح وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه فإذا عذب على ذلك عذب بفعل

(3/154)


نفسه لا بفعل غيره بمجرده. رابعها معنى قوله: " يعذب ببكاء أهله " أي بنظير ما يبكيه أهله به، وذلك أن الأفعال التي يعددون بها عليه غالبا تكون من الأمور المنهية فهم يمدحونه بها وهو يعذب بصنيعه ذلك وهو عين ما يمدحونه به، وهذا اختيار ابن حزم وطائفة، واستدل له بحديث ابن عمر الآتي بعد عشرة أبواب في قصة موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: "ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه". قال ابن حزم: فصح أن البكاء الذي يعذب به الإنسان ما كان منه باللسان إذ يندبونه برياسته التي جار فيها، وشجاعته التي صرفا في غير طاعة الله، وجوده الذي لم يضعه في الحق، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخر وهو يعذب بذلك. وقال الإسماعيلي كثر كلام العلماء في هذه المسألة وقال كل مجتهدا على حسب ما قدر له، ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغيرون ويسبون ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الأفعال المحرمة، فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به، لأن الميت يندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر، وهي زيادة ذنب من ذنوبه يستحق العذاب عليها. خامسها معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعا: "الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه واناصراه واكاسياه، جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها" ؟ ورواه ابن ماجه: "يتعتع به ويقال: أنت كذلك"؟ ورواه الترمذي بلفظ: "ما من ميت يموت فتقوم نادبته فتقول: واجبلاه واسنداه أو شبه ذلك من القول إلا وكل به ملكان يلهزانه، أهكذا كنت" ؟ وشاهده ما روى المصنف في المغازي من حديث النعمان بن بشير قال: "أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعت أخته تبكي وتقول: واجبلاه واكذا واكذا، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لي أنت كذلك"؟ سادسها معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها، وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين، ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين، واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة وهي بفتح القاف وسكون التحتانية وأبوها بفتح الميم وسكون المعجمة ثقفية "قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولدته فقاتل معك يوم الربذة ثم أصابته الحمى فمات ونزل علي البكاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا، وإذا مات استرجع، فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم" وهذا طرف من حديث طويل حسن الإسناد أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم. وأخرج أبو داود والترمذي أطرافا منه. قال الطبري: ويؤيد ما قاله أبو هريرة أن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم، ثم ساقه بإسناد صحيح إليه، وشاهده حديث النعمان بن بشير مرفوعا أخرجه البخاري في تاريخه وصححه الحاكم، قال ابن المرابط: حديث قيلة نص في المسألة فلا يعدل عنه. واعترضه ابن رشيد بأنه ليس نصا، وإنما هو محتمل، فإن قوله: "فيستعبر إليه صويحبه "ليس نصا في أن المراد به الميت، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي، وأن الميت يعذب حينئذ ببكاء الجماعة عليه، ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلا: من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته أو بالغ بذلك عذب بصنعه، ومن كان ظالما فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها فإن كان راضيا بذلك التحق بالأول وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كي أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم. والله

(3/155)


تعالى أعلم بالصواب. وحكى الكرماني تفصيلا آخر وحسنه وهو التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} على يوم القيامة، وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ. ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع في الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون الحال في البرزخ بخلاف يوم القيامة والله أعلم. ثم أورد المصنف في الباب خمسة أحاديث: الأول حديث أسامة, قوله: "حدثنا عبدان ومحمد" هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "عن أبي عثمان" هو النهدي كما صرح به في التوحيد من طريق حماد عن عاصم. وفي رواية شعبة في أواخر الطب عن عاصم سمعت أبا عثمان. قوله: "أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم" هي زينب كما وقع في رواية أبي معاوية عن عاصم المذكور في مصنف ابن أبي شيبة. قوله: "إن ابنا لي" قيل هو علي بن أبي العاص بن الربيع، وهو من زينب كذا كتب الدمياطي بخطه في الحاشية، وفيه نظر لأنه لم يقع مسمى في شيء من طرق هذا الحديث. وأيضا فقد ذكر الزبير بن بكار وغيره من أهل العلم بالأخبار أن عليا المذكور عاش حتى ناهز الحلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه على راحلته يوم فتح مكة، ومثل هذا لا يقال في حقه صبي عرفا، وإن جاز من حيث اللغة. ووجدت في الأنساب للبلاذري أن عبد الله بن عثمان بن عفان من رقية بن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره وقال: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء "وفي مسند البزار من حديث أبي هريرة قال ثقل ابن لفاطمة فبعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث الباب وفيه مراجعة سعد بن عبادة في البكاء، فعلى هذا فالابن المذكور محسن بن علي بن أبي طالب، وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيرا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أولى أن يفسر به الابن إن ثبت أن القصة كانت لصبي ولم يثبت أن المرسلة زينب، لكن الصواب في حديث الباب أن المرسلة زينب وإن الولد صبية كما ثبت في مسند أحمد عن أبي معاوية بالسند المذكور ولفظه: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بأمامة بنت زينب" زاد سعدان بن نصر في الثاني من حديثه عن أبي معاوية بهذا الإسناد "وهي لأبي العاص بن الربيع ونفسها تقعقع كأنها في شن" فذكر حديث الباب، وفيه مراجعة سعد بن عبادة. وهكذا أخرجه أبو سعيد بن الأعرابي في معجمه عن سعدان، ووقع في رواية بعضهم أميمة بالتصغير، وهي أمامة المذكورة، فقد اتفق أهل العلم بالنسب أن زينب لم تلد لأبي العاص إلا عليا وأمامة فقط، وقد استشكل ذلك من حيث أن أهل العلم بالأخبار اتفقوا على أن أمامة بنت أبي العاص من زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة، ثم عاشت عند علي حتى قتل عنها. ويجاب بأن المراد بقوله في حديث الباب: "أن ابنا لي قبض" أي قارب أن يقبض، ويدل على ذلك أن في رواية حماد "أرسلت تدعوه إلى ابنها في الموت" وفي رواية شعبة "أن ابنتي قد حضرت" وهو عند أبي داود من طريقه أن ابني أو ابنتي، وقد قدمنا أن الصواب قول من قال ابنتي لا ابني، ومؤيده ما رواه الطبراني في ترجمة عبد الرحمن بن عوف في المعجم الكبير من طريق الوليد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده قال: "استعز بأمامة بنت أبي العاص فبعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه تقول له" فذكر نحو حديث أسامة وفيه مراجعة سعد في البكاء وغير ذلك، وقوله في هذه الرواية: "استعز" بضم المثناة وكسر المهملة وتشديد الزاي أي اشتد بها المرض وأشرفت على الموت، والذي يظهر أن الله تعالى أكرم نبيه صلى الله عليه وسلم لما سلم لأمر ربه وصبر ابنته ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة بأن عافى الله ابنة ابنته في ذلك الوقت فخلصت من تلك الشدة وعاشت

(3/156)


تلك المدة، وهذا ينبغي أن يذكر في دلائل النبوة والله المستعان. قوله: "يقرئ السلام" بضم أوله. قوله: "إن لله ما أخذ وله ما أعطى" قدم ذكر الأخذ على الإعطاء - وإن كان متأخرا في الواقع - لما يقتضيه المقام، والمعنى أن الذي أراد الله أن يأخذه هو الذي كان أعطاه، فإن أخذه أخذ ما هو له، فلا ينبغي الجزع لأن مستودع الأمانة لا ينبغي له أن يجزع إذا استعيدت منه، ويحتمل أن يكون المراد بالإعطاء إعطاء الحياة لمن بقي بعد الميت، أو ثوابهم على المصيبة، أو ما هو أعم من ذلك. و "ما" في الموضعين مصدرية، ويحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف، فعل الأول التقدير لله الأخذ والإعطاء، وعلى الثاني لله الذي أخذه من الأولاد وله ما أعطى منهم، أو ما هو أعم من ذلك كما تقدم. قوله: "وكل" أي من الأخذ والإعطاء -أو من الأنفس- أو ما هو أعم من ذلك، وهي جملة ابتدائية معطوفة على الجملة المؤكدة، ويجوز في كل النصب عطفا على اسم أن فينسحب التأكيد أيضا عليه، ومعنى العندية العلم فهو من مجاز الملازمة، والأجل يطلق على الحد الأخير وعلى مجموع العمر، و قوله: "مسمى" أي معلوم مقدر أو نحو ذلك. قوله: "ولتحتسب" أي تنوي بصبرها طلب الثواب من ربها، ليحسب لها ذلك من عملها الصالح قوله: "فأرسلت إليه تقسم" وقع في حديث عبد الرحمن بن عوف أنها راجعته مرتين وأنه إنما قام في ثالث مرة، وكأنها ألحت عليه في ذلك دفعا لما يظنه بعض أهل الجهل أنها ناقصة المكانة عنده، أو ألهمها الله تعالى أن حضور نبيه عندها يدفع عنها ما هي فيه من الألم ببركة دعائه وحضوره، فحقق الله ظنها. والظاهر أنه امتنع أولا مبالغة في إظهار التسليم لربه، أو ليبين الجواز في أن من دعي لمثل ذلك لم تجب عليه الإجابة بخلاف الوليمة مثلا. قوله: "فقام ومعه" في رواية حماد "فقام وقام معه رجال" وقد سمي منهم غير من ذكر في هذه الرواية عبادة بن الصامت وهو في رواية عبد الواحد في أوائل التوحيد. وفي رواية شعبة أن أسامة راوي الحديث كان معهم. وفي رواية عبد الرحمن بن عوف أنه كان معهم، ووقع في رواية شعبة في الأيمان والنور وأبي أو أبي كذا فيه بالشك هل قالها بفتح الهمزة وكسر الموحدة وتخفيف الياء أو بضم الهمزة وفتح الموحدة والتشديد، فعلى الأول يكون معهم زيد بن حارثة أيضا لكن الثاني أرجح لأنه ثبت في رواية هذا الباب بلفظ: "وأبي بن كعب" والظاهر أن الشك فيه من شعبة لأن ذلك لم يقع في رواية غيره والله أعلم. قوله: "فرفع" كدا هنا بالراء. وفي رواية حماد "فدفع "بالدال وبين في رواية شعبة أنه وضع في حجره صلى الله عليه وسلم. وفي هذا السياق حذف والتقدير فمشوا إلى أن وصلوا إلى بيتها فاستأذنوا فأذن لهم فدخلوا فرفع، ووقع بعض هذا المحذوف في رواية عبد الواحد ولفظه: "فلما دخلنا ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي". قوله: "ونفسه تقعقع قال. حسبت أنه قال كأنها شن" كذا في هذه الرواية، وجزم بذلك في رواية حماد ولفظه: "ونفسه تقعقع كأنها في شن" والقعقعة حكاية صوت الشيء اليابس إذا حرك، والشن بفتح المعجمة وتشديد النون القربة الخلقة اليابسة، وعلى الرواية الثانية شبه البدن بالجلد اليابس الخلق وحركة الروح فيه بما يطرح في الجلد من حصاة ونحوها. وأما الرواية الأولى فكأنه شبه النفس بنفس الجلد وهو أبلغ قي الإشارة إلى شدة الضعف وذلك أظهر في التشبيه. قوله: "ففاضت عيناه" أي النبي صلى الله عليه وسلم وصرح به في رواية شعبة. قوله: "فقال سعد" أي ابن عبادة المذكور، وصرح به في رواية عبد الواحد، ووقع في رواية ابن ماجه من طريق عبد الواحد "فقال عبادة بن الصامت" والصواب ما في الصحيح. قوله: "ما هذا" في رواية عبد الواحد "فقال سعد بن عبادة أتبكي" زاد أبو نعيم في المستخرج "وتنهي عن البكاء". قوله: "فقال هذه" أي الدمعة أثر رحمة، أي أن

(3/157)


الذي يفيض من الدمع من حزن القلب بغير تعمد من صاحبه ولا استدعاء لا مؤاخذة عليه، وإنما المنهي عنه الجزع وعدم الصبر. قوله: "وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" في رواية شعبة في أواخر الطب "ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء" ومن في قوله من عباده بيانية، وهي حال من المفعول قدمه فيكون أوقع، والرحماء جمع رحيم وهو من صيغ المبالغة ومقتضاه أن رحمة الله تختص بمن اتصف بالرحمة وتحقق بها بخلاف من فيه أدنى رحمة، لكن ثبت في حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود وغيره: "الراحمون يرحمهم الرحمن" والراحمون جمع راحم فيدخل كل من فيه أدنى رحمة، وقد ذكر الحربي مناسبة الإتيان بلفظ الرحماء في حديث الباب بما حاصله أن لفظ الجلالة دال على العظمة، وقد عرف بالاستقراء أنه حيث ورد يكون الكلام مسوقا للتعظيم، فلما ذكر هنا ناسب ذكر من كثرت رحمته وعظمته ليكون الكلام جاريا على نسق التعظيم، بخلاف الحديث الآخر فإن لفظ الرحمن دال على العفو فناسب أن يذكر معه كل ذي رحمة وإن قلت، والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم جواز استحضار ذوي الفضل للمحتضر لرجاه بركتهم ودعائهم وجواز القسم عليهم لذلك، وجواز المشي إلى التعزية والعيادة بغير إذن بخلاف الوليمة، وجواز إطلاق اللفظ الموهم لما لم يقع بأنه يقع مبالغة في ذلك لينبعث خاطر المسؤول في المجيء للإجابة إلى ذلك، وفيه استحباب أبرار القسم وأمر صاحب المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت ليقع وهو مستشعر بالرضا مقاوما للحزن بالصبر، وإخبار من يستدعي بالأمر الذي يستدعى من أجله، وتقديم السلام على الكلام، وعيادة المريض ولو كان مفضولا أو صبيا صغيرا. وفيه أن أهل الفضل لا ينبغي أن يقطعوا الناس عن فضلهم ولو ردوا أول مرة، واستفهام التابع من إمامه عما يشكل عليه مما يتعارض ظاهره، وحسن الأدب في السؤال لتقديمه قوله: "يا رسول الله" على الاستفهام. وفيه الترغيب في الشفقة على خلق الله والرحمة لهم والترهيب من قساوة القلب وجمود العين، وجواز البكاء من غير نوح ونحوه. الحديث الثاني حديث أنس: قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو المسندي، وأبو عامر هو العقدي. قوله: "عن هلال" في رواية محمد بن سنان الآتية بعد أبواب "حدثنا هلال". قوله: "شهدنا بنتا للنبي صلى الله عليه وسلم" هي أم كلثوم زوج عثمان رواه الواقدي عن فليح بن سليمان بهذا الإسناد، وأخرجه ابن سعد في الطبقات في ترجمة أم كلثوم، وكذا الدولابي في الذرية الطاهرة، وكذلك رواه الطبري والطحاوي من هذا الوجه، ورواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فسماها رقية أخرجه البخاري في التاريخ الأوسط والحاكم في المستدرك، قال البخاري: ما أدري ما هذا، فإن رقية ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر لم يشهدها. قلت: وهم حماد في تسميتها فقط، ويؤيد الأول ما رواه ابن سعد أيضا في ترجمة أم كلثوم من طريق عمرة بنت عبد الرحمن قالت: نزل في حفرتها أبو طلحة. وأغرب الخطابي فقال: هذه البنت كانت لبعض بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسبت إليه. انتهى ملخصا. وكأنه ظن أن الميتة في حديث أنس هي المحتضرة في حديث أسامة، وليس كذلك كما بينته. قوله: "لم يقارف" بقاف وفاء، زاد ابن المبارك عن فليح "أراه يعني الذنب" ذكره المصنف في "باب من يدخل قبر المرأة" تعليقا، ووصله الإسماعيلي، وكذا سريج بن النعمان عن فليح أخرجه أحمد عنه، وقيل معناه لم يجامع تلك الليلة وبه جزم ابن حزم وقال: معاذ الله أن يتبجح أبو طلحة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يذنب تلك الليلة انتهى. ويقويه أن في رواية ثابت المذكورة بلفظ لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة، فتنحى عثمان. وحكي عن الطحاوي أنه قال: لم يقارف تصحيف، والصواب لم يقاول أي لم ينازع غيره الكلام، لأنهم كانوا يكرهون الحديث بعد العشاء وتعقب بأنه تغليط للثقة بغير

(3/158)


مستند، وكأنه استبعد أن يقع لعثمان ذلك لحرصه على مراعاة الخاطر الشريف. ويجاب عنه باحتمال أن يكون مرض المرأة طال واحتاج عثمان إلى الوقاع، ولم يظن عثمان أنها تموت ملك الليلة، وليس في الخبر ما يقتضي أنه واقع بعد موتها بل ولا حين احتضارها والعلم عند الله تعالى. وفي هذا الحديث جواز البكاء كما ترجم له، وإدخال الرجال المرأة قبرها لكونهم أقوى على ذلك من النساء، وإيثار البعيد العهد عن الملاذ في مواراة الميت -ولو كان امرأة- على الأب والزوج، وقيل إنما آثره بذلك لأنها كانت صنعته، وفيه نظر فإن ظاهر السياق أنه صلى الله عليه وسلم اختاره لذلك لكونه لم يقع منه في تلك الليلة جماع، وعلل ذلك بعضهم بأنه حينئذ يأمن من أن يذكره الشيطان بما كان منه تلك الليلة، وحكي عن ابن حبيب أن السر في إيثار أبي طلحة على عثمان أن عثمان كان قد جامع بعض جواريه في تلك الليلة فتلطف صلى الله عليه وسلم في منعه من النزول في قبر زوجته بغير تصريح، ووقع في رواية حماد المذكورة "فلم يدخل عثمان القبر "وفيه جواز الجلوس على شفير القبر عند الدفن، واستدل به على جواز البكاء بعد الموت، وحكى ابن قدامة في المغني عن الشافعي أنه يكره لحديث جبر بن عتيك في الموطأ فإن فيه: "فإذا وجب فلا تبكين باكية "يعني إذا مات. وهو محمول على الأولوية، والمراد لا ترفع صوتها بالبكاء، ويمكن أن يفرق بين الرجال والنساء في ذلك لأن النساء قد يفضي بهن البكاء إلى ما يحذر من النوح لقلة صبرهن، واستدل به بعضهم على جواز الجلوس عليه مطلقا وفيه نظر، وسيأتي البحث فيه في باب مفرد إن شاء الله تعالى. وفيه فضيلة لعثمان لإيثاره الصدق وإن كان عليه فيه غضاضة. الحديث الثالث قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "بنت لعثمان" هي أم أبان كما سيأتي من رواية أيوب. قوله. "وإني لجالس بينهما، أو قال جلست إلى أحدهما" هذا شك من ابن جريج، ولمسلم من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة قال: "كنت جالسا إلى جنب ابن عمر ونحن ننتظر جنازة أم أبان بنت عثمان وعنده عمرو من عثمان، فجاء ابن عباس يقوده قائده فأراه أخبره بمكان ابن عمر فجاء حتى جلس إلى جنبي فكنت بينهما، فإذا صوت من الدار" وفي رواية عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة عند الحميدي "فبكى النساء "فظهر السبب في قول ابن عمر لعمرو بن عثمان ما قال، والظاهر أن المكان الذي جلس فيه ابن عباس كان أوفق له من الجلوس بجنب ابن عمر، أو اختار أن لا يقيم ابن أبي مليكة من مكانه ويجلس فيه للنهي عن ذلك. قوله: "فلما أصيب عمر" يعني بالقتل، وأفاد أيوب في روايته أن ذلك كان عقب الحجة المذكورة ولفظه: "فلما قدمنا لم يلبث عمر أن أصيب" وفي رواية عمرو بن دينار "لم يلبث أن طعن". قوله: "قال ابن عباس: فلما مات عمر" هذا صريح في أن حديث عائشة من رواية ابن عباس عنها، ورواية مسلم توهم أنه من رواية ابن أبي مليكة عنها، والقصة كانت بعد موت عائشة لقوله فيها "فجاء ابن عباس يقوده قائده" فإنه إنما عمي في أواخر عمره، ويؤيد كون ابن أبي مليكة لم يحمله عنها أن عند مسلم في أواخر القصة "قال ابن أبي مليكة: وحدثني القاسم بن محمد قال لما بلغ عائشة قول ابن عمر قالت: إنكم لتحدثونني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ" وهذا يدل على أن ابن عمر كان قد حدث به مرارا. وسيأتي في الحديث الذي بعده أنه حدث بذلك أيضا لما مات رافع بن خديج. قوله: "ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم" بسكون نون لكن ويجوز تشديدها. قوله: "حسبكم" بسكون السين المهملة أي كافيكم "القرآن" أي في تأييد ما ذهبت إليه من رد الخبر. قوله: "قال ابن عباس عند ذلك" أي عند انتهاء حديثه عن عائشة "والله هو أضحك وأبكى" أي أن العبرة لا يملكها ابن آدم ولا تسبب له فيها فكيف يعاقب عليها فضلا عن الميت. وقال الداودي: معناه أن الله تعالى أذن في الجميل من

(3/159)


البكاء فلا يعذب على ما أذن فيه. وقال الطيبي: غرضه تقرير قول عائشة أي أن بكاء الإنسان وضحكه من الله يظهره فيه فلا أثر له في ذلك. قوله: "ما قال ابن عمر شيئا" قال الطيب وغيره: ظهرت لابن عمر الحجة فسكت مذعنا. وقال الزين بن المنير: سكوته لا يدل على الإذعان فلعله كره المجادلة في ذلك المقام. وقال القرطبي: ليس سكوته لشك طرأ له بعدما صرح برفع الحديث، ولكن احتمل عنده أن يكون الحديث قابلا للتأويل، ولم يتعين له محمل يحمله عليه إذ ذاك أو كان المجلس لا يقبل المماراة ولم تتعين الحاجة إلى ذلك حينئذ. ويحتمل أن يكون ابن عمر فهم من استشهاد ابن عباس بالآية قبول روايته لأنها يمكن أن يتمسك بها في أن لله أن يعذب بلا ذنب فيكون بكاء الحي علامة لذلك، أشار إلى ذلك الكرماني. الحديث الرابع قوله: "عن عبد الله بن أبي بكر" أي ابن محمد بن عمرو بن حزم. قوله: "إنما مر" كذا أخرجه من طريق مالك مختصرا، وهو في الموطأ بلفظ: "ذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه، فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما أنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر" وكذا أخرجه مسلم، وأخرجه أبو عوانة من رواية سفيان عن عبد الله بن أبي بكر كذلك وزاد: "أن ابن عمر لما مات رافع قال لهم: لا تبكوا عليه فإن بكاء الحي على الميت عذاب على الميت. قالت عمرة: فسألت عائشة عن ذلك فقالت: يرحمه الله إنما مر" فذكر الحديث، ورافع المذكور هو رافع بن خديج كما تقدمت الإشارة إليه في الحديث الأول. الحديث الخامس قوله: "عن أبي بردة" هو ابن أبي موسى الأشعري. قوله: "لما أصيب عمر جعل صهيب يقول وا أخاه" أخرجه مسلم من طريق عبد الملك بن عمير عن أبي بردة أتم من هذا السياق وفيه قول عمر "علام تبكي". قوله: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي" الظاهر أن الحي من يقابل الميت، ويحتمل أن يكون المراد به القبيلة وتكون اللام فيه بدل الضمير والتقدير يعذب ببكاء حيه أي قبيلته. فيوافق قوله في الرواية الأخرى "ببكاء أهله" وفي رواية مسلم المذكورة "من يبكي عليه يعذب" ولفظها أعم. وفيه دلالة على أن الحكم ليس خاصا بالكافر، وعلى أن صهيبا أحد من سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه نسيه حتى ذكره به عمر، وزاد فيه عبد الملك بن عمير عن أبي بردة "فذكرت ذلك لموسى بن طلحة فقال: كانت عائشة تقول إنما كان أولئك اليهود" أخرجه مسلم. قال الزين بن المنير: أنكر عمر على صهيب بكاءه لرفع صوته بقوله وا أخاه، ففهم منه أن إظهاره لذلك قبل موت عمر يشعر باستصحابه ذلك بعد وفاته أو زيادته عليه فابتدره بالإنكار لذلك والله أعلم. وقال ابن بطال: إن قيل كيف نهى صهيبا عن البكاء وأقر نساء بني المغيرة على البكاء على خالد كما سيأتي في الباب الذي يليه؟ فالجواب أنه خشي أن يكون رفعه لصوته من باب ما نهي عنه ولهذا قال في قصة خالد "ما لم يكن نقع أو لقلقة".

(3/160)


33 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ
وَالنَّقْعُ التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ وَاللَّقْلَقَةُ الصَّوْتُ
1291 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ"

(3/160)


1292 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ " تَابَعَهُ عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ وَقَالَ آدَمُ عَنْ شُعْبَةَ "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ"
قوله: "باب ما يكره من النياحة على الميت" قال الزين بن المنير: ما موصولة ومن لبيان الجنس فالتقدير: الذي يكره من جنس البكاء هو النياحة، والمراد بالكراهة كراهة التحريم لما تقدم من الوعيد عليه انتهى. ويحتمل أن تكون ما مصدرية ومن تبعيضية والتقدير كراهية بعض النياحة، أشار إلى ذلك ابن المرابط وغيره. ونقل ابن قدامة عن أحمد رواية أن بعض النياحة لا تحرم وفيه نظر، وكأنه أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم لم ينه عمة جابر لما ناحت عليه فدل على أن النياحة إنما تحرم إذا انضاف إليها فعل من ضرب خد أو شق جيب، وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن النياحة بعد هذه القصة لأنها كانت بأحد، وقد قال في أحد "لكن حمزة لا بواكي له" ثم نهى عن ذلك وتوعد عليه، وذلك بين فيما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم من طريق أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنساء بني عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد فقال: لكن حمزة لا بواكي له. فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ويحهن، ما انقلبن بعد، مروهن فلينقلبن، ولا يبكين على هالك بعد اليوم" وله شاهد أخرجه عبد الرزاق من طريق عكرمة مرسلا ورجاله ثقات. قوله: "وقال عمر: دعهن يبكين على أبي سليمان إلخ" هذا الأثر وصله المصنف في التاريخ الأوسط من طريق الأعمش عن شقيق قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة -أي ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم- وهن بنات عم خالد بن الوليد بن المغيرة يبكين عليه، فقيل لعمر: أرسل إليهن فانههن، فذكره. وأخرجه ابن سعد عن وكيع وغير واحد عن الأعمش. قوله: "ما لم يكن نقع أو لقلقة" بقافين الأولى ساكنة، وقد فسره المصنف بأن النقع التراب أي وضعه على الرأس، واللقلقة الصوت أي المرتفع وهذا قول الفراء، فأما تفسير اللقلقة فمتفق عليه كما قال أبو عبيد في غريب الحديث، وأما النقع فروى سعيد بن منصور عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: النقع الشق أي شق الجيوب، وكذا قال وكيع فيما رواه ابن سعد عنه. وقال الكسائي هو صنعة الطعام للمأتم، كأنه ظنه من النقيعة وهي طعام المأتم، والمشهور أن النقيعة طعام القادم من السفر كما سيأتي في آخر الجهاد، وقد أنكره أبو عبيد عليه وقال: الذي رأيت عليه أكثر أهل العلم أنه رفع الصوت، يعني بالبكاء. وقال بعضهم: هو وضع التراب على الرأس، لأن النقع هو الغبار. وقيل: هو شق الجيوب وهو قول شمر، وقيل: هو صوت لطم الخدود حكاه الأزهري. وقال الإسماعيلي معترضا على البخاري: النقع لعمري هو الغبار ولكن ليس هذا موضعه، وإنما هو هنا الصوت العالي، واللقلقة ترديد صوت النواحة انتهى. ولا مانع من حمله على المعنيين بعد أن فسر المراد بكونه وضع التراب على الرأس لأن ذلك من صنيع أهل المصائب، بل قال ابن الأثير: المرجح أنه وضع التراب على الرأس، وأما من فسره بالصوت فيلزم موافقته للقلقة، فحمل اللفظين على معنيين أولى من حملهما على معني واحد، وأجيب بأن بينهما مغايرة من وجه كما تقدم فلا مانع من إرادة ذلك. "تنبيه": كانت وفاة خالد بن الوليد بالشام سنة إحدى
ـــــــ
(1) مراده لما ناحت على أخيها عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما

(3/161)


وعشرين. قوله: "حدثنا سعيد بن عبيد" هو الطائي. قوله: "عن علي بن ربيعة" هو الأسدي، وليس له في البخاري غير هذا الحديث، والإسناد كله كوفيون، وصرح في رواية مسلم بسماع سعيد من علي ولفظه: "حدثنا"، والمغيرة هو ابن شعبة وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن سعيد بن عبيد وفيه علي بن ربيعة قال: "أتيت المسجد والمغيرة أمير الكوفة فقال: سمعت" فذكره. ورواه أيضا من طريق وكيع عن سعيد بن عبيد ومحمد بن قيس الأسدي كلاهما عن علي بن ربيعة قال: "أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب" وفي رواية الترمذي "مات رجل من الأنصار يقال له قرظة بن كعب فنيح عليه، فجاء المغيرة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال النوح في الإسلام" انتهى. وقرظة المذكور بفتح القاف والراء والظاء المشالة أنصاري خزرجي كان أحد من وجهه عمر إلى الكوفة ليفقه الناس، وكان على يده فتح الري، واستخلفه علي1 على الكوفة، وجزم ابن سعد وغير بأنه مات في خلافته وهو قول مرجوح لما ثبت في صحيح مسلم أن وفاته حيث كان المغيرة بن شعبة أميرا على الكوفة، وكانت إمارة المغيرة على الكوفة من قبل معاوية من سنة إحدى وأربعين إلى أن مات وهو عليها سنة خمسين. قوله: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد" أي "غيري"، ومعناه أن الكذب على الغير قد ألف واستسهل خطبه، وليس الكذب علي بالغا مبلغ ذاك في السهولة وإن كان دونه في السهولة فهو أشد منه في الإثم، وبهذا التقرير يندفع اعتراض من أورد أن الذي تدخل عليه الكاف أعلى والله أعلم. وكذا لا يلزم من إثبات الوعيد المذكور على الكذب عليه أن يكون الكذب على غيره مباحا، بل يستدل على تحريم الكذب على غيره بدليل آخر، والفرق بينهما أن الكذب عليه توعد فاعله بجعل النار له مسكنا بخلاف الكذب على غيره، وقد تقدمت بقية مباحث الحديث في كتاب العلم، ويأتي كثير منها في شرح حديث واثلة في أوائل مناقب قريش إن شاء الله تعالى. قوله: "من ينح عليه يعذب " ضبطه الأكثر بضم أوله وفتح النون وجزم المهملة على أن من شرطية وتجزم الجواب، ويجوز رفعه على تقدير فإنه يعذب، وروي بكسر النون وسكون التحتانية وفتح المهملة. وفي رواية الكشميهني: "من يناح" على أن "من" موصولة، وقد أخرجه الطبراني عن علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم بلفظ: "إذا نيح على الميت عذب بالنياحة عليه" وهو يؤيد الرواية الثانية. قوله: "بما نيح عليه" كذا للجميع بكسر النون، ولبعضهم ما نيح بغير موحدة على أن ما ظرفية. قوله: "عن سعيد بن المسيب" في رواية حدثنا سعيد. قوله: "تابعه عبد الأعلى" هو ابن حماد، وسعيد هو ابن أبي عروبة. قوله: "حدثنا قتادة" يعني عن سعيد بن المسيب إلخ، وقد وصله أبو يعلى في مسنده عن عبد الأعلى بن حماد كذلك. قوله: "وقال آدم عن شعبة" يعني بإسناد حديث الباب لكن بغير لفظ المتن وهو قوله: "يعذب ببكاء الحي عليه" تفرد آدم بهذا اللفظ، وقد رواه أحمد عن محمد بن جعفر غندر ويحيى بن سعيد القطان وحجاج بن محمد كلهم عن شعبة كالأول، وكذا أخرجه مسلم عن محمد بن بشار عن محمد بن جعفر، وأخرجه أبو عوانة من طريق أبي النضر وعبد الصمد بن عبد الوارث وأبي زيد الهروي وأسود بن عامر كلهم عن سعيد كذلك، وفي الحديث تقديم من يحدث كلاما يقتضي تصديقه فيما يحدث به فإن المغيرة قدم قبل تحديثه بتحريم النوح أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من الكذب على غيره، وأشار إلى أن الوعيد على ذلك يمنعه أن يخبر عنه بما لم يقل.
ـــــــ
(1) في نسخة أخرى "واستخلفه"

(3/162)


34 – باب – 1293- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ قَدْ مُثِّلَ بِهِ حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُجِّيَ ثَوْبًا فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُفِعَ فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ فَقَالُوا ابْنَةُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو قَالَ فَلِمَ تَبْكِي أَوْ لاَ تَبْكِي فَمَا زَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ"
قوله: "باب" كذا في رواية الأصيلي، وسقط من رواية أبي ذر وكريمة، وعلى ثبوته فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله كما تقدم تقريره غير مرة، وعلى التقديرين فلا بد له من تعلق بالذي قبله، وقد تقدم توجيهه في أول الترجمة. قوله: "قد مثل به" بضم الميم وتشديد المثلثة يقال مثل بالقتيل إذا جدع أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيء من أجزائه. والاسم المثلة بضم الميم وسكون المثلثة. قوله: "سجي ثوبا" بضم المهملة وتشديد الجيم الثقيلة أي غطي بثوب قوله: "ابنة عمرو أو أخت عمرو" هذا شك من سفيان، والصواب بنت عمرو وهي فاطمة بنت عمرو، وقد تقدم على الصواب من رواية شعبة عن ابن المنكدر في أوائل الجنائز بلفظ: "فذهبت عمتي فاطمة" ووقع في "الأكليل" للحاكم تسميتها هند بنت عمرو، فلعل لها اسمين أو أحدهما اسمها والأخر لقبها أو كانتا جميعا حاضرتين. قوله: "قال فلم؟ تبكي أو لا تبكي" هكذا في هذه الرواية بكسر اللام وفتح الميم على أنه استفهام عن غائبة، وأما قوله: "أو لا تبكي "فالظاهر أنه شك من الرواي هل استفهم أو نهى، لكن تقدم في أوائل الجنائز من رواية شعبة "تبكي أو لا تبكي "وتقدم شرحه على التخيير، ومحصله أن هذا الجليل القدر الذي تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يبكي عليه بل يفرح له بما صار إليه.

(3/163)


35 - باب لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ
1294 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ الْيَامِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ"
[الحديث 1294 – أطرافه في: 1297, 1298, 3519]
قوله: "باب ليس منا من شق الجيوب" قال الزين بن المنير: أفرد هذا القدر بترجمة ليشعر بأن النفي الذي حاصله التبري يقع بكل واحد من المذكورات لا بمجموعها. قلت: ويؤيده رواية لمسلم بلفظ: "أو شق الجيوب، أو دعا" إلخ. قوله: "حدثنا زبيد" بزاي وموحدة مصغر. قوله: "اليامي" بالتحتانية والميم الخفيفة وفي رواية الكشميهني: "الأيامي "بزيادة همزة في أوله. والإسناد كله كوفيون، ولسفيان وهو الثوري فيه إسناد آخر سيذكر بعد بابين. قوله: "ليس منا" أي من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست مني، أي ما أنت على طريقتي. وقال الزين بن المنير ما ملخصه: التأويل الأول يستلزم أن يكون الخبر إنما ورد عن أمر وجودي، وهذا يصان كلام الشارع عن الحمل عليه. والأولى أن يقال: المراد أن الواقع في ذلك يكون قد تعرض

(3/163)


لأن يهجر ويعرض عنه فلا يختلط بجماعة السنة تأديبا له على استصحابه حاله الجاهلية التي قبحها الإسلام، فهذا أولى من الحمل على ما لا يستفاد منه قدر زائد على الفعل الموجود. وحكي عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويله ويقول: ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر. وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل، أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله، حكاه ابن العربي. ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبري الأتي في حديث أبي موسى بعد باب حيث قال: "برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم" وأصل البراءة الانفصال من الشيء، وكأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته مثلا. وقال المهلب: قوله أنا بريء أي من فاعل ما ذكر وقت ذلك الفعل، ولم يرد نفيه عن الإسلام. قلت: بينهما واسطة تعرف مما تقدم أول الكلام، وهذا يدل على تحريم ما ذكر من شق الجيب وغيره. وكأن السبب في ذلك ما تضمنه ذلك من عدم الرضا بالقضاء، فإن وقع التصريح بالاستحلال مع العلم بالتحريم أو التسخط مثلا بما وقع فلا مانع من حمل النفي على الإخراج من الدين. قوله: "لطم الخدود" خص الخد بذلك لكونه الغالب في ذلك، وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك. قوله: "وشق الجيوب" جمع جيب بالجيم الموحدة وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقه إكمال فتحه إلى آخره وهو من علامات التسخط. قوله: "ودعا بدعوى الجاهلية" في رواية مسلم بدعوى أهل الجاهلية، أي من النياحة ونحوها، وكذا الندبة كقولهم: واجبلاه، وكذا الدعاء بالويل والثبور كما سيأتي بعد ثلاثة أبواب.

(3/164)


36 - باب رِثَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ
1295 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لاَ فَقُلْتُ بِالشَّطْرِ فَقَالَ لاَ ثُمَّ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ"
قوله: "باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة" سعد بالنصب علق المفعولية، وخولة بفتح المعجمة وسكون الواو والرثاء بكسر الراء وبالمثلثة بعدها مدة مدح الميت وذكر محاسنه، وليس هو المراد من الحديث حيث قال الراوي "يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولهذا اعترض الإسماعيلي الترجمة فقال: ليس هذا من مراثي الموتى وإنما هو من التوجع، يقال رثيته إذا مدحته بعد موته ورثيت له إذا تحزنت عليه. ويمكن أن يكون مراد البخاري هذا بعينه كأنه يقول ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من التحزن والتوجع وهو مباح، وليس معارضا لنهيه عن المراثي التي هي ذكر أوصاف الميت المباعثة على تهييج الحزن وتجديد اللوعة، وهذا هو المراد بما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه

(3/164)


الحاكم من حديث عيد الله بن أبي أوفى قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي" وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ: "نهانا أن نتراثى"، ولا شك أن الجامع بين الأمرين التوجع والتحزن. ويؤخذ من هذا التقرير مناسبة إدخال هذه الترجمة في تضاعيف التراجم المتعلقة بحال من يحضر الميت. قوله: "أن مات" بفتح الهمزة ولا يصح كسرها لأنها تكون شرطية والشرط لما يستقبل وهو قد كان مات، والمعنى أن سعد بن خولة وهو من المهاجرين من مكة إلى المدينة وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها وتركوها مع حبهم فيها لله تعالى، فمن ثم خشي سعد بن أبي وقاص أن يموت بها، وتوجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة لكونه مات بها، وأفاد أبو داود الطيالسي في روايته لهذا الحديث عن إبراهيم بن سعد عن الزهري أن القاتل يرثي له إلخ هو الزهري، ويؤيده أن هاشم بن هاشم وسعد بن إبراهيم رويا هذا الحديث عن عامر بن سعد فلم يذكرا ذلك فيه، وكذا في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها كما سيأتي في كتاب الوصايا مع بقية الكلام عليه وذكر الاختلاف في تسمية البنت المذكورة إن شاء الله تعالى.

(3/165)


باب ما ينهى عن الحلق عند المصيبة
...
37 - باب مَا يُنْهَى مِنْ الْحَلْقِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
1296 - وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا شَدِيدًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ"
قوله: "باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة" تقدم الكلام على هذا التركيب في "باب ما يكره من النياحة على الميت" وعلى الحكمة في اقتصاره على الحلق دون ما ذكر معه في الباب الذي قبله، وقوله: "عند المصيبة "مصر للحكم على تلك الحالة ومر واضح. قوله: "وقال الحكم بن موسى" هو القنطري بقاف مفتوحة ونون ساكنة، ووقع في رواية أبي الوقت "حدثنا الحكم" وهو وهم فإن الذين جمعوا رجال البخاري في صحيحه أطبقوا على ترك ذكره في شيوخه فدل على أن الصواب رواية الجماعة بصيغة التعليق. وقد وصله مسلم في صحيحه فقال: "حدثنا الحكم بن موسى" وكذا ابن حبان فقال: "أخبرنا أبو يعلى حدثنا الحكم". قوله: "عن عبد الرحمن بن جابر" هو ابن يزيد بن جابر، نسب إلى جده في هذه الرواية وصرح به في رواية مسلم، ومخيمرة بمعجمة وراء مصغر. قوله: "وجع" بكسر الجيم. قوله: "في حجر امرأة من أهله" زاد مسلم: "فصاحت" وله من وجه آخر من طريق أبي صخرة عن أبي بردة وغيره: "قالوا أغمي على أبي موسى، فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة" الحديث. وللنسائي من طريق يزيد بن أوس عن أم عبد الله امرأة أبي موسى عن أبي موسى فذكر الحديث دون القصة، ولأبي نعيم في المستخرج على مسلم من طريق ربعي قال: "أغمي على أبي موسى فصاحت امرأته بنت أبي دومة" فحصلنا على أنها أم عبد الله بنت أبي دومة، وأفاد عمر بن شبة في تاريخ البصرة أن اسمها صفية بنت دمون وأنها والدة أبي بردة بن أبي موسى وأن ذلك وقع حيث كان أبو موسى أميرا على البصرة من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قوله: "إني بريء" في رواية الكشميهني: "أنا بريء" وكذا لمسلم. قوله: "الصالقة" بالصاد المهملة والقاف أي التي ترفع صوتها بالبكاء، ويقال فيه بالسين المهملة بدل الصاد ومنه قوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} وعن ابن الأعرابي:

(3/165)


الصلق ضرب الوجه حكاه صاحب المحكم والأول أشهر، والحالقة التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة التي تشق ثوبها، ولفظ أبي صخرة عند مسلم: "أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق" أي حلق شعره وسلق صوته -أي رفعه- وخرق ثوبه، وقد تقدم الكلام على المراد بهذه البراءة قبل بباب.

(3/166)


38 - باب لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ
1297 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ"
قوله: "باب ليس منا من ضرب الخدود" وتقدم الكلام عليه قبل بابين. وعبد الرحمن المذكور في هذا الإسناد هو ابن مهدي.

(3/166)


39 - باب مَا يُنْهَى مِنْ الْوَيْلِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
1298 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ"
قوله: "باب ما ينهى من الويل ودعوى الجاهلية عند المصيبة" تقدم توجيه هذا التركيب، وهذه الترجمة مع حديثها سقطت للكشميهني وثبتت للباقين. ثم أورده المصنف حديث ابن مسعود من وجه آخر وليس فيه ذكر الويل المترجم به، وكأنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه، ففي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه وصححه ابن حبان: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور "، والظاهر أن ذكرى دعوى الجاهلية بعد ذكر الويل من العام بعد الخاص.

(3/166)


40 - باب مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ
1299 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ شَقِّ الْبَابِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ لَمْ يُطِعْنَهُ فَقَالَ انْهَهُنَّ فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ فَقُلْتُ أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَنَاءِ"
[الحديث 1299 – طرفاه في: 1305, 4263]

(3/166)


41 - باب مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ الْجَزَعُ الْقَوْلُ السَّيِّئُ وَالظَّنُّ السَّيِّئُ
وَقَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلاَم {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه}
1301 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "اشْتَكَى ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ قَالَ فَمَاتَ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ فَلَمَّا رَأَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ كَيْفَ الْغُلاَمُ قَالَتْ قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ قَالَ فَبَاتَ فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَانَ مِنْهُمَا" فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا" قَالَ سُفْيَانُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلاَدٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ
[الحديث 1301 – طرفه في: 5470]
قوله: "باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة" تقدم الكلام على ذلك في الترجمة التي قبلها، ويظهر بضم أوله من الرباعي وحزنه منصوب على المفعولية. قوله: "وقال محمد بن كعب" يعني القرظي بضم القاف وفتح الراء بعدها ظاء مشالة. قوله: "السيئ" بفتح المهملة وتشديد التحتانية بعدها أخرى مهموزة والمراد به ما يبعث الحزن غالبا، وبالطن السيئ اليأس من تعويض الله المصاب في العاجل ما هو أنفع له من الفائت، أو الاستبعاد لحصول ما وعد به من الثواب على الصبر. وقد روى ابن أبي حاتم في تفسير سورة سأل من طريق أيوب بن موسى عن القاسم بن محمد كقول محمد بن كعب هذا. قوله: "وقال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} قال الزين بن المنير: مناسبة هذه الآية للترجمة أن قول يعقوب لما تضمن أنه لا يشكو - بتصريح ولا تعريض - إلا لله وافق مقصود الترجمة، وكان خطابه بذلك لبنيه بعد قوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} . والبث بفتح الموحدة بعدها مثلثة ثقيلة شدة الحزن. قوله: "حدثنا بشر بن الحكم" هو النيسابوري، قال أبو نعيم في المستخرج: يقال إن هذا الحديث مما تفرد به البخاري عن بشر بن الحكم انتهى، يعني من هذا الوجه من حديث سفيان بن عيينة ولم يخرجه أبو نعيم ولا الإسماعيلي من طريق إسحاق إلا من جهة البخاري، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة وهو أخو إسحاق المذكور عن أنس، وأخرجه البخاري ومسلم من طريق أنس بن سيرين ومحمد بن سعد من طريق حميد الطويل كلاهما عن أنس، وأخرجه مسلم وابن سعد أيضا وابن حبان والطيالسي من طرق عن ثابت عن أنس أيضا. وفي رواية بعضهم ما ليس في رواية بعض، وسأذكر ما في كل من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى.

(3/169)


قوله: "اشتكى ابن لأبي طلحة" أي مرض، وليس المراد أنه صدرت منه شكوى، لكن لما كان الأصل أن المريض يحصل منه ذلك استعمل في كل مرض لكل مريض. والابن المذكور هو أبو عمير الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يمازحه ويقول له "يا أبا عمير، ما فعل النغير" كما سيأتي في كتاب الأدب، بين ذلك ابن حبان في روايته من طريق عمارة بن زاذان عن ثابت، وزاد من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت في أوله قصة تزويج أم سليم بأبي طلحة بشرط أن يسلم وقال فيه: "فحملت فولدت غلاما صبيحا فكان أبو طلحة يحبه حبا شديدا، فعاش حتى تحرك فمرض، فحزن أبو طلحة عليه حزنا شديدا حتى تضعضع، وأبو طلحة يغدو ويروح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراح روحة فمات الصبي" فأفادت هذه الرواية تسميه امرأة أبي طلحة، ومعني قوله: "وأبو طلحة خارج" أي خارج البيت عند النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر النهار. وفي رواية الإسماعيلي: "كان لأبي طلحة ولد فتوفي، فأرسلت أم سليم أنسا يدعو أبا طلحة، وأمرته أن لا يخبره بوفاة ابنه، وكان أبو طلحة صائما". قوله: "هيأت شيئا" قال الكرماني: أي أعددت طعاما لأبي طلحة وأصلحته، وقيل هيأت حالها وتزينت. قلت: بل الصواب أن المراد أنها هيأت أمر الصبي بأن غسلته وكفنته كما ورد في بعض طرقه صريحا، ففي رواية أبو داود الطيالسي عن مشايخه عن ثابت "فهيأت الصبي". وفي رواية حميد عند ابن سعد "فتوفي الغلام فهيأت أم سليم أمره". وفي رواية عمارة بن زاذان عن ثابت "فهلك الصبي فقامت أم سليم فغسلته وكفنته وحنطته وسجت عليه ثوبا". قوله: "ونحته في جانب البيت" أي جعلته في جانب البيت. وفي رواية جعفر عن ثابت "فجعلته في مخدعها". قوله: "هدأت" بالهمز أي سكنت و "نفسه" بسكون الفاء كذا للأكثر، والمعنى أن النفس كانت قلقة منزعجة بعارض المرض فسكنت بالموت، وظن أبو طلحة أن مرادها أنها سكنت بالنوم لوجود العافية. وفي رواية أبي ذر "هدأ نفسه" بفتح الفاء أي سكن، لأن المريض يكون نفسه عاليا فإذا زال مرضه سكن، وكذا إذا مات. ووقع في رواية أنس بن سيرين "هو أسكن ما كان"، ونحوه في رواية جعفر عن ثابت. وفي رواية معمر عن ثابت "أمسى هادئا "وفي رواية حميد "بخير ما كان"، ومعانيها متقاربة. قوله: "وأرجو أن يكون قد استراح" لم تجزم بذلك على سبيل الأدب، ويحتمل أنها لم تكن علمت أن الطفل لا عذاب عليه ففوضت الأمر إلى الله تعالى، مع وجود رجائها بأنه استراح من نكد الدنيا. قوله: "وظن أبو طلحة أنها صادقة" أي بالنسبة إلى ما فهمه من كلامها، وإلا فهي صادقة بالنسبة إلى ما أرادت. قوله: "فبات" أي معها "فلما أصبح اغتسل" فيه كناية عن الجماع، لأن الغسل إنما يكون في الغالب منه، وقد وقع التصريح بذلك في غير هذه الرواية: ففي رواية أنس بن سيرين "فقربت إليه العشاء فتعشى، ثم أصاب منها". وفي رواية عبد الله "ثم تعرضت له فأصاب منها". وفي رواية حماد عن ثابت "ثم تطيبت"، زاد جعفر عن ثابت "فتعرضت له حتى وقع بها" وفي رواية سليمان عن ثابت "ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها". قوله: "فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات" زاد سليمان بن المغيرة عن ثابت عند مسلم: "فقالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوما أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك. فغضب وقال تركتني حتى تلطخت، ثم أخبرتني بابني". وفي رواية عبد الله "فقالت: يا أبا طلحة، أرأيت قوما أعاروا متاعا ثم بدا لهم فيه فأخذوه فكأنهم وجدوا في أنفسهم" زاد حماد في روايته عن ثابت "فأبوا أن يردوها، فقال أبو طلحة: ليس لهم ذلك، أن العارية مؤداة إلى أهلها. ثم اتفقا، فقالت: إن الله أعارنا فلانا ثم أخذه منا",

(3/170)


زاد حماد "فاسترجع". قوله: "لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما" في رواية الأصيلي: "لهما في ليلتهما" ووقع في رواية أنس بن سيرين "اللهم بارك لهما "ولا تعارض بينهما فيجمع بأنه دعا بذلك ورجا إجابة دعائه، ولم تختلف الرواة عن ثابت وكذا عن حميد في أنه قال: "بارك الله لكما في ليلتكما" وعرف من رواية أنس بن سيرين أن المراد الدعاء وإن كان لفظه لفظ الخبر. وفي رواية أنس بن سيرين من الزيادة "فولدت غلاما" وفي رواية عبد الله بن عبد الله "فجاءت بعبد الله بن أبي طلحة" وسيأتي الكلام على قصة تحنيكه وغير ذلك حيث ذكره المصنف في العقيقة. قوله: "قال سفيان" هو ابن عيينة بالإسناد المذكور. قوله: "فقال رجل من الأنصار إلخ" هو عباية بن رفاعة، لما أخرجه سعيد بن منصور ومسدد وابن سعد والبيهقي في "الدلائل" كلهم من طريق سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة قال: "كانت أم أنس تحت أبي طلحة" فذكر القصة شبيهة بسياق ثابت عن أنس. وقال في آخره: "فولدت له غلاما، قال عباية: فلقد رأيت لذلك الغلام سبع بنين كلهم قد ختم القرآن" وأفادت هذه الرواية أن في رواية سفيان تجوزا في قوله: "لهما" لأن ظاهره أنه من ولدهما بغير واسطة، وإنما المراد من أولاد ولدهما المدعو له بالبركة وهو عبد الله بن أبي طلحة. ووقع في رواية سفيان "تسعة" وفي هذه "سبعة" فلعل في أحدهما تصحيفا، أو المراد بالسبعة من ختم القرآن كله وبالتسعة من قرأ معظمه، وله من الولد فيما ذكر ابن سعد وغيره من أهل العلم بالأنساب إسحاق وإسماعيل وعبد الله ويعقوب وعمر والقاسم وعمارة وإبراهيم وعمير وزيد ومحمد، وأربع من البنات. وفي قصة أم سليم هذه من الفوائد أيضا جواز الأخذ بالشدة وترك الرخصة مع القدرة عليها، والتسلية عن المصائب، وتزين المرأة لزوجها، وتعرضها لطلب الجماع منه، واجتهادها في عمل مصالحه، ومشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها. وشرط جوازها أن لا تبطل حقا لمسلم. وكان الحامل لأم سليم على ذلك المبالغة في الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء إخلافه عليها ما فات منها، إذ لو أعلمت أبا طلحة بالأمر في أول الحال تنكد عليه وقته ولم تبلغ الغرض الذي أرادته، فلما علم الله صدق نيتها بلغها مناها وأصلح لها ذريتها. وفيه إجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأن من ترك شيئا عوضه الله خيرا منه، وببان حال أم سليم من التجلد وجودة الرأي وقوة العزم، وسيأتي في الجهاد والمغازي أنها كانت تشهد القتال وتقوم بخدمة المجاهدين إلى غير ذلك مما انفردت به عن معظم النسوة، وسيأتي شرح حديث أبي عمير ما فعل النغير مستوفى في أواخر كتاب الأدب، وفيه بيان ما كان سمي به غير الكنية التي اشتهر بها.

(3/171)


42 - باب الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
نِعْمَ الْعِدْلاَنِ وَنِعْمَ الْعِلاَوَةُ {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ}
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}
1302 - حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن ثابت قال سمعت أنسا رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصبر عند الصدمة الأولى"

(3/171)


قوله "باب الصبر عند الصدمة الأولى" أي هو المطلوب المبشر عليه بالصلاة والرحمة، ومن هنا تظهر مناسبة إيراد أثر عمر في هذا الباب، وقد تقدم الكلام على المتن المرفوع مستوفى في زيارة القبور. قوله: "وقال عمر" أي ابن الخطاب. قوله: "العدلان" بكسر المهملة أي المثلان، و قوله: "العلاوة" بكسرها أيضا أي ما يعلق على البعير بعد تمام الحمل. وهذا الأثر وصله الحاكم في المستدرك من طريق جرير عن منصور عن مجاهد عن سعيد بن المسيب عن عمر كما ساقه المصنف وزاد: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} نعم العدلان {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} نعم العلاوة. وهكذا أخرجه البيهقي عن الحاكم، وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره من وجه آخر عن منصور من طريق نعيم بن أبي هند عن عمر نحوه، وظهر بهذا مراد عمر بالعدلين وبالعلاوة وأن العدلين الصلاة والرحمة والعلاوة الاهتداء. ويؤيده وقوعهما بعد "على" المشعرة بالفوقية المشعرة بالحمل قاله الزين بن المنير. وقد روي نحو قول عمر مرفوعا أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون - إلى قوله: - المهتدون"، قال فأخبر أن المؤمن إذا سلم لأمر الله واسترجع كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله والرحمة، وتحقيق سبل الهدى. فأغنى هذا عن التكلف في ذلك كقول المهلب: العدلان إنا لله وإنا إليه راجعون والعلاوة الثواب عليهما، وعن قول الكرماني: الظاهر أن المراد بالعدلين القول وجزاؤه، أي قول الكلمتين ونوعا الثواب لأنهما متلازمان. قوله: "وقوله تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} الآية" هو بالجر عطفا على أول الترجمة، والتقدير: وباب قوله تعالى، أي تفسيره أو نحو ذلك. وقوله وإنها قيل أفرد الصلاة لأن المراد بالصبر الصوم وهو من التروك أو الصبر عن الميت ترك الجزع، والصلاة أفعال وأقوال فلذلك ثقلت على غير الخاشعين، ومن أسرارها أنها تعين على الصبر لما فيها من الذكر والدعاء والخضوع وكلها تضاد حب الرياسة وعدم الانقياد للأوامر والنواهي، وكأن المصنف أراد بإيراد هذه الآية ما جاء عن ابن عباس أنه نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ثم قام وهو يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} الآية، أخرجه الطبري في تفسيره بإسناد حسن، وعن حذيفة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى" أخرجه أبو داود بإسناد حسن أيضا. قال الطبري: الصبر منع النفس محابها وكفها عن هواها، ولذلك قيل لمن لم يجزع صابر لكفه نفسه، وقيل لرمضان شهر الصبر لكف الصائم نفسه عن المطعم والمشرب.

(3/172)


43 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ
1303 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا قُرَيْشٌ هُوَ ابْنُ حَيَّانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَم فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ

(3/172)


يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ" رَوَاهُ مُوسَى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ المُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا بك لمحزونون" قال ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: تدمع العين ويحزن القلب" سقطت هذه الترجمة والأثر قي رواية الحموي وثبتت للباقين، وحديث ابن عمر كأن المراد به ما أورده المصنف في الباب الذي بعد هذا إلا أن لفظه: "إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب" فيحتمل أن يكون ذكره بالمعنى لأن ترك المؤاخذة بذلك يستلزم وجوده، وأما لفظه فثبت في قصة موت إبراهيم من حديث أنس عند مسلم، وأصله عند المصنف كما في هذا الباب، وعن عبد الرحمن بن عوف عند ابن سعد والطبراني، وأبي هريرة عند ابن حبان والحاكم، وأسماء بنت يزيد عند ابن ماجه، ومحمود بن لبيد عند ابن سعد، والسائب بن يزيد وأبي أمامة عند الطبراني. قوله: "حدثني الحسن بن عبد العزيز" هو الجروي بفتح الجيم والراء منسوب إلى جروة بفتح الجيم وسكون الراء قرية من قرى تنيس، وكان أبوه أميرها فتزهد الحسن ولم يأخذ من تركة أبيه شيئا، وكان يقال إنه نظير قارون في المال، والحسن المذكور من طبقة البخاري ومات بعده بسنة وليس له عنده سوى هذا الحديث وحديثين آخرين في التفسير. قوله: "حدثني يحيي بن حسان" هو التنيسي أدركه البخاري ولم يلقه لأنه مات قبل أن يدخل مصر، وقد روى عنه الشافعي مع جلالته ومات قبله بمدة، فوقع للحسن نظير ما وقع لشيخه من رواية إمام عظيم الشأن عنه ثم يموت قبله. قوله: "حدثنا قريش هو ابن حيان" هو بالقاف والمعجمة وأبوه بالمهملة والتحتانية بصري يكنى أبا بكر. قوله: "على أبي سيف" قال عياض هو البراء بن أوس، وأم سيف زوجته هي أم بردة واسمها خوله بنت المنذر. قلت: جمع بذلك بين ما وقع في هذا الحديث الصحيح وبين قول الواقدي فيما رواه ابن سعد في الطبقات عنه عن يعقوب بن أبي صعصعة عن عبد الله بن أبي صعصعة قال: "لما ولد له إبراهيم تنافست فيه نساء الأنصار أيتهن ترضعه، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد من بني عدي بن النجار وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد من بني عدي بن النجار أيضا، فكانت ترضعه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه في بني النجار" انتهى. وما جمع به غير مستبعد، إلا أنه لم يأت عن أحد من الأئمة التصريح بأن البراء بن أوس يكنى أبا سيف ولا أن أبا سيف يسمى البراء بن أوس. قوله: "القين" بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون هو الحداد، ويطلق على كل صانع، يقال قان الشيء إذا أصلحه. قوله: "ظئرا" بكسر المعجمة وسكون التحتانية المهموزة بعدها راء أي مرضعا، وأطلق عليه ذلك لأنه كان زوج المرضعة، وأصل الظئر من ظأرت الناقة إذا عطفت على غير ولدها فقيل ذلك للتي ترضع غير ولدها، وأطلق ذلك على زوجها لأنه يشاركها في تربيته غالبا. قوله: "لإبراهيم" أي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع التصريح بذلك في رواية سليمان بن المغيرة المعلقة بعد هذا ولفظه عند مسلم في أوله "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين بالمدينة يقال له أبو سيف، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته فانتهى إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره وقد امتلأ البيت دخانا، فأحرمت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا أبا سيف أمسك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" لمسلم أيضا من طريق عمرو بن سعيد عن أنس "ما رأيت أحدا

(3/173)


كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إبراهيم مسترضعا في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وأنه ليدخن وكان ظئره قينا". قوله: "وإبراهيم يجود بنفسه" أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ماله. وفي رواية سليمان "يكيد" قال صاحب المعين أي يسوق بها، وقيل معناه يقارب بها الموت. وقال أبو مروان بن سراج: قد يكون من الكيد وهو القيء يقال منه كاد يكيد شبه تقلع نفسه عند الموت بذلك. قوله: "تذرفان" بذال معجمة وفاء أي يجري دمعهما. قوله: "وأنت يا رسول الله"؟ قال الطيبي. فيه معنى التعجب، والواو تستدعي معطوفا عليه أي الناس لا يصبرون على المصيبة وأنت تفعل كفعلهم، كأنه تعجب لذلك منه مع عهده منه أنه يحث على الصبر وينهى عن الجزع، فأجابه بقوله: "إنها رحمة " أي الحالة التي شاهدتها مني هي رقة القلب على الولد لا ما توهمت من الجزع انتهى. ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه "فقلت يا رسول الله تبكي، أو لم تنه عن البكاء" وزاد فيه: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان قال. إنما هذا رحمة ومن لا يرحم لا يرحم" . وفي رواية محمود بن لبيد فقال: "إنما أنا بشر" ، وعند عبد الرزاق من مرسل مكحول "إنما أنهى الناس عن النياحة أن يندب الرجل بما ليس فيه ". قوله: "ثم أتبعها بأخرى" في رواية الإسماعيلي: "ثم أتبعها والله بأخرى" بزيادة القسم، قيل أراد به أنه أتبع الدمعة الأولى بدمعة أخرى، وقيل أتبع الكلمة الأولى المجملة وهي قوله: "إنها رحمة "بكلمة أخرى مفصلة وهي قوله: "أن العين تدمع " ويؤيد الثاني ما تقدم من طريق عبد الرحمن ومرسل مكحول. قوله: "أن العين تدمع إلخ" في حديث عبد الرحمن بن عوف ومحمود بن لبيد "ولا نقول ما يسخط الرب "وزاد في حديث عبد الرحمن في آخره: "لولا أنه أمر حق ووعد صدق وسبيل نأتيه، وإن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا" ونحوه في حديث أسماء بنت يزيد ومرسل مكحول وزاد في آخره: "وفصل رضاعه في الجنة" وفي آخر حديث محمود بن لبيد "وقال أن له مرضعا في الجنة" ومات وهو ابن ثمانية عشر شهرا، وذكر الرضاع وقع في آخر حديث أنس عند مسلم من طريق عمرو بن سعيد عنه، إلا أن ظاهر سياقه الإرسال، فلفظه: "قال عمرو فلما توفي إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين يكملان رضاعه في الجنة" وسيأتي في أواخر الجنائز حديث البراء "أن لإبراهيم لمرضعا في الجنة" . "فائدة في وقت وفاة إبراهيم عليه السلام": جزم الواقدي بأنه مات يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر. وقال ابن حزم: مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، واتفقوا على أنه ولد في ذي الحجة سنة ثمان. قال ابن بطال وغيره: هذا الحديث يفسر البكاء المباح والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى. وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمه، ومشروعية الرضاع، وعيادة الصغير، والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال، وجواز الإخبار عن الحزن وإن كان الكتمان أولى، وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ولده مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب لوجهين: أحدهما صغره، والثاني نزاعه. وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق. وفيه جواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله ليظهر الفرق، وحكى ابن التين قول من قال: إن فيه دليلا على تقبيل الميت وشمه، ورده بأن القصة إنما وقعت قبل الموت وهو كما قال. قوله: "رواه موسى" هو ابن إسماعيل التبوذكي وطريقه هذه وصلها

(3/174)


البيهقي في "الدلائل" من طريق تمتام وهو بمثناتين لقب محمد بن غالب البغدادي الحافظ عنه، وفي سياقه ما ليس في سياق قريش بن حيان، وإنما أراد البخاري أصل الحديث.

(3/175)


44 - باب الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَرِيضِ
1304 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ الأَنْصَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ قَدْ قَضَى قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَوْا فَقَالَ: "أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا وَيَرْمِي بِالْحِجَارَةِ وَيَحْثِي بِالتُّرَابِ
قوله: "باب البكاء عند المريض" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر، قال الزين بن المنير: ذكر المريض أعم من أن يكون أشرف على الموت أو هو في مبادئ المرض، لكن البكاء عادة إنما يقع عند ظهور العلامات المخوفة كما في قصة سعد بن عبادة في حديث هذا الباب. قوله: "أخبرني عمرو" هو ابن الحارث المصري. قوله: "عن سعيد بن الحارث الأنصاري" هو ابن أبي سعيد بن المعلى قاضي المدينة. ووقع في رواية مسلم من طريق عمارة بن غزية عن سعيد بن الحارث بن المعلى فكأنه نسب أباه لجده. قوله: "اشتكى" أي ضعف و "شكوى" بغير تنوين. قوله: "فلما دخل عليه" زاد مسلم في رواية عمارة بن غزية "فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه". قوله: "في غاشية أهله" بمعجمتين أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها، وسقط لفظ: "أهله" من أكثر الروايات، وعليه شرح الخطابي، فيجوز أن يكون المراد بالغاشية الغشية من الكرب، ويؤيده ما وقع في رواية مسلم في غشيته. وقال التوربشتي: الغاشية هي الداهية من شر أو من مرض أو من مكروه، والمراد ما يتغشاه من كرب الوجع الذي هو فيه لا الموت، لأنه أفاق من تلك المرضة وعاش بعدها زمانا. قوله: "فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا" في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه ولم يعترضه بمثل ما اعترض به هناك، فدل على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر. قوله: "فقال ألا تسمعون" لا يحتاج إلى مفعول لأنه جعل كالفعل اللازم، أي ألا توجدون السماع، وفيه إشارة إلى أنه فهم من بعضهم الإنكار، فبين لهم الفرق بين الحالتين. قوله: "إن الله" بكسر الهمزة لأنه ابتداء كلام. قوله: "يعذب بهذا" أي إن قال سوءا. قوله: "أو يرحم" إن قال خيرا، ويحتمل أن يكون معنى قوله: "أو يرحم" أي إن لم ينفذ الوعيد. قوله: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" أي بخلاف غيره، ونظيره قوله في قصة عبد الله بن ثابت التي أخرجها مالك في الموطأ من حديث جابر بن عتيك، ففيه: "فصاح النسوة، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهن فإذا وجبت فلا تبكين باكية" الحديث. قوله: "وكان عمر" هو موصول بالإسناد المذكور إلى ابن عمر، وسقطت هذه الجملة وكذا التي قبلها من رواية مسلم،

(3/175)


ولهذا ظن بعض الناس أنهما معلقان. وفي حديث ابن عمر من الفوائد استحباب عيادة المريض، وعيادة الفاضل للمفضول، والإمام أتباعه مع أصحابه، وفيه النهي عن المنكر وبيان الوعيد عليه.

(3/176)


45 - باب مَا يُنْهَى مِنْ النَّوْحِ وَالْبُكَاءِ وَالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ
قوله: "باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك" قال الزين بن المنير: عطف الزجر على النهي للإشارة إلى المؤاخذة الواقعة في الحديث بقوله: "فاحث في أفواههن التراب".
1305 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ "لَمَّا جَاءَ قَتْلُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ شَقِّ الْبَابِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ قَدْ نَهَيْتُهُنَّ وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنِي أَوْ غَلَبْنَنَا الشَّكُّ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ فَزَعَمَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ " فَقُلْتُ أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَنَاءِ"
1306 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَنْ لاَ نَنُوحَ فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ أُمِّ سُلَيْمٍ وَأُمِّ الْعَلاَءِ وَابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةِ مُعَاذٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ ابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةِ مُعَاذٍ وَامْرَأَةٍ أُخْرَى"
[الحديث 1306 – طرفاه في: 4892, 7215]
قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب" بمهملة وشين معجمة وزن جعفر ثقة من أهل الطائف نزل الكوفة، ذكر الأصيلي أنه لم يرو عنه غير البخاري، وليس كذلك بل روى عنه أيضا محمد بن مسلم بن وارة الرازي كما ذكره المزي في التهذيب، وعبد الوهاب شيخه هو ابن عبد المجيد الثقفي، وقد تقدم الكلام على حديث عائشة قبل أربعة أبواب. قوله: "حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب" هو الحجبي، وحماد هو ابن زيد، ومحمد هو ابن سيرين، والإسناد كله بصريون. وقد رواه عارم عن حماد فقال: "عن أيوب عن حفصة "بدل محمد أخرجه الطبراني، وله أصل عن حفصة كما سيأتي في الأحكام من طريق عبد الوارث عن أيوب عنها، فكأن حمادا سمعه من أيوب عن كل منهما. قوله: "عند البيعة" أي لما بايعهن على الإسلام. قوله: "فما وفت" أي بترك النوح. وأم سليم هي بنت ملحان والدة أنس، وأم العلاء تقدم ذكرها في ثالث باب من كتاب الجنائز، وابنة أبي سبرة بفتح المهملة وسكون الموحدة، وأما قوله أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ فهو شك من أحد رواته هل ابنة أبي سبرة هي امرأة معاذ أو غيرها، وسيأتي في كتاب الأحكام من رواية حفصة عن أم عطية بالشك أيضا، والذي يظهر لي أن الرواية بواو العطف أصح لأن امرأة معاذ وهو ابن جبل هي أم عمرو بنت خلاد بن عمرو السلمية ذكرها ابن سعد، فعلى هذا فابنة أبي سبرة غيرها. ووقع في "الدلائل"

(3/176)


لأبي موسى من طريق حفصة عن أم عطية "وأم معاذ" بدل قوله وامرأة معاذ وكذا في رواية عارم، لكن لفظه: "أو أم معاذ بنت أبي سبرة" وفي الطبراني من رواية ابن عون عن ابن سيرين عن أم عطية "فما وفت غير أم سليم وأم كلثوم وامرأة معاذ بن أبي سبرة" كذا فيه والصواب ما في الصحيح امرأة معاذ وبنت أبي سبرة، ولعل بنت أبي سبرة يقال لها أم كلثوم، وإن كانت الرواية التي فيها أم معاذ محفوظة فلعلها أم معاذ بن جبل وهي هند بنت سهل الجهنية ذكرها ابن سعد أيضا، وعرف بمجموع هذه النسوة الخمس وهي أم سليم وأم العلاء وأم كلثوم وأم عمرو وهند - إن كانت الرواية محفوظة - وإلا فيختلج في خاطري أن الخامسة هي أم عطية راوية الحديث. ثم وجدت ما يؤيده من طريق عاصم عن حفصة عن أم عطية بلفظ: "فما وقت غيري وغير أم سليم" أخرجه الطبراني أيضا. ثم وجدت ما يرده وهو ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت: "كان فيما أخذ علينا أن لا ننوح" الحديث، فزاد في آخره: "وكانت لا تعد نفسها لأنها لما كان يوم الحرة لم تزل النساء بها حتى قامت معهن فكانت لا تعد نفسها لذلك" ويجمع بأنها تركت عد نفسها من يوم الحرة. قلت: يوم الحرة قتل فيه من الأنصار من لا يحصى عدده ونهبت المدينة الشريفة وبذل فيها السيف ثلاثة أيام وكان ذلك في أيام يزيد بن معاوية، وفي حديث أم عطية مصداق ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن ناقصات عقل ودين. وفيه فضيلة ظاهرة للنسوة المذكورات، قال عياض: معنى الحديث لم يف ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم مع أم عطية في الوقت الذي بايعت فيه النسوة إلا المذكورات، لا أنه لم يترك النياحة من المسلمات غير خمسة. وسيأتي الكلام على بقية فوائده في تفسير سورة الممتحنة إن شاء الله تعالى.

(3/177)


46 - باب الْقِيَامِ لِلْجَنَازَةِ
قوله: "باب القيام للجنازة" إي إذا مرت على من ليس معها، وأما قيام من كان معها إلى أن توضع بالأرض فسيأتي في ترجمة مفردة.
وسنذكر اختلاف العلماء في كل منهما فيما بعد.
1307 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ" قَالَ سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَادَ الْحُمَيْدِيُّ "حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ"
[الحديث 1307 – طرفه في: 1308]
قوله: "حتى تخلفكم" بضم أوله وفتح المعجمة وتشديد اللام المكسورة بعدها فاء أي تترككم وراءها، ونسبة ذلك إليها على سبيل المجاز لأن المراد حاملها. قوله: "قال سفيان" هذا السياق لفظ الحميدي في مسنده، ويحتمل أن يكون علي بن عبد الله حدث به على السياقين فقال مرة "عن سفيان حدثنا الزهري عن سالم" وقال مرة "قال الزهري أخبرني سالم" والمراد من السياقين أن كلا منهما سمعه من شيخه.
قوله: "زاد الحميدي" يعني عن سفيان بهذا الإسناد، وقد رويناه موصلا في مسنده، وأخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريقه كذلك، وكذا أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وثلاثة معه أربعتهم عن سفيان بالزيادة إلا أنه في سياقهم بالعنعنة، وفي هذا الإسناد رواية تابعي عن تابعي وصحابي عن صحابي في نسق والله أعلم.

(3/177)


47 - باب مَتَى يَقْعُدُ إِذَا قَامَ لِلْجَنَازَةِ
1308 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ جَنَازَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا أَوْ تُخَلِّفَهُ أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ"
1309 - حدثنا أحمد بن يونس حدثنا بن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه قال "كنا في جنازة فأخذ أبو هريرة رضي الله عنه بيد مروان فجلسا قبل أن توضع فجاء أبو سعيد رضي الله عنه فأخذ بيد مروان فقال قم فوالله لقد علم هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك فقال أبو هريرة صدق"
[الحديث 1309 – طرفه في: 1310]
قوله: "باب متى يقعد إذا قام للجنازة" سقط هذا الباب والترجمة من رواية المستملي وثبتت الترجمة دون الباب لرفيقه. قوله: "حتى يخلفها أو تخلفه" شك من البخاري، أو من قتيبة حين حدثه به، وقد رواه النسائي عن قتيبة ومسلم عن قتيبة ومحمد بن رمح كلاهما عن الليث فقالا: "حتى تخلفه" من غير شك. قوله: "أو توضع من قبل أن تخلفه" فيه بيان للمراد من رواية سالم الماضية، وقد أخرجه مسلم من طريق ابن جريج عن نافع بلفظ: "إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه إذا كان غير متبعها".

(3/178)


48 - باب مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلاَ يَقْعُدُ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ فَإِنْ قَعَدَ أُمِرَ بِالْقِيَامِ
1310 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ -يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ- حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا فَمَنْ تَبِعَهَا فَلاَ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ"
قوله: "باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال" كأنه أشار بهذا إلى ترجيح رواية من روى في حديث الباب: "حتى توضع بالأرض" على رواية من روى "حتى توضع في اللحد" وفيه اختلاف على سهيل بن أبي صالح عن أبيه، قال أبو داود: رواه أبو معاوية عن سهيل فقال: "حتى توضع في اللحد"، وخالفه الثوري وهو أحفظ فقال: "في الأرض" انتهى، ورواه جرير عن سهيل فقال: "حتى توضع" حسب، وزاد: "قال سهيل: ورأيت أبا صالح لا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال" أخرجه أبو نعيم في المستخرج بهذه الزيادة، وهو في مسلم بدونها، وفي المحيط للحنفية: الأفضل أن يهال عليها التراب، وحجتهم رواية أبي معاوية، ورجح الأول عند البخاري بفعل أبي صالح لأنه راوي الخبر أعرف بالمراد منه، ورواية أبي معاوية مرجوحة كما قال أبو داود. قوله: "فإن قعد أمر بالقيام" فيه إشارة إلى أن القيام في هذا لا يفوت بالقعود، لأن المراد به تعظيم أمر الموت، وهو لا يفوت بذلك. وأما قول المهلب: قعود أبي هريرة ومروان يدل على أن القيام ليس بواجب وأنه ليس عليه العمل، فإن أراد أنه ليس بواجب عندهما فظاهر، وإن أراد في نفس الأمر فلا دلالة فيه على ذلك. ويدل على الأول ما رواه الحاكم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فساق نحو

(3/178)


القصة المذكورة وزاد: "إن مروان لما قال له أبو سعيد قم قام، ثم قال له: لم أقمتني؟ فذكر الحديث. فقال لأبي هريرة: فما منعك أن تخبرني؟ قال: كنت إماما فجلست". فعرف بهذا أن أبا هريرة لم يكن يراه واجبا، وأن مروان لم يكن يعرف حكم المسألة قبل ذلك، وأنه بادر إلى العمل بها بخبر أبي سعيد. وروى الطحاوي من طريق الشعبي عن أبي سعيد قال: "مر على مروان بجنازة فلم يقم، فقال له أبو سعيد. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت عليه جنازة فقام، فقام مروان" وأظن هذه الرواية مختصرة من القصة. وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أكثر الصحابة والتابعين باستحبابه كما نقله ابن المنذر، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن، وروى البيهقي من طريق أبي حازم الأشجعي عن أبي هريرة وابن عمر وغيرهما أن القائم مثل الحامل، يعني في الأجر. وقال الشعبي والنخعي: يكره القعود قبل أن توضع. وقال بعض السلف: يجب القيام، واحتج له برواية سعيد عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا "ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة قط فجلس حتى توضع" أخرجه النسائي. "تنبيهان" الأول: قال الزين بن المنير: إنما نوع هذه التراجم مع إمكان جمعها في ترجمة واحدة للإشارة إلى الاعتناء بها وما يختص كل طريق منها بحكمة، ولأن بعض ذلك وقع فيما ليس على شرطه فاكتفى بذكره في الترجمة لصلاحيته للاستدلال. "الثاني": قال ثبت بين حديثي الباب ترجمة لفظها "باب من تبع جنازة "وجد ذلك في نسخة محررة مسموعة، فإن سقطت في غيرها قدم من أثبت على من نفى، قال: وإنما لم يستغن عنها بما قبلها لتصريحه في الخبر بأنهما جلسا قبل أن توضع، وأطال في تقرير ذلك وأن ذكرها أولى من حذفها. وهو عجيب منه فإن الذي تضمنه الحديث الثاني من الزيادة قد اشتملت عليه الترجمة الأولى، وليس في الترجمة زيادة على ما في الحديثين إلا قوله: "عن مناكب الرجال" وقد ذكرت من وقعت في روايته. قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، وهشام هو الدستوائي، ويحيى هو ابن أبي كثير، وحديث أبي سعيد هذا أبين سياقا من حديث عامر بن ربيعة، وهو يوضح أن المراد بالغاية المذكورة من كان معها أو مشاهدا لها، وأما من مرت به فليس عليه من القيام إلا قدر ما تمر عليه أو توضع عنده بأن يكون بالمصلى مثلا. وروى أحمد من طريق سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة مرفوعا: "من صلى على جنازة ولم يمش معها فليقم حتى تغيب عنه، وإن مشى معها فلا يقعد حتى توضع" وفي هذا السياق بيان لغاية القيام، وأنه لا يختصن بمن مرت به، ولفظ القيام يتناول من كان قاعدا، فأما من كان راكبا فيحتمل أن يقال ينبغي له أن يقف ويكون الوقوف في حقه كالقيام في حق القاعد، واستدل بقوله: "فإن لم يكن معها" على أن شهود الجنازة لا يجب على الأعيان.

(3/179)


49 - باب مَنْ قَامَ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ
1311 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "مرَّ بِنَا جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْنَا بِهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ قَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا"
1312 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ "كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ

(3/179)


-أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ- فَقَالاَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ أَلَيْسَتْ نَفْسًا"
1313 - وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ كُنْتُ مَعَ قَيْسٍ وَسَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالاَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى كَانَ أَبُو مَسْعُودٍ وَقَيْسٌ يَقُومَانِ لِلْجَنَازَةِ"
قوله: "باب من قام لجنازة يهودي" أي أو نحوه من أهل الذمة. قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي و "يحيى" هو ابن أبي كثير. قوله: "مر بنا" بضم الميم على البناء للمجهول. وفي رواية الكشميهني: "مرت "بفتح الميم. قوله: "فقام" زاد غير كريمة: "لها". قوله: "فقمنا" في رواية أبي ذر "وقمنا" بالواو، وزاد الأصيلي وكريمة: "له" والضمير للقيام أي لأجل قيامه، وزاد أبو داود من طريق الأوزاعي عن يحيى "فلما ذهبنا لنحمل قيل إنها جنازة يهودي "زاد البيهقي من طريق أبي قلابة الرقاشي عن معاذ بن فضالة شيخ البخاري فيه: "فقال إن الموت فزع" وكذا لمسلم من وجه آخر عن هشام. قال القرطبي: معناه أن الموت يفزع منه، إشارة إلى استعظامه، ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت، لما يشعر ذلك من التساهل بأمر الموت، قمن ثم استوى فيه كون الميت مسلما أو غير مسلم. وقال غيره: جعل نفس الموت فزعا مبالغة كما يقال رجل عدل، قال البيضاوي: هو مصدر جرى مجرى الوصف للمبالغة، وفيه تقدير أي الموت ذو فزع انتهى. ويؤيد الثاني رواية أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "إن للموت فزعا" أخرجه ابن ماجه، وعن ابن عباس مثله عند البزار قال: وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب، ولا يظهر منه عدم الاحتفال والمبالاة. قوله: "فمروا عليهما" في رواية المستملي والحموي "عليهم" أي على قيس وهو ابن سعد بن عبادة وسهل وهو ابن حنيف ومن كان حينئذ معهما. قوله: "من أهل الأرض أي من أهل الذمة" كذا فيه بلفظ أي التي يفسر بها، وهي رواية الصحيحين وغيرهما، وحكى ابن التين عن الداودي أنه شرحه بلفظ أو التي للشك. وقال: لم أره لغيره، وقيل لأهل الذمة أهل الأرض لأن المسلمين لما فتحوا البلاد أقروهم على عمل الأرض وحمل الخراج. قوله: "أليست نفسا" هذا لا يعارض التعليل المتقدم حيث قال: "إن للموت فزعا "على ما تقدم، وكذا ما أخرجه الحاكم من طريق قتادة عن أنس مرفوعا فقال: "إنما قمنا للملائكة"، ونحوه لأحمد من حديث أبي موسى، ولأحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: "إنما تقومون إعظاما للذي يقبض النفوس" ولفظ ابن حبان: "إعظاما لله الذي يقبض الأرواح" فإن ذلك أيضا لا ينافي التعليل السابق، لأن القيام للفزع من الموت فيه تنظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة، وأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي قال: "إنما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم أذيا بريح اليهودي" زاد الطبراني من حديث عبد الله بن عياش بالتحتانية والمعجمة "فأذاه ريح بخورها" وللطبراني والبيهقي من وجه آخر عن الحسن "كراهية أن تعلو رأسه" فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة، أما أولا فلأن أسانيدها لا تقاوم تلك في الصحة، وأما ثانيا فلأن التعليل بذلك راجع إلى ما فهمه الراوي، والتعليل الماضي صريح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فكأن الراوي لم يسمع التصريح بالتعليل منه فعلل باجتهاده. وقد روى ابن أبي شيبة

(3/180)


من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه يزيد بن ثابت قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلعت جنازة، فلما رآها قام وقام أصحابه حتى بعدت، والله ما أدري من شأنها أو من تضايق المكان، وما سألناه عن قيامه" ومقتضى التعليل بقوله: "أليست نفسا" أن ذلك يستحب لكل جنازة، وإنما اقتصر في الترجمة على اليهودي وقوفا مع لفظ الحديث، وقد اختلف أهل العلم في أصل المسألة فذهب الشافعي إلى أنه غير واجب فقال: هذا إما أن يكون منسوخا أو يكون قام لعلة، وأيهما كان فقد ثبت أنه تركه بعد فعله، والحجة في الآخر من أمره، والقعود أحب إلي انتهى. وأشار بالترك إلى حديث علي "إنه صلى الله عليه وسلم قام للجنازة ثم قعد "أخرجه مسلم، قال البيضاوي: يحتمل قول علي "ثم قعد" أي بعد أن جاوزته وبعدت عنه، ويحتمل أن يريد كان يقوم في وقت ثم ترك القيام أصلا، وعلى هذا يكون فعله الأخير قرينة في أن المراد بالأمر الوارد في ذلك الندب، ويحتمل أن يكون نسخا للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر، والأول أرجح لأن احتمال المجاز -يعني في الأمر- أولى من دعوى النسخ انتهى. والاحتمال الأول يدفعه ما رواه البيهقي من حديث علي أنه أشار إلى قوم قاموا أن يجلسوا ثم حدثهم الحديث، ومن ثم قال بكراهة القيام جماعة منهم سليم الرازي وغيره من الشافعية. وقال ابن حزم: قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام يدل على أن الأمر للندب، ولا يجوز أن يكون نسخا لأن النسخ لا يكون إلا بنهي أو بترك معه نهي انتهى. وقد ورد معنى النهي من حديث عبادة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم للجنازة، فمر به حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل، فقال: اجلسوا وخالفوهم" أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي، فلو لم يكن إسناده ضعيفا لكان حجة في النسخ. وقال عياض: ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث علي، وتعقبه النووي بأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع وهو هنا ممكن قال: والمختار أنه مستحب، وبه قال المتولي انتهى. وقول صاحب المهذب هو على التخيير كأنه مأخوذ من قول الشافعي المتقدم لما تقضيه صيغة أفعل من الاشتراك، ولكن القعود عنده أولى، وعكسه قول ابن حبيب وابن الماجشون من المالكية: كان قعوده صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز، فمن جلس فهو في سعة، ومن قام فله أجر. واستدل بحديث الباب على جواز إخراج جنائز أهل الذمة نهارا غير متميزة عن جنائز المسلمين، أشار إلى ذلك الزين بن المنير قال: وإلزامهم بمخالفة رسوم المسلمين وقع اجتهادا من الأئمة. ويمكن أن يقال إذا ثبت النسخ للقيام تبعه ما عداه، فيحمل على أن ذلك كان عند مشروعية القيام، فلما ترك القيام منع من الإظهار. قوله: "وقال أبو حمزة" هو السكري، وعمرو هو ابن مرة المذكور في الإسناد الذي قبله، وقد وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق عبدان عن أبي حمزة ولفظه نحو حديث شعبة، إلا أنه قال في روايته: فمرت عليهما جنازة فقاما، ولم يقل فيه بالقادسية. وأراد المصنف بهذا التعليق بيان سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى لهذا الحديث من سهل وقيس. قوله: "وقال زكرياء" هو ابن أبي زائدة، وطريقه هذه موصولة عند سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة عنه، وأبو مسعود المذكور فيها هو البدري، ويجمع بين ما وقع فيه من الاختلاف بأن عبد الرحمن بن أبي ليلى ذكر قيسا وسهلا مفردين لكونهما رفعا له الحديث، وذكره مرة أخرى عن قيس وأبي مسعود لكون أبي مسعود لم يرفعه. والله أعلم.

(3/181)


50 - باب حَمْلِ الرِّجَالِ الْجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ
1314 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ

(3/181)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ قَدِّمُونِي وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإِنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ"
[الحديث 1314 – طرفاه في: 1316, 1380]
قوله: "باب حمل الرجال الجنازة دون النساء" قال ابن رشيد: ليست الحجة من حديث الباب بظاهرة في منع النساء، لأنه من الحكم المعلق على شرط. وليس فيه أن لا يكون الواقع إلا ذلك، لو سلم فهو من مفهوم اللقب. ثم أجاب بأن كلام الشارع مهما أمكن حمله على التشريع لا يحمل على مجرد الإخبار عن الواقع، ويؤيده العدول عن المشاكلة في الكلام حيث قال: إذا وضعت فاحتملها الرجال، ولم يقل فاحتملت، فلما قطع احتملت عن مشاكلة وضعت دل على قصد تخصيص الرجال بذلك، وأيضا فجواز ذلك للنساء وإن كان يؤخذ بالبراءة الأصلية لكنه معارض بأن في الحمل على الأعناق والأمر بالإسراع مظنة الانكشاف غالبا، وهو مباين. للمطلوب منهن من التستر مع ضعف نفوسهن عن مشاهدة الموتى غالبا فكيف بالحمل، مع ما يتوقع من صراخهن عند حمله ووضعه وغير ذلك من وجوه المفاسد انتهى ملخصا. وقد ورد ما هو أصرح من هذا في منعهن، ولكنه على غير شرط المصنف، ولعله أشار إليه وهو ما أخرجه أبو يعلى من حديث أنس1 قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأى نسوة فقال: أتحملنه؟ قلن: لا. قال: أتدفنه؟ قلن: لا. قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات". ونقل النووي في "شرح المهذب" أنه لا خلاف في هذه المسألة بين العلماء، والسبب فيه ما تقدم، ولأن الجنازة لا بد أن يشيعها الرجال فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال فيفضي إلى الفتنة. وقال ابن بطال: قد عذر الله النساء لضعفهن حيث قال: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الآية، وتعقبه الزين بن المنير بأن الآية لا تدل على اختصاصهن بالضعف بل على المساواة انتهى. والأولى أن ضعف النساء بالنسبة إلى الرجال من الأمور المحسوسة التي لا تحتاج إلى دليل خاص. قوله: "عن أبيه أنه سمع أبا سعيد" لسعيد المقبري فيه إسناد آخر رواه ابن أبي ذئب عنه عن عبد الرحمن بن مهران عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن حبان وقال: الطريقان جميعا محفوظان. قوله: "إذا وضعت الجنازة" في رواية ابن أبي ذئب المذكورة "إذا وضع الميت على السرير" فدل على أن المراد بالجنازة الميت، وقد تقدم أن هذا اللفظ يطلق على الميت وعلى السرير الذي يحمل عليه أيضا، وسيأتي بقية الكلام عليه بعد باب.
ـــــــ
1 وأصح من الحديث فيما يتعلق بنهي النساء عن حمل الجنازة ما تقدم من حديث أم عطية قالت "نهينا عن اتباع الجنائز, ولم يعزم علينا" أخرجه الشيخان. والله أعلم

(3/182)


51 - باب السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ. وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ وَامْشِ بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا وَقَالَ غَيْرُهُ قَرِيبًا مِنْهَا
1315 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي

(3/182)


هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ"
قوله: "باب السرعة بالجنازة" أي نعد أن تحمل. قوله: "وقال أنس: أنتم مشيعون، فامش" وفي رواية الكشميهني: "فامشوا" وأثر أنس هذا وصله عبد الوهاب بن عطاء الخفاف في "كتاب الجنائز" له عن حميد عن أنس بن مالك أنه "سئل عن المشي في الجنازة فقال: أمامها وخلفها، وعن يمينها وشمالها، إنما أنتم مشيعون". ورويناه عاليا في "رباعيات أبي بكر الشافعي" من طريق يزيد بن هرون عن حميد كذلك، وبنحوه أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش عن حميد، وأخرجه عبد الرزاق عن أبي جعفر الرازي عن حميد "سمعت العيزار - يعني ابن حريث - سأل أنس بن مالك - يعني عن المشي مع الجنازة - فقال: إنما أنت مشيع" فذكر نحوه، فاشتمل على فائدتين: تسمية السائل، والتصريح بسماع حميد. قال الزين بن المنير: مطابقة هذا الأثر للترجمة أن الأثر يتضمن التوسعة على المشيعين وعدم التزامهم جهة معينة، وذلك لما علم من تفاوت أحوالهم في المشي، وقضية الإسراع بالجنازة أن لا يلزموا بمكان واحد يمشون فيه لئلا يشق على بعضهم ممن يضعف في المشي عمن يقوى عليه، ومحصله أن السرعة لا تتفق غالبا إلا مع عدم التزام المشي في جهة معينة فتناسبا، وقد سبق إلى نحو ذلك أبو عبد الله بن المرابط فقال: قول أنس ليس من معنى الترجمة إلا من وجه أن الناس في مشيهم متفاوتون. وقال ابن رشيد: ويمكن أن يقال لفظ المشي والتشييع في أثر أنس أعم من الإسراع والبطء، فلعله أراد أن يفسر أثر أنس بالحديث، قال: ويمكن أن يكون أراد أن يبين بقول أنس أن المراد بالإسراع ما لا يخرج عن الوقار لمتبعها بالمقدار الذي يصدق عليه به المصاحبة. قوله: "وقال غيره قريبا منها" أي قال غير أنس مثل قول أنس وقيد ذلك بالقرب من الجنازة لأن من بعد عنها يصدق عليه أيضا أنه مشى أمامها وخلفها مثلا، والغير المذكور أظنه عبد الرحمن بن قرط بضم القاف وسكون الراء بعدها مهملة، قال سعيد بن منصور "حدثنا مسكين بن ميمون حدثني عروة بن رويم قال شهد عبد الرحمن بن قرط جنازة، فرأى ناسا تقدموا وآخرين استأخروا، فأمر بالجنازة فوضعت، ثم رماهم بالحجارة حتى اجتمعوا إليه، ثم أمر بها فحملت ثم قال: بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها" وعبد الرحمن المذكور صحابي ذكر البخاري ويحيي بن معين أنه كان من أهل الصفة وكان واليا على حمص في زمن عمر، ودل إيراد البخاري لأثر أنس المذكور على اختيار هذا المذهب هو التخيير في المشي مع الجنازة، وهو قول الثوري وبه قال ابن حزم لكن قيده بالماشي اتباعا لما أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث المغيرة بن شعبة مرفوعا: "الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها "وعن النخعي أنه إن كان في الجنازة نساء مشى أمامها وإلا فخلفها، وفي المسألة مذهبان آخران مشهوران: فالجمهور على أن المشي أمامها أفضل، وفيه حديث لابن عمر أخرجه أصحاب السنن ورجاله رجال الصحيح إلا أنه اختلف في وصله وإرساله، ويعارضه ما رواه سعيد بن منصور وغيره من طريق عبد الرحمن بن أبزى عن علي قال: "المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ "إسناده حسن، وهو موقوف له حكم المرفوع، لكن حكى الأثرم عن أحمد أنه تكلم في إسناده، وهو قول الأوزاعي وأبي حنيفة ومن تبعهما. قوله: "حفظناه من الزهري" في رواية المستملي: "عن" بدل من، والأول أولى لأنه يقتضي سماعه منه بخلاف رواية المستملي، وقد صرح الحميدي في مسنده بسماع سفيان له من الزهري.

(3/183)


قوله: "عن سعيد بن المسيب" كذا قال سفيان وتابعه معمر وابن أبي حفصة عند مسلم، وخالفهم يونس فقال: "عن الزهري حدثني أبو أمامة بن سهل عن أبي هريرة" وهو محمول على أن للزهري فيه شيخين. قوله: "أسرعوا" نقل ابن قدامة أن الأمر فيه للاستحباب بلا خلاف بين العلماء، وشذ ابن حزم فقال بوجوبه، والمراد بالإسراع شدة المشي وعلى ذلك حمله بعض السلف وهو قول الحنفية. قال صاحب الهداية: ويمشون بها مسرعين دون الخبب، وفي المبسوط: ليس فيه شيء مؤقت، غير أن العجلة أحب إلى أبي حنيفة، وعن الشافعي والجمهور المراد بالإسراع ما فوق سجية المشي المعتاد، ويكره الإسراع الشديد. ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال: من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد، ومن كرهه أراد الإفراط فيه كالرمل. والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم، قال القرطبي: مقصود الحديث أن لا يتباطأ بالميت عن الدفن، ولأن التباطؤ ربما أدى إلى التباهي والاختيال. قوله: "بالجنازة" أي بحملها إلى قبرها، وقيل المعنى بتجهيزها، فهو أعم من الأول، قال القرطبي: والأول أظهر. وقال النووي: الثاني باطل مردود بقوله في الحديث: "تضعونه عن رقابكم". وتعقبه الفاكهي بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما تقول حمل فلان على رقبته ذنوبا، فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه، قال: ويؤيده أن الكل لا يحملونه انتهى. ويؤيده حديث ابن عمر "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره "أخرجه الطبراني بإسناد حسن، ولأبي داود من حديث حصين بن وحوح مرفوعا: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله" الحديث. قوله: "فإن تك صالحة" أي الجثة المحمولة. قال الطيبي: جعلت الجنازة عين الميت، وجعلت الجنازة التي هي مكان الميت مقدمة إلى الخير الذي كني به عن عمله الصالح. قوله: "فخير" هو خبر مبتدأ محذوف أي فهو خير، أو مبتدأ خبره محذوف أي فلها خير، أو فهناك خير، ويؤيده رواية مسلم بلفظ: "قربتموها إلى الخير" ويأتي في قوله بعد ذلك "فشر "نظير ذلك. قوله: "تقدمونها إليه" الضمير راجع إلى الخير باعتبار الثواب، قال ابن مالك: روي "تقدمونه إليها "فأنث الضمير على تأويل الخير بالرحمة أو الحسنى. قوله: "تضعونه عن رقابكم" استدل به على أن حمل الجنازة يختص بالرجال للإتيان فيه بضمير المذكر ولا يخفى ما فيه. وفيه استحباب المبادرة إلى دفن الميت، لكن بعد أن يتحقق أنه مات، أما مثل المطعون والمفلوج والمسبوت1 فينبغي أن لا يسرع بدفنهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم، نبه على ذلك ابن بزيزة، ويؤخذ من الحديث ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين.
ـــــــ
1 المطعون: هو المصاب بالطاعون, وهو داء معروف. والمفلوج: المصاب بالفالج. والمسبوت: المصاب بالغشية , يقال سبت المريض إذا غشي عليه. والتحديد في تحقيق موت مثل هؤلاء باليوم والليلة فيه نظر, والأولى عدم التحديد, بل يرجع إلى العلامات الدالة على الموت, فمتى وجد منها ما يدل على يقين الموت اكتفى بذلك وإن لم يمض يوم وليلة, والله أعلم.

(3/184)


52 - باب قَوْلِ الْمَيِّتِ وَهُوَ عَلَى الْجِنَازَةِ: قَدِّمُونِي
1316 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً

(3/184)


قَالَتْ قَدِّمُونِي وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لِأَهْلِهَا يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإِنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَ الإِنْسَانُ لَصَعِقَ"
قوله: "باب قول الميت وهو على الجنازة" أي السرير "قدموني" أي إن كان صالحا.ثم أورد فيه حديث أبي سعيد السابق قبل باب. قوله: "إذا وضعت الجنازة" يحتمل أن يريد بالجنازة نفس الميت وبوضعه جعله في السرير، ويحتمل أن يريد السرير والمرد وضعها على الكتف، والأول أولى لقوله بعد ذلك "فإن كانت صالحة قالت: "فإن المراد به الميت. ويؤيده رواية عبد الرحمن بن مهران عن أبي هريرة المذكور بلفظ: "إذا وضع المؤمن على سريره يقول قدموني" الحديث. وظاهره أن قائل ذلك هو الجسد المحمول على الأعناق. وقال ابن بطال: إنما يقول ذلك الروح، ورده ابن المنير بأنه لا مانع أن يرد الله الروح إلى الجسد في تلك الحال ليكون ذلك زيادة في بشرى المؤمن وبؤس الكافر، وكذا قال غيره وزاد: ويكون ذلك مجازا باعتبار ما يؤول إليه الحال بعد إدخال القبر وسؤال الملكين. قلت: وهو بعيد ولا حاجة إلى دعوى إعادة الروح إلى الجسد قبل الدفن لأنه يحتاج إلى دليل، فمن الجائز أن يحدث الله النطق في الميت إذا شاء. وكلام ابن بطال فيما يظهر لي أصوب. وقال ابن بزيرة. قوله في آخر الحديث: "يسمع صوتها كل شيء" دال على أن ذلك بلسان القال لا بلسان الحال. قوله: "وإن كانت غير ذلك" في رواية الكشميهني: "غير صالحة". قوله: "قالت لأهلها" قال الطيبي: أي لأجل أهلها إظهارا لوقوعه في الهلكة، وكل من وقع في الهلكة دعا بالويل. ومعني النداء يا حزني. وأضاف الويل إلى ضمير الغائب حملا على المعنى كراهية أن يضيف الويل إلى نفسه، أو كأنه لما أبصر نفسه غير صالحة نفر عنها وجعلها كأنها غيره. ويؤيد الأول أن في رواية أبي هريرة المذكورة "قال يا ويلتاه أين تذهبون بي" فدل على أن ذلك من تصرف الرواة. قوله: "لصعق" أي لغشي عليه من شدة ما يسمعه، وربما أطلق ذلك على الموت، والضمير في يسمعه راجع إلى دعائه بالويل أي يصيح بصوت منكر لو سمعه الإنسان لغشي عليه قال ابن بزيزة: هو مختص بالميت الذي هو غير صالح، وأما الصالح فمن شأنه اللطف والرفق في كلامه فلا يناسب الصعق من سماع كلامه انتهى: ويحتمل أن يحصل الصعق من سماع كلام الصالح لكونه غير مألوف، وقد روى أبو القاسم بن منده هذا الحديث في "كتاب الأهوال" بلفظ: "لو سمعه الإنسان لصعق من المحسن والمسيء" فإن كان المراد به المفعول دل على وجود الصعق عند سماع كلام الصالح أيضا، وقد استشكل هذا مع ما ورد في حديث السؤال في القبر فيضربه ضربة فيصعق صعقة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، والجامع بينهما الميت والصعق، والأول استثني فيه الإنس فقط، والثاني استثني فيه الجن والإنس. والجواب أن كلام الميت بما ذكر لا يقتضي وجود الصعق - وهو الفزع - إلا من الآدمي لكونه لم يألف سماع كلام الميت، بخلاف الجن في ذلك. وأما الصيحة التي يصيحها المضروب فإنها غير مألوفة للإنس والجن جميعا، لكون سببها عذاب الله ولا شيء أشد منه على كل مكلف فاشترك فيه الجن والإنس والله أعلم. واستدل به على أن كلام الميت يسمعه كل حيوان ناطق وغير ناطق، لكن قال ابن بطال: هو عام أريد به الخصوص، وإن المعني يسمعه من له عقل كالملائكة والجن والإنس، لأن المتكلم روح وإنما يسمع الروح من هو روح مثله. وتعقب بمنع الملازمة إذ لا ضرورة إلى التخصيص، بل لا يستثنى إلا الإنسان كما هو ظاهر الخبر، وإنما اختص الإنسان بذلك إبقاء عليه،

(3/185)


وبأنه لا مانع من إنطاق الله الجسد بغير روح كما تقدم. والله تعالى أعلم.

(3/186)


53 - باب مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً عَلَى الْجِنَازَةِ خَلْفَ الإِمَامِ
1317 - حدثنا مسدد عن أبي عوانة عن قتادة عن عطاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث"
[الحديث 1317 – أطرافه في: 1320, 1334, 3877, 3878, 3879]
قوله: "باب من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإمام" أورد فيه حديث جابر في الصلاة على النجاشي وفيه كنت في الصف الثاني أو الثالث، وقد اعترض عليه بأنه لا يلزم من كونه في الصف الثاني أو الثالث أن يكون ذلك منتهى الصفوف، وبأنه ليس في السياق ما يدل على كون الصفوف خلف الإمام. والجواب عن الأول أن الأصل عدم الزائد، وقد روى مسلم من طريق أيوب عن أبي الزبير عن جابر قصة الصلاة على النجاشي فقال: "فقمنا فصفنا صفين" فعرف بهذا أن من روى عنه كنت في الصف الثاني أو الثالث شك هل كان هنالك صف ثالث أم لا، وبذلك تصح الترجمة. وعن الثاني بأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه صريحا كما سيأتي في هجرة الحبشة من وجه آخر عن قتادة بهذا الإسناد بزيادة "فصفنا وراءه" ووقع في الباب الذي يليه من حديث أبي هريرة بلفظ: "فصفوا خلفه" وسنذكر بقية فوائد الحديث فيه.

(3/186)


54 - باب الصُّفُوفِ عَلَى الْجِنَازَةِ
1318 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "نَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ النَّجَاشِيَّ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفُّوا خَلْفَهُ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا"
1319 - حَدَّثَنَا مُسلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ "أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَصَفَّهُمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا قُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا"
1320 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَدْ تُوُفِّيَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ الْحَبَشِ فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ قَالَ فَصَفَفْنَا فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَنَحْنُ مَعَهُ صُفُوفٌ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي"
قوله: "باب الصفوف على الجنازة" قال الزين بن المنير ما ملخصه: إنه أعاد الترجمة لأن الأولى لم يحزم فيها بالزيادة على الصفين. وقال ابن بطال: أومأ المصنف إلى الرد على عطاء حيث ذهب إلى أنه لا يشرع فيها تسوية الصفوف، يعني كما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء أحق على الناس أن يسووا صفوفهم على الجنائز كما يسوونها في الصلاة؟ قال: لا، إنما يكبرون ويستغفرون. وأشار المصنف بصيغة الجمع إلى ما ورد في استحباب ثلاثة صفوف، وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث مالك بن هبيرة مرفوعا: "من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد

(3/186)


55 - باب صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْجَنَائِزِ
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا الشيباني عن عامر عن بن عباس رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبر قد دفن ليلا فقال متى دفن هذا قالوا البارحة قال أفلا آذنتموني قالوا دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك فقام فصففنا خلفه قال بن عباس وأنا فيهم فصلى عليه"
قوله: "باب صفوف الصبيان مع الرجال في الجنائز" في رواية الكشميهني: "على الجنائز" أي عند إرادة الصلاة عليها. وقد تقدم الجواب عن الترجمة على الجنازة وإرادة الصلاة على القبر في الباب الذي قبله، وتقدم أن الكلام على المتن يأتي مستوفى بعد اثني عشر بابا، وسيأتي بعد ثلاث تراجم "باب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز" وذكر فيه طرفا من حديث ابن عباس المذكور، وكان ابن عباس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم دون البلوغ لأنه شهد حجة الوداع وقد قارب الاحتلام كما تقدم بيان ذلك في كتاب الصلاة.

(3/189)


باب سنة الصلاة على الجنائز
...
56 - باب سُنَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الْجَنَازَةِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ" وَقَالَ: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ" وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ سَمَّاهَا صَلاَةً لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلاَ سُجُودٌ وَلاَ يُتَكَلَّمُ فِيهَا وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يُصَلِّي إِلاَّ طَاهِرًا وَلاَ يُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبِهَا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَقَالَ الْحَسَنُ أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَأَحَقُّهُمْ بِالصَّلاَةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُمْ لِفَرَائِضِهِمْ وَإِذَا أَحْدَثَ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ عِنْدَ الْجَنَازَةِ يَطْلُبُ الْمَاءَ وَلاَ يَتَيَمَّمُ وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْجَنَازَةِ وَهُمْ يُصَلُّونَ يَدْخُلُ مَعَهمْ بِتَكْبِيرَةٍ وَقَالَ ابْنُ

(3/189)


57 - باب فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ: مَا عَلِمْنَا عَلَى الْجَنَازَةِ إِذْنًا, وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ
1323 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ حُدِّثَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقُولُ "مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ" فَقَالَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا"
1324 - فَصَدَّقَتْ يَعْنِي عَائِشَةَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ" فَرَّطْتُ: ضَيَّعْتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
قوله: "باب فضل اتباع الجنائز" قال ابن رشيد ما محصله مقصود الباب بيان القدر الذي يحصل به مسمى الاتباع الذي يجوز به القيراط، إذ في الحديث الذي أورده إجمال، ولذلك صدره بقول زيد بن ثابت، وآثر الحديث المذكور على الذي بعده وإن كان أوضح منه في مقصوده كعادته المألوفة في الترجمة على اللفظ المشكل ليبين مجمله، وقد تقدم طرف من بيان ما يحصل به مسمى الاتباع في "باب السرعة بالجنازة"، وله تعلق بهذا الباب، وكأنه قصد هناك كيفية المشي وأمكنته، وقصد هنا ما الذي يحصل به الاتباع وهو أعم من ذلك، قال: ويمكن أن يكون قصد هنا

(3/192)


ما الذي يحصل به المقصد إذ الاتباع إنما هو وسيلة إلى تحصيل الصلاة منفردة أو الدفن منفردا أو المجموع. قال: وهذا كله يدل على براعة المصنف ودقة فهمه وسعة علمه. وقال الزين بن المنير ما محصله: مراد الترجمة إثبات الأجر والترغيب فيه لا تعيين الحكم، لأن الاتباع من الواجبات على الكفاية، فالمراد بالفضل ما ذكرناه لا قسيم الواجب، وأجمل لفظ الاتباع تبعا للفظ الحديث الذي أورده لأن القيراط لا يحصل إلا لمن اتبع وصلى أو اتبع وشيع وحضر الدفن لا لمن اتبع مثلا وشيع ثم انصرف بغير صلاة كما سيأتي بيان الحجة لذلك في الباب الذي يليه، وذلك لأن الاتباع إنما هو وسيلة لأحد مقصودين: إما الصلاة وإما الدفن، فإذا تجردت الوسيلة عن المقصد لم يحصل المرتب على المفصود، وإن كان يرجى أن يحصل لفاعل ذلك فضل ما بحسب نيته. وروى سعيد بن منصور من طريق مجاهد قال: "اتباع الجنازة أفضل النوافل" وفي رواية عبد الرزاق عنه "اتباع الجنازة أفضل من صلاة التطوع". قوله: "وقال زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذي عليك" وصله سعيد بن منصور من طريق عروة عنه بلفظ: "إذا صليتم على الجنازة فقد قضيتم ما عليكم فخلوا بينها وبين أهلها" وكذا أخرجه عبد الرزاق، لكن بلفظ: "إذا صليت على جنازة فقد قضيت ما عليك" ووصله ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ الأفراد ومعناه فقد قضيت حق الميت، فإن أردت الاتباع فلك زيادة أجر. قوله: "وقال حميد بن هلال: ما علمنا على الجنازة إذنا ولكن من صلى ثم رجع فله قيراط" لم أره موصولا عنه، قال الزين بن المنير: مناسبته للترجمة استعارة بأن الاتباع إنما هو لمحض ابتغاء الفضل، وأنه لا يجري مجرى قضاء حق أولياء الميت فلا يكون لهم فيه حق ليتوقف الانصراف قبله على الإذن منهم. قلت: وكأن البخاري أراد الرد على ما أخرجه عبد الرزاق من طريق عمرو بن شعيب عن أبي هريره قال: "أميران وليسا بأميرين: الرجل يكون مع الجنازة يصلي عليها فليس له أن يرجع حتى يستأذن وليها" الحديث، وهذا منقطع موقوف، وروى عبد الرزاق مثله من قول إبراهيم، وأخرجه ابن أبي شيبة عن المسور من فعله أيضا، وقد ورد مثله مرفوعا من حديث جابر أخرجه البزار بإسناد فيه مقال، وأخرجه العقيلي في الضعفاء من حديث أبي هريرة مرفوعا بإسناد ضعيف، وروى أحمد من طريق عبد الله بن هرمز عن أبي هريرة مرفوعا: "من تبع جنازة فحمل من علوها وحثا في قبرها وقعد حتى يؤذن له رجع بقيراطين" وإسناده ضعيف. والذي عليه معظم أئمة الفتوى قول حميد بن هلال، وحكي عن مالك أنه لا ينصرف حتى يستأذن. قوله: "حدث ابن عمر" كذا في جميع الطرق "حدث" بضم المهملة على البناء للمجهول، ولم أقف في شيء من الطرق عن نافع على تسمية من حدث ابن عمر عن أبي هريرة بذلك، وقد أورده أصحاب الأطراف والحميدي في جمعه في ترجمة نافع عن أبي هريرة، وليس في شيء من طرقه ما يدل على أنه سمع منه1 وإن كان ذلك محتملا، ووقفت على تسمية من حدث ابن عمر بذلك صريحا في موضعين: أحدهما في صحيح مسلم وهو خباب بمعجمة وموحدتين الأولى مشددة وهو أبو السائب المدني صاحب المقصورة قيل إن له صحبة، ولفظه من طريق داود بن عامر بن سعد عن أبيه "أنه كان قاعدا عند عبد الله بن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال: يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة"؟ فذكر الحديث. والثاني في جامع الترمذي من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فذكر الحديث، قال أبو سلمة فذكرت
ـــــــ
1 وفي نسخة "سمعه منه"

(3/193)


ذلك لابن عمر فأرسل إلى عائشة. قوله: "أن أبا هريرة يقول من تبع" كذا في جميع: الطرق لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق إبراهيم بن راشد عن أبي النعمان شيخ البخاري فيه، لكن أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن مهدي بن الحارث عن موسى بن إسماعيل، عن أبي أمية عن أبي النعمان، وعن التستري عن شيبان ثلاثتهم عن جرير بن حازم عن نافع قال: "قيل لابن عمر إن أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تبع جنازة فله قيراط من الأجر" فذكره ولم يبين لمن السياق، وقد أخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ كذلك، فالظاهر أن السياق له. قوله: " من تبع جنازة فله قيراط" زاد مسلم في روايته: "من الأجر". والقيراط بكسر القاف. قال الجوهري: أصله قراط بالتشديد لأن جمعه قراريط فأبدل من أحد حرفي تضعيفه ياء قال: والقيراط نصف دانق. وقال قبل ذلك: الدانق سدس الدرهم. فعلى هذا يكون القيراط جزءا من اثني عشر جزءا من الدرهم. وأما صاحب النهاية فقال: القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في أكثر البلاد، وفي الشام جزء من أربعة وعشرين جزءا، ونقل ابن الجوزي عن ابن عقيل أنه كان يقول: القيراط نصف سدس درهم أو نصف عشر دينار. والإشارة بهذا المقدار إلى الأجر المتعلق بالميت في تجهيزه وغسله وجميع ما يتعلق به، فللمصلي عليه قيراط من ذلك، ولمن شهد الدفن قيراط. وذكر القيراط تقريبا للفهم لما كان الإنسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته، وعد من جنس ما يعرف وضرب له المثل يما يعلم انتهى. وليس الذي قال ببعيد، وقد روى بزار من طريق عجلان عن أبي هريره مرفوعا: "من أتى جنازة في أهلها فله قيراط، فإن تبعها فله قيراط، فإن صلى عليها فله قيراط، فإن انتظرها حتى تدفن فله قيراط" فهذا يدل على أن لكل عمل من أعمال الجنازة قيراطا وأن اختلفت مقادير القراريط ولا سيما بالنسبة إلى مشقة ذلك العمل وسهولته، وعلى هذا فيقال: إنما خص قيراطي الصلاة والدفن بالذكر لكونهما المقصودين، بخلاف باقي أحوال الميت فإنها وسائل، ولكن هذا يخالف ظاهر سياق الحديث الذي في الصحيح المتقدم في كتاب الإيمان فإن فيه: " إن لمن تبعها حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها قيراطين" فقط، ويجاب عن هذا بأن القيراطين المذكورين لمن شهد، والذي ذكره ابن عقيل لمن باشر الأعمال التي يحتاج إليها الميت فافترقا، وقد ورد لفظ القيراط في عدة أحاديث: فمنها ما يحمل على القيراط المتعارف ومنها ما يحمل على الجزء في الجملة وإن لم تعرف النسبة. فمن الأول حديث كعب بن مالك مرفوعا: " إنكم ستفتحون بلدا يذكر فيها القيراط" وحديث أبي هريرة مرفوعا: " كنت أرعى غنما لأهل مكة بالقراريط" قال ابن ماجه عن بعض شيوخه: يعني كل شاة بقيراط. وقال غيره: قراريط جبل بمكة. ومن المحتمل حديث ابن عمر في الذين أوتوا التوراة "أعطوا قيراطا قيراطا" وحديث الباب، وحديث أبي هريرة " من اقتنى كلبا نقص من عمله كل يوم قيراط" وقد جاء تعيين مقدار القيراط في حديث الباب بأنه مثل أحد كما سيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه. وفي رواية عند أحمد والطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر "قالوا: يا رسول الله مثل قراريطنا هذه؟ قال: لا بل مثل أحد" قال النووي وغيره: لا يلزم من ذكر القيراط في الحديثين تساويهما لأن عادة الشارع تعظيم الحسنات وتخفيف مقابلها والله أعلم. وقال ابن العربي القاضي: الذرة جزء من ألف وأربعة وعشرين جزءا من حبة والحبة ثلث القيراط، فإذا كانت الذرة تخرج من النار فكيف بالقيراط؟ قال وهذا قدر قيراط الحسنات، فأما قيراط السيئات فلا. وقال غيره: القيراط في اقتناء الكلب جزء من أجزاء عمل المقتنى له في ذلك اليوم، وذهب الأكثر إلى أن المراد بالقيراط في حديث الباب جزء

(3/194)


من أجزاء معلومة عند الله؛ وقد قربها النبي صلى الله عليه وسلم للفهم بتمثيله القيراط بأحد، قال الطيبي: قوله: "مثل أحد" تفسير للمقصود من الكلام لا للفظ القيراط، والمراد منه أنه يرجع بنصيب كبير من الأجر، وذلك لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبين الموزون بقوله: "من الأجر" وبين المقدار المراد منه بقوله: "مثل أحد". وقال الزين بن المنير: أراد تعظيم الثواب فمثله للعيان بأعظم الجبال خلقا وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حبا، لأنه الذي قال في حقه "إنه حبل يحبنا ونحبه" انتهى. ولأنه أيضا قريب من المخاطبين يشترك أكثرهم في معرفته، وخص القيراط بالذكر لأنه كان أقل ما تقع به الإجارة في ذلك الوقت، أو جرى ذلك مجرى العادة من تقليل الأجر بتقليل العمل. واستدل بقوله: "من تبع" على أن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها، لأن ذلك هو حقيقة الاتباع حسا. قال ابن دقيق العيد: الذين رجحوا المشي أمامها حملوا الاتباع هنا على الاتباع المعنوي أي المصاحبة، وهو أعم من أن يكون أمامها أو خلفها أو غير ذلك، وهذا مجاز يحتاج إلى أن يكون الدليل الدال على استحباب التقدم راجحا انتهى. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في "باب السرعة بالجنازة" وذكرنا اختلاف العلماء في ذلك بما يغني عن إعادته قوله: "أكثر علينا أبو هريرة" قال ابن التين: لم يتهمه ابن عمر، بل خشي عليه السهو، أو قال ذلك لكونه لم ينقل له عن أبي هريرة أنه رفعه، فظن أنه قال برأيه فاستنكره انتهى. والثاني جمود على سياق رواية البخاري، وقد بينا أن في رواية مسلم أن رفعه، وكذا في رواية خباب عن أبي هريرة عند مسلم أيضا. وقال الكرماني: قوله: "أكثر علينا" أي في ذكر الأجر أو في كثرة الحديث، كأنه خشي لكثرة رواياته أن يشتبه عليه بعض الأمر انتهى. ووقع في رواية أبي سلمة عند سعيد بن منصور "فبلغ ذلك ابن عمر فتعاظمه" وفي رواية الوليد بن عبد الرحمن عند سعيد أيضا ومسدد وأحمد بإسناد صحيح "فقال ابن عمر: يا أبا هريرة انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فصدقت يعني عائشة أبا هريرة" لفظ: "يعني" للبخاري، كأنه شك فاستعملها. وقد رواه الإسماعيلي من طريق أبي النعمان شيخه فلم يقلها. وفي رواية مسلم: "فبعث ابن عمر إلى عائشة يسألها فصدقت أبا هريرة" وفي رواية أبي سلمة عند الترمذي "فذكر ذلك لابن عمر، فأرسل إلى عائشة فسألها عن ذلك فقالت: صدق" وفي رواية خباب صاحب المقصورة عند مسلم: "فأرسل ابن عمر خبابا إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره بما قالت، حتى رجع إليه الرسول فقال: قالت عائشة صدق أبو هريرة" ووقع في رواية الوليد بن عبد الرحمن عند سعيد بن منصور "فقام أبو هريرة فأخذ بيده فانطلقا حتى أتيا عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين، أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" فذكره فقالت: "اللهم نعم". ويجمع بينهما بأن الرسول لما رجع إلى ابن عمر بخبر عائشة بلغ ذلك أبا هريرة فمشى إلى ابن عمر فاسمعه ذلك من عائشة مشافهة، وزاد في رواية الوليد "فقال أبو هريرة: لم يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودي ولا صفق بالأسواق، وإنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلة يطعمنيها أو كلمة يعلمنيها" قال له ابن عمر "كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه". قوله: "لقد فرطنا في قراريط كثيرة" أي من عدم المواظبة على حضور الدفن، بين ذلك مسلم في روايته من طريق ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: "كان ابن عمر يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة" قال فذكره. وفي هذه القصة دلالة على تميز أبي هريرة في الحفظ، وأن إنكار العلماء بعضهم على بعض قديم، وفيه استغراب العالم ما لم يصل إلى علمه وعدم مبالاة الحافظ بإنكار من لم يحفظ، وفيه ما كان الصحابة عليه من التثبت في الحديث

(3/195)


النبوي والتحرز فيه والتنقيب عليه، وفيه دلالة على فضيلة ابن عمر من حرصه على العلم وتأسفه على ما فاته من العمل الصالح. قوله: "فرطت: ضيعت من أمر الله" كذا في جميع الطرق، وفي بعض النسخ "فرطت من أمر الله أي ضيعت" وهو أشبه. وهذه عادة المصنف إذا أراد تفسير كلمة غريبة من الحديث ووافقت كلمة من القرآن فسر الكلمة التي من القرآن، وقد ورد في رواية سالم المذكورة بلفظ: "لقد ضيعنا قراريط كثيرة".
" تكملة ": وقع لي حديث الباب من رواية عشرة من الصحابة غير أبي هريرة وعائشة: من حديث ثوبان عند مسلم، والبراء، وعبد الله بن مغفل عند النسائي، وأبي سعيد عند أحمد، وابن مسعود عند أبي عوانة وأسانيد هؤلاء الخمسة صحاح. ومن حديث أبي بن كعب عند ابن ماجه، وابن عباس عند البيهقي في الشعب، وأنس عند الطبراني في الأوسط، وواثلة بن الأسقع عند ابن عدي، وحفصة عند حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال وفي كل من أسانيد هؤلاء الخمسة ضعف. وسأشير إلى ما فيها من فائدة زائدة في الكلام على الحديث في الباب الذي يلي هذا.

(3/196)


58 - باب مَنْ انْتَظَرَ حَتَّى تُدْفَنَ
1325 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1326 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ قِيلَ وَمَا الْقِيرَاطَانِ قَالَ مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ"
قوله: "باب من انتظر حتى تدفن" قال الزين بن المنير: لم يذكر المصنف جواب "من" إما استغناء بما ذكر في الخبر أو توقفا على إثبات الاستحقاق بمجرد الانتظار إن خلا عن اتباع. قال: وعدل عن لفظ الشهود كما هو في الخبر إلى لفظ الانتظار لينبه على أن المقصود من الشهود إنما هو معاضدة أهل الميت والتصدي لمعونتهم، وذلك من المقاصد المعتبرة انتهى. والذي يظهر لي أنه اختار لفظ الانتظار لكونه أعم من المشاهدة، فهو أكثر فائدة. وأشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الانتظار ليفسر اللفظ الوارد بالمشاهدة به، ولفظ الانتظار وقع في رواية معمر عند مسلم، وقد ساق البخاري سندها ولم يذكر لفظها. ووقعت هذه الطريق في بعض الروايات التي لم تتصل لنا عن البخاري في هذا الباب أيضا. قوله: "حدثنا عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي. قوله: "عن أبيه" يعني أبا سعيد كيسان المقبري وهو ثابت في جميع الطرق، وحكى الكرماني أنه سقط من بعض الطرق. قلت: والصواب إثباته. وكذا أخرجه إسحاق بن راهويه والإسماعيلي وغيرهما من طريق ابن أبي ذئب، نعم سقط قوله: "عن أبيه" من رواية ابن عجلان عند أبي عوانة وعبد الرحمن بن إسحاق عند ابن أبي شيبة وأبي معشر عند حميد بن زنجويه ثلاثتهم عن سعيد المقبري. "تنبيه": لم يسق البخاري لفظ رواية أبي سعيد، ولفظه عند الإسماعيلي: "أنه سأل أبا هريرة: ما ينبغي في الجنازة؟ فقال: سأخبرك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من تبعها من أهلها حتى يصلي عليها فله قيراط مثل أحد، ومن تبعها حتى يفرغ منها فله قيراطان" : قوله: "وحدثني عبد الرحمن" هو معطوف على مقدر أي قال ابن شهاب حدثني فلان بكذا، وحدثني عبد الرحمن الأعرج بكذا. قوله: "حتى يصلي" زاد الكشميهني: "عليه" واللام

(3/196)


للأكثر مفتوحة، وفي بعض الروايات بكسرها، ورواية الفتح محمولة عليها فإن حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة من الذي يحصل له كما تقدم تقريره، وللبيهقي من طريق محمد بن علي الصائغ عن أحمد بن شبيب شيخ البخاري فيه بلفظ: "حتى يصلي عليها" وكذا هو عند مسلم من طريق ابن وهب عن يونس، ولم يبين في هذه الرواية ابتداء الحضور، وقد تقدم بيانه في رواية أبي سعيد المقبري حيث قال: "من أهلها "وفي رواية خباب عند مسلم: "من خرج مع جنازة من بيتها" ولأحمد في حديث أبي سعيد الخدري "فمشى معها من أهلها" ومقتضاه أن القيراط يختصن بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة، وبذلك صرح المحب الطبري وغيره، والذي يظهر لي أن القيراط يحصل أيضا لمن صلى فقط لأن كل ما قبل الصلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع مثلا وصلى، ورواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "أصغرهما مثل أحد" يدل على أن القراريط تتفاوت. ووقع أيضا في رواية أبي صالح المذكورة عند مسلم: "من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط" وفي رواية نافع بن جبير عن أبي هريرة عند أحمد "ومن صلى ولم يتبع فله قيراط" فدل على أن الصلاة تحصل القيراط وأن لم يقع اتباع، ويمكن أن يحمل الاتباع هنا على ما بعد الصلاة، وهل يأتي نظير هذا في قيراط الدفن؟ فيه بحث. قال النووي في شرح البخاري عند الكلام على طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة في كتاب الإيمان بلفظ: "من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلي ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين". الحديث. ومقتضى هذا أن القيراطين إنما يحصلان لمن كان معها في جميع الطريق حتى تدفن، فإن صلى مثلا وذهب إلى القبر وحده فحضر الدفن لم يحصل له إلا قيراط واحد انتهى. وليس في الحديث ما يقتضي ذلك إلا من طريق المفهوم، فإن ورد منطوق بحصول القيراط لشهود الدفن وحده كان مقدما. ويجمع حينئذ بتفاوت القيراط، والذين أبوا ذلك جعلوه من باب المطلق والمقيد، نعم مقتضى جميع الأحاديث أن من اقتصر على التشييع فلم يصل ولم يشهد الدفن فلا قيراط له إلا على الطريقة التي قدمناها عن ابن عقيل، لكن الحديث الذي أوردناه عن البراء في ذلك ضعيف. وأما التقييد بالإيمان والاحتساب فلا بد منه لأن ترتب الثواب على العمل يستدعي سبق النية فيه فيخرج من فعل ذلك على سبيل المكافأة المجردة أو على سبيل المحاباة والله أعلم. قوله: "ومن شهد" كذا في جميع الطرق بحذف المفعول. وفي رواية البيهقي التي أشرت إليها "ومن شهدها". قوله: "فله قيراطان" ظاهره أنهما غير قيراط الصلاة، وهو ظاهر سياق أكثر الروايات، وبذلك جزم بعض المتقدمين وحكاه ابن التين عن القاضي أبي الوليد، لكن سياق رواية ابن سيرين يأبى ذلك وهي صريحة في أن الحاصل من الصلاة ومن الدفن قيراطان فقط، وكذلك رواية خباب صاحب المقصورة عند مسلم بلفظ: "من خرج مع جنازة من بيتها ثم تبعها حتى كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له قيراط" وكذلك رواية الشعبي عن أبي هريرة عند النسائي بمعناه، ونحوه رواية نافع بن جبير. قال النووي: رواية ابن سيرين صريحة في أن المجموع قيراطان، ومعني رواية الأعرج على هذا كان له قيراطان أي بالأول، وهذا مثل حديث: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله" أي بانضمام صلاة العشاء.
قوله: "حتى تدفن" ظاهره أن حصول القيراط متوقف على فراغ الدفن، وهو أصح الأوجه عند الشافعية وغيرهم، وقيل يحصل بمجرد الوضع في اللحد، وقيل عند انتهاء الدفن قبل إهالة التراب، وقد وردت الأخبار بكل ذلك، ويترجح الأول للزيادة، فعند مسلم من طريق

(3/197)


معمر في إحدى الروايتين عنه "حتى يفرغ منها" وفي الأخرى "حتى توضع في اللحد" وكذا عنده في رواية أبي حازم بلفظ: "حتى توضع في القبر" وفي رواية ابن سيرين والشعبي "حتى يفرغ منها" وفي رواية أبي مزاحم عند أحمد "حتى يقضي قضاؤها" وفي رواية أبي سلمة عند الترمذي "حتى يقضى دفنها" وفي رواية ابن عياض1 عند أبي عوانة "حتى يسوى عليها" أي التراب، وهي أصرح الروايات في ذلك. ويحتمل حصول القيراط بكل من ذلك، لكن يتفاوت القيراط كما تقدم. قوله: "قيل وما القيراطان" لم يعين في هذه الرواية القائل ولا المقول له، وقد بين الثاني مسلم في رواية الأعرج هذه فقال: "قيل وما القيراطان يا رسول الله "وعنده في حديث ثوبان "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيراط" وبين القائل أبو عوانة من طريق أبي مزاحم عن أبي هريرة ولفظه: "قلت وما القيراط يا رسول الله"، ووقع عند مسلم أن أبا حازم أيضا سأل أبا هريرة عن ذلك. قوله: "مثل الجبلين العظيمين" سبق أن في رواية ابن سيرين وغيره: "مثل أحد" وفي رواية الوليد بن عبد الرحمن عند ابن أبي شيبة: "القيراط مثل جبل أحد" وكذا في حديث ثوبان عند مسلم والبراء عند النسائي وأبي سعيد عند أحمد. ووقع عند النسائي من طريق الشعبي "فله قيراطان من الأجر كل واحد منهما أعظم من أحد" وتقدم أن في رواية أبي صالح عند مسلم: "أصغرهما مثل أحد" وفي رواية أبي بن كعب عند ابن ماجه: "القيراط أعظم من أحد هذا" كأنه أشار إلى الجبل عند ذكر الحديث، وفي حديث واثلة عند ابن عدي "كتب له قيراطان من أجر أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد" فأفادت هذه الرواية بيان وجه التمثيل بجبل أحد وأن المراد به زنة الثواب المرتب على ذلك العمل. وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم الترغيب في شهود الميت، والقيام بأمره، والحض على الاجتماع له، والتنبيه على عظيم فضل الله وتكريمه للمسلم في تكثير الثواب لمن يتولى أمره بعد موته، وفيه تقدير الأعمال بنسبة الأوزان إما تقريبا للأفهام وإما على حقيقته. والله أعلم.
ـــــــ
1 في النسخة المخطوطة "ابن عباس"

(3/198)


59 - باب صَلاَةِ الصِّبْيَانِ مَعَ النَّاسِ عَلَى الْجَنَائِزِ
1326حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا زائدة حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن عامر عن بن عباس رضي الله عنهما قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرا فقالوا هذا دفن أو دفنت البارحة قال بن عباس رضي الله عنهما فصففنا خلفه ثم صلى عليها"
قوله: "باب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز" أورد فيه حديث ابن عباس في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم على القبر، وقد تقدم توجيهه قبل ثلاثة أبواب، قال ابن رشيد: أفاد بالترجمة الأولى بيان كيفية وقوف الصبيان مع الرجال وأنهم يصفون معهم لا يتأخرون عنهم، لقوله في الحديث الذي ساقه فيها "وأنا فيهم" وأفاد بهذه الترجمة مشروعية صلاة الصبيان على الجنائز، وهو وإن كان الأول دل عليه ضمنا لكن أراد التنصيص عليه وأخر هذه الترجمة عن فضل اتباع الجنائز ليبين أن الصبيان داخلون في قوله: "من تبع جنازة". والله أعلم.

(3/198)


باب الصلاة على الجنائز بامصلى والمسجد
...
60 - باب الصَّلاَةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ
1327 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ يَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ"
1328 - وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا"
1329 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ"
[الحديث 1329 – أطرافه في: 3635, 4556, 6841, 7337, 7543]
قوله: "باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد" قال ابن رشيد: لم يتعرض المصنف لكون الميت بالمصلى أو لا لأن المصلى عليه كان غائبا وألحق حكم المصلى بالمسجد بدليل ما تقدم في العيدين وفي الحيض من حديث أم عطية "ويعتزل الحيض المصلى" فدل على أن للمصلى حكم المسجد فيما ينبغي أن يجتنب فيه ويلحق به ما سوى ذلك، وقد تقدم الكلام على ما في قصة الصلاة على النجاشي قبل خمسة أبواب. قوله: "وعن ابن شهاب" هو معطوف على الإسناد المصدر به، وسيأتي الكلام على عدد التكبير بعد ثلاثة أبواب. ثم أورد المصنف حديث ابن عمر في رجم اليهوديين، سيأتي الكلام عليه مبسوطا في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية جهة المشرق انتهى، فإن ثبت ما قال وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان يتهيأ فيه الرجم، وسيأتي في قصة ماعز "فرجمناه بالمصلى" ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمر عارض أو لبيان الجواز. والله أعلم. واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز في المسجد، ويقويه حديث عائشة "ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد" أخرجه مسلم، وبه قال الجمهور. وقال مالك: لا يعجبني، وكرهه ابن أبي ذئب وأبو حنيفة وكل من قال بنجاسة الميت، وأما من قال بطهارته منهم فلخشية التلويث، وحملوا الصلاة على سهيل بأنه كان خارج المسجد والمصلون داخله وذلك جائز اتفاقا، وفيه نظر لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد على حجرتها لتصلي عليه، واحتج بعضهم بأن العمل استقر على ترك ذلك لأن الذين أنكروا ذلك على عائشة كانوا من الصحابة، ورد بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإنكار سلموا لها فدل على أنها حفظت ما نسوه، وقد روى ابن أبي شيبة وغيره: "أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيبا صلى على عمر في المسجد" زاد في رواية: "ووضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر" وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك.

(3/199)


61 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ
وَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ضَرَبَتْ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً ثُمَّ رُفِعَتْ فَسَمِعُوا صَائِحًا يَقُولُ أَلاَ هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا فَأَجَابَهُ الآخَرُ بَلْ يَئِسُوا فَانْقَلَبُوا
1330 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ هِلاَلٍ هُوَ الْوَزَّانُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا" قَالَتْ وَلَوْلاَ ذَلِكَ لاَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا"
قوله: "باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور" ترجم بعد ثمانية أبواب "باب بناء المسجد على القبر" قال ابن رشيد: الاتخاذ أعم من البناء فلذلك أفرده بالترجمة، ولفظها يقتضي أن بعض الاتخاذ لا يكره، فكأنه يفصل بين ما إذا ترتبت على الاتخاذ مفسدة أو لا. قوله: "ولما مات الحسن بن الحسن" هو ممن وافق اسمه اسم أبيه، وكانت وفاته سنة سبع وتسعين وهو من ثقات التابعين وروى له النسائي، وله ولد يسمى الحسن أيضا فهم ثلاثة في نسق، واسم امرأته المذكورة فاطمة بنت الحسين وهي ابنة عمه. قوله: "القبة" أي الخيمة، فقد جاء في موضع آخر بلفظ الفسطاط كما رويناه في الجزء السادس عشر من حديث الحسين بن إسماعيل بن عبد الله المحاملي رواية الأصبهانيين عنه، وفي كتاب ابن أبي الدنيا في القبور من طريق المغيرة بن مقسم قال: "لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته على قبره فسطاطا فأقامت عليه سنة" فذكر نحوه، ومناسبة هذا الأثر لحديث الباب أن المقيم في الفسطاط لا يخلو من الصلاة هناك، فيلزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة فتزداد الكراهة. وقال ابن المنير: إنما ضربت الخيمة هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه تعليلا للنفس، وتخييلا باستصحاب المألوف من الأنس، ومكابرة للحس، كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية ومخاطبة المنازل الخالية، فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين بتقبيح ما صنعوا، وكأنهما من الملائكة، أو من مؤمني الجن. وإنما ذكره البخاري لموافقته للأدلة الشرعية لا لأنه دليل برأسه. قوله: "عن شيبان" هو ابن عبد الرحمن النحوي، وهلال الوزان هو ابن أبي حميد على المشهور، وكذا وقع منسوبا عند ابن أبي شيبة والإسماعيلي وغيرهما. وقال البخاري في تاريخه: قال وكيع هلال بن حميد. وقال مرة هلال بن عبد الله ولا يصح. قوله: "مسجدا" في رواية الكشميهني مساجد. قوله: "لأبرز قبره" أي لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ عليه الحائل، والمراد الدفن خارج بيته، وهذا قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي، ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة. قوله: "غير أني أخشى" كذا هنا. وفي رواية أبي عوانة عن هلال الآتية في أواخر الجنائز "غير أنه خشي أو خشي "على الشك هل هو بفتح الخاء المعجمة أو ضمها. وفي رواية مسلم: "غير أنه خشي "بالضم لا غير، فرواية الباب تقتضي أنها هي التي امتنعت من إبرازه، ورواية الضم مبهمة يمكن أن تفسر بهذه، والهاء ضمير الشأن وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك، وذلك يقتضي أنهم فعلوه باجتهاد، بخلاف رواية الفتح فإنها تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك، وقد تقدم الكلام على بقية فوائد المتن في أبواب المساجد في "باب هل تنبش قبور

(3/200)


المشركين" قال الكرماني: مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجدا، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومهما متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان وإن تغاير المفهوم.

(3/201)


62 - باب الصَّلاَةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا
1331 - حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حسين حدثنا عبد الله بن بريدة عن سمرة رضي الله عنه قال "صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها وسطها"
قوله: "باب الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها" وقع في نسخة "من" يدل "في"، أي في مدة نفاسها أو بسبب نفاسها، والأول أعم من جهة أنه يدخل فيه من ماتت منه أو من غيره، والثاني أليق بخبر الباب فإن في بعض طرقه أنها ماتت حاملا وتقدم الكلام عليه في أثناء كتاب الحيض. وحسين المذكور في هذا الإسناد هو ابن ذكوان المعلم، قال الزين بن المنير وغيره: المفصود بهذه الترجمة أن النفساء وإن كانت معدودة من جملة الشهداء فإن الصلاة عليها مشروعة، بخلاف شهيد المعركة.

(3/201)


63 - باب أَيْنَ يَقُومُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ
1332 - حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا"
قوله: "باب أين يقوم" أي الإمام من المرأة والرجل. أورد فيه حديث سمرة المذكور من وجه آخر عن حسين المعلم، وفيه مشروعية الصلاة على المرأة، فإن كونها نفساء وصف غير معتبر، وأما كونها امرأة فيحتمل أن يكون معتبرا فإن القيام عليها عند وسطها لسترها، وذلك مطلوب في حقها؛ بخلاف الرجل. ويحتمل أن لا يكون معتبرا وأن ذلك كان قبل اتخاذ النعش للنساء، فأما بعد اتخاذه فقد حصل الستر المطلوب، ولهذا أورد المصنف الترجمة مورد السؤال، وأراد عدم التفرقة بين الرجل والمرأة، وأشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود والترمذي من طريق أبي غالب عن أنس بن مالك أنه صلى على رجل فقام عند رأسه، وصلى على امرأة فقام عند عجيزتها، فقال له العلاء بن زياد: أهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل؟ قال: نعم1 وحكى ابن رشيد عن ابن المرابط أنه أبدى لكونها نفساء علة مناسبة وهي استقبال جنينها ليناله من بركة الدعاء، وتعقب بأن الجنين كعضو منها، ثم هو لا يصلى عليه إذا انفرد وكان سقطا2 فأحرى إذا كان باقيا في بطنها أن لا يقصد. والله أعلم.
ـــــــ
1 وأخرجه أحمد وابن ماجه ولفظهما ولفظ الترمذي "عند رأس الرجل ووسط المرأة" وإسناده جيد, وهو حجة قائمة على التفرقة بين الرجل والمرأة في الموقف, ودليل على أن السنة الوقوف عند رأس الرجل ووسط المرأة. والله أعلم.
2 القول بعد الصلاة على السقط ضعيف, والصواب شرعية الصلاة عليه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه وكان محكوما باسلامه لأنه ميت مسلم فشرعت الصلاة عليه كسائر موتى المسلين, ولما روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" وإسناده حسن. والله أعلم

(3/201)


64 - باب التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَرْبَعًا
وَقَالَ حُمَيْدٌ: صَلَّى بِنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَبَّرَ ثَلاَثًا ثُمَّ سَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ ثُمَّ سَلَّمَ
1333 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات"
1334 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا"
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ سَلِيمٍ أَصْحَمَةَ وَتَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ
قوله: "باب التكبير على الجنازة أربعا" قال الزين بن المنير أشار بهذه الترجمة إلى أن التكبير لا يزيد على أربع، ولذلك لم يذكر ترجمة أخرى ولا خبرا في الباب، وقد اختلف السلف في ذلك: فروى مسلم عن زيد بن أرقم أنه يكبر خمسا ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه صلى على جنازة رجل من بني أسد فكبر خمسا، وروى ابن المنذر وغيره عن علي أنه كان يكبر على أهل بدر ستا وعلى الصحابة خمسا وعلى سائر الناس أربعا، وروي أيضا بإسناد صحيح عن أبي معبد قال صليت خلف ابن عباس على جنازة فكبر ثلاثا. وسنذكر الاختلاف على أنس في ذلك. قال ابن المنذر: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع، وفيه أقوال أخر، فذكر ما تقدم. قال: وذهب بكر بن عبد الله المزني إلى أنه لا ينقص من ثلاث ولا يزاد على سبع. وقال أحمد مثله لكن قال: لا ينقص من أربع. وقال ابن مسعود: كبر ما كبر الإمام. قال: والذي نختاره ما ثبت عن عمر، ثم ساق بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب قال: "كان التكبير أربعا وخمسا، فجمع عمر الناس على أربع" وروى البيهقي بإسناد حسن إلى أبي وائل قال: "كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا وستا وخمسا وأربعا، فجمع عمر الناس على أربع كأطول الصلاة". قوله: "وقال حميد: صلى بنا أنس فكبر ثلاثا ثم سلم، فقيل له فاستقبل القبلة ثم كبر الرابعة ثم سلم" لم أره موصولا من طريق حميد، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس أنه كبر على جنازة ثلاثا ثم انصرف ناسيا، فقالوا يا أبا حمزة إنك كبرت ثلاثا فقال: صفوا فصفوا، فكبر الرابعة. وروي عن أنس الاقتصار على ثلاث. قال ابن أبي شيبة: حدثنا معاذ بن معاذ عن عمران ابن حدير قال: صليت مع أنس بن مالك على جنازة فكبر عليها ثلاثا لم يزد عليها. وروى ابن المنذر من طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن أبي إسحاق قال قيل لأنس إن فلانا كبر ثلاثا فقال: وهل التكبير إلا ثلاثا؟ انتهى قال مغلطاي إحدى الروايتين وهم. قلت: بل يمكن الجمع بين ما اختلف فيه على أنس إما بأنه كان يرى الثلاث مجزئة والأربع أكمل منها، وإما بأن من أطلق عنه الثلاث لم

(3/202)


يذكر الأولى لأنها افتتاح الصلاة كما تقدم في باب سنة الصلاة من طريق ابن علية عن يحيى بن أبي إسحاق أن أنسا قال: "أو ليس التكبير ثلاثا؟ فقيل له: يا أبا حمزة التكبير أربعا. قال: أجل، غير أن واحدة هي افتتاح الصلاة "وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال: يزيد في التكبير على أربع إلا ابن أبي ليلى انتهى. وفي المبسوط للحنفية قيل: إن أبا يوسف قال يكبر خمسا. وقد تقدم القول عن أحمد في ذلك. ثم أورد المصنف حديث أبي هريرة في الصلاة على النجاشي، وقد تقدم الجواب عن إيراد من تعقبه بأن الصلاة على النجاشي صلاة على غائب لا على جنازة، ومحصل الجواب أن ذلك بطريق الأولى. وقد روى ابن أبي داود في "الأفراد "من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكبر أربعا وقال: لم أر في شيء من الأحاديث الصحيحة أنه كبر على جنازة أربعا إلا في هذا. قوله: "وقال يزيد بن هرون وعبد الصمد عن سليم" يعني بإسناده إلى جابر "أصحمة" ووقع في رواية المستملي وقال يزيد عن سليم أصحمة وتابعه عبد الصمد، أما رواية يزيد فوصلها المصنف في هجرة الحبشة عن أبي بكر بن أبي شيبة عنه، وأما رواية عبد الصمد فوصلها الإسماعيلي من طريق أحمد بن سعيد عنه. "تنبيه" وقع في جميع الطرق التي اتصلت لنا من البخاري أصحمة بمهملتين بوزن أفعلة مفتوح العين في المسند والمعلق معا، وفيه نظر لأن إيراد المصنف يشعر بأن يزيد خالف محمد بن سنان، وأن عبد الصمد تابع يزيد، ووقع في مصنف ابن أبي شيبة عن يزيد صحمة بفتح الصاد وسكون الحاء فهذا متجه، ويتحصل منه أن الرواة اختلفوا في إثبات الألف وحذفها. وحكى الإسماعيلي أن في رواية عبد الصمد أصخمة بخاء معجمة وإثبات الألف، قال: وهو غلط فيحتمل أن يكون هذا محل الاختلاف الذي أشار إليه البخاري. وحكى كثير من الشراح أن رواية يزيد ورفيقه صحمة بالمهملة بغير ألف، وحكى الكرماني أن في بعض النسخ في رواية محمد بن سنان أصحبة بموحدة بدل الميم.

(3/203)


65 - باب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا
1335 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدٍ عَنْ طَلْحَةَ قَالَ "صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ح حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّة"ٌ
قوله: "باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة" أي مشروعيتها، وهي من المسائل المختلف فيها، ونقل ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمسور بن مخرمة مشروعيتها، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. ونقل عن أبي هريرة وابن عمر ليس فيها قراءة وهو قول مالك والكوفيين. قوله: "وقال الحسن إلخ" وصله عبد الوهاب بن عطاء في "كتاب الجنائز" له عن سعيد بن أبي عروبة أنه سئل عن الصلاة على الصبي فأخبرهم عن قتادة عن الحسن أنه كان يكبر ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثم يقول: اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وأجرا. وروى عبد الرزاق والنسائي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: "السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن ثم يصلي

(3/203)


على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا في الأولى" إسناده صحيح. قوله: "عن سعد" هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، وطلحة هو ابن عبد الله بن عوف الخزاعي كما نسبهما في الإسناد الثاني.
" تنبيه ": ليس في حديث الباب بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح به في حديث جابر أخرجه الشافعي بلفظ: "وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى" أفاده شيخنا في شرح الترمذي وقال إن سنده ضعيف. قوله: "لتعلموا أنها سنة" قال الإسماعيلي: جمع البخاري بين روايتي شعبة وسفيان، وسياقهما مختلف اهـ. فأما رواية شعبة فقد أخرجها ابن خزيمة في صحيحه والنسائي جميعا عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه بلفظ: "فأخذت بيده فسألته عن ذلك فقال: نعم يا ابن أخي، إنه حق وسنة "وللحاكم من طريق آدم عن شعبة "فسألته فقلت: يقرأ؟ نعم، إنه حق وسنة". وأما رواية سفيان فأخرجها الترمذي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عنه بلفظ: "فقال: أنه من السنة، أو من تمام السنة" وأخرجه النسائي أيضا من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه بهذا الإسناد بلفظ: "فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، فقال: سنة وحق" وللحاكم من طريق ابن عجلان أنه سمع سعيد بن أبي سعيد يقول: "صلى ابن عباس على جنازة فجهر بالحمد ثم قال: إنما جهرت لتعلموا أنها سنة" وقد أجمعوا على أن قول الصحابي "سنة" حديث مسند، كذا نقل الإجماع، مع أن الخلاف عند أهل الحديث وعند الأصوليين شهير، وعلى الحاكم فيه مأخذ آخر وهو استدراكه له وهو في البخاري، وقد روى الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب وقال: لا يصح هذا، والصحيح عن ابن عباس قوله: "من السنة" وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين، ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال، والله أعلم. وروى الحاكم أيضا من طريق شرحبيل بن سعد عن ابن عباس أنه صلى على جنازة بالأبواء فكبر، ثم قرأ الفاتحة رافعا صوته، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: اللهم عبدك وابن عبدك أصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، إن كان زاكيا فزكه، وإن كان مخطئا فاغفر له. اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده. ثم كبر ثلاث تكبيرات ثم انصرف فقال يا أيها الناس، إني لم أقرأ عليها - أي جهرا - إلا لتعلموا أنها سنة". قال الحاكم: شرحبيل لم يحتج به الشيخان، وإنما أخرجته لأنه مفسر للطرق المتقدمة انتهى. وشرحبيل مختلف في توثيقه، واستدل الطحاوي على ترك القراءة في الأولى بتركها في باقي التكبيرات وبترك التشهد، قال: ولعل قراءة من قرأ الفاتحة من الصحابة كان على وجه الدعاء لا على وجه التلاوة. وقوله: "أنها سنة" يحتمل أن يريد أن الدعاء سنة انتهى. ولا يخفى ما يجيء على كلامه من التعقب، وما يتضمنه استدلاله من التعسف.

(3/204)


66 - باب الصَّلاَةِ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا يُدْفَنُ
قوله: "باب الصلاة على القبر بعدما يدفن" وهذه أيضا من المسائل المختلف فيها، قال ابن المنذر قال بمشروعيته الجمهور، ومنعه النخعي ومالك وأبو حنيفة، وعنهم إن دفن قبل أن يصلى عليه شرع إلا فلا.
1336 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ "أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ قُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ هَذَا يَا أَبَا عَمْرٍو قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا"
1337 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(3/204)


عَنْهُ " أَنَّ أَسْوَدَ رَجُلاً أَوْ امْرَأَةً كَانَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ وَلَمْ يَعْلَمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الإِنْسَانُ قَالُوا مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَفَلاَ آذَنْتُمُونِي فَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا - قِصَّتُهُ - قَالَ فَحَقَرُوا شَأْنَهُ قَالَ فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ" قوله: "باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن" هذه أيضا من المسائل المختلف فيها, قال ابن المنذر: قال بمشروعية الجمهور ومنعه النخعي ومالك وأبو حنيفة, وعنهم إن دفن قبل أن يصلي عليه شرع وإلا فلا قوله: "قلت من حدثك هذا يا أبا عمرو" القائل هو الشيباني، والمقول له هو الشعبي. وقد تقدم في "باب الإذن بالجنازة" بأتم من هذا السياق، وفيه عن الشيباني عن الشعبي عن ابن عباس، وتكلما هناك على ما ورد في تسمية المقبور المذكور. ووقع في الأوسط للطبراني من طريق محمد بن الصباح الدولابي عن إسماعيل بن زكريا عن الشيباني أنه صلى عليه بعد دفنه بليلتين. وقال: إن إسماعيل تفرد بذلك. ورواه الدارقطني من طريق هريم بن سفيان عن الشيباني فقال: "بعد موته بثلاث "ومن طريق بشر بن آدم عن أبي عاصم عن سفيان الثوري عن الشيباني فقال: "بعد شهر" وهذه روايات شاذة، وسياق الطرق الصحيحة يدل على أنه صلى عليه في صبيحة دفنه. قوله في حديث أبي هريرة "فأتى قبره فصلى عليه" زاد ابن حبان في رواية حماد بن سلمة عن ثابت "ثم قال إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها عليهم بصلاتي" وأشار إلى أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيادة على أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم. ثم ساق من طريق خارجة بن زيد بن ثابت نحو هذه القصة وفيها "ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا" قال ابن حبان: في ترك إنكاره صلى الله عليه وسلم على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه. وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة، واستدل بخبر الباب على رد التفصيل بين من صلى عليه فلا يصلى عليه بأن القصة وردت فيمن صلى عليه، وأجيب بأن الخصوصية تنسحب على ذلك. واختلف من قال بشرع الصلاة لمن لم يصل فقيل: يؤخر دفنه ليصلي عليها من كان لم يصل، وقيل: يبادر بدفنها ويصلي الذي فاتته على القبر، وكذا اختلف في أمد ذلك: فعند بعضهم إلى شهر، وقيل ما لم يبل الجسد، وقيل: يختص بمن كان من أهل الصلاة عليه حين موته وهو الراجح عند الشافعية، وقيل: يجوز أبدا.

(3/205)


67 - باب الْمَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ
1338 - حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوْ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ"
[الحديث 1337 – طرفه في: 1374]

(3/205)


قوله: "باب الميت يسمع خفق النعال" قال الزين بن المنير: جرد المصنف ما ضمنه هذه الترجمة ليجعله أول آداب الدفن من إلزام الوقار واجتناب اللغط وقرع الأرض بشدة الوطء عليها كما يلزم ذلك مع الحي النائم، وكأنه اقتطع ما هو من سماع الآدميين من سماع ما هو من الملائكة، وترجم بالخفق ولفظ المتن بالقرع إشارة إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الخفق وهو ما رواه أحمد وأبو داود من حديث البراء بن عازب في أثناء حديث طويل فيه: "وأنه ليسمع خفق نعالهم" وروى إسماعيل بن عبد الرحمن السدي عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين" أخرجه البزار وابن حبان في صحيحه هكذا مختصرا. وأخرج ابن حبان أيضا من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم" نحوه في حديث طويل، واستدل به على جواز المشي بين القبور بالنعال، ولا دلالة فيه. قال ابن الجوزي: ليس في الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر، وذلك لا يقتضي إباحة ولا تحريما انتهى. وإنما استدل به من استدل على الإباحة أخذا من كونه صلى الله عليه وسلم قاله وأقره فلو كان مكروها لبينه، لكن يعكر عليه احتمال أن يكون المراد سماعه إياها بعد أن يجاوز المقبرة، ويدل على الكراهة حديث بشير بن الخصاصية "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يمشي بين القبور وعليه نعلان سبتيتان فقال: يا صاحب السبتيتين ألق نعليك" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم. وأغرب ابن حزم فقال: يحرم المشي بين القبور بالنعال السبتية دون غيرها، وهو جمود شديد. وأما قول الخطابي يشبه أن يكون النهي عنهما لما فيهما من الخيلاء فإنه متعقب بأن ابن عمر كان يلبس النعال السبتية ويقول: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها" وهو حديث صحيح كما سيأتي في موضعه. وقال الطحاوي: يحمل نهي الرجل المذكور على أنه كان في نعليه قذر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه ما لم ير فيهما أذى. قوله: "حدثنا عياش" هو ابن الوليد الرقام كما جزم به أبو نعيم في "المستخرج" وهو بتحتانية ومعجمة، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى. وساق حديثه مقرونا برواية خليفة عن يزيد بن زريع على لفظ خليفة، وسيأتي مفردا في عذاب القبر عن عياش بن الوليد بلفظه وما فيه من زيادة، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله. وقوله هنا "إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه" كذا ثبت في جميع الروايات فقال ابن التين: إنه كرر اللفظ والمعني واحد، ورأيته أنا مضبوطا بخط معتمد "وتولي" بضم أوله وكسر اللام على البناء للمجهول، أي تولي أمره أي الميت، وسيأتي في رواية عياش بلفظ: "وتولى عنه أصحابه" وهو الموجود في جميع الروايات عند مسلم وغيره.

(3/206)


68 - باب مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ فِي الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْ نَحْوِهَا
1339 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَم فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ فَالآنَ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لاَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ

(3/206)


عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ"
قوله: "باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها" قال الزين بن المنير: المراد بقوله: "أو نحوها" بقية ما تشد إليه الرجال من الحرمين وكذلك ما يمكن من مدافن الأنبياء وقبور الشهداء والأولياء تيمنا بالجوار وتعرضا للرحمة النازلة عليهم اقتداء بموسى عليه السلام، انتهى. وهذا بناء على أن المطلوب القرب من الأنبياء الذين دفنوا ببيت المقدس، وهو الذي رجحه عياض. وقال المهلب: إنما طلب ذلك ليقرب عليه المشي إلى المحشر وتسقط عنه المشقة الحاصلة لمن بعد عنه. حديث أبي هريرة "أرسل ملك الموت إلى موسى" الحديث أورده المصنف بطوله من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه عنه ولم يذكر فيه الرفع، وقد ساقه في أحاديث الأنبياء من هذا الوجه ثم قال: وعن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقد ساقه مسلم من طريق معمر بالسندين كذلك. وقوله فيه: "رمية بحجر" أي قدر رمية حجر، أي أدنني من مكان إلى الأرض المقدسة هذا القدر، أو أدنني إليها حتى يكون بيني وبينها هذا القدر، وهذا الثاني أظهر، وعليه شرح ابن بطال وغيره. وأما الأول فهو وإن رجحه بعضهم فليس بجيد إذ لو كان كذلك لطلب الدنو أكثر من ذلك، ويحتمل أن يكون القدر الذي كان بينه وبين أول الأرض المقدسة كان قدر رمية فلذلك طلبها، لكن حكى ابن بطال عن غيره أن الحكمة في أنه لم يطلب دخولها ليعمى موضع قبره لئلا تعبده الجهال من ملته انتهى. ويحتمل أن يكون سر ذلك أن الله لما منع بنى إسرائيل من دخول بيت المقدس وتركهم في التيه أربعين سنة إلى أن أفناهم الموت فلم يدخل الأرض المقدسة مع يوشع إلا أولادهم، ولم يدخلها معه أحد ممن امتنع أولا أن يدخلها كما سيأتي شرح ذلك في أحاديث الأنبياء ومات هرون ثم موسى عليهما السلام قبل فتح الأرض المقدسة على الصحيح كما سيأتي واضحا أيضا، فكأن موسى لما لم يتهيأ له دخولها لغلبة الجبارين عليها ولا يمكن نبشه بعد ذلك لينقل إليها طلب القرب منها لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه، وقيل إنما طلب موسى الدنو لأن النبي يدفن حيث يموت ولا ينقل، وفيه نظر لأن موسى قد نقل يوسف عليهما السلام معه لما خرج من مصر كما سيأتي ذلك في ترجمته إن شاء الله تعالى، وهذا كله بناء على الاحتمال الثاني والله أعلم. واختلف في جواز نقل الميت من بلد إلى بلد، فقيل: يكره لما فيه من تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته، وقيل يستحب، والأولى تنزيل ذلك على حالتين: فالمنع حيث لم يكن هناك غرض راجح كالدفن في البقاع الفاضلة، وتختلف الكراهة في ذلك فقد تبلغ التحريم، والاستحباب حيث يكون ذلك بقرب مكان فاضل كما نص الشافعي على استحباب نقل الميت إلى الأرض الفاضلة كمكة وغيرها. والله أعلم.

(3/207)


69 - باب الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ. وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلاً
1340 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الشيباني عن الشعبي عن بن عباس رضي الله عنهما قال " صلى النبي صلى الله عليه وسلم على رجل بعد ما دفن بليلة قام هو وأصحابه وكان سأل عنه فقال من هذا فقالوا فلان دفن البارحة فصلوا عليه "
قوله: "باب الدفن بالليل" أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من منع ذلك محتجا بحديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن يقبر الرجل ليلا إلا أن يضطر إلى ذلك" أخرجه ابن حبان، لكن بين مسلم في روايته السبب في ذلك ولفظه
[الحديث 1340 – طرفه في: 3407]

(3/207)


"أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض وكفن في كفن غير طائل وقبر ليلا، فزجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلي عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك. وقال إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه" فدل على أن النهي بسبب تحسين الكفن. وقوله: "حتى يصلي عليه" مضبوط بكسر اللام أي النبي صلى الله عليه وسلم فهذا سبب آخر يقتضي أنه إن رجي بتأخير الميت إلى الصباح صلاة من ترجى بركته عليه استحب تأخيره، وإلا فلا، وبه جزم الطحاوي. واستدل المصنف للجواز بما ذكره من حديث ابن عباس "ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم دفنهم إياه بالليل، بل أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره" وأيد ذلك بما صنع الصحابة بأبي بكر، وكان ذلك كالإجماع منهم على الجواز. وقد تقدم الكلام على حديث ابن عباس قريبا. وأما أثر أبي بكر فوصله المصنف في أواخر الجنائز في "باب موت يوم الاثنين" من حديث عائشة وفيه: "ودفن أبو بكر قبل أن يصبح" ولابن أبي شيبة من حديث القاسم بن محمد قال: "دفن أبو بكر ليلا" ومن حديث عبيد بن السباق "أن عمر دفن أبا بكر بعد العشاء الآخرة" وصح أن عليا دفن فاطمة ليلا كما سيأتي في مكانه.

(3/208)


باب البناء على المسجد
...
70 - باب بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَبْرِ
1341 - حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت "لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه فقال: "أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله"
قوله: "باب بناء المسجد على القبر" أورد فيه حديث عائشة في لعن من بنى على القبر مسجدا، وقد تقدم الكلام عليه قبل ثمانية أبواب. قال الزين بن المنير: كأنه قصد بالترجمة الأولى اتخاذ المساجد في المقبرة لأجل القبور بحيث لولا تجدد القبر ما اتخذ المسجد. ويؤيده بناء المسجد في المقبرة على حدته لئلا يحتاج إلى الصلاة فيوجد مكان يصلى فيه سوى المقبرة، فلذلك نحا به منحى الجواز انتهى. وقد تقدم أن المنع من ذلك إنما هو حال خشية أن يصنع بالقبر كما صنع أولئك الذين لعنوا، وأما إذا أمن ذلك فلا امتناع، وقد يقول بالمنع مطلقا من يرى سد الذريعة وهو هنا متجه قوي1.
ـــــــ
1 هذا هو الحق, لعموم الأحاديث الواردة بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد, ولعن من فعل ذلك, ولأن بناء المساجد على القبور من أعظم وسائل الشرك بالمقبورين فيها. والله أعلم

(3/208)


71 - باب مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ الْمَرْأَةِ
1342 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ فَقَالَ: "هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَنَا قَالَ فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا" قَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ قَالَ فُلَيْحٌ أُرَاهُ يَعْنِي الذَّنْبَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ {لِيَقْتَرِفُوا} أَيْ لِيَكْتَسِبُوا

(3/208)


72 - باب الصَّلاَةِ عَلَى الشَّهِيدِ
1343 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ "
[الحديث 1343 – أطرافه في: 1345, 1346, 1347, 1348, 1353, ]
1344 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا"
[الحديث 1344 – أطرافه في:3566, 4042, 4085, 6426, 6590
قوله: "باب الصلاة على الشهداء" قال الزين بن المنير: أراد باب حكم الصلاة على الشهيد، ولذلك أورد فيه حديث جابر الدال على نفيها، وحديث عقبة الدال على إثباتها قال: ويحتمل أن يكون المراد باب مشروعية الصلاة على الشهيد في قبره لا قبل دفنه عملا بظاهر الحديثين، قال: والمراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار انتهى. وكذا المراد بقوله بعد "من لم ير غسل الشهيد" ولا فرق في ذلك بين المرأة والرجل صغيرا أو كبيرا حرا أو عبدا صالحا أو غير صالح، وخرج بقوله: "المعركة" من جرح في القتال وعاش بعد ذلك حياة مستقرة، وخرج بحرب الكفار من مات بقتال المسلمين كأهل البغي، وخرج بجميع ذلك من سمي شهيدا بسبب غير السبب المذكور، وإنما يقال له شهيد بمعنى ثواب الآخرة، وهذا كله على الصحيح من مذاهب العلماء. والخلاف في الصلاة على قتيل معركة الكفار

(3/209)


مشهور، قال الترمذي: قال بعضهم يصلى على الشهيد وهو قول الكوفيين وإسحاق. وقال بعضهم لا يصلى عليه وهو قول المدنيين والشافعي وأحمد. وقال الشافعي في "الأم" جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، وما روي أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح. وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحي على نفسه. قال: وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين، يعني والمخالف يقول لا يصلى على القبر إذا طالت المدة. قال وكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعا لهم بذلك، ولا يدل ذلك على نسخ الحكم الثابت انتهى. وما أشار إليه من المدة والتوديع قد أخرجه البخاري أيضا كما سننبه عليه بعد هذا. ثم إن الخلاف في ذلك في منع الصلاة عليهم على الأصح عند الشافعية، وفي وجه أن الخلاف في الاستحباب وهو المنقول عن الحنابلة، قال الماوردي1 عن أحمد: الصلاة على الشهيد أجود، وأن لم يصلوا عليه أجزأ. قوله: "عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر" كذا يقول الليث عن ابن شهاب، قال النسائي: لا أعلم أحدا من ثقات أصحاب ابن شهاب تابع الليث على ذلك. ثم ساقه من طريق عبد الله بن المبارك عن معمر عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة فذكر الحديث مختصرا، وكذا أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، والطبراني من طريق عبد الرحمن بن إسحاق وعمرو بن الحارث كلهم عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة، وعبد الله له رؤية فحديثه من حيث السماع مرسل، وقد رواه عبد الرزاق عن معمر فزاد فيه جابرا، وهو مما يقوي اختيار البخاري، فإن ابن شهاب صاحب حديث فيحمل على أن الحديث عنده عن شيخين، ولا سيما أن في رواية عبد الرحمن بن كعب ما ليس في رواية عبد الله بن ثعلبة. وعلي بن شهاب فيه اختلاف آخر رواه أسامة بن زيد الليثي عنه عن أنس أخرجه أبو داود والترمذي، وأسامة سيء الحفظ، وقد حكى الترمذي في "العلل" عن البخاري أن أسامة غلط في إسناده. وأخرجه البيهقي من طريق عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري عن ابن شهاب فقال: "عن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه" وابن عبد العزيز ضعيف، وقد أخطأ في قوله: "عن أبيه". وقد ذكر البخاري فيه اختلافا آخر كما سيأتي بعد بابين. قوله: "ثم يقول أيهما" في رواية الكشميهني: "أيهم". قوله: "ولم يصل عليهم" هو مضبوط في روايتنا بفتح اللام، وهو اللائق بقوله بعد ذلك "ولم يغسلوا" وسيأتي بعد بابين من وجه آخر عن الليث بلفظ: "ولم يصل عليهم ولم يغسلهم" وهذه بكسر اللام والمعني ولم يفعل ذلك بنفسه ولا بأمره. وفي حديث جابر هذا مباحث كثيرة يأتي استيفاؤها في غزوة أحد من المغازي إن شاء الله تعالى. وفيه جواز تكفين الرجلين في ثوب واحد لأجل الضرورة إما بجمعهما فيه وإما بقطعه بينهما، وعلى جواز دفن اثنين في لحد، وعلى استحباب تقديم أفضلهما لداخل اللحد، وعلى أن شهيد المعركة لا يغسل، وقد ترجم المصنف لجميع ذلك. "تنبيه": وقع في رواية أسامة المذكورة "لم يصل عليهم" كما في حديث جابر. وفي رواية عنه عند الشافعي والحاكم "ولم يصل على أحد غيره" يعني حمزة. قوله: "عن أبي الخير" هو اليزني، والإسناد كله بصريون، وهذا معدود من أصح الأسانيد. قوله: "صلاته" بالنصب أي مثل صلاته. زاد في غزوة أحد من طريق حيوة بن شريح عن يزيد "بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات" وزاد فيه: "فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"
ـــــــ
1 في نسخة: المروذي

(3/210)


وسيأتي الكلام على الزيادة هناك إن شاء الله تعالى. وكانت أحد في شوال سنة ثلاث، ومات صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، فعلى هذا ففي قوله: "بعد ثمان سنين" تجوز على طريق جبر الكسر، إلا فهي سبع سنين ودون النصف. واستدل به على مشروعية الصلاة على الشهداء وقد تقدم جواب الشافعي عنه بما لا مزيد عليه. وقال الطحاوي: معنى صلاته صلى الله عليه وسلم عليهم لا يخلو من ثلاثة معان: إما أن يكون ناسخا لما تقدم من ترك الصلاة عليهم، أو يكون من سنتهم أن لا يصلي عليهم إلا بعد هذه المدة المذكورة، أو تكون الصلاة عليهم جائزة بخلاف غيرهم فإنها واجبة. وأيها كان فقد ثبت بصلاته عليهم الصلاة على الشهداء. ثم كأن الكلام بين المختلفين في عصرنا إنما هو في الصلاة عليهم قبل دفنهم، وإذا ثبتت الصلاة عليهم بعد الدفن كانت قبل الدفن أولى انتهى. وغالب ما ذكره بصدد المنع -لا سيما في دعوى الحصر- فإن صلاته عليهم تحتمل أمورا أخر: منها أن تكون من خصائصه، ومنها أن تكون بمعنى الدعاء كما تقدم. ثم هي واقعة عين لا عموم فيها، فكيف ينتهض الاحتجاج بها لدفع حكم قد تقرر؟ ولم يقل أحد من العلماء بالاحتمال الثاني الذي ذكره والله أعلم. قال النووي: المراد بالصلاة هنا الدعاء، وأما كونه مثل الذي على الميت فمعناه أنه دعا لهم بمثل الدعاء الذي كانت عادته أن يدعو به للموتى. و قوله: " إني فرط لكم " أي سابقكم، و قوله: "وإني والله" فيه الحلف لتأكيد الخبر وتعظيمه، و قوله: " لأنظر إلى حوضي" هو على ظاهره، وكأنه كشف له عنه في تلك الحالة. وسيأتي الكلام على الحوض مستوفى في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى، وكذا على المنافسة في الدنيا. قوله: "ما أخاف عليكم أن تشركوا" أي على مجموعكم، لأن ذلك قد وقع من البعض أعاذنا الله تعالى. وفي هذا الحديث معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك أورده المصنف في "علامات النبوة "كما سيأتي بقية الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى.

(3/211)


73 - باب دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ
حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا الليث حدثنا بن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبره "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد"
قوله: "باب دفن الرجلين والثلاثة في قبر" أورد فيه حديث جابر المذكور مختصرا بلفظ: "كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد" قال ابن رشيد: جرى المصنف على عادته إما بالإشارة إلى ما ليس على شرطه، وإما بالاكتفاء بالقياس. وقد وقع في رواية عبد الرزاق يعني المشار إليها قبل بلفظ: "وكان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد" انتهى. وورد ذكر الثلاثة في هذه القصة عن أنس أيضا عند الترمذي وغيره، وروى أصحاب السنن عن هشام بن عامر الأنصاري قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد، قال: احفروا وأوسعوا. واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر "صححه الترمذي، والظاهر أن المصنف أشار إلى هذا الحديث. وأما القياس ففيه نظر، لأنه لو أراده لم يقتصر عل الثلاثة بل كان يقول مثلا دفن الرجلين فأكثر، ويؤخذ من هذا جواز دفن المرأتين في قبر، وأما دفن الرجل مع المرأة فروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الأسقع "أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه"، وكأنه كان يجعل بينهما حائلا من تراب ولا سيما إن كانا أجنبيين. والله أعلم.

(3/211)


74 - باب مَنْ لَمْ يَرَ غَسْلَ الشُّهَدَاءِ
1347 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرٍ قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ" يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ
قوله: "باب من لم ير غسل الشهداء" في نسخة "الشهيد" بالإفراد. أشار بذلك إلى ما روي عن سعيد بن المشيب أنه قال: يغسل الشهيد، لأن كل ميت يجنب فيجب غسله حكاه ابن المنذر، قال: وبه قال الحسن البصري. ورواه ابن أبي شيبة عنهما أي عن سعيد والحسن، وحكي عن ابن سريج من الشافعية وعن غيره، وهو من الشذوذ. وقد وقع عند أحمد من وجه آخر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قتلى أحد " لا تغسلوهم فإن كل جرح -أو كل دم- يفوح مسكا يوم القيامة، ولم يصل عليهم " فبين الحكمة في ذلك. حديث جابر أورده المصنف قبل مختصرا بلفظ: "ولم يغسلهم "واستدل بعمومه على أن الشهيد لا يغسل حتى ولا الجنب والحائض، وهو الأصح عند الشافعية، وقيل يغسل للجنابة لا بنية غسل الميت، لما روي في قصة حنظلة بن الراهب أن الملائكة غسلته يوم أحد لما استشهد وهو جنب، وقصته مشهورة رواها ابن إسحق وغيره، وروى الطبراني وغيره من حديث ابن عباس بإسناد لا بأس به عنه قال: "أصيب حمزة بن عبد المطلب وحنظلة بن الراهب وهما جنب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت الملائكة تغسلهما" غريب في ذكر حمزة، وأجيب بأنه لو كان واجبا ما اكتفي فيه بغسل الملائكة، فدل على سقوطه عمن يتولى أمر الشهيد. والله أعلم.

(3/212)


75 - باب مَنْ يُقَدَّمُ فِي اللَّحْدِ
وَسُمِّيَ اللَّحْدَ لِأَنَّهُ فِي نَاحِيَةٍ وَكُلُّ جَائِرٍ مُلْحِدٌ {مُلْتَحَدًا} مَعْدِلاً وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِيمًا كَانَ ضَرِيحًا
1347 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ"
1348 - وَأَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِقَتْلَى أُحُدٍ أَيُّ هَؤُلاَءِ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ وَقَالَ جَابِرٌ فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ"
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قوله: "باب من يقدم في اللحد" أي إذا كانوا أكثر من واحد، وقد دل حديث الباب على تقديم من كان أكثر قرآنا من صاحبه، وهذا نظير تقديمه في الإمامة. قوله: "وسمي اللحد لأنه في ناحية" قال أهل اللغة: أصل الإلحاد

(3/212)


الميل والعدول عن الشيء، وقيل للمائل عن الدين ملحد، وسمي اللحد لأنه شق يعمل في جانب القبر فيميل عن وسط القبر إلى جانبه بحيث يسع الميت فيوضع فيه ويطبق عليه اللبن. وأما قول المصنف بعد "ولو كان مستقيما لكان ضريحا" فلأن الضريح شق يشق في الأرض على الاستواء ويدفن فيه. قوله: "ملتحدا: معدلا" هو قول أبي عبيدة بن المثنى في "كتاب المجاز". قال: "قوله ملتحدا أي معدلا "وقال الطبري معناه ولن تجد من دونه معدلا تعدل إليه عن الله، لأن قدرة الله محيطة بجميع خلقه. قال والملتحد مفتعل من اللحد، يقال منه لحدت إلى كذا إذا ملت إليه انتهى. ويقال: لحدته وألحدته، قال الفراء: الرباعي أجود. وقال غيره: الثلاثي أكثر. ويؤيده حديث عائشة في قصة دفن النبي صلى الله عليه وسلم: "فأرسلوا إلى الشقاق واللاحد" الحديث أخرجه ابن ماجه، ثم ساق المصنف حديث جابر من طريق ابن المبارك عن الليث متصلا، وعن الأوزاعي منقطعا لأن ابن شهاب لم يسمع من جابر. زاد ابن سعد في الطبقات عن الوليد بن مسلم: "حدثني الأوزاعي بهذا الإسناد قال: زملوهم بجراحهم فإني أنا الشهيد عليهم، ما من مسلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة يسيل دما" الحديث. قوله في رواية الأوزاعي "فكفن أبي وعمي في نمرة" هي بفتح النون وكسر الميم: بردة من صوف أو غيره مخططة. وقال الفراء: هي دراعة فيها لونان سواد وبياض، ويقال للسحابة إذا كانت كذلك نمرة، وذكر الواقدي في المغازي وابن سعد أنهما كفنا في نمرتين، فإن ثبت حمل على أن النمرة الواحدة شقت بينهما نصفين، وسيأتي مزيد لذلك بعد بابين. والرجل الذي كفن معه في النمرة كأنه هو الذي دفن معه كما سيأتي الكلام على تسميته بعد باب. قوله: "وقال سليمان بن كثير إلخ" هو موصول في الزهريات للذهلي. وفي رواية سليمان المذكور إبهام شيخ الزهري وقد تقدم البحث فيه قبل بابين، قال الدارقطني في "التتبع": اضطرب فيه الزهري، وأجيب بمنع الاضطراب لأن الحاصل من الاختلاف فيه على الثقات أن الزهري حمله عن شيخين، وأما إبهام سليمان لشيخ الزهري وحذف الأوزاعي له فلا يؤثر ذلك في رواية من سماه، لأن الحجة لمن ضبط وزاد إذا كان ثقة لا سيما إذا كان حافظا، وأما رواية أسامة وابن عبد العزيز فلا تقدح في الرواية الصحيحة لضعفهما، وقد بينا أن البخاري صرح بغلط أسامة فيه، وسيأتي الكلام على بقية فوائد حيث جابر في المغازي، وفيه فضيلة ظاهرة لقارئ القرآن، ويلحق به أهل الفقه والزهد وسائر وجوه الفضل.

(3/213)


76 - باب الإِذْخِرِ وَالْحَشِيشِ فِي الْقَبْرِ
1349 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلاَ لِأَحَدٍ بَعْدِي أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ فَقَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلاَّ الإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ إِلاَّ الإِذْخِرَ"
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا"
وَقَالَ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" مِثْلَهُ

(3/213)


وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ"
[الحديث 1346 – أطرافه في: 1587, 1833, 1834, 2090, 2433, 2783, 2825, 3077, 3189, 4313]
قوله: "باب الإذخر والحشيش في القبر" أورد فيه حديث ابن عباس في تحريم مكة، وفيه: "فقال العباس إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا" وسيأتي الكلام على فوائده في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. وجوز ابن مالك في قوله: "إلا الإذخر" الرفع والنصب، وترجم ابن المنذر على هذا الحديث طرح الإذخر في القبر وبسطه فيه، وأراد المصنف بذكر الحشيش التنبيه على إلحاقه بالإذخر وأن المراد باستعمال الإذخر البسط ونحوه لا التطيب، ومراده بالحشيش ما يجوز حشه من الحرم إذا لم يقيده في الترجمة بشيء. وقد تقدم في "باب إذا لم يجد كفنا" في قصة مصعب بن عمير لما قصر كفنه أن يغطى رأسه وأن يجعل على رجليه من الإذخر، ولأحمد من طريق خباب أيضا أن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر. قوله: "وقال أبو هريرة إلخ" هو طرف من حديث طويل فيه قصة أبي شاه وقد تقدم موصولا في كتاب العلم. قوله: "وقال أبان بن صالح إلخ" وصله ابن ماجه من طريقه وفيه: "فقال العباس إلا الإذخر، فإنه للبيوت والقبور". قوله: "وقال مجاهد إلخ" هو طرف من الحديث الأول، وسيأتي موصولا في كتاب الحج، وأورده لقوله فيه: "لقينهم" بدل لقبورهم، والقين بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون هو الحداد، وكأنه أشار إلى ترجيح الرواية الأولى لموافقة رواية أبي هريرة وصفية، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.

(3/214)


77 - باب هَلْ يُخْرَجُ الْمَيِّتُ مِنْ الْقَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ
1350 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ" فَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ أَبُو هَارُونَ يَحْيَى وَكَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَانِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْبِسْ أَبِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ قَالَ سُفْيَانُ فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ"
1351 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ مَا أُرَانِي إِلاَّ مَقْتُولاً فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لاَ أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ"
[الحديث1351 – طرفه في: 1352]

(3/214)


1352 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ"
قوله: "باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة" أي لسبب، وأشار بذلك إلى الرد على من منع إخراج الميت من قبره مطلقا أو لسبب دون سبب، كمن خص الجواز بما لو دفن بغير غسل أو بغير صلاة، فإن في حديث جابر الأول دلالة على الجواز إذا كان في نبشه مصلحة تتعلق به من زيادة البركة له، وعليه يتنزل قوله في الترجمة "من القبر"، وفي حديث جابر الثاني دلالة على جواز الإخراج لأمر يتعلق بالحي لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه، وقد بين ذلك جابر بقوله: "فلم تطب نفسي" وعليه يتنزل قوله: "واللحد" لأن والد جابر كان في لحد، وإنما أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام لأن قصة عبد الله بن أبي قابلة للتخصيص، وقصة والد جابر ليس فيها تصريح بالرفع، قاله الزين بن المنير، ثم أورد المصنف فيه حديث عمرو - وهو ابن دينار - عن جابر في قصة عبد الله بن أبي، وقد سبق ذكره في "باب الكفن في القميص "وزاد في هذه الطريق "وكان كسا عباسا قميصا" وفي رواية الكشميهني: "قميصه" والعباس المذكور هو ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "قال سفيان: وقال أبو هرون إلخ" كذا وقع في رواية أبي ذر وغيرها، ووقع في كثير من الروايات "وقال أبو هريرة" وكذا في مستخرج أبي نعيم وهو تصحيف، وأبو هرون المذكور جزم المزي بأنه موسى بن أبي عيسى الحناط بمهملة ونون المدني، وقيل هو الغنوي واسمه إبراهيم بن العلاء من شيوخ البصرة، وكلاهما من أتباع التابعين، فالحديث معضل. وقد أخرجه الحميدي في مسنده عن سفيان فسماه عيسى ولفظه: "حدثنا عيسى بن أبي موسى1" فهذا هو المعتمد. قوله: "قال سفيان: فيرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله قيمصه مكافأة لما صنع بالعباس" هذا القدر متصل عند سفيان، وقد أخرجه البخاري في أواخر الجهاد في "باب كسوة الأسارى" عن عبد الله بن محمد عن سفيان بالسند المذكور قال: "لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه" ويحتمل أن يكون قوله: "فلذلك" من كلام سفيان أدرج في الخبر، بينته رواية علي بن عبد الله التي في هذا الباب، وسأستوفي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا حسين المعلم عن عطاء" هو ابن أبي رباح "عن جابر" هكذا أخرج البخاري هذا الحديث عن مسدد عن بشر بن المفضل عن حسين، ولم أره بعد التتبع الكثير في شيء من كتب الحديث بهذا الإسناد إلى جابر إلا في البخاري، وقد عز على الإسماعيلي مخرجه فأخرجه في مستخرجه من طريق البخاري، وأما أبو نعيم فأخرجه من طريق أبي الأشعث عن بشر بن المفضل فقال: "عن سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن جابر" وقال بعده: ليس أبو نضرة من شرط البخاري. قال: وروايته عن حسين عن عطاء عزيزة جدا. قلت: وطريق سعيد مشهورة عنه، أخرجها أبو داود وابن سعد والحاكم والطبراني من طريقه عن أبي نضرة عن جابر، واحتمل عندي أن يكون لبشر بن المفضل فيه شيخان، إلى أن رأيته في "المستدرك" للحاكم قد أخرجه عن أبي بكر بن إسحاق عن معاذ بن
ـــــــ
1 هكذا في المخطوطة التي بأيدينا وفي طبعة بولاق, وهو غلط من النساخ أو سبق قلم, والصواب "موسى بن أبي عيسى" كما تقدم في كلام المزي وكما يعلم من المراجع المعتمدة, فتأمل. والله أعلم

(3/215)


المثنى عن مسدد عن بشر كما رواه أبو الأشعث عن بشر، وكذا أخرجه في "الإكليل" بهذا الإسناد إلى جابر ولفظه لفظ البخاري سواء، فغلب علي الظن حينئذ أن في هذه الطريق وهما، لكن لم يتبين لي ممن هو، ولم أر من نبه على ذلك، وكأن البخاري استشعر بشيء من ذلك فعقب هذه الطريق بما أخرجه من طريق ابن أبي نجيح عن عطاء عن جابر مختصرا ليوضح أن له أصلا من طريق عطاء عن جابر. والله أعلم. قوله: "ما أراني" بضم الهمزة بمعني الظن، وذكر الحاكم في "المستدرك" عن الواقدي أن سبب ظنه ذلك منام رآه أنه رأى مبشر بن عبد المنذر -وكان ممن استشهد ببدر- يقول له: أنت قادم علينا في هذه الأيام، فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه الشهادة. وفي رواية أبي نضرة المذكورة عند ابن السكن عن جابر أن أباه قال له: إني معرض نفسي للقتل. الحديث. وقال ابن التين: إنما قال ذلك بناء على ما كان عزم عليه، وإنما قال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض أصحابه سيقتل كما سيأتي واضحا في المغازي. قوله: "وأن علي دينا" سيأتي مقداره في علامات النبوة. قوله: "فاقض" كذا في الأصل بحذف المفعول. وفي رواية الحاكم "فاقضه". قوله: "بأخواتك" سيأتي الكلام على ذكر عدتهن ومن عرف اسمها منهن في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: "ودفن معه آخر" هو عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام الأنصاري، وكان صديق والد جابر وزوج أخته هند بنت عمرو، وكأن جابرا سماه عمه تعظيما. قال ابن إسحاق في المغازي "حدثني أبي عن رجال من بني سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين أصيب عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح: اجمعوا بينهما فإنهما كانا متصادقين في الدنيا" وفي "مغازي الواقدي" عن عائشة أنها رأت هند بنت عمرو تسوق بعيرا لها عليه زوجها عمرو بن الجموح وأخوها عبد الله بن عمرو بن حرام لتدفنهما بالمدينة، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد القتلى إلى مضاجعهم. وأما قول الدمياطي إن قوله: "وعمي "وهم فليس بجيد، لأن له محملا سائغا، والتجوز في مثل هذا يقع كثيرا. وحكى الكرماني عن غيره أن قوله: "وعمي" تصحيف من "عمرو" وقد روى أحمد بإسناد حسن من حديث أبي قتادة قال: "قتل عمرو بن الجموح وابن أخيه يوم أحد فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلا في قبر واحد" قال ابن عبد البر في التمهيد: ليس هو ابن أخيه وإنما هو ابن عمه، وهو كما قال فلعله كان أسن منه. قوله: "فاستخرجته بعد ستة أشهر" أي من يوم دفنه وهذا يخالف في الظاهر ما وقع في الموطأ عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كانا قد حفر السيل قبرهما، وكانا في قبر واحد، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان بين أحد ويوم حفر عنهما ست وأربعون سنة، وقد جمع بينهما ابن عبد البر بتعدد القصة، وفيه نظر لأن الذي في حديث جابر أنه دفن أباه في قبر وحده بعد ستة أشهر وفي حديث الموطأ أنهما وجدا في قبر واحد بعد ست وأربعين سنة، فإما أن يكون المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة، أو أن السيل خرق أحد القبرين فصارا كقبر واحد، وقد ذكر ابن إسحاق القصة في المغازي فقال: "حدثني أبي عن أشياخ من الأنصار قالوا: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء انفجرت العين عليهم فجئنا فأخرجناهما -يعني عمرا وعبد الله- وعليهما بردتان قد غطي بهما وجوههما وعلى أقدامهم شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان تثنيا كأنهما دفنا بالأمس". وله شاهد بإسناد صحيح عند ابن سعد من طريق أبي الزبير عن جابر. قوله: "فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه" وقال عياض في رواية أبي السكن والنسفي "غير هنية في أذنه" وهو الصواب بتقديم "غير" وزيادة "في" وفي الأول تغيير، قال ومعنى قوله: "هنية"

(3/216)


أي شيئا يسيرا، وهو بنون بعدها تحتانية مصغرا، وهو تصغير "هنة" أي شيء، فصغره لكونه أثرا يسيرا انتهى. وقد قال الإسماعيلي عقب سياقه بلفظ الأكثر. إنما هو "عند1". قلت: وكدا وقع في رواية أبي ذر عن الكشميهني، لكن يبقى في الكلام نقص، ويبينه ما في رواية ابن أبي خيثمة والطبراني من طريق غسان بن مضر عن أبي سلمة بلفظ: "وهو كيوم دفنته، إلا هنية عند أذنه" وهو موافق من حيث المعني لرواية ابن السكن التي صوبها عياض. وجمع أبو نعيم في روايته من طريق أبي الأشعث بين لفظ: "غير" ولفظ: "عند" فقال: "غير هنية عند أذنه" ووقع في رواية الحاكم المشار إليها "فإذا هو كيوم وضعته غير أذنه" سقط منها لفظ: "هنية" وهو مستقيم المعنى. وكذلك ذكره الحميدي في "الجمع" في أفراد البخاري، والمراد بالأذن بعضها. وحكى ابن التين أنه في روايته بفتح الهاء وسكون التحتانية بعدها همزة ثم مثناة منصوبة ثم هاء الضمير، أي على حالته. وقد أخرجه ابن السكن من طريق شعبة عن أبي مسلمة2 بلفظ: "غير أن طرف أذن أحدهم تغير"، ولابن سعد من طريق أبي هلال عن أبي مسلمة "إلا قليلا من شحمة أذنه" ولأبي داود من طريق حماد بن زيد عن أبي مسلمة "إلا شعرات كن من لحيته مما يلي الأرض" ويجمع بين هذه الرواية وغيرها بأن المراد الشعرات التي تتصل بشحمة الأذن، وأفادت هذه الرواية سبب تغير ذلك دون غيره، ولا يعكر على ذلك ما رواه الطبراني بإسناد صحيح عن محمد بن المنكدر عن جابر "أن أباه قتل يوم أحد ثم مثلوا به فجدعوا أنفه وأذنيه" الحديث، وأصله في مسلم، لأنه محمول على أنهم قطعوا بعض أذنيه لا جميعهما والله أعلم. قوله: "عن ابن أبي نجيح عن عطاء" كذا للأكثر، وحكى أبو علي الجياني أنه وقع عند أبي علي بن السكن "عن مجاهد" بدل "عطاء" قال: والذي رواه غيره أصح. قلت: وكذا أخرجه ابن سعد والنسائي والإسماعيلي وآخرون كلهم من طريق سعيد بن عامر بالسند المذكور فيه وهو الصواب. وفي قصة والد جابر من الفوائد: الإرشاد إلى بر الأولاد بالآباء خصوصا بعد الوفاة، والاستعانة على ذلك بإخبارهم بمكانتهم من القلب. وفيه قوة إيمان عبد الله المذكور لاستثنائه النبي صلى الله عليه وسلم ممن جعل ولده أعز عليه منهم. وفيه كرامته بوقوع الأمر على ما ظن، وكرامته بكون الأرض لم تبل جسده مع لبثه فيها، والظاهر أن ذلك لمكان الشهادة. وفيه فضيلة لجابر لعمله بوصية أبيه بعد موته في قضاء دينه كما سيأتي بيانه في مكانه.
ـــــــ
1 أي "عند أذنه" بدل "غير أذنه" لكنه لايتم بها الكلام كما قال الشارح, والله أعلم
2 في المخطوطة: عن أبي سلمة

(3/217)


78 - باب اللَّحْدِ وَالشَّقِّ فِي الْقَبْرِ
1353 -حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ فَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ"
قوله: "باب اللحد والشق في القبر" أورد فيه حديث جابر في قصة قتلى أحد وليس فيه للشق ذكر. قال ابن رشيد: قوله في حديث جابر "قدمه في اللحد" ظاهر في أن الميتين جميعا في اللحد، ويحتمل أن يكون المقدم في اللحد

(3/217)


والذي يليه في الشق لمشقة الحفر في الجانب لمكان اثنين، وهذا يؤيد ما تقدم توجيهه أن المراد بقوله: "فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة" أي شقت بينهما، ويحتمل أن يكون ذكر الشق في الترجمة لينبه على أن اللحد أفضل منه، لأنه الذي وقع دفن الشهداء فيه مع ما كانوا فيه من الجهد والمشقة، فلولا مزيد فضيلة فيه ما عانوه. وفي السنن لأبي داود وغيره من حديث ابن عباس مرفوعا: "اللحد لنا والشق لغيرنا" وهو يؤيد فضيلة اللحد على الشق. والله أعلم.

(3/218)


باب إذا أسلم الصبي ومات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام؟
...
79 - باب إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الإِسْلاَمُ؟
وَقَالَ الْحَسَنُ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَالْوَلَدُ مَعَ الْمُسْلِمِ
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ أُمِّهِ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ
وَقَالَ الإِسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى
1354 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ "أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لابْنِ صَيَّادٍ: " تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَضَهُ وَقَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ فَقَالَ لَهُ مَاذَا تَرَى قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ الدُّخُّ فَقَالَ اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ"
[الحديث 1354 – أرافه في: 3055, 6173, 6618]
1355 - وَقَالَ سَالِمٌ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لِابْنِ صَيَّادٍ يَا صَافِ وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ هَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ" وَقَالَ شُعَيْبٌ فِي حَدِيثِهِ فَرَفَصَهُ رَمْرَمَةٌ أَوْ زَمْزَمَةٌ وَقَالَ إِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ وَعُقَيْلٌ رَمْرَمَةٌ وَقَالَ مَعْمَرٌ رَمْزَةٌ
[الحديث 1355 – أطرافه في: 2638, 3033, 3056, 6174]

(3/218)


1356 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَهْوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: " أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ"
[الحديث 1356 – طرفه في: 5675]
1357 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ أَنَا مِنْ الْوِلْدَانِ وَأُمِّي مِنْ النِّسَاءِ"
1358 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلاَمِ يَدَّعِي أَبَوَاهُ الإِسْلاَمَ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَلَى غَيْرِ الإِسْلاَمِ إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّيَ عَلَيْهِ وَلاَ يُصَلَّى عَلَى مَنْ لاَ يَسْتَهِلُّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُحَدِّثُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ "ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الْآيَةَ
[الحديث 1358 – أطرافه 1359, 1385, 4775, 6577]
1359 - حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" ؟ ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}
قوله: "باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام"؟ هذه الترجمة معقودة لصحة إسلام الصبي، وهي مسألة اختلاف كما سنبينه. وقوله: "وهل يعرض عليه "ذكره هنا بلفظ الاستفهام، وترجم في كتاب الجهاد بصيغة تدل على الجزم بذلك فقال: "وكيف يعرض الإسلام على الصبي"؟ وكأنه لما أقام الأدلة هنا على صحة إسلامه استغنى بذلك وأفاد هناك ذكر الكيفية. قوله: "وقال الحسن إلخ" أما أثر الحسن فأخرجه البيهقي من طريق محمد بن نصر أظنه في كتاب الفرائض له قال: "حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا يزيد بن زريع عن يونس عن الحسن في الصغير؟ قال: مع المسلم من والديه. وأما أثر إبراهيم فوصله عبد الرزاق عن معمر عن مغيرة عن إبراهيم قال في نصرانيين بينهما ولد صغير فاسلم أحدهما؟ قال: أولاهما به المسلم. وأما أثر شريح فأخرجه البيهقي بالإسناد

(3/219)


المذكور إلى يحيى بن يحيى "حدثنا هشيم عن أشعث عن الشعبي عن شريح أنه اختصم إليه في صبي أحد أبويه نصراني، قال: الوالد المسلم أحق بالولد". وأما أثر قتادة فوصله عبد الرزاق عن معمر عنه نحو قول الحسن. قوله: "وكان ابن عباس مع أمه من المستضعفين" وصله المصنف في الباب من حديثه بلفظ كنت أنا وأمي من المستضعفين، واسم أمه لبابة بنت الحارث الهلالية. قوله: "ولم يكن مع أبيه على دين قومه" هذا قاله المصنف تفقها، وهو مبني على أن إسلام العباس كان بعد وقعة بدر، وقد اختلف في ذلك فقيل: أسلم قبل الهجرة وأقام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك لمصلحة المسلمين، روى ذلك ابن سعد من حديث ابن عباس، وفي إسناده الكلبي وهو متروك. ويرده أن العباس أسر ببدر، وقد فدى نفسه كما سيأتي في المغازي واضحا، ويرده أيضا أن الآية التي في قصة المستضعفين نزلت بعد بدر بلا خلاف، فالمشهور أنه أسلم قبل فتح خيبر، ويدل عليه حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط كما أخرجه أحمد والنسائي، وروى ابن سعد من حديث ابن عباس أنه هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر ورده بقصة الحجاج المذكور، والصحيح أنه هاجر عام الفتح في أول السنة وقدم مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهد الفتح والله أعلم. قوله: "وقال: الإسلام يعلو ولا يعلى" كذا في جميع نسخ البخاري لم يعين القائل، وكنت أظن أنه معطوف على قول ابن عباس فيكون من كلامه، ثم لم أجده من كلامه بعد التتبع الكثير، ورأيته موصولا مرفوعا من حديث غيره أخرجه الدارقطني ومحمد بن هرون الروياني في مسنده من حديث عائذ بن عمرو المزني بسند حسن، ورويناه في "فوائد أبي يعلى الخليلي" من هذا الوجه وزاد في أوله قصة وهي أن عائذ بن عمرو جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب، فقال الصحابة: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عائد بن عمرو وأبو سفيان، الإسلام أعز من ذلك، الإسلام يعلو ولا يعلى. وفي هذه القصة أن للمبدأ به في الذكر تأثيرا في الفضل لما يفيده من الاهتمام، وليس فيه حجة على أن الواو ترتب. ثم وجدته من قول ابن عباس كما كنت أظن ذكره ابن حزم في المحلى قال: ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: "إذا أسلمت اليهودية أو النصرانية تحت اليهودي أو النصراني يفرق بينهما، الإسلام يعلو ولا يعلى". حديث ابن عمر في قصة ابن صياد وسيأتي الكلام عليه مستوفى في الباب المشار إليه في الجهاد، ومقصود البخاري منه الاستدلال هنا بقوله صلى الله عليه وسلم لابن صياد "أتشهد أني رسول الله"؟ وكان إذ ذاك دون البلوغ قوله: "أطم" بضمتين بناء كالحصن. و "مغالة" بفتح الميم والمعجمة الخفيفة بطن من الأنصار، وابن صياد في رواية أبي ذر صائد وكلا الأمرين كان يدعى به، وقوله: "فرفضه" للأكثر بالضاد المعجمة أي تركه، قال الزين بن المنير: أنكرها القاضي. ولبعضهم بالمهملة أي دفعه برجله، قال عياض: كذا في رواية أبي ذر عن غير المستملي ولا وجه لها. قال المازري: لعله رفسه بالسين المهملة أي ضربه برجله، قال عياض: لم أجد هذه اللفظة في جماهير اللغة يعني بالصاد، قال: وقد وقع في رواية الأصيلي بالقاف بدل الفاء. وفي رواية عبدوس "فوقصه" بالواو والقاف، وقوله: "وهو يختل" بمعجمة ساكنة بعدها مثناة مكسورة أي يخدعه، والمراد أنه كان يريد أن يستغفله ليسمع كلامه وهو لا يشعر. قوله: "له فيها رمزة أو زمرة" كذا للأكثر على الشك في تقديم الراء على الزاي أو تأخيرها، ولبعضهم "زمزمة أو رمرمة" على الشك هل هو بزايين أو براءين مع زيادة ميم فيهما، ومعاني هذه الكلمات المختلفة متقاربة، فأما التي بتقديم الراء وميم واحدة فهي فعلة من الرمز وهو الإشارة، وأما التي بتقديم الزاي كذلك فمن

(3/220)


الزمر والمراد حكاية صوته، وأما التي بالمهملتين وميمين فأصله من الحركة وهي هنا بمعني الصوت الخفي، وأما التي بالمعجمتين كذلك فقال الخطابي: هو تحريك الشفتين بالكلام. وقال غيره: وهو كلام العلوج وهو صوت يصوت من الخياشيم والحلق. قوله: "فثار ابن صياد" أي قام كذا للأكثر، وللكشميهني: "فثاب" بموحدة أي رجع عن الحالة التي كان فيها. قوله: "وقال شعيب زمزمة فرفصه" في رواية أبي ذر بالزايين وبالصاد المهملة. وفي رواية غيره: "وقال شعيب في حديثه فرفصه زمزمة أو رمرمة" بالشك. وسيأتي في الأدب موصولا من هذا الوجه بالشك، لكن فيه: "فرصه" بغير فاء وبالتشديد، وذكر الخطابي في غريبه بمهملة أي ضغطه وضم بعضه إلى بعض. قوله: "وقال إسحاق الكلبي وعقيل رمرمة" يعني بمهملتين "وقال معمر رمزة" يعني براء ثم زاي، أما رواية إسحاق فوصلها الذهلي في الزهريات وسقطت من رواية المستملي والكشميهني وأبي الوقت، وأما رواية عقيل فوصلها المصنف في الجهاد وكذا رواية معمر. "كان غلام يهودي يخدم" لم أقف في شيء من الطرق الموصولة على تسميته، إلا أن ابن بشكوال ذكر أن صاحب "العتبية" حكى عن زياد شيطون أن اسم هذا الغلام عبد القدوس، قال: وهو غريب ما وجدته عند غيره. قوله: "وهو عنده" في رواية أبي داود "عند رأسه" أخرجه عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه، وكذا للإسماعيلي عن أبي خليفة عن سليمان. قوله: "فأسلم" في رواية النسائي عن إسحاق بن راهويه عن سليمان المذكور فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله". قوله: "أنقذه من النار" في رواية أبي داود وأبي خليفة "أنقذه بي من النار " وفي الحديث جواز استخدام المشرك، وعيادته إذا مرض، وفيه حسن العهد، واستخدام الصغير، وعرض الإسلام على الصبي ولولا صحته منه ما عرضه عليه. وفي قوله: "أنقذه بي من النار" دلالة على أنه صح إسلامه، وعلى أن الصبي إذا عقل الكفر ومات عليه أنه يعذب1. وسيأتي البحث في ذلك من حديث سمرة الطويل في الرؤيا الآتي في "باب أولاد المشركين" في أواخر الجنائز. حديث ابن عباس "كنت أنا وأمي من المستضعفين" وقد تقدم الكلام عليه في الترجمة. حديث أبي هريرة في أن كل مولود يولد على الفطرة، أخرجه من طريق ابن شهاب عن أبي هريرة منقطعا، ومن طريق آخر عنه عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فالاعتماد في المرفوع على الطريق الموصولة، وإنما أورد المنقطعة لقول ابن شهاب الذي استنبطه من الحديث، وقول ابن شهاب "لغية" بكسر اللام والمعجمة وتشديد التحتانية أي من زنا، ومراده أنه يصلى على ولد الزنا ولا يمنع ذلك من الصلاة عليه لأنه محكوم بإسلامه تبعا لأمه، وكذلك من كان أبوه مسلما دون أمه. وقال ابن عبد البر: لم يقل أحد إنه لا يصلى على ولد الزنا إلا قتادة وحده، واختلف في الصلاة على الصبي فقال سعيد بن جبير: لا يصلى عليه حتى يبلغ، وقيل حتى يصلي. وقال الجمهور: يصلى عليه حتى السقط إذا استهل2. وقد تقدم في "باب قراءة فاتحة الكتاب" ما يقال في الصلاة على جنازة الصبي، ودخل في قوله: "كل مولود" السقط
ـــــــ
1 في هذه الفائدة نظر لأنه ليس في الحديث المذكور دلالة صريحة على أن الغلام المذكور لم يبلغ, وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "رفع القلم عن ثلاثة" وذكر منهم "الصغير حتى يبلغ" والله أعلم
2 الصواب شرعية الصلاة عليه وإن لم يستهل, إذا كان قد نفخ فيه الروح, لعموم حديث "السقط يصلى عليه" وتقدم البحث في ذلك في ص 201, والله أعلم

(3/221)


فلذلك قيده بالاستهلال، وهذا مصير من الزهري إلى تسمية الزاني أبا لمن زنى بأمه فإنه يتبعه في الإسلام، وهو قول مالك، وسيأتي الكلام على المتن المرفوع وعلى ذكر الاختلاف على الزهري فيه في "باب أولاد المشركين" إن شاء الله تعالى.

(3/222)


80 - باب إِذَا قَالَ الْمُشْرِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
1360حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَبِي طَالِبٍ: "يَا عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّه"ِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ" فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَمَا وَاللَّهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ [113التوبة]: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآيَةَ"
[الحديث 1360 – أطرافه في: 3884, 4675, 4772, 6681]
قوله: "باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله" قال الزين بن المنير: لم يأت بجواب إذا لأنه صلى الله عليه وسلم لما قال لعمه "قل لا إله إلا الله أشهد لك بها" كان محتملا لأن يكون ذلك خاصا به، لأن غيره إذا قالها وقد أيقن بالوفاة لم ينفعه. ويحتمل أن يكون ترك جواب إذا ليفهم الواقف عليه أنه موضع تفصيل وفكر، وهذا هو المعتمد. حديث سعيد بن المسيب عن أبيه أورده المصنف في قصة أبي طالب عند موته، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في تفسير براءة. وقوله في هذه الطريق "ما لم أنه عنه" أي الاستغفار. وفي رواية الكشميهني: "عنك". وقوله: "فأنزل الله فيه الآية" يعني قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية كما سيأتي. وقد ثبت لغير أبي ذر "فأنزل الله فيه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية.

(3/222)


باب الجريدة على القبر
...
81 - باب الْجَرِيدِ عَلَى الْقَبْرِ.
وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الأَسْلَمِيُّ أَنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدَانِ وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ انْزِعْهُ يَا غُلاَمُ فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ
وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ رَأَيْتُنِي وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً الَّذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ حَتَّى يُجَاوِزَهُ وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ أَخَذَ بِيَدِي خَارِجَةُ فَأَجْلَسَنِي عَلَى قَبْرٍ وَأَخْبَرَنِي عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ وَقَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ
1361 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ

(3/222)


82 - باب مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ
{يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} الأَجْدَاثُ الْقُبُورُ {بُعْثِرَتْ} أُثِيرَتْ بَعْثَرْتُ حَوْضِي أَيْ جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلاَهُ الإِيفَاضُ الإِسْرَاعُ وَقَرَأَ الأَعْمَشُ {إِلَى نُصُبٍ} إِلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ يَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ وَالنُّصْبُ وَاحِدٌ وَالنَّصْبُ مَصْدَرٌ يَوْمُ الْخُرُوجِ مِنْ الْقُبُورِ {يَنْسِلُونَ} يَخْرُجُونَ
1362 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلاَ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيَةَ"
[الحديث 1362 – أطرافه في: 4945, 4946, 4947, 4948, 4949, 6217, 6605, 7552]
قوله: "باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله" كأنه يشير إلى التفصيل بين أحوال القعود، فإن كان لمصلحة تتعلق بالحي أو الميت لم يكره، ويحمل النهي الوارد عن ذلك على ما يخالف ذلك. قوله:" {يَخْرُجُونَ مِنَ

(3/225)


الأَجْدَاثِ} : الأجداث القبور" أي المراد بالأجداث في الآية القبور. وقد وصله ابن أبي حاتم وغيره من طريق قتادة والسدي وغيرهما، واحدها جدث بفتح الجيم والمهملة. قوله: {بُعْثِرَتْ} : أثيرت. بعثرت حوضي: جعلت أسفله أعلاه" هذا كلام أبي عبيدة في "كتاب المجاز". وقال السدي: بعثرت أي حركت، فخرج ما فيها. رواه ابن أبي حاتم. قوله: "الإيفاض" بياء تحتانية ساكنة قبلها كسرة وبفاء ومعجمة "الإسراع" كذا قال الفراء في "المعاني". وقال أبو عبيدة: يوفضون أي يسرعون. قوله: "وقرأ الأعمش: إلى نصب" يعني بفتح النون كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر بالضم، والأول أصح. وكذا ضبطه الفراء عن الأعمش في "كتاب المعاني" وهي قراءة الجمهور. وحكى الطبراني أنه لم يقرأه بالضم ألا الحسن البصري. وقد حكى الفراء عن زيد بن ثابت ذلك، ونقلها غيره عن مجاهد وأبي عمران الجوني. وفي "كتاب السبعة" لابن مجاهد: قرأها ابن عامر بضمتين، يعني بلفظ الجمع. وكذا قرأها حفص عن عاصم. ومن هنا يظهر سبب تحصيص الأعمش بالذكر لأنه كوفي، وكذا عاصم ففي انفراد حفص عن عاصم بالضم شذوذ. قال أبو عبيدة: النصب بالفتح هو العلم الذي نصبوه ليعبدوه، ومن قرأ نصب بالضم فهي جماعة مثل رهن ورهن. قوله: "يوفضون إلى شيء منصوب: يستبقون" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم عن قرة عن الحسن في قوله: {إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أي يبتدرون أيهم يستلمه أول. قوله: "والنصب واحد والنصب مصدر" كذا وقع فيه، والذي في "المعاني للفراء" النصب والنصب واحد وهو مصدر والجمع الأنصاب. وكأن التغيير من بعض النقلة. قوله: "يوم الخروج من قبورهم" أي خروج أهل القبور من قبورهم. قوله: "وينسلون يخرجون" كذا أورده عبد بن حميد وغيره عن قتادة، وسيأتي له معنى آخر إن شاء الله تعالى. وفي نسخة الصغاني بعد قوله: {يَخْرُجُونَ} : من النسلان. وهذه التفاسير أوردها لتعلقها بذكر القبر استطرادا، ولها تعلق بالموعظة أيضا. وقال الزين بن المنير: مناسبة إيراد هذه الآيات في هذه الترجمة للإشارة إلى أن المناسب لمن قعد عند القبر إن يقصر كلامه على الإنذار بقرب المصير إلى القبور ثم إلى النشر لاستيفاء العمل. ثم أورد المصنف حديث علي بن أبي طالب أورده المصنف مرفوعا: "ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار" الحديث. وسيأتي مبسوطا في تفسير {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، وهو أصل عظيم في إثبات القدر. وقوله فيه: "اعملوا" جرى مجرى أسلوب الحكيم، أي الزموا ما يجب على العبد من العبودية، ولا تتصرفوا في أمر الربوبية. وعثمان شيخه هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد. وموضع الحاجة منه "فقعد وقعدنا حوله". وقوله: "فقال رجل" هو عمر أو غيره كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(3/226)


83 - باب مَا جَاءَ فِي قَاتِلِ النَّفْسِ
1363 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلاَمِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ"
[الحديث 1363 – أطرافه في: 4171, 4843, 6047, 6652]
1364 - وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ "حَدَّثَنَا جُنْدَبٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا

(3/226)


الْمَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ اللَّهُ بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"
[الحديث 1364 – طرفه في: ]
1365 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ"
قوله: "باب ما جاء في قاتل النفس" قال ابن رشيد: مقصود الترجمة حكم قاتل النفس. والمذكور في الباب حكم قاتل نفسه، فهو أخص من الترجمة، ولكنه أراد أن يلحق بقاتل نفسه قاتل غيره من باب الأولى، لأنه إذا كان قاتل نفسه الذي لم يتعد ظلم نفسه ثبت فيه الوعيد الشديد فأولى من ظلم غيره بإفاتة نفسه. قال ابن المنير في الحاشية: عادة البخاري إذا توقف في شيء ترجم عليه ترجمة مبهمة كأنه ينبه على طريق الاجتهاد. وقد نقل عن مالك أن قاتل النفس لا تقبل توبته، ومقتضاه أن لا يصلى عليه، وهو نفس قول البخاري. قلت: لعل البخاري أشار بذلك إلى ما رواه أصحاب السنن1 من حديث جابر بن سمرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه" وفي رواية للنسائي: "أما أنا فلا أصلي عليه" ، لكنه لما لم يكن على شرطه أومأ إليه بهذه الترجمة وأورد فيها ما يشبهه من قصة قاتل نفسه. ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث:أحدها حديث ثابت بن الضحاك فيمن قتل نفسه بحديدة، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في الأيمان والنذور، وخالد المذكور في إسناده هو الحذاء. ثانيها حديث جندب، هو ابن عبد الله البجلي قال فيه: "قال حجاج بن منهال حدثنا جرير بن حازم" وقد وصله في ذكر بني إسرائيل فقال: "حدثنا محمد حدثنا حجاج بن منهال" فذكره. وهو أحد المواضع التي يستدل بها على أنه ربما علق عن بعض شيوخه ما بينه وبينه فيه واسطة، لكنه أورده هنا مختصرا وأورده هناك مبسوطا فقال في أوله "كان فيمن كان قبلكم رجل" وقال فيه: "فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات" وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك، ولم أقف على تسمية هذا الرجل. حديث أبي هريرة مرفوعا: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار " وهو من أفراد البخاري من هذا الوجه، وقد أخرجه أيضا في الطب من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مطولا، ومن ذلك الوجه أخرجه مسلم وليس فيه ذكر الخنق، وفيه من الزيادة ذكر السم وغيره ولفظه: " فهو في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" وقد تمسك به المعتزلة وغيرهم ممن قال بتخليد أصحاب المعاصي في النار، وأجاب أهل السنة عن ذلك بأجوبة: منها توهيم هذه الزيادة، قال الترمذي بعد أن أخرجه: رواه محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فلم يذكر "خالدا مخلدا" وكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يشير إلى رواية الباب قال: وهو أصح لأن الروايات قد صحت أن أهل التوحيد يعذبون ثم يخرجون منها ولا يخلدون، وأجاب غيره بحمل ذلك على من استحله، فإنه يصير باستحلاله كافرا والكافر مخلد بلا ريب. وقيل: ورد مورد الزجر والتغليظ، وحقيقته غير مرادة. وقيل: المعنى أن هذا جزاؤه، لكن قد تكرم الله على الموحدين فأخرجهم من النار بتوحيدهم. وقيل: التقدير مخلدا فيها إلى أن يشاء الله. وقيل: المراد
ـــــــ
1 هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه باللفظ المذكور كما ذكره الشارح في بلوغ المرام. والله أعلم

(3/227)


بالخلود طول المدة لا حقيقة الدوام كأنه يقول يخلد مدة معينة، وهذأ أبعدها. وسيأتي له مزيد بسط عند الكلام على أحاديث الشفاعة إن شاء الله تعالى. واستدل بقوله: "الذي يطعن نفسه يطعنها في النار" على أن القصاص من القاتل يكون بما قتل به اقتداء بعقاب الله تعالى لقاتل نفسه، وهو استدلال ضعيف1.
" تنبيه ": قوله في حديث الباب: "يطعنها" هو بضم العين المهملة كذا ضبطه في الأصول.
ـــــــ
1 هذا من الشارح غريب, والصواب أنه استدلال جيد, ويدل عليه قوله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقوله تعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من رض رأس الهودي الذي رض رأس الجارية. والأدلة في ذلك كثيرة. والله أعلم

(3/228)


84 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ
رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1366 - حدثنا يحيى بن بكير حدثني الليث عن عقيل عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أنه قال: "لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على بن أبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا أعدد عليه قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أخر عني يا عمر فلما أكثرت عليه قال إني خيرت فاخترت لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها" قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} إلى {فَاسِقُونَ} قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم"
[الحديث 1366 – طرفه في: 4671]
قوله: "باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين" قال الزين بن المنير: عدل عن قوله كراهة الصلاة على المنافقين لينبه على أن الامتناع من طلب المغفرة لمن لا يستحقها، لا من جهة العبادة الواقعة من صورة الصلاة، فقد تكون العبادة طاعة من وجه معصية من وجه. والله أعلم. قوله: "رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم" كأنه يشير إلى حديثه في قصة الصلاة على عبد الله بن أبي أيضا، وقد تقدم في "باب القميص الذي يكف" ثم أورد المصنف الحديث المذكور من طريق ابن عباس عن عمر بن الخطاب، وسيأتي من هذا الوجه أيضا في التفسير. =

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............