السبت، 7 مايو 2022

كتاب :38- و39- فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

  كتاب :38- فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 == تحلفوا بآبائكم، قال عمر: فوالله ما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا". وأما متابعة إسحاق الكلبي وهو ابن يحيى الحمصي فوقعت لنا موصولة في نسخته المروية من طريق أبي بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان عن عبد القدوس بن موسى الحمصي عن سليم بن عبد الحميد عن يحيى بن صالح الوحاظي عن إسحاق ولفظه: "عن الزهري أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه أخبرني أن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فذكر مثل رواية يونس عند مسلم، لكن قال بعد قوله: "ينهى عنها": ولا تكلمت بها ذاكرا ولا آثرا، فجمع بين لفظ يونس ولفظ عقيل. وقد صرح مسلم بأن عقيلا لم يقل في روايته ذاكرا ولا آثرا. قوله: "وقال ابن عيينة ومعمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر" أما رواية ابن عيينة فوصلها الحميدي في مسنده عنه بهذا السياق، وكذا قال أبو بكر بن أبي شيبة وجمهور أصحاب ابن عيينة عنه منهم الإمام أحمد. وقال محمد بن يحيي بن أبي عمر العدني ومحمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وسعيد من عبد الرحمن المخزومي بهذا السند عن ابن عمر عن عمر "سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقد بين ذلك الإسماعيلي فقال: اختلف فيه على سفيان بن عيينة وعلى معمر، ثم ساقه من طريق ابن أبي عمر عن سفيان فقال في روايته: "عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه يحلف بأبيه" قال وقال عمرو الناقد وغير واحد عن سفيان بسنده إلى ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر". وأما رواية معمر فوصلها الإمام أحمد عن عبد الرزاق عنه. وأخرجها أبو داود عن أحمد. قلت: وصنيع مسلم يقتضي أن رواية معمر كذلك، فإنه صدر برواية يونس ثم ساقه إلى عقيل ثم قال بعدها "وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا أنبأنا عبد الرزاق أنبأنا معمر" ثم قال كلاهما: عن الزهري بهذا الإسناد أي الإسناد الذي ساقه ليونس مثله، أي مثل المتن الذي ساقه له. قال: غير أن في حديث عقيل "ولا تكلمت بها" لكن حكى الإسماعيلي أن إسحاق ابن إبراهيم رواه عن عبد الرزاق كرواية أحمد عنه، وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن عبد الرزاق فقال في روايته عن عمر "سمعني النبي صلى الله عليه وسلم أحلف" وهكذا قال محمد بن أبي السري عن عبد الرزاق، وذكر الإسماعيلي أن عبد الأعلى رواه عن معمر فلم يقل في السند "عن عمر" كرواية أحمد. قلت: وكذا أخرجه أحمد في مسنده من رواية عبد الأعلى قال يعقوب بن شيبة رواه إسحاق بن يحيى عن سالم عن أبيه ولم يقل عن عمر، قلت: فكان الاختلاف فيه على الزهري رواه إسحاق بن يحيى، وهو متقن صاحب حديث، ويشبه أن يكون ابن عمر سمع المتن من النبي صلى الله عليه وسلم والقصة التي وقعت لعمر منه فحدث به على الوجهين. وفي هذا الحديث من الفوائد الزجر عن الحلف بغير الله، وإنما خص في حديث عمر بالآباء لوروده على سببه المذكور، أو خص لكونه كان غالبا عليه لقوله في الرواية الأخرى "وكانت قريش تحلف بآبائها" ويدل على التعميم قوله: "من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله" وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير الله ففيه جوابان: أحدهما أن فيه حذفا والتقدير ورب الشمس ونحوه، والثاني أن ذلك يختص بالله فإذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به وليس لغيره ذلك. وأما ما وقع مما يخالف ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي "أفلح وأبيه إن صدق" فقد تقدم في أوائل هذا الشرح في "باب الزكاة من الإسلام" في كتاب الأيمان الجواب عن ذلك وأن فيهم من طعن في صحة هذه اللفظة، قال ابن عبد البر: هذه اللفظة غير محفوظة وقد جاءت عن راويها وهو إسماعيل بن جعفر بلفظ: "أفلح والله إن صدق" قال: وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ أفلح وأبيه لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح. ولم تقع في رواية مالك أصلا. وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحف قوله:

(11/533)


"وأبيه" من قوله: "والله" وهو محتمل ولكن مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال، وقد ثبت مثل ذلك من لفظ أبي بكر الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال في حقه "وأبيك ما ليلك بليل سارق" أخرجه في الموطأ وغيره قال السهيلي: وقد ورد نحو في حديث آخر مرفوع قال للذي سأل أي الصدقة أفضل فقال: "وأبيك لتنبأن" أخرجه مسلم. فإذا ثبت ذلك فيجاب بأجوبة: الأول أن هذا اللفظ كان يجرى على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف، وإلى هذا جنح البيهقي. وقال النووي: إنه الجواب المرضي. الثاني أنه كان يقع في كلامهم على وجهين: أحدهما للتعظيم والآخر للتأكيد، والنهي إنما وقع عن الأول فمن أمثلة ما وقع في كلامهم للتأكيد لا للتعظيم قول الشاعر "لعمر أبي الواشين إني أحبها" وقول الآخر.
فإن تك ليلى استودعتني أمانة ... فلا وأبي أعدائها لا أذيعها
فلا يظن أن قائل ذلك قصد تعظيم والد أعدائها كما لم يقصد الآخر تعظيم والد من وشى به، فدل على أن القصد بذلك تأكيد الكلام لا التعظيم. وقال البيضاوي: هذا اللفظ من جملة ما يزاد في الكلام لمجرد التقرير والتأكيد ولا يراد به القسم، كما تزاد صيغة النداء لمجرد الاختصاص دون القصد إلى النداء، وقد تعقب الجواب بأن ظاهر سياق حديث عمر يدل على أنه كان يحلفه لأن في بعض طرقه أنه كان يقول لا وأبي لا وأبي فقيل له لا تحلفوا، فلولا أنه أتى بصيغة الحلف ما صادف النهي محلا، ومن ثم قال بعضهم وهو الجواب الثالث: إن هذا كان جائزا ثم نسخ قاله الماوردي وحكاه البيهقي. وقال السبكي: أكثر الشراح عليه، حتى قال ابن العربي: وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهى عن ذلك. قال: وترجمة أبي داود تدل على ذلك، يعني قوله: "باب الحلف بالآباء" ثم أورد الحديث المرفوع الذي فيه: "أفلح وأبيه إن صدق" قال السهيلي ولا يصح لأنه لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحلف بغير الله ولا يقسم بكافر، تالله إن ذلك لبعيد من شيمته. وقال المنذري: دعوى النسخ ضعيفة لإمكان الجمع ولعدم تحقق التاريخ. والجواب الرابع أن في الجواب حذفا تقديره أفلح ورب أبيه قاله البيهقي، وقد تقدم. الخامس أنه للتعجب قاله السهيلي، قال: ويدل عليه أنه لم يرد بلفظ: "أبي" وإنما ورد بلفظ: "وأبيه" أو "وأبيك" بالإضافة إلى ضمير المخاطب حاضرا أو غائبا. السادس أن ذلك خاص بالشارع دون غيره من أمته، وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. وفيه أن من حلف بغير الله مطلقا لم تنعقد يمينه سواء كان المحلوف به يستحق التعظيم لمعنى غير العبادة كالأنبياء والملائكة والعلماء والصلحاء والملوك والآباء والكعبة، أو كان لا يستحق التعظيم كالآحاد، أو يستحق التحقير والإذلال كالشياطين والأصنام وسائر من عبد من دون الله، واستثنى بعض الحنابلة من ذلك الحلف بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: تنعقد به اليمين وتجب الكفارة بالحنث، فاعتل بكونه أحد ركني الشهادة التي لا تتم إلا به. وأطلق ابن العربي نسبته لمذهب أحمد وتعقبه بأن الأيمان عند أحمد لا تتم إلا بفعل الصلاة فيلزمه أن من حلف بالصلاة أن تنعقد يمينه ويلزمه الكفارة إذا حنث. ويمكن الجواب عن إيراده والانفصال عما ألزمهم به، وفيه الرد على من قال إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر أنه ينعقد يمينا ومتى فعل تجب عليه الكفارة، وقد نقل ذلك عن الحنفية والحنابلة، ووجه الدلالة من الخبر أنه لم يحلف بالله ولا بما يقوم مقام ذلك، وسيأتي مزيد لذلك بعد، وفيه أن من قال أقسمت لأفعلن كذا لا يكون يمينا؛ وعند الحنفية يكون يمينا، وكذا قال مالك وأحمد لكن بشرط أن ينوي بذلك الحلف بالله وهو متجه، وقد قال بعض الشافعية: إن قال على

(11/534)


أمانة الله لأفعلن كذا وأراد اليمين أنه يمين وإلا فلا. وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة هو خاص بالأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون به تعظيما لغير الله تعالى كاللات والعزى والآباء فهذه يأثم الحالف بها ولا كفارة فيها، وأما ما كان يؤول إلى تعظيم الله كقوله وحق النبي والإسلام والحج والعمرة والهدى والصدقة والعتق ونحوها مما يراد به تعظيم الله والقربة إليه فليس داخلا في النهي، وممن قال بذلك أبو عبيد وطائفة ممن لقيناه، واحتجوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق والهدى والصدقة ما أوجبوه مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدل على أن ذلك عندهم ليس على عمومه، إذ لو كان عاما لنهوا عن ذلك ولم يوجبوا فيه شيئا انتهى. وتعقبه ابن عبد البر بأن ذكر هذه الأشياء وإن كانت بصورة الحلف فليست يمينا في الحقيقة وإنما خرج عن الاتساع، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله. وقال المهلب: كانت العرب تحلف بآبائها وآلهتها فأراد الله نسخ ذلك من قلوبهم لينسيهم ذكر كل شيء سواه ويبقى ذكره، لأنه الحق المعبود فلا يكون اليمين إلا به، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالآباء. وقال الطبري: في حديث عمر - يعني حديث الباب - أن اليمين لا تنعقد إلا بالله وأن من حلف بالكعبة أو آدم أو جبريل ونحو ذلك لم تنعقد يمينه ولزمه الاستغفار لإقدامه على ما نهى عنه ولا كفارة في ذلك، وأما ما وقع في القرآن من القسم بشيء من المخلوقات فقال الشعبي: فالخالق يقسم بما شاء من خلقه والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق، قال: ولأن أقسم بالله فأحنث أحب إلي من أن أقسم بغيره فأبر. وجاء مثله عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر. ثم أسند عن مطرف عن عبد الله أنه قال: إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ولدلالتها على خالقها، وقد أجمع العلماء على من وجبت له يمين على آخر في حق عليه أنه لا يحلف له إلا بالله، فلو حلف له بغيره وقال نويت رب المحلوف به لم يكن ذلك يمينا. وقال ابن هبيرة في كتاب الإجماع: أجمعوا على أن اليمين منعقدة بالله وبجميع أسمائه الحسنى وبجميع صفات ذاته كعزته وجلاله وعلمه وقوته وقدرته، واستثنى أبو حنيفة علم الله فلم يره يمينا وكذا حق الله، واتفقوا على أنه لا يحلف بمعظم غير الله كالنبي، وانفرد أحمد في رواية فقال تنعقد. وقال عياض: لا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الحلف بأسماء الله وصفاته لازم إلا ما جاء عن الشافعي من اشترط نية اليمين في الحلف بالصفات وإلا فلا كفارة، وتعقب إطلاقه ذلك عن الشافعي، وإنما يحتاج إلى النية عنده ما يصح إطلاقه عليه سبحانه وتعالى وعلى غيره. وأما ما لا يطلق في معرض التعظيم شرعا إلا عليه تنعقد اليمين به وتجب الكفارة إذا حنث كمقلب القلوب وخالق الخلق ورازق كل حي ورب العالمين وفالق الحب وبارئ النسمة، وهذا في حكم الصريح كقوله والله، وفي وجه لبعض الشافعية أن الصريح الله فقط، ويظهر أثر الخلاف فيما لو قال قصدت غير الله هل ينفعه في عدم الحنث، وسيأتي زيادة تفصيل فيما يتعلق بالصفات في باب الحلف بعزة الله وصفاته، والمشهور عن المالكية التعميم، وعن أشهب التفصيل في مثل وعزة الله إن أراد التي جعلها بين عبادة فليست بيمين، وقياسه أن يطرد في كل ما يصح إطلاقه عليه وعلى غيره. وقال به ابن سحنون منهم في عزة الله. وفي العتبية أن من حلف بالمصحف لا تنعقد، واستنكره بعضهم ثم أولها على أن المراد إذا أراد جسم المصحف، والتعميم عند الحنابلة حتى لو أراد بالعلم والقدرة المعلوم والمقدور انعقدت والله أعلم. "تنبيه": وقع في رواية محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر في آخر هذا الحديث زيادة أخرجها ابن ماجه من طريقه بلفظ:" سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يحلف بأبيه فقال:

(11/535)


لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض بالله فليس من الله" وسنده حسن. حديث أبي موسى في قصة الذي حلف أن لا يأكل الدجاج وفيه قصة أبي موسى مع النبي صلى الله عليه وسلم لما استحمل النبي صلى الله عليه وسلم للأشعريين وفيه: "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت" الحديث، وقد تقدم شرح ما يتعلق بالدجاج، وبما وقع في صدر الحديث من قصة الرجل الجرمي وتسميته في كتاب الذبائح، ويأتي شرح قصته في كفارات الأيمان؛ وقوله في السند "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، وأيوب هو السختياني والقاسم التيمي هو ابن عاصم بصرى تابعي وهو من صغار شيوخ أيوب، قال ابن المنير: أحاديث الباب مطابقة للترجمة إلا حديث أبي موسى، لكن يمكن أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن أيمانه أنها تقتضي الكفارة، والذي يشرح تكفيره ما كان الحلف فيه بالله تعالى فدل على أنه لم يكن يحلف إلا بالله تعالى.

(11/536)


باب لا يحلف باللات والعزى ، ولا بالطواغيبت
...
5 - باب لاَ يُحْلَفُ بِاللاَتِ وَالْعُزَّى وَلاَ بِالطَّوَاغِيتِ
6650- حدثني عبد الله بن محمد حدثنا هشام بن يوسف أخبرنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق"
قوله: "باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت" أما الحلف باللات والعزى فذكر في حديث الباب وقد تقدم تفسيره في تفسير سورة النجم، وأما الطواغيت فوقع في حديث أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق هشام بن حسان عن الحسن البصري عن عبد الرحمن بن سمرة مرفوعا: "لا تحلفوا بالطواغيت ولا بآبائكم" وفي رواية مسلم وابن ماجه: "بالطواغي" وهو جمع طاغية والمراد الصنم، ومنه الحديث الآخر "طاغية دوس" أي صنمهم، سمى باسم المصدر لطغيان الكفار بعبادته لكونه السبب في طغيانهم، وكل من جاوز الحد في تعظيم أو غيره فقد طغى، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} ، وأما الطواغيت فهو جمع طاغوت وقد تقدم بيانه في تفسير سورة النساء، ويجوز أن يكون الطواغي مرخما من الطواغيت بدون حرف النداء على أحد الآراء، ويدل عليه مجيء أحد اللفظين موضع الآخر في حديث واحد، ولذلك اقتصر المصنف على لفظ الطواغيت لكونه الأصل وعطفه على اللات والعزى لاشتراك الكل في المعنى؛ وإنما أمر الحالف بذلك بقول لا إله إلا الله لكونه تعاطي صورة تعظيم الصنم حيث حلف به، قال جمهور العلماء: من حلف باللات والعزى أو غيرهما من الأصنام أو قال إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النبي صلى الله عليه وسلم لم تنعقد يمينه وعليه أن يستغفر الله ولا كفارة عليه ويستحب أن يقول لا إله إلا الله، وعن الحنفية تجب الكفارة إلا في مثل قوله أنا مبتدع أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم، واحتج بإيجاب الكفارة على المظاهر مع أن الظهار منكر من القول وزور كما قال الله تعال والحلف بهذه الأشياء منكر، وتعقب بهذا الخبر لأنه لم يذكر فيه إلا الأمر بلا إله إلا الله ولم يذكر فيه كفارة والأصل عدمها حتى يقام الدليل، وأما القياس على الظهار فلا يصح لأنهم لم يوجبوا فيه كفارة الظهار واستثنوا أشياء لم يوجبوا فيها كفارة أصلا مع أنه منكر من القول. وقال النووي في الأذكار: الحلف بما ذكر حرام تجب التوبة منه، وسبقه إلى ذلك الماوردي وغيره ولم يتعرضوا لوجوب قول لا إله إلا الله وهو ظاهر الخبر

(11/536)


وبه جزم ابن درباس في شرح المهذب. وقال البغوي في شرح السنة تبعا للخطابي: في هذا الحديث دليل على أن لا كفارة على من حلف بغير الإسلام وإن أثم به، لكن تلزمه التوبة لأنه صلى الله عليه وسلم أمره بكلمة التوحيد فأشار إلى أن عقوبته تختص بذنبه ولم يوجب عليه في ماله شيئا، وإنما أمره بالتوحيد لأن الحلف باللات والعزى يضاهي الكفار فأمره أن يتدارك بالتوحيد. وقال الطيبي: الحكمة في ذكر القمار بعد الحلف باللات أن من حلف باللات وافق الكفار في حلفهم فأمر بالتوحيد، ومن دعا إلى المقامرة وافقهم في لعبهم فأمر بكفارة ذلك بالتصدق. قال: وفي الحديث أن من دعا إلى اللعب فكفارته أن يتصدق، ويتأكد ذلك في حق من لعب بطريق الأولى. وقال النووي: فيه أن من عزم على المعصية حتى استقر ذلك في قلبه أو تكلم بلسانه أنه تكتبه عليه الحفظة. كذا قال، وفي أخذ هذا الحكم من هذا الدليل وقفة.

(11/537)


باب من حلف على شيء وإن لم يحلف
...
6 - باب مَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يُحَلَّفْ
6651- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَكَانَ يَلْبَسُهُ فَيَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ فَصَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لاَ أَلْبَسُهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ
قوله: "باب من حلف على الشيء وإن لم يحلف" بضم أوله وتشديد اللام، تقدم قريبا في "باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم" أمثلة كثيرة لذلك وهي ظاهرة في ذلك. حديث ابن عمر في لبس النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الذهب وفيه: "فرمى به ثم قال: والله لا ألبسه أبدا" وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر كتاب اللباس. وقد أطلق بعض الشافعية أن اليمين بغير استحلاف تكره فيما لم يكن طاعة، والأولى أن يعبر بما فيه مصلحة. قال ابن المنير: مقصود الترجمة أن يخرج مثل هذا من قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} يعني على أحد التأويلات فيها لئلا يتخيل أن الحالف قبل أن يستحلف يرتكب النهي، فأشار إلى أن النهي يختص بما ليس فيه قصد صحيح كتأكيد الحكم، كالذي ورد في حديث الباب من منع لبس خاتم الذهب.

(11/537)


7 - باب مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى مِلَّةِ الإِسْلاَمِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِاللاَتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى الْكُفْرِ"
6652- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ "عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الإِسْلاَمِ فَهُوَ كَمَا قَالَ قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ"
قوله: "باب من حلف بملة سوى الإسلام" الملة بكسر الميم وتشديد اللام الدين والشريعة، وهي نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية ومن لحق بهم من المجوسية والصابئة وأهل الأوثان

(11/537)


باب لا يقول ماشاء الله وشئت . وهل يقول أنا بالله ثم بك؟
...
8 - باب لاَ يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ وَهَلْ يَقُولُ أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ

(11/539)


6653- وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ مَلَكًا فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فَلاَ بَلاَغَ لِي إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قوله: "باب لا يقول ما شاء الله وشئت، وهل يقول أنا بالله ثم بك"؟ هكذا بت الحكم في الصورة الأولى وتوقفت في الصورة الثانية، وسببه أنها وإن كانت وقعت في حديث الباب الذي أورده مختصرا وساقه مطولا فيما مضى لكن إنما وقع ذلك من كلام الملك على سبيل الامتحان للمقول له فتطرق إليه الاحتمال. قوله: "وقال عمرو بن عاصم إلخ" وصله في ذكر بني إسرائيل فقال: "حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عمرو بن عاصم" وساقه بطوله. وقد يتمسك به من يقول أنه قد يطلق "قال" لبعض شيوخه فيما لم يسمعه منه ويكون بينهما واسطة، كأنه أشار بالصورة الأولى إلى ما أخرجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور وصححه من طريق عبد الله بن يسار بتحتانية ومهملة عن قتيلة بقاف ومثناة فوقانية والتصغير امرأة من جهينة "أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت" وأخرج النسائي وابن ماجه أيضا وأحد من رواية يزيد بن الأصم عن ابن عباس رفعه: "إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت" وفي أول حديث النسائي قصة وهي عند أحمد ولفظه: "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، فقال له: "أجعلتني والله عدلا، لا بل ما شاء الله وحده" وأخرج أحمد والنسائي وابن ماجه أيضا عن حذيفة "أن رجلا من المسلمين رأى رجلا من أهل الكتاب في المنام فقال: نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشاء محمد، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد" وفي رواية النسائي أن الراوي لذلك هو حذيفة الراوي، هذه رواية ابن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة. وقال أبو عوانة عن عبد الملك عن ربعي عن الطفيل بن سخيرة أخي عائشة بنحوه أخرجه ابن ماجه أيضا، وهكذا قال حماد بن سلمة عند أحمد وشعبة وعبد الله بن إدريس عن عبد الملك، وهو الذي رجحه الحفاظ وقالوا: إن ابن عيينة وهم في قوله عن حذيفة والله أعلم. وحكى ابن التين عن أبي جعفر الداودي قال: ليس في الحديث الذي ذكره نهى عن القول المذكور في الترجمة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} وقال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} وغير ذلك، وتعقبه بأن الذي قاله أبو جعفر ليس بظاهر لأن قوله: "ما شاء الله وشئت" تشريك في مشيئة الله تعالى، وأما الآية فإنما أخبر الله تعالى أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم وهو من الله حقيقة لأنه الذي قدر ذلك ومن الرسول حقيقة باعتبار تعاطي الفعل، وكذا الإنعام أنعم الله على زيد بالإسلام وأنعم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق، وهذا بخلاف المشاركة في المشيئة فإنها منصرفة لله تعالى في الحقيقة وإذا نسبت لغيره فبطريق المجاز وقال المهلب: إنما أراد البخاري أن قوله: "ما شاء الله ثم شئت" جائز مستدلا بقوله: "أنا بالله ثم بك" وقد جاء هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاز بدخول "ثم" لأن مشيئة الله سابقة على مشيئة خلقه، ولما لم يكن الحديث المذكور على شرطه استنبط من الحديث الصحيح الذي على شرطه ما يوافقه. وأخرج عبد الرزاق عن إبراهيم

(11/540)


النخعي أنه كان لا يرى بأسا أن يقول: "ما شاء الله ثم شئت" وكان يكره "أعوذ بالله وبك" ويجيز "أعوذ بالله ثم بك" وهو مطابق لحديث ابن عباس وغيره مما أشرت إليه. "تنبيه": مناسبة إدخال هذه الترجمة في كتاب الأيمان من جهة ذكر الحلف في بعض طرق حديث ابن عباس كما ذكرت، ومن جهة أنه قد يتخيل جواز اليمين بالله ثم بغيره على وزان ما وقع في قوله: "أنا بالله ثم بك" فأشار إلى أن النهي ثبت عن التشريك وورد بصورة الترتيب على لسان الملك وذلك فيما عدا الأيمان، أما اليمين بغير ذلك فثبت النهي عنها صريحا فلا يلحق بها ما ورد في غيرها والله أعلم.

(11/541)


9 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ "فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ فِي الرُّؤْيَا قَالَ لاَ تُقْسِمْ"
6654- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ "عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ"
6655- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ يُحَدِّثُ "عَنْ أُسَامَةَ أَنَّ بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسَعْدٌ وَأُبَيٌّ أَنَّ ابْنِي قَدْ احْتُضِرَ فَاشْهَدْنَا فَأَرْسَلَ يَقْرَأُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ "إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَتَحْتَسِبْ" فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ فَلَمَّا قَعَدَ رُفِعَ إِلَيْهِ فَأَقْعَدَهُ فِي حَجْرِهِ وَنَفْسُ الصَّبِيِّ جُئِّثُ فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "هَذِهِ رَحْمَةٌ يَضَعُهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"
6656- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ"
6657- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ "سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ وَأَهْلِ النَّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ عُتُلٍّ مُسْتَكْبِرٍ"
قوله: "باب قول الله تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} قال الراغب وغيره: القسم بفتحتين الحلف، وأصله من القسامة وهي الأيمان التي على أولياء المقتول، ثم استعمل في كل حلف. قال الراغب ومعنى {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أنهم اجتهدوا في حلفهم فأتوا به على أبلغ ما في وسعهم انتهى، وهذا يدفع ما فهمه المهلب فيما حكاه ابن بطال عنه

(11/541)


من هذه الآية أنها تدل على أن الحلف بالله أكبر الأيمان لأن الجهد أكبر المشقة ففهم من قوله جهد أيمانهم أن اليمين بالله غاية الجهد، والذي قاله الراغب أظهر، وقد قال أهل اللغة: إن القسامة مأخوذة من القسمة لأن الأيمان تقسم على أولياء القتيل، وسيأتي مزيد لذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال ابن عباس قال أبو بكر: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت في الرؤيا، قال: لا تقسم" هذا طرف مختصر من الحديث الطويل الآتي في كتاب التعبير من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف من السمن والعسل" الحديث وفيه تعبير أبي بكر لها وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: "فأخبرني يا رسول الله أصبت أم أخطأت؟ قال: "أصبت بعضا أو أخطأت بعضا، قال فوالله إلخ" فقوله هنا: "في الرؤيا" من كلام المصنف إشارة إلى ما اختصره من الحديث؛ وتقديره في قصة الرؤيا التي رآها الرجل وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فعبرها أبو بكر إلخ؛ وسيأتي شرحه هناك، والغرض منه هنا قوله: "لا تقسم" موضع قوله لا تحلف فأشار إلى الرد على من قال إن من قال أقسمت انعقدت يمينا ولأنه لو قال بدل أقسمت حلفت لم تنعقد اتفاقا إلا إن نوى اليمين أو قصد الإخبار بأنه سبق منه حلف، وأيضا فقد أمر صلى الله عليه وسلم بإبرار القسم، فلو كان أقسمت يمينا لأبر أبا بكر حين قالها، ومن ثم أورد حديث البراء عقبه، ولهذا أورد حديث حارثة آخر الباب: "لو أقسم على الله لأبره" إشارة إلى أنها لو كانت يمينا لكان أبو بكر أحق بأن يبر قسمه لأنه رأس أهل الجنة من هذه الأمة، وأما حديث أسامة في قصة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أنها أقسمت حقيقة، فقد تقدم في الجنائز بلفظ: "تقسم عليه ليأتينها" والله أعلم. قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال أقسمت بالله أو أقسمت مجردة فقال قوم هي يمين وإن لم يقصد، وممن روى ذلك عنه ابن عمر وابن عباس وبه قال النخعي والثوري والكوفيون. وقال الأكثرون لا تكون يمينا إلا أن ينوي. وقال مالك: أقسمت بالله يمينا وأقسمت مجردة لا تكون يمينا إلا إن نوى. وقال الإمام الشافعي: المجردة لا تكون يمينا أصلا ولو نوى، وأقسمت بالله إن نوى تكون يمينا. وقال إسحاق: لا تكون يمينا أصلا. وعن أحمد كالأول وعنه كالثاني وعنه إن قال قسما بالله فيمين جزما لان التقدير أقسمت بالله قسما، وكذا لو قال إلية بالله، قال ابن المنير في الحاشية: مقصود البخاري الرد على من لم يجعل القسم بصيغة أقسمت يمينا: قال: فذكر الآية وقد قرن فيها القسم بالله ثم بين أن هذا الاقتران ليس شرطا بالأحاديث فإن فيها أن هذه الصيغة بمجردها تكون يمينا تتصف بالبر وبالندب إلى إبرارها من غير الخلف، ثم ذكر من فروع هذه المسألة: لو قال أقسم بالله عليك لتفعلن فقال نعم هل يلزمه يمين بقوله نعم وتجب الكفارة إن لم يفعل انتهى، وفيما قال نظر، والذي يظهر أن مراد البخاري أن يقيد ما أطلق في الأحاديث بما قيد به في الآية والعلم عند الله تعالى. قوله: "بإبرار المقسم" أي بفعل ما أراده الحالف ليصير بذلك بارا، وهذا أيضا طرف من حديث أورده المصنف مطولا ومختصرا في مواضع بينتها وذكرت كيفية ما أخرجها في كتاب اللباس وفي أول كتاب الاستئذان، واختلف في ضبط السين فالمشهور أنها بالكسر وضم أوله على أنه اسم فاعل، وقيل بفتحها أي الأقسام، والمصدر قد يأتي للمفعول مثل أدخلته مدخلا بمعنى الإدخال وكذا أخرجته. وأشعث المذكور في السند هو ابن أبي الشعثاء وسفيان في الطريق الأولى هو الثوري. حديث أسامة وهو ابن زيد بن حارثة الصحابي ابن الصحابي مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو عثمان

(11/542)


الراوي عنه هو عبد الرحمن بن مل النهدي. قوله: "إن ابنة" في رواية الكشميهني: "إن بنتا" وقد تقدم اسمها في كتاب الجنائز. قوله: "ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة" فيه تجريد لأن الظاهر أن يقول وأنا معه، وقد تقدم في الطب بلفظ: "أرسلت إليه وهو معه". قوله: "وسعد" هو معطوف على أسامة، ومضى في الجنائز بلفظ: "ومعه سعد بن عبادة" قوله: "وأبي أو أبي" قال الكرماني أحدهما بلفظ المضاف إلى المتكلم والآخر بضم أوله وفتح الموحدة وتشديد الياء يريد ابن كعب، قال ويحتمل أن يكون بلفظ المضاف مكررا كأنه قال ومعه سعد وأبي أو أبي فقط. قلت: والأول هو المعتمد، والثاني وإن احتمل لكنه خلاف الواقع. فقد تقدم في الجنائز بلفظ ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال. والذي تحرر لي أن الشك في هذا من شعبة، فإنه لم يقع في رواية غيره ممن رواه عن عاصم. قوله: "تقعقع" أي تضطرب وتتحرك، وقيل معناه كلما صار إلى حال لم يلبث أن يصير إلى غيرها وتلك حالة المحتضر. قوله: "ما هذا" قيل هو استفهام عن الحكم لا للإنكار، وقد تقدمت سائر مباحث هذا الحديث في كتاب الجنائز. حديث أبي هريرة "إلا تحلة القسم" بفتح التاء وكسر المهملة وتشديد اللام أي تحليلها، والمعنى أن النار لا تمس من مات له ثلاثة من الولد فصبر إلا بقدر الورود، قال ابن التين وغيره: والإشارة بذلك إلى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وقد قيل إن القسم فيه مقدر، وقيل بل هو مذكور عطفا على ما بعد قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ} وقد تقدم شرح الحديث أيضا مستوفي في كتاب الجنائز. حديث حارثة بن وهب وهو بالحاء المهملة وبالمثلثة. قوله: "ألا أدلكم على أهل الجنة إلخ" قال الداودي: المراد أن كلا من الصنفين في محله المذكور لا أن كلا من الدارين لا يدخلها إلا من كان من الصنفين فكأنه قيل كل ضعيف في الجنة وكل جواظ في النار، ولا يلزم أن لا يدخلها غيرهما. قوله: "كل ضعيف" قال أبو البقاء: كل بالرفع لا غير، والتقدير هم كل ضعيف إلخ، والمراد بالضعيف الفقير والمستضعف بفتح العين المهملة، وغلط من كسرها لأن المراد أن الناس يستضعفونه ويقهرونه ويحقرونه، وذكر الحاكم في "علوم الحديث" أن ابن خزيمة سئل من المراد بالضعيف هنا؟ فقال: هو الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة في اليوم عشرين مرة إلى خمسين مرة. وقال الكرماني: يجوز الكسر ويراد به المتواضع المتذلل، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفي في تفسير سورة ن، ونقل ابن التين عن الداودي أن الجواظ هو الكثير اللحم الغليظ الرقبة. وقوله: "لو أقسم على الله لأبره" أي لو حلف بمينا على شيء أن يقع طمعا في كرم الله بإبراره لأبره وأوقعه لأجله، وقيل هو كناية عن إجابة دعائه.

(11/543)


باب إذا قال : أشهد بالله ، أوشهدت بالله
...
10 - باب إِذَا قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَوْ شَهِدْتُ بِاللَّهِ
6658- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ " قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ" قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ"
قوله: "باب إذا قال أشهد بالله أو شهدت بالله" أي هل يكون حالفا؟ وقد اختلف في ذلك فقال الحنفية والحنابلة نعم وهو قول النخعي والثوري، والراجح عند الحنابلة ولو لم يقل بالله أنه يمين، وهو قول ربيعة

(11/543)


والأوزاعي، وعند الشافعية لا يكون يمينا إلا إن أضاف إليه بالله، ومع ذلك فالراجح أنه كناية فيحتاج إلى القصد وهو نص الشافعي في المختصر لأنها تحتمل أشهد بأمر الله أو بوحدانية الله، وهذا قول الجمهور، وعن مالك كالروايات الثلاث، واحتج من أطلق بأنه ثبت في العرف والشرع في الأيمان، قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ} ثم قال: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} فدل على أنهما استعملوا ذلك في اليمين، وكذا ثبت في اللعان، والجواب أن هذا خاص باللعان فلا يقاس عليه والأول ليس صريحا لاحتمال أن يكون حلفوا مع ذلك، واحتج بعضهم بما أخرجه ابن ماجه من حديث رفاعة بن عوانة "كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يحلف بها أشهد عند الله والذي نفسي بيده" وأجيب بأن في سنده ضعيفا وهو عبد الملك بن محمد الصنعاني، وعلى تقدير ثبوته فسياقه يقتضي أن مجموع ذلك يمين لا يمينان والله أعلم. وقال أبو عبيد: الشاهد يمين الحالف، فمن قال أشهد فليس بيمين ومن قال أشهد بالله فهو يمين، وقد قرأ الضحاك {اتَّخَذُوْا إيْمَانَهٌمْ} بكسر الهمزة وهي تدفع قول من حمل الشهادة على اليمين، وإلى ذلك أشار البخاري حيث أورد حديث الباب: "تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" فإنه ظاهر في المغايرة بين الشهادة والحلف. حديث الباب: "تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الشهادات، وشيبان في السند هو ابن عبد الرحمن ومنصور هو ابن المعتمر وإبراهيم هو النخعي وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: "تسبق شهادة أحدهم يمينه" قال الطحاوي أي يكثرون الأيمان في كل شيء حتى يصير لهم عادة فيحلف أحدهم حيث لا يراد منه اليمين ومن قبل أن يستحلف. وقال غيره: المراد يحلف على تصديق شهادته قبل أدائها أو بعده، وهذا إذا صدر من الشاهد قبل الحكم سقطت شهادته. وقيل المراد التسرع إلى الشهادة واليمين والحرص على ذلك حتى لا يدري بأيهما يبدأ لقلة مبالاته. قوله: "قال إبراهيم" هو النخعي، وهو موصول بالسند المتقدم. قوله: "وكان أصحابنا" يعني مشايخه ومن يصلح منه اتباع قوله، وتقدم في الشهادات بلفظ: "يضربوننا" بدل "ينهونا". قوله: "أن نحلف بالشهادة والعهد" أي أن يقول أحدنا أشهد بالله أو على عهد الله، قاله ابن عبد البر وتقدم البحث فيه في كتاب الشهادات.

(11/544)


باب عهد الله عزوجل
...
11 - باب عَهْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
6659- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ يَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَوْ قَالَ أَخِيهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهُ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ…}
6660- قَالَ سُلَيْمَانُ فِي حَدِيثِهِ فَمَرَّ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ قَالُوا لَهُ فَقَالَ الأَشْعَثُ نَزَلَتْ فِيَّ وَفِي صَاحِبٍ لِي فِي بِئْرٍ كَانَتْ بَيْنَنَا"
قوله: "باب عهد الله عز وجل" أي قول القائل: على عهد الله لأفعلن كذا. قال الراغب: العهد حفظ الشيء ومراعاته، ومن ثم قيل للوثيقة عهدة. ويطلق عهد الله على ما فطر عليه عباده من الإيمان به عند أخذ الميثاق، ويراد به أيضا ما أمر به في الكتاب والسنة مؤكدا وما التزمه المرء من قبل نفسه كالنذر. قلت: وللعهد معان

(11/544)


أخرى غير هذه كالأمان والوفاء والوصية واليمين ورعاية الحرمة والمعرفة واللقاء عن قرب والزمان والذمة وبعضها قد يتداخل والله أعلم. وقال ابن المنذر: من حلف بالعهد فحنث لزمه الكفارة سواء نوى أم لا عند مالك والأوزاعي والكوفيين، وبه قال الحسن والشعبي وطاوس وغيرهم. قلت: وبه قال أحمد. وقال عطاء والشافعي وإسحاق وأبو عبيد: لا تكون يمينا إلا إذ نوى، وقد تقدم في أوائل كتاب الإيمان النقل عن الشافعي فيمن قال أمانة الله مثله، وأغرب إمام الحرمين فادعى اتفاق العلماء على ذلك، ولعله أراد من الشافعية ومع ذلك فالخلاف ثابت عندهم كما حكاه الماوردي وغيره عن أبي إسحاق المروزي واحتج للمذهب بأن عهد الله يستعمل في وصيته لعباده باتباع أوامره وغير ذلك كما ذكر فلا يحمل على اليمين إلا بالقصد. وقال الشافعي: إذا قال على عهد الله احتمل أن يريد معهوده وهو وصيته فيصير كقوله على فرض الله أي مفروضة فلا يكون يمينا، لأن اليمين لا تنعقد بمحدث، فإن نوى بقوله عهد الله اليمين انعقدت. وقال ابن المنذر: قد قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} فمن قال على عهد الله صدق لأن الله أخبر أنه أخذ علينا العهد فلا يكون ذلك يمينا إلا إن نواه، واحتج الأولون بأن العرف قد صار جاريا به فحمل على اليمين. وقال ابن التين: هذا لفظ يستعمل على خمسة أوجه: الأول على عهد الله، والثاني وعهد الله، الثالث عهد الله، الرابع أعاهد الله، الخامس على العهد. وقد طرد بعضهم ذلك في الجميع وفصل بعضهم فقال: لا شيء في ذلك إلا إن قال على عهد الله ونحوها وإلا فليست بيمين نوى أو لم ينو. حديث عبد الله وهو ابن مسعود والأشعث بن قيس في نزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} وسليمان في السند هو الأعمش ومنصور هو ابن المعتمر، وسيأتي شرحه مستوفى بعد خمسة أبواب، والله أعلم.

(11/545)


12 - باب الْحَلِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ وَقَالَ أَيُّوبُ وَعِزَّتِكَ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ"
6661- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ" رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ.
قوله: "باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلامه" كذا لأبي ذر، ولغيره: "وكلماته" وفي هذه الترجمة عطف العام على الخاص والخاص على العام لأن الصفات أعم من العزة والكلام، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر "باب لا تحلفوا بآبائكم" إلى أن الأيمان تنقسم إلى صريح وكناية ومتردد بينهما وهو الصفات وأنه اختلف هل يلتحق بالصريح فلا يحتاج إلى قصد أو لا فيحتاج، والراجح أن صفات الذات منها يلتحق بالصريح فلا تنفع معها التورية

(11/545)


إذا تعلق به حق آدمي، وصفات الفعل تلتحق بالكناية، فعزة الله من صفات الذات وكذا جلاله وعظمته. قال الشافعي فيما أخرجه البيهقي في المعرفة: من قال وحق الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله يريد اليمين أو لا يريده فهي يمين انتهى. وقال غيره: والقدرة تحتمل صفة الذات فتكون اليمين صريحة وتحتمل إرادة المقدور فتكون كناية كقول من يتعجب من الشيء: انظر إلى قدرة الله، وكذا العلم كقوله: اللهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك. قوله: "وقال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أعوذ بعزتك" هذا طرف من حديث وصله المؤلف في التوحيد من طريق يحيى بن يعمر عن ابن عباس وسيأتي شرحه هناك، ووجه الاستدلال به على الحلف بعزة الله أنه وإن كان بلفظ الدعاء لكنه لا يستعاذ إلا بالله أو بصفة من صفات ذاته، وخفي هذا على ابن التين فقاله: ليس فيه جواز الحلف بالصفة كما بوب عليه. ثم وجدت في حاشية ابن المنير ما نصه، قوله أعوذ بعزتك دعاء وليس بقسم، ولكنه لما كان المقرر أنه لا يستعاذ إلا بالقديم ثبت بهذا أن العزة من الصفات القديمة لا من صفة الفعل فتنعقد اليمين بها. قوله: "وقال أبو هريرة إلخ" وفيه: "وقال أبو سعيد قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله: لك ذلك وعشرة أمثاله" وهو مختصر من الحديث الطويل في صفة الحشر وقد تقدم شرحه مستوفي في أواخر الرقاق، والغرض منها قول الرجل لا وعزتك لا أسألك غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك مقررا له فيكون حجة في ذلك. قوله: "وقال أيوب عليه السلام: وعزتك لا غنى لي عن بركتك" كذا للأكثر، ووقع لأبي ذر عن غير الكشميهني: "لا غناء" بفتح أوله والمد، والأول أولى فإن معنى الغناء بالمد الكفاية يقال ما عند فلان غناء أي لا يغتنى به، وهو أيضا طرف من حديث تقدم في كتاب الطهارة من رواية أبي هريرة وأوله "أن أيوب كان يغتسل فخر عليه جراد من ذهب" الحديث، ووجه الدلالة منه أن أيوب عليه السلام لا يحلف إلا بالله وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عنه وأقره. قوله: "شيبان" هو ابن عبد الرحمن. قوله: "فتقول قط قط وعزتك" تقدم شرحه مستوفي في تفسير سورة ق والقول فيه ما تقدم، وحكى الداودي عن بعض المفسرين أنه قال في قول جهنم "هل من مزيد" معناه ليس في مزيد قال ابن التين وحديث الباب يرد عليه. قوله: "رواه شعبة عن قتادة" وصل روايته في تفسير ق وأشار بذلك إلى أن الرواية الموصولة عن أنس بالعنعنة، لكن شعبة ما كان يأخذ عن شيوخه الذين ذكر عنهم التدليس إلا ما صرحوا فيه بالتحديث. "تنبيه": لمح المصنف بهذه الترجمة إلى رد ما جاء عن ابن مسعود من الزجر عن الحلف بعزة الله، ففي ترجمة عون بن عبد الله بن عتبة من "الحلية لأبي نعيم" من طريق عبد الله بن رجاء عن المسعودي عن عون قال: "قال عبد الله: لا تحلفوا بحلف الشيطان أن يقول أحدكم وعزة الله ولكن قولوا كما قال الله تعالى رب العزة" انتهى. وفي المسعودي ضعف، وعون عن عبد الله منقطع، وسيأتي الكلام على العزة في باب مفرد من كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(11/546)


13 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لَعَمْرُ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَعَمْرُكَ لَعَيْشُكَ
6662- حَدَّثَنَا الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ "عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ

(11/546)


وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ وَفِيهِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ"
قوله: "باب قول الرجل لعمر الله" أي هل يكون يمينا، وهو مبني على تفسير "لعمر" ولذلك ذكر أثر ابن عباس، وقد تقدم في تفسير سورة الحجر وأن ابن أبي حاتم وصله. وأخرج أيضا عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ} أي حياتك، قال الراغب: العمر بالضم وبالفتح واحد ولكن خص الحلف بالثاني قال الشاعر "عمرك الله كيف يلتقيان" أي سألت الله أن يطيل عمرك. وقال أبو القاسم الزجاج: العمر الحياة، فمن قال لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله، واللام للتوكيد والخبر محذوف أي ما أقسم به، ومن ثم قال المالكية والحنفية: تنعقد بها اليمين لأن بقاء الله من صفة ذاته. وعن مالك لا يعجبني الحلف بذلك. وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مصنفه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: كانت يمين عثمان بن أبي العاص لعمري. وقال الشافعي وإسحاق: لا تكون يمينا إلا بالنية لأنه يطلق على العلم وعلى الحق، وقد يراد بالعلم المعلوم وبالحق ما أوجبه الله. وعن أحمد كالمذهبين، والراجح عنه كالشافعي وأجابوا عن الآية بأن لله أن يقسم من خلقه بما شاء وليس ذلك لهم لثبوت النهي عن الحلف بغير الله. وقد عد الأئمة ذلك في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا فإن اللام ليست من أدوات القسم لأنها محصورة في الواو والباء والتاء كما تقدم بيانه في "باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم". الحديث طرف من حديث الإفك والغرض منه قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة "لعمر الله لنقتلنه" وقد مضى شرح الحديث مستوفى في تفسير النور، وتقدم في أواخر الرقاق في الحديث الطويل من رواية لقيط بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعمر إلهك" وكررها، وهو عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند وعند غيره.

(11/547)


باب { لا يؤخذكم الله باللغو في أيمانكم ،ولكن يؤخذكم...} الخ
...
14 - باب {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
6663- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَ قَالَتْ أُنْزِلَتْ فِي قَوْلِهِ لاَ وَاللَّهِ بَلَى وَاللَّهِ"
قوله: "باب {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، ولغيره بدل قوله الآية {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ويستفاد منه أن المراد في هذه الترجمة آية البقرة، فإن آية المائدة ذكرها في أول كتاب الأيمان كما تقدم، ومضى هناك تفسير اللغو، وتمسك الشافعي فيه بحديث عائشة المذكور في الباب لكونها شهدت التنزيل فهي أعلم من غيرها بالمراد، وقد جزمت بأنها نزلت في قوله: "لا والله وبلى والله" ويؤيده ما أخرجه الطبري من طريق الحسن البصري مرفوعا في قصة الرماة وكان أحدهم إذا رمى حلف أنه أصاب فيظهر أنه أخطأ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيمان الرماة لغو لا كفارة لها ولا عقوبة" وهذا لا يثبت لأنهم كانوا لا يعتمدون مراسيل الحسن لأنه كان يأخذ عن كل أحد، وعن أبي حنيفة وأصحابه وجماعة: لغو اليمين أن يحلف على الشيء يظنه ثم يظهر خلافه فيختص بالماضي، وقيل يدخل أيضا في المستقبل بأن يحلف على شيء ظنا منه ثم يظهر بخلاف ما حلف، وبه قال

(11/547)


ربيعة ومالك ومكحول والأوزاعي والليث، وعن أحمد روايتان ونقل ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وعن القاسم وعطاء والشعبي وطاوس والحسن نحو ما دل عليه حديث عائشة، وعن أبي قلابة لا والله وبلى والله لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين وهي من صلة الكلام، ونقل إسماعيل القاضي، عن طاوس لغو اليمين أن يحلف وهو غضبان، وذكر أقوالا أخرى عن بعض التابعين، وجملة ما يتحصل من ذلك ثمانية أقوال من جملتها قول إبراهيم النخعي أنه يحلف على الشيء لا يفعله ثم ينسى فيفعله أخرجه الطبري، وأخرجه عبد الرزاق عن الحسن مثله، وعنه هو كقول الرجل والله إنه لكذا وهو يظن أنه صادق ولا يكون كذلك. وأخرج الطبري من طريق طاوس عن ابن عباس أن يحلف وهو غضبان، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يحرم ما أحل الله له، وهذا يعارضه الخبر الثابت عن ابن عباس كما تقدم في موضعه أنه تجب فيه كفارة يمين، وقيل هو أن يدعو على نفسه إن فعل كذا ثم يفعله وهذا هو يمين المعصية وسيأتي البحث فيه بعد ثلاثة أبواب. قال ابن العربي: القول بأن لغو اليمين هو المعصية باطل لأن الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة والحالف على فعل، المعصية تنعقد يمينه ويقال له لا تفعل وكفر عن يمينك فإن خالف وأقدم على الفعل أثم وبر في يمينه. قلت: الذي قال ذلك قال إنها في الثانية لا تنعقد أصلا فلذلك قال إنها لغو، قال ابن العربي ومن قال إنها يمين الغضب يرده ما ثبت في الأحاديث يعني مما ذكر في الباب وغيرها، ومن قال دعاء الإنسان على نفسه إن فعل كذا أو لم يفعل فاللغو إنما هو في طريق الكفارة وهي تنعقد وقد يؤاخذ بها لثبوت النهي عن دعاء الإنسان على نفسه ومن قال إنها اليمين التي تكفر فلا يتعلق به فإن الله رفع المؤاخذة عن اللغو مطلقا فلا إثم فيه ولا كفارة فكيف يفسر اللغو بما فيه الكفارة وثبوت الكفارة يقتضي وجود المؤاخذة حتى أن من وجب عليه الكفارة فخالف عوقب. قوله: "يحيى" هو القطان، قال ابن عبد البر تفرد يحيى القطان عن هشام بذكر السبب في نزول الآية قلت: قد صرح بعضهم برفعه عن عائشة أخرجه أبو داود من رواية إبراهيم الصائغ عن عطاء عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لغو اليمين هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله" وأشار أبو داود إلى أنه اختلف على عطاء وعلى إبراهيم في رفعه ووقفه، وقد أخرج ابن أبي عاصم من طريق الزبيدي وابن وهب في جامعه عن يونس وعبد الرزاق في مصنفه عن معمر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة: لغو اليمين ما كان في المراء والهزل والمراجعة في الحديث الذي كان يعقد عليه القلب، وهذا موقوف ورواية يونس تقارب الزبيدي، ولفظ معمر أنه القوم يتدارؤن يقول أحدهم لا والله وبلى والله وكلا والله ولا يقصد الحلف وليس مخالفا للأول وهو المعتمد. وأخرج ابن وهب عن الثقة عن الزهري بهذا السند هو الذي يحلف على الشيء لا يريد به إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه، وهذا يوافق القول الثاني، لكنه ضعيف من أجل هذا المبهم شاذ لمخالفة من هو أوثق منه وأكثر عددا.

(11/548)


15 - باب إِذَا حَنِثَ نَاسِيًا فِي الأَيْمَانِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وَقَالَ {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}
6664- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ

(11/548)


قَالَ "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ"
6665- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا لِهَؤُلاَءِ الثَّلاَثِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ يَوْمَئِذٍ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ"
6666- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ "لاَ حَرَجَ" قَالَ آخَرُ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ "لاَ حَرَجَ" قَالَ آخَرُ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ " لاَ حَرَجَ"
6667- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ سَلَّمَ فَقَالَ وَعَلَيْكَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ فَأَعْلِمْنِي قَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا"
6668- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ فَصَرَخَ إِبْلِيسُ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ فَقَالَ أَبِي أَبِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا انْحَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ عُرْوَةُ فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ"
6669- حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَوْفٌ عَنْ خِلاَسٍ وَمُحَمَّدٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ"
6670- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ فَمَضَى فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ انْتَظَرَ النَّاسُ

(11/549)


تَسْلِيمَهُ فَكَبَّرَ وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَسَلَّمَ"
6671- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ "عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ صَلاَةَ الظُّهْرِ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا قَالَ مَنْصُورٌ لاَ أَدْرِي إِبْرَاهِيمُ وَهِمَ أَمْ عَلْقَمَةُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَصُرَتْ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ قَالَ "وَمَا ذَاكَ" قَالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ "هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ لِمَنْ لاَ يَدْرِي زَادَ فِي صَلاَتِهِ أَمْ نَقَصَ فَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ فَيُتِمُّ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ"
6672- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ "حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا قَالَ كَانَتْ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا"
6673- قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ "قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَكَانَ عِنْدَهُمْ ضَيْفٌ لَهُمْ فَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ لِيَأْكُلَ ضَيْفُهُمْ فَذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الذَّبْحَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي عَنَاقٌ جَذَعٌ عَنَاقُ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَكَانَ ابْنُ عَوْنٍ يَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ وَيُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَيَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَيَقُولُ لاَ أَدْرِي أَبَلَغَتْ الرُّخْصَةُ غَيْرَهُ أَمْ لاَ رَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6674- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ "سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ عِيدٍ ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ قَالَ "مَنْ ذَبَحَ فَلْيُبَدِّلْ مَكَانَهَا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ"
قوله: "باب إذا حنث ناسيا في الأيمان" أي هل تجب عليه الكفارة أو لا؟ قوله: "وقول الله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به" كذا لأبي ذر ولغيره: "وليس" بثبوت الواو في أوله، وقد تمسك بهذه الآية من قال بعدم حنث من لم يتعمد وفعل المحلوف عليه ناسيا أو مكرها، ووجه بأنه لا ينسب فعله إليه شرعا لرفع حكمه عنه بهذه الآية فكأنه لم يفعله. قوله: "لا تؤاخذني بما نسيت" قال المهلب: حاول البخاري في إثبات العذر بالجهل والنسيان ليسقط الكفارة، والذي يلائم مقصوده من أحاديث الباب الأول وحديث: "من أكل ناسيا" وحديث نسيان التشهد الأول وقصة موسى فإن الخضر عذره بالنسيان وهو عبد من عباد الله فالله أحق بالمسامحة، قال وأما

(11/550)


بقية الأحاديث ففي مساعدتها على مراده نظر. قلت: ويساعده أيضا حديث عبد الله بن عمرو وحديث ابن عباس في تقديم بعض النسك على بعض فإنه لم يأمر فيه بالإعادة بل عذر فاعله بجهل الحكم. وقال غيره: بل أورد البخاري أحاديث الباب على الاختلاف إشارة إلى أنها أصول أدلة الفريقين ليستنبط كل أحد منها ما يوافق مذهبه كما صنع في حديث جابر في قصة جمله فإنه أورد الطرق على اختلافها وان كان قد بين في الآخر أن إسناد الاشتراط أصح، وكذا قول الشعبي في قدر الثمن؛ وبهذا جزم ابن المنير في الحاشية فقال: أورد الأحاديث المتجاذبة ليفيد الناظر مظان النظر، ومن ثم لم يذكر الحكم في الترجمة بل أفاد مراد الحكم والأصول التي تصلح أن يقاس عليها، وهو أكثر إفادة من قول المجتهد في المسألة قولان وإن كان لذلك فائدة أيضا انتهى ملخصا. والذي يظهر لي أن البخاري يقول بعدم الكفارة مطلقا، وتوجيه الدلالة من الأحاديث التي ساقها ممكن. وأما ما يخالف ظاهر ذلك فالجواب عنه ممكن: فمنها الدية في قتل الخطأ ولولا أن حذيفة أسقطها لكانت له المطالبة بها، والجواب أنها من خطاب الوضع وليس الكلام فيه. ومنها إبدال الأضحية التي ذبحت قبل الوقت، والجواب أنها من جنس الذي قبله. ومنها حديث المسيء صلاته فإنه لو لم يعذره بالجهل لما أقره على إتمام الصلاة المختلة، لكنه لما رجا أنه يتفطن لما عابه عليه أمره بالإعادة فلما علم أنه فعل ذلك عن جهل بالحكم علمه، وليس في ذلك متمسك لمن قال بوجوب الكفارة في صورة النسيان، وأيضا فالصلاة إنما تتقوم بالأركان فكل ركن اختل منها اختلت به ما لم يتدارك، وإنما الذي يناسب ما لو فعل ما يبطل الصلاة بعده أو تكلم به فإنها لا تبطل عند الجمهور كما دل عليه حديث أبي هريرة في الباب: "من أكل أو شرب ناسيا" قال ابن التين: أجرى البخاري قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} في كل شيء. وقال غيره: هي في قصة مخصوصة وهي ما إذا قال الرجل يا بني وليس هو ابنه، وقيل إذا أتى امرأته حائضا وهو لا يعلم، قال: والدليل على عدم التعميم أن الرجل إذا قتل خطأ تلزمه الدية وإذا أتلف مال غيره خطأ فإنه يلزمه انتهى. وانفصل غيره بأن المتلفات من خطاب الوضع والذي يتعلق بالآية ما يدخل في خطاب التكليف، ولو سلم أن الآية نزلت فيما ذكر لم يمنع ذلك من الاستدلال بعمومها، وقد أجمعوا على العمل بعمومها في سقوط الإثم، وقد اختلف السلف في ذلك على مذاهب ثالثها التفرقة بين الطلاق والعتاق فتجب فيه الكفارة مع الجهل والنسيان بخلاف غيرهما من الأيمان فلا تجب، وهذا قول عن الإمام الشافعي ورواية عن أحمد، والراجح عند الشافعية التسوية بين الجميع في عدم الوجوب، وعن الحنابلة عكسه وهو قول المالكية والحنفية. وقال ابن المنذر: كان أحمد يوقع الحنث في النسيان في الطلاق حسب ويقف عما سوى ذلك. قوله: "زرارة بن أوفى" هو قاضي البصرة مات وهو ساجد أورده الترمذي وكان ذلك سنة ثلاث وتسعين. قوله: "عن أبي هريرة يرفعه" سبق في العتق من رواية سفيان عن مسعر بلفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بدل قوله هنا يرفعه، وكذا لمسلم من طريق وكيع. وللنسائي والإسماعيلي من طريق عبد الله بن إدريس كلاهما عن مسعر بلفظ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال الكرماني: إنما قال يرفعه ليكون أعم من أن يكون سمعه منه أو من صحابي آخر سمعه منه. قلت: ولا اختصاص لذلك بهذه الصيغة بل مثله في قوله قال وعن، وإنما يرتفع الاحتمال إذا قال سمعت ونحوها، وذكر الإسماعيلي أن وكيعا رواه عن مسعر فلم يرفعه قال والذي رفعه ثقة فيجب المصير إليه. قوله: "عن أبي هريرة" لم أقف على التصريح بسماع زرارة لهذا الحديث من أبي هريرة، لكنه لم

(11/551)


يوصف بالتدليس فيحمل على السماع. وذكر الإسماعيلي أن الفرات بن خالد أدخل بين زرارة وبين أبي هريرة في هذا الإسناد رجلا من بني عامر، وهو خطأ فإن زرارة من بني عامر فكأنه كان فيه عن زرارة رجل من بني عامر فظنه آخر أبهم وليس كذلك. قوله: "لأمتي" في رواية هشام عن قتادة "تجاوز عن أمتي". قوله: "عما وسوست أو حدثت به أنفسها" في رواية هشام "ما حدثت به أنفسها" ولم يتردد، وكذا في رواية سعيد وأبي عوانة عند مسلم. وفي رواية ابن عيينة "ما وسوست بها صدورها" ولم يتردد أيضا، وضبط أنفسها بالنصب للأكثر ولبعضهم بالرفع. وقال الطحاوي بالثاني وبه جزم أهل اللغة يريدون بغير اختيارها كقوله تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}. قوله: "ما لم تعمل به أو تكلم" في رواية عبد الله بن إدريس أو تتكلم به، قال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث ذكر النسيان، وإنما فيه ذكر ما خطر على قلب الإنسان. قلت: مراد البخاري إلحاق ما يترتب على النسيان بالتجاوز لأن النسيان من متعلقات عمل القلب. وقال الكرماني: قاس الخطأ والنسيان على الوسوسة، فكما أنها لا اعتبار لها عند عدم التوطن فكذا الناسي والمخطئ لا توطين لهما. وقد وقع في رواية هشام بن عمار عن ابن عيينة عن مسعر في هذا الحديث بعد قوله أو تكلم به "وما استكرهوا عليه" وهذه الزيادة منكرة من هذا الوجه وإنما تعرف من رواية الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس بلفظ: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقد أخرجه ابن ماجه عقب حديث أبي هريرة من رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، والحديث عند هشام بن عمار عن الوليد فلعله دخل له بعض حديث في حديث، وقد رواه عن ابن عيينة الحميدي وهو أعرف أصحاب ابن عيينة بحديثه، وتقدم في العتق عنه بدون هذه الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية زياد بن أيوب وابن المقري وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي كلهم عن سفيان بدون هذه الزيادة. قال الكرماني: فيه أن الوجود الذهني لا أثر له وإنما الاعتبار بالوجود القولي في القوليات والعملي في العمليات، وقد احتج به من لا يرى المؤاخذة بما وقع في النفس ولو عزم عليه، وانفصل من قال يؤاخذ بالعزم بأنه نوع من العمل يعني عمل القلب. قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالعمل عمل الجوارح لأن المفهوم من لفظ: "ما لم يعمل" يشعر بأن كل شيء في الصدر لا يؤاخذ به سواء توطن به أم لم يتوطن، وقد تقدم البحث في ذلك في أواخر الرقاق في الكلام على حديث: "من هم بسيئة لا تكتب عليه". وفي الحديث إشارة إلى عظيم قدر الأمة المحمدية لأجل نبيها صلى الله عليه وسلم لقوله: "تجاوز لي" وفيه إشعار باختصاصها بذلك، بل صرح بعضهم بأنه كان حكم الناسي كالعامد في الإثم وإن ذلك من الإصر الذي كان على من قبلنا، ويؤيده ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: "لما نزلت: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشتد ذلك على الصحابة" فذكر الحديث في شكواهم ذلك وقوله صلى الله عليه وسلم لهم "تريدون أن تقولوا مثل ما قال أهل الكتاب سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا، فقالوها فنزلت: {آمَنَ الرَّسُولُ} إلى آخر السورة" وفيه قوله: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال نعم. وأخرجه من حديث ابن عباس بنحوه وفيه قال قد فعلت. قوله: "حدثنا عثمان بن الهيثم أو محمد عنه" وقع مثل هذا في "باب الذريرة" في أواخر كتاب اللباس، وتقدم الكلام عليه هناك. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن يحيى عن عثمان بن الهيثم به. قوله: "كنت احسب يا رسول الله كذا وكذا قبل كذا وكذا" في رواية الإسماعيلي: "إني كنت أحسب أن كذا قبل كذا". قوله: "هؤلاء الثلاث" قد كنت أظن ذلك خاصا بهذه الرواية، وأن

(11/552)


البخاري أشار بذلك إلى ما في الحديث الذي يليه فإنه فيه الحلق والنحر والرمي، لكن وجدته في رواية الإسماعيلي بالإبهام كما أشرت إليه، وكذا أخرجه مسلم من رواية عيسى بن يونس ومحمد بن بكر كلاهما عن ابن جريج مثل رواية عثمان بن الهيثم سواء، إلا إن ابن بكر لم يقل "لهؤلاء الثلاث" ومن رواية يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج بلفظ: "حلقت قبل أن أنحر ونحرت قبل أن أرمي" فالظاهر أن الإشارة المذكورة من ابن جريج، وقد أخرجه الشيخان من رواية مالك عن ابن شهاب شيخ ابن جريج فيه مفسرا كما تقدم في كتاب الحج مع شرحه. حديث ابن عباس في ذلك. وقد تقدم بسنده ومتنه مشروحا في كتاب الحج. حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته، وقد تقدم شرحه في كتاب الصلاة. قوله: "حدثني إسحاق بن منصور حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله بن عمر" هو العمرى، وسعيد هو المقبري، وقد تقدم في كتاب الاستئذان بهذا السند سواء لكن فيه عبد الله بن نمير بدل أبي أسامة، وفي بعض سياقهما اختلاف بينته هناك، فكأن لإسحاق بن منصور فيه شيخين. وقد أخرجه الترمذي عن إسحاق بن منصور عن عبد الله بن نمير وحده، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة وعبد الله بن نمير جميعا، وله طرق عن هذين عند مسلم وغيره. حديث حذيفة في قصة قتل أبي اليمان يوم أحد، وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر المناقب وفي غزوة أحد، وقوله في آخره: "بقية خير" بالإضافة للأكثر أي استمر الخير فيه، ووقع في: رواية الكشميهني: "بقية" بالتنوين وسقط عنده لفظ: "خير" وعليها شرح الكرماني فقال: أي بقية حزن وتحسر من قتل أبيه بذلك الوجه، وهو وهم سبقه غيره إليه، والصواب أن المراد أنه حصل له خير بقوله للمسلمين. الذين قتلوا أباه خطأ "عفا الله عنكم" واستمر ذلك الخير فيه إلى أن مات. حديث أبي هريرة "من أكل ناسيا وهو صائم فليتم صومه" الحديث؛ وقد تقدم شرحه في "باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا" من كتاب الصيام، وعوف في السند هو الأعرابي، وخلاس بكسر المعجمة وتخفيف اللام بعدها مهملة وهو ابن عمرو، ومحمد هو ابن سيرين، والبخاري لا يخرج لخلاس إلا مقرونا. ومما ينبه عليه هنا أن المزي في "الأطراف" ذكر هذا الحديث في ترجمة خلاس عن أبي هريرة فقال: "خلاس في الصيام عن يوسف بن موسى" فوهم في ذلك وإنما هو في الأيمان والنذور، ولم يورده في الصيام من طريق خلاس أصلا. وقال ابن المنير في الحاشية: أوجب مالك الحنث على الناسي ولم يخالف ذلك في ظاهر الأمر إلا في مسألة واحدة وهي من حلف بالطلاق ليصومن غدا فأكل ناسيا بعد أن بيت الصيام من الليل، فقال مالك: لا شيء عليه، فاختلف عنه فقيل لا قضاء عليه وقيل لا حنث ولا قضاء وهو الراجح، أما عدم القضاء فلأنه لم يتعمد إبطال العبادة، وأما عدم الحنث فهو على تقدير صحة الصوم لأنه المحلوف: عليه، وقد صحح الشارع صومه، فإذا صح صومه لم يقع عليه حنث. حديث عبد الله بن بحينة في سجود السهو قبل السلام لترك التشهد الأول، وقد تقدم في أبواب سجود السهو من أواخر كتاب الصلاة مع شرحه. حديث ابن مسعود في سجود السهو بعد السلام لزيادة ركعة في الصلاة، وقد تقدم شرحه أيضا هناك عقب حديث ابن بحينة، وقوله هنا "حدثنا إسحاق بن إبراهيم" هو المعروف بابن راهويه، وقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من مسنده، وقوله سمع عبد العزيز أي إنه سمع ولفظة "إنه" يسقطونها في الخط أحيانا، وعبد العزيز المذكور هو العمى بفتح المهملة والتثقيل، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعلقمة هو ابن

(11/553)


قيس. وقوله فيه: "فزاد أو نقص" قال منصور لا أدري إبراهيم وهم أم علقمة كذا أطلق "وهم" موضع "شك" وتوجيهه أن الشك ينشأ عن النسيان إذ لو كان ذكرا لأحد الأمرين لما وقع له التردد، يقال وهم في كذا إذا غلط فيه ووهم إلى كذا إذا ذهب وهمه إليه، وقد تقدم في أبواب القبلة من رواية جرير عن منصور قال: "قال إبراهيم لا أدري زاد أو نقص" فجزم بأن إبراهيم هو الذي تردد، وهذا يدل على أن منصورا حين حدث عبد العزيز كان مترددا هل علقمة قال ذلك أم إبراهيم، وحين حدث جريرا كان جازما بإبراهيم. وقال الكرماني لفظ: "أقصرت" صريح في أنه نقص ولكنه وهم من الراوي والصواب ما تقدم في الصلاة بلفظ: "أحدث في الصلاة شيء" وقد تقدمت مباحا هذا الحديث هناك أيضا ولله الحمد. الحديث ذكر فيه طرفا يسيرا من حديث أبي بن كعب في قصة موسى والخضر وقوله قلت لابن عباس فقال حدثنا أبي بن كعب هكذا حذف مقول سعيد بن جبير، وقد ذكره في تفسير الكهف بلفظ: "قلت لابن عباس إن نوفا البكالي" فذكر قصة، فقال ابن عباس رادا عليه "حدثنا أبي بن كعب إلخ" فحذفها البخاري هنا كما حذف أكثر الحديث، إلى أن قال: "لا تؤاخذني". قوله: "إنه سمع رسول الله يقول قال لا تؤاخذني بما نسيت" فيه حذف تقديره: يقول في تفسير قوله تعالى: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي} إلخ. قوله: "كانت الأولى من موسى نسيانا" يعني أنه كان عند إنكاره خرق السفينة كان ناسيا لما شرط عليه الخضر في قوله: "فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا" فإن قيل ترك مؤاخذته بالنسيان متجه وكيف وأخذه؟ قلنا عملا بعموم شرطه الذي التزمه، فلما اعتذر له بالنسيان علم أنه خارج بحكم الشرع من عموم الشرط، وبهذا التقرير يتجه إيراد هذا الحديث في هذه الترجمة. فإن قيل فالقصة الثانية لم تكن إلا عمدا فما الحامل له على خلف الشرط؟ قلنا: لأنه في الأولى كان يتوقع هلاك أهل السفينة فبادر للإنكار فكان ما كان واعتذر بالنسيان وقدر الله سلامتهم، وفي الثانية كان قتل الغلام فيها محققا فلم يصبر على الإنكار فأنكر ذاكرا للشرط عامدا لإخلافه تقديما لحكم الشرع، ولذلك لم يعتذر بالنسيان وإنما أراد أن يجرب نفسه في الثالثة لأنها الحد المبين غالبا لما يخفى من الأمور. فإن قيل: فهل كانت الثالثة عمدا أو نسيانا؟ قلنا: يظهر أنها كانت نسيانا وإنما وأخذه صاحبه بشرطه الذي شرطه على نفسه من المفارقة في الثالثة، وبذلك جزم ابن التين، وإنما لم يقل إنها كانت عمدا استبعادا لأن يقع من موسى عليه السلام إنكار أمر مشروع وهو الإحسان لمن أساء والله أعلم. حديث البراء وحديث أنس في تقديم صلاة العيد على الذبح، وقد سبق شرحهما مستوفى في كتاب الأضاحي. قوله: "كتب إلي محمد بن بشار" لم تقع هذه الصيغة للبخاري في صحيحه عن أحد من مشايخه إلا في هذا الموضع، وقد أخرج بصيغة المكاتبة فيه أشياء كثيرة لكن من رواية التابعي عن الصحابي أو من رواية غير التابعي عن التابعي ونحو ذلك، ومحمد بن بشار هذا هو المعروف ببندار، وقد أكثر عنه البخاري، وكأنه لم يسمع منه هذا الحديث فرواه عنه بالمكاتبة. وقد أخرج أصل الحديث من عدة طرق أخرى موصولة كما تقدم في العيدين وغيره، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عبد الله بن محمد بن سنان قال: قرأت على بندار فذكره، وأخرجه أبو نعيم من رواية حسين بن محمد بن حماد قال حدثنا محمد بن بشار بندار. قوله: "قال قال البراء بن عازب وكان عندهم ضيف" في رواية الإسماعيلي: "كان عندهم ضيف" بغير واو، وظاهر السياق أن القصة وقعت للبراء، لكن المشهور أنها وقعت لخاله أبي بردة بن نيار كما تقدم في كتاب الأضاحي من طريق

(11/554)


زبيد عن الشعبي عن البراء فذكر الحديث وفيه: "فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال إن عندي جذعة" الحديث، ومن طريق مطرف عن الشعبي عن البراء "ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة". قوله: "قبل أن يرجع" في رواية السرخسي والمستملي: "قبل أن يرجعهم" والمراد قبل أن يرجع إليهم. قوله: "فأمره أن يعيد الذبح" قال ابن التين: رويناه بكسر الذال وهو ما يذبح وبالفتح وهو مصدر ذبحت. قوله: "فقال يا رسول الله" في رواية الإسماعيلي: "قال البراء يا رسول الله" وهذا صريح في أن القصة وقعت للبراء، فلولا اتحاد المخرج لأمكن التعدد، لكن القصة متحدة والسند متحد من رواية الشعبي عن البراء والاختلاف من الرواة عن الشعبي، فكأنه وقع في هذه الرواية اختصار وحذف، ويحتمل أن يكون البراء شارك خاله في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن القصة فنسبت كلها إليه تجوزا. قال الكرماني: كان البراء وخاله أبو بردة أهل بيت واحد فنسب القصة تارة لخاله وتارة لنفسه انتهى، والمتكلم في القصة الواحدة أحدهما فتكون نسبة القول للآخر مجازية والله أعلم. قوله: "خير من شاتى لحم" تقدم البحث فيه هناك أيضا. قوله: "وكان ابن عون" هو عبد الله راوي الحديث عن الشعبي، وهو موصول بالسند المذكور. قوله: "يقف في هذا المكان عن حديث الشعبي" أي يترك تكملته. قوله: "ويحدث عن محمد بن سيرين" أي عن أنس. قوله: "بمثل هذا الحديث" أي حديث الشعبي عن البراء. قوله: "ويقف في هذا المكان" أي في حديث ابن سيرين أيضا. قوله: "ويقول لا أدري إلخ" يأتي بيانه في الذي بعده. قوله: "رواه أيوب عن ابن سيرين عن أنس" وصله المصنف في أوائل الأضاحي من رواية إسماعيل وهو المعروف بابن علية عن أيوب بهذا السند ولفظه: "من ذبح قبل الصلاة فليعد، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن هذا يوم يشتهي فيه اللحم -وذكر جيرانه- وعندي جذعة خير من شاتى لحم، فرخص له في ذلك فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا" وهذا ظاهره في أن الكل من رواية ابن سرين عن أنس، وقد أوضحت ذلك أيضا في كتاب الأضاحي. حديث جندب وهو ابن عبد الله البجلي. فوله "خطب ثم قال من ذبح فليبدل مكانها" تقدم في الأضاحي عن آدم عن شعبة بهذا السند بلفظ: "من ذبح قبل أن يصلي فليعد" الحديث وتقدم شرحه هناك أيضا. قال الكرماني: ومناسبة حديثي البراء وجندب للترجمة الإشارة إلى التسوية بين الجاهل بالحكم والناسي.

(11/555)


16 - باب الْيَمِينِ الْغَمُوسِ
{وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} دَخَلًا مَكْرًا وَخِيَانَةً
6675- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا فِرَاسٌ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ"
[الحديث 6675- طرفاه في 6870، 6920]
قوله: "باب اليمين الغموس" بفتح المعجمة وضم الميم الخفيفة وآخره مهملة، قيل سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، فهي فعول بمعنى فاعل، وقيل الأصل في ذلك أنهم كانوا إذا أرادوا أن يتعاهدوا

(11/555)


أحضروا جفنة فجعلوا فيها طيبا أو دما أو رمادا ثم يحلفون عندما يدخلون أيديهم فيها ليتم لهم بذلك المراد من تأكيد ما أرادوا. فسميت تلك اليمين إذا غدر صاحبها غموسا لكونه بالغ في نقض العهد وكأنها على هذا مأخوذة من اليد المغموسة فيكون فعول بمعنى مفعولة. وقال ابن التين: اليمين الغموس التي ينغمس صاحبها في الإثم، ولذلك قال مالك لا كفارة فيها، واحتج أيضا بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وهذه يمين غير منعقدة لأن المنعقد ما يمكن حله ولا يتأتى في اليمين الغموس البر أصلا. قوله: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} الآية" كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى "عظيم". قوله: "دخلا مكرا وخيانة" هو من تفسير قتادة وسعيد بن جبير أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: خيانة وغدرا، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير قال: يعني مكرا وخديعة. وقال الفراء: يعني خيانة. وقال أبو عبيدة: الدخل كل أمر كان على فساد؛ وقال الطبري: معنى الآية لا تجعلوا أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم توفون بالعهد لمن عاهدتموه دخلا أي خديعة وغدرا ليطمئنوا إليكم وأنتم تضمرون لهم الغدر انتهى. ومناسبة ذكر هذه الآية لليمين الغموس ورود الوعيد على من حلف كاذبا متعمدا. قوله: "النضر" بفتح النون وسكون المعجمة هو ابن شميل بالمعجمة مصغر، ووقع منسوبا في رواية النسائي، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من رواية جعفر بن إسماعيل عن محمد بن مقاتل شيخ البخاري فيه فقال: "عن عبد الله بن المبارك عن شعبة" وكأن لابن مقاتل فيه شيخين إن كان حفظه، وفراس بكسر الفاء وتخفيف الراء وآخره سين مهملة. قوله: "عن عبد الله بن عمرو" أي ابن العاص. قوله: "الكبائر الإشراك بالله" في رواية شيبان عن فواس في أوله "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر" فذكره، ولم أقف على اسم هذا الأعرابي. قوله: "الكبائر الإشراك بالله إلخ" ذكر هنا ثلاثة أشياء بعد الشرك وهو العقوق وقتل النفس واليمين الغموس، ورواه غندر عن شعبة بلفظ: "الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين أو قال اليمين الغموس شك شعبة" أخرجه أحمد عنه هكذا، وكذا أخرجه المصنف في أوائل الديات والترمذي جميعا عن بندار عن غندر وعلقه البخاري هناك، ووصله الإسماعيلي من رواية معاذ بن معاذ عن شعبة بلفظ: "الكبائر الإشراك بالله واليمين الغموس وعقوق الوالدين أو قال قتل النفس" ووقع في رواية شيبان التي أشرت إليها "الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين، قال ثم ماذا؟ قال اليمين الغموس" ولم يذكر قتل النفس، وزاد في رواية شيبان "قلت وما اليمين الغموس؟ قال: التي تقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كذب" والقائل قلت هو عبد الله بن عمرو راوي الخبر والمجيب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون السائل من دون عبد الله بن عمرو والمجيب هو عبد الله أو من دونه، ويؤيد كونه مرفوعا حديث ابن مسعود والأشعث المذكور في الباب الذي بعده، ثم وقفت على تعيين القائل "قلت وما اليمين الغموس" وعلى تعيين المسئول فوجدت الحديث في النوع الثالث من القسم الثاني من صحيح ابن حبان وهو قسم النواهي، وأخرجه عن النضر بن محمد عن محمد بن عثمان العجلي عن عبيد الله بن موسى بالسند الذي أخرجه به البخاري فقال في آخره بعد قوله ثم اليمين الغموس "قلت لعامر ما اليمين الغموس إلخ" فظهر أن السائل عن ذلك فراس والمسئول الشعبي وهو عامر فلله الحمد على ما أنعم ثم لله الحمد ثم لله الحمد، فإني لم أر من تحرر له ذلك من الشراح، حتى أن الإسماعيلي وأبا نعيم لم يخرجاه في هذا الباب من رواية شيبان بل اقتصر على رواية شعبة، وسيأتي عد الكبائر وبيان الاختلاف في ذلك في كتاب

(11/556)


الحدود في شرح حديث أبي هريرة "اجتنبوا السبع الموبقات" إن شاء الله تعالى، وقد بينت ضابط الكبيرة والخلاف في ذلك، وأن في الذنوب صغيرا وكبيرا وأكبر، في أوائل كتاب الأدب، وذكرت ما يدل على أن المراد بالكبائر في حديث الباب أكبر الكبائر، وأنه ورد من وجه آخر عند أحمد عن عبد الله بن عمرو بلفظ: "من أكبر الكبائر" وأن له شاهدا عند الترمذي عن عبد الله بن أنيس وذكر فيه اليمين الغموس أيضا، واستدل به الجمهور على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها للاتفاق على أن الشرك والعقوق والقتل لا كفارة فيه وإنما كفارتها التوبة منها والتمكين من القصاص في القتل العمد، فكذلك اليمين الغموس حكمها حكم ما ذكرت معه، وأجيب بأن الاستدلال بذلك ضعيف لأن الجمع بين مختلف الأحكام جائز كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} والإيتاء واجب والأكل غير واجب، وقد أخرج ابن الجوزي في "التحقيق" من طريق ابن شاهين بسنده إلى خالد بن معدان عن أبي المتوكل عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليس فيها كفارة يمين صبر يقتطع بها مالا بغير حق، وظاهر سنده الصحة، لكنه معلول لأن فيه عنعنة بقية فقد أخرجه أحمد من هذا الوجه فقال في هذا السند عن المتوكل أو أبي المتوكل، فظهر أنه ليس هو الناجي الثقة بل آخر مجهول، وأيضا فالمتن مختصر ولفظه عند أحمد "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة" الحديث، وفيه: "وخمس ليس لها كفارة الشرك بالله" وذكر في آخرها "ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق" ونقل محمد بن نصر في اختلاف العلماء ثم ابن المنذر ثم ابن عبد البر اتفاق الصحابة على أن لا كفارة في اليمين الغموس، وروى آدم بن أبي إياس في مسند شعبة وإسماعيل القاضي في الأحكام عن ابن مسعود "كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذبا ليقتطعه" قال ولا مخالف له من الصحابة، واحتجوا بأنها أعظم من أن تكفر، وأجاب من قال بالكفارة كالحكم وعطاء والأوزاعي ومعمر والشافعي بأنه أحوج للكفارة من غيره وبأن الكفارة لا تزيده إلا خيرا، والذي يجب عليه الرجوع إلى الحق ورد المظلمة، فإن لم يفعل كفر فالكفارة لا ترفع عنه حكم التعدي بل تنفعه في الجملة. وقد طعن ابن حزم في صحة الأثر عن ابن مسعود واحتج بإيجاب الكفارة فيمن تعمد الجماع في صوم رمضان وفيمن أفسد حجه، قال: ولعلهما أعظم إثما من بعض من حلف اليمين الغموس، ثم قال: وقد أوجب المالكية الكفارة على من حلف أن لا يزني ثم زنى ونحو ذلك، ومن حجة الشافعي قوله في الحديث الماضي في أول كتاب الأيمان "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" فأمر من تعمد الحنث أن يكفر فيؤخذ منه مشروعية الكفارة لمن حلف حانثا.

(11/557)


باب قول الله تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ...} الخ
...
17 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}

(11/557)


6676- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ"
6677- "فَدَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالُوا كَذَا وَكَذَا قَالَ فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ قُلْتُ إِذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ "لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"
قوله: "باب قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} الآية" كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة إلى قوله: "عذاب أليم" وقد سبق تفسير العهد قبل خمسة أبواب، ويستفاد من الآية أن العهد غير اليمين لعطف اليمين عليه، ففيه حجة على من احتج بها بأن العهد يمين، واحتج بعض المالكية بأن العرف جرى على أن العهد والميثاق والكفالة والأمانة أيمان لأنها من صفات الذات، ولا يخفي ما فيه. قال ابن بطال: وجه الدلالة أن الله خص العهد بالتقدمة على سائر الأيمان فدل على تأكد الحلف به لأن عهد الله ما أخذه على عباده وما أعطاه عباده كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية لأنه قدم على ترك الوفاء به. قوله: "وقول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} كذا لأبي ذر. وفي رواية غيره: "وقوله جل ذكره": قال ابن التين وغيره: اختلف في معناه فعن زيد بن أسلم: لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بررة، وفائدة ذلك إثبات الهيبة في القلوب، ويشير إليه قوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} وعن سعيد بن جبير: هو أن يحلف أن لا يصل رحمه مثلا فيقال له صل، فيقول قد حلفت وعلى هذا فمعنى قوله أن تبروا كراهة أن تبروا فينبغي أن يأتي الذي هو خير ويكفر انتهى. وقد أخرجه الطبري من طريق على بن أبي طلحة عن ابن عباس ولفظه: "لا تجعل الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر واصنع الخير" وقيل هو أن يحلف أن يفعل نوعا من الخير تأكيدا له بيمينه فنهى عن ذلك حكاه الماوردي، وهو شبيه النهي عن النذر كما سيأتي نظيره، وعلى هذا فلا يحتاج إلى تقدير لا، قال الراغب وغيره: العرضة ما يجعل معرضا لشيء آخر كما قالوا بعير عرضة للسفر، ومنه قول الشاعر "ولا يجعلني عرضة للوائم" ويقولون فلان عرضة للناس أي يقعون فيه، وفلانة عرضة للنكاح إذا صلحت له وقويت عليه، وجعلت فلانا عرضة في كذا أي أقمته فيه، وتطلق العرضة أيضا على الهمة كقول حسان "هي الأنصار عرضتها اللقاء". قوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً - إلى قوله:- وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} هكذا وقع في رواية أبي ذر، وسقط ذلك لجميعهم، ووقع فيه تقديم وتأخير، والصواب قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً -إلى قوله- وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وقد وقع في رواية النسفي بعد قوله عرضة لأيمانكم ما نصه "وقوله {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية وقوله {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} الآية "وقد مشى شرح ابن بطال على ما وقع عند أبي ذر فقال: في هذا دليل على تأكيد لوفاء بالعهد لأن الله تعالى قال ولا تنقضوا الأيمان

(11/558)


بعد توكيدها، ولم يتقدم غير ذلك العهد فعلم أنه يمين. ثم ظهر لي أنه أراد ما وقع قبل قوله: "ولا تنقضوا" وهو قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} لكن لا يلزم من عطف الأيمان على العهد أن يكون العهد يمينا بل هو كالآية السابقة {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} فالآيات كلها دالات على تأكيد الوفاء بالعهد، وأما كونه يمينا فشيء آخر، ولعل البخاري أشار إلى ذلك، وقد تقدم كلام الشافعي "من حلف بعهد الله" قبل خمسة أبواب، وقوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} أي شهيدا في العهد أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. وأخرج عن مجاهد قال: يعني وكيلا، واستدل بقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها لأن ابن عباس فسرها بأن الرجل يحلف أن لا يصل قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير وأمره أن يصل قرابته ويكفر عن يمينه ولم يجعل لحالف الغموس مخرجا كذا قال، وتعقبه الخطابي بأنه لا يدل على ترك الكفارة في اليمين الغموس بل قد يدل لمشروعيتها. قوله: "حدثنا موسى بن إسماعيل" هو التبوذكي. قوله: "حدثنا أبو عوانة" هو الوضاح، وقد تقدم عن موسى هذا بعض هذا الحديث بدون قصة الأشعث في الشهادات لكن عن عبد الواحد وهو ابن زياد بدل أبي عوانة فالحديث عند موسى المذكور عنهما جميعا. قوله: "عن أبي وائل" هو شقيق بن سلمة، وقد تقدم في الشرب من رواية أبي حمزة وهو السكري، وفي الأشخاص من رواية أبي معاوية كلاهما عن الأعمش عن شقيق، وقد تقدم قريبا من رواية شعبة عن سليمان وهو الأعمش، ويستفاد منه أنه مما لم يدلس فيه الأعمش فلا يضر مجيئه عنه بالعنعنة. قوله: "عن عبد الله" في تفسير آل عمران عن حجاج بن منهال عن أبي عوانة بهذا السند عن عبد الله بن مسعود. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا وقع التصريح بالرفع في رواية الأعمش، ولم يقع ذلك في رواية منصور الماضية في الشهادات وفي الرهن، ووقع مرفوعا في رواية شعبة الماضية قريبا عن منصور والأعمش جميعا. قوله: "من حلف على يمين صبر" بفتح الصاد وسكون الموحدة، ويمين الصبر هي التي تلزم ويجبر عليها حالفها يقال أصبره اليمين أحلفه بها في مقاطع الحق، زاد أبو حمزة عن الأعمش "هو بها فاجر" وكذا للأكثر. وفي رواية أبي معاوية "هو عليها فاجر ليقتطع" وكأن فيها حذفا تقديره هو في الإقدام عليها، والمراد بالفجور لازمه وهو الكذب، وقد وقع في رواية شعبة "على يمين كاذبة". قوله: "يقتطع بها مال امرئ مسلم" في رواية حجاج بن منهال "ليقتطع بها" بزيادة لام تعليل ويقتطع يفتعل من القطع كأنه قطعه عن صاحبه أو أخذ قطعة من ماله بالحلف المذكور. قوله: "لقي الله وهو عليه غضبان" في حديث وائل بن حجر عند مسلم: "وهو عنه معرض" وفي رواية كردوس عن الأشعث عند أبي داود "إلا لقي الله وهو أجذم" وفي حديث أبي أمامة بن ثعلبة عند مسلم والنسائي نحوه في هذا الحديث: "فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة" وفي حديث عمران عند أبي داود "فليتبوأ مقعده من النار". قوله: "فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} كذا في رواية الأعمش ومنصور، ووقع في رواية جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين عند مسلم والترمذي وغيرهما جميعا عن أبي وائل عن عبد الله "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه" الحديث ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} فذكر هذه الآية، ولولا التصريح في رواية الباب بأنها نزلت في ذلك لكان ظاهر هذه الرواية أنها نزلت قبل ذلك، وقد تقدم في تفسير آل عمران أنها نزلت فيمن أقام سلعته بعد العصر فحلف كاذبا، وتقدم أنه يجوز

(11/559)


أنها نزلت في الأمرين معا. وقال الكرماني: لعل الآية لم تبلغ ابن أبي أوفى إلا عند إقامته السلعة فظن أنها نزلت في ذلك، أو أن القصتين وقعتا في وقت واحد فنزلت الآية، واللفظ عام متناول لهما ولغيرهما.
قوله: "فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن"؟ كذا وقع عند مسلم من رواية وكيع عن الأعمش، وأبو عبد الرحمن هي كنية ابن مسعود. وفي رواية جرير في الرهن "ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن" والجمع بينهما أنه خرج عليهم من مكان كان فيه فدخل المكان الذي كانوا فيه. وفي رواية الثوري عن الأعمش ومنصور جميعا -كما سيأتي في الأحكام- فجاء الأشعث وعبد الله يحدثهم، ويجمع بأن خروجه من مكانه الذي كان فيه إلى المكان الذي كان فيه عبد الله وقع وعبد الله يحدثهم فلعل الأشعث تشاغل بشيء فلم يدرك تحديث عبد الله فسأل أصحابه عما حدثهم به. قوله: "فقالوا كذا وكذا" في رواية جرير "فحدثناه" وبين شعبة في روايته أن الذي حدثه بما حدثهم به ابن مسعود هو أبو وائل الراوي ولفظه في الأشخاص "قال فلقيني الأشعث فقال: ما حدثكم عبد الله اليوم؟ قلت كذا وكذا" وليس بين قوله فلقيني وبين قوله في الرواية خرج إلينا فقال ما يحدثكم منافاة، وإنما انفرد في هذه الرواية لكونه المجيب. قوله: "قال في أنزلت" رواية جرير "قال فقال صدق، لفي والله أنزلت" واللام لتأكيد القسم دخلت على في، ومراده أن الآية ليست بسب خصومته التي يذكرها. وفي رواية أبي معاوية "في والله كان ذلك" وزاد جرير عن منصور "صدق" قال ابن مالك "لفي والله نزلت": شاهد على جواز توسط القسم بين جزءي الجواب، وعلى أن اللام يجب وصلها بمعمولي الفعل الجوابي المتقدم لا بالفعل. قوله: "كان لي" في رواية الكشميهني: "كانت". قوله: "بئر" في رواية أبي معاوية "أرض" وادعى الإسماعيلي في الشرب أن أبا حمزة تفرد بقوله: "في بئر" وليس كما قال فقد وافقه أبو عوانة كما ترى، وكذا يأتي في الأحكام من رواية الثوري عن الأعمش ومنصور جميعا، ومثله في رواية شعبة الماضية قريبا عنهم لكن بين أن ذلك في حديث الأعمش وحده، ووقع في رواية جرير عن منصور "في شيء" ولبعضهم "في بئر" ووقع عند أحمد من طريق عاصم عن شقيق أيضا: "في بئر". قوله: "في أرض ابن عم لي" كذا للأكثر أن الخصومة كانت في بئر يدعيها الأشعث في أرض لخصمه. وفي رواية أبي معاوية "كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني" ويجمع بأن المراد أرض البئر لا جميع الأرض التي هي أرض البئر والبئر من جملتها، ولا منافاة بين قوله ابن عم لي وبين قوله من اليهود لأن جماعة من اليمن كانوا تهودوا لما غلب يوسف ذو نواس على اليمن فطرد عنها الحبشة فجاء الإسلام وهم على ذلك، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في أوائل السيرة النبوية مبسوطا، وقد تقدم في الشرب أن اسم ابن عمه المذكور الخفشيش بن معدان بن معد يكرب، وبينت الخلاف في ضبط الخفشيش وأنه لقب واسمه جرير وقيل معدان حكاه ابن طاهر، والمعروف أنه اسم كنيته أبو الخير. وأخرج الطبراني من طريق الشعبي عن الأشعث قال: "خاصم رجل من الحضرميين رجلا منا يقال له الخفشيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: للحضرمي جيء بشهودك على حقك وإلا حلف لك" الحديث. قلت: وهذا يخالف السياق الذي في الصحيح، فإن كان ثابتا حمل على تعدد القصة، وقد أخرج أحمد والنسائي من حديث عدي بن عميرة الكندي قال: "خاصم رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عابس الكندي رجلا من حضر موت في أرض" فذكر نحو قصة الأشعث وفيه: "إن مكنته من اليمين ذهبت أرضي. وقال من حلف" فذكر الحديث وتلا الآية، ومعد يكرب جد الخفشيش وهو جد

(11/560)


الأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية، فهو ابن عمه حقيقة. ووقع في رواية لأبي داود من طريق كردوس عن الأشعث "أن رجلا من كندة ورجلا من حضر موت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرص من اليمن" فذكر قصة تشبه قصة الباب إلا أن بينهما اختلافا في السياق، وأظنها قصة أخرى فإن مسلما أخرج من طريق علقمة بن وائل عن أبيه قال: "جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي" وإنما جوزت التعدد لأن الحضرمي يغاير الكندي لأن المدعي في حديث الباب هو الأشعث وهو الكندي جزما والمدعي في حديث وائل هو الحضرمي فافترقا، ويجوز أن يكون الحضرمي: نسب إلى البلد لا إلى القبيلة فإن أصل نسبة القبيلة كانت إلى البلد ثم اشتهرت النسبة إلى القبيلة، فلعل الكندي في هذه القصة كان يسكن حضر موت فنسب إليها والكندي لم يسكنها فاستمر على نسبته. وقد ذكروا الخفشيش في الصحابة، واستشكله بعض مشايخنا لقوله في الطريق المذكورة قريبا إنه يهودي ثم قال يحتمل أنه أسلم. قلت: وتمامه أن يقال إنما وصفه الأشعث بذلك باعتبار ما كان عليه أولا، ويؤيد إسلامه أنه وقع في رواية كردوس عن الأشعث في آخر القصة أنه لما سمع الوعيد المذكور قال: هي أرضه، فترك اليمين تورعا، ففيه إشعار بإسلامه. ويؤيده أنه لو كان يهوديا ما بالى بذلك لأنهم يستحلون أموال المسلمين، وإلى ذنك وقعت الإشارة بقوله تعالى حكاية عنهم "ليس علينا في الأميين سبيل" أي حرج، ويؤيد كونه مسلما أرضا رواية الشعبي الآتية قريبا. قوله: "فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الثوري "خاصمته" وفي رواية جرير عن منصور "فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أبي معاوية "فجحدني فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقال: بينتك أو يمينه" في رواية أبي معاوية "فقال: ألك بينة؟ فقلت: لا. فقال لليهودي: احلف" وفي رواية أبي حمزة "فقال لي: شهودك. قلت: ما لي شهود. قال: فيمينه" وفي رواية وكيع عند مسلم: "ألك عليه بينة" وفي رواية جرير عن منصور "شاهداك أو يمينه" وتقدم في الشهادات توجيه الرفع وأنه يجوز النصب، ويأتي نظيره في لفظ رواية الباب، ويجوز أن يكون توجيه الرفع: لك إقامة شاهديك أو طلب يمينه، فحذف فيهما المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فرفع، والأصل في هذا التقدير قول سيبويه المثبت لك ما تدعيه شاهداك، وتأويله المثبت لك هو شهادة شاهديك إلخ. قوله: "قلت إذا يحلف عليها يا رسول الله" لم يقع في رواية أبي حمزة ما بعد قوله: "يحلف" وتقدم في الشرب "أن يحلف" بالنص لوجود شرائطه من الاستقبال وغيره وأنه يجوز الرفع وذكر فيه توجيه ذلك، وزاد في رواية أبي معاوية "إذا يحلف ويذهب بمالي" ووقع في حديث وائل من الزيادة بعد قوله ألك بينة "قال لا قال فلك يمينه، قال إنه فاجر ليس يبالي ما حلف عليه وليس يتورع من شيء، قال ليس لك منه إلا ذلك" ووقع في رواية

(11/561)


الشعبي عن الأشعث قال: "أرضي أعظم شأنا أن يحلف عليها، فقال: إن يمين المسلم يدرا بها أعظم من ذلك". قوله: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف" فذكر مثل حديث ابن مسعود سواء وزاد: "وهو فيها فاجر" وقد بينت أن هذه الزيادة وقعت في حديث ابن مسعود عند أبي حمزة وغيره، وزاد أبو حمزة "فأنزل الله ذلك تصديقا له" أي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقع في رواية منصور حديث: "من حلف" من رواية الأشعث بل اقتصر على قوله: "فأنزل الله" وساق الآية. ووقع في رواية كردوس عن الأشعث "فتهيأ الكندي لليمين" وفي حديث وائل "فانطلق ليحلف، فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث. ووقع في رواية الشعبي عن الأشعث "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هو حلف كاذبا أدخله الله النار. فذهب الأشعث فأخبره القصة فقال: أصلح بيني وبينه، قال فأصلح بينهما" وفي حديث عدي بن عميرة "فقال له أمرؤ القيس: ما لمن تركها يا رسول الله؟ قال: الجنة. قال أشهد أني قد تركتها له كلها" وهذا يؤيد ما أشرت إليه من تعدد القصة. وفي الحديث سماع الحاكم الدعوى فيما لم يره إذا وصف وحدد وعرفه المتداعيان، لكن لم يقع في الحديث تصريح بوصف ولا تحديد، فاستدل به القرطبي على أن الوصف والتحديد ليس بلازم لذاته بل يكفي في صحة الدعوى تمييز المدعي به تمييزا ينضبط به. قلت: ولا يلزم من ترك ذكر التحديد والوصف في الحديث أن لا يكون ذلك وقع، ولا يستدل بسكوت الراوي عنه بأنه لم يقع بل يطالب من جعل ذلك شرطا بدليله فإذا ثبت حمل على أنه ذكر في الحديث ولم ينقله الراوي. وفيه أن الحاكم يسأل المدعي هل له بينة؟ وقد ترجم بذلك في الشهادات "وأن البينة على المدعي في الأموال كلها" واستدل به لمالك في قوله إن من رضى بيمين غريمه ثم أراد إقامة البينة بعد حلفه أنها لا تسمع إلا إن أتي بعذر يتوجه له في ترك إقامتها قبل استحلافه، قال ابن دقيق العيد: ووجهه أن "أو" تقتضي أحد الشيئين. فلو جاز إقامة البينة بعد الاستحلاف لكان له الأمران معا والحديث يقتضي أنه ليس له إلا أحدهما، قال: وقد يجاب بأن المقصود من هذا الكلام نفي طريق أخرى لإثبات الحق فيعود المعنى إلى حصر الحجة في البينة واليمين. ثم أشار إلى أن النظر إلى اعتبار مقاصد الكلام وفهمه يضعف هذا الجواب، قال وقد يستدل الحنفية به في ترك العمل بالشاهد واليمين في الأموال. قلت: والجواب عنه بعد ثبوت دليل العمل بالشاهد واليمين أنها زيادة صحيحة يجب المصير إليها لثبوت ذلك بالمنطوق وإنما يستفاد نفيه من حديث الباب بالمفهوم، واستدل به على توجيه اليمين في الدعاوي كلها على من ليست له بينة. وفيه بناء الأحكام على الظاهر وإن كان المحكوم له في نفس الأمر مبطلا. وفيه دليل للجمهور أن حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لم يكن حلالا له خلافا لأبي حنيفة كذا أطلقه النووي، وتعقب بأن ابن عبد البر نقل الإجماع على أن الحكم لا يحل حراما في الباطن في الأموال. قال: واختلفوا في حل عصمة نكاح من عقد عليها بظاهر الحكم وهي في الباطن بخلافه فقال الجمهور: الفروج كالأموال. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وبعض المالكية: إن ذلك إنما هو في الأموال دون الفروج، وحجتهم في ذلك اللعان انتهى. وقد طرد ذلك بعض الحنفية في بعض المسائل في الأموال والله أعلم. وفيه التشديد على من حلف باطلا ليأخذ حق مسلم، وهو عند الجميع محمول على من مات على غير توبة صحيحة، وعند أهل السنة محمول على من شاء الله أن يعذبه كما تقدم تقريره مرارا وآخرها في الكلام على حديث أبي ذر في كتاب الرقاق، وقوله: "ولا ينظر الله إليه" قال في الكشاف: هو كناية عن عدم الإحسان إليه عند من يجوز عليه النظر، مجاز عند من لا يجوزه، والمراد بترك التزكية ترك الثناء عليه وبالغضب إيصال الشر إليه وقال المازري: ذكر بعض أصحابنا أن فيه دلالة على أن صاحب اليد أولى بالمدعي فيه. وفيه التنبيه على صورة الحكم في هذه الأشياء لأنه بدأ بالطالب فقال ليس لك إلا يمين الآخر، ولم يحكم بها للمدعى عليه إذا حلف بل إنما جعل اليمين تصرف دعوى المدعي لا غير، ولذلك ينبغي للحاكم إذا حلف المدعى عليه أن لا يحكم له بملك المدعى فيه ولا بحيازته بل يقره على حكم يمينه، واستدل به على أنه لا يشترط في المتداعيين أن يكون بينهما اختلاط أو يكونا ممن يتهم بذلك ويليق به لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المدعى عليه هنا بالحلف بعد أن سمع الدعوى ولم يسأل عن حالهما، وتعقب بأنه ليس فيه التصريح بخلاف ما ذهب إليه من قال به من المالكية

(11/562)


لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم من حاله ما أغناه عن السؤال فيه وقد قال خصمه عنه إنه فاجر لا يبالي ولا يتورع عن شيء ولم ينكر عليه ذلك ولو كان بريئا مما قال لبادر للإنكار عليه، بل في بعض طرق الحديث ما يدل على أن الغصب المدعى به وقع في الجاهلية ومثل ذلك تسمع الدعوى بيمينه فيه عندهم. وفي الحديث أيضا أن يمين الفاجر تسقط عنه الدعوى، وأن فجوره في دينه لا يوجب الحجر عليه ولا إبطال إقراره ولولا ذلك لم يكن لليمين معنى، وأن المدعى عليه إن أقر أن أصل المدعي لغيره لا يكلف لبيان وجه مصيره إليه ما لم يعلم إنكاره لذلك يعني تسليم المطلوب له ما قال، قال: وفيه أن من جاء بالبينة قضى له بحقه من غير يمين لأنه محال أن يسأله عن البينة دون ما يجب له الحكم به، ولو كانت اليمين من تمام الحكم له لقال له بينتك ويمينك على صدقها، وتعقب بأنه لا يلزم من كونه لا يحلف مع بينته على صدقها فيما شهدت أن الحكم له لا يتوقف بعد البينة على حلفه بأنه ما خرج عن ملكه ولا وهبه مثلا وأنه يستحق قبضه، فهذا وإن كان لم يذكر في الحديث فليس في الحديث ما ينفيه، بل فيه ما يشعر بالاستغناء عن ذكر ذلك لأن في بعض طرقه أن الخصم اعترف وسلم المدعى به للمدعي فأغنى ذلك عن طلبه يمينه، والغرض أن المدعي ذكر أنه لا بينة له فلم تكن اليمين إلا في جانب المدعى عليه فقط. وقال القاضي عياض: وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا البداءة بالسماع من الطالب ثم من المطلوب هل يقر أو ينكر، ثم طلب البينة من الطالب إن أنكر المطلوب، ثم توجيه اليمين على المطلوب إذا لم يجد الطالب البينة، وأن الطالب إذا ادعى أن المدعى به في يد المطلوب فاعترف استغنى عن إقامة البينة بأن يد المطلوب عليه، قال: وذهب بعض العلماء إلى أن كل ما يجرى بين المتداعيين من تساب بخيانة وفجور هدر لهذا الحديث، وفيه نظر لأنه إنما نسبه إلى الغصب في الجاهلية وإلى الفجور وعدم التوقي في الأيمان في حال اليهودية فلا يطرد ذلك في حق كل أحد. وفيه موعظة الحاكم المطلوب إذا أراد أن يحلف خوفا من أن يحلف باطلا فيرجع إلى الحق بالموعظة. واستدل به القاضي أبو بكر بن الطيب في سؤال أحد المتناظرين صاحبه عن مذهبه فيقول له ألك دليل على ذلك؟ فإن قال نعم سأله عنه ولا يقول له ابتداء ما دليلك على ذلك؟ ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم قال للطالب: ألك بينة. ولم يقل له قرب بينتك. وفيه إشارة إلى أن لليمين مكانا يختص به لقوله في بعض طرقه: "فانطلق ليحلف" وقد عهد في عهده صلى الله عليه وسلم الحلف عند منبره، وبذلك احتج الخطابي فقال: كانت المحاكمة والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فانطلق المطلوب ليحلف فلم يكن انطلاقه إلا إلى المنبر لأنه كان في المسجد فلا بد أن يكون انطلاقه إلى موضع أخص منه. وفيه أن الحالف يحلف قائما لقوله: "فلما قام ليحلف" وفيه نظر لأن المراد بقوله قام ما تقدم من قوله انطلق ليحلف، واستدل به الشافعي أن من أسلم وبيده مال لغيره أنه يرجع إلى مالكه إذا أثبته، وعن المالكية اختصاصه بما إذا كان المال لكافر، وأما إذا كان لمسلم وأسلم عليه الذي هو بيده فإنه يقر بيده والحديث حجة عليهم. ومال ابن المنير في الحاشية: يستفاد منه أن الآية المذكورة في هذا الحديث نزلت في نقض العهد، وأن اليمين الغموس لا كفارة فيها لأن نقض العهد لا كفارة فيه، كذا قال، وغايته أنها دلالة اقتران. وقال النووي يدخل في قوله: "من اقتطع حق امرئ مسلم" من حلف على غير مال كجلد الميتة والسرجين وغيرهما مما ينتفع به، وكذا سائر الحقوق كنصيب الزوجة بالقسم، وأما التقييد بالمسلم فلا يدل على عدم تحريم حق الذمي بل هو حرام أيضا، لكن لا يلزم أن يكون فيه هذه العقوبة العظيمة، وهو تأويل حسن لكن ليس في الحديث المذكور دلالة على تحريم حق الذمي بل ثبت بدليل آخر. والحاصل أن المسلم والذمي

(11/563)


لا يفترق الحكم في الأمر فيهما في اليمين الغموس والوعيد عليها، وفي أخذ حقهما باطلا وإنما يفترق قدر العقوبة بالنسبة إليهما، قال: وفيه غلظ تحريم حقوق المسلمين، وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره في ذلك، وكأن مراده عدم الفرق في غلط التحريم لا في مراتب الغلظ، وقد صرح ابن عبد السلام في "القواعد" بالفرق بين القليل والكثير وكذا بين ما يترتب عليه كثير المفسدة وحقيرها، وقد ورد الوعيد في الحالف الكاذب في حق الغير مطلقا في حديث أبي ذر "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم" الحديث، وفيه: "والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" أخرجه مسلم، وله شاهد عند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: "ورجل حلف على سلعته بعد العصر كاذبا".

(11/564)


باب اليمين فيما لا يمللك ، وفي المعصية ، وفي الغضب
...
18 - باب الْيَمِينِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ وَفِي الْمَعْصِيَةِ وَفِي الْغَضَبِ
6678- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ الْحُمْلاَنَ فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ قَالَ انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ فَقُلْ إِنَّ اللَّهَ أَوْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُكُمْ"
6679- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي بَرَاءَتِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { وَلاَ يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لاَحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا"
6680- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ "كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا"
قوله: "باب اليمين فيما لا يملك وفي المعصية والغضب" ذكر فيه ثلاثة أحاديث يؤخذ منها حكم ما في الترجمة على الترتيب، وقد تؤخذ الأحكام الثلاثة من كل منها ولو بضرب من التأويل، وقد ورد في الأمور الثلاثة على غير

(11/564)


شرطه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم" أخرجه أبو داود والنسائي ورواته لا بأس بهم، لكن اختلف في سنده على عمرو، وفي بعض طرقه عند أبي داود "ولا في معصية" وللطبراني في الأوسط عن ابن عباس رفعه: "لا يمين في غضب" الحديث وسنده ضعيف. حديث أبي موسى في قصة طلبهم الحملان في غزوة تبوك، اقتصر منه على بعضه، وفيه: "فقال لا أحملكم" وقد ساقه تاما غزوة تبوك بالسند المذكور هنا وفيه: "فقال والله لا أحملكم" وهو الموافق للترجمة، وأشار بقوله: "فيما لا يملك" إلى ما وقع في بعض طرقه كما سيأتي في "باب الكفارة قبل الحنث" فقال: "والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم" وقد أحلت بشرح الحديث على الباب المذكور، قال ابن المنير: فهم ابن بطال عن البخاري أنه نحا بهذه الترجمة لجهة تعليق الطلاق قبل ملك العصمة أو الحرية قبل ملك الرقبة، فنقل الاختلاف في ذلك وبسط القول فيه والحجج، والذي يظهر أن البخاري قصد غير هذا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يحملهم فلما حملهم راجعوه في يمينه فقال ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم، فبين أن يمينه إنما انعقدت فيما يملك فلو حملهم على ما يملك لحنث كفر، ولكنه حملهم على ما لا يملكه ملكا خاصا وهو مال الله وبهذا لا يكون قد حنث في يمينه. وأما قوله عقب ذلك "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها" فهو تأسيس قاعدة مبتدأة كأنه يقول ولو كنت حلفت ثم رأيت ترك ما حلفت عليه خيرا منه لأحنثت نفسي وكفرت عن يميني، قال وهم إنما سألوه أن يحملهم ظنا أنه يملك حملانا فحلف لا يحملهم على شيء يملكه لكونه كان حينئذ لا يملك شيئا من ذلك، قال: ولا خلاف أن من حلف على شيء وليس في ملكه أنه لا يفعل فعلا معلقا بذلك الشيء مثل قوله والله لئن ركبت مثلا هذا البعير لأفعلن كذا لبعير لا يملكه أنه لو ملكه وركبه حنث وليس هذا من تعليق اليمين على الملك، قلت: وما قاله محتمل، وليس ما قاله ابن بطال أيضا ببعيد بل هو أظهر، وذلك أن الصحابة الذين سألوا الحملان فهموا أنه حلف وأنه فعل خلاف ما حلف أنه لا يفعله، فلذلك لما أمر لهم بالحملان بعد قالوا "تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه" وظنوا أنه نسى حلفه الماضي، فأجابهم أنه لم ينس ولكن الذي فعله خير مما حلف عليه، وأنه إذا حلف فرأى خيرا من يمينه فعل الذي حلف أن لا يفعله وكفر عن يمينه، وسيأتي واضحا في "باب الكفارة قبل الحنث" ويأتي مزيد لمسألة اليمين فيما لا يملك في "باب النذر فيها لا يملك" إن شاء الله تعالى. ذكر طرفا من حديث الإفك، وعبد العزيز شيخه هو ابن عبد الله الأويسي، وإبراهيم هو ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان، وحجاج شيخه في السند الثاني هو ابن المنهال، وقد أورده عن عبد العزيز بطوله في المغازي، وأورد عن حجاج بهذا السند أيضا منه قطعة في الشهادات تتعلق بقول بريرة "ما علمت إلا خيرا" وقطعة في الجهاد فيمن أراد سفرا فأقرع بين نسائه، وقطعة في تفسير سورة يوسف مقررنا أيضا برواية عبد العزيز في قول يعقوب "فصبر جميل"، وقطعة في غزوة بدر في قصة أم مسطح وقول عائشة لها "تسبين رجلا شهد بدرا" وقطعة في التوحيد في قول عائشة "ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى" ومجموع ما أورده عنه لا يجيء قدر عشر الحديث، والغرض منه قوله فيه: "قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح والله لا أنفق على مسطح" وهو موافق لترك اليمين في المعصية لأنه حلف أن لا ينفع مسطحا لكلامه في عائشة فكان حالفا على ترك طاعة فنهى الاستمرار على ما حلف عليه فيكون النهي عن الحلف على فعل المعصية بطريق الأولى، والظاهر من حاله عند الحلف أن يكون قد غضب على مسطح من أجل قوله الذي قاله.

(11/565)


وقال الكرماني: لا مناسبة لهذا الحديث بالجزءين الأولين إلا أن يكون قاسهما على الغضب، أو المراد بقوله وفي المعصية وفي شأن المعصية لأن الصديق حلف بسبب إفك مسطح والإفك من المعصية؛ وكذا كل ما لا يملك الشخص فالحلف عليه موجب للتصرف فيما لا يملكه قبل ذلك أي ليس له أن يفعله شرعا انتهى، ولا يخفى تكلفه، والأولى أنه لا يلزم أن يكون كل خبر في الباب يطابق جميع ما في الترجمة. ثم قال الكرماني: الظاهر أنه من تصرفات النقلة من أصل البخاري فإنه مات وفيه مواضع مبيضة من تراجم بلا حديث وأحاديث بلا ترجمة فأضافوا بعضا إلى بعض. قلت: وهذا إنما يصار إليه إذا لم تتجه المناسبة وقد بينا توجيهها والله أعلم. قوله: "حدثنا أبو معمر" هو عبد الله بن عمرو، وعبد الوارث هو ابن سعيد، وأيوب وهو السختياني، والقاسم هو ابن عاصم، وزهدم هو ابن مضرب الجرمي والجميع بصريون، وقوله: "فوافقته وهو غضبان" مطابق لبعض الترجمة، وفي القصة نحو ما في قصة أبي بكر من الحلف على ترك طاعة، لكن بينهما فرق، وهو أن حلف النبي صلى الله عليه وسلم وافق أن لا شيء عنده مما حلف عليه، بخلاف حلف أبي بكر فإنه حلف وهو قادر على فعل ما حلف على تركه. قال ابن المنير: لم يذكر البخاري في الباب ما يناسب ترجمة اليمين على المعصية إلا أن يريد بيمين أبي بكر على قطيعة مسطح وليست بقطيعة بل هي عقوبة له على ما ارتكب من المعصية بالقذف، ولكن يمكن أن يكون أبو بكر حلف على خلاف الأولى، فإذا نهى عن ذلك حتى أحنث نفسه فعل ما حلف على تركه، فمن حلف على فعل المعصية يكون أولى. قال: وكذلك قوله: "فأرى خيرا منها" يقتضي أن الحنث لفعل ما هو الأولى يقتضي الحنث لترك ما هو معصية بطريق الأولى، قال: ولهذا يقضي بحنث من حلف على معصية من قبل أن يفعلها انتهى. والقضاء المذكور عند المالكية كما سيأتي بسطه في "باب النذر في المعصية" قال ابن بطال: في حديث أبي موسى الرد على من قال إن يمين الغضبان لغو

(11/566)


باب إذا قال والله لا أتكلم فصلى أو قرأ أوسبح أو كبر أو حمد أو هلل فهو على نيته
...
19 - باب إِذَا قَالَ وَاللَّهِ لاَ أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ فَصَلَّى أَوْ قَرَأَ أَوْ سَبَّحَ أَوْ كَبَّرَ أَوْ حَمِدَ أَوْ هَلَّلَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الْكَلاَمِ أَرْبَعٌ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ" قَالَ أَبُو سُفْيَانَ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَلِمَةُ التَّقْوَى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
6681- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"
6682- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ"
6683- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

(11/566)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى "مَنْ مَاتَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ النَّارَ" وَقُلْتُ أُخْرَى "مَنْ مَاتَ لاَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ"
قوله: "باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصلى أو قرأ أو سبح -إلى أن قال- فهو على نيته" أي إن أراد إدخال القراءة والذكر حنث إذا قرأ أو ذكر وإن أراد أن لا يدخلهما لم يحنث، ولم يتعرض إذا أطلق، والجمهور على أنه لا يحنث. وعن الحنفية يحنث، وفرق بعض الشافعية بين القرآن فلا يحنث به ويحنث بالذكر، وحجة الجمهور أن الكلام في العرف ينصرف إلى كلام الآدميين وأنه لا يحنث بالقراءة والذكر داخل الصلاة فليكن كذلك خارجها، ومن الحجة في ذلك الحديث الذي عند مسلم: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءه القرآن" فحكم للذكر والقراءة بغير حكم كلام الناس. وقال ابن المنير: معنى قول البخاري "هو على نيته" أى العرفية، قال: ويحتمل أن يكون مراده أنه لا يحنث بذلك إلا إن لغوى إدخاله في نيته فيؤخذ منه حكم الإطلاق؛ قال: ومن فروع المسألة لو حلف لا كلمت زيدا ولا سلمت عليه فصلى خلفه فسلم الإمام وسلم المأموم التسليمة التي يخرج بها من الصلاة فلا يحنث بها جزما بخلاف التسليمة التي يرد بها على الإمام فلا يحنث أيضا لأنها ليست مما ينويه الناس عرفا، وفيه الخلاف انتهى. وهو على مذهبهم، ويأتي نظيره عندنا في التسليمة الثانية إذا كان من حلف لا يكلمه عن يساره فلا يحنث إلا إن قصد الرد عليه. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفضل الكلام أربع سبحان الله إلخ" هذا من الأحاديث التي لم يصلها البخاري في موضع آخر، وقد وصله النسائي من طريق ضرار بن مرة عن أبي صالح عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا بلفظه، وأخرجه مسلم من حديث سمرة بن جندب لكن بلفظ: "أحب" بدل "أفضل" وأخرجه ابن حبان من هذا الطريق بلفظ: "أفضل" ولحديث أبي هريرة طريق أخرى أخرجها النسائي وصححها ابن حبان من طريق أبي حمزة السكري عن الأعمش عن أبي صالح عنه بلفظ: "خير الكلام أربع لا يضرك بأيهن بدأت" فذكره، وأخرجه أحمد عن وكيع عن الأعمش فأبهم الصحابي، وأخرجه النسائي من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن السلولي عن كعب الأحبار من قوله، وقد بينت معاني هذه الألفاظ الأربعة في "باب فضل التسبيح" من كتاب الدعوات. قوله: "وقال أبو سفيان: كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل "تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" هذا طرف ذكره بالمعنى من الحديث الطويل وقد شرحته بطوله في أول الصحيح وفي تفسير آل عمران، والغرض منه ومن جميع ما ذكر في الباب أن ذكر الله من جملة الكلام وإطلاق "كلمة" على مثل سبحان الله وبحمده من إطلاق البعض على الكل. قوله: "وقال مجاهد: كلمة التقوى لا إله إلا الله" وصله عبد بن حميد من طريق منصور بن المعتمر عن مجاهد بهذا موقوفا على مجاهد، وقد جاء مرفوعا من أحاديث جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وأبو هريرة وابن عباس وسلمة بن الأكوع وابن عمر أخرجها كلها أبو بكر بن مردويه في تفسيره، وحديث أبي عند الترمذي وذكر أنه سأل أبا زرعة عنه فلم يعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وأخرجه أبو العباس البريقي في جزئه المشهور موقوفا على جماعة من الصحابة والتابعين. حديث سعيد بن المسيب عن أبيه لما حضرت أبا طالب الوفاة الحديث مختصر، وقد تقدم بتمامه وشرحه في السيرة النبوية، والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم: "قل لا إله إلا الله كلمة أحاج" بضم أوله وتشديد أخره وأصله

(11/567)


أحاجج والمراد أظهر لك بها الحجة. وحديث أبي هريرة "كلمتان خفيفتان على اللسان" الحديث وقد تقدم في الدعوات ويأتي شرحه مستوفى في آخر الكتاب. وحديث عبد الله وهو ابن مسعود قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلمة وقلت أخرى" الحديث وقد مضى، الكلام عليه في أوائل كتاب الجنائز، وذكرت ما وقع للنووي فيه، ووقع في تفسير البقرة بيان الكلمة المرفوعة من الكلمة الموقوفة؛ قال الكرماني: المتجه أن يقول من مات لا يجعل لله ندا لا يدخل النار، لكن لما كان دخول الجنة محققا للموحد جزم به ولو كان آخرا.

(11/568)


20 - باب مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ شَهْرًا وَكَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ
6684- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان بن بلال عن حميد "عن أنس رضي الله عنه قال آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وكانت انفكت رجله فأقام في مشربة تسعا وعشرين ليلة ثم نزل فقال يا رسول الله آليت شهرا فقال "إن الشهر يكون تسعا وعشرين"
قوله: "باب من حلف أن لا يدخل على أهله شهرا وكان الشهر تسعا وعشرين" أي ثم دخل فإنه لا يحنث، هذا يتصور إذا وقع الحلف أول جزء من الشهر اتفاقا، فإن وقع في أثناء الشهر ونقص هل يتعين أن يلفق ثلاثين أو يكتفي بتسع وعشرين؟ فالأول قول الجمهور. وقالت طائفة منهم ابن عبد الحكم من المالكية بالثاني، وقد تقدم بيان ذلك في آخر شرح حديث عمر الطويل في آخر النكاح، ومضى الكلام على تفسير الإيلاء وعلى حديث أنس المذكور في هذا الباب في باب الإيلاء، واحتج الطحاوي للجمهور بالحديث الصحيح الماضي في الصيام بلفظ: "الشهر تسع وعشرون فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإذا غم عليكم فأكملوا ثلاثين" قال فأوجب عليهم إذا أغمى ثلاثين وجعله على الكمال حتى يروا الهلال قبل ذلك. قلت: وهذا إنما يحتج به على من زعم أنه إذا وقعت يمينه في أثناء الشهر أن يكتفي بتسع وعشرين سواء كان ذلك الشهر الذي حلف فيه تسعا وعشرين أو ثلاثين، وقد نقل هو هذا المذهب عن قوم، وأما قول ابن عبد الحكم فإنما يصلح تعقبه بحديث عائشة قالت: "لا والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشهر تسع وعشرون، وإنما والله أعلم بما قال في ذلك أنه قال حين هجرنا لأهجرنكن شهرا ثم جاء لتسع وعشرين فسألته فقال إن شهرنا هذا كان تسعا وعشرين" قال الطحاوي بعد تخريجه: يعرف بذلك أن يمينه كانت مع رؤية الهلال، كذا قال وليس ذلك صريحا في الحديث، والله أعلم.

(11/568)


باب إذا حلف أن لا يشرب نبيذا فشرب طلاء أوسكرا أوعصيرا لم يحنث في قول بعض الناس وليست بأنبذة عنده
...
21 - باب إِنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ نَبِيذًا فَشَرِبَ طِلاَءً أَوْ سَكَرًا أَوْ عَصِيرًا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَنْبِذَةٍ عِنْدَهُ
6685- حَدَّثَنِي عَلِيٌّ سَمِعَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي حَازِمٍ أَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَسَ فَدَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُرْسِهِ فَكَانَتْ الْعَرُوسُ خَادِمَهُمْ فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ هَلْ تَدْرُونَ مَا سَقَتْهُ قَالَ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمْرًا فِي تَوْرٍ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَيْهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ"

(11/568)


باب إذا حلف أن لا يأتدم فأكل تمرا بخبز ، ومايكون منه الأدم.
...
22 - باب إِذَا حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْتَدِمَ فَأَكَلَ تَمْرًا بِخُبْزٍ وَمَا يَكُونُ مِنْ الأُدْمِ
6687- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ بِهَذَا"
6688- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ "سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَتْ نَعَمْ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبْتُ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أأَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ" فَقُلْتُ نَعَمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِمَنْ مَعَهُ "قُومُوا فَانْطَلَقُوا" وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو طَلْحَةَ حَتَّى دَخَلاَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ" فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ قَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ قَالَ "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا"
قوله: "باب إذا حلف أن لا يأتدم فأكل تمرا بخبز" أي هل يكون مؤتدما فيحنث أم لا؟ قوله: "وما يكون منه الأدم" هي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء، أي وباب بيان ما يحصل به الائتدام. حديث عائشة "ما شبع آل محمد من خبز بر مأدوم" وهو طرف من حديث مضى في الأطعمة بتمامه، وكذا التعليق المذكور بعده عن محمد بن كثير مضى ذكر من وصله عنه. وعابس بمهملة وبعد الألف موحدة ثم مهملة، وقوله

(11/570)


في آخره: "قال لعائشة بهذا" قال الكرماني أي روى عنها أو قال لها مستفهما ما شبع آل محمد؟ فقالت: نعم. قلت: والواقع خلاف هذا التقدير؛ وهو بين فيما أخرجه الطبراني والبيهقي من وجهين آخرين وهو أن عابسا قال لعائشة: أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الأضاحي؟ فذكر الحديث في آخره: "ما شبع إلخ" والنكتة في إيراده طريق محمد بن كثير الإشارة إلى أن عابسا لقي عائشة وسألها لرفع ما يتوهم في العنعنة في الطريق التي قبلها من الانقطاع، وقد تقدم شرح الحديث في كتاب الرقاق. حديث أنس في قصة أقراص الشعير وأكل القوم وهم سبعون أو ثمانون رجلا حتى شبعوا، وقد مضى شرحه في علامات النبوة، والقصد منه قوله: "فأمر بالخبز ففت وعصرت أم سليم عكة لها فأدمته" أي خلطت ما حصل من السمن بالخبز المفتوت: قال ابن المنير وغيره: مقصود البخاري الرد على من زعم أنه لا يقال ائتدم إلا إذا أكل بما اصطبغ به، قال: ومناسبته لحديث عائشة أن المعلوم أنها أرادت نفي الإدام مطلقا بقرينة ما هو معروف من شظف عيشهم فدخل فيه التمر وغيره. وقال الكرماني: وجه المناسبة أن التمر لما كان موجودا عندهم وهو غالب أقواتهم وكانوا شباعى منه علم أن أكل الخبز به ليس ائتداما، قال: ويحتمل أن يكون ذكر هذا الحديث في هذا الباب لأدنى ملابسة وهو لفظ المأدوم لكونه لم يجد شيئا على شرطه، قال: ويحتمل أن يكون إيراد هذا الحديث في هذه الترجمة من تصرف النقلة. قلت: والأول مباين لمراد البخاري، والثاني هو المراد، لكن بأن ينضم إليه ما ذكره ابن المنير، والثالث بعيدا جدا. قال ابن المنير، وأما قصة أم سليم فظاهرة المناسبة لأن السمن اليسير الذي فضل في قعر العكة لا يصطبغ به الأقراص التي فتتها، وإنما غابته أن يصير في الخبز من طعم السمن فأشبه ما إذا خالط التمر عند الأكل، ويؤخذ منه أن كل شيء يسمى عند الإطلاق إداما، فإن الحالف أن لا يأتدم يحنث إذا أكله مع الخبز، وهذا قول الجمهور سواء كان يصطبغ به أم لا. وقال، أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يحنث إذا ائتدم بالجبن، والبيض، وحالفهما محمد بن الحسن فقال: كل شيء يؤكل مع الخبز مما الغالب عليه ذلك كاللحم المشوي والجبن أدم، وعن المالكية يحنث بكل ما هو عند الحالف أدم ولكل قوم عادة، ومنهم من استثنى الملح جريشا كان أو مطيبا. "تنبيه": من حجة الجمهور حديث عائشة في قصة بريدة "فدعا بالغداء فأتى بخبز وإدام من أدم البيت" الحديث، وقد مضى شرحه مستوفى في مكانه، وترجم له المصنف في الأطعمة "باب الأدم" قال ابن بطال: دل هذا الحديث عن أن كل شيء في البيت مما جرت العادة بالائتدام به يسمى أدما مائعا كان أو جامدا. وكذا حديث: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة وإدامهم زائدة كبد الحوت" وقد تقدم شرحه في كتاب الرقاق، وفي خصوص اليمين المذكورة في الترجمة حديث يوسف بن عبد الله بن سلام "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة وقال: هذه إدام هذه" أخرجه أبو داود والترمذي بسند حسن، قال ابن القصار: لا خلاف بين أهل اللسان أن من أكل خبزا بلحم مشوي أنه ائتدم به، فلو قال أكلت خبزا بلا إدام كذا وإن قال أكلت خبزا بإدام صدق، وأما قول الكوفيين: الإدام اسم للجمع بين الشيئين فدل على أن المراد أن يستهلك الخبز فيه بحيث يكون تابعا له بأن تتداخل أجزاؤه في أجزائه وهذا لا يحصل إلا بما يصطبغ به، فقد أجاب من خالفهم بأن الكلام الأول مسلم لكن دعوى التداخل لا دليل عليه قبل التناول، وإنما المراد الجمع ثم الاستهلاك بالأكل فيتداخلان حينئذ.

(11/571)


23 - باب النِّيَّةِ فِي الأَيْمَانِ

(11/571)


6689- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب قال سمعت يحيى بن سعيد يقول أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول "سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"
قوله: "باب النية في الأيمان" بفتح الهمزة للجميع وحكى الكرماني أن في بعض النسخ بكسر الهمزة ووجهه بأن مذهب البخاري أن الأعمال داخلة في الإيمان. قلت: وقرينة ترجمة كتاب الأيمان والنذور كافية في نوهين الكسر. وعبد الوهاب المذكور في السند هو ابن عبد المجيد الثقفي، ومحمد بن إبراهيم هو التيمي، وقد تقدم شرح حديث الأعمال في أول بدء الوحي، ومناسبته للترجمة أن اليمين من جملة الأعمال فيستدل به على تخصيص الألفاظ بالنية زمانا ومكانا وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي ذلك، كمن حلف أن لا يدخل دار زيد وأراد في شهر أو سنة مثلا أو حلف أن لا يكلم زيدا مثلا وأراد في منزله دون غيره فلا يحنث إذا دخل بعد شهر أو سنة في الأولى ولا إذا كلمه في دار أخرى في الثانية، واستدل به الشافعي ومن تبعه فيمن قال: إن فعلت كذا فأنت طالق ونوى عددا أنه يعتبر العدد المذكور وإن لم يلفظ به، وكذا من قال إن فعلت كذا فأنت بائن إن نوى ثلاثا بانت وإن نوى ما دونها وقع ما نوى رجعيا، وخالف الحنفية في الصورتين، واستدل به على أن اليمين على نية الحالف لكن فيما عدا حقوق الآدميين فهي على نية المستحلف، ولا ينتفع بالتورية في ذلك إذا اقتطع بها حقا لغيره وهذا إذا تحاكما وما في غير المحاكمة فقال الأكثر نية الحالف. وقال مالك وطائفة نية المحلوف له. وقال النووي من ادعى حقا على رجل فأحلفه الحاكم انعقدت يمينه على ما نواه الحاكم ولا تنفعه التورية اتفاقا، فإن حلف بغير استحلاف الحاكم نفعت التورية إلا أنه إن أبطل بها حقا أثم وإن لم يحنث، وهذا كله إذا حلف بالله فإن حلف بالطلاق أو العتاق نفعته التورية ولو حلفه الحاكم لأن الحاكم ليس له أن يحلفه بذلك كذا أطلق، وينبغي فيما إذا كان الحاكم يرى جواز التحليف بذلك أن لا تنفعه التورية.

(11/572)


24 - باب إِذَا أَهْدَى مَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ وَالتَّوْبَةِ
6690- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ "سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} فَقَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"
قوله: "باب إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة" كذا الجميع إلا للكشميهني فعنده "القربة" بدل "التوبة" وكذا رأيته في مستخرج الإسماعيلي قال الكرماني: وقوله أهدى أي تصدق بماله أو جعله هدية للمسلمين. وهذا الباب هو أول أبواب النذور، والنذر في اللغة التزام خير أو شر، وفي الشرع التزام المكلف شيئا لم يكن عليه

(11/572)


منجزا أو معلقا وهو قسمان: نذر تبرر ونذر لجاج، ونذر التبرر قسمان: أحدهما ما يتقرب به ابتداء كلله على أن أصوم كذا، ويلتحق به ما إذا قال لله على أن أصوم كذا شكرا على ما أنعم به على من شفاء مريضي مثلا. وقد نقل بعضهم الاتفاق على صحته واستحبابه، وفي وجه شاذ لبعض الشافعية أنه لا ينعقد. والثاني ما يتقرب به معلقا بشيء ينتفع به إذا حصل له كأن قدم غائبي أو كفاني شر عدوي فعلى صوم كذا مثلا. والمعلق لازم اتفاقا وكذا المنجز في الراجح. ونذر اللجاج قسمان: أحدهما ما يعلقه على فعل حرام أو ترك واجب فلا ينعقد في الراجح إلا إن كان فرض كفاية أو كان في فعله مشقة فيلزمه، ويلتحق به ما يعلقه على فعل مكروه. والثاني ما يعلقه على فعل خلاف الأولى أو مباح أو ترك مستحب وفيه ثلاث أقوال للعلماء: الوفاء أو كفارة يمين أو التخير بينهما، واختلف الترجيح عند الشافعية وكذا عند الحنابلة، وجزم الحنفية بكفارة اليمين في الجميع والمالكية بأنه لا ينعقد أصلا. قوله: "أخبرني يونس" هو ابن يزيد الأيلي. قوله: "عن عبد الله بن كعب" هو والد عبد الرحمن الراوي عنه، وقد مضى تفسير سورة براءة عن أحمد ابن صالح "حدثني ابن وهب أخبرني يونس "قال أحمد" وحدثنا عنبسة حدثنا يونس عن ابن شهاب، أخبرني عبد الرحمن بن كعب أخبرني عبد الله بن كعب "ثم أخرجه من طريق إسحاق بن راشد عن ابن شهاب "أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه". قوله: "سمعت كعب بن مالك يقول في حديثه {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} " أي الحديث الطويل في قصة تخلفه في غزوة تبوك ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامه وكلام رفيقيه، وقد تقدم بطوله مع شرحه في المغازي لكن بوجه آخر عن ابن شهاب. قوله: "فقال في آخر حديثه إن من توبتي أن أنخلع" بنون وخاء معجمة أي أعرى من مالي كما يعرى الإنسان إذا خلع ثوبه. قوله: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" زاد أبو داود عن أحمد بن صالح بهذا السند "فقلت إني أمسك سهمي الذي بخيبر" وهو عند المصنف من وجه آخر عن ابن شهاب، وقع في رواية ابن إسحاق عن الزهري بهذا السند عند أبي داود بلفظ: "إن من توبتي أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة، قال لا، قلت فنصفه، قال لا، قلت فثلثه. قال نعم، قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر" وأخرج من طريق ابن عيينة عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه: "وإني أنخلع من مالي كله صدقة، قال "يجزي عنك الثلث" وفي حديث أبي لبابة عند أحمد وأبي داود نحوه. وقد اختلف السلف فيمن نذر أن يتصدق بجميع ماله على عشرة مذاهب فقال مالك: يلزمه الثلث بهذا الحديث، ونوزع في أن كعب بن مالك لم يصرح بلفظ النذر ولا بمعناه، بل يحتمل أنه نجز النذر، ويحتمل أن يكون أراده فاستأذن، والانخلاع الذي ذكره ليس بظاهر في صدور النذر منه، وإنما الظاهر أنه أراد أن يؤكد أمر توبته بالتصدق بجميع ماله شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليه وقال الفاكهاني في شرح العمدة: كان الأولى بكعب أن يستشير ولا يستبد برأيه، لكن كأنه قامت عنده حال لفرحه بتوبته ظهر له فيها أن التصدق بجميع ماله مستحق عليه في الشكر فأورد الاستشارة بصيغة الجزم انتهى وكأنه أراد أنه استبد برأيه في كونه جزم بأن من توبته أن ينخلع من جميع ماله إلا أنه نجز ذلك. وقال ابن المنير: لم يبت كعب الانخلاع بل استشار هل يفعل أو لا؟ قلت: ويحتمل أن يكون استفهم وحذفت أداة الاستفهام، ومن ثم كان الراجح عند الكثير من العلماء وجوب الوفاء لمن التزم أن يتصدق بجميع ماله إلا إذا كان على سبيل القرية، وقيل إن كان مليا لزمه وإن كان فقيرا فعليه كفارة يمين، وهذا قول الليث ووافقه ابن وهب

(11/573)


وزاد. وإن كان متوسطا يخرج قدر زكاة ماله، والأخير عن أبي حنيفة بغير تفصيل وهو قول ربيعة، وعن الشعبي وابن أبي لبابة لا يلزم شيء أصلا، وعن قتادة يلزم الغني العشر والمتوسط السبع والمملق الخمس، وقيل يلزم الكل إلا في نذر اللجاج فكفارته يمين، وعن سحنون يلزمه أن يخرج ما لا يضر به، وعن الثوري والأوزاعي وجماعة يلزمه كفارة يمين بغير تفصيل، وعن النخعي يلزمه الكل بغير تفصيل. وإذا تقرر ذلك فمناسبة حديث كعب للترجمة أن معنى الترجمة أن من أهدى أو تصدق بجميع ماله إذا تاب من ذنب أو إذا نذر هل ينفذ ذلك إذا نجزه أو علقه؟ وقصة كعب منطبقة على الأول وهو التنجيز، لكن لم يصدر منه تنجيز كما تقرر وإنما استشار فأشير عليه بإمساك البعض فيكون الأولى لمن أراد أن ينجز التصدق بجميع ماله أو يعلقه أن يمسك بعضه، ولا يلزم من ذلك أنه لو نجزه لم ينفذ. وقد تقدمت الإشارة في كتاب الزكاة إلى أن التصدق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال، فمن كان قويا على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يمنع وعليه يتنزل فعل أبي بكر الصديق وإيثار الأنصار على أنفسهم المهاجرين ولو كان بهم خصاصة، ومن لم يكن كذلك فلا وعليه يتنزل "لا صدقة إلا عن ظهر غني" وفي لفظ: "أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غني" قال ابن دقيق العيد: في حديث كعب أن للصدقة أثرا في محو الذنوب ومن ثم شرعت الكفارة المالية، ونازعه الفاكهاني فقال: التوبة تجب ما قبلها، وظاهر حال كعب أنه أراد فعل ذلك على جهة الشكر. قلت: مراد الشيخ أنه يؤخذ من قول كعب "إن من توبتي إلخ" أن للصدقة أثرا في قبول التوبة التي يتحقق بحصولها محو الذنوب، والحجة فيه تقرير النبي صلى الله عليه وسلم له على القول المذكور.

(11/574)


25 - باب إِذَا حَرَّمَ طَعَامَهُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَقَوْلُهُ {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}
6691- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ "سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ "لاَ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ" فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا لِقَوْلِهِ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا و قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ فَلاَ تُخْبِرِي بِذَلِكِ أَحَدًا"
قوله: "باب إذا حرم طعاما" في رواية غير أبي ذر "طعامه" وهذا من أمثلة نذر اللجاج وهو أن يقول مثلا طعام كذا أو شراب كذا علي حرام أو نذرت أو لله علي أن لا أكل كذا أو لا أشرب كذا، والراجح من أقوال العلماء أن ذلك لا ينعقد إلا إن قرنه بحلف فيلزمه كفارة يمين. قوله: "وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ

(11/574)


اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} " وزاد غير أبي ذر" إلى قوله: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك في كتاب الطلاق. وهل نزلت الآية في تحريم مارية أو في تحريم شرب العسل، وإلى الثاني أشار المصنف حيث ساقه في الباب. ويؤخذ حكم الطعام من حكم الشراب، قال ابن المنذر: اختلف فيمن حرم على نفسه طعاما أو شرابا يحل فقالت طائفة: لا يحرم عليه وتلزمه كفارة يمين، وبهذا قال أهل العراق. وقالت طائفة: لا تلزمه الكفارة إلا إن حلف، وإلى ترجيح هذا القول أشار المصنف بإيراد الحديث لقوله وقد حلفت وهو قول مسروق والشافعي ومالك، لكن استثنى مالك المرأة فقال تطلق قال إسماعيل القاضي: الفرق بين المرأة والأمة أنه لو قال امرأتي علي حرام فهو فراق التزمه فتطلق، ولو قال لأمته من غير أن يحلف فإنه ألزم نفسه ما لم يلزمه فلا تحرم عليه أمته، قال الشافعي: لا يقع عليه شيء إذا لم يحلف إلا إذا نوى الطلاق فتطلق أو العتق فتعتق، وعنه يلزمه كفارة يمين. قوله: "وقوله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} كأنه يشير إلى ما أخرجه الثوري في جامعه وابن المنذر من طريقه بسند صحيح عن ابن مسعود أنه جيء عنده بطعام فتنحى رجل فقال إني حرمته أن لا آكله فقال: إذن فكل وكفر عن يمينك، ثم تلا هذه الآية إلى قوله: {لا تَعْتَدُوا} قال ابن المنذر: وقد تمسك بعض من أوجب الكفارة ولو لم يحلف بما وقع في حديث أبي موسى في قصة الرجل الجرمي والدجاج، وتلك رواية مختصرة، وقد ثبت في بعض طرقه الصحيحة أن الرجل قال: حلفت أن لا آكله. قلت وقد أخرجه الشيخان في الصحيحين كذلك. قوله: "حدثنا الحسن بن محمد" هو الزعفراني، والحجاج بن محمد هو المصيصي. قوله: "زعم عطاء" وقع في رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن حجاج قال قال ابن جريج عن عطاء، وكذا في رواية هشام بن يوسف المذكورة في آخر الباب. قوله في آخر الباب "فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} – {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لعائشة وحفصة. {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} لقوله بل شربت عسلا" قلت: أشكل هذا السياق على بعض من لم يمارس طريقة البخاري في الاختصار، وذلك أن الحديث في الأصل عنده بتمامه كما تقدم [في التفسير والنكاح والطلاق] فلما أراد اختصاره هنا اقتصر منه على الكلمات التي تتعلق باليمين من الآيات مضيفا لها تسمية من أبهم فيها من آدمي وغيره، فلما ذكر "إن تتوبا" فسرهما بعائشة وحفصة، ولما ذكر "أسر حديثا" فسره بقوله: "لا بل شربت عسلا" . قوله: "وقال إبراهيم بن موسى" كذا لأبي ذر ولغيره: "قال لي إبراهيم بن موسى" وقد تقدم في التفسير بلفظ: "حدثنا إبراهيم بن موسى". قوله: "عن هشام" هو ابن يوسف وصرح به في التفسير، وقد اختصر هنا بعض السند ومراده أن هشاما رواه عن ابن جريج بالسند المذكور والمتن إلى قوله: "ولن أعود" فزاد له "وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا"

(11/575)


26 - باب الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَقَوْلِ الله تعالى { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}
6692- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ أَنَّهُ "سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنْ النَّذْرِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنَّ النَّذْرَ لاَ يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلاَ يُؤَخِّرُ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْبَخِيلِ"

(11/575)


6693- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُرَّةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ "إِنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ"
6694- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ"
قوله: "باب الوفاء بالنذر" أي حكمه أو فضله. قوله: "وقول الله تعالى يوفون بالنذر" يؤخذ منه أن الوفاء به قربة للثناء على فاعله، لكن ذلك مخصوص بنذر الطاعة، وقد أخرج الطبري من طريق مجاهد في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال: إذا نذروا في طاعة الله، قال القرطبي: النذر من العقود المأمور بالوفاء بها المثنى على فاعلها، وأعلى أنواعه ما كان غير معلق على شيء كمن يعافى من مرض فقال: "لله علي أن أصوم كذا أو أتصدق بكذا شكرا لله تعالى" ويليه المعلق على فعل طاعة كأن شفى الله مريضي صمت كذا أو صليت كذا، وما عدا هذا من أنواعه كنذر اللجاج كمن يستثقل عبده فينذر أن يعتقه ليتخلص من صحبته فلا يقصد القربة بذلك، أو يحمل على نفسه فينذر صلاة كثيرة أو صوما مما يشق عليه فعله ويتضرر بفعله فإن ذلك يكره وقد يبلغ بعضه التحريم. قوله: "حدثنا يحيى بن صالح" هو الوحاظي بضم الواو وتخفيف الحاء المهملة وبعد الألف ظاء معجمة. قوله: "سعيد بن الحارث" هو الأنصاري. قوله: "سمعت ابن عمر يقول: أو لم ينهوا عن النذر" كذا فيه، وكأنه اختصر السؤال فاقتصر على الجواب، وقد بينه الحاكم في "المستدرك" من طريق المعافى بن سليمان والإسماعيلي من طريق أبي عامر العقدي ومن طريق أبي داود واللفظ له قالا "حدثنا فليح عن سعيد بن الحارث قال: كنت عند ابن عمر فأتاه مسعود بن عمرو أحد بني عمرو بن كعب فقال: يا أبا عبد الرحمن إن ابني كان مع عمر بن عبيد الله بن معمر بأرض فارس فوقع فيها وباء وطاعون شديد فجعلت على نفسي لئن سلم الله ابني ليمشين إلى بيت الله تعالى، فقدم علينا وهو مريض ثم مات فما تقول؟ فقال ابن عمر: أولم تنهوا عن النذر؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث المرفوع وزاد: "أوف بنذرك" وقال أبو عامر "فقلت يا أبا عبد الرحمن إنما نذرت أن يمشي ابني. فقال: أوف بنذرك قال سعيد بن الحارث فقلت له: أتعرف سعيد بن المسيب؟ قال: نعم. قلت له: اذهب إليه ثم أخبرني ما قال لك، قال فأخبرني أنه قال له "امش عن ابنك" قلت يا أبا محمد وترى ذلك مقبولا؟ قال: نعم، أرأيت لو كان على ابنك دين لا قضاء له فقضيته أكان ذلك مقبولا؟ قال: نعم. قال فهذا مثل هذا انتهى. وأبو عبد الرحمن كنية عبد الله بن عمر وأبو محمد كنية سعيد بن المسيب، وأخرجه ابن حبان في النوع السادس والستين من القسم الثالث من طريق زيد بن أبي أنيسة متابعا لفليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث فذكر نحوه بتمامه ولكن لم يسم الرجل، وفيه أن ابن عمر لما قال له أوف بنذرك قال له الرجل: إنما نذرت أن يمشي ابني وإن ابني قد مات. فقال له: أوف بنذرك، كرر ذلك عليه ثلاثا، فغضب عبد الله فقال: أولم تنهوا عن النذر؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث المرفوع، قال سعيد: فلما رأيت ذلك قلت له انطلق إلى سعيد بن المسيب، وسياق الحاكم نحوه وأخصر منه

(11/576)


وقد وهم الحاكم في المستدرك فإن البخاري أخرجه كما ترى لكن اختصر القصة لكونها موقوفة. وهذا الفرع غريب وهو أن ينذر عن غيره فيلزم الغير الوفاء بذلك ثم إذا تعذر لزم الناذر. وقد كنت أستشكل ذلك، ثم ظهر لي أن الابن أقر بذلك والتزم به، ثم لما مات أمره ابن عمر وسعيد أن يفعل ذلك عن ابنه كما يفعل سائر القرب عنه كالصوم والحج والصدقة. ويحتمل أن يكون مختصا عندهما بما يقع من الوالد في حق ولده فيعقد لوجوب بر الوالدين على الولد بخلاف الأجنبي. وفي قول ابن عمر في هذه الرواية: "أولم تنهوا عن النذر" نظر، لأن المرفوع الذي ذكره ليس فيه تصريح بالنهي، لكن جاء عن ابن عمر التصريح، ففي الرواية التي بعدها من طريق عبد الله بن مرة وهو الهمداني بسكون الميم عن ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر" وفي لفظ لمسلم من هذا الوجه "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن النذر" وجاء بصيغة النهي الصريحة في رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "لا تنذروا". قوله: "لا يقدم شيئا ولا يؤخر" في رواية عبد الله بن مرة "لا يرد شيئا" وهي أعم، ونحوها في حديث أبي هريرة "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدر له" وفي رواية العلاء المشار إليها "فإن النذر لا يغني من القدر شيئا" وفي لفظ عنه "لا يرد القدر" وفي حديث أبي هريرة عنده "لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له" ومعاني هذه الألفاظ المختلفة متقاربة، وفيها إشارة إلى تعليل النهي عن النذر. وقد اختلف العلماء في هذا النهي: فمنهم من حمله على ظاهره، ومنهم من تأوله. قال ابن الأثير في النهاية: تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضرا ولا يغير قضاء فقال: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم أو تصرفوا به عنكم ما قدره عليكم، فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم، انتهى كلامه. ونسبه بعض شراح المصابيح للخطابي وأصله من كلام أبي عبيد فيما نقله ابن المنذر في كتابه الكبير فقال: كان أبو عبيد يقول وجه النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما، ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفى به ولا حمد فاعله، ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يتهاون به فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به. ثم استدل بما ورد من الحث على الوفاء به في الكتاب والسنة، وإلى ذلك أشار المازري بقوله: ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر والحض على الوفاء به. قال: وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث. ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب، وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار، ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم ينذر القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب. قال: ويشير إلى هذا التأويل قوله: "إنه لا يأتي بخير" وقوله: "إنه لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له" وهذا كالنص على هذا التعليل ا هـ. والاحتمال الأول يعم أنواع النذر والثاني يخص نوع المجازات، وزاد القاضي عياض: ويقال إن الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه، والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة. قال: ومحصل مذهب مالك أنه مباح إلا إذا كان مؤبدا لتكرره عليه في أوقات فقد يثقل عليه فعله فيفعله بالتكلف من غير طيب نفس

(11/577)


وغير خالص النية فحينئذ يكره. قال: وهذا أحد محتملات قوله: "لا يأتي بخير" أي إن عقباه لا تحمد وقد يتعذر الوفاء به، وقد يكون معناه لا يكون سببا لخير لم يقدر كما في الحديث، وبهذا الاحتمال الأخير صدر ابن دقيق العيد كلامه فقال: يحتمل أن تكون الباء للسببية كأنه قال لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القربة والطاعة من غير عوض يحصل له، وإن كان يترتب عليه خير وهو فعل الطاعة التي نذرها، لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه،. وقال النووي: معنى قوله: "لا يأتي بخير" أنه لا يرد شيئا من القدر كما بينته الروايات الأخرى. "تنبيه": قوله: "لا يأتي" كذا للأكثر، ووقع في بعض النسخ "لا يأت" بغير ياء وليس بلحن لأنه قد سمع نظيره من كلام العرب. وقال الخطابي في الأعلام: هذا باب من العلم غريب، وهو أن ينهي عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبا، وقد ذكر أكثر الشافعية -ونقله أبو علي السنجي عن نص الشافعي- أن النذر مكروه لثبوت النهي عنه وكذا نقل عن المالكية وجزم به عنهم ابن دقيق العيد، وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم والجزم عن الشافعية بالكراهة، قال: واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة لأنه لم يقصد به خالص القربة وإنما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررا بما التزمه. وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم وتوقف بعضهم في صحتها. وقال الترمذي بعد أن ترجم كراهة النذر وأورد حديث أبي هريرة ثم قال: وفي الباب عن ابن عمر العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا النذر. وقال ابن المبارك: معنى الكراهة في النذر في الطاعة وفي المعصية، فإن نذر الرجل في الطاعة فوفى به فله فيه أجر ويكره له النذر. قال ابن دقيق العيد: وفيه إشكال على القواعد فإنها تقتضي أن الوسيلة إلى الطاعة طاعة كما أن الوسيلة إلى المعصية معصية، والنذر وسيلة إلى التزام القربة فيلزم أن يكون قربة إلا أن الحديث دل على الكراهة. ثم أشار إلى التفرقة بين نذر المجازاة فحمل النهي عليه وبين نذر الابتداء فهو قربة محضة. وقال ابن أبي الدم في شرح الوسيط: القياس استحبابه، والمختار أنه خلاف الأولى وليس بمكروه، كذا قال، ونوزع بأن خلاف الأولى ما اندرج في عموم نهي والمكروه ما نهي عنه بخصوصه، وقد ثبت النهي عن النذر بخصوصه فيكون مكروها، وإني لأتعجب ممن انطلق لسانه بأنه ليس بمكروه مع ثبوت الصريح عنه فأقل درجاته أن يكون مكروها كراهة تنزيه، وممن بنى على استحبابه النووي في شرح المهذب فقال: إن الأصح أن التلفظ بالنذر في الصلاة لا يبطلها لأنها مناجاة لله فأشبه الدعاء ا هـ. وإذا ثبت النهي عن الشيء مطلقا فترك فعله داخل الصلاة أولى فكيف يكون مستحبا، وأحسن ما يحمل عليه كلام هؤلاء نذر التبرر المحض بأن يقول لله علي أن أفعل كذا أو لأفعلنه على المجازاة، وقد حمل بعضهم النهي على من علم من حاله عدم القيام بما التزمه حكاه شيخنا في شرح الترمذي، ولما نقل ابن الرفعة عن أكثر الشافعية كراهة النذر وعن القاضي حسين المتولي بعده والغزالي أنه مستحب لأن الله أثنى على من وفى به ولأنه وسيلة إلى القربة فيكون قربة قال: يمكن أن يتوسط فيقال: الذي دل الخبر على كراهته نذر المجازاة وأما نذر التبرر فهو قربة محضة لأن للناذر فيه غرضا صحيحا وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب وهو فوق ثواب التطوع ا هـ. وجزم القرطبي في "المفهم" بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال: هذا النهي محله أن يقول مثلا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا، ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكور على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعارضة، ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه

(11/578)


على شفائه، وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبا. وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث لقوله: "إنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه" قال وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة بقوله في الحديث أيضا: "فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا" والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح. قلت: بل تقرب من الكفر أيضا. ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة وقال: الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرما والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك ا هـ. وهو تفصيل حسن، ويؤيده قصة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر فإنها في نذر المجازاة. وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا، وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة، وكأن البخاري رمز في الترجمة إلى الجمع بين الآية والحديث بذلك وقد يشعر التعبير بالبخيل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة كما في الحديث المشهور "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه النسائي وصححه ابن حبان، أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي. ثم نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه" ولم يفرق بين المعلق وغيره انتهى، والاتفاق الذي ذكره مسلم، لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلق نظر وسيأتي شرحه بعد باب. قوله: "وإنما يستخرج بالنذر من البخيل" يأتي في حديث أبي هريرة الذي بعد بيان المراد بالاستخراج المذكور. قوله: "من البخيل" كذا في أكثر الروايات، ووقع في رواية مسلم في حديث ابن عمر، "من الشحيح" وكذا للنسائي. وفي رواية ابن ماجه: "من اللئيم" ومدار الجميع على منصور بن المعتمر عن عبد الله بن مرة فالاختلاف في اللفظ المذكور من الرواة عن منصور، والمعاني متقاربة لأن الشح أخص واللؤم أعم، قال الراغب: البخل إمساك ما يقتضي عمن يستحق، والشح بخل مع حرص، واللؤم فعل ما يلام عليه. قوله في حديث أبي هريرة "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء" ابن آدم بالنصب مفعول مقدم والنذر بالرفع هو الفاعل. قوله: "لم أكن قدرته" هذا من الأحاديث القدسية لكن سقط منه التصريح بنسبته إلى الله عز وجل، وقد أخرجه أبو داود في رواية ابن العبد عنه من رواية مالك، والنسائي وابن ماجه من رواية سفيان الثوري كلاهما عن أبي الزناد، وأخرجه مسلم من رواية عمرو بن أبي وعمر عن الأعرج، وتقدم في أواخر كتاب القدر من طريق همام عن أبي هريرة ولفظه: "لم يكن قدرته" وفي رواية للنسائي: "لم أقدره عليه" وفي رواية ابن ماجه: "إلا ما قدر له ولكن يغلبه النذر فأقدر له" وفي رواية مالك "بشيء لم يكن قدر له ولكن يلقيه النذر إلى القدر قدرته" وفي رواية مسلم: "لم يكن الله قدره له" وكذا وقع الاختلاف في قوله: "فيستخرج الله به من البخيل" ففي رواية مالك "فيستخرج به" على البناء لما لم يسم فاعله وكذا في رواية ابن ماجه والنسائي وعبدة "ولكنه شيء يستخرج به من البخيل" وفي رواية همام "ولكن يلقيه النذر وقد قدرته له أستخرج به من البخيل" وفي رواية مسلم: "ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج". قوله: "ولكن يلقيه النذر إلى القدر" تقدم البحث فيه في "باب إلقاء العبد النذر إلى القدر" وأن هذه الرواية

(11/579)


مطابقة للترجمة المشار إليها. قال الكرماني: فإن قيل القدر هو الذي يلقيه إلى النذر قلنا تقدير النذر غير تقدير الإلقاء فالأول يلجئه إلى النذر والنذر يلجئه إلى الإعطاء. قوله: "فيستخرج الله" فيه التفات ونسق الكلام أن يقال فأستخرج ليوافق قوله أولا "قدرته" وثانيا "فيؤتيني". قوله: "فيؤتيني عليه ما لم يكن يؤتيني عليه من قبل" كذا للأكثر أي يعطيني، ووقع في رواية الكشميهني: "يؤتني" بالجزم ووجهت بأنها بدل من قوله: "يكن" فجزمت بلم، ووقع في رواية مالك "يؤتي" في الموضعين. وفي رواية ابن ماجه: "فييسر عليه ما لم يكن ييسر عليه من قبل ذلك" وفي رواية مسلم: "فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج" وهذه أوضح الروايات: قال البيضاوي: عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرة، فنهي عنه لأنه فعل البخلاء إذ السخي إذا أراد أن يتقرب بادر إليه والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض يستوفيه أولا فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له، وذلك لا يغني من القدر شيئا فلا يسوق إليه خيرا، لم يقدر له ولا يرد عنه شرا قضى عليه، لكن النذر قد يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليخرجه، قال ابن العربي: فيه حجة على وجوب الوفاء بما التزمه الناذر، لأن الحديث نص على ذلك بقوله: "يستخرج به" فإنه لو لم يلزمه إخراجه لما تم المراد من وصفه بالبخل من صدور النذر عنه، إذ لو كان مخيرا في الوفاء لاستمر لبخله على عدم الإخراج. وفي الحديث الرد على القدرية كما تقدم تقريره في الباب المشار إليه، وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أنس "إن الصدقة تدفع ميتة السوء" فظاهره يعارض قوله: "إن النذر لا يرد القدر" ويجمع بينهما بأن الصدقة تكون سببا لدفع ميتة السوء، والأسباب مقدرة كالمسببات، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الرقي هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: "هي من قدر الله" أخرجه أبو داود والحاكم، ونحوه قول عمر "نفر من قدر الله إلى قدر الله" كما تقدم تقريره في كتاب الطب، ومثل ذلك مشروعية الطب والتداوي. وقال ابن العربي: النذر شبيه بالدعاء فإنه لا يرد القدر ولكنه من القدر أيضا، ومع ذلك فقد نهي عن النذر وندب إلى الدعاء، والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله والتضرع له والخضوع، وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة والله أعلم. وفي الحديث أن كل شيء يبتدئه المكلف من وجوه البر أفضل مما يلتزمه بالنذر قاله الماوردي، وفيه الحث على الإخلاص في عمل الخير وذم البخل، وأن من اتبع المأمورات واجتنب المنهيات لا يعد بخيلا. "تنبيه": قال ابن المنير: مناسبة أحاديث الباب لترجمة الوفاء بالنذر قوله: "يستخرج به من البخيل" وإنما يخرج البخيل ما تعين عليه إذ لو أخرج ما يتبرع به لكان جوادا. وقال الكرماني: يؤخذ معنى الترجمة من لفظ: "يستخرج" قلت: ويحتمل أن يكون البخاري أشار إلى تخصيص النذر المنهي عنه بنذر المعاوضة واللجاج بدليل الآية، فإن الثناء الذي تضمنته محمول على نذر القربة كما تقدم أول الباب، فيجمع بين الآية والحديث بتخصيص كل منهما بصورة من صور النذر والله أعلم.

(11/580)


27 - باب إِثْمِ مَنْ لاَ يَفِي بِالنَّذْرِ
6695- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ حَدَّثَنَا زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ قَالَ "سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" قَالَ عِمْرَانُ

(11/580)


لاَ أَدْرِي ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا بَعْدَ قَرْنِهِ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ"
قوله: "باب إثم من لا يفي بالنذر" كذا لأبي ذر، وسقط لغيره لفظ إثم، ذكر فيه حديث عمران بن حصين في "خير القرون" حديث عمران بن حصين في "خير القرون" وفي سنده أبو جمرة وهو بالجيم والراء واسمه نصر بن عمران، وزهدم بمعجمة أوله وزن جعفر ابن مضرب بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها موحدة، وقد تقدم شرحه مستوفى في الشهادات وفي فصائل الصحابة، والغرض منه هنا قوله: "ينذرون" بكسر الذال وبضمها لغتان. قوله: "ولا يفون" في رواية الكشميهني: "ولا يوفون" وهي رواية مسلم، وفي أخرى له كالأولى وهما لغتان أيضا. قوله: "ولا يؤتمنون" أي إنها خيانة ظاهرة بحيث لا يأمنهم أحد بعد ذلك. قال ابن بطال ما ملخصه: سوى بين من يخون أمانته ومن لا يفي بنذره، والخيانة مذمومة فيكون ترك الوفاء بالنذر مذموما، وبهذا تظهر المناسبة للترجمة. وقال الباجي: ساق ما وصفهم به مساق العيب، والجائز لا يعاب فدل على أنه غير جائز

(11/581)


28 - باب النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
6696- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ الْقَاسِمِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ"
[الحديث 6696- ظرفه في 6700]
قوله: "باب النذر في الطاعة" أي حكمه. ويحتمل أن يكون باب بالتنوين ويريد بقوله النذر في الطاعة حصر المبتدأ في الخبر فلا يكون نذر المعصية نذرا شرعا. قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} ساق غير أبي ذر إلى قوله: {مِنْ أَنْصَارٍ} . وذكر هذه الآية مشيرا إلى أن الذي وقع الثناء على فاعله نذر الطاعة، وهو يؤيد ما تقدم قريبا. قوله: "عن طلحة بن عبد الملك" هو الأيلي بفتح الهمزة وسكون المثناة من تحت نزيل المدينة، ثقة عندهم من طبقة ابن جريج، والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. ذكر ابن عبد البر عن قوم من أهل الحديث أن طلحة تفرد برواية هذا الحديث عن القاسم، وليس كذلك، فقد تابعه أيوب ويحيى بن أبي كثير عند ابن حبان، وأشار الترمذي إلى رواية يحيى ومحمد بن أبان عند ابن عبد البر وعبيد الله بن عمر عند الطحاوي، ولكن أخرجه الترمذي من رواية عبيد الله بن عمر عن طلحة عن القاسم، وأخرجه البزار من رواية يحيى بن أبي كثير عن محمد بن أبان فرجعت رواية عبيد الله إلى طلحة ورواية يحيى إلى محمد بن أبان وسلمت رواية أيوب من الاختلاف وهي كافية في رد دعوى انفراد طلحة به، وقد رواه أيضا عبد الرحمن بن المجبر بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الموحدة عن القاسم أخرجه الطحاوي. قوله: "من نذر أن يطيع الله فليطعه إلخ" الطاعة أعم من أن تكون في واجب أو مستحب، ويتصور النذر في فعل الواجب بأن يؤقته، كمن ينذر أن يصلي الصلاة في أول وقتها فيجب عليه ذلك بقدر ما أقته، وأما المستحب من جميع العبادات المالية والبدنية فينقلب بالنذر واجبا ويتقيد بما قيده به

(11/581)


الناذر والخبر صريح في الأمر بوفاء النذر إذا كان في طاعة وفي النهي عن ترك الوفاء به إذا كان في معصية، وهل يجب في الثاني كفارة يمين أو لا؟ قولان للعلماء سيأتي بيانهما بعد بابين، ويأتي أيضا بيان الحكم فيما سكت عنه الحديث وهو نذر المباح. وقد قسم بعض الشافعية الطاعة إلى قسمين: واجب عينا فلا ينعقد به النذر كصلاة الظهر مثلا وصفة فيه فينعقد كإيقاعها أول الوقت، وواجب على الكفاية كالجهاد فينعقد ومندوب عبادة عينا كان أو كفاية فينعقد ومندوب لا يسمى عبادة كعيادة المريض وزيارة القادم ففي انعقاده وجهان والأرجح انعقاده وهو قول الجمهور والحديث يتناوله فلا يخص من عموم الخبر إلا القسم الأول لأنه تحصيل الحاصل.

(11/582)


29 - باب إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ
6697- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ "أَوْفِ بِنَذْرِكَ"
قوله: "باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنسانا في الجاهلية ثم أسلم" أي هل يجب عليه الوفاء أو لا؟ والمراد بالجاهلية جاهلية المذكور وهو حاله قبل إسلامه، وأصل الجاهلية ما قبل البعثة، وقد ترجم الطحاوي لهذه المسألة من نذر وهو مشرك ثم أسلم فأوضح المراد، وذكر فيه حديث ابن عمر في نذر عمر في الجاهلية أنه يعتكف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" حديث ابن عمر في نذر عمر في الجاهلية أنه يعتكف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" قال ابن بطال قاس البخاري اليمين على النذر وترك الكلام على الاعتكاف فمن نذر أو حلف قبل أن يسلم على شيء يجب الوفاء به لو كان مسلما فإنه إذا أسلم يجب عليه على ظاهر قصة عمر، قال وبه يقول الشافعي وأبو ثور، كذا قال وكذا نقله ابن حزم عن الإمام الشافعي، والمشهور عند الشافعية أنه وجه لبعضهم وأن الشافعي وجل أصحابه على أنه لا يجب بل يستحب وكذا قال المالكية والحنفية، وعن أحمد في رواية يجب وبه جزم الطبري والمغيرة بن عبد الرحمن من المالكية والبخاري وداود وأتباعه. قلت: إن وجد عن البخاري التصريح بالوجوب قبل وإلا فمجرد ترجمته لا يدل على أنه يقول بوجوبه لأنه محتمل لأن يقول بالندب فيكون تقدير جواب الاستفهام يندب له ذلك، قال القابسي: لم يأمر عمر على جهة الإيجاب بل على جهة المشورة كذا قال، وقيل أراد أن يعلمهم أن الوفاء بالنذر من آكد الأمور فغلظ أمره بأن أمر عمر بالوفاء، واحتج الطحاوي بأن الذي يجب الوفاء به ما يتقرب به إلى الله والكافر لا يصح منه التقرب بالعبادة، وأجاب عن قصة عمر باحتمال أنه صلى الله عليه وسلم فهم من عمر أنه سمح بأن يفعل ما كان نذره فأمره به لأن فعله حينئذ طاعة لله تعالى فكان ذلك خلاف ما أوجبه على نفسه لأن الإسلام يهدم أمر الجاهلية. قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث يخالف هذا، فإن دل دليل أقوى منه على أنه لا يصح من الكافر قوي هذا التأويل وإلا فلا. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "عبيد الله بن عمر" هو العمري، ولعبد الله بن المبارك فيه شيخ آخر تقدم في غزوة حنين فأخرجه عن محمد بن مقاتل عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن أيوب عن نافع وأول حديثه "لما قفلنا من حنين سأل عمر" فذكر الحديث فأفاد تعيين زمان السؤال المذكور، وقد بينت الاختلاف على نافع ثم على أيوب في وصله وإرساله هناك وكذا ذكرت فيه فوائد زوائد تتعلق بسياقه وكذلك في فرض الخمس، وتقدم في أبواب الاعتكاف ما يتعلق به

(11/582)


وذكرت هناك ما يرد على من زعم أن عمر إنما نذر بعد أن أسلم وعلى من زعم أن اعتكاف عمر كان قبل النهي عن الصيام في الليل، وبقي هنا ما يتعلق بالنذر إذا صدر من شخص قبل أن يسلم ثم أسلم هل يلزمه؟ وقد ذكرت ما فيه. وقوله: "أوف بنذرك" لم يذكر في هذه الرواية متى اعتكف، وقد تقدم في غزوة حنين التصريح بأن سؤاله كان بعد قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالطائف، وتقدم في فرض الخمس أن في رواية سفيان بن عيينة عن أيوب من الزيادة "قال عمر فلم أعتكف حتى كان بعد حنين وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني جارية من السبي، فبينا أنا معتكف إذ سمعت تكبيرا" فذكر الحديث في من النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن بإطلاق سبيهم، وفي الحديث لزوم النذر للقربة من كل أحد حتى قبل الإسلام وقد تقدمت الإشارة إليه، أجاب ابن العربي بأن عمر لما نذر في الجاهلية ثم أسلم أراد أن يكفر ذلك بمثله في الإسلام فلما أراده ونواه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعلمه أنه لزمه، قال: وكل عبادة ينفرد بها العبد عن غيره تنعقد بمجرد النية العازمة الدائمة كالنذر في العبادة والطلاق في الأحكام وإن لم يتلفظ بشيء من ذلك، كذا قال، ولم يوافق على ذلك بل نقل بعض المالكية الاتفاق على أن العبادة لا تلزم إلا بالنية مع القول أو الشروع، وعلى التنزل فظاهر كلام عمر مجرد الإخبار بما وقع مع الاستخبار عن حكمه هل لزم أو لا؟ وليس فيه ما يدل على ما ادعاه من تجديد نية منه في الإسلام. وقال الباجي: قصة عمر هي كمن نذر أن يتصدق بكذا إن قدم فلان بعد شهر فمات فلان قبل قدومه فإنه لا يلزم الناذر قضاؤه فإن فعله فحسن، فلما نذر عمر قبل أن يسلم وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بوفائه استحبابا وإن كان لا يلزمه لأنه التزمه في حالة لا ينعقد فيها. ونقل شيخنا في شرح الترمذي أنه استدل به على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وإن كان لا يصح منهم إلا بعد أن يسلموا لأمر عمر بوفاء ما التزمه في الشرك، ونقل أنه لا يصح الاستدلال به لأن الواجب بأصل الشرع كالصلاة لا يجب عليهم قضاؤها فكيف يكلفون بقضاء ما ليس واجبا بأصل الشرع؟ قال: ويمكن أن يجاب بأن الواجب بأصل الشرع مؤقت بوقت وقد خرج قبل أن يسلم الكافر ففات وقت أدائه فلم يؤمر بقضائه لأن الإسلام يجب ما قبله، فأما إذا لم يؤقت نذره فلم يتعين له وقت حتى أسلم فإيقاعه له بعد الإسلام يكون أداء لاتساع ذلك باتساع العمر. قلت: وهذا البحث يقوي ما ذهب إليه أبو ثور ومن قال بقوله، وإن ثبت النقل عن الشافعي بذلك فلعله كان يقوله أولا فأخذه عنه أبو ثور، ويمكن أن يؤخذ من الفرق المذكور وجوب الحج على من أسلم لاتساع وقته بخلاف ما فات وقته، والله أعلم. "تنبيه": المراد بقول عمر في الجاهلية قبل إسلامه لأن جاهلية كل أحد بحسبه، ووهم من قال: الجاهلية في كلامه زمن فترة النبوة والمراد بها هنا ما قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم فإن هذا يتوقف على نقل، وقد تقدم أنه نذر قيل أن يسلم وبين البعثة وإسلامه مدة.

(11/583)


30 - باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ
وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلاَةً بِقُبَاءٍ فَقَالَ صَلِّي عَنْهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ
6698- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ"

(11/583)


6699- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ إِنَّ أُخْتِي قَدْ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ"
قوله: "باب من مات وعليه نذر" أي هل يقضى عنه أو لا؟ والذي ذكره في الباب يقتضي الأول، لكن هل هو على سبيل الوجوب أو الندب؟ خلاف يأتي بيانه. قوله: "وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء" يعني فماتت "فقال صلى عنها. وقال ابن عباس نحوه" وصله مالك عن عبد الله بن أبي بكر أي ابن محمد بن عمرو بن حزم عن عمته أنها حدثته عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها، وأخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال مرة عن ابن عباس قال: إذا مات وعليه نذر قضى عنه وليه. ومن طريق عون بن عبد الله بن عتبة أن امرأة نذرت أن تعتكف عشرة أيام فماتت ولم تعتكف فقال ابن عباس اعتكف عن أمك. وجاء عن ابن عمر وابن عباس خلاف ذلك فقال مالك في الموطأ: إنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد. وأخرج النسائي من طريق أيوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد أورده ابن عبد البر من طريقه موقوفا ثم قال: والنقل في هذا عن ابن عباس مضطرب. قلت: ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حق من مات والنفي في حق الحي، ثم وجدت عنه ما يدل على تخصيصه في حق الميت بما إذا مات وعليه شيء واجب فعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: سئل ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر فقال: يصام عنه النذر. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله: "صلى عنها" العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" فعد منها الولد لأن الولد من كسبه فأعماله الصالحة مكتوبة للوالد من غير أن ينقص من أجره، فمعنى صلى عنها أن صلاتك مكتتبة لها ولو كنت إنما تنوي عن نفسك، كذا قال ولا يخفى تكلفه. وحاصل كلامه تخصيص الجواز بالولد، وإلى ذلك جنح ابن وهب وأبو مصعب من أصحاب الإمام مالك، وفيه تعقب على ابن بطال حيث نقل الإجماع أنه لا يصلي أحد عن أحد لا فرضا ولا سنة لا عن حي ولا عن ميت، ونقل عن المهلب أن ذلك لو جاز لجاز في جميع العبادات البدنية ولكان الشارع أحق بذلك أن يفعله عن أبويه، ولما نهي عن الاستغفار لعمه، ولبطل معنى قوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} انتهى. وجميع ما قال لا يخفى وجه تعقبه خصوصا ما ذكره في حق الشارع، وأما الآية فعمومها مخصوص اتفاقا والله أعلم. "تنبيه": ذكر الكرماني أنه وقع في بعض النسخ "قال صلى عليها" وجه بأن "على" بمعنى "عن" على رأي قال: أو الضمير راجع إلى قباء. حديث ابن عباس أن سعد بن عبادة استفتى في نذر كان على أمه، وقد تقدم شرحه في كتاب الوصايا وذكرت من قال فيه عن سعد بن عبادة فجعله من مسنده. قوله في آخر الحديث في قصة سعد بن عبادة "فكانت سنة بعد" أي صار قضاء الوارث ما على المورث طريقة شرعية أعم من أن يكون وجوبا أو ندبا، ولم أر هذه الزيادة في غير رواية شعيب عن الزهري، فقد أخرج الحديث الشيخان من رواية مالك والليث وأخرجه مسلم أيضا من رواية ابن عيينة ويونس ومعمر وبكر بن وائل والنسائي من رواية الأوزاعي والإسماعيلي من

(11/584)


رواية موسى بن عقبة وابن أبي عتيق وصالح بن كيسان كلهم عن الزهري بدونها، وأظنها من كلام الزهري ويحتمل من شيخه، وفيها تعقب على ما نقل عن مالك لا يحج أحد عن أحد، واحتج بأنه لم يبلغه عن أحد من أهل دار الهجرة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج عن أحد ولا أمر به ولا أذن فيه، فيقال لمن قلد، قد بلغ ذلك غيره؛ وهذا الزهري معدود في فقهاء أهل المدينة وكان شيخه في هذا الحديث، وقد استدل بهذه الزيادة ابن حزم للظاهرية ومن وافقهم في أن الوارث يلزمه قضاء النذر عن مورثه في جميع الحالات، قال: وقد وقع نظير ذلك في حديث الزهري عن سهيل في اللعان لما فارقها الرجل قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراقها قال: فكانت سنة. واختلف في تعيين نذر أم سعد فقيل كان صوما لما رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "جاء رجل فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: نعم" الحديث، وتعقب بأنه لم يتعين أن الرجل المذكور هو سعد بن عبادة، وقيل كان عتقا قاله ابن عبد البر، واستدل بما أخرجه من طريق القاسم بن محمد "أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: نعم" وتعقب بأنه مع إرساله ليس فيه التصريح بأنها كانت نذرت ذلك، وقيل كان نذرها صدقة وقد ذكرت دليله من الموطأ وغيره من وجه آخر عن سعد بن عبادة "أن سعدا خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لأمه: أوص، قالت: المال مال سعد؛ فتوفيت قبل أن يقدم فقال: يا رسول الله هل ينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم" وعند أبي داود من وجه آخر نحوه وزاد: "فأي الصدقة أفضل؟ قال: الماء" الحديث. وليس في شيء من ذلك التصريح بأنها نذرت ذلك. قال عياض: والذي يظهر أنه كان نذرها في المال أو مبهما. قلت: بل ظاهر حديث الباب أنه كان معينا عند سعد والله أعلم. وفي الحديث قضاء الحقوق الواجبة عن الميت، وقد ذهب الجمهور إلى أن من مات وعليه نذر مالي أنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوص إلا إن وقع النذر في مرض الموت فيكون من الثلث، وشرط المالكية والحنفية أن يوصي بذلك مطلقا، واستدل للجمهور بقصة أم سعد هذه، وقول الزهري إنها صارت سنة بعد، ولكن يمكن أن يكون سعد قضاه من تركتها أو تبرع به. وفيه استفتاء الأعلم، وفيه فضل بر الوالدين بعد الوفاة والتوصل إلى براءة ما في ذمتهم. وقد اختلف أهل الأصول في الأمر بعد الاستئذان هل يكون كالأمر بعد الحظر أو لا؟ فرجح صاحب" المحصول" أنه مثله، والراجح عند غيره أنه للإباحة كما رجح جماعة في الأمر بعد الحظر أنه للاستحباب. حديث ابن عباس "أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت" الحديث وفيه: "فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء" وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب الحج، وذكر الاختلاف في السائل أهو رجل كما وقع هنا أو امرأة كما وقع هناك؟ وأنه الراجح، وذكرت ما قيل في اسمها وأنها حمنة، وبينت أنها هي السائلة عن الصيام أيضا، وبالله التوفيق.

(11/585)


باب النذر فيما لايملك وفي معصية
...
31 - باب النَّذْرِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ وَفِي مَعْصِيَةٍ
6700- حدثنا أبو عاصم عن مالك عن طلحة بن عبد الملك عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه"
6701- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ

(11/585)


تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ وَرَآهُ يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ"
وَقَالَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ
6702- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ"
6703- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِي أَنْفِهِ فَقَطَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ"
6704- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ وَلاَ يَسْتَظِلَّ وَلاَ يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ" قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب النذر فيما لا يملك وفي معصية" وقع في شرح ابن بطال "ولا نذر في معصية" وقال: ذكر فيه حديث عائشة "من نذر أن يطيع الله فليطعه" الحديث، وحديث أنس في الذي رآه يمشي بين ابنيه فنهاه، وحديث ابن عباس في الذي طاف وفي أنفه خزامة فنهاه، وحديثه في الذي نذر أن يقوم ولا يستظل فنهاه، قال ولا مدخل لهذه الأحاديث في النذر فيما لا يملك وإنما تدخل في نذر المعصية، وأجاب ابن المنير بأن الصواب مع البخاري فإنه تلقى عدم لزوم النذر فيما لا يملك من عدم لزومه في المعصية لأن نذره في ملك غيره تصرف في ملك الغير بغير إذنه وهي معصية ثم قال: ولهذا لم يقل باب النذر فيما لا يملك وفي المعصية بل قال النذر فيما لا يملك ولا نذر في معصية. فأشار إلى اندراج نذر مال الغير في نذر المعصية فتأمله انتهى. وما نفاه ثابت في معظم الروايات عن البخاري لكن بغير لام وهو لا يخرج عن التقرير الذي قرره لأن التقدير باب النذر فيما لا يملك وحكم النذر في معصية، فإذا ثبت نفي النذر في المعصية التحق به النذر فيما لا يملك لأنه يستلزم المعصية لكونه تصرفا في ملك الغير. وقال الكرماني: الدلالة على الترجمة من جهة أن الشخص لا يملك تعذيب نفسه ولا التزام المشقة التي لا تلزمه حيث لا قربة فيها، ثم استشكله بأن الجمهور فسروا ما لا يملك بمثل النذر بإعتاق عبد فلان انتهى. وما وجهه به ابن المنير أقرب، لكن يلزم عليه تخصيص ما لا يملك بما إذا نذر شيئا معينا كعتق عبد فلان إذا ملكه مع أن اللفظ عام فيدخل فيه ما إذا نذر عتق عبد غير معين فإنه يصح، ويجاب بأن دليل التخصيص الاتفاق على انعقاد النذر في المبهم وإنما وقع الاختلاف في المعين، وقد تقدم التنبيه في "باب من حلف بملة سوى الإسلام" على الموضع الذي أخرج البخاري فيه التصريح بما يطابق الترجمة وهو في حديث ثابت بن الضحاك بلفظ: "وليس على

(11/586)


ابن آدم نذر فيما لا يملك" وقد أخرجه الترمذي مقتصرا على هذا القدر من وأخرج أبو داود سبب هذا الحديث مقتصرا عليه أيضا ولفظه: نذر رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحر ببوانة -يعني موضعا وهو بفتح الموحدة وتخفيف الواو وبنون- فذكر الحديث، وأخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي كانت أسيرة فهربت على ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن الذين أسروا المرأة انتهبوها فنذرت إن سلمت أن تنحرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" وأخرج ابن أبي شيبة من حديث أبي ثعلبة الحديث دون القصة بنحوه، ووقعت مطابقة جميع الترجمة في حديث عمران بن حصين المذكور، وأخرجه النسائي من حديث عبد الرحمن بن سلمة مثله وأخرجه أبو داود من حديث عمر بلفظ: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك" وأخرجه أبو داود والنسائي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، واختلف فيمن وقع منه النذر في ذلك هل تجب فيه كفارة؟ فقال الجمهور: لا، وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم، ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين، واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة، واحتج من أوجبها بحديث عائشة "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" أخرجه أصحاب السنن ورواته ثقات، لكنه معلول فإن الزهري رواه عن أبي سلمة ثم بين أنه حمله عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة فدلسه بإسقاط اثنين، وحسن الظن بسليمان وهو عند غيره ضعيف باتفاقهم، وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال: لا يصح، ولكن له شاهد من حديث عمران بن حصين أخرجه النسائي وضعفه وشواهد أخرى ذكرتها آنفا. وأخرج الدار قطني من حديث عدي بن حاتم نحوه. وفي الباب أيضا عموم حديث عقبة بن عامر" كفارة النذر كفارة اليمين" أخرجه مسلم، وقد حمله الجمهور على نذر اللجاج والغضب وبعضهم على النذر المطلق، لكن أخرج الترمذي وابن ماجه حديث عقبة بلفظ: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين" ولفظ ابن ماجه: "من نذر نذرا لم يسمه" الحديث، وفي الباب حديث ابن عباس رفعه: "من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين" أخرجه أبو داود، وفيه: "ومن نذر في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين" ورواته ثقات، لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا وهو أشبه، وأخرجه الدار قطني من حديث عائشة، وحمله أكثر فقهاء أصحاب الحديث على عمومه لكن قالوا: إن الناذر مخير بين الوفاء بما التزمه وكفارة اليمين، وقد تقدم حديث عائشة المذكور أول الباب قريبا وهو بمعنى حديث: "لا نذر في معصية" ولو ثبتت الزيادة لكانت مبينة لما أجمل فيه، واحتج بعض الحنابلة بأنه ثبت عن جماعة من الصحابة ولا يحفظ عن صحابي خلافه قال والقياس يقتضيه، لأن النذر يمين كما وقع في حديث عقبة لما نذرت أخته أن تحج ماشية لتكفر عن يمينها فسمي النذر يمينا، ومن حيث النظر هو عقدة لله تعالى بالتزام شيء، والحالف عقد يمينه بالله ملتزما بشيء ثم بين أن النذر آكد من اليمين ورتب عليه أنه لو نذر معصية ففعلها لم تسقط عنه الكفارة بخلاف الحالف، وهو وجه للحنابلة، واحتج له بأن الشارع نهى عن المعصية وأمر بالكفارة فتعينت، واستدل بحديث: "لا نذر في معصية" لصحة النذر في المباح لأن فيه نفي النذر في المعصية فبقي ما عداه ثابتا، واحتج من قال إنه يشرع في المباح بما أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه أحمد والترمذي من حديث بريدة "أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال:

(11/587)


"أوف بنذرك" وزاد في حديث بريدة أن ذلك وقت خروجه في غزوة فنذرت إن رده الله تعالى سالما. قال البيهقي: يشبه أن يكون أذن لها في ذلك لما فيه من إظهار الفرح بالسلامة، ولا يلزم من ذلك القول بانعقاد النذر به، ويدل على أن النذر لا ينعقد في المباح حديث ابن عباس ثالث أحاديث الباب فإنه أمر الناذر بأن يقوم ولا يقعد ولا يتكلم ولا يستظل ويصوم ولا يفطر بأن يتم صومه ويتكلم ويستظل ويقعد، فأمره بفعل الطاعة وأسقط عنه المباح. وأصرح من ذلك ما أخرجه أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أيضا: "إنما النذر ما يبتغى به وجه الله" والجواب عن قصة التي نذرت الضرب بالدف ما أشار إليه البيهقي، ويمكن أن يقال: إن من قسم المباح ما قد يصير بالفصد مندوبا كالنوم في القائلة للتقوى على قيام الليل وأكلة السحر للتقوى على صيام النهار، فيمكن أن يقال إن إظهار الفرح بعود النبي صلى الله عليه وسلم سالما معنى مقصود يحصل به الثواب، وقد اختلف في جواز الضرب بالدف في غير النكاح والختان، ورجح الرافعي في "المحرر" وتبعه في "المنهاج" الإباحة، والحديث حجة في ذلك، وقد حمل بعضهم إذنه لها في الضرب بالدف على أصل الإباحة لا على خصوص الوفاء بالنذر كما تقدم، ويشكل عليه أن في رواية أحمد في حديث بريدة "إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا" وزعم بعضهم أن معنى قولها "نذرت" حلفت، والإذن فيه للبر بفعل المباح، ويؤيد ذلك أن في آخر الحديث: "أن عمر دخل فتركت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليخاف منك يا عمر" فلو كان ذلك مما يتقرب به ما قال ذلك، لكن هذا بعينه يشكل على أنه مباح لكونه نسبه إلى الشيطان، ويجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أن الشيطان حضر لمحبته في سماع ذلك لما يرجوه من تمكنه من الفتنة به فلما حضر عمر فر منه لعلمه بمبادرته إلى إنكار مثل ذلك، أو أن الشيطان لم يحضر أصلا وإنما ذكر مثالا لصورة ما صدر من المرأة المذكورة وهي إنما شرعت في شيء أصله من اللهو فلما دخل عمر خشيت من مبادرته لكونه لم يعلم بخصوص النذر أو اليمين الذي صدر منها فشبه النبي صلى الله عليه وسلم حالها بحالة الشيطان الذي يخاف من حضور عمر والشيء بالشيء يذكر، وقرب من قصتها قصة القينتين اللتين كانتا تغنيان عند النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد فأنكر أبو بكر عليهما وقال: "أبمزمور الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم" فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة مثل ذلك في يوم العيد. فهذا ما يتعلق بحديث عائشة. حديث أنس وهو الثاني من أحاديث الباب فذكره هنا مختصرا وتقدم في أواخر الحج قبيل فضائل المدينة بتمامه وأوله "رأى شيخا يهادي بين ابنيه قال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي" فذكر الحديث وفيه: "وأمره أن يركب" وقوله: "قال الفزاري" يعني مروان بن معاوية "عن حميد حدثني ثابت عن أنس" كأنه أراد بهذا التعليق تصريح حميد بالتحديث، وقد وصله في الباب المشار إليه في الحج عن محمد بن سلام عن الفزاري، وبينت هناك من رواه عن حميد موافقا للفزاري ومن رواه عن حميد بدون ذكر ثابت فيه، وذكر المصنف هناك حديث عقبة بن عامر قال: "ندرت أختي أن تمشي إلى بيت الله" الحديث وفيه: "لتمشي ولتركب" وتقدم بعض الكلام عليه ثم. ووقع للمزي في "الأطراف" فيه وهم فإنه ذكر أن البخاري أخرجه في الحج عن إبراهيم بن موسى وفي النذور عن أبي عاصم، والموجود في نسخ البخاري أن الطريقين معا في الباب المذكور من الحج، وليس لحديث عقبة في النذور ذكر أصلا، وإنما أمر الناذر في حديث أنس أن يركب جزما وأمر أخت عقبة أن تمشي وأن تركب، لأن الناذر في حديث أنس كان شيخا ظاهر العجز وأخت عقبة لم توصف بالعجز فكأنه أمرها أن تمشي إن قدرت وتركب إن عجزت، وبهذا ترجم البيهقي للحديث، وأورد في

(11/588)


بعض طرقه من رواية عكرمة عن ابن عباس "أن أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية فقال: إن الله غني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة" وأصله عند أبي داود بلفظ: "ولتهد هديا" ووهم من نسب إليه أنه أخرج هذا الحديث بلفظ ولتهد بدنة، وأورده من طريق أخرى عن عكرمة بغير ذكر الهدي، وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ: "جاء رجل فقال إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت وأنه يشق عليها المشي، فقال: مرها فلتركب إذا لم تستطع أن تمشي فما أغنى الله أن يشق على أختك" ومن طريق كريب عن ابن عباس "جاء رجل فقال: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية، فقال: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا، لتحج راكبة ثم لتكفر يمينها" وأخرجه أصحاب السنن من طريق عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر قال: "نذرت أختي أن تحج ماشية غير مختمرة فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مر أختك فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام" ونقل الترمذي عن البخاري أنه لا يصح فيه الهدي، وقد أخرج الطبراني من طريق أبي تميم الجيشاني عن عقبة بن عامر في هذه القصة "نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة" وفيه: "لتركب ولتلبس ولتصم" وللطحاوي من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن عقبة بن عامر نحوه. وأخرج البيهقي بسند ضعيف عن أبي هريرة "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في جوف الليل إذ بصر بخيال نفرت منه الإبل، فإذا امرأة عريانة نافضة شعرها، فقالت: نذرت أن أحج ماشية عريانة نافضة شعري، فقال: "مرها فلتلبس ثيابها ولتهرق دما" وأورد من طريق الحسن عن عمران رفعه: "إذا نذر أحدكم أن يحج ماشيا فليهد هديا وليركب" وفي سنده انقطاع، وفي الحديث صحة النذر بإتيان البيت الحرام، وعن أبي حنيفة إذا لم ينو حجا ولا عمرة لا ينعقد، ثم إن نذره راكبا لزمه فلو مشى لزمه دم لترفهه بتوفر مؤنة الركوب، وإن نذره ماشيا لزمه من حيث أحرم إلى أن تنتهي العمرة أو الحج، وهو قول صاحبي أبي حنيفة، فإن ركب بعذر أجزأه ولزمه دم في أحد القولين عن الشافعي، واختلف هل يلزمه بدنة أو شاة؟ وإن ركب بلا عذر لزمه الدم، وعن المالكية في العاجز يرجع من قابل فيمشي ما ركب إلا إن عجز مطلقا فيلزمه الهدي، وليس في طرق حديث عقبة ما يقتضي الرجوع، فهو حجة للشافعي ومن تبعه، وعن عبد الله بن الزبير لا يلزمه شيء مطلقا، قال القرطبي زيادة الأمر بالهدي رواتها ثقات ولا ترد، وليس سكوت من سكت عنها بحجة على من حفظها وذكرها، قال: والتمسك بالحديث في عدم إيجاب الرجوع ظاهر، ولكن عمدة مالك عمل أهل المدينة. "تنبيه": يقال إن الرجل المذكور في حديث أنس هو أبو إسرائيل المذكور في حديث ابن عباس الذي بعد الباب، كذا نقله مغلطاي عن الخطيب، وهو تركيب منه، وإنما ذكر الخطيب ذلك في الرجل المذكور في حديث ابن عباس آخر الباب، وتغاير القصتين أوضح من أن يتكلف لبيانه. حديث ابن عباس في الذي طاف بزمام وهو الحديث الثالث فأورده بعلو عن أبي عاصم عن ابن جريج ولفظه: "رأى رجلا يطوف بالكعبة بزمام أو غيره فقطعه" ثم أورده بنزول عن إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج بلفظ: "مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان يقود إنسانا بخزامة في أنفه فقطعها ثم أمره أن يقوده بيده "والخزامة بكسر المعجمة وتخفيف الزاي حلقة من شعر أو وبر تجعل في الحاجز الذي بين منخري البعير يشد فيها الزمام ليسهل انقياده إذا كان صعبا، وقد تقدم في "باب الكلام في الطواف" من كتاب الحج من هذين الوجهين عن ابن جريج وذكرت ما قيل في اسم القائد والمقود، ووجه إدخاله في أبواب النذر، وأنه عند النسائي من وجه آخر عن ابن جريج، وفيه التصريح بأنه نذر ذلك

(11/589)


بزمام أو غيره فقطعه" ثم أورده بنزول عن إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج بلفظ: "مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان يقود إنسانا بخزامة في أنفه فقطعها ثم أمره أن يقوده بيده" والخزامة بكسر المعجمة وتخفيف الزاي حلقة من شعر أو وبر تجعل في الحاجز الذي بين منخري البعير يشد فيها الزمام ليسهل انقياده إذا كان صعبا، وقد تقدم في "باب الكلام في الطواف" من كتاب الحج من هذين الوجهين عن ابن جريج وذكرت ما قيل في اسم القائد والمقود، ووجه إدخاله في أبواب النذر، وأنه عند النسائي من وجه آخر عن ابن جريج، وفيه التصريح بأنه نذر ذلك وأن الداودي استدل به على أن من نذر ما لا طاعة لله فيه لا ينعقد نذره، وتعقب ابن التين له والجواب عن الداودي وتصويبه في ذلك. وهيب في سنده هو ابن خالد، وعبد الوهاب الذي علق عنه البخاري آخر الباب هو ابن عبد المجيد الثقفي، وقد يتمسك بهذا من يرى أن الثقات إذا اختلفوا في الوصل والإرسال يرجح قول من وصل لما معه من زيادة العلم، لأن وهيبا وعبد الوهاب ثقتان، وقد وصله وهيب وأرسله عبد الوهاب وصححه البخاري مع ذلك، والذي عرفناه بالاستقراء من صنيع البخاري أنه لا يعمل في هذه الصورة بقاعدة مطردة بل يدور مع الترجيح إلا إن استووا فيقدم الوصل، والواقع هنا أن من وصله أكثر ممن أرسله، قال الإسماعيلي: وصله مع وهيب عاصم بن هلال والحسن بن أبي جعفر وأرسله مع عبد الوهاب خالد الواسطي. قلت وخالد متقن وفي عاصم والحسن مقال فيستوي الطرفان فيترجح الوصل، وقد جاء الحديث المذكور من وجه آخر فازداد قوة أخرجه عبد الرزاق عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي إسرائيل. قوله: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب" زاد الخطيب في "المبهمات" من وجه آخر "يوم الجمعة". قوله: "إذا هو برجل" في رواية أبي يعلى عن إبراهيم بن الحجاج عن وهيب "إذ التفت فإذا هو برجل". قوله: "قائم" زاد أبو داود عن موسى بن إسماعيل شيخ البخاري فيه: "في الشمس" وكذا في رواية أبي يعلى. وفي رواية طاوس "وأبو إسرائيل يصلي". قوله: "فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل" في رواية أبي داود "فقالوا هو أبو إسرائيل" زاد الخطيب "رجل من قريش". قوله: "نذر أن يقوم" قال البيضاوي: ظاهر اللفظ السؤال عن اسمه فلذلك ذكروه وزادوا فعله، قال: ويحتمل أن يكون سأل عن حاله فذكروه وزادوا التعريف به ثم قال: ولعله لما كان السؤال محتملا ذكروا الأمرين جميعا. قوله: "ولا يستظل" في رواية الخطيب "ويقوم في الشمس". قوله: "مره" في رواية أبي داود "مروه" بصيغة الجمع. وفي رواية طاوس "ليقعد وليتكلم" وأبو إسرائيل المذكور لا يشاركه أحد في كنيته من الصحابة واختلف في اسمه فقيل قشير بقاف وشين معجمة مصغر، وقيل يسير بتحتانية ثم مهملة مصغر أيضا، وقيل قيصر باسم ملك الروم، وقيل بالسين المهملة بدل الصاد، وقيل بغير راء في آخره، وهو قرشي ثم عامري، وترجم له ابن الأثير في الصحابة تبعا لغيره فقال: أبو إسرائيل الأنصاري. واغتر بذلك الكرماني فجزم بأنه من الأنصار، والأول أولى. وفي حديثه أن السكوت عن المباح ليس من طاعة الله، وقد أخرج أبو داود من حديث علي "ولا صمت يوما إلى الليل" وتقدم في السيرة النبوية قول أبي بكر الصديق للمرأة إن هذا -يعني الصمت- من فعل الجاهلية" وفيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلا مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة كالمشي حافيا والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله فلا ينعقد به النذر، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه، وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل، قال القرطبي: في قصة أبي إسرائيل هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية أو ما لا طاعة فيه فقد قال مالك لما ذكره: ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالكفارة.

(11/590)


32 - باب مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامًا فَوَافَقَ النَّحْرَ أَوْ الْفِطْرَ
6705- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ

(11/590)


أَبِي حُرَّةَ الأَسْلَمِيُّ أَنَّهُ "سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ لاَ يَأْتِيَ عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلاَّ صَامَ فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ فَقَالَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الأَضْحَى وَالْفِطْرِ وَلاَ يَرَى صِيَامَهُمَا"
6706- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ "كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ كُلَّ يَوْمِ ثَلاَثَاءَ أَوْ أَرْبِعَاءَ مَا عِشْتُ فَوَافَقْتُ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ وَنُهِينَا أَنْ نَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ مِثْلَهُ لاَ يَزِيدُ عَلَيْهِ"
قوله: "باب من نذر أن يصوم أياما" أي معينة "فوافق النحر أو الفطر" أي هل يجوز له الصيام أو البدل أو الكفارة؟ انعقد الإجماع على أنه لا يجوز له أن يصوم يوم الفطر ولا يوم النحر لا تطوعا ولا عن نذر سواء عينهما أو أحدهما بالنذر أو وقعا معا أو أحدهما اتفاقا، فلو نذر لم ينعقد نذره عند الجمهور، وعند الحنابلة روايتان في وجوب القضاء، وخالف أبو حنيفة فقال لو أقدم فصام وقع ذلك عن نذره، وقد تقدم بسط ذلك في أواخر الصيام، وذكرت هناك الاختلاف في تعيين اليوم الذي نذره الرجل وهل وافق يوم عيد الفطر أو النحر، وإني لم أقف على اسمه مع بيان الكثير من طرقه، ثم وجدت في ثقات ابن حبان من طريق كريمة بنت سيرين أنها "سألت ابن عمر فقالت: جعلت على نفسي أن أصوم كل أربعاء واليوم يوم أربعاء وهو يوم النحر فقال أمر الله بوفاء النذر ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم النحر" ورواته ثقات، فلولا توارد الرواة بأن السائل رجل لفسرت المبهم بكريمة، ولا سيما في السند الأول فإن قوله سئل بضم أوله يشمل ما إذا كان السائل رجلا أو امرأة، وقد ظهر من رواية ابن حبان أنها امرأة فيفسر بها المبهم في رواية حكيم، بخلاف رواية زياد ابن جبير حيث قال فسأله رجل" ثم وجدت الخبر في كتاب الصيام ليوسف بن يعقوب القاضي أخرجه عن محمد بن أبي بكر المقدمي شيخ البخاري فيه وأخرجه أبو نعيم من طريقه وكذا أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن محمد بن أبي بكر المقدمي ولفظه أنه "سمع رجلا يسأل عبد الله بن عمر عن رجل نذر" فذكر الحديث، وفضيل في السند الأول بالتصغير وحكيم بفتح أوله وأبو حرة أبوه بضم المهملة والتشديد لا يعرف اسمه وليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد، وقد أورده متابعا لرواية زيادة بن جبير عن ابن عمر، وفي سياق الرواية الأولى إشعار برجحان المنع عند ابن عمر فإن لفظه فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لم يكن يصوم يوم الأضحى والفطر ولا يرى صيامهما" ووقع عند الإسماعيلي من الزيادة في آخره: قال يونس بن عبيد فذكرت ذلك للحسن فقال: يصوم يوما مكانه، أخرجه من طريق محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع الذي أخرجه البخاري من طريقه. قال الكرماني: قوله: "لم يكن" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: "ولا نرى" بلفظ المتكلم فيكون من جملة مقول عبد الله بن عمر، وفي بعضها بلفظ الغائب وفاعله عبد الله وقائله حكيم. قلت: وقع في رواية يوسف بن يعقوب المذكورة بلفظ: "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الأضحى ولا يوم الفطر ولا يأمر بصيامهما" ومثله في رواية الإسماعيلي، وجوز الكرماني -بناء على تعدد القصة- أن ابن عمر تغير اجتهاده فجزم بالمنع بعد أن كان يتردد ا هـ.

(11/591)


وليس فيما أجاب به ابن عمر أولا وآخرا ما يصرح بالمنع في خصوص هذه القصة، وقد بسطت القول في ذلك في "باب صوم يوم النحر" وبالله التوفيق. انظر شرح الحديث في شرح الباب قوله: "يونس" هو ابن عبيد وصرح به الإسماعيلي من طريق محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع. قوله: "فأعاد عليه" زاد ابن المنهال في روايته: "فخيل إلى الرجل أنه لم يفهم فأعاد عليه الكلام ثانية"

(11/592)


باب هل يدخل في الأيمان والنذور والأرض والغنم والزرع والأمتعة؟
...
33 - باب هَلْ يَدْخُلُ فِي الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ الأَرْضُ وَالْغَنَمُ وَالزُّرُوعُ وَالأَمْتِعَةُ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ قَالَ إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ لِحَائِطٍ لَهُ مُسْتَقْبِلَةِ الْمَسْجِدِ
6707- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً إِلاَّ الأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلاَمًا يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ فَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي الْقُرَى حَتَّى إِذَا كَانَ بِوَادِي الْقُرَى بَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَلاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ"
قوله: "باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض والغنم والزرع والأمتعة" قال ابن عبد البر وتبعه جماعة: المال في لغة دوس قبيلة أبي هريرة غير العين كالعروض والثياب، وعند جماعة المال هو العين كالذهب والفضة، والمعروف من كلام العرب أن كل ما يتمول ويملك فهو مال، فأشار البخاري في الترجمة إلى رجحان ذلك بما ذكره من الأحاديث كقول عمر "أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منه" وقول أبي طلحة "أحب أموالي إلي بيرحاء" وقول أبي هريرة "لم نغنم ذهبا ولا ورقا" ويؤيده قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} فإنه يتناول كل ما يملكه الإنسان، وأما قول أهل اللغة: العرب لا توقع اسم المال عند الإطلاق إلا على الإبل لشرفها عندهم فلا يدفع إطلاقهم المال على غير الإبل، فقد أطلقوه أيضا على غير الإبل من المواشي، ووقع في السيرة "فسلك في الأموال" يعني الحوائط "ونهي عن إضاعة المال" وهو يتناول كل ما يتمول، وقيل المراد به هنا الأرقاء وقيل الحيوان كله وفي الحديث أيضا: "ما جاءك من الرزق وأنت غير مشرف فخذه وتموله" وهو يتناول كل ما يتمول، والأحاديث الثلاثة مخرجة في الصحيحين والموطأ، وحكي عن ثعلب: المال كل ما تجب فيه الزكاة قل أو كثر فما نقص عن ذلك فليس بمال، وبه جزم ابن الأنباري. وقال غيره: المال في الأصل العين، ثم أطلق على كل ما يتملك، واختلف السلف فيمن حلف أو نذر أنه يتصدق بماله على مذاهب تقدم نقلها في "باب إذا أهدى ماله" ومن قال كأبي حنيفة لا يقع نذره إلا على ما فيه الزكاة، ومن قال كمالك يتناول جميع ما يقع عليه اسم مال، قال ابن

(11/592)


بطال: وأحاديث هذا الباب تشهد لقول مالك ومن تابعه. وقال الكرماني معنى قول البخاري "هل يدخل" أي هل يصح اليمين أو النذر على الأعيان مثل: والذي نفسي بيده إن هذه الشملة لتشتعل عليه نارا، ومثل أن يقول هذه الأرض لله ونحوه. قلت: والذي فهمه ابن بطال أولى فإنه أشار إلى أن مراد البخاري الرد على من قال إذا حلف أو نذر أن يتصدق بماله كله اختص ذلك بما فيه الزكاة دون ما يملكه مما سوى ذلك، ونقل محمد بن نصر المروزي في "كتاب الاختلاف" عن أبي حنيفة وأصحابه فيمن نذر أن يتصدق بماله كله: يتصدق بما تجب فيه الزكاة من الذهب والفضة والمواشي لا فيما ملكه مما لا زكاة فيه من الأرضين والدور ومتاع البيت والرقيق والحمير ونحو ذلك فلا يجب عليه فيها شيء، ثم نقل بقية المذاهب على نحو ما قدمته في "باب من أهدى ماله" فعلى هذا فمراد البخاري موافقة الجمهور وأن المال يطلق على كل ما يتمول، ونص أحمد على أن من قال مالي في المساكين إنما يحمل ذلك على ما نوى أو على ما غلب على عرفه كما لو قال ذلك أعرابي فإنه لا يحمل ذلك إلا على الإبل، وحديث ابن عمر في قول عمر تقدم موصولا مشروحا في كتاب الوصايا، وقوله: "وقال أبو طلحة" هو زيد بن سهل الأنصاري وقد تقدم موصولا أيضا هناك من حديث أنس في أبواب الوقف، وتقدم شيء من شرحه في كتاب الزكاة. حديث أبي هريرة تقدم شرحه في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وقوله فيه: "فلم نغنم ذهبا ولا فضة إلا الأموال والمتاع والثياب" كذا للأكثر ولابن القاسم والقعنبي والمتاع بالعطف قال بعضهم وفي تنزيل ذلك على لغة دوس نظر لأنه استثنى الأموال من الذهب والفضة فدل على أنه منها إلا أن يكون ذلك منقطعا فتكون "إلا" بمعنى لكن، كذا قال، والذي يظهر أن الاستثناء من الغنيمة التي في قوله: "فلم نغنم" فنفى أن يكونوا غنموا العين وأثبت أنهم غنموا المال فدل على أن المال عنده غير العين وهو المطلوب. وقوله: "الضبيب" بضاد معجمة وموحدة مكررة بصيغة التصغير، ومدعم بكسر الميم وسكون الدال وفتح العين المهملتين، وقوله: "سهم عائر" بعين مهملة وبعد الألف تحتانية لا يدري من رمى به و "الشراك" بكسر المعجمة وتخفيف الراء وآخره كاف من سيور النعل، وقد تقدم جميع ذلك بإعانة الله تعالى، وله الحمد على كل حال.

(11/593)


كتاب كفارات الأيمان
باب قول الله تعالى: { فكفارته إطعام عشرة مساكين }
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
84 - كِتَاب كَفَّارَاتِ الأَيْمَانِ
1- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}
وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَوْ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ وَقَدْ خَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبًا فِي الْفِدْيَةِ
6708- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى "عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ أَتَيْتُهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ادْنُ فَدَنَوْتُ فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟

(11/593)


قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ"
وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَوْنٍ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَالنُّسُكُ شَاةٌ وَالْمَسَاكِينُ سِتَّةٌ"
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم كتاب كفارات الأيمان" في رواية غير أبي ذر "باب" وله عن المستملي: "كتاب الكفارات" وسميت كفارة لأنها تكفر الذنب أي تستره، ومنه قيل للزارع كافر لأنه يغطي البذر. وقال الراغب: الكفارة ما يعطي الحانث في اليمين، واستعمل في كفارة القتل والظهار، وهو من التكفير وهو ستر الفعل وتغطيته فيصير بمنزلة ما لم يعمل، قال ويصح أن يكون أصله إزالة الكفر نحو التمريض في إزالة المرض، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي أزلناها، وأصل الكفر الستر يقال كفرت الشمس النجوم سترتها، ويسمى السحاب الذي يستر الشمس كافرا، ويسمى الليل كافرا لأنه يستر الأشياء عن العيون، وتكفر الرجل بالسلاح إذا تستر به. قوله: "وقول الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} يريد إلى آخر الآية، وقد تمسك به من قال بتعين العدد المذكور وهو قول الجمهور خلافا لمن قال لو أعطى ما يجب للعشرة واحدا كفى، وهو مروي عن الحسن أخرجه ابن أبي شيبة، ولمن قال كذلك لكن قال عشرة أيام متوالية، وهو مروي عن الأوزاعي حكاه ابن المنذر، وعن الثوري مثله لكن قال: إن لم يجد العشرة. قوله: "وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت: ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" يشير إلى حديث كعب بن عجرة الموصول في الباب.قوله: "وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبا في الفدية" يعني كعب بن عجرة كما ذكره في الباب. قوله: "ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة: ما كان في القرآن "أو أو" فصاحبه بالخيار" أما أثر ابن عباس فوصله سفيان الثوري في تفسيره عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن أو نحو قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فهو فيه مخير، وما كان "فمن لم يجد" فهو على الولاء أي على الترتيب. وليث ضعيف ولذلك لم يجزم به المصنف، وقد جاء عن مجاهد من قوله بسند صحيح عند الطبري وغيره، وأما أثر عطاء فوصله الطبري من طريق ابن جريج قال قال عطاء: ما كان في القرآن "أو أو" فلصاحبه أن يختار أيه شاء. قال ابن جريج وقال لي عمرو بن دينار نحوه وسنده صحيح. وقد أخرجه ابن عيينة في تفسيره عن ابن جريج عن عطاء بلفظ الأصل وسنده صحيح أيضا. وأما أثر عكرمة فوصله الطبري من طريق داود بن أبي هند عنه قال: كل شيء في القرآن "أو أو" فليتخير أي الكفارات شاء، فإذا كان "فمن لم يجد" فالأول الأول قال ابن بطال: هذا متفق عليه بين العلماء، وإنما اختلفوا في قدر الإطعام فقال الجمهور لكل إنسان مد من طعام بمد الشارع صلى الله عليه وسلم وفرق مالك في جنس الطعام بين أهل المدينة فاعتبر ذلك في حقهم لأنه وسط من عيشهم بخلاف سائر الأمصار فالمعتبر في حق كل منهم ما هو وسط من عيشه وخالفه ابن القاسم فوافق الجمهور. وذهب الكوفيون إلى أن الواجب إطعام نصف صاع، والحجة للأول أنه صلى الله عليه وسلم أمر في كفارة المواقع في رمضان بإطعام مد لكل مسكين، قال وإنما ذكر البخاري حديث كعب هنا من أجل آية التخيير فإنها وردت في كفارة اليمين كما وردت في كفارة الأذى. وتعقبه ابن المنير فقال يحتمل أن يكون البخاري وافق الكوفيين في هذه المسألة فأورد حديث كعب بن عجرة لأنه وقع التنصيص في خبر كعب على نصف صاع ولم يثبت في قدر طعام الكفارة فحمل المطلق على المقيد. قلت:

(11/594)


ويؤيده أن كفارة المواقع ككفارة الظهار وكفارة الظهار ورد النص فيها بالترتيب بخلاف كفارة الأذى فإن النص ورد فيها بالتخيير، وأيضا فإنهما متفقان في قدر الصيام بخلاف الظهار فكان حمل كفارة اليمين عليها لموافقتها لها في التخيير أولى من حملها على كفارة المواقع مع مخالفتها، وإلى هذا أشار ابن المنير. وقد يستدل لذلك بما أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس قال: "كفر النبي صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك، فمن لم يجد فنصف صاع من بر" وهذا لو ثبت لم يكن حجة لأنه لا قائل به، وهو من رواية عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة وهو ضعيف جدا. والذي يظهر لي أن البخاري أراد الرد على من أجاز في كفارة اليمين أن تبعض الخصلة من الثلاثة المخير فيها كمن أطعم خمسة وكساهم أو كسا خمسة غيرهم أو أعتق نصف رقبة وأطعم خمسة أو كساهم، وقد نقل ذلك عن بعض الحنفية والمالكية، وقد احتج من ألحقها بكفارة الظهار بأن شرط حمل المطلق على المقيد أن لا يعارضه مقيد آخر، فلما عارضه هنا والأصل براءة الذمة أخذ بالأقل، وأيده الماوردي من حيث النظر بأنه في كفارة اليمين وصف بالأوسط وهو محمول على الجنس وأوسط ما يشبع الشخص رطلان من الخبز والمد رطل وثلث من الحب فإذا خبز كان قدر رطلين. وأيضا فكفارة اليمين وإن وافقت كفارة الأذى في التخيير لكنها زادت عليها بأن فيها ترتيبا، لأن التخيير وقع بين الإطعام والكسوة والعتق، والترتيب وقع بين الثلاثة وصيام ثلاثة أيام وكفارة الأذى وقع التخيير فيها بين الصيام والإطعام والذبح حسب، قال ابن الصباغ: ليس في الكفارات ما فيه تخيير وترتيب إلا كفارة اليمين وما ألحق بها. قوله: "أحمد بن يونس" هو ابن عبد الله بن يونس نسب لجده، وأبو شهاب هو الأصغر واسمه عبد ربه ابن نافع، وابن عون هو عبد الله. قوله: "أتيته يعني النبي صلى الله عليه وسلم" كذا في الأصل، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق بشر بن المفضل عن ابن عون بهذا السند عن كعب بن عجرة قال: "في نزلت هذه الآية، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم" فذكره. وفي رواية معتمر بن سليمان عن ابن عون عند الإسماعيلي: "نزلت في هذه الآية {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال فرآني النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادن". قوله: "قال وأخبرني ابن عون" هو مقول أبي شهاب وهو موصول بالأول، وقد أخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق أزهر بن سعد عن ابن عون به وقال في آخره: فسره لي مجاهد فلم أحفظه، فسألت أيوب فقال: الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين والنسك ما استيسر من الهدي. قلت: وقد تقدم في الحج وفي التفسير من طرق أخرى عن مجاهد وفي الطب والمغازي من طريق أيوب عن مجاهد به وسياقها أتم، وتقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج.

(11/595)


2 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
مَتَى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؟
6709- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُهُ مِنْ فِيهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلَكْتُ قَالَ "وَمَا شَأْنُكَ" قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ "قَالَ تَسْتَطِيعُ تُعْتِقُ رَقَبَةً" قَالَ لاَ قَالَ "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" قَالَ لاَ قَالَ "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا" قَالَ لاَ قَالَ اجْلِسْ فَجَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَالْعَرَقُ

(11/595)


الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ قَالَ "خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ" قَالَ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ "أَطْعِمْهُ عِيَالَكَ"
قوله: "باب متى تجب الكفارة على الغني والفقير؟ وقول الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} إلى قوله: الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} كذا لأبي ذر، ولغيره: "باب قول الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} وساقوا الآية وبعدها "متى تجب الكفارة على الغني والفقير"؟ وسقط لبعضهم ذكر الآية؛ وأشار الكرماني إلى تصويبه فقال: قوله تحلة أيمانكم أي تحليلها بالكفارة، والمناسب أن يذكر هذه الآية في الباب الذي قبله. حديث أبي هريرة في قصة المجامع في نهار رمضان، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصيام، وقوله فيه: "سفيان عن الزهري" وقع في رواية الحميدي "عن سفيان حدثنا الزهري" وتقدم أيضا بيان الاختلاف فيمن لا يجد ما يكفر به ولا يقدر على الصيام هل يسقط عنه أو يبقى في ذمته؟ قال ابن المنير: مقصوده أن ينبه على أن الكفارة إنما تجب بالحنث كما أن كفارة المواقع إنما تجب باقتحام الذنب، وأشار إلى أن الفقير لا يسقط عنه إيجاب الكفارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم فقره وأعطاه مع ذلك ما يكفر به كما لو أعطى الفقير ما يقضي به دينه، قال: ولعله كما نبه على احتجاج الكوفيين بالفدية نبه هنا على ما احتج به من خالفهم من إلحاقها بكفارة المواقع وأنه مد لكل مسكين.

(11/596)


3 - باب مَنْ أَعَانَ الْمُعْسِرَ فِي الْكَفَّارَةِ
6710- حدثنا محمد بن محبوب حدثنا عبد الواحد حدثنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت فقال: " وما ذاك؟" قال: وقعت بأهلي في رمضان قال: "تجد رقبة" قال: لا قال: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين" قال لا قال "فتستطيع أن تطعم ستين مسكينا" قال لا قال: فجاء رجل من الأنصار بعرق والعرق المكتل فيه تمر فقال اذهب بهذا فتصدق به قال: أعلى أحوج منا يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا ثم قال: "اذهب فأطعمه أهلك"
قوله: "باب من أعان المعسر في الكفارة" ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور قبل وهو ظاهر فيما ترجم له، فكما جاز إعانة المعسر بالكفارة عن وقاعه في رمضان كذلك تجوز إعانة المعسر بالكفارة عن يمينه إذا حنث فيه.

(11/596)


4 - باب يُعْطِي فِي الْكَفَّارَةِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا
6711- حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سفيان عن الزهري عن حميد "عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ثم هلكت قال وما شأنك قال وقعت على امرأتي في رمضان فقال " هل تجد ما قوما رقبة" قال لا قال " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين" قال لا قال "فهل تستطيع أن

(11/596)


5 - باب صَاعِ الْمَدِينَةِ وَمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرَكَتِهِ وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ
6712- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيُّ حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمْ الْيَوْمَ فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ"
6713- حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجَارُودِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ وَهْوَ سَلْمٌ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي زَكَاةَ رَمَضَانَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُدِّ الأَوَّلِ وَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ لَنَا مَالِكٌ مُدُّنَا أَعْظَمُ مِنْ مُدِّكُمْ وَلاَ نَرَى الْفَضْلَ إِلاَّ فِي مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لِي مَالِكٌ لَوْ جَاءَكُمْ أَمِيرٌ فَضَرَبَ مُدًّا أَصْغَرَ مِنْ مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ قُلْتُ كُنَّا نُعْطِي بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَفَلاَ تَرَى أَنَّ الأَمْرَ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6714- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَصَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ"
قوله: "باب صاع المدينة ومد النبي صلى الله عليه وسلم وبركته" أشار في الترجمة إلى وجوب الإخراج في الواجبات بصاع

(11/597)


أهل المدينة لأن التشريع وقع على ذلك أولا وأكد ذلك بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالبركة في ذلك. قوله: "وما توارث أهل المدينة من ذلك قرنا بعد قرن" أشار بذلك إلى أن مقدار المد والصاع في المدينة لم يتغير لتواتره عندهم إلى زمنه، وبهذا احتج مالك على أبي يوسف في القصة المشهورة بينهما فرجع أبو يوسف عن قول الكوفيين في قدر الصاع إلى قول أهل المدينة. قوله: "كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مدا وثلثا بمدكم اليوم، فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز" قال ابن بطال: هذا يدل على أن مدهم حين حدث به السائب كان أربعة أرطال فإذا زيد عليه ثلثه وهو رطل وثلث قام منه خمسة أرطال وثلث وهو الصاع بدليل أن مده صلى الله عليه وسلم رطل وثلث وصاعه أربعة أمداد، ثم قال مقدار ما زيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز لا نعلمه، وإنما الحديث يدل على أن مدهم ثلاثة أمداد بمده انتهى، ومن لازم ما قال أن يكون صاعهم ستة عشر رطلا لكن لعله لم يعلم مقدار الرطل عندهم إذ ذاك، وقد تقدم في "باب الوضوء بالمد" من كتاب الطهارة بيان الاختلاف في مقدار المد والصاع، ومن فرق بين الماء وغيره من المكيلات فخص صاع الماء بكونه ثمانية أرطال ومده برطلين فقصر الخلاف على غير الماء من المكيلات. قوله: "حدثنا أبو قتيبة وهو سلم" بفتح المهملة وسكون اللام. وفي رواية الدار قطني من وجه آخر عن المنذر "حدثنا أبو قتيبة سلم بن قتيبة". قلت: وهو الشعيري بفتح الشين المعجمة وكسر المهملة بصري أصله من خراسان أدركه البخاري بالسن ومات قبل أن يلقاه، وهو غير سلم بن قتيبة الباهلي ولد أمير خراسان قتيبة بن مسلم وقد ولي هو إمرة البصرة وهو أكبر من الشعيري ومات قبله بأكثر من خمسين سنة. قوله: "المد الأول" هو نعت مد النبي صلى الله عليه وسلم وهي صفة لازمة له، وأراد نافع بذلك أنه كان لا يعطي بالمد الذي أحدثه هشام، قال ابن بطال: وهو أكبر من مد النبي صلى الله عليه وسلم بثلثي رطل وهو كما قال فإن المد الهشامي رطلان والصاع منه ثمانية أرطال. قوله: "قال لنا مالك" هو مقول أبي قتيبة وهو موصول. قوله: "مدنا أعظم من مدكم" يعني في البركة أي مد المدينة وإن كان دون مد هشام في القدر لكن مد المدينة مخصوص بالبركة الحاصلة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها فهو أعظم من مد هشام، ثم فسر مالك مراده بقوله: ولا ترى الفضل إلا في مد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال لي مالك لو جاءكم أمير إلخ" أراد مالك بذلك إلزام مخالفه إذ لا فرق بين الزيادة والنقصان في مطلق المخالفة، فلو احتج الذي تمسك بالمد الهشامي في إخراج زكاة الفطر وغيرها مما شرع إخراجه بالمد كإطعام المساكين في كفارة اليمين بأن الأخذ بالزائد أولى، قيل: كفى باتباع ما قدره الشارع بركة، فلو جازت المخالفة بالزيادة لجازت مخالفته بالنقص، فلما امتنع المخالف من الأخذ بالناقص قال له أفلا ترى أن الأمر إنما يرجع إلى مد النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا تعارضت الأمداد الثلاثة الأول والحادث وهو الهشامي وهو زائد عليه والثالث المفروض وقوعه وإن لم يقع وهو دون الأول كان الرجوع إلى الأول أولى لأنه الذي تحققت شرعيته. قال ابن بطال: والحجة فيه نقل أهل المدينة له قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، قال: وقد رجع أبو يوسف بمثل هذا في تقدير المد والصاع إلى مالك وأخذ بقوله. "تنبيه": هذا الحديث غريب لم يروه عن مالك إلا أبو قتيبة ولا عنه إلا المنذر، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي وعلى أبي نعيم فلم يستخرجاه بل ذكراه من طريق البخاري، وقد أخرجه الدار قطني في "غرائب مالك" من طريق البخاري وأخرجه أيضا عن ابن عقدة عن الحسين بن القاسم البجلي عن المنذر به دون كلام مالك وقال: صحيح أخرجه البخاري عن المنذر به. حديث أنس في

(11/598)


دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لهم في مكيالهم وصاعهم ومدهم" وقد تقدم في البيوع عن القعنبي عن مالك وزاد في آخره: "يعني أهل المدينة" وكذا عند رواة الموطأ عن - مالك قال ابن المنير: يحتمل أن تختص هذه الدعوة بالمد الذي كان حينئذ حتى لا يدخل المد الحادث بعده ويحتمل أن تعم كل مكيال لأهل المدينة إلى الأبد، قال والظاهر الثاني، كذا قال، وكلام مالك المذكور في الذي قبله يجنح إلى الأول وهو المعتمد. وقد تغيرت المكاييل في المدينة بعد عصر مالك وإلى هذا الزمان، وقد وجد مصداق الدعوة بأن بورك في مدهم وصاعهم بحيث اعتبر قدرهما أكثر فقهاء الأمصار ومقلدوهم إلى اليوم في غالب الكفارات، وإلى هذا أشار المهلب والله أعلم.

(11/599)


باب قول الله تعالى: { أو تحرير } وأي الرقاب أزكى؟
...
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَأَيُّ الرِّقَابِ أَزْكَى؟
6715- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يشير إلى أن الرقبة في آية كفارة اليمين مطلقة بخلاف آية كفارة القتل فإنها قيدت بالإيمان، قال ابن بطال: حمل الجمهور ومنهم الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق المطلق على المقيد كما حملوا المطلق في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} على المقيد في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وخالف الكوفيون فقالوا: يجوز إعتاق الكافر، ووافقهم أبو ثور وابن المنذر، واحتج له في كتابه الكبير بأن كفارة القتل مغلظة بخلاف كفارة اليمين، ومن ثم اشترط التتابع في صيام القتل دون اليمين. قوله: "وأي الرقاب أزكى"؟ يشير إلى الحديث الماضي في أوائل العتق عن أبي ذر وفيه: "قلت فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" وقد تقدم شرحه مستوفى هناك، وكأن البخاري رمز بذلك إلى موافقة الكوفيين لأن أفعل التفضيل يقتضي الاشتراك في أصل الحكم. وقال ابن المنير: لم يبت البخاري الحكم في ذلك ولكنه ذكر الفضل في عتق المؤمنة لينبه على مجال النظر، فلقائل أن يقول: إذا وجب عتق الرقبة في كفارة اليمين كان الأخذ بالأفضل أحوط، وإلا كان المكفر بغير المؤمنة على شك في براءة الذمة. قال: وهذا أقوى من الاستشهاد بحمل المطلق على المقيد لظهور الفرق بينهما. حديث أبي هريرة "من أعتق رقبة مسلمة" وقد تقدم أيضا في أوائل العتق من وجه آخر عن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة، وذكر فيه قصة لسعيد ابن مرجانة مع علي بن حسين أي ابن علي بن أبي طالب الملقب زين العابدين وهو المذكور هنا أيضا، وكأنه بعد أن سمعه من سعيد بن مرجانة وعمل به حدث به عن سعيد فسمعه منه زيد بن أسلم. وفي رواية الباب زيادة في آخره وهي قوله: "حتى فرجه بفرجه" وحتى هنا عاطفة لوجود شرائط العطف فيها فيكون فرجه بالنصب، وقد تقدمت فوائد هذا الحديث وبيان ما ورد فيه من الزيادة هناك. وأخرج مسلم حديث الباب عن داود بن رشيد شيخ شيخ البخاري فيه، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجتين فإن بينه وبين أبي غسان محمد بن مطرف في عدة أحاديث في كتابه راويا واحدا كسعيد بن أبي مريم في الصيام والنكاح والأشربة وغيرها وكعلي بن عياش في البيوع

(11/599)


والأدب، ومحمد بن عبد الرحيم شيخه فيه هو المعروف بصاعقة وهو من أقرانه، وداود بن رشيد بشين ومعجمة مصغر من طبقة شيوخه الوسطى، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق زيد وعلي وسعيد والثلاثة مدنيون وزيد وعلي قرينان.

(11/600)


7 - باب عِتْقِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ فِي الْكَفَّارَةِ وَعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا
وَقَالَ طَاوُسٌ يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ
6716- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو "عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي" فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ"
قوله: "باب عتق المدبر وأم الولد والمكاتب في الكفارة وعتق ولد الزنا" ذكر فيه حديث جابر في عتق المدبر، وعمرو في السند هو ابن دينار، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب العتق وبيان الاختلاف فيه والاحتجاج لمن قال بصحة بيعه، وقضية ذلك صحة عتقه في الكفارة لأن صحة بيعه فرع بقاء الملك فيه فيصح تنجيز عتقه، وأما أم الولد فحكمها حكم الرقيق في أكثر الأحكام كالجناية والحدود واستمتاع السيد، وذهب كثير من العلماء إلى جواز بيعها، ولكن استقر الأمر على عدم صحته، وأجمعوا على جواز تنجيز عتقها فتجزئ في الكفارة، وأما عتق المكاتب فأجازه مالك والشافعي والثوري كذا حكاه ابن المنذر، وعن مالك أيضا لا يجزئ أصلا. وقال أصحاب الرأي إن كان أدى بعض الكتابة لم يجزئ لأنه يكون أعتق بعض الرقبة وبه قال الأوزاعي والليث، وعن أحمد وإسحاق إن أدى الثلث فصاعدا لم يجزئ. قوله: "وقال طاوس يجزئ المدبر وأم الولد" وصله ابن أبي شيبة من طريقه بلفظ يجزئ عتق المدبر في الكفارة وأم الولد في الظهار، وقد اختلف السلف فوافق طاوسا الحسن في المدبر والنخعي في أم الولد وخالفه فيهما الزهري والشعبي. وقال مالك والأوزاعي لا يجزئ في الكفارة مدبر ولا أم ولد ولا معلق عتقه وهو قول الكوفيين. وقال الشافعي يجزئ عتق المدبر. وقال أبو ثور يجزئ عتق المكاتب ما دام عليه شيء من كتابته، واحتج لمالك بأن هؤلاء ثبت لهم عقد الحرية لا سبيل إلى رفعها والواجب في الكفارة تحرير رقبة، وأجاب الشافعي بأنه لو كانت في المدبر شعبة من حرية ما جاز بيعه، وأما عتق ولد الزنا فقال ابن المنير لا أعلم مناسبة بين عتق ولد الزنا وبين ما أدخله في الباب إلا أن يكون المخالف في عتقه خالف في عتق ما تقدم ذكره، فاستدل عليه بأنه لا قائل بالفرق ثم قال: ويظهر أنه لما جوز عتق المدبر استدل له ولم يأت في أم الولد إلا بقول طاوس ولا في ولد الزنا بشيء أشار إلى أنه قد تقدم الحث على عتق الرقبة المؤمنة فيدخل ما ذكر بعده في العموم بل في الخصوص لأن ولد الزنا مع إيمانه أفضل من الكافر. قلت: جاء المنع من ذلك في الحديث الذي أخرجه البيهقي بسند صحيح عن الزهري أخبرني أبو حسن مولى عبد الله بن الحارث وكان من أهل العلم والصلاح أنه سمع امرأة تقول لعبد الله بن نوفل تستفتيه في غلام لها ابن زنية تعتقه في رقبة كانت عليها فقال: لا أراه يجزئك، سمعت عمر يقول لأن أحمل على نعلين في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ابن زنية، وصح عن

(11/600)


أبي هريرة قال: لأن أتبع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد زنية، أخرجه ابن أبي شيبة. نعم في الموطأ عن أبي هريرة أنه أفتى بعتق ولد الزنا، وعن ابن عمر أنه أعتق ابن زنا، وأخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي بسند صحيح عنه وزاد: قد أمرنا الله أن نمن على من هو شر منه، قال الله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وقال الجمهور: يجزئ عتقه، وكرهه علي وابن عباس وابن عمرو بن العاص أخرجه ابن أبي شيبة عنهم بأسانيد لينة، ومنع الشعبي والنخعي والأوزاعي. وأخرج ابن أبي شيبة ذلك بسند صحيح عن الأولين، والحجة للجمهور قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقد صح ملك الحالف له فيصح إعتاقه له، وقد أخرج ابن المنذر بسند صحيح عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أنه سئل عن ذلك فمنع، قال أبو الخير: فسألنا فضالة بن عبيد فقال: يغفر الله لعقبة، وهل هو إلا نسمة من النسم؟ وذكر المصنف حديث جابر في بيع المدبر فأشار في الترجمة إلى أنه إذا جاز بيعه جاز ما ذكر معه بطريق الأولى.

(11/601)


باب إذا أعتق عبداً بينه وبين آخر
قوله "باب إذا أعتق عبدا بينه وبين آخر" أي في الكفارة، ثبتت هذه الترجمة المستملي وحده بغير حديث فكأن المصنف أراد أن يثبت فيها حديث الباب الذي بعده من وجه آخر فلم يتفق، أو تردد في الترجمتين فاقتصر الأكثر على الترجمة التي تلي هذه وكتب المستملي الترجمتين احتيطا، والحديث في الباب الذي يليه صالح لهما بضرب من التأويل، وجمع أبو نعيم الترجمتين في باب واحد

(11/601)


8 - باب إِذَا أَعْتَقَ فِي الْكَفَّارَةِ لِمَنْ يَكُونُ وَلاَؤُهُ
6717- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا الْوَلاَءَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " اشْتَرِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
قوله: "باب إذا أعتق في الكفارة لمن يكون ولاؤه" أي العتيق. حديث عائشة في قصة بريرة مختصرا وفي آخره: "فإنما الولاء لمن أعتق" وقضيته أن كل من أعتق فصح عتقه كان الولاء له، فيدخل في ذلك ما لو أعتق العبد المشترك فإنه إن كان موسرا صح وضمن لشريكه حصته، ولا فرق بين أن يعتقه مجانا أو عن الكفارة وهذا قول الجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة، وعن أبي حنيفة لا يجزئه عتق العبد المشترك عن الكفارة لأنه يكون أعتق بعض عبد لا جميعه، لأن الشريك عنده يخير بين أن يقوم عليه نصيبه وبين أن يعتقه هو وبين أن يستسعي العبد في نصيب الشريك.

(11/601)


9 - باب الِاسْتِثْنَاءِ فِي الأَيْمَانِ
6718- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى "عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ فَأُتِيَ بِإِبِلٍ فَأَمَرَ لَنَا بِثَلاَثَةِ ذَوْدٍ فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ لاَ يُبَارِكُ اللَّهُ لَنَا أَتَيْنَا رَسُولَ

(11/601)


10 - باب الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ
6721- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ الْقَاسِمِ الْتَّمِيمِيِّ عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ "كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ وَمَعْرُوفٌ قَالَ فَقُدِّمَ طَعَامٌ قَالَ وَقُدِّمَ فِي طَعَامِهِ لَحْمُ دَجَاجٍ قَالَ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مَوْلًى قَالَ فَلَمْ يَدْنُ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى ادْنُ فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهُ قَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا قَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ أَنْ لاَ أَطْعَمَهُ أَبَدًا فَقَالَ ادْنُ أُخْبِرْكَ عَنْ ذَلِكَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ وَهُوَ يَقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ قَالَ أَيُّوبُ أَحْسِبُهُ قَالَ وَهُوَ غَضْبَانُ قَالَ "وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ" قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْبِ إِبِلٍ فَقِيلَ أَيْنَ هَؤُلاَءِ الأَشْعَرِيُّونَ فَأَتَيْنَا فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى قَالَ فَانْدَفَعْنَا فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْنَا فَحَمَلَنَا نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ وَاللَّهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ لاَ نُفْلِحُ أَبَدًا ارْجِعُوا بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْنُذَكِّرْهُ يَمِينَهُ فَرَجَعْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْنَاكَ نَسْتَحْمِلُكَ فَحَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا ثُمَّ حَمَلْتَنَا فَظَنَنَّا أَوْ فَعَرَفْنَا أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ قَالَ "انْطَلِقُوا فَإِنَّمَا حَمَلَكُمْ اللَّهُ إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا".
تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ الْكُلَيْبِيِّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ عَنْ زَهْدَمٍ بِهَذَا حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَهْدَمٍ بِهَذَا.
6722- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الْحَسَنِ "عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَسْأَلْ الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ"
تَابَعَهُ أَشْهَلُ بْنُ حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ.
وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَسِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَحُمَيْدٌ وَقَتَادَةُ وَمَنْصُورٌ وَهِشَامٌ وَالرَّبِيعُ.

(11/608)


قوله: "باب الكفارة قبل الحنث وبعده" ذكر فيه حديث أبي موسى في قصة سؤالهم الحملان وفيه: "إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" وقد مضى في الباب الذي قبله بلفظ: "إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير" وحديث عبد الرحمن بن سمرة في النهي عن سؤال الإمارة وفيه: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" قال ابن المنذر رأى ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي أن الكفارة تجزئ قبل الحنث. إلا أن الشافعية استثنى الصيام فقال لا يجزئ إلا بعد الحنث وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث. قلت: ونقل الباجي عن مالك وغيره روايتين، واستثنى بعضهم عن مالك الصدقة والعتق، ووافق الحنفية أشهب من المالكية وداود الظاهري وخالفه ابن حزم، واحتج لهم الطحاوي بقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فإذا المراد إذا حلفتم فحنثتم، ورده مخالفوه فقالوا: بل التقدير فأردتم الحنث، وأولى من ذلك أن يقال: التقدير أعم من ذلك، فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر. واحتجوا أيضا بأن ظاهر الآية أن الكفارة وجبت بنفس اليمين، ورده من أجاز بأنها لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث اتفاقا. واحتجوا أيضا بأن الكفارة بعد الحنث فرض وإخراجها قبله تطوع، فلا يقوم التطوع مقام الفرض. وانفصل عنه من أجاز بأنه يشترط إرادة الحنث وإلا فلا يجزئ كما في تقديم الزكاة. وقال عياض: اتفقوا على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث، واستحب مالك والشافعي والأوزاعي والثوري تأخيرها بعد الحنث، قال عياض: ومنع بعض المالكية تقديم كفارة حنث المعصية لأن فيه إعانة على المعصية، ورده الجمهور. قال ابن المنذر: واحتج للجمهور بأن اختلاف ألفاظ حديثي أبو موسى وعبد الرحمن لا يدل على تعيين أحد الأمرين، وإنما أمر الحالف بأمرين فإذا أتى بهما جميعا فقد فعل ما أمر به وإذا لم يدل الخبر على المنع فلم يبق إلا طريق النظر، فاحتج للجمهور بأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء وهو كلام فلأن تحله الكفارة وهو فعل مالي أو بدني أولي، ويرجح قولهم أيضا بالكثرة، وذكر أبو الحسن بن القصار وتبعه عياض وجماعة أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة أربعة عشر صحابيا وتبعهم فقهاء الأمصار إلا أبا حنيفة، مع أنه قال فيمن أخرج ظبية من الحرم إلى الحل فولدت أولادا ثم ماتت في يده هي وأولادها أن عليه جزاءها وجزاء أولادها، لكن إن كان حين إخراجها أدى جزاءها لم يكن عليه في أولادها شيء مع أن الجزاء الذي أخرجه عنها كان قبل أن تلد أولادها فيحتاج إلى الفرق، بل الجواز في كفارة اليمين أولى. وقال ابن حزم: أجاز الحنفية تعجيل الزكاة قبل الحول وتقديم زكاة الزرع، وأجازوا تقديم كفارة القتل قبل موت المجني عليه، واحتج للشافعي بأن الصيام من حقوق الأبدان ولا يجوز تقديمها قبل وقتها كالصلاة والصيام، بخلاف العتق والكسوة والإطعام فإنها من حقوق الأموال فيجوز تقديمها كالزكاة، ولفظ الشافعي في "الأم" إن كفر بالإطعام قبل الحنث رجوت أن يجزئ عنه، وأما الصوم فلا لأن حقوق المال يجوز تقديمها بخلاف العبادات فإنها لا تقدم على وقتها كالصلاة والصوم، وكذا لو حج الصغير والعبد لا يجزئ عنهما إذا بلغ أو عتق. وقال في موضع آخر: من حلف فأراد أن يحنث فأحب إلي أن لا يكفر حتى يحنث فإن كفر قبل الحنث أجزأ، وساق نحوه مبسوطا. وادعى الطحاوي أن إلحاق الكفارة بالكفارة أولى من إلحاق الإطعام بالزكاة وأجيب بالمنع. وأيضا فالفرق الذي أشار إليه الشافعي بين حق المال وحق البدن ظاهر جدا، وإنما خص منه الشافعي الصيام بالدليل المذكور

(11/609)


ويؤخذ من نص الشافعي أن الأولى تقديم الحنث على الكفارة، وفي مذهبه وجه اختلف فيه الترجيح أن كفارة المعصية يستحب تقديمها. قال القاضي عياض: الخلاف في جواز تقديم الكفارة مبني على أن الكفارة رخصة لحل اليمين أو لتكفير مأثمها بالحنث، فعند الجمهور أنها رخصة شرعها الله لحل ما عقد من اليمين فلذلك تجزئ قبل وبعد. قال المازري: للكفارة ثلاث حالات أحدها قبل الحلف فلا تجزئ اتفاقا. ثانيها بعد الحلف والحنث فتجزئ اتفاقا. ثالثها بعد الحلف وقبل الحنث ففيها الخلاف. وقد اختلف لفظ الحديث فقدم الكفارة مرة وأخرها أخرى لكن بحرف الواو الذي لا يوجب رتبة، ومن منع رأى أنها لم تجز فصارت كالتطوع والتطوع لا يجزئ عن الواجب. وقال الباجي وابن التين وجماعة: الروايتان دالتان على الجواز لأن الواو لا ترتب. قال ابن التين: فلو كان تقديم الكفارة لا يجزئ لأبانه ولقال: فليأت ثم ليكفر، لأن تأخير البيان عن الحاجة لا يجوز، فلما تركهم على مقتضى اللسان دل على الجواز. قال: وأما الفاء في قوله: "فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" فهي كالفاء الذي في قوله: "فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير" ولو لم تأت الثانية لما دلت الفاء على الترتيب لأنها أبانت ما يفعله بعد الحلف وهما شيئان كفارة وحنث ولا ترتيب فيهما، وهو كمن قال: إذا دخلت الدار فكل واشرب. قلت: قد ورد في بعض الطرق بلفظ: "ثم" التي تقتضي الترتيب عند أبي داود والنسائي في حديث الباب، ولفظ أبي داود من طريق سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن به "كفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير" وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه لكن أحال بلفظ المتن على ما قبله، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق سعيد كأبي داود، وأخرجه النسائي من رواية جرير بن حازم عن الحسن مثله، لكن أخرجه البخاري ومسلم من رواية جرير بالواو، وهو في حديث عائشة عند الحاكم أيضا بلفظ: "ثم" وفي حديث أم سلمة عند الطبراني نحوه ولفظه: "فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير". قوله: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم" هو المعروف بابن علية، وأيوب هو السختياني، والقاسم التميمي هو ابن عاصم، وقد تقدم في "باب اليمين فيما لا يملك" من طريق عبد الوارث عن أيوب عن القاسم وحده أيضا، واقتصر على بعضه، ومضى في "باب لا تحلفوا بآبائكم" من طريق عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم التميمي جميعا عن زهدم، وتقدم في المغازي من طريق عبد السلام بن حرب عن أيوب عن أبي قلابة وحده، وقد تقدم في فرض الخمس عن عبد الله بن عبد الوهاب عن حماد وهو ابن زيد، وكذا أخرجه مسلم عن أبي الربيع العتكي عن حماد قال: "وحدثني القاسم بن عاصم الكليبي" بموحدة مصغر نسبة إلى بني كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهو القاسم التميمي المذكور قبل، قال وأنا لحديث القاسم أحفظ عن زهدم. وفي رواية العتكي وعن القاسم بن عاصم كلاهما عن زهدم، قال أيوب: وأنا لحديث القاسم أحفظ. قوله: "كنا عند أبي موسى" أي الأشعري، ونسب كذلك في رواية عبد الوارث. قوله: "وكان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء ومعروف" في رواية الكشميهني: "وكان بيننا وبينهم هذا الحي إلخ" وهو كالأول لكن زاد الضمير وقدمه على ما يعود عليه. قال الكرماني: كان حق العبارة أن يقول بيننا وبينه أي أبي موسى يعني لأن زهدما من جرم فلو كان من الأشعريين لاستقام الكلام، قال: وقد تقدم على الصواب في "باب لا تحلفوا بآبائكم" حيث قال: "كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين" ثم حمل ما وقع هنا على أنه جعل نفسه من قوم أبي موسى لكونه من أتباعه فصار كواحد من الأشعريين فأراد

(11/610)


بقوله بيننا أبا موسى وأتباعه وأن بينهم وبين الجرميين ما ذكر من الإخاء وغيره، وتقدم بيان ذلك أيضا في كتاب الذبائح. قلت: وقد تقدم في رواية عبد الوارث في الذبائح بلفظ هذا الباب إلى قوله: "إخاء" وقد أخرجه أحمد وإسحاق في مسنديهما عن إسماعيل بن علية الذي أخرجه البخاري من طريقه ولم يذكر هذا الكلام بل اقتصر على قوله: "كنا عند أبي موسى فقدم طعامه" نعم أخرجه النسائي عن علي بن حجر شيخ البخاري فيه بقصة الدجاج وقول الرجل ولم يسق بقيته، وقوله: "إخاء" بكسر أوله وبالخاء المعجمة والمد أي صداقة، وقوله: "ومعروف" أي إحسان. ووقع في رواية عبد الوهاب الثقفي الماضية قريبا "ود وإخاء" وقد ذكر بيان سبب ذلك في "باب قدوم الأشعريين" من أواخر المغازي من طريق، عبد السلام بن حرب عن أيوب، وأول الحديث عنده "لما قدم أبو موسى الكوفة أكرم هذا الحي من جرم" وذكرت هناك نسب جرم إلى قضاعة. قوله: "فقدم طعامه" أي وضع بين يديه، في رواية الكشميهني: "طعام" بغير ضمير، ومضى في "باب قدوم الأشعريين" بلفظ: "وهو يتغذى لحم دجاج" ويستفاد من الحديث جواز أكل الطيبات على الموائد واستخدام الكبير من يباشر له نقل طعامه ووضعه بين يديه، قال القرطبي: ولا يناقض ذلك الزهد ولا ينقصه خلافا لبعض المتقشفة. قلت: والجواز ظاهر، وأما كونه لا ينقص الزهد ففيه وقفة. قوله: "وقدم في طعامه لحم دجاج" ذكر ضبطه في "باب لحم الدجاج" من كتاب الذبائح وأنه اسم جنس، وكلام الحربي في ذلك، ووقع في فرض الخمس بلفظ: "دجاجة" وزعم الداودي أنه يقال للذكر والأنثى واستغربه ابن التين. قوله: "وفي القوم رجل من بني تيم الله" هو اسم قبيلة يقال لهم أيضا تيم اللات وهم من قضاعة، وقد تقدم الكلام على ما قيل في تسمية هذا الرجل مستوفى في كتاب الذبائح. قوله: "أحمر كأنه مولى" تقدم في فرض الخمس "كأنه من الموالي" قال الداودي: يعني أنه من سبي الروم، كذا قال فإن كان اطلع على نقل في ذلك وإلا فلا اختصاص لذلك بالروم دون الفرس أو النبط أو الديلم. قوله: "فلم يدن" أي لم يقرب من الطعام فيأكل منه، زاد عبد الوارث في روايته في الذبائح "فلم يدن من طعامه". قوله: "ادن" بصيغة فعل الأمر. وفي رواية عبد السلام "هلم" في الموضعين، وهو يرجع إلى معنى ادن، كذا في رواية حماد عن أيوب، ولمسلم من هذا الوجه "فقال له هلم فتلكأ" بمثناة ولام مفتوحتين وتشديد أي تمنع وتوقف وزنه ومعناه. قوله: "يأكل شيئا قذرته" بكسر الذال المعجمة وقد تقدم بيان ذلك وحكم أكل لحم الجلالة والخلاف فيه في كتاب الذبائح مستوفى. قوله: "أخبرك عن ذلك" أي عن الطريق في حل اليمين، فقص قصة طلبهم الحملان والمراد منه ما في آخره من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" ومعنى تحللتها فعلت ما ينقل المنع الذي يقتضيه إلى الإذن فيصير حلالا، وإنما يحصل ذلك بالكفارة، وأما ما زعم بعضهم أن اليمين تتحلل بأحد أمرين إما الاستثناء وإما الكفارة فهو بالنسبة إلى مطلق اليمين لكن الاستثناء إنما يعتبر في أثناء اليمين قبل كمالها وانعقادها والكفارة تحصل بعد ذلك، ويؤيد أن المراد بقوله تحللتها كفرت عن يميني وقوع التصريح به في رواية حماد بن زيد وعبد السلام وعبد الوارث وغيرهم. قوله: "أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين" ووقع في رواية عبد السلام بن حرب عن أيوب بلفظ: "إنا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الأشعريين" فاستدل به ابن مالك لصحة قول الأخفش يجوز أن يبدل من ضمير الحاضر بدل كل من كل وحمل عليه قوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} قال ابن مالك: واحترزت بقولي بدل كل من كل عن البعض والاشتمال فذلك جائز

(11/611)


اتفاقا، ولما حكاه الطيبي أقره وقال: هو عند علماء البديع يسمى التجريد. قلت: وهذا لا يحسن الاستشهاد به إلا لو اتفقت الرواة، والواقع أنه بهذا اللفظ انفرد به عبد السلام، وقد أخرجه البخاري في مواضع أخرى بإثبات "في" فقال في معظمها "في رهط" كما هي رواية ابن علية عن أيوب هنا، وفي بعضها "في نفر" كما هي رواية حماد عن أيوب في فرض الخمس. قوله: "يستحمله" أي يطلب منه ما يركبه، ووقع عند مسلم من طريق أبي السليل بفتح المهملة ولامين الأولى مكسورة عن زهدم عن أبي موسى "كنا مشاة فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله" وكان ذلك في غزوة تبوك كما تقدم في أواخر المغازي. قوله: "وهو يقسم نعما" بفتح النون والمهملة. قوله: "قال أيوب أحسبه قال وهو غضبان" هو موصول بالسند المذكور، ووقع في رواية عبد الوارث عن أيوب "فوافقته وهو غضبان وهو يقسم نعما من نعم الصدقة" وفي رواية وهيب عن أيوب عن أبي عوانة في صحيحه "وهو يقسم ذودا من إبل الصدقة" وفي رواية بريد بن أبي بردة الماضية قريبا في "باب اليمين فيما لا يملك" عن أبي موسى "أرسلني أصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان فقال: لا أحملكم على شيء فوافقته وهو غضبان" ويجمع بأن أبا موسى حضر هو والرهط فباشر الكلام بنفسه عنهم. قوله: "والله لا أحملكم" قال القرطبي: فيه جواز اليمين عند المنع ورد السائل الملحف عند تعذر الإسعاف وتأديبه بنوع من الإغلاظ بالقول. قوله: "فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل" بفتح النون وسكون الهاء بعدها موحدة أي غنيمة، وأصله ما يؤخذ اختطافا بحسب السبق إليه على غير تسوية بين الآخذين، وتقدم في الباب الذي قبله من طريق غيلان بن جرير عن أبي بردة عن موسى بلفظ: "فأتى بإبل" وفي رواية: "شائل" وتقدم الكلام عليها. وفي رواية بريد عن أبي بردة أنه صلى الله عليه وسلم ابتاع الإبل التي حمل عليها الأشعريين من سعد، وفي الجمع بينها وبين رواية الباب عسر، لكن يحتمل أن تكون الغنيمة لما حصلت حصل لسعد منها القدر المذكور فابتاع النبي صلى الله عليه وسلم منه نصيبه فحملهم عليه. قوله: "فقيل: أين هؤلاء الأشعريون؟ فأتينا فأمر لنا" في رواية عبد السلام عن أيوب "ثم لم نلبث أن أتى النبي صلى الله عليه وسلم بنهب إبل فأمر لنا" وفي رواية حماد "وأتى بنهب إبل فسأل عنا فقال: أين النفر الأشعريون؟ فأمر لنا" ومثله في رواية عبد الوهاب الثقفي. وفي رواية غيلان بن جرير عن أبي بردة "ثم لبثنا ما شاء الله فأتى" وفي رواية يزيد "فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي: أين عبد الله بن قيس؟ فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته قال خذ". قوله: "فأمر لنا بخمس ذود" تقدم بيان الاختلاف في الباب الذي قبله وطريق الجمع بين مختلف الروايات في ذلك. قوله: "فاندفعنا" أي سرنا مسرعين والدفع السير بسرعة. وفي رواية عبد الوارث "فلبثنا غير بعيد" وفي رواية عبد الوهاب "ثم انطلقنا". قوله: "فقلت لأصحابي" في رواية حماد وعبد الوهاب "قلنا ما صنعنا" وفي رواية غيلان عن أبي بردة "فلما انطلقنا قال بعضنا لبعض" وقد عرف من رواية الباب البادئ بالمقالة المذكورة. قوله: "نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، والله لئن تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح أبدا" في رواية عبد السلام "فلما قبضناها قلنا تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح أبدا" ونحوه في رواية عبد الوهاب ومعنى "تغفلنا" أخذنا منه ما أعطانا في حال غفلته عن يمينه من غير أن نذكره بها ولذلك خشوا. وفي رواية حماد "فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ لا يبارك لنا" ولم يذكر النسيان أيضا. وفي رواية غيلان "لا يبارك الله لنا" وخلت رواية يزيد عن هذه الزيادة كما خلت عما بعدها إلى آخر الحديث، ووقع في روايته من الزيادة قول أبي موسى لأصحابه "لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم

(11/612)


إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني في منعهم أولا وإعطائهم ثانيا إلى آخر القصة المذكورة ولم يذكر حديث: "لا أحلف على يمين إلخ"، قال القرطبي: فيه استدراك جبر خاطر السائل الذي يؤدب على الحاجة بمطلوبه إذا تيسر، وأن من أخذ شيئا يعلم أن المعطى لم يكن راضيا بإعطائه لا يبارك له فيه. قوله: "فظننا أو فعرفنا أنك نسيت يمينك، قال: "انطلقوا فإنما حملكم الله" في رواية حماد "فنسيت. قال لست أنا أحملكم ولكن الله حملكم" وفي رواية عبد السلام "فأتيته فقلت: يا رسول الله إنك حلفت أن لا تحملنا وقد حملتنا، قال: أجل" ولم يذكر "ما أنا حملتكم" إلخ. وفي رواية غيلان "ما أنا حملتكم بل الله حملكم" ولأبي يعلى من طريق فطر عن زهدم "فكرهنا أن نمسكها، فقال: إني والله ما نسيتها" وأخرجه مسلم عن الشيخ الذي أخرجه عنه أبو يعلى ولم يسق منه إلا قوله: "قال والله ما نسيتها". قوله: "إني والله إن شاء الله إلخ" تقدم بيانه في الباب الذي قبله. قوله: "لا أحلف على يمين" أي محلوف يمين، فأطلق عليه لفظ يمين للملابسة والمراد ما شأنه أن يكون محلوفا عليه؛ فهو من مجاز الاستعارة، ويجوز أن يكون فيه تضمين فقد وقع في رواية لمسلم: "على أمر"، ويحتمل أن يكون "على" بمعنى الباء، فقد وقع في رواية النسائي: "إذا حلفت بيمين" ورجح الأول بقوله: "فرأيت غيرها خيرا منها" لأن الضمير في غيرها لا يصح عوده على اليمين، وأجيب بأنه يعود على معناها المجازي للملابسة أيضا. وقال ابن الأثير في النهاية: الحلف هو اليمين فقوله أحلف أي أعقد شيئا بالعزم والنية، وقوله: "على يمين" تأكيد لعقده وإعلام بأنه ليست لغوا. قال الطيبي: ويؤيده رواية النسائي بلفظ: "ما على الأرض يمين أحلف عليها" الحديث، قال: فقوله أحلف عليها صفة مؤكدة لليمين، قال: والمعنى لا أحلف يمينا جزما لا لغو فيها ثم يظهر لي أمر آخر يكون فعله أفضل من المضي في اليمين المذكورة إلا فعلته وكفرت عن يميني، قال: فعلى هذا يكون قوله: "على يمين" مصدرا مؤكدا لقوله أحلف. تكملة: اختلف هل كفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه المذكور كما اختلف هل كفر في قصة حلفه على شرب العسل أو على غشيان مارية، فروي عن الحسن البصري أنه قال: لم يكفر أصلا لأنه مغفور له، وإنما نزلت كفارة اليمين تعليما للأمة، وتعقب بما أخرجه الترمذي من حديث عمر في قصة حلفه على العسل أو مارية، فعاتبه الله وجعل له كفارة يمين، وهذا ظاهر في أنه كفر وإن كان ليس نصا في رد ما ادعاه الحسن، وظاهر أيضا في حديث الباب: "وكفرت عن يميني" أنه لا يترك ذلك، ودعوى أن ذلك كله للتشريع بعيد. قوله: "وتحللتها" كذا في رواية حماد وعبد الوارث وعبد الوهاب كلهم عن أيوب، ولم يذكر في رواية عبد السلام "وتحللتها" وكذا لم يذكرها أبو السليل عن زهدم عند مسلم، ووقع في رواية غيلان عن أبي بردة "إلا كفرت عن يميني" بدل "وتحللتها" وهو يرجح أحد احتمالين أبداهما ابن دقيق العيد ثانيهما إتيان ما يقتضي الحنث فإن التحلل يقتضي سبق العقد والعقد هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها، فيكون التحلل الإتيان بخلاف مقتضاها، لكن يلزم على هذا أن يكون فيه تكرار لوجود قوله: "أتيت الذي هو خير" فإن إتيان الذي هو خير تحصل به مخالفة اليمين والتحلل منها، لكن يمكن أن تكون فائدته التصريح بالتحلل، وذكره بلفظ يناسب الجواز صريحا ليكون أبلغ مما لو ذكره بالاستلزام، وقد يقال إن الثاني أقوى لأن التأسيس أولى من التأكيد، وقيل معنى "تحللتها" خرجت من حرمتها إلى ما يحل منها وذلك يكون بالكفارة، وقد يكون بالاستثناء بشرطه السابق، لكن لا يتجه في هذه القصة إلا إن كان وقع منه استثناء لم يشعروا به كأن يكون قال إن شاء الله مثلا أو قال والله لا أحملكم إلا إن حصل

(11/613)


شيء ولذلك قال: "وما عندي ما أحملكم" قال العلماء في قوله: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم" المعنى بذلك إزالة المنة عنهم وإضافة النعمة لمالكها الأصلي، ولم يرد أنه لا صنع له أصلا في حملهم لأنه لو أراد ذلك ما قال بعد ذلك "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت" وقال المازري: معنى قوله: "إن الله حملكم" إن الله أعطاني ما حملتكم عليه ولولا ذلك لم يكن عندي ما حملتكم عليه، وقيل يحتمل أنه كان نسي يمينه والناسي لا يضاف إليه الفعل، ويرده التصريح بقوله: "والله ما نسيتها" وهي عند مسلم كما بينته، وقيل المراد بالنفي عنه والإثبات لله الإشارة إلى ما تفضل الله به من الغنيمة المذكورة لأنها لم تكن بتسبب من النبي صلى الله عليه وسلم ولا كان متطلعا إليها ولا منتظرا لها، فكان المعنى ما أنا حملتكم لعدم ذلك أولا ولكن الله حملكم بما ساقه إلينا من هذه الغنيمة. قوله: "تابعه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم بن عاصم الكليبي" قال الكرماني: إنما أتى بلفظ تابعه أولا وبحدثنا ثانيا وثالثا إشارة إلى أن الأخيرين حدثاه بالاستقلال والأول مع غيره، قال: والأول يحتمل التعليق بخلافهما. قلت: لم يظهر لي معنى قوله: "مع غيره" وقوله: "يحتمل التعليق" يستلزم أنه يحتمل عدم التعليق، وليس كذلك بل هو في حكم التعليق لأن البخاري لم يدرك حمادا، وقد وصل المصنف متابعة حماد بن زيد في فرض الخمس، ثم إن هذه المتابعة وقعت في الرواية عن القاسم فقط ولكن زاد حماد ذكر أبي قلابة مضموما إلى القاسم. قوله: "حدثنا قتيبة حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي. قوله: "بهذا" أي بجميع الحديث، وقد أشرت إلى أن رواية حماد وعبد الوهاب متفقتان في السياق، وقد ساق رواية قتيبة هذه في "باب لا تحلفوا بآبائكم" تامة، وقد ساقها أيضا في أواخر كتاب التوحيد عن عبد الله ابن عبد الوهاب الحجبي عن الثقفي وليس بعد الباب الذي ساقها فيه من البخاري سوى بابين فقط. قوله: "حدثنا أبو معمر" تقدم سياق روايته في كتاب الذبائح، وقد بينت ما في هذه الروايات من التخالف مفصلا. وفي الحديث غير ما تقدم ترجيح الحنث في اليمين إذا كان خيرا من التمادي، وأن تعمد الحنث في مثل ذلك يكون طاعة لا معصية، وجواز الحلف من غير استحلاف لتأكيد الخبر ولو كان مستقبلا وهو يقتضي المبالغة في ترجيح الحنث بشرطه المذكور، وفيه تطييب قلوب الأتباع، وفيه الاستثناء بإن شاء الله تبركا، فإن قصد بها حل اليمين صح بشرطه المتقدم. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله" هو محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذهلي الحافظ المشهور فيما جزم به المزي وقال: نسبه إلى جده. وقال أبو علي الجياني: لم أره منسوبا في شيء من الروايات. قلت: وقد روى البخاري في بدء الخلق عن محمد بن عبد الله المخرمي عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج وهما من هذه الطبقة، وروى أيضا في عدة مواضع عن محمد بن عبد الله بن حوشب ومحمد بن عبد الله بن نمير ومحمد بن عبد الله الرقاشي وهم أعلى من طبقة المخرمي ومن معه، وروي أيضا بواسطة تارة وبغير واسطة أخرى عن محمد بن عبد الله الأنصاري وهو أعلى من طبقة ابن نمير ومن ذكر معه، فقد ثبت هذا الحديث بعينه من روايته عن ابن عون شيخ عثمان بن عمر شيخ محمد بن عبد الله المذكور في هذا الباب، فعلى هذا لم يتعين من هو شيخ البخاري في هذا الحديث، وابن عون هو عبد الله البصري المشهور، وقوله في آخر الحديث: "تابعه أشهل" بالمعجمة وزن أحمر "عن ابن عون" وقعت روايته موصولة عند أبي عوانة والحاكم والبيهقي من طريق أبي قلابة الرقاشي "حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري وأشهل بن حاتم قالا أنبأنا ابن عون به". قوله: "وتابعه يونس وسماك بن عطية وسماك بن حرب وحميد

(11/614)


وقتادة ومنصور وهشام والربيع" يريد أن الثمانية تابعوا ابن عون فرووه عن الحسن، فالضمير في قوله أولا "تابعه أشهل" لعثمان بن عمر، والضمير في قوله ثانيا "وتابعه يونس" وما بعده لعبد الله بن عون شيخ عثمان بن عمر، ووقع في نسخة من رواية أبي ذر "وحميد عن قتادة" وهو خطأ والصواب "وحميد وقتادة" بالواو وكذا وقع في رواية النسفي عن البخاري وكذا في رواية من وصل هذه المتابعات، فأما رواية يونس وهو ابن عبيد فستأتي موصولة في كتاب الأحكام، وأما متابعة سماك بن عطية فوصلها مسلم من طريق حماد بن زيد عنه وعن يونس جميعا عن الحسن. وقال البزار: ما رواه عن سماك بن عطية إلا حماد، ولا روى سماك هذا عن الحسن إلا هذا. وأما متابعة سماك بن حرب فوصلها عبد الله بن أحمد في زياداته والطبراني في الكبير من طريق حماد بن زيد عنه عن الحسن، وأما متابعة حميد وهو الطويل ومنصور هو ابن زاذان فوصلها مسلم من طريق هشيم عنهما، قال البزار وتبعه الطبراني في الأوسط: لم يروه عن منصور بن زاذان إلا هشيم، ولا روى منصور هذا عن الحسن إلا هذا الحديث. قلت: ويحتمل أن يكون مراد البخاري بمنصور منصور بن المعتمر، وقد أخرجه النسائي من طريقه من رواية جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن الحسن، قال البزار أيضا: لم يرو منصور بن المعتمر عن الحسن إلا هذا. وأما متابعة قتادة فوصلها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه. وأما رواية هشام وهو ابن حسان فأخرجها أبو نعيم في "المستخرج على مسلم" من طريق حماد بن زيد عن هشام عن الحسن ووقع لنا في "الغيلانيات" من وجه آخر عن هشام ومطر الوراق جميعا عن الحسن وهو عند أبي عوانة في صحيحه من هذا الوجه. وأما حديث الربيع فقد جزم الدمياطي في حاشيته بأنه ابن مسلم، والذي يغلب على ظني أنه ابن صبيح، فقد وقع لنا في "الشرانيات" من رواية شبابة عن الربيع بن صبيح بوزن عظيم عن الحسن، وأخرجه أبو عوانة من طريق الأسود بن عامر عن الربيع بن صبيح، وأخرجه الطبراني من رواية مسلم بن إبراهيم حدثنا قرة بن خالد والمبارك بن فضالة والربيع بن صبيح قالوا حدثنا الحسن به، ووقع لنا من رواية الربيع غير منسوب عن الحسن أخرجه الحافظ يوسف بن خليل في الجزء الذي جمع فيه طرق هذا الحديث من طريق وكيع عن الربيع عن الحسن. وهذا يحتمل أن يكون هو الربيع ابن صبيح المذكور ويحتمل أن يكون الربيع بن مسلم. وقد روي هذا الحديث عن الحسن غير من ذكر جرير بن حازم وتقدمت روايته في أول كتاب الأيمان والنذور، وأخرجه مسلم من رواية معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن الحسن. ولما أخرج طريق سماك بن عطية قرنها بيونس بن عبيد وهشام بن حسان وقال: في آخرين. وأخرجه أبو عوانة من طريق علي بن زيد بن جدعان ومن طريق إسماعيل بن مسلم ومن طريق إسماعيل بن أبي خالد كلهم عن الحسن، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن نحو الأربعين من أصحاب الحسن منهم من لم يتقدم ذكره يزيد بن إبراهيم وأبو الأشهب واسمه جعفر بن حيان وثابت البناني وحبيب بن الشهيد وخليد بن دعلج وأبو عمرو ابن العلاء ومحمد بن نوح وعبد الرحمن السراج وعرفطة والمعلى بن زياد وصفوان بن سليم ومعاوية بن عبد الكريم وزياد مولى مصعب وسهل السراج وشبيب بن شيبة وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ومحمد بن عقبة والأشعث ابن سوار والأشعث بن عبد الملك والحسن بن دينار والحسن بن ذكوان وسفيان بن حسين والسري بن يحيى وأبو عقيل الدورقي وعباد بن راشد وعباد بن كثير، فهؤلاء الأربعة وأربعون نفسا. وقد خرج طرقه الحافظ عبد القادر الرهاوي في الأربعين

(11/615)


البلدانية له عن سبعة وعشرين نفسا من الرواة عن الحسن، فيهم ممن لم يتقدم ذكره يحيى بن أبي كثير وجرير بن حازم وإسرائيل أبو موسى ووائل بن داود وعبد الله بن عون وقرة بن خالد وأبو خالد الجزار وأبو عبيدة الباجي وخالد الحذاء وعوف الأعرابي وحماد بن نجيح ويونس بن يزيد ومطر الوراق وعلي بن رفاعة ومسلم بن أبي الذيال والعوام بن جويرية وعقيل بن صبيح وكثير بن زياد وسودة بن أبي العالية ثم قال: رواه عن الحسن العدد الكثير من أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام ولعلهم يزيدون على الخمسين، ثم خرج طرقه الحافظ يوسف ابن خليل عن أكثر من ستين نفسا عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة، وسرد الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله بن منده في تذكرته أسماء من رواه عن الحسن فبلغوا مائة وثمانين نفسا وزيادة ثم قال: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن سمرة عبد الله بن عمرو وأبو موسى وأبو الدرداء وأبو هريرة وأنس وعدي بن حاتم وعائشة وأم سلمة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وعمران بن حصين انتهى. ولما أخرج الترمذي حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: "وفي الباب" فذكر الثمانية المذكورين أولا وأهمل خمسة، واستدركهم شيخنا في شرح الترمذي إلا ابن مسعود وابن عمر وزاد معاوية بن الحكم وعوف بن مالك الجشمي والد أبي الأحوص وأذينة والد عبد الرحمن فكملوا ستة عشر نفسا. قلت: أحاديث المذكورين كلها فيما يتعلق باليمين، وليس في حديث أحد منهم "لا تسأل الإمارة" لكن سأذكر من روى معنى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. ولم يذكر ابن منده أن أحدا رواه عن عبد الرحمن بن سمرة غير الحسين، لكن ذكر عبد القادر أن محمد بن سيرين رواه عن عبد الرحمن، ثم أسند من طريق أبي عامر الخراز عن الحسن وابن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة" الحديث. وقال: غريب ما كتبته إلا من هذا الوجه، والمحفوظ رواية الحسن عن عبد الرحمن انتهى. وهذا مع ما في سنده من ضعف ليس فيه التصريح برواية ابن سيرين عن عبد الرحمن، وأخرجه يوسف بن خليل الحافظ من رواية عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الرحمن بن سمرة أورده من المعجم الأوسط للطبراني وهو في ترجمة محمد بن علي المروزي بسنده إلى عكرمة قال: كان اسم عبد الرحمن بن سمرة عبد كلوب فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن فمر به وهو يتوضأ فقال: "تعال يا عبد الرحمن لا تطلب الإمارة" الحديث، وهذا لم يصرح فيه عكرمة بأنه حمله عن عبد الرحمن لكنه محتمل، قال الطبراني: لم يروه عن عكرمة إلا عبد الرحمن بن كيسان ولا عنه إلا ابنه إسحاق تفرد به أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب. قلت: عبد الله بن كيسان ضعفه أبو حاتم الرازي، وابنه إسحاق لينه أبو أحمد الحاكم. قوله: "عن عبد الرحمن بن سمرة" في رواية إبراهيم بن صدقة عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عبد الرحمن ابن سمرة وكان غزا معه كإبل شنؤة أو شنؤتين أخرجه أبو عوانة في صحيحه، وكذا للطبراني من طريق أبي حمزة إسحاق بن الربيع عن الحسن لكن بلفظ: "غزونا مع عبد الرحمن بن سمرة" وأخرجه أيضا من طريق علي بن زيد عن الحسن "حدثني عبد الرحمن بن سمرة" ومن طريق المبارك بن فضالة عن الحسن "حدثنا عبد الرحمن". قوله: "لا تسأل الإمارة" سيأتي شرحه في الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله: "وإذا حلفت على يمين" تقدم توجيهه في الكلام على حديث أبي موسى قريبا في قوله: "لا أحلف على يمين" وقد اختلف فيما تضمنه حديث عبد الرحمن بن سمرة هل لأحد الحكمين تعلق بالآخر أو لا؟ فقيل: له به تعلق، وذلك أن أحد الشقين

(11/616)


أن يعطى الإمارة من غير مسألة فقد لا يكون له فيها أرب فيمتنع فيلزم فيحلف فأمر أن ينظر ثم يفعل الذي هو أولى فإن كان في الجانب الذي حلف على تركه فيحنث ويكفر، ويأتي مثله في الشق الآخر. قوله: "فرأيت غيرها" أي غير المحلوف عليه، وظاهر الكلام عود الضمير على اليمين، ولا يصح عوده على اليمين بمعناها الحقيقي بل بمعناها المجازي كما تقدم، والمراد بالرؤية هنا الاعتقادية لا البصرية، قال عياض: معناه إذا ظهر له أن الفعل أو الترك خير له في دنياه أو آخرته أو أوفق لمراده وشهوته ما لم يكن إثما. قلت: وقد وقع عند مسلم في حديث عدي بن حاتم "فرأى غيرها أتقى لله فليأت التقوى" وهو يشعر بقصر ذلك على ما فيه طاعة. وينقسم المأمور به أربعة أقسام إن كان المحلوف عليه فعلا فكان الترك أولى، أو كان محلوف عليه تركا فكان الفعل أولى، أو كان كل منهما فعلا وتركا لكن يدخل القسمان الأخيران في القسمين الأولين لأن من لازم فعل أحد الشيئين أو تركه ترك الآخر أو فعله. قوله: "فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" هكذا وقع للأكثر، وللكثير منهم "فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير" وقد ذكر قبل من رواه بلفظ: "ثم ائت الذي هو خير" ووقع في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود "فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن كفارتها تركها" فأشار أبو داود إلى ضعفه وقال: الأحاديث كلها "فليكفر عن يمينه" إلا شيئا لا يعبأ به كأنه يشير إلى حديث يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "من حلف فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير فهو كفارته" ويحيى ضعيف جدا، وقد وقع في حديث عدي بن حاتم عند مسلم ما يوهم ذلك وأنه أخرجه بلفظ: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليترك يمينه" هكذا أخرجه من وجهين ولم يذكر الكفارة، ولكن أخرجه من وجه آخر بلفظ: "فرأى خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير" ومداره في الطرق كلها على عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طريفة عن عدي، والذي زاد ذلك حافظ فهو المعتمد، قال الشافعي: في الأمر بالكفارة مع تعمد الحنث دلالة على مشروعية الكفارة في اليمين الغموس لأنها يمين حانثة. واستدل به على أن الحالف يجب عليه فعل أي الأمرين كان أولى من المضي في حلفه أو الحنث والكفارة، وانفصل عنه من قال إن الأمر فيه للندب بما مضى في قصة الأعرابي الذي قال: "والله لا أزيد على هذا ولا أنقص" فقال: "أفلح إن صدق" فلم يأمره بالحنث والكفارة مع أن حلفه على ترك الزيادة مرجوح بالنسبة إلى فعلها.
"خاتمة": اشتمل كتاب الأيمان والنذور والكفارة والملحقة به من الأحاديث المرفوعة على مائة وسبعة وعشرين حديثا، المعلق منها فيه وفيما مضى ستة وعشرون والبقية موصولة، والمكرر منها فيه وفيما مضى مائة وخمسة عشر والخالص اثنا عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عائشة عن أبي بكر، وحديثها "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، وحديث ابن عباس في قصة أبي إسرائيل، وحديثه "أعوذ بعزتك" وحديث عبد الله بن عمرو في اليمين الغموس، وحديث ابن عمر في نذر وافق يوم عيد. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم عشرة آثار. والله المستعان.

(11/617)


المجلد الثاني عشر
كتاب الفرائض
باب قول الله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ...} الآية
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
85- كِتَاب الْفَرَائِضِ
1- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}
6723- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَبَّ عَلَيَّ وَضُوءَهُ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ"
قوله: "كتاب الفرائض" جمع فريضة كحديقة وحدائق، والفريضة فعيلة بمعنى مفروضة مأخوذة من الفرض. وهو القطع، يقال فرضت لفلان كذا أي قطعت له شيئا من المال قاله الخطابي، وقيل هو من فرض القوس وهو الحز الذي في طرفيه حيث يوضع الوتر ليثبت فيه ويلزمه ولا يزول، وقيل الثاني خاص بفرائض الله وهي ما ألزم به عباده. وقال الراغب: الفرض قطع الشيء الصلب والتأثير فيه وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى :{نَصِيباً مَفْرُوضاً} أي مقدرا أو معلوما أو مقطوعا عن غيرهم. قوله: "وقول الله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أفاد السهيلي أن الحكمة في التعبير بلفظ الفعل المضارع لا بلفظ الفعل الماضي كما في قوله تعالى:{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}و{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} الإشارة إلى أن هذه الآية ناسخة للوصية المكتوبة عليهم كما سيأتي بيانه قريبا في " باب ميراث الزوج: قال: وأضاف الفعل إلى اسم المظهر تنويها بالحكم وتعظيما له وقال: {فِي أَوْلادِكُمْ} ولم يقل بأولادكم إشارة إلى الأمر بالعدل فيهم، ولذلك لم يخص الوصية بالميراث بل أتى باللفظ عاما وهو كقوله:

(12/3)


"لا أشهد على جور" وأضاف الأولاد إليهم مع أنه الذي أوصى بهم إشارة إلى أنه أرحم بهم من آبائهم. قوله: "إلى قوله: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}" كذا لأبي ذر، وأما غيره فساق الآية الأولى وقال بعد قوله عليما حكيما إلى قوله :{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} وذكر فيه حديث جابر "مرضت فعادني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي "فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث" هكذا وقع في رواية قتيبة، وقد تقدم في تفسير سورة النساء أن مسلما أخرجه عن عمرو الناقد عن سفيان وهو ابن عيينة شيخ قتيبة فيه وزاد في آخره {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وبينت هناك أن هذه الزيادة مدرجة وأن الصواب ما أخرجه الترمذي من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة "حتى نزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ" وأما قول البخاري في الترجمة "إلى والله عليم حليم" فأشار به إلى أن مراد جابر من آية الميراث قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} وقد سبق في آخر تفسير النساء ما أخرجه النسائي من وجه آخر عن جابر أن "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" نزلت فيه، وقد أشكل ذلك قديما قال ابن العربي بعد أن ذكر الروايتين في إحداهما فنزلت يستفتونك وفي أخرى آية المواريث: هذا تعارض لم يتفق بيانه إلى الآن ثم أشار إلى ترجيح آية المواريث وتوهيم يستفتونك، ويظهر أن يقال أن كلا من الآيتين لما كان فيها ذكر الكلالة نزلت في ذلك، لكن الآية الأولى لما كانت الكلالة فيها خاصة بميراث الإخوة من الأم كما كان ابن مسعود يقرأ: "وله أخ أو أخت من أم" وكذا قرأ سعد بن أبي وقاص أخرجه البيهقي بسند صحيح استفتوا عن ميراث غيرهم من الإخوة فنزلت الأخيرة، فيصح أن كلا من الآيتين نزل في قصة جابر، لكن المتعلق به من الآية الأولى ما يتعلق بالكلالة، وأما سبب نزول أولها فورد من حديث جابر أيضا في قصة ابنتي سعد بن الربيع ومنع عمهما أن يرثا من أبيهما فنزلت يوصيكم الله الآية فقال للعم أعط ابنتي سعد الثلثين، وقد بينت سياقه من وجه آخر هناك وبالله التوفيق. قد وقع في بعض طرق حديث جابر المذكور في الصحيحين "فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة" وقوله: "فلم يجبني بشيء" استدل به على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجتهد، ورد بأنه لا يلزم من انتظاره الوحي في هذه القصة الخاصة عموم ذلك في كل قصة ولا سيما وهي في مسألة المواريث التي غالبها لا مجال للرأي فيه، سلمنا أنه كان يمكنه أن يجتهد فيها لكن لعله كان ينتظر الوحي أولا فإن لم ينزل اجتهد، فلا يدل على نفي الاجتهاد مطلقا.

(12/4)


2- باب تَعْلِيمِ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ تَعَلَّمُوا قَبْلَ الظَّانِّينَ يَعْنِي الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ
6724- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا"
قوله: "باب تعليم الفرائض، وقال عقبة بن عامر: تعلموا قبل الظانين، يعني الذين يتكلمون بالظن" هذا الأثر لم أظفر به موصولا، وقوله: "قبل الظانين" فيه إشعار بأن أهل ذلك العصر كانوا يقفون عند النصوص ولا يتجاوزونها، وإن نقل عن بعضهم الفتوى بالرأي فهو قليل بالنسبة، وفيه إنذار بوقوع ما حصل من كثرة القائلين بالرأي. وقيل مراده قبل اندراس العلم وحدوث من يتكلم بمقتضى ظنه غير مستند إلى علم. قال ابن المنير: وإنما خص البخاري قول عقبة بالفرائض لأنها أدخل فيه من غيرها، لأن الفرائض الغالب عليها التعبد

(12/4)


وانحسام وجوه الرأي والخوض فيها بالظن لا انضباط له، بخلاف غيرها من أبواب العلم فإن للرأي فيها مجالا والانضباط فيها ممكن غالبا. ويؤخذ من هذا التقرير مناسبة الحديث المرفوع للترجمة. وقيل وجه المناسبة أن فيه إشارة إلى أن النهي عن العمل بالظن يتضمن الحث على العمل بالعلم وذلك فرع تعلمه، وعلم الفرائض يؤخذ غالبا بطريق العلم كما تقدم تقريره. وقال الكرماني: يحتمل أن يقال لما كان في الحديث: "وكونوا عباد الله إخوانا " يؤخذ منه تعلم الفرائض ليعلم الأخ الوارث من غيره، وقد ورد في الحث على تعلم الفرائض حديث ليس على شرط المصنف أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " ورواته موثقون، إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافا كثيرا، فقال الترمذي: إنه مضطرب والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق أبي مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة، وفي أسانيدها عنه أيضا اختلاف، ولفظه عند الترمذي من حديث أبي هريرة " تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم، وإنه أول ما ينزع من أمتي " وفي الباب عن أبي بكرة أخرجه الطبراني في " الأوسط " من طريق راشد الحماني عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رفعه: "تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس، أوشك أن يأتي على الناس زمان يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " وراشد مقبول لكن الراوي عنه مجهول. وعن أبي سعيد الخدري بلفظ "تعلموا الفرائض وعلموها الناس " أخرجه الدار قطني من طريق عطية وهو ضعيف، وأخرج الدارمي عن عمر موقوفا " تعلموا الفرائض كما تعلمون القرآن " وفي لفظ عنه " تعلموا الفرائض فإنها من دينكم " وعن ابن مسعود موقوفا أيضا: "من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض " ورجالها ثقات إلا أن في أسانيدها انقطاعا، قال ابن الصلاح: لفظ النصف في هذا الحديث بمعنى أحد القسمين وإن لم يتساويا، وقد قال ابن عيينة إذ سئل عن ذلك: إنه يبتلى به كل الناس. وقال غيره: لأن لهم حالتين حالة حياة وحالة موت والفرائض تتعلق بأحكام الموت، وقيل لأن الأحكام تتلقى من النصوص ومن القياس والفرائض لا تتلقى إلا من النصوص كما تقدم. ثم ذكر حديث أبي هريرة "إياكم والظن" الحديث وقد تقدم من وجه آخر عن أبي هريرة في " باب ما ينهي عن التحاسد " في أوائل كتاب الأدب، وتقدم شرحه مستوفى وفيه بيان المراد بالظن هنا وأنه الذي لا يستند إلى أصل، ويدخل فيه ظن السوء بالمسلم، وابن طاوس المذكور في السند هو عبد الله.
وانحسام وجوه الرأي والخوض فيها بالظن لا انضباط له، بخلاف غيرها من أبواب العلم فإن للرأي فيها مجالا والانضباط فيها ممكن غالبا. ويؤخذ من هذا التقرير مناسبة الحديث المرفوع للترجمة. وقيل وجه المناسبة أن فيه إشارة إلى أن النهي عن العمل بالظن يتضمن الحث على العمل بالعلم وذلك فرع تعلمه، وعلم الفرائض يؤخذ غالبا بطريق العلم كما تقدم تقريره. وقال الكرماني: يحتمل أن يقال لما كان في الحديث: "وكونوا عباد الله إخوانا " يؤخذ منه تعلم الفرائض ليعلم الأخ الوارث من غيره، وقد ورد في الحث على تعلم الفرائض حديث ليس على شرط المصنف أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " ورواته موثقون، إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافا كثيرا، فقال الترمذي: إنه مضطرب والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق أبي مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة، وفي أسانيدها عنه أيضا اختلاف، ولفظه عند الترمذي من حديث أبي هريرة " تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم، وإنه أول ما ينزع من أمتي " وفي الباب عن أبي بكرة أخرجه الطبراني في " الأوسط " من طريق راشد الحماني عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رفعه: "تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس، أوشك أن يأتي على الناس زمان يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " وراشد مقبول لكن الراوي عنه مجهول. وعن أبي سعيد الخدري بلفظ "تعلموا الفرائض وعلموها الناس " أخرجه الدار قطني من طريق عطية وهو ضعيف، وأخرج الدارمي عن عمر موقوفا " تعلموا الفرائض كما تعلمون القرآن " وفي لفظ عنه " تعلموا الفرائض فإنها من دينكم " وعن ابن مسعود موقوفا أيضا: "من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض " ورجالها ثقات إلا أن في أسانيدها انقطاعا، قال ابن الصلاح: لفظ النصف في هذا الحديث بمعنى أحد القسمين وإن لم يتساويا، وقد قال ابن عيينة إذ سئل عن ذلك: إنه يبتلى به كل الناس. وقال غيره: لأن لهم حالتين حالة حياة وحالة موت والفرائض تتعلق بأحكام الموت، وقيل لأن الأحكام تتلقى من النصوص ومن القياس والفرائض لا تتلقى إلا من النصوص كما تقدم. ثم ذكر حديث أبي هريرة "إياكم والظن" الحديث وقد تقدم من وجه آخر عن أبي هريرة في " باب ما ينهي عن التحاسد " في أوائل كتاب الأدب، وتقدم شرحه مستوفى وفيه بيان المراد بالظن هنا وأنه الذي لا يستند إلى أصل، ويدخل فيه ظن السوء بالمسلم، وابن طاوس المذكور في السند هو عبد الله.

(12/5)


باب قول النبي صلى الله عليه و سلم لا نورث ، ما تركنا صدقة
...
3 -باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ
6725- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ وَالْعَبَّاسَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَيْهِمَا مِنْ فَدَكَ وَسَهْمَهُمَا مِنْ خَيْبَرَ
6726- فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لاَ أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهِ إِلاَّ صَنَعْتُهُ، قَالَ فَهَجَرَتْهُ

(12/5)


فَاطِمَةُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ
6727- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ".
6728- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ فَأَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَأُ فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ قَالَ نَعَمْ فَأَذِنَ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ عَبَّاسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا قَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ فَقَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ذَلِكَ قَالاَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ قَدِيرٌ فَكَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ فَعَمِلَ بِذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ قَالُوا نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ قَالاَ نَعَمْ فَتَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضَهَا فَعَمِلَ بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ أَنَا وَلِيُّ وَلِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا مَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا فَقُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِنْ عَجَزْتُمَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا.
6729- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ".

(12/6)


6730- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَلَيْسَ قَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" ؟
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نورث ما تركنا صدقة" هو بالرفع أي المتروك عنا صدقة وادعى الشيعة أنه بالنصب على أن ما نافية ورد عليهم بأن الرواية ثابتة بالرفع، وعلى التنزل فيجوز النصب على تقدير حذف تقديره ما تركنا مبذول صدقة قاله ابن مالك، وينبغي الإضراب عنه والوقوف مع ما ثبتت به الرواية. وذكر فيه أربعة أحاديث: أحدها حديث أبي بكر في ذلك وقصته مع فاطمة، قد مضى في فرض الخمس مشروحا وسياقه أتم مما هنا، وقوله فيه: "إنما يأكل آل محمد من هذا المال " كذا وقع وظاهره الحصر وأيهم لا يأكلون إلا من هذا المال، وليس ذلك مرادا وإنما المراد العكس وتوجيهه أن من للتبعيض والتقدير إنما يأكل آل محمد بعض هذا المال يعني بقدر حاجتهم وبقيته للمصالح. ثانيها حديث عائشة بلفظ الترجمة، وأورده آخر الباب بزيادة فيه. ثالثها حديث عمر في قصة علي والعباس مع عمر في منازعتهما في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قول عمر لعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بي أبي وقاص والزبير بن العوام: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة " يريد نفسه؟ فقالوا: قد قال ذلك. وفيه أنه قال مثله لعلي وللعباس فقالا كذلك الحديث بطوله، وقد مضى مطولا في فرض الخمس وذكر شرحه هناك. "تنبيهات": الراء من قوله: "لا نورث " بالفتح في الرواية، ولو روي بالكسر لصح المعنى أيضا، وقوله: فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا للأكثر، وفي رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني خاصة، وقوله: لقد أعطاكموه " أي المال في رواية الكشميهني: أعطاكموها أي الخالصة له، وقوله: "فوالله الذي بإذنه" في رواية الكشميهني بحذف الجلالة. رابعها حديث أبي هريرة وإسماعيل شيخه هو ابن أبي أويس المدني ابن أخت مالك وقد أكثر عنه، وأما إسماعيل بن أبان شيخه في الحديث الذي قبله بحديث فلا رواية له عن مالك. قوله: "لا يقتسم" كذا لأبي ذر عن غير الكشميهني وللباقين "لا يقسم" بحذف التاء الثانية، قال ابن التين: الرواية في الموطأ وكذا قرأته في البخاري برفع الميم على أنه خبر والمعنى ليس يقسم، ورواه بعضهم بالجزم كأنه نهاهم إن خلف شيئا لا يقسم بعده، فلا تعارض بين هذا وما تقدم في الوصايا من حديث عمرو بن الحارث الخزاعي "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما" ويحتمل أن يكون الخبر بمعنى النهي فيتحد معنى الروايتين، ويستفاد من رواية الرفع أنه أخبر أنه لا يخلف شيئا مما جرت العادة بقسمته كالذهب والفضة وأن الذي يخلفه من غيرهما لا يقسم أيضا بطريق الإرث بل تقسم منافعه لمن ذكر. قوله: "ورثتي" أي بالقوة لو كنت ممن يورث، أو المراد لا يقسم مال تركه لجهة الإرث فأتى بلفظ: "ورثتي " ليكون الحكم معللا بما به الاشتقاق وهو الإرث، فالمنفي اقتسامهم بالإرث عنه قاله السبكي الكبير. قوله: "ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" تقدم الكلام على المراد بقوله: "عاملي" في أوائل فرض الخمس مع شرح الحديث وحكيت فيه ثلاثة أقوال، ثم وجدت في "الخصائص لابن دحية " حكاية قول رابع أن المراد خادمه وعبر عن العامل على الصدقة بالعامل على النخل وزاد أيضا وقيل الأجير،

(12/7)


ويتحصل من المجموع خمسة أقوال: الخليفة والصانع والناظر والخادم وحافر قبره عليه الصلاة والسلام، وهذا إن كان المراد بالخادم الجنس، وإلا فإن كان الضمير للنخل فيتحد مع الصانع أو الناظر، وقد ترجم المصنف عليه في أواخر الوصايا " باب نفقة قيم الوقف " وفيه إشارة إلى ترجيح حمل العامل على الناظر. ومما يسأل عنه تخصيص النساء بالنفقة والمؤنة بالعامل وهل بينهما مغايرة؟ وقد أجاب عنه السبكي الكبير بأن المؤنة في اللغة القيام بالكفاية والإنفاق بذل القوت، قال: وهذا يقتضي أن النفقة دون المؤنة، والسر في التخصيص المذكور الإشارة إلى أن أزواجه صلى الله عليه وسلم لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة كان لا بد لهن من القوت فاقتصر على ما يدل عليه، والعامل لما كان في صورة الأجير فيحتاج إلى ما يكفيه اقتصر على ما يدل عليه انتهى ملخصا، ويؤيده قول أبي بكر الصديق " إن حرفتي كانت تكفي عائلتي فاشتغلت عن ذلك بأمر المسلمين " فجعلوا له قدر كفايته. ثم قال السبكي: لا يعترض بأن عمر كان فضل عائشة في العطاء لأنه علل ذلك بمزيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها. قلت: وهذا ليس مما بدأ به لأن قسمة عمر كانت من الفتوح، وأما ما يتعلق بحديث الباب ففيما يتعلق بما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يبدأ منه بما ذكر، وأفاد رحمه الله أنه يدخل في لفظ: "نفقة نسائي " كسوتهن وسائر اللوازم وهو كما قال، ومن ثم استمرت المساكن التي كن فيها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم كل واحدة باسم التي كانت فيه، وقد تقدم تقرير ذلك في أول فرض الخمس، وإذا انضم قوله: "إن الذي تخلفه صدقة" إلى أن آله تحرم عليهم الصدقة تحقق قوله: "لا نورث" وفي قول عمر "يريد نفسه" إشارة إلى أن النون في قوله: "نورث" للمتكلم خاصة لا للجمع، وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ: "نحن " لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" الحديث أخرجه عن محمد ابن منصور عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه. وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" بنحو اللفظ المذكور، وأخرجه الدار قطني في "العلل" من رواية أم هانئ عن فاطمة عليها السلام عن أبي بكر الصديق بلفظ: "إن الأنبياء لا يورثون" قال ابن بطال وغيره: ووجه ذلك والله أعلم أن الله بعثهم مبلغين رسالته وأمرهم أن لا يأخذوا على ذلك أجرا كما قال: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} وقال نوح وهود وغيرهما نحو ذلك، فكانت الحكمة في أن لا يورثوا لئلا يظن أنهم جمعوا المال لوارثهم، قال: وقوله تعالى :{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} حمله أهل العلم بالتأويل على العلم والحكمة، وكذا قول زكريا {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} وقد حكى ابن عبد البر أن للعلماء في ذلك قولين وأن الأكثر على أن الأنبياء لا يورثون، وذكر أن ممن قال بذلك من الفقهاء إبراهيم بن إسماعيل بن علية، ونقله عن الحسن البصري عياض في" شرح مسلم: "وأخرج الطبري من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله تعالى حكاية عن زكريا {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} قال: العصبة. ومن قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} قال: يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة، ومن طريق قتادة عن الحسن نحوه لكن لم يذكر المال، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن رفعه مرسلا " رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من يرث ماله". قلت: وعلى تقدير تسليم القود المذكور فلا معارض من القرآن لقول نبينا عليه الصلاة والسلام "لا نورث ما تركنا صدقة" فيكون ذلك من

(12/8)


خصائصه التي أكرم بها، بل قول عمر "يريد نفسه" يؤيد اختصاصه بذلك، وأما عموم قوله تعالى :{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} إلخ فأجيب عنها بأنها عامة فيمن ترك شيئا كان يملكه، وإذا ثبت أنه وقفه قبل موته فلم يخلف ما يورث عنه فلم يورث، وعلى تقدير أنه خلف شيئا مما كان يملكه فدخوله في الخطاب قابل للتخصيص لما عرف من كثرة خصائصه، وقد اشتهر عنه أنه لا يورث فظهر تخصيصه بذلك دون الناس. وقيل الحكمة في كونه لا يورث حسم المادة في تمني الوارث موت المورث من أجل المال، وقيل لكون النبي كالأب لأمته فيكون ميراثه للجميع، وهذا معنى الصدقة العامة. وقال ابن المنير في الحاشية: يستفاد من الحديث أن من قال داري صدقة لا تورث أنها تكون حبسا ولا يحتاج إلى التصريح بالوقف أو الحبس، وهو حسن لكن هل يكون ذلك صريحا أو كناية؟ يحتاج إلى نية، وفي حديث أبي هريرة دلالة على صحة وقف المنقولات وأن الوقف لا يختص بالعقار لعموم قوله: "ما تركت بعد نفقة نسائي " إلخ. ذكر حديث عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" أورده من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة، وهذا الحديث في الموطأ ووقع في رواية ابن وهب عن مالك حدثني ابن شهاب، وفي الموطأ للدار قطني من طريق القعنبي "يسألنه ثمنهن" وكذا أخرجه من طريق جويرية بن أسماء عن مالك. وفي الموطأ أيضا أرسلن عثمان بن عفان إلى أبي بكر الصديق، وفيه فقالت لهن عائشة وفيه: "ما تركنا فهو صدقة" وظاهر سياقه أنه من مسند عائشة، وقد رواه إسحاق بن محمد الفروي عن مالك بهذا السند عن عائشة عن أبي بكر الصديق أورده الدار قطني في الغرائب وأشار إلى أنه تفرد بزيادة أبي بكر في مسنده، وهذا يوافق رواية معمر عن ابن شهاب المذكورة في أول هذا الباب فإن فيه عن عائشة أن أبا بكر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فذكره، فيحتمل أن تكون عائشة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه أبوها ويحتمل أن تكون إنما سمعته من أبيها عن النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلته عن النبي صلى الله عليه وسلم لما طالب الأزواج ذلك والله أعلم.

(12/9)


باب قول النبي صلى الله عليه و سلم (( من ترك مالا فلأهله ))
...
4 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ"
6731- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَلَيْنَا قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ".
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك مالا فلأهله" هذه الترجمة لفظ الحديث المذكور في الباب من طريق أخرى عن أبي سلمة، وأخرجه الترمذي في أول كتاب الفرائض من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وبعده "ومن ترك ضياعا فإلي" وقال بعده: رواه الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أطول من هذا. قوله في السند "عبد الله" هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد، وقد بينت في الكفالة الاختلاف على الزهري في صحابية وأن معمرا انفرد عنه بقوله: "عن جابر" بدل "أبي هريرة". قوله: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" هكذا أورد، مختصرا، وتقدم في الكفالة من طريق عقيل عن ابن شهاب بذكر سببه في أوله ولفظه:

(12/9)


إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بالرجل المتوفى عليه الدين فيقول: "هل ترك لدينه قضاء؟ فإن قيل نعم صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" الحديث، وتقدم في الفرض وفي تفسير الأحزاب من رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة بلفظ: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} " الحديث وفي حديث جابر عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه" وقوله هنا "فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه" يخص ما أطلق في رواية عقيل بلفظ: "فمن توفي من المؤمنين وترك دينا فعلي قضاؤه " وكذا قوله في الرواية الأخرى في تفسير الأحزاب " فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه أو وليه " فعرف أنه مخصوص بمن لم يترك وفاء، وقوله: "فليأتني " أي من يقوم مقامه في السعي في وفاء دينه، أو المراد صاحب الدين، وأما الضمير في قوله: "مولاه " فهو للميت المذكور، وسيأتي بعد قليل من رواية أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "فأنا وليه فلا دعي له " وقد تقدم شرح ما يتعلق بهذا الشق في الكفالة وبيان الحكمة في ترك الصلاة على من مات وعليه دين بلا وفاء وأنه كان إذا وجد من يتكفل بوفائه صلى عليه وأن ذلك كان قبل أن يفتح الفتوح كما في رواية عقيل، وهل كان ذلك من خصائصه أو يجب على ولاة الأمر بعده؟ والراجح الاستمرار، لكن وجوب الوفاء. إنما هو من مال المصالح. ونقل ابن بطال وغيره أنه كان صلى الله عليه وسلم يتبرع بذلك، وعلى هذا لا يجب على من بعده، وعلى الأول قال ابن بطال: فإن لم يعط الإمام عنه من بيت المال لم يحبس عن دخول الجنة لأنه يستحق القدر الذي عليه في بيت المال ما لم يكن دينه أكثر من القدر الذي له في بيت المال مثلا. قلت: والذي يظهر أن ذلك يدخل في المقاصة، وهو كمن له حق وعليه حق، وقد مضى أنهم إذا خلصوا من الصراط حبسوا عند قنطرة بين الجنة والنار يتقاصون المظالم حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فيحمل قوله لا يحبس أي معذبا مثلا والله أعلم. قوله: "ومن ترك مالا فلورثته" أي فهو لورثته وثبتت كذلك هنا في رواية الكشميهني وكذا لمسلم. وفي رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة " فليرثه عصبته من كانوا " ولمسلم من طريق الأعرج عن أبي هريرة " فإلى العصبة من كان " وسيأتي بعد قليل من رواية عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "فما له لموالي العصبة " أي أولياء العصبة، قال الداودي: المراد بالعصبة هنا الورثة لا من يرث بالتعصيب، لأن العاصب في الاصطلاح من له سهم مقدر من المجمع على توريثهم ويرث كل المال إذا انفرد ويرث ما فضل بعد الفروض بالتعصيب، وقيل المراد بالعصبة هنا قرابة الرجل وهم من يلتقي مع الميت في أب ولو علا، سموا بذلك لأنهم يحيطون به يقال عصب الرجل بفلان أحاط به ومن ثم قيل تعصب لفلان أي أحاط به. وقال الكرماني: المراد العصبة بعد أصحاب الفروض، قال: ويؤخذ حكم أصحاب الفروض من ذكر العصبة بطريق الأولى، ويشير إلى ذلك قوله: "من كانوا " فإنه يتناول أنواع المنتسبين إليه بالنفس أو بالغير، قال ويحتمل أن تكون من شرطية.

(12/10)


باب ميراث الولد من أبيه و أمه
...
5- باب مِيرَاثِ الْوَلَدِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِذَا تَرَكَ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ بِنْتًا فَلَهَا النِّصْفُ وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ بُدِئَ بِمَنْ شَرِكَهُمْ فَيُؤْتَى فَرِيضَتَهُ فَمَا بَقِيَ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ

(12/10)


6732- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"
[الحديث 6732- أطرافه في: 6735 ، 6737 ، 6746]
قوله: "باب ميراث الولد من أبيه وأمه" لفظ الولد أعم من الذكر والأنثى ويطلق على الولد للصلب وعلى ولد الولد وإن سفل، قال ابن عبد البر: أصل ما بنى عليه مالك والشافعي وأهل الحجاز ومن وافقهم في الفرائض قول زيد بن ثابت، وأصل ما بنى عليه أهل العراق ومن وافقهم فيها قول علي بن أبي طالب، وكل من الفريقين لا يخالف قول صاحبه إلا في اليسير النادر إذا ظهر له مما يجب عليه الانقياد إليه. قوله: "وقال زيد بن ثابت إلخ" وصله سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة ابن زيد بن ثابت عن أبيه فذكر مثله سواء إلا أنه قال بعد قوله وإن كان معهن ذكر فلا فريضة لأحد منهن ويبدأ بمن شركهم فيعطى فريضته فما بقي بعد ذلك فللذكر مثل حظ الأنثيين، قال ابن بطال: قوله: "وإن كان معهن قال شركهم ولم يقل شركهن فيعطى الأب مثلا فرضه ويقسم ما بقي بين الابن والبنات للذكر مثل حظ الأنثيين، قال: وهذا تأويل حديث الباب وهو قوله ألحقوا الفرائض بأهلها. قوله: "ابن طاوس" هو عبد الله. قوله: "عن ابن عباس" قيل تفرد وهيب بوصله، ورواه الثوري عن ابن طاوس لم يذكر ابن عباس بل أرسله أخرجه النسائي والطحاوي وأشار النسائي إلى ترجيح الإرسال ورجح عند صاحبي " صحيح الموصول " لمتابعة روح بن القاسم وهيبا عندهما ويحيى بن أيوب عند مسلم وزياد بن سعد وصالح عند الدار قطني، واختلف على معمر فرواه عبد الرزاق عنه موصولا أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه ورواه عبد الله بن المبارك عن معمر والثوري جميعا مرسلا أخرجه الطحاوي، ويحتمل أن يكون حمل رواية معمر على رواية الثوري وإنما صححاه لأن الثوري وإن كان أحفظ منهم لكن العدد الكثير يقاومه، وإذا تعارض الوصل والإرسال ولم يرجح أحد الطريقين قدم الوصل والله أعلم. قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها" المراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى وهي النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما والمراد بأهلها من يستحقها بنص القرآن، ووقع في رواية روح ابن القاسم عن ابن طاوس " اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله " أي على وفق ما أنزل في كتابه. قوله: "فما بقي" في رواية روح بن القاسم فما تركت أي أبقت. قوله: "فهو لأولى" في رواية الكشميهني: "فلأولى " بفتح الهمزة واللام بينهما واو ساكنة أفعل تفضيل من الولي بسكون اللام وهو القرب، أي لمن يكون أقرب في النسب إلى المورث، وليس المراد هنا الأحق، وقد حكى عياض أن في رواية ابن الحذاء عن ابن ماهان في مسلم: "فهو لأدنى " بدال ونون وهي بمعنى الأقرب، قال الخطابي: المعنى أقرب رجل من العصبة. وقال ابن بطال: المراد بأولى رجل أن الرجال من العصبة بعد أهل الفروض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد فإن استووا اشتركوا، قال: ولم يقصد في هذا الحديث من يدلي بالآباء والأمهات مثلا لأنه ليس فيهم من هو أولى من غيره إذا استووا في المنزلة، كذا قال ابن المنير. وقال ابن التين إنما المراد به العمة مع العم وبنت الأخ مع ابن الأخ وبنت العم مع

(12/11)


ابن العم وخرج من ذلك الأخ والأخت لأبوين أو لأب فإنهم يرثون بنص قوله تعالى :{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ويستثنى من ذلك من يحجب كالأخ للأب مع البنت والأخت الشقيقة وكذا يخرج الأخ والأخت لأم لقوله تعالى :{فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} وقد نقل الإجماع على أن المراد بها الأخوة من الأم، وسيأتي مزيد في هذا في. "باب ابني عم أحدهما أخ لأم والآخر زوج". قوله: "رجل ذكر" هكذا في جميع الروايات، ووقع في كتب الفقهاء كصاحب النهاية وتلميذه الغزالي " فلأولى عصبة ذكر " قال ابن الجوزي والمنذري: هذه اللفظة ليست محفوظة، وقال ابن الصلاح: فيها بعد عن الصحة من حيث اللغة فضلا عن الرواية فإن العصبة في اللغة اسم للجمع لا للواحد، كذا قال والذي يظهر أنه اسم جنس، ويدل عليه ما وقع في بعض طرق حديث أبي هريرة الذي في الباب قبله " فليرثه عصبته من كانوا " قال ابن دقيق العيد: قد استشكل بأن الأخوات عصبات البنات والحديث يقتضي اشتراط الذكورة في العصبة المستحق للباقي بعد الفروض، والجواب أنه من طريق المفهوم، وقد اختلف هل له عموم؟ وعلى التنزل فيخص بالخبر الدال على أن الأخوات عصبات البنات، وقد استشكل التعبير بذكر بعد التعبير برجل فقال الخطابي: إنما كرر للبيان في نعته بالذكورة ليعلم أن العصبة إذا كان عما أو ابن عم مثلا وكان معه أخت له أن الأخت لا ترث ولا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، وتعقب بأن هذا ظاهر من التعبير بقوله: "رجل " والإشكال باق إلا أن كلامه ينحل إلى أنه للتأكيد، وبه جزم غيره كابن التين قال: ومثله ابن لبون ذكر، وزيفه القرطبي فقال: قيل إنه للتأكيد اللفظي، ورد بأن العرب إنما تؤكد حيث يفيد فائدة إما تعين المعنى في النفس وإما رفع توهم المجاز وليس ذلك موجوداً هنا. وقال غيره: هذا التوكيد لمتعلق الحكم وهو الذكورة، لأن الرجل قد يراد به معنى النجدة والقوة في الأمر، فقد حكى سيبويه مررت برجل رجل أبوه فلهذا احتاج الكلام إلى زيادة التوكيد بذكر حتى لا يظن أن المراد به خصوص البالغ، وقيل خشية أن يظن بلفظ رجل الشخص وهو أعم من الذكر والأنثى. وقال ابن العربي: في قوله ذكر الإحاطة بالميراث إنما تكون للذكر دون الأنثى، ولا: يرد قول من قال إن البنت تأخذ جميع المال لأنها إنما تأخذه بسببين متغايرين والإحاطة مختصة بالسبب الواحد وليس إلا الذكر فلهذا نبه عليه بذكر الذكورية، قال: وهذا لا يتفطن له كل مدع. وقيل إنه احتراز عن الخنثى في الموضعين فلا تؤخذ الخنثى في الزكاة ولا يحرز الخنثى المال إذا انفرد، وقيل للاعتناء بالجنس، وقيل للإشارة إلى الكمال في ذلك كما يقال امرأة أنثى، وقيل لنفي توهم اشتراك الأنثى معه لئلا يحمل على التغليب، وقيل ذكر تنبيها على سبب الاستحقاق بالعصوبة وسبب الترجيح في الإرث ولهذا جعل للذكر مثل حظ الأنثيين وحكمته أن الرجال تلحقهم المؤن كالقيام بالعيال والضيفان وإرفاد القاصدين ومواساة السائلين وتحمل الغرامات وغير ذلك، هكذا قال النووي، وسبقه القاضي عياض فقال: قيل هو على معنى اختصاص الرجال بالتعصيب بالذكورية التي بها القيام على الإناث، وأصله للمازري فإنه قال بعد أن ذكر استشكال ما ورد في هذا وهو رجل ذكر وفي الزكاة ابن لبون ذكر قال والذي يظهر لي أن قاعدة الشرع في الزكاة الانتقال من سن إلى أعلى منها ومن عدد إلى أكثر منه وقد جعل في خمسة وعشرين بنت مخاض وسنا أعلى منها وهو ابن لبون فقد يتخيل أنه على خلاف القاعدة وأن السنين كالسن الواحد لأن ابن اللبون أعلى سنا لكنه أدنى قدرا فنبه بقوله ذكر على أن الذكورية تبخسه حتى يصير مساويا لبنت مخاض مع كونها أصغر سنا منه، وأما في الفرائض

(12/12)


فلما علم أن الرجال هم القائمون بالأمور وفيهم معنى التعصيب وترى لهم العرب ما لا ترى للنساء فعبر بلفظ ذكر إشارة إلى العلة التي لأجلها اختص بذلك، فهما وإن اشتركا في أن السبب في وصف كل منهما بذكر التنبيه على ذلك لكن متعلق التنبيه فيهما مختلف، فإنه في ابن اللبون إشارة إلى النقص وفي الرجل إشارة إلى الفضل، وهذا قد لخصه القرطبي وارتضاه. وقيل إنه وصف لأولى لا لرجل قاله السهيلي وأطال في تقريره وتبجح به فقال: هذا الحديث أصل في الفرائض وفيه إشكال وقد تلقاه الناس أو أكثرهم على وجه لا تصح إضافته إلى من أوتى جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا فقالوا: هو نعت لرجل، وهذا لا يصح لعدم الفائدة لأنه لا يتصور أن يكون الرجل إلا ذكرا وكلامه أجل من أن يشتمل على حشو لا فائدة فيه ولا يتعلق به حكم، ولو كان كما زعموا لنقص فقه الحديث لأنه لا يكون فيه بيان حكم الطفل الذي لم يبلغ سن الرجولية، وقد اتفقوا على أن الميراث يجب له ولو كان ابن ساعة فلا فائدة في تخصيصه بالبالغ دون الصغير، قال: والحديث إنما سبق لبيان من يستحق الميراث من القرابة بعد أصحاب السهام، ولو كان كما زعموا لم يكن فيه تفرقة بين قرابة الأب وقرابة الأم، قال فإذا ثبت هذا فقوله: "أولى رجل ذكر " يريد القريب في النسب الذي قرابته من قبل رجل وصلب لا من قبل بطن ورحم، فالأولى هنا هو ولي الميت فهو مضاف إليه في المعنى دون اللفظ وهو في اللفظ مضاف إلى النسب وهو الصلب فعبر عن الصلب بقوله: "أولى رجل" لأن الصلب لا يكون إلا رجلا فأفاد بقوله: "لأولى رجل" نفي الميراث عن الأولى الذي هو من قبل الأم كالخال، وأفاد بقوله: "ذكر" نفي الميراث عن النساء وإن كن من المدلين إلى الميت من قبل صلب لأنهن إناث، قال: وسبب الإشكال من وجهين أحدهما أنه لما كان مخفوضا ظن نعتا لرجل ولو كان مرفوعا لم يشكل كأن يقال فوارثه أولى رجل ذكر، والثاني أنه جاء بلفظ أفعل وهذا الوزن إذا أريد به التفضيل كان بعض ما يضاف إليه كفلان أعلم إنسان فمعناه أعلم الناس فتوهم أن المراد بقوله: "أولى رجل" أولى الرجال وليس كذلك وإنما هو أولى الميت بإضافته النسب وأولى صلب بإضافته كما تقول هو أخوك أخو الرخاء لا أخو البلاء، قال: فالأولى في الحديث كالولي. فإن قيل كيف يضاف للواحد وليس بجزء منه؟ فالجواب إذا كان معناه الأقرب في النسب جازت إضافته وإن لم يكن جزءا منه كقوله صلى الله عليه وسلم في البر "بر أمك ثم أباك ثم أدناك " قال وعلى هذا فيكون في هذا الكلام الموجز من المتانة وكثرة المعاني ما ليس في غيره، فالحمد لله الذي وفق وأعان انتهى كلامه. ولا يخلو من استغلاق. وقد لخصه الكرماني فقال: ذكر صفة لأولى لا لرجل، والأولى بمعنى القريب الأقرب فكأنه قال: فهو لقريب الميت ذكر من جهة رجل وصلب لا من جهة بطن ورحم، فالأولى من حيث المعنى مضاف إلى الميت، وأشير بذكر الرجل إلى الأولوية فأفاد بذلك نفي الميراث عن الأولى الذي من جهة الأم كالخال، وبقوله ذكر نفيه عن النساء بالعصوبة وإن كن من المدلين للميت من جهة الصلب انتهى. وقد أوردته كما وجدته ولم أحذف منه إلا أمثلة أطال بها وكلمات طويلة تبجح بها بسبب ما ظهر له من ذلك، والعلم عند الله تعالى. قال النووي: أجمعوا على أن الذي يبقى بعد الفروض للعصبة يقدم الأقرب فالأقرب فلا يرث عاصب بعيد مع عاصب قريب، والعصبة كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى، فمتى انفرد أخذ جميع المال، وإن كان مع ذوي فروض غير مستغرقين أخذ ما بقي وإن كان مع مستغرقين فلا شيء له. قال القرطبي: وأما تسمية الفقهاء الأخت مع البنت عصبة فعلى سبيل التجوز لأنها لما كانت في هذه المسألة تأخذ ما فضل عن البنت أشبهت

(12/13)


العاصب، قلت: وقد ترجم البخاري بذلك كما سيأتي قريبا. قال الطحاوي: استدل قوم - يعني ابن عباس ومن تبعه - بحديث ابن عباس على أن من خلف بنتا وأخا شقيقا وأختا شقيقة كان لابنته النصف وما بقي لأخيه ولا شيء لأخته ولو كانت شقيقة، وطردوا ذلك فيما لو كان مع الأخت الشقيقة عصبة فقالوا لا شيء لها مع البنت بل الذي يبقى بعد البنت للعصبة ولو بعدوا، واحتجوا أيضا بقوله تعالى:{ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} قالوا: فمن أعطى الأخت مع البنت خالف ظاهر القرآن. قال: واستدل عليهم بالاتفاق على أن من ترك بنتا وابن ابن وبنت ابن متساويين أن للبنت النصف وما بقي بين ابن الابن وبنت الابن ولم يخصوا ابن الابن بما بقي لكونه ذكرا بل ورثوا معه شقيقته وهي أنثى، قال فعلم بذلك أن حديث ابن عباس ليس على عمومه بل هو في شيء خاص وهو ما إذا ترك بنتا وعما وعمة فإن للبنت النصف وما بقي للعم دون العمة إجماعا قال: فاقتضى النظر ترجيح إلحاق الأخت مع الأخ بالابن والبنت لا بالعم والعمة، لأن الميت لو لم يترك إلا أخا وأختا شقيقتين فالمال بينهما، فكذلك لو ترك ابن ابن وبنت ابن، بخلاف ما لو ترك عما وعمة فإن المال كله للعم دون العمة باتفاقهم، قال: وأما الجواب عما احتجوا به من الآية فهو أنهم أجمعوا على أن الميت لو ترك بنتا وأخا لأب كان للبنت النصف وما بقي للأخ، وأن معنى قوله تعالى :{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} إنما هو ولد يحوز المال كله لا الولد الذي لا يحوز، وأقرب العصبات البنون ثم بنوهم وإن سفلوا ثم الأب ثم الجد والأخ إذا انفرد واحد منهما، فإن اجتمعا فسيأتي حكمه، ثم بنو الإخوة ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأعمام ثم بنوهم وإن سفلوا ومن أدلى بأبوين يقدم على من أدلى بأب لكن يقدم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأبوين ويقدم ابن أخ لأب على عم لأبوين ويقدم عم لأب على ابن عم لأبوين، واستدل به البخاري على أن ابن الابن يحوز المال إذا لم يكن دونه ابن وعلى أن الجد يرث جميع المال. إذا لم يكن دونه أب وعلى أن الأخ من الأم إذا كان ابن عم يرث بالفرض والتعصيب، وسيأتي جميع ذلك والبحث فيه.

(12/14)


6- باب مِيرَاثِ الْبَنَاتِ
6733- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرِضْتُ بِمَكَّةَ مَرَضًا فَأَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَتِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ "قَالَ: لاَ"، قَالَ: قُلْتُ فَالشَّطْرُ، "قَالَ: لاَ" قُلْتُ: الثُّلُثُ قَالَ: "الثُّلُثُ كَبِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَ وَلَدَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آأُخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي فَقَالَ: "لَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلًا تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ رِفْعَةً وَدَرَجَةً وَلَعَلَّ أَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ" قَالَ سُفْيَانُ: وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ

(12/14)


6734- حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ شَيْبَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "أَتَانَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ مُعَلِّمًا وَأَمِيرًا فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَأُخْتَهُ فَأَعْطَى الِابْنَةَ النِّصْفَ وَالأُخْتَ النِّصْفَ"
[الحديث 6734- طرفه في: 6741]
قوله: "باب ميراث البنات" الأصل فيه كما تقدم في أول كتاب الفرائض قوله تعالى :{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقد تقدمت الإشارة إليه وإلى سبب نزولها وأن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون البنات كما حكاه أبو جعفر بن حبيب في "كتاب المحبر" وحكى أن بعض عقلاء الجاهلية ورث البنت لكن سوى بينها وبين الذكر وهو عامر بن جشم بضم الجيم وفتح المعجمة، وقد تمسك بالسبب المذكور من أجاب عن السؤال المشهور في قوله تعالى :{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} حيث قيل ذكر في الآية حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن دون الانفراد وذكر حكم البنت الواحدة في الحالين وكذا حكم ما زاد على البنتين، وقد انفرد ابن عباس بان حكمهما حكم الواحدة وأبى ذلك الجمهور، واختلف في مأخذهم فقيل حكمهما حكم الثلاث فما زاد، ودليله بيان السنة فإن الآية لما كانت محتملة بينت السنة أن حكمهما حكم ما زاد عليهما، وذلك واضح في سبب النزول فإن العم لما منع البنتين من الإرث وشكت ذلك أمهما قال صلى الله عليه وسلم لها " يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل إلى العم فقال: "أعط بنتي سعد الثلثين " فلا يرد على ذلك أنه يلزم منه نسخ الكتاب بالسنة فإنه بيان لا نسخ، وقيل بالقياس على الأختين وهما أولى لما يختص بهما من أنهما أمس رحما بالميت من أختيه فلا يقصر بهما عنهما، وقيل إن لفظ: "فوق" في الآية مقحم وهو غلط، وقال المبرد: يؤخذ من جهة أن أقل عدد يجتمع فيه الصنفان ذكر وأنثى فإن كان للواحدة الثلث كان للبنتين الثلثان، وقال إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن": يؤخذ ذلك من قوله تعالى :{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} لأنه يقتضي أنه إذا كان ذكر وأنثى فللذكر الثلثان وللأنثى الثلث، فإذا استحقت الثلث مع الذكر فاستحقاقها الثلث مع أنثى مثلها بطريق الأولى. وقال السهيلي: يؤخذ ذلك من المجيء بلام التعريف التي للجنس في قوله: "حظ الأنثيين، فإنه يدل على أنهما استحقا الثلثين وأن الواحدة لها مع الذكر الثلث، وكان ظاهر ذلك أنهن لو كن ثلاثا لاستوعبن المال فلذلك ذكر حكم الثلاث فما زاد واستغنى عن إعادة حكم الأنثيين لأنه قد تقدم بدلالة اللفظ. وقال صاحب "الكشاف": وجهه أن الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة فالثنتان كذلك يحوزان الثلثين، فلما ذكر ما دل على حكم الثنتين ذكر بعده حكم ما فوق الثنتين وهو منتزع من كلام القاضي، وقرر الطيبي فقال: اعتبر القاضي الفاء في قوله تعالى :{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} لأن مفهوم ترتيب الفاء ومفهوم الوصف في قوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} مشعران بذلك، فكأنه لما قال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} علم بحسب الظاهر من عبارة النص حكم الذكر مع الأنثى إذا اجتمعا، وفهم منه بحسب إشارة النص حكم الثنتين لأن الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة فالثنتان يحوزان الثلثين، ثم أراد أن يعلم حكم ما زاد على الثنتين فقال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} فمن نظر إلى عبارة النص قال أريد حالة الاجتماع دون الانفراد، ومن نظر إلى إشارة النص قال إن حكم الثنتين حكم الذكر مطلقا. واعترض على هذا التقرير بأنه ثبت بما ذكر أن لهما الثلثين في صورة

(12/15)


ما، وليست هي صورة الاجتماع دائما إذ ليس للبنتين مع الابن الثلثان، والجواب عنه عسر إلا إن انضم إليه أن الحديث بين ذلك، ويعتذر عن ابن عباس بأنه لم يبلغه فوقف مع ظاهر الآية وفهم أن قوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} لانتفاء الزيادة على الثلثين لا لإثبات ذلك للثنتين، وكذا يرد على جواب السهيلي أن الاثنتين لا يستمر الثلثان حظهما في كل صورة والله أعلم. ذكر المصنف في الباب حديث سعد بن أبي وقاص في الوصية بالثلث، وقد مضى شرحه مستوفى في الوصايا، والغرض منه قوله: "وليس يرثني إلا ابنتي " وقد تقدم أن الذي نفاه سعد أولاده وإلا فقد كان له من العصبات من يرثه، وحديث معاذ في توريث البنت والأخت سيأتي شرحه قريبا في " باب ميراث الأخوات مع البنات " من وجه آخر عن الأسود، وأبو النضر المذكور في سنده هو هشام بن هارون في القاسم وشيبان هو ابن عبد الرحمن والأشعث هو ابن أبي الشعثاء سليم المحاربي، وقد أخرجه يزيد بن هارون في "كتاب الفرائض" له عن سفيان الثوري عن أشعث بن أبي الشعثاء عن الأسود بن يزيد قال قضى ابن الزبير في ابنة وأخت فأعطى الابنة النصف وأعطى العصبة بقية المال، فقلت له إن معاذا قضى فيها باليمن فذكره قال فقال له أنت رسولي إلى عبد الله بن عتبة وكان قاضي الكوفة فحدثه بهذا الحديث، وأخرجه الدارمي والطحاوي من طريق الثوري نحوه.

(12/16)


7-باب مِيرَاثِ ابْنِ الِابْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ابْنٌ، وَقَالَ زَيْدٌ وَلَدُ الأَبْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهُمْ وَلَدٌ ذَكَرُهُمْ كَذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ كَأُنْثَاهُمْ يَرِثُونَ كَمَا يَرِثُونَ وَيَحْجُبُونَ كَمَا يَحْجُبُونَ وَلاَ يَرِثُ وَلَدُ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ
6735- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"
قوله: "ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن" أي للميت لصلبه سواء كان أباه أو عمه. قوله: "وقال زيد بن ثابت إلخ" وصله سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة ابن زيد عن أبيه، وقوله: "بمنزلة الولد" أي للصلب وقوله: "إذا لم يكن دونهم" أي بينهم وبين الميت، وقوله: "ولد ذكر" احترز به عن الأنثى، وسقط لفظ ذكر من رواية الأكثر وثبت للكشميهني وهي في رواية سعيد بن منصور المذكورة، وقوله: "يرثون كما يرثون ويحجبون كما يحجبون " أي يرثون جميع المال إذا انفردوا ويحجبون من دونهم في الطبقة ممن بينه وبين الميت مثلا اثنان فصاعدا ولم يرد تشبيههم بهم من كل جهة، وقوله في آخره: "ولا يرث ولد الابن مع الابن" تأكيد لما تقدم، فإن حجب أولاد الابن بالابن إنما يؤخذ من قوله إذا لم يكن دونهم إلى آخره بطريق المفهوم. ثم ذكر حديث ابن عباس "ألحقوا الفرائض بأهلها" قد مضى شرحه قريبا، قال ابن بطال قال أكثر الفقهاء فيمن خلفت زوجا وأبا وبنتا وابن ابن وبنت ابن: تقدم الفروض فللزوج الربع وللأب السدس وللبنت النصف وما بقي بين ولدي الابن للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كانت البنت أسفل من الابن فالباقي له دونها، وقيل الباقي له مطلقا لقوله فما بقي فلأولى رجل ذكر، وتمسك زيد بن ثابت والجمهور بقوله تعالى :{فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقد أجمعوا أن بني البنين ذكورا وإناثا كالبنين عند فقد البنين إذا استووا في التعدد، فعلى هذا تخص هذه الصورة من عموم "فلأولى رجل ذكر".

(12/16)


8- باب مِيرَاثِ ابْنَةِ ابْنِ مَعَ ابنة
6736- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو قَيْسٍ "سَمِعْتُ هُزَيْلَ بْنَ شُرَحْبِيلَ قَالَ: "سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ بِنْتٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْابْنَةِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ، فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ: ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ لاَ تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ"
[الحديث 6736- طرفه في: 6742]
قوله: "باب ميراث ابنة ابن مع ابنة" في رواية الكشميهني: "مع بنت". قوله: "حدثنا أبو قيس" هو عبد الرحمن بن ثروان بفتح المثلثة وسكون الراء، وهزيل بالزاي مصغر ووقع في كتب كثير من الفقهاء هذيل بالذال المعجمة وهو تحريف هو ابن شرحبيل وهو والراوي عنه كوفيان أوديان، ووقع في رواية النسائي من طريق وكيع عن سفيان "عن أبي قيس واسمه عبد الرحمن". قوله: "سئل أبو موسى" في رواية غندر عن شعبة عند النسائي: "جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وهو الأمير وإلى سلمان بن ربيعة الباهلي فسألهما " وكذا أخرجه أبو داود من طريق الأعمش عن أبي قيس لكن لم يقل وهو الأمير، وكذا للترمذي وابن ماجه والطحاوي والدارمي من طرق عن سفيان الثوري بزيادة سلمان بن ربيعة مع أبي موسى، وقد ذكروا أن سلمان المذكور كان على قضاء الكوفة. قوله: "وائت ابن مسعود فسيتابعني" في رواية الأعمش والثوري المشار إليهما "فقال له أبو موسى وسلمان ابن ربيعة" وفيها أيضا: "فسيتابعنا" وهذا قاله أبو موسى على سبيل الظن لأنه اجتهد في المسألة ووافقه سلمان فظن أن ابن مسعود يوافقهما، ويحتمل أن يكون سبب قوله: "ائت ابن مسعود" الاستثبات. قوله: "فقال لقد ضللت إذا" قاله جوابا عن قول أبي موسى أنه سيتابعه، وأشار إلى أنه لو تابعه لخالف صريح السنة عنده وأنه لو خالفها عامدا لضل. قوله: "أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية الدار قطني من طريق حجاج بن أرطاة عن عبد الرحمن بن مروان " فقال ابن مسعود كيف أقول " يعني مثل قول أبي موسى، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره. "فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود" فيه إشارة إلى أن هزيلا الراوي توجه مع السائل إلى ابن مسعود فسمع جوابه فعاد إلى أبي موسى معهم فأخبروه. قوله: "لا تسألوني ما دام هذا الحبر" بفتح المهملة وبكسرها أيضا وسكون الموحدة حكاه الجوهري ورجح الكسر وجزم الفراء بأنه بالكسر وقال سمي باسم الحبر الذي يكتب به، وقال أبو عبيد الهروي هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه وهو بالفتح في رواية جميع المحدثين وأنكر أبو الهيثم الكسر، وقال الراغب سمي العالم حبرا لما يبقى من أثر علومه، وكانت هذه القصة في زمن عثمان هو الذي أمر أبا موسى على الكوفة وكان ابن مسعود قبل ذلك أميرها ثم عزل قبل ولاية أبي موسى عليها بمدة، قال ابن بطال: فيه أن العالم يجتهد إذا ظن أن لا نص في المسألة ولا يتولى الجواب إلى أن يبحث عن ذلك، وفيه أن الحجة عند التنازع سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الرجوع إليها، وفيه ما كانوا عليه من الإنصاف

(12/17)


والاعتراف بالحق والرجوع إليه، وشهادة بعضهم لبعض بالعلم والفضل، وكثرة اطلاع ابن مسعود على السنة، وتثبت أبي موسى في الفتيا حيث دل على من ظن أنه أعلم منه، قال: ولا خلاف بين الفقهاء فيما رواه ابن مسعود، وفي جواب أبي موسى إشعار بأنه رجع عما قاله. وقال ابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أبو موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة الباهلي وقد رجع أبو موسى عن ذلك، ولعل سلمان أيضا رجع كأبي موسى، وسلمان المذكور مختلف في صحبته وله أثر في فتوح العراق أيام عمر وعثمان واستشهد في زمن عثمان وكان يقال له سلمان الخيل لمعرفته بها، واستدل الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا على أن المراد بحديث ابن عباس "فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" من يكون أقرب العصبات إلى الميت، فلو كان هناك عصبة أقرب إلى الميت ولو كانت أنثى كان المال الباقي لها، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأخوات من قبل الأب مع البنت عصبة فصرن مع البنات في حكم الذكور من قبل الإرث، وقال غيره: وجه كون الولد المذكور في قوله تعالى :{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ذكرا أنه الذي يسبق إلى الوهم من قول القائل قال ولد فلان كذا، فأول ما يقع في نفس السامع أن المراد الذكر وإن كان الإناث أيضا أولادا بالحقيقة ولكن هو أمر شائع وقد قال الله تعالى :{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وقال: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ} وقال حكاية عن الكافر الذي قال: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} والمراد بالأولاد والولد في هذه الآي الذكور دون الإناث لأن العرب ما كانت تتكاثر بالبنات فإذا حمل قوله تعالى :{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} على الولد الذكر لم يمنع الأخت الميراث مع البنت، وعلى تقدير أن يكون الولد في الآية أعم فإنه محتمل لأن يراد به العموم على ظاهره وأن يراد به خصوص الذكر فبينت السنة الصحيحة أن المراد به الذكور دون الإناث، قال ابن العربي: يؤخذ من قصة أبي موسى وابن مسعود جواز العمل بالقياس قبل معرفة الخبر، والرجوع إلى الخبر بعد معرفته، ونقض الحكم إذا خالف النص. قلت: ويؤخذ من صنيع أبي موسى أنه كان يرى العمل بالاجتهاد قبل البحث عن النص وهو لائق بمن يعمل بالعام قبل البحث عن المخصص، وقد نقل ابن الحاجب الإجماع على منع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص، وتعقب بأن أبوي إسحاق الإسفرايني والشيرازي حكيا الخلاف، وقال أبو بكر الصيرفي وطائفة: وهو المشهور؛ وعن الحنفية يجب الانقياد للعموم في الحال، وقال ابن شريح وابن خيران والقفال: يجب البحث، قال أبو حامد: وكذا الخلاف في الأمر والنهي المطلق.

(12/18)


باب ميراث الجد مع الأب و الإخوة
...
9- باب مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الأَبِ وَالإِخْوَةِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ الْجَدُّ أَبٌ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {يَا بَنِي آدَمَ - وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ فِي زَمَانِهِ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرِثُنِي ابْنُ ابْنِي دُونَ إِخْوَتِي وَلاَ أَرِثُ أَنَا ابْنَ ابْنِي وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ
6737- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"

(12/18)


6738- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَمَّا الَّذِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ خَلِيلًا لاَتَّخَذْتُهُ وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ" - أَوْ قَالَ - خَيْرٌ فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا أَوْ قَالَ قَضَاهُ – أَبًا
قوله: "باب ميراث الجد مع الأب والإخوة" المراد بالجد هنا من يكون من قبل الأب والمراد بالإخوة الأشقاء ومن الأب، وقد انعقد الإجماع على أن الجد لا يرث مع وجود الأب. قوله: "وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير الجد أب" أي هو أب حقيقة لكن تتفاوت مراتبه بحسب القرب والبعد، وقيل المعنى أنه ينزل منزلة الأب في الحرمة ووجوه البر، والمعروف عن المذكورين الأول، قال يزيد بن هارون في كتاب الفرائض له أخبرنا محمد بن سالم عن الشعبي أن أبا بكر وابن عباس وابن الزبير كانوا يجعلون الجد أبا يرث ما يرث ويحجب ما يحجب، ومحمد بن سالم ضعيف والشعبي عن أبي بكر منقطع، وقد جاء من طريق أخرى، وإذا حمل ما نقله الشعبي على العموم لزم منه خلاف ما أجمعوا عليه في صورة وهي أم الأب إذا علت تسقط بالأب ولا تسقط بالجد، واختلف في صورتين إحداهما أن بني العلات والأعيان يسقطون بالأب ولا يسقطون بالجد إلا عند أبي حنيفة ومن تابعه، والأم مع الأب وأحد الزوجين تأخذ ثلث ما بقي ومع الجد تأخذ ثلث الجميع إلا عند أبي يوسف فقال هو كالأب، وفي الإرث بالولاء صورة ثالثة فيها اختلاف أيضا، فأما قول أبي بكر وهو الصديق فوصله الدارمي بسند على شرط مسلم عن أبي سعيد الخدري أن أبا بكر الصديق جعل الجد أبا، وبسند صحيح إلى أبي موسى أن أبا بكر مثله، وبسند صحيح أيضا إلى عثمان بن عفان أن أبا بكر كان يجعل الجد أبا، وفي لفظ له أنه جعل الجد أبا إذا لم يكن دونه أب وبسند صحيح عن ابن عباس أن أبا بكر كان يجعل الجد أبا، وقد أسند المصنف في آخر الباب عن ابن عباس أن أبا بكر أنزله أبا، وكذا مضى في المناقب موصولا عن ابن الزبير أن أبا بكر أنزله أبا، وأما قول ابن عباس فأخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الفرائض من طريق عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال: الجد أب، وأخرج الدارمي بسند صحيح عن طاوس عنه أنه جعل الجد أبا. وأخرج يزيد بن هارون من طريق ليث عن طاوس أن عثمان وابن عباس كانا يجعلان الجد أبا. وأما قول ابن الزبير فتقدم في المناقب موصولا من طريق ابن أبي مليكة قال: كتب أهل الكوفة إلى ابن الزبير في الجد فقال: إن أبا بكر أنزله أبا، وفيه دلالة على أنه أفتاهم بمثل قول أبي بكر وأخرج يزيد بن هارون من طريق سعيد بن جبير قال: كنت كاتبا لعبد الله بن عتبة فأتاه كتب ابن الزبير أن أبا بكر جعل الجد أبا. قوله: "وقرأ ابن عباس: {يَا بَنِي آدَمَ - وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أما احتجاج ابن عباس بقوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ} فوصله محمد بن نصر من طريق عبد الرحمن بن معقل قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له كيف تقول في الجد؟ قال: أي أب لك أكبر؟ فسكت، وكأنه عيي عن جوابه، فقلت أنا: آدم، فقال أفلا تسمع إلى قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ} أخرجه الدارمي من هذا الوجه. وأما احتجاجه بقوله تعالى :{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي} فوصله سعيد بن منصور من طريق عطاء عن ابن عباس قال: الجد أب وقرأ: { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي} الآية، واحتج بعض من قال بذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب " وإنما هو ابن ابنه. قوله: "ولم يذكر" هو بضم أوله على البناء للمجهول

(12/19)


قوله: "إن أحدا خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون" كأنه يريد بذلك تقوية حجة القول المذكور فإن الإجماع السكوتي حجة وهو حاصل في هذا، وممن جاء عنه التصريح بأن الجد يرث ما كان يرث الأب عند عدم الأب غير من سماه المصنف معاذ وأبو الدرداء وأبو موسى وأبي بن كعب وعائشة وأبو هريرة، ونقل ذلك أيضا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود على اختلاف عنهم كما سيأتي، ومن التابعين عطاء وطاوس وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبو الشعثاء وشريح والشعبي، ومن فقهاء الأنصار عثمان التيمي وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه وداود وأبو ثور والمزني وابن سريح، وذهب عمر وعلي وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الإخوة مع الجد لكن اختلفوا في كيفية ذلك كما سيأتي بيانه. قوله: "وقال ابن عباس يرثني ابن ابني دون أخوتي ولا أرث أنا ابن ابني" وصله سعيد بن منصور من طريق عطاء عنه قال فذكره. قال ابن عبد البر: وجه قياس ابن عباس أن ابن الابن لما كان كالابن عند عدم الابن كان أبو الأب عند عدم الأب كالأب، وقد ذكر من وافق ابن عباس في هذا توجيه قياسه المذكور من جهة أنهم أجمعوا على أنه كالأب في الشهادة له وفي العتق عليه وأنه لا يقتص منه وأنه ذو فرض أو عاصب وعلى أن من ترك ابنا وأبا أن للأب السدس والباقي للابن وكذا لو ترك جدة لأبيه وابنا وعلى أن الجد يضرب مع أصحاب الفروض بالسدس كما يضرب الأب سواء قيل بالعول أم لا، واتفقوا على أن ابن الابن بمنزلة الابن في حجب الزوج عن النصف والمرأة عن الربع والأم عن الثلث كالابن سواء، فلو أن رجلا ترك أبويه وابن ابنه كان لكل من أبويه السدس وأن من ترك أبا جده وعمه أن المال لأبي جده دون عمه فينبغي أن يكون لوالد أبيه دون إخوته فيكون الجد أولى من أولاد أبيه كما أن أباه أولى من أولاد أبيه، وعلى أن الإخوة من الأم لا يرثون مع الجد كما لا يرثون مع الأب فحجبهم الجد كما حجبهم الأب فينبغي أن يكون الجد كالأب في حجب الإخوة وكذا القول في بني الإخوة ولو كانوا أشقاء؛ وقال السهيلي: لم ير زيد بن ثابت لاحتجاج ابن عباس بقوله تعالى :{يَا بَنِي آدَمَ} ونحوها مما ذكر عنه حجة لأن ذلك ذكر في مقام النسبة والتعريف فعبر بالبنوة ولو عبر بالولادة لكان فيه متعلق، ولكن بين التعبير بالولد والابن فرق، ولذلك قال تعالى :{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} ولم يقل في أبنائكم، ولفظ الولد يقع على الذكر والأنثى والواحد والجمع بخلاف الابن، وأيضا فلفظ الولد يليق بالميراث بخلاف الابن تقول ابن فلان من الرضاعة ولا تقول ولده، وكذا كان من يتبنى ولد غيره قال له ابني وتبناه ولا يقول ولدي ولا ولده ومن ثم قال في آية التحريم {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} إذ لو قال وحلائل أولادكم لم يحتج إلى أن يقول من أصلابكم لأن الولد لا يكون إلا من صلب أو بطن. قوله: "ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة" سقط ذكر زيد من شرح ابن بطال فلعله من النسخة، وقد أخذ بقوله جمهور العلماء وتمسكوا بحديث: "أفرضكم زيد" وهو حديث حسن أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من رواية أبي قلابة عن أنس وأعله بالإرسال، ورجحه الدار قطني والخطيب وغيرهما، وله متابعات وشواهد ذكرتها في تخريج أحاديث الرافعي، فأما عمر فأخرج الدارمي بسند صحيح عن الشعبي قال: "أول جد ورث في الإسلام عمر فأخذ ماله، فأتاه علي وزيد - يعني ابن ثابت - فقالا ليس لك ذلك إنما أنت كأحد الأخوين" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن غنم مثله دون قوله: "فأتاه إلخ" لكن قال: "فأراد عمر أن يحتاز المال فقلت له: يا أمير المؤمنين إنهم شجرة دونك، يعني بني أبيه، وأخرج الدار قطني

(12/20)


بسند قوي عن زيد بن ثابت أن عمر أتاه فذكر قصة فيها "أن مثل الجد كمثل شجرة نبتت على ساق واحد فخرج منها غصن ثم خرج من الغصن غصن فإن قطعت الغصن رجع الماء إلى الساق وإن قطعت الثاني رجع الماء إلى الأول، فخطب عمر الناس فقال إن زيدا قال في الجد قولا وقد أمضيته" وأخرج الدارمي من طريق إسماعيل بن أبي خالد قال: "قال عمر خذ من الجد ما اجتمع عليه الناس" وهذا منقطع، وأخرج الدارمي من طريق عيسى الخياط عن الشعبي قال: "كان عمر يقاسم الجد مع الأخ والأخوين فإذا زادوا أعطاه الثلث وكان يعطيه مع الولد السدس" وأخرج البيهقي بسند صحيح عن يونس بن يزيد عن الزهري " حدثني سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وقبيصة بن ذؤيب أن عمر قضى أن الجد يقاسم الإخوة للأب والأم والإخوة للأب ما كانت المقاسمة خيرا له من الثلث، فإن كثر الإخوة أعطى الجد الثلث " وأخرج يزيد ابن هارون في كتاب الفرائض عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة بن عمرو قال: "إني لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضا " وروينا في الجزء الحادي عشر من "فوائد أبي جعفر الرازي" بسند صحيح إلى ابن عون عن محمد بن سيرين " سألت عبيدة عن الجد فقال: قد حفظت عن عمر في الجد مائة قضية مختلفة " وقد استبعد بعضهم هذا عن عمر، وتأول البزار صاحب المسند قوله: "قضايا مختلفة" على اختلاف حال من يرث مع الجد كأن يكون أخ واحد أو أكثر أو أخت واحدة أو أكثر، ويدفع هذا التأويل ما تقدم من قول عبيدة بن عمرو " ينقض بعضها بعضا " وسيأتي عن عمر أقوال أخرى. وأما علي فأخرج ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر بسند صحيح عن الشعبي " كتب ابن عباس إلى علي يسأله عن ستة إخوة وجد، فكتب إليه أن اجعله كأحدهم وامح كتابي " وأخرج الدارمي بسند قوي عن الشعبي قال: "كتب ابن عباس إلى علي - وابن عباس بالبصرة - إني أتيت بجد وستة إخوة، فكتب إليه على أن أعط الجد سبعا ولا تعطه أحدا بعده " وبسند صحيح إلى عبد الله بن سلمة أن عليا كان يجعل الجد أخا حتى يكون سادسا، ومن طريق الحسن البصري أن عليا كان يشرك الجد مع الإخوة إلى السدس، ومن طريق إبراهيم النخعي عن علي نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن الشعبي عن علي أنه أتى في جد وستة إخوة فأعطى الجد السدس، وأخرج يزيد بن هارون في الفرائض له عن محمد بن سالم عن الشعبي عن علي نحوه، ومحمد بن سالم هذا فيه ضعف، وسيأتي عن علي أقوال أخرى، وأخرج الطحاوي من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: حدثت أن عليا كان ينزل بني الإخوة مع الجد منزلة آبائهم ولم يكن أحد من الصحابة يفعله غيره، ومن طريق السري بن يحيى عن الشعبي عن علي كقول الجماعة، وأما عبد الله بن مسعود فأخرج الدارمي بسند صحيح إلى أبي إسحاق السبيعي قال: دخلت على شريح وعنده عامر - يعني الشعبي - وعبد الرحمن بن عبد الله - أي ابن مسعود - في فريضة امرأة منا تسمى العالية تركت زوجها وأمها وأخاها لأبيها وجدها، فذكر قصة فيها فأتيت عبيدة بن عمرو - وكان يقال ليس بالكوفة أعلم بفريضة من عبيدة والحارث الأعور - فسألته فقال: إن شئتم نبأتكم بفريضة عبد الله بن مسعود في هذا فجعل للزوج ثلاثة أسهم النصف وللأم ثلث ما بقي وهو السدس من رأس المال وللأخ سهم وللجد سهم، وروينا في كتاب الفرائض لسفيان الثوري من طريق النخعي قال: كان عمر وعبد الله يكرهان أن يفضلا أما على جد، وأخرج سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة بسند واحد صحيح إلى عبيد بن نضلة قال: كان عمر وابن مسعود يقاسمان الجد مع

(12/21)


الإخوة ما بينه وبين أن يكون السدس خيرا له من مقاسمة الإخوة، وأخرجه محمد بن نصر مثله سواء وزاد: ثم إن عمر كتب إلى عبد الله ما أرانا إلا قد أجحفنا بالجد، فإذا جاءك كتابي هذا فقاسم به مع الإخوة ما بينه وبين أن يكون الثلث خيرا له من مقاسمتهم، فأخذ بذلك عبد الله. وأخرج محمد بن نصر بسند صحيح إلى عبيدة بن عمرو قال: كان يعطى الجد مع الإخوة الثلث، وكان عمر يعطيه السدس، ثم كتب عمر إلى عبد الله: إنا نخاف أن نكون قد أجحفنا بالجد فأعطه الثلث، ثم قدم علي هاهنا - يعني الكوفة - فأعطاه السدس، قال عبيدة فرأيهما في الجماعة أحب إلي من رأى أحدهما في الفرقة. ومن طريق عبيد بن نضلة أن عليا كان يعطي الجد الثلث ثم تحول إلى السدس وأن عبد الله كان يعطيه السدس ثم تحول إلى الثلث. وأما زيد بن ثابت فأخرج الدارمي من طريق الحسن البصري قال: كان زيد يشرك الجد مع الإخوة إلى الثلث، وأخرج البيهقي من طريق ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: أخذ أبو الزناد هذه الرسالة من خارجة بن زيد بن ثابت ومن كبراء آل زيد بن ثابت فذكر قصة فيها: قال زيد بن ثابت وكان رأيي أن الإخوة أولى بميراث أخيهم من الجد، وكان عمر يرى أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته، وأخرجه ابن حزم من طريق إسماعيل القاضي عن إسماعيل بن أبي أويس عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه قال: كان رأيي أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد وكان أمير المؤمنين - يعني عمر - يعطيهم بالوجه الذي يراه على قدر كثرة الإخوة وقلتهم. قلت: فاختلف النقل عن زيد. وأخرج عبد الرزاق من طريق إبراهيم قال: كان زيد بن ثابت يشرك الجد مع الإخوة إلى الثلث فإذا بلغ الثلث أعطاه إياه والإخوة ما بقي ويقاسم الأخ للأب ثم يرد على أخيه ويقاسم بالإخوة من الأب مع الإخوة الأشقاء ولا يورث الإخوة للأب شيئا ولا يعطي أخا لأم مع الجد شيئا. قال ابن عبد البر: تفرد زيد من بين الصحابة في معادلته الجد بالإخوة بالأب مع الإخوة الأشقاء وخالفه كثير من الفقهاء القائلين بقوله في الفرائض في ذلك لأن الإخوة من الأب لا يرثون مع الأشقاء فلا معنى لإدخالهم معهم لأنه حيف على الجد في المقاسمة، وقد سأل ابن عباس زيدا عن ذلك فقال: إنما أقول في ذلك برأيي كما تقول أنت برأيك. وقال الطحاوي: ذهب مالك والشافعي وأبو يوسف إلى قول زيد بن ثابت في الجد إن كان معه إخوة أشقاء قاسمهم ما دامت المقاسمة خيرا له من الثلث وإن كان الثلث خيرا له أعطاه إياه ولا ترث الإخوة من الأب مع الجد شيئا ولا بنو الإخوة ولو كانوا أشقاء، وإذا كان مع الجد والإخوة أحد من أصحاب الفروض بدأ بهم ثم أعطى الجد خير الثلاثة من المقاسمة ومن ثلث ما بقي ومن السدس ولا ينقصه من السدس إلا في الأكدرية. قال: وروى هشام عن محمد بن الحسن أنه وقف في الجد، قال أبو يوسف وكان ابن أبي ليلى يأخذ في الجد بقول علي، ومذهب أحمد أنه كواحد الإخوة فإن كان الثلث أحظ له أخذه وله مع ذي فرض بعده الأحظ من مقاسمة كأخ أو ثلث الباقي أو سدس الجميع. والأكدرية المشار إليها تسمى مربعة الجماعة لأنهم أجمعوا على أنها أربعة ولكن اختلفوا في قسمها وهي زوج وأم وأخت وجد فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس وللأخت النصف، وتصح من سبعة وعشرين للزوج تسعة وللأم ستة وللأخت أربعة وللجد ثمانية، وقد نظمها بعضهم:
ما فرض أربعة يوزع بينهم ... ميراث ميتهم بفرض واقع
فلواحد ثلث الجميع وثلث ما ... يبقى لثانيهم بحكم جامع

(12/22)


ولثالث من بعد ذا ثلث الذي ... يبقى وما يبقى نصيب الرابع
ذكر المصنف حديث ابن عباس "ألحقوا الفرائض" وقد تقدم شرحه، ووجه تعلقه بالمسألة أنه دل على أن الذي يبقى بعد الفرض يصرف لأقرب الناس للميت فكان الجد أقرب فيقدم، قال ابن بطال: وقد احتج به من شرك بين الجد والأخ فإنه أقرب إلى الميت بدليل أنه ينفرد بالولاء ولأنه يقوم مقام الولد في حجب الأم من الثلث إلى السدس ولأن الجد إنما يدلي بالميت وهو ولد ابنه والأخ يدلي بالميت وهو ولد أبيه والابن أقوى من الأب لأن الابن ينفرد بالمال ويرد الأب إلى السدس ولا كذلك الأب فتعصيب الأخ تعصيب بنوة وتعصيب الجد تعصيب أبوة والبنوة أقوى من الأبوة في الإرث، ولأن الأخت فرضها النصف إذا انفردت فلم يسقطها الجد كالبنت، ولأن الأخ يعصب أخته بخلاف الجد فامتنع من قوة تعصيبه عليه أن يسقط به. وقال السهيلي: الجد أصل ولكن الأخ في الميراث أقوى سببا منه لأنه يدلي بولاية الأب فالولادة أقوى الأسباب في الميراث فإن قال الجد وأنا أيضا ولدت الميت قيل له إنما ولدت والده وأبوه ولد الإخوة فصار سببهم قويا وولد الولد ليس ولدا إلا بواسطة وإن شاركه في مطلق الولدية. ثم ذكر حديث ابن عباس أيضا في فضل أبي بكر وقد تقدم شرحه مستوفى في المناقب، وقوله: "أفضل أو قال خير" شك من الراوي وكذا قوله: "أنزله أبا أو قال قضاه أبا".

(12/23)


باب ميراث الزوج مع الولد و غيره
...
10- باب مِيرَاثِ الزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ
6739- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ"
قوله: "باب ميراث الزوج مع الولد وغيره" أي من الوارثين فلا يسقط الزوج بحال وإنما يحطه الولد عن النصف إلى الربع. ذكر فيه حديث ابن عباس "كان المال - أي المخلف عن الميت - للولد والوصية للوالدين" الحديث، قد تقدم في الوصايا وذكرت شرحه هناك مستوفى سندا ومتنا ولله الحمد. قال ابن المنير: استشهاد البخاري بحديث ابن عباس هذا مع أن الدليل من الآية واضح إشارة منه إلى تقرير سبب نزول الآية وأنها على ظاهرها غير مؤولة ولا منسوخة، وأفاد السهيلي أن في الآية التي نسختها وهي {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى استمرارها؛ فلذلك عبر بالفعل الدال على الدوام بخلاف غيرها من الآيات حيث قال في الآية المنسوخة الحكم {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً} الآية. قوله: وجعل للأبوين {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} أفاد السهيلي أن الحكمة في إعطاء الوالدين ذلك والتسوية بينهما ليستمرا فيه فلا يجحف بهما إن كثرت الأولاد مثلا، وسوى بينهما في ذلك مع وجود الولد أو الإخوة لما يستحقه كل منهما على الميت من التربية ونحوها، وفضل الأب على الأم عند عدم الولد والإخوة لما للأب من الامتياز بالإنفاق والنصرة ونحو ذلك، وعوضت الأم عن ذلك بأمر الولد بتفضيلها على الأب في البر في حال حياة الولد. انتهى ملخصا. وأخرج عبد بن حميد من طريق قتادة عن بعض أهل العلم أن الأب حجب الإخوة وأخذ سهامهم لأنه يتولى إنكاحهم والإنفاق عليهم دون الأم.

(12/23)


باب ميراث المرأة و الزوج مع الولد و غيره
...
11- باب مِيرَاثِ الْمَرْأَةِ وَالزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ
6740- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى لَهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا"
قوله: "باب ميراث المرأة والزوج مع الوالد وغيره" أي من الوارثين فلا يسقط إرث واحد منهما بحال، بل يحط الولد الزوج من النصف إلى الربع، ويحط المرأة من الربع إلى الثمن. ذكر فيه حديث أبي هريرة في قصة المرأة التي ضربت الأخرى فأسقطت جنينا ثم ماتت الضاربة فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة وأن العقل على عصبة القاتلة وأن ميراث الضاربة لبنيها وزوجها، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الديات إن شاء الله تعالى. ووجه الدلالة منه على الترجمة ظاهرة، لأن ميراث الضاربة لبنيها وزوجها لا لعصبتها الذين عقلوا عنها فورث الزوج مع ولده، وكذا لو كان الأب هو الميت لورثت الأم مع الأولاد، أشار إلى ذلك ابن التين. وكذا لو كان هناك عصبة بغير ولد.

(12/24)


12- باب مِيرَاثُ الأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ
6741- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ "قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :النِّصْفُ لِلْابْنَةِ، وَالنِّصْفُ لِلْأُخْتِ، ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ: قَضَى فِينَا وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6742- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلٍ قَالَ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لاَقْضِيَنَّ فِيهَا بِقَضَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "للْابْنَةِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ"
قوله: "باب ميراث الأخوات مع البنات عصبة" قال ابن بطال: أجمعوا على أن الأخوات عصبة البنات فيرثن ما فضل عن البنات، فمن لم يخلف إلا بنتا وأختا فللبنت النصف وللأخت النصف الباقي على ما في حديث معاذ وإن خلف بنتين وأختا فلهما الثلثان وللأخت ما بقي، وإن خلف بنتا وأختا وبنت ابن فللبنت النصف ولبنت الابن تكملة الثلثين وللأخت ما بقي على ما في حديث ابن مسعود، لأن البنات لا يرثن أكثر من الثلثين، ولم يخالف في شيء من ذلك إلا ابن عباس فإنه كان يقول: للبنت النصف وما بقي للعصبة وليس للأخت شيء، وكذا للبنتين الثلثان وللبنت وبنت الابن كما مضى والباقي للعصبة، فإذا لم تكن عصبة رد الفضل على البنت أو البنات. وقد تقدم البحث في ذلك. قال: ولم يوافق ابن عباس على ذلك أحد إلا أهل الظاهر. قال: وحجة الجماعة من جهة النظر أن عدم الولد في قوله تعالى :{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} إنما جعل شرطا في فرضها الذي تقاسم به الورثة لا في توريثها مطلقا، فإذا عدم الشرط سقط الفرض، ولم يمنع ذلك أن ترث بمعنى

(12/24)


آخر كما شرط في ميراث الأخ من أخته عند عدم الولد، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد وقد أجمعوا على أنه يرثها مع البنت، وهو كما جعل النصف في ميراث الزوج شرطا إذا لم يكن ولد ولم يمنع ذلك أن يأخذ النصف مع البنت فبأخذ نصف النصف بالفرض والنصف الآخر بالتعصيب إن كان ابن عم مثلا، فكذلك الأخت والله أعلم. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش وإبراهيم هو النخعي والأسود هو ابن يزيد وهو خال إبراهيم الراوي عنه. قوله: "ثم قال سليمان قضى فينا ولم يذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" القائل ذلك هو شعبة وسليمان هو الأعمش وهو موصول بالسند المذكور، وحاصله أن الأعمش روى الحديث أولا بإثبات قوله: "على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيكون مرفوعا على الراجح في المسألة ومرة بدونها فيكون موقوفا، وقد أخرجه الإسماعيلي عن القاسم بن زكريا عن بشر بن خالد شيخ البخاري فيه مثله لكن قال: قال سليمان بعد قال القاسم وحدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا خالد بسنده بلفظ: "قضى بذلك معاذ فينا". قلت وقد مضى في "باب ميراث البنات" من وجه آخر عن الأسود بن يزيد قال: "أتانا معاذ بن جبل باليمن معلما وأميرا، فسألناه عن رجل فذكره" وسياقه مشعر بأن ذلك كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره على اليمن كما مضى صريحا في كتاب الزكاة وغيره، وأخرجه أبو داود والدار قطني من وجه ثالث عن الأسود "أن معاذا ورث فذكره" وزاد: "هو باليمن ونبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حي" وللدار قطني من وجه آخر عن الأسود "قدم علينا معاذ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فذكره باختصار. وهذا أصرح ما وجدت في ذلك. قوله: "عبد الرحمن" هو ابن مهدي وسفيان هو الثوري وأبو قيس هو عبد الرحمن، وقد مضى ذكره وشرح حديثه قبل هذا بأربعة أبواب من طريق شعبة عن أبي قيس وفيه قصة أبي موسى وجزم فيه بقوله: "لأقضين فيها بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم: "وأما قوله هنا " أو قال قال النبي صلى الله عليه وسلم" فهو شك من بعض رواته، وأكثر الرواة أثبتوا الزيادة، ففي رواية وكيع وغيره عن سفيان عند النسائي وغيره: "سأقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومراده بالقضاء بالنسبة إليه الفتيا فإن ابن مسعود يومئذ لم يكن قاضيا ولا أميرا.

(12/25)


باب ميراث الأخوات و الإخوة
...
13- باب مِيرَاثِ الأَخَوَاتِ وَالإِخْوَةِ
6743- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ "سَمِعْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ نَضَحَ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا لِي أَخَوَاتٌ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ"
قوله: "باب ميراث الأخوات والإخوة" ذكر فيه حديث جابر المذكور في أول كتاب الفرائض، والغرض منه قوله: "إنما لي أخوات" فإنه يقتضي أنه لم يكن له ولد، واستنبط المصنف الإخوة بطريق الأولى، وقدم الأخوات في الذكر للتصريح بهن في الحديث، وعبد الله المذكور في السند هو بن المبارك قال بن بطال: أجمعوا على أن الإخوة الأشقاء أو من الأب لا يرثون مع الابن وان سفل ولا مع الأب، وأختلفوا فيهم مع الجد على ما مضت الإشارة اليه، وما عدا ذلك فللواحدة من الأخوات النصف وللبنتين فصاعدا الثلثان وللأخ الجميع فما زاد فبالقسمة السوية وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين كما نص عليه القرآن ولم يقع

(12/25)


في كل ذلك اختلاف إلا في زوج وأم وأختين لأم وأخ شقيق فقال الجمهور: يشرك بينهم، وكان علي وأبي وأبو موسى لايشركون الإخوة ولو كانوا أشقاء مع الإخوة للأم لأنهم عصبة وقد استغرقت الفرائض المال وبذلك قال جمع من الكوفيين

(12/26)


باب { يستفتونك ، قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد و له أخت فلها نصف ما ترك ، و هو يرثها إن لم يكن لها ولد ، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } الآية
...
14- باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
6744- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}
قوله: باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ذكر فيه حديث البراء من طريق أبي إسحاق عنه "آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" وأراد بذلك ما فيها من التنصيص على ميراث الإخوة، وقد أخرج أبو داود في "المراسيل" من وجه آخر عن أبي إسحاق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن " جاء رجل، فقال: يا رسول الله ما الكلالة؟ قال: من لم يترك ولدا ولا والدا فورثته كلالة". ووقع في صحيح مسلم عن عمر أنه خطب ثم قال: "إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة، وما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما راجعته في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري فقال: ألا يكفيك آية النصف التي في آخر سورة النساء". وقد اختلف في تفسير الكلالة، والجمهور على أنه من لا ولد له ولا والد، واختلف في بنت وأخت هل ترث الأخت مع البنت؟ وكذا في الجد هل يتنزل منزلة الأب فلا ترث معه الإخوة؟ قال السهيلي: الكلالة من الإكليل المحيط بالرأس لأن الكلالة وراثة تكللت العصبة أي أحاطت بالميت من الطرفين، وهي مصدر كالقرابة، وسمي أقرباء الميت كلالة بالمصدر كما يقال هم قرابة أي ذوو قرابة، وإن عنيت المصدر قلت ورثوه عن كلالة، وتطلق الكلالة على الورثة مجازا. قال: ولا يصح قول من قال الكلالة المال ولا الميت إلا على إرادة تفسيره معنى من غير نظر إلى حقيقة اللفظ. ثم قال: ومن العجب أن الكلالة في الآية الأولى من النساء لا يرث فيها الإخوة مع البنت مع أنه لم يقع فيها التقييد بقوله ليس له ولد، وقيد به في الآية الثانية مع أن الأخت فيها ورثت مع البنت، والحكمة فيها أن الأولى عبر فيها بقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ} فإن مقتضاه الإحاطة بجميع المال فأغنى لفظ يورث عن القيد، ومثله قوله تعالى:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أي يحيط بميراثها. وأما الآية الثانية: فالمراد بالولد فيها الذكر كما تقدم تقريره، ولم يعبر فيها بلفظ يورث فلذلك ورثت الأخت مع البنت. وقال ابن المنير: الاستدلال بآية الكلالة على أن الأخوات عصبة لطيف جدا، وهو أن العرف في آيات الفرائض قد اطرد على أن الشرط المذكور فيما هو لمقدار الفرض لا لأصل الميراث، فيفهم أنه إذا لم يوجد الشرط أن يتغير قدر الميراث، فمن ذلك قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فتغير القدر ولم يتغير أصل الميراث، وكذا في الزوج وفي الزوجة، فقياس ذلك أن يطرد في الأخت فلها النصف إن لم

(12/26)


يكن ولد، فإن كان ولد تغير القدر ولم يتغير أصل الإرث، وليس هناك قدر يتغير إليه إلا التعصيب، ولا يلزم من ذلك أن ترث الأخت مع الابن لأنه خرج بالإجماع فيبقى ما عداه على الأصل والله أعلم. وقد تقدم الكلام في آخر ما نزل من القرآن في آخر تفسير سورة البقرة، وقال الكرماني: اختلف في تعيين آخر ما نزل فقال البراء هنا: خاتمة سورة النساء. وقال ابن عباس كما تقدم في آخر سورة البقرة: آية الربا، وهذا اختلاف بين الصحابيين ولم ينقل واحد منهما ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحمل على أن كلا منهما قال يظنه، وتعقب بأن الجمع أولى كما تقدم بيانه هناك.

(12/27)


باب ابني عم أحدهما أخ للأم و الآخر زوج
...
15- باب ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِلْأُمِّ وَالْآخَرُ زَوْجٌ وَقَالَ عَلِيٌّ: "لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأَخِ مِنْ الأُمِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ"
6745- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِمَوَالِي الْعَصَبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا وَلِيُّهُ، فَلِأُدْعَى لَهُ". الْكَلُّ: الْعِيَالُ
6746- حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا تَرَكَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"
قوله: "باب ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج" صورتها أن رجلا تزوج امرأة فأتت منه بابن ثم تزوج أخرى فأتت منه بآخر ثم فارق الثانية فتزوجها أخوه فأتت منه ببنت فهي أخت الثاني لأمه وابنة عمه، فتزوجت هذه البنت الابن الأول وهو ابن عمها ثم ماتت عن ابني عمها. قوله: "وقال علي للزوج النصف وللأخ من الأم السدس وما بقي بينهما نصفان" وحاصله أن الزوج يعطى النصف لكونه زوجا ويعطى الآخر السدس لكونه أخا من أم فيبقى الثلث فيقسم بينهما بطريق العصوبة فيصح للأول الثلثان بالفرض والتعصيب وللآخر الثلث بالفرض والتعصيب، وهذا الأثر وصله عن علي رضي الله عنه سعيد بن منصور من طريق حكيم بن غفال قال: أتى شريح في امرأة تركت ابني عمها أحدهما زوجها والآخر أخوها لأمها فجعل للزوج النصف والباقي للأخ من الأم، فأتوا عليا فذكروا له ذلك فأرسل إلى شريح فقال: ما قضيت أبكتاب الله أو بسنة من رسول الله؟ فقال: بكتاب الله قال: أين؟ قال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} قال: فهل قال للزوج النصف وللأخ ما بقي ثم أعطى الزوج النصف وللأخ من الأم السدس ثم قسم ما بقي بينهما. وأخرج يزيد بن هارون والدارمي من طريق الحارث قال: أتى علي في ابني عم أحدهما أخ لأم فقيل له إن عبد الله كان يعطي الأخ للأم المال كله، فقال: يرحمه الله إن كان لفقيها ولو كنت أنا لأعطيت الأخ من الأم السدس ثم قسمت ما بقي بينهما. قال ابن بطال: وافق عليا زيد بن ثابت والجمهور. وقال عمر وابن مسعود: جميع المال - يعني الذي يبقى بعد نصيب الزوج - الذي جمع القرابتين فله السدس بالفرض والثلث الباقي بالتعصيب، وهو قول الحسن وأبي ثور وأهل الظاهر، واحتجوا

(12/27)


بالإجماع في أخوين أحدهما شقيق والآخر لأب أن الشقيق يستوعب المال لكونه أقرب بأم، وحجة الجمهور ما أشار إليه البخاري في حديث أبي هريرة الذي أورده في الباب بلفظ: "فمن مات وترك مالا فماله لموالي العصبة" والمراد بموالي العصبة بنو العم، فسوى بينهم ولم يفضل أحدا على أحد، وكذا قال أهل التفسير في قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} أي بني العم. فإن احتجوا بالحديث الآخر المذكور في الباب أيضا من حديث ابن عباس " فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر " فالجواب أنهما من جهة التعصيب سواء، والتقدير ألحقوا الفرائض بأهلها أي أعطوا أصحاب الفروض حقهم فإن بقي شيء فهو للأقرب، فلما أخذ الزوج فرضه والأخ من الأم فرضه صار ما بقي موروثا بالتعصيب وهما في ذلك سواء، وقد أجمعوا في ثلاثة إخوة للأم أحدهم ابن عم أن للثلاثة الثلث والباقي لابن العم. قال المازري: مراتب التعصيب البنوة ثم الأبوة ثم الجدودة، فالابن أولى من الأب وإن فرض له معه السدس، وهو أولى من الإخوة وبنيهم لأنهم ينتسبون بالمشاركة في الأبوة والجدودة، والأب أولى من الإخوة ومن الجد لأنهم به ينتسبون فيسقطون مع وجوده، والجد أولى من بني الإخوة لأنه كالأب معهم، ومن العمومة لأنهم به ينتسبون، والإخوة وبنوهم أولى من العمومة وبنيهم لأن تعصيب الإخوة بالأبوة والعمومة بالجدودة، هذا ترتيبهم وهم يختلفون في القرب، فالأقرب أولى كالإخوة مع بنيهم والعمومة مع بنيهم فإن تساووا في الطبقة والقرب ولأحدهما زيادة كالشقيق مع الأخ لأب قدم، وكذا الحال في بنيهم وفي العمومة وبنيهم، فإن كانت زيادة الترجيح بمعنى غير ما هما فيه كابني عم أحدهما أخ لأم فقيل يستمر الترجيح فيأخذ ابن العم الذي هو أخ لأم جميع ما بقي بعد فرض الزوج وهو قول عمر وابن مسعود وشريح والحسن وابن سيرين والنخعي وأبي ثور والطبري وداود ونقل عن أشهب، وأبى ذلك الجمهور فقالوا: بل يأخذ الأخ من الأم فرضه ويقسم الباقي بينهما، والفرق بين هذه الصورة وبين تقدم الشقيق على الأخ لأب طريق الترجيح لأن الشرط فيها أن يكون فيه معنى مناسب لجهة التعصيب لأن الشقيق شارك شقيقه في جهة القرب المتعلقة بالتعصيب بخلاف الصورة المذكورة والله أعلم. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان وعبيد الله شيخه هو ابن موسى وقد حدث البخاري عنه كثيرا بغير واسطة وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق وأبو حصين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم وأبو صالح هو ذكوان السمان. قوله: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" زاد في رواية الأصيلي هنا "أزواجه أمهاتهم" قال عياض: وهي زيادة في الحديث لا معنى لها هنا. قول "فلأدعى له" قال ابن بطال: هي لام الأمر أصلها الكسر وقد تسكن مع الفاء والواو غالبا فيهما وإثبات الألف بعد العين جائز كقوله: "ألم يأتيك والأخبار تنمى" والأصل عدم الإشباع للجزم، والمعنى فادعوني له أقوم بكله وضياعه. قوله: "والكل العيال" ثبت هذا التفسير في آخر الحديث في رواية المستملي والكشميهني، وأصل الكل الثقل ثم استعمل في كل أمر يصعب والعيال فرد من أفراده، وقال صاحب الأساس: كل بصره فهو كليل وكل عن الأمر لم تنبعث نفسه له وكل كلالة أي قصر عن بلوغ القرابة، قد مضى شرح حديث ابن عباس في أوائل الفرائض، وروح شيخ يزيد بن زريع فيه هو ابن القاسم المنبري.

(12/28)


16- باب ذَوِي الأَرْحَامِ

(12/28)


6747- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ حَدَّثَكُمْ إِدْرِيسُ حَدَّثَنَا طَلْحَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ - وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الأَنْصَارِيُّ الْمُهَاجِرِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قَالَ نَسَخَتْهَا {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}
قوله: "باب ذوي الأرحام" أي بيان حكمهم هل يرثون أو لا؟ وهم عشرة أصناف: الخال والخالة والجد للأم وولد البنت وولد الأخت وبنت الأخ وبنت العم والعمة والعم للأم وابن الأخ للأم ومن أدلى بأحد منهم، فمن ورثهم، قال أولاهم أولاد البنت ثم أولاد الأخت وبنات الأخ ثم العم والعمة والخال والخالة، وإذا استوى اثنان قدم الأقرب إلى صاحب فرض أو عصبة. قوله: "إسحاق بن إبراهيم" هو الإمام المعروف بابن راهويه. قوله: "قلت لأبي أسامة حدثكم إدريس" أي ابن يزيد بن عبد الرحمن الأودي والد عبد الله، وطلحة شيخه هو ابن مصرف، وقد نسبه المصنف في التفسير من رواية الصلت بن محمد عن أبي أسامة وقال في آخره: "سمع إدريس من طلحة وأبو أسامة من إدريس " وقد صرح هنا بالثاني. ووقع في رواية أبي داود عن هارون ابن عبد الله عن أبي أسامة " حدثني إدريس بن يزيد حدثنا طلحة بن مصرف " وكذا أخرجه الإسماعيلي عن الهنجاني عن أبي كريب عن أبي أسامة، وكذا عند الطبري عن أبي كريب. قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ - وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}. قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: نسختها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال ابن بطال: كذا وقع في جميع النسخ نسختها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} والصواب أن المنسوخة {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} والناسخة {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال ووقع في رواية الطبري بيان ذلك ولفظه: "فلما نزلت هذه الآية {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت". قلت: وقد تقدم في الكفالة التفسير من رواية الصلت بن محمد عن أبي أسامة مثل ما عزاه للطبري فكان عزوه إلى ما في البخاري أولى، مع أن في سياقه فائدة أخرى وهو أنه قال: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} ورثة، فأفاد تفسير الموالي بالورثة، وأشار إلى أن قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} ابتداء شيء يريد أن يفسره أيضا، ويؤيده أنه وقع في رواية الصلت " ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} وبقي قوله نسختها مشكلا كما قال ابن بطال " وقد أجاب ابن المنير في الحاشية فقال: الضمير في نسختها عائد على المؤاخاة لا على الآية والضمير في نسختها وهو الفاعل المستتر يعود على قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} بدل من الضمير، وأصل الكلام لما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقال الكرماني: فاعل نسختها آية جعلنا والذين عاقدت منصوب بإضمار أعني. قلت: ووقع في سياقه هنا أيضا موضع آخر وهو أنه عبر بقوله: "يرث الأنصاري المهاجري " وتقدم في رواية الصلت بالعكس، وأجاب عنه الكرماني بأن المقصود إثبات الوراثة بينهما في الجملة. قلت: والأولى أن يقرأ الأنصاري بالنصب على أنه مفعول مقدم فتتحد الروايتان، ووقع في رواية الصلت موضع ثالث مشكل وهو قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} من النصر إلخ، وظاهر الكلام أن قوله من النصر يتعلق بعاقدت أيمانكم وليس كذلك وإنما يتعلق بقوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وقد بين ذلك أبو كريب في روايته،

(12/29)


وكذلك أخرجه أبو داود عن هارون بن عبد الله عن أبي أسامة، وقد تقدم في تفسير النساء عدة طرق لذلك مع إعراب الآية، والكلام على حكم المعاقدة المذكورة ونسخها بما يغني عن إعادته، والمراد بإيراد الحديث هنا أن قوله تعالى :{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخ حكم الميراث الذي دل عليه {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال ابن بطال: أكثر المفسرين على أن الناسخ لقوله تعالى :{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قوله تعالى في الأنفال: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وبذلك جزم أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ". قلت: كذا أخرجه أبو داود بسند حسن عن ابن عباس " قال ابن الجوزي: كان جماعة من المحدثين يرون الحديث من حفظهم فتقصر عباراتهم خصوصا العجم فلا يبين للكلام رونق مثل هذه الألفاظ في هذا الحديث، وبيان ذلك أن مراد الحديث المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بين المهاجرين والأنصار فكانوا يتوارثون بتلك الأخوة ويرونها داخلة في قوله تعالى :{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} فلما نزل قوله تعالى :{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} نسخ الميراث بين المتعاقدين وبقي النصر والرفادة وجواز الوصية لهم، وقد وقع في رواية العوفي عن ابن عباس بيان السبب في إرثهم قال: كان الرجل في الجاهلية يلحق به الرجل فيكون تابعه، فإذا مات الرجل صار لأقاربه الميراث وبقي تابعه ليس له شيء، فنزلت: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فكانوا يعطونه من ميراثه، ثم نزلت: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} فنسخ ذلك. قلت: والعوفي ضعيف، والذي في البخاري هو الصحيح المعتمد، وتصحيح السياق قد ظهر من نفس الرواية وأن بعض الرواة قدم بعض الألفاظ على بعض وحذف منها شيئا وأن بعضهم ساقها على الاستقامة وذلك هو المعتمد. قال ابن بطال: اختلف الفقهاء في توريث ذوي الأرحام وهم من لا سهم له وليس بعصبة، فذهب أهل الحجاز والشام إلى منعهم الميراث، وذهب الكوفيون وأحمد وإسحاق إلى توريثهم، واحتجوا بقوله تعالى :{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} واحتج الآخرون بأن المراد بها من له سهم في كتاب الله لأن آية الأنفال مجملة وآية المواريث مفسرة وبقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالا فلعصبته " وأنهم أجمعوا على ترك القول بظاهرها فجعلوا ما يخلفه المعتوق إرثا لعصبته دون مواليه فإن فقدوا فلمواليه دون ذوي رحمه، واختلفوا في توريثهم فقال أبو عبيد: رأى أهل العراق رد ما بقي من ذوي الفروض إذا لم تكن عصبة على ذوي الفروض وإلا فعليهم وعلى العصبة، فإن فقدوا أعطوا ذوي الأرحام، وكان ابن مسعود ينزل كل ذي رحم منزلة من يجر إليه، وأخرج بسند صحيح عن ابن مسعود أنه جعل العمة كالأب والخالة كالأم فقسم المال بينهما أثلاثا، وعن علي أنه كان لا يرد على البنت دون الأم، ومن أدلتهم حديث: "الخال وارث من لا وارث له" وهو حديث حسن أخرجه الترمذي وغيره، وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يراد به إذا كان عصبة ويحتمل أن يريد بالحديث المذكور السلب كقولهم "الصبر حيلة من لا حيلة له" ويحتمل أن يكون المراد به السلطان لأنه خال المسلمين، حكى هذه الاحتمالات ابن العربي.

(12/30)


17- باب مِيرَاثِ الْمُلاَعَنَةِ
6748- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا لاَعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ"

(12/30)


قوله: "باب ميراث الملاعنة" بفتح العين المهملة ويجوز كسرها والمراد بيان ما ترثه من ولدها الذي لاعنت عليه، ذكر فيه حديث ابن عمر المختصر في الملاعنة وقد مضى شرحه في كتاب اللعان ومن وجه آخر مطول عن ابن عمر ومن حديث سهل بن سعد، والغرض منه هنا قوله: "وألحق الولد بالمرأة" وقد اختلف السلف في معنى إلحاقه بأمه مع اتفاقهم على أنه لا ميراث بينه وبين الذي نفاه، فجاء عن علي وابن مسعود أنهما قالا في ابن الملاعنة: "عصبته عصبة أمه يرثهم ويرثونه " أخرجه ابن أبي شيبة وبه قال النخعي والشعبي، وجاء عن علي وابن مسعود أنهما كانا يجعلان أمه عصبة وحدها فتعطى المال كله، فإن ماتت أمه قبله فماله لعصبتها، وبه قال جماعة منهم الحسن وابن سيرين ومكحول والثوري وأحمد في رواية، وجاء عن علي أن ابن الملاعنة ترثه أمه وإخوته منها فإن فضل شيء فهو لبيت المال، وهذا قول زيد بن ثابت وجمهور العلماء وأكثر فقهاء الأمصار، قال مالك: وعلى هذا أدركت أهل العلم. وأخرج عن الشعبي قال: بعث أهل الكوفة إلى الحجاز في زمن عثمان يسألوني عن ميراث ابن الملاعنة فأخبروهم أنه لأمه وعصبتها، وجاء عن ابن عباس عن علي أنه أعطى الملاعنة الميراث وجعلها عصبة، قال ابن عبد البر: الرواية الأولى أشهر عند أهل الفرائض، قال ابن بطال: هذا الخلاف إنما نشأ من حديث الباب حيث جاء فيه: "وألحق الولد بالمرأة " لأنه لما ألحق بها قطع نسب أبيه فصار كمن لا أب له من أولاد البغي، وتمسك الآخرون بأن معناه إقامتها مقام أبيه فجعلوا عصبة أمه عصبة أبيه. قلت: وقد جاء في المرفوع ما يقوي القول الأول، فأخرج أبو داود من رواية مكحول مرسلا ومن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها " ولأصحاب السنن الأربعة عن واثلة رفعه: "تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه " قال البيهقي: ليس بثابت. قلت: وحسنه الترمذي وصححه الحاكم وليس فيه سوى عمر بن رؤية بضم الراء وسكون الواو بعدها موحدة مختلف فيه، قال البخاري: فيه نظر، ووثقه جماعة، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن المنذر ومن طريق داود بن أبي هند عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن رجل من أهل الشام " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى به لأمة هي بمنزلة أبيه وأمه " وفي رواية أن عبد الله بن عبيد كتب إلى صديق له من أهل المدينة يسأله عن ولد الملاعنة فكتب إليه " إني سألت فأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى به لأمه " وهذه طرق يقوى بعضها ببعض، قال ابن بطال: تمسك بعضهم بالحديث الذي جاء أن الملاعنة بمنزلة أبيه وأمه، وليس فيه حجة لأن المراد أنها بمنزلة أبيه وأمه في تربيته وتأديبه وغير ذلك مما يتولاه أبوه، فأما الميراث فقد أجمعوا أن ابن الملاعنة لو لم تلاعن أمه وترك أمه وأباه كان لأمه السدس، فلو كانت بمنزلة أبيه وأمه لورثت سدسين فقط سدس بالأمومة وسدس بالأبوة، كذا قال وفيه نظر تصويرا واستدلالا وحجة الجمهور ما تقدم في اللعان أن في رواية فليح عن الزهري عن سهل في آخره: "فكانت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض لها " أخرجه أبو داود، وحديث ابن عباس " فهو لأولى رجل ذكر " فإنه جعل ما فضل عن أهل الفرائض لعصبة الميت دون عصبة أمه، وإذا لم يكن لولد الملاعنة عصبة من قبل أبيه فالمسلمون عصبته، وقد تقدم من حديث أبي هريرة "ومن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا".

(12/31)


18- باب الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً

(12/31)


6749- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ عُتْبَةُ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ فَقَالَ ابْنُ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ . ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِي مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ"
6750- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ" سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ"
[الحديث 6750- طرفه في: 6818]
قوله: "باب الولد للفراش حرة كانت" أي المستفرشة "أو أمة". قوله: "عن عروة" في رواية شعيب عن الزهري في العتق " حدثني عروة " وكذا وقع في رواية عبد الله ابن مسلمة عن مالك في المغازي لكن أخرجه في الوصايا بلفظ عن عروة. قوله: "كان عتبة عهد إلى أخيه" في رواية يحيى بن قزعة عن مالك في أوائل البيوع ابن أبي وقاص في الموضوعين وكذا في رواية شعيب والليث وغيرهما عن الزهري وفي رواية ابن عيينة عن الزهري الماضية في الأشخاص: أوصاني أخي إذا قدمت يعني مكة أن أقبض إليك ابن أمة زمعة فإنه ابني. قوله: "أن ابن وليدة زمعة" في رواية ابن عيينة عن ابن شهاب الماضية في المظالم ابن أمة زمعة، والوليدة في الأصل المولودة وتطلق على الأمة وهذه الوليدة لم أقف على اسمها لكن ذكر مصعب الزبيري وابن أخيه الزبير في "نسب قريش" أنها كانت أمة يمانية، والوليدة فعيلة من الولادة بمعنى مفعولة، قال الجوهري: هي الصبية والأمة والجمع ولائد، وقيل إنها اسم لغير أم الولد. وزمعة بفتح الزاي وسكون الميم وقد تحرك، قال النووي: التسكين أشهر. وقال أبو الوليد الوقشي: التحريك هو الصواب. قلت: والجاري على ألسنة المحدثين التسكين في الاسم والتحريك في النسبة، وهو ابن قيس بن عبد شمس القرشي العامري والد سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد بن زمعة بغير إضافة، ووقع في "مختصر ابن الحاجب" عبد الله وهو غلط، نعم عبد الله بن زمعة آخر، وفي بعض الطرق من غير رواية عائشة عند الطحاوي في هذا الحديث عبد الله بن زمعة ونبه على أنه غلط وأن عبد الله بن زمعة هو ابن الأسود ابن المطلب بن أسد بن عبد العزي آخر. قلت: وهو الذي مضى حديثه في تفسير {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وقد وقع لابن منده خبط في ترجمة عبد الرحمن بن زمعة فإنه زعم أن عبد الرحمن وعبد الله وعبدا إخوة ثلاثة أولاد زمعة بن الأسود، وليس كذلك بل عبد بغير إضافة وعبد الرحمن أخوان عامريان من قريش، وعبد الله ابن زمعة قرشي أسدي من قريش أيضا، وقد أوضحت ذلك في "الإصابة في تمييز الصحابة" والابن المذكور اسمه عبد الرحمن وذكره ابن عبد البر في الصحابة وغيره، وقد أعقب بالمدينة. وعتبة بن أبي وقاص أخو سعد مختلف

(12/32)


في صحبته فذكره في الصحابة العسكري وذكر ما نقله الزبير بن بكار في النسب أنه كان أصاب دما بمكة في قريش فانتقل إلى المدينة ولما مات أوصى إلى سعد، وذكره ابن منده في الصحابة ولم يذكر مستندا إلا قول سعد "عهد إلى أخي أنه ولده" واستنكر أبو نعيم ذلك وذكر أنه الذي شج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، قال وما علمت له إسلاما، بل قد روى عبد الرزاق من طريق عثمان الجزري عن مقسم " أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بأن لا يحول على عتبة الحول حتى يموت كافرا فمات قبل الحول " وهذا مرسل، وأخرجه من وجه آخر عن سعيد بن المسيب بنحوه، وأخرج الحاكم في "المستدرك" من طريق صفوان بن سليم عن أنس أنه سمع حاطب بن أبي بلتعة يقول: "إن عتبة لما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم ما فعل تبعته فقتلته"، كذا قال وجزم ابن التين والدمياطي بأنه مات كافرا. قلت: وأم عتبة هند بنت وهب بن الحارث بن زهرة، وأم أخيه سعد حمنة بنت سفيان بن أمية. قوله: "فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال ابن أخي" في رواية يونس عن الزهري في المغازي " فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح". وفي رواية معمر عن الزهري عند أحمد وهي لمسلم لكن لم يسق لفظها " فلما كان يوم الفتح رأى سعد الغلام فعرفه بالشبه فاحتضنه وقال ابن أخي ورب الكعبة " وفي رواية الليث " فقال سعد يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أنه ابنه " وعتبة بالجر بدل من لفظ أخي أو عطف بيان، والضمير في أخي لسعد لا لعتبة. قوله: "فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه" في رواية معمر "فجاء عبد بن زمعة فقال بل هو أخي ولد على فراش أبي من جاريته" وفي رواية يونس "يا رسول الله هذا أخي هذا ابن زمعة ولد على فراشه" زاد في رواية الليث " انظر إلى شبهه يا رسول الله " وفي رواية يونس " فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص " وفي رواية الليث " فرأى شبها بينا بعتبة " وكذا لابن عيينة عند أبي داود وغيره، قال الخطابي وتبعه عياض والقرطبي وغيرهما: كان أهل الجاهلية يقتنون الولائد ويقررون عليهن الضرائب فيكتسبن بالفجور، وكانوا يلحقون النسب بالزناة إذا ادعوا الولد كما في النكاح، وكانت لزمعة أمة وكان يلم بها فظهر بها حمل زعم عتبة بن أبي وقاص أنه منه وعهد إلى أخيه سعد أن يستلحقه، فخاصم فيه عبد بن زمعة، فقال لي سعد: هو ابن أخي على ما كان عليه الأمر في الجاهلية. وقال عبد: هو أخي على ما استقر عليه الأمر في الإسلام، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم حكم الجاهلية وألحقه بزمعة، وأبدل عياض قوله إذا ادعوا الولد بقوله إذا اعترفت به الأم، وبنى عليهما القرطبي فقال: ولم يكن حصل إلحاقه بعتبة في الجاهلية إما لعدم الدعوى وإما لكون الأم لم تعترف به لعتبة. قلت: وقد مضى في النكاح من حديث عائشة ما يؤيد أنهم كانوا يعتبرون استلحاق الأم في صورة وإلحاق القائف في صورة ولفظها "إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء" الحديث وفيه: "يجتمع الرهط ما دون العشر فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومضت ليال أرسلت إليهم فاجتمعوا عندها فقالت: قد ولدت فهو ابنك يا فلان، فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع " إلى أن قالت: "ونكاح البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن فوضعت جمعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرى القائف لا يمتنع من ذلك" انتهي. واللائق بقصة أمة زمعة الأخير، فلعل جمع القافة لهذا الولد تعذر بوجه من الوجوه، أو أنها لم تكن بصفة البغايا بل أصابها عتبة سرا من زنا وهما كافران فحملت وولدت ولدا يشبهه فغلب على ظنه أنه منه فبغته الموت قبل استلحاقه فأوصى أخاه أن يستلحقه، فعمل سعد بعد ذلك تمسكا بالبراءة الأصلية

(12/33)


قال القرطبي: وكان عبد بن زمعة سمع أن الشرع ورد بأن الولد للفراش وإلا فلم يكن عادتهم الإلحاق به، كذا قاله، وما أدري من أين له هذا الجزم بالنفي، وكأنه بناه على ما قال الخطابي أمة زمعة كانت من البغايا اللاتي عليهن من الضرائب، فكان الإلحاق مختصا باستلحاقها على ما ذكر، أو بإلحاق القائف على ما في حديث عائشة، لكن لم يذكر الخطابي مستندا لذلك، والذي يظهر من سياق القصة ما قدمته أنها كانت أمة مستفرشة لزمعة فاتفق أن عتبة زنى بها كما تقدم، وكانت طريقة الجاهلية في مثل ذلك أن السيد إن استلحقه لحقه وإن نفاه انتفى عنه وإذا ادعاه غيره كان مرد ذلك إلى السيد أو القافة، وقد وقع في حديث ابن الزبير الذي أسوقه بعد هذا ما يؤيد ما قلته، وأما قوله: إن عبد بن زمعة سمع أن الشرع إلخ ففيه نظر، لأنه يبعد أن يسمع ذلك عبد بن زمعة وهو بمكة لم يسلم بعد ولا يسمعه سعد بن أبي وقاص وهو من السابقين الأولين الملازمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حين إسلامه إلى حين فتح مكة نحو العشرين سنة، حتى ولو قلنا إن الشرع لم يرد بذلك إلا في زمن الفتح فبلوغه لعبد قبل سعد بعيد أيضا، والذي يظهر لي أن شرعية ذلك إنما عرفت من قوله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة " الولد للفراش " وإلا فما كان سعد لو سبق علمه بذلك ليدعيه، بل الذي يظهر أن كلا من سعد وعتبة بني على البراءة الأصلية، وأن مثل هذا الولد يقبل النزاع، وقد أخرج أبو داود تلو حديث الباب بسند حسن إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قام رجل فقال: يا رسول الله إن فلانا ابني عاهرت بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الحجر " وقد وقع في بعض طرقه أن ذلك وقع في زمن الفتح وهو يؤيد ما قلته، واستدل بهذه القصة على أن الاستلحاق لا يختص بالأب بل للأخ أن يستلحق وهو قول الشافعية وجماعة بشرط أن يكون الأخ حائزا أو يوافقه باقي الورثة وإمكان كونه من المذكور وأن يوافق على ذلك إن كان بالغا عاقلا وأن لا يكون معروف الأب، وتعقب بأن زمعة كان له ورثة غير عبد، وأجيب بأنه لم يخلف وارثا غيره إلا سودة، فإن كان زمعة مات كافرا فلم يرثه إلا عبد وحده، وعلى تقدير أن يكون أسلم وورثته سودة فيحتمل أن تكون وكلت أخاها في ذلك أو ادعت أيضا، وخص مالك وطائفة الاستلحاق بالأب، وأجابوا بأن الإلحاق لم ينحصر في استلحاق عبد لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك بوجه من الوجوه كاعتراف زمعة بالوطء، ولأنه إنما حكم بالفراش لأنه قال بعد قوله هو لك "الولد للفراش" لأنه لما أبطل الشرع إلحاق هذا الولد بالزاني لم يبق صاحب الفراش. وجرى المزني على القول بأن الإلحاق يختص بالأب فقال: أجمعوا على أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره، والذي عندي في قصة عبد بن زمعة أنه صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة فأعلمهم أن الحكم كذا بشرط أن يدعي صاحب الفراش لا أنه قبل دعوى سعد عن أخيه عتبة ولا دعوى عبد بن زمعة عن زمعة بل عرفهم أن الحكم في مثلها يكون كذلك. قال ولذلك قال: "احتجبي منه يا سودة" وتعقب بأن قوله لعبد بن زمعة " هو أخوك " يدفع هذا التأويل، واستدل به على أن الوصي يجوز له أن يستلحق ولد موصيه إذا أوصى إليه بأن يستلحقه ويكون كالوكيل عنه في ذلك، وقد مضى التبويب بذلك في كتاب الأشخاص وعلى أن الأمة تصير فراشا بالوطء، فإذا اعترف السيد بوطء أمته أو ثبت ذلك بأي طريق كان ثم أتت بولد لمدة الإمكان بعد الوطء لحقه من غير استلحاق كما في الزوجة، لكن الزوجة تصير فراشا بمجرد العقد فلا يشترط في الاستلحاق إلا الإمكان لأنها تراد الموطء فجعل العقد عليها كالوطء. بخلاف الأمة فإنها تراد لمنافع أخرى فاشترط في حقها الوطء

(12/34)


ومن ثم يجوز الجمع بين الأختين بالملك دون الوطء وهذا قول الجمهور، وعن الحنفية لا تصير الأمة فراشا إلا إذا ولدت من السيد ولدا ولحق به فمهما ولدت بعد ذلك لحقه إلا أن ينفيه، وعن الحنابلة من اعترف بالوطء فأتت منه لمدة الإمكان لحقه وإن ولدت منه أولا فاستلحقه لم يلحقه ما بعده إلا بإقرار مستأنف على الراجح عندهم، وترجيح المذهب الأول ظاهر لأنه لم ينقل أنه كان لزمعة من هذه الأمة ولد آخر، والكل متفقون على أنها لا تصير فراشا إلا بالوطء، قال النووي: وطء زمعة أمته المذكورة علم إما ببينة وإما باطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. قلت: وفي حديث ابن الزبير ما يشعر بأن ذلك كان أمرا مشهورا وسأذكر لفظه قريبا، واستدل به على أن السبب لا يخرج ولو قلنا إن العبرة بعموم اللفظ. ونقل الغزالي تبعا لشيخه والآمدي ومن تبعه عن الشافعي قولا بخصوص السبب تمسكا بما نقل عن الشافعي أنه ناظر بعض الحنفية لما قال إن أبا حنيفة خص الفراش بالزوجة وأخرج الأمة من عموم " الولد للفراش " فرد عليه الشافعي بأن هذا ورد على سبب خاص، ورد ذلك الفخر الرازي على من قاله بأن مراد الشافعي أن خصوص السبب لا يخرج، والخبر إنما ورد في حق الأمة فلا يجوز إخراجه، ثم رفع الاتفاق على تعميمه في الزوجات لكن شرط الشافعي والجمهور الإمكان زمانا ومكانا، وعن الحنفية يكفي مجرد العقد فتصير فراشا ويلحق الزوج الولد، وحجتهم عموم قوله: "الولد للفراش" لأنه لا يحتاج إلى تقدير وهو الولد لصاحب الفراش لأن المراد بالفراش الموطوءة، ورده القرطبي بأن الفراش كناية عن الموطوءة لكون الواطئ يستفرشها أي يصيرها بوطئه لها فراشا له يعني فلا بد من اعتبار الوطء حتى تسمى فراشا وألحق به إمكان الوطء فمع عدم إمكان الوطء لا تسمى فراشا. وفهم بعض الشراح عن القرطبي خلاف مراده فقال: كلامه يقتضي حصول مقصود الجمهور بمجرد كون الفراش هو الموطوءة وليس هو المراد فعلم أنه لا بد من تقدير محذوف لأنه قال إن الفراش هو الموطوءة والمراد به أن الولد لا يلحق بالواطئ، قال المعترض: وهذا لا يستقيم إلا مع تقدير الحذف. قلت: وقد بينت وجه استقامته بحمد الله، ويؤيد ذلك أيضا أن ابن الأعرابي اللغوي نقل أن الفراش عند العرب يعبر به عن الزوج وعن المرأة والأكثر إطلاقه على المرأة، ومما ورد في التعبير به عن الرجل قول جرير فيمن تزوجت بعد قتل زوجها أو سيدها:
باتت تعانقه وبات فراشها ... خلق العباءة بالبلاء ثقيلا
وقد يعبر به عن حالة الافتراش ويمكن حمل الخبر عليها فلا يتعين الحذف، نعم لا يمكن حمل الخبر على كل واطئ بل المراد من له الاختصاص بالوطء كالزوج والسيد، ومن ثم قال ابن دقيق العيد: معنى "الولد للفراش" تابع للفراش أو محكوم به للفراش أو ما يقارب هذا، وقد شنع بعضهم على الحنفية بأن من لازم مذهبهم إخراج السبب مع المبالغة في العمل بالعموم في الأحوال، وأجاب بعضهم بأنه خصص الظاهر القوي بالقياس، وقد عرف من قاعدته تقديم القياس في مواضع على خبر الواحد وهذا منها، واستدل به على أن القائف إنما يعتمد في الشبه إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه لأن الشارع لم يلتفت هنا إلى الشبه والتفت إليه في قصة زيد بن حارثة، وكذا لم يحكم بالشبه في قصة الملاعنة لأنه عارضه حكم أقوى منه وهو مشروعية اللعان، وفيه تخصيص عموم "الولد للفراش" وقد تمسك بالعموم الشعبي وبعض المالكية وهو شاذ، ونقل عن الشافعي أنه قال: لقوله: "الولد للفراش" معنيان أحدهما هو له ما لم ينفه فإذا نفاه بما شرع له كاللعان انتفى عنه، والثاني إذا تنازع رب الفراش

(12/35)


والعاهر فالولد لرب الفراش. قلت: والثاني منطبق على خصوص الواقعة والأول أعم. قوله: "فتساوقا" أي تلازما في الذهاب بحيث أن كلا منهما كان كالذي يسوق الآخر. قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" كذا للأكثر، وقد تقدم ضبط عبد وأنه يجوز فيه الضم والفتح، وأما ابن فهو منصوب على الحالين، ووقع في رواية للنسائي: "هو لك عبد بن زمعة" بحذف حرف النداء، وقرأه بعض المخالفين بالتنوين وهو مردود فقد وقع في رواية يونس المعلقة في المغازي "هو لك، هو أخوك يا عبد" ووقع لمسدد عن ابن عيينة عند أبي داود "هو أخوك يا عبد" قال ابن عبد البر: تثبت الأمة فراشا عند أهل الحجاز إن أقر سيدها أنه كان يلم بها، وعند أهل العراق إن أقر سيدها بالولد، وقال المازري: يتعلق بهذا الحديث استلحاق الأخ لأخيه، وهو صحيح عند الشافعي إذا لم يكن له وارث سواه، وقد تعلق أصحابه بهذا الحديث لأنه لم يرد أن زمعة ادعاه ولدا ولا اعترف بوطء أمه فكان المعول في هذه القصة على استلحاق عبد بن زمعة، قال: وعندنا لا يصح استلحاق الأخ، ولا حجة في هذا الحديث لأنه يمكن أن يكون ثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم أن زمعة كان يطأ أمته فألحق الولد به لأن من ثبت وطؤه لا يحتاج إلى الاعتراف بالوطء، وإنما يصعب هذا على العراقيين ويعسر عليهم الانفصال عما قاله الشافعي لما قررناه أنه لم يكن لزمعة ولد من الأمة المذكورة سابق، ومجرد الوطء لا عبرة به عندهم فيلزمهم تسليم ما قال الشافعي، قال: ولما ضاق عليهم الأمر قالوا الرواية في هذا الحديث: "هو لك عبد بن زمعة" وحذف حرف النداء بين عبد وابن زمعة والأصل يا ابن زمعة، قالوا والمراد أن الولد لا يلحق بزمعة بل هو عبد لولده لأنه وارثه ولذلك أمر سودة بالاحتجاب منه لأنها لم ترث زمعة لأنه مات كافرا وهي مسلمة، قال وهذه الرواية التي ذكروها غير صحيحة ولو وردت لرددناها إلى الرواية المشهورة وقلنا بل المحذوف حرف النداء بين لك وعبد كقوله تعالى حكاية عن صاحب يوسف حيث قال: "يوسف أعرض عن هذا" انتهى. وقد سلك الطحاوي فيه مسلكا آخر فقال: معنى قوله: "هو لك" أي يدك عليه لا أنك تملكه ولكن تمنع غيرك منه إلى أن يتبين أمره كما قال لصاحب اللقطة "هي لك" وقال له "إذا جاء صاحبها فأدها إليه" قال ولما كانت سودة شريكة لعبد في ذلك لكن لم يعلم منها تصديق ذلك ولا الدعوى به ألزم عبدا بما أقر به على نفسه ولم يجعل ذلك حجة عليها فأمرها بالاحتجاب، وكلامه كله متعقب بالرواية الثانية المصرح فيها بقوله: "هو أخوك " فإنها رفعت الإشكال وكأنه لم يقف عليها ولا على حديث ابن الزبير وسودة الدال على أن سودة وافقت أخاها عبدا في الدعوى بذلك. قوله: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" تقدم في غزوة الفتح تعليقا من رواية يونس عن ابن شهاب " قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد إلخ " وهذا منقطع، وقد وصله غيره عن ابن شهاب، ووقع في رواية يونس أيضا، قال ابن شهاب: وكان أبو هريرة يصيح بذلك، وقد قدمت هناك أن مسلما أخرجه موصولا من رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة وأبي هريرة، وقوله: "وللعاهر الحجر" أي للزاني الخيبة والحرمان، والعهر بفتحتين الزنا، وقيل يختص بالليل، ومعنى الخيبة هنا حرمان الولد الذي يدعيه، وجرت عادة العرب أن تقول لمن خاب "له الحجر وبفيه الحجر والتراب" ونحو ذلك، وقيل المراد بالحجر هنا أنه يرجم، قال النووي: وهو ضعيف لأن الرجم مختص بالمحصن، ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد، والخبر إنما سيق لنفي الولد. وقال السبكي: والأول أشبه بمساق الحديث لتعم الخيبة كل زان، ودليل الرجم، مأخوذ من موضع آخر فلا حاجة للتخصيص من غير دليل. قلت: ويؤيد

(12/36)


الأول أيضا ما أخرجه أبو أحمد الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه " الولد للفراش وفي فم العاهر الحجر " وفي حديث ابن عمر عند ابن حبان: "الولد للفراش وبفي العاهر الأثلب " بمثلثة ثم موحدة بينهما لام وبفتح أوله وثالثه ويكسران قيل هو الحجر وقيل دقاقه وقيل التراب. قوله: "ثم قال لسودة احتجبي منه" في رواية الليث " واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة". قوله: "فما رآها حتى لقي الله" في رواية معمر " قالت عائشة فوالله ما رآها حتى ماتت " وفي رواية الليث " فلم تره سودة قط " يعني في المدة التي بين هذا القول وبين موت أحدهما، وكذا لمسلم من طريقه. وفي رواية ابن جريج في صحيح أبي عوانة مثله، وفي رواية الكشميهني الآتية في حديث الليث أيضا: "فلم تره سودة بعد " وهذه إذا ضمت إلى رواية مالك ومعمر استفيد منها أنها امتثلت الأمر وبالغت في الاحتجاب منه حتى إنها لم تره فضلا عن أن يراها، لأنه ليس في الأمر المذكور دلالة على منعها من رؤيته. وقد استدل به الحنفية على أنه لم يلحقه بزمعة لأنه لو ألحقه به لكان أخا سودة والأخ لا يؤمر بالاحتجاب منه، وأجاب الجمهور بأن الأمر بذلك كان للاحتياط لأنه وإن حكم بأنه أخوها لقوله في الطرق الصحيحة "هو أخوك يا عبد" وإذا ثبت أنه أخو عبد لأبيه فهو أخو سودة لأبيها، لكن لما رأى الشبه بينا بعتبة أمرها بالاحتجاب منه احتياطا، وأشار الخطابي إلى أن في ذلك مزية لأمهات المؤمنين لأن لهن في ذلك ما ليس لغيرهن، قال: والشبه يعتبر في بعض المواطن لكن لا يقضي به إذا وجد ما هو أقوى منه، وهو كما يحكم في الحادثة بالقياس ثم يوجد فيها نص فيترك القياس، قال: وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث وليس بالثابت " احتجبي منه يا سودة فإنه ليس لك بأخ " وتبعه النووي فقال: هذه الزيادة باطلة مردودة، وتعقب بأنها وقعت في حديث عبد الله بن الزبير عند النسائي بسند حسن ولفظه: كانت لزمعة جارية يطؤها وكان يظن بآخر أنه يقع عليها فجاءت بولد يشبه الذي كان يظن به فمات زمعة، فذكرت ذلك سودة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ " ورجال سنده رجال الصحيح إلا شيخ مجاهد وهو يوسف مولى آل الزبير. وقد طعن البيهقي في سنده فقال: فيه جرير وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيه يوسف وهو غير معروف، وعلى تقدير ثبوته فلا يعارض حديث عائشة المتفق على صحته، وتعقب بأن جريرا هذا لم ينسب إلى سوء حفظ وكأنه اشتبه عليه بجرير بن حازم، وبأن الجمع بينهما ممكن فلا ترجيح، وبأن يوسف معروف في موالي آل الزبير، وعلى هذا فيتعين تأويله، وإذا ثبتت هذه الزيادة تعين تأويل نفي الأخوة عن سودة على نحو ما تقدم من أمرها بالاحتجاب منه، ونقل ابن العربي في "القوانين" عن الشافعي نحو ما تقدم وزاد، ولو كان أخاها بنسب محقق لما منعها كما أمر عائشة أن لا تحتجب من عمها من الرضاعة. وقال البيهقي: معنى قوله: "ليس لك بأخ " إن ثبت ليس لك بأخ شبها فلا يخالف قوله لعبد "هو أخوك". قلت: أو معنى قوله: "ليس لك بأخ" بالنسبة للميراث من زمعة لأن زمعة مات كافرا وخلف عبد بن زمعة والولد المذكور وسودة فلا حق لسودة في إرثه بل حازه عبد قبل الاستلحاق فإذا استلحق الابن المذكور شاركه في الإرث دون سودة فلهذا قال لعبد "هو أخوك" وقل لسودة "ليس لك بأخ" وقال القرطبي بعد أن قرر أن أمر سودة بالاحتجاب للاحتياط وتوقي الشبهات: ويحتمل أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حق أمهات المؤمنين كما قال: "أفعمياوان أنتما " فنهاهما عن رؤية الأعمى مع قوله لفاطمة بنت قيس "اعتدى عند ابن أم مكتوم فإنه أعمى" فغلظ الحجاب في حقهن دون غيرهن، وقد

(12/37)


تقدم في تفسير الحجاب قول من قال: إنه كان يحرم عليهن بعد الحجاب إبراز أشخاصهن ولو كن مستترات إلا لضرورة بخلاف غيرهن فلا يشترط، وأيضا فإن للزوج أن يمنع زوجته من الاجتماع بمحارمها فلعل المراد بالاحتجاب عدم الاجتماع به في الخلوة، وقال ابن حزم: لا يجب على المرأة أن يراها أخوها بل الواجب عليها صلة رحمها، ورد على من زعم أن معنى قوله: "هو لك" أي عبد، بأنه لو قضى بأنه عبد لما أمر سودة بالاحتجاب منه إما لأن لها فيه حصة وإما لأن من في الرق لا يحتجب منه على القول بذلك، وقد تقدم جواب المزني عن ذلك قريبا، واستدل به بعض المالكية على مشروعية الحكم بين حكمين وهو أن يأخذ الفرع شبها من أكثر من أصل فيعطى أحكاما بعدد ذلك، وذلك أن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النسب والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة فأعطى الفرع حكما بين حكمين فروعي الفراش في النسب والشبه البين في الاحتجاب، قال: وإلحاقه بهما ولو كان من وجه أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه. قال ابن دقيق العيد: ويعترض على هذا بأن صورة المسألة ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين وهنا الإلحاق شرعي للتصريح بقوله: "الولد للفراش" فبقي الأمر بالاحتجاب مشكلا لأنه يناقض الإلحاق فتعين أنه للاحتياط لا لوجوب حكم شرعي وليس فيه إلا ترك مباح مع ثبوت المحرمية. واستدل به على أن حكم الحاكم لا يحل الأمر في الباطن كما لو حكم بشهادة فظهر أنها زور لأنه حكم بأنه أخو عبد وأمر سودة بالاحتجاب بسبب الشبه بعتبة، فلو كان الحكم يحل الأمر في الباطن لما أمرها بالاحتجاب، واستدل به على أن لوطء الزنا حكم وطء الحلال في حرمة المصاهرة وهو قول الجمهور، ووجه الدلالة أمر سودة بالاحتجاب بعد الحكم بأنه أخوها لأجل الشبه بالزاني. وقال مالك في المشهور عنه والشافعي: لا أثر لوطء الزنا بل للزاني أن يتزوج أم التي زنى بها وبنتها، وزاد الشافعي ووافقه ابن الماجشون: والبنت التي تلدها المزني بها ولو عرفت أنها منه، قال النووي: وهذا احتجاج باطل لأنه على تقدير أن يكون من الزنا فهو أجنبي من سودة لا يحل لها أن تظهر له سواء ألحق بالزاني أم لا فلا تعلق له بمسألة البنت المخلوقة من الزنا، كذا قال وهو رد للفرع برد الأصل، وإلا فالبناء الذي بنوه صحيح، وقد أجاب الشافعية عنه بما تقدم أن الأمر بالاحتجاب للاحتياط ويحمل الأمر في ذلك إما على الندب وإما على تخصيص أمهات المؤمنين بذلك، فعلى تقدير الندب فالشافعي قائل به في المخلوقة من الزنا وعلى التخصيص فلا إشكال والله أعلم. ويلزم من قال بالوجوب أن يقول به في تزويج البنت المخلوقة من ماء الزنا فيجيز عند فقد الشبه ويمنع عند وجوده، واستدل به على صحة ملك الكافر الوثني الأمة الكافرة وإن حكمها بعد أن تلد من سيدها حكم القن لأن عبدا وسعدا أطلقا عليها أمة ووليدة ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، كذا أشار إليه البخاري في كتاب العتق عقب هذا الحديث بعد أن ترجم له "أم الولد" ولكنه ليس في أكثر النسخ، وأجيب بأن عتق أم الولد بموت السيد ثبت بأدلة أخرى، وقيل إن غرض البخاري بإيراده أن بعض الحنفية لما ألزم أن أم الولد المتنازع فيه كانت حرة رد ذلك وقال بل كانت عتقت، وكأنه قد ورد في بعض طرقه أنها أمة فمن ادعى أنها عتقت فعليه البيان. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد القطان ومحمد بن زياد هو الجمحي. قوله: "الولد لصاحب الفراش" كذا في هذه الرواية، وزاد آدم عن شعبة "وللعاهر الحجر" وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة، ولهذا الحديث سبب غير قصة ابن زمعة فقد أخرجه أبو داود وغيره من رواية حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قام رجل فقال لما فتحت مكة: إن فلانا ابني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا دعوة في

(12/38)


الإسلام ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الأثلب. قيل: ما الأثلب؟ قال: الحجر". "تكملة" حديث: "الولد للفراش" قال ابن عبد البر هو من أصح ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عن بضعة وعشرين نفسا من الصحابة فذكره البخاري في هذا الباب عن أبي هريرة وعائشة. وقال الترمذي عقب حديث أبي هريرة: وفي الباب عن عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو وأبي أمامة وعمرو بن خارجة والبراء وزيد بن أرقم، وزاد شيخنا عليه معاوية وابن عمر، وزاد أبو القاسم بن منده في تذكرته معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وعلي بن أبي طالب والحسين ابن علي وعبد الله بن حذافة وسعد بن أبي وقاص وسودة بنت زمعة، ووقع لي من حديث ابن عباس وأبي مسعود البدري وواثلة بن الأسقع وزينب بنت جحش، وقد رقمت عليها علامات من أخرجها من الأئمة فطب علامة الطبراني في الكبير وطس علامته في الأوسط وبز علامة البزار وص علامة أبي يعلى الموصلي وتم علامة تمام في فوائده وجميع هؤلاء وقع عندهم "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ومنهم من اقتصر على الجملة الأولى وفي حديث عثمان قصة وكذا علي وفي حديث معاوية قصة أخرى له مع نصر بن حجاج وعبد الرحمن ابن خالد بن الوليد فقال له نصر: فأين قضاؤك في زياد؟ فقال: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من قضاء معاوية. وفي حديث أبي أمامة وابن مسعود وعبادة أحكام أخرى، وفي حديث عبد الله بن حذافة قصة له في سؤاله عن اسم أبيه، وفي حديث ابن الزبير قصة نحو قصة عائشة باختصار وقد أشرت إليه، وفي حديث سودة نحوه ولم تسم في رواية أحمد بل قال: "عن بنت زمعة" وفي حديث زينب قصة ولم يسم أبوها بل فيه: "عن زينب الأسدية" وبالله التوفيق. وجاء من مرسل عبيد بن عمير وهو أحد كبار التابعين أخرجه ابن عبد البر بسند صحيح إليه.

(12/39)


باب الولاء لمن أعتق ، و ميراث اللقيط
...
19- باب: الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَمِيرَاثُ اللَّقِيطِ. وَقَالَ عُمَرُ: اللَّقِيطُ حُرٌّ
6751- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اشْتَرِيهَا فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ " وَأُهْدِيَ لَهَا شَاةٌ، فَقَالَ هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ. قَالَ الْحَكَمُ وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، وَقَوْلُ الْحَكَمِ مُرْسَلٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا
6752- حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنما الولاء لمن أعتق"
قوله: "باب إنما الولاء لمن أعتق وميراث اللقيط، وقال عمر: اللقيط حر" هذه الترجمة معقودة لميراث اللقيط فأشار إلى ترجيح قول الجمهور أن اللقيط حر وولاؤه في بيت المال، وإلى ما جاء عن النخعي أن ولاءه للذي التقطه واحتج بقول عمر لأبي جميلة في الذي التقطه "اذهب فهو حر وعلينا نفقته ولك ولاؤه" وتقدم هذا الأثر معلقا بتمامه في أوائل الشهادات وذكرت هناك من وصله، وأجبت عنه بأن معنى قول عمر "لك ولاؤه" أي أنت الذي تتولى تربيته والقيام بأمره فهي ولاية الإسلام لا ولاية العتق، والحجة لذلك صريح الحديث المرفوع "إنما الولاء لمن أعتق" فاقتضى أن من لم يعتق لا ولاء له لأن العتق يستدعي سبق ملك واللقيط من دار الإسلام لا يملكه الملتقط

(12/39)


لأن الأصل في الناس الحرية إذ لا يخلو المنبوذ أن يكون ابن حرة فلا يسترق أو ابن أمة قوم فميراثه لهم فإذا جهل وضع في بيت المال ولا رق عليه للذي التقطه، وجاء عن علي أن اللقيط مولى من شاء وبه قال الحنفية إلى أن يعقل عنه فلا ينتقل بعد ذلك عمن عقل عنه، وقد خفي كل هذا على الإسماعيلي فقال: "ذكر ميراث اللقيط" في ترجمة الباب وليس له في الحديث ذكر ولا عليه دلالة، يريد أن حديث عائشة وابن عمر مطابق لترجمة "إنما الولاء لمن أعتق" وليس في حديثهما ذكر ميراث اللقيط، وقد جرى الكرماني على ذلك فقال: فإذ قلت فأين ذكر ميراث اللقيط؟ قلت: هو ما ترجم به ولم يتفق له إيراد الحديث فيه. قلت: وهذا كله إنما هو بحسب الظاهر، وأما بحسب تدقيق النظر ومناسبة إيراده في أبواب المواريث فبيانه ما قدمت والله أعلم. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن اللقيط حر إلا رواية عن النخعي، وعنه كالجماعة، وعنه كالمنقول عن الحنفية، وقد جاء عن شريح نحو الأول وبه قال إسحاق بن راهويه. قوله: "الحكم" هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر، وإبراهيم هو النخعي، والأسود هو ابن يزيد والثلاثة تابعيون كوفيون. قوله: "قال الحكم وكان زوجها حرا" هو موصول إلى الحكم بالإسناد المذكور، ووقع في رواية الإسماعيلي من رواية أبي الوليد عن شعبة مدرجا في الحديث، ولم يقل ذلك الحكم من قبل نفسه فسيأتي في الباب الذي يليه من طريق منصور عن إبراهيم أن الأسود قاله أيضا فهو سلف الحكم فيه. قوله: "وقول الحكم مرسل" أي ليس بمسند إلى عائشة راوية الخبر فيكون في حكم المتصل المرفوع. قوله: "وقال ابن عباس رأيته عبدا" زاد في الباب الذي يليه "وقول الأسود منقطع" أي لم يصله بذكر عائشة فيه وقول ابن عباس أصح لأنه ذكر أنه رآه، وقد صح أنه حضر القصة وشاهدها فيترجح قوله على قول من لم يشهدها، فإن الأسود لم يدخل المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الحكم فولد بعد ذلك بدهر طويل، ويستفاد من تعبير البخاري قول الأسود منقطع جواز إطلاق المنقطع في موضع المرسل خلافا لما اشتهر في الاستعمال من تخصيص المنقطع بما يسقط منه من أثناء السند واحد إلا في صورة سقوط الصحابي بين التابعي والنبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك يسمى عندهم المرسل، ومنهم من خصه بالتابعي الكبير فيستفاد من قول البخاري أيضا: "وقول الحكم مرسل" أنه يستعمل في التابعي الصغير أيضا لأن الحكم من صغار التابعين، واستدل به لإحدى الروايتين عن أحمد أن من أعتق عن غيره فالولاء للمعتق والأجر للمعتق عنه، وسيأتي البحث فيه في " باب ما يرث النساء من الولاء".

(12/40)


20- باب: مِيرَاثِ السَّائِبَةِ
6753- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلٍ عَنْ "عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِنَّ أَهْلَ الإِسْلاَمِ لاَ يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُسَيِّبُونَ"
6754- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ لِتُعْتِقَهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ لِأُعْتِقَهَا وَإِنَّ أَهْلَهَا يَشْتَرِطُونَ وَلاَءَهَا فَقَالَ: "أَعْتِقِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، أَوْ قَالَ: "أَعْطَى الثَّمَنَ" قَالَ: فَاشْتَرَتْهَا فَأَعْتَقَتْهَا قَالَ: وَخُيِّرَتْ"

(12/40)


فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَالَتْ: لَوْ أُعْطِيتُ كَذَا وَكَذَا مَا كُنْتُ مَعَهُ" قَالَ الأَسْوَدُ وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا" قَوْلُ الأَسْوَدِ مُنْقَطِعٌ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ "رَأَيْتُهُ عَبْدًا أَصَحُّ"
قوله: "باب ميراث السائبة" بمهملة وموحدة بوزن فاعلة وتقدم بيانها في تفسير المائدة، والمراد بها في الترجمة العبد الذي يقول له سيده لا ولاء لأحد عليك أو أنت سائبة يريد بذلك عتقه وأن لا ولاء لأحد عليه، وقد يقول له أعتقتك سائبة أو أنت حر سائبة، ففي الصيغتين الأوليين يفتقر في عتقه إلى نية وفي الأخريين يعتق، واختلف في الشرط فالجمهور على كراهيته وشذ من قال بإباحته، واختلف في ولائه، وسأبينه في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى. قوله: "عن هزيل" في رواية يزيد بن أبي حكيم العدني عن سفيان عند الإسماعيلي: "حدثني هزيل بن شرحبيل" وهو بالزاي مصغر، ووهم من قاله بالذال المعجمة وقد تقدم ذلك قريبا، وأن سفيان في السند هو الثوري وأن أبا قيس هو عبد الرحمن. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود. قوله: "إن أهل الإسلام لا يسبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسبون" هذا طرف من حديث أخرجه الإسماعيلي بتمامه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بسنده هذا إلى هزيل قال: "جاء رجل إلى عبد الله فقال إني أعتقت عبدا لي سائبة فمات فترك مالا ولم يدع وارثا، فقال عبد الله " فذكر حديث الباب وزاد: "وأنت ولي نعمته فلك ميراثه، فإن تأثمت أو تحرجت في شيء فنحن نقبله ونجعله في بيت المال" وفي رواية العدني "فإن تحرجت" ولم يشك وقال: "فأرنا (1) نجعله في بيت المال " ومعنى " تأثمت " بالمثلثة قبل الميم خشيت أن تقع في الإثم، وتحرجت بالحاء المهملة ثم الجيم بمعناه، وبهذا الحكم في السائبة قال الحسن البصري وابن سيرين والشافعي وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن سيرين " أن سالما مولى أبي حذيفة الصحابي المشهور أعتقته امرأة من الأنصار سائبة وقالت له وال من شئت، فوالى أبا حذيفة، فلما استشهد باليمامة دفع ميراثه للأنصارية أو لابنها " وأخرج ابن المنذر من طريق بكر بن عبد الله المزني " أن ابن عمر أتى بمال مولى به مات فقال إنا كنا أعتقناه سائبة فأمر أن يشتري بثمنه رقابا فتعتق " وهذا يحتمل أن يكون فعله على سبيل الوجوب أو على سبيل الندب، وقد أخذ بظاهره عطاء فقال: إذا لم يخلف السائبة وارثا دعي الذي أعتقه فإن قبل ماله وإلا ابتيعت به رقاب فأعتقت، وفيه مذهب آخر أن ولاءه للمسلمين يرثونه ويعقلون عنه، قاله عمر ابن عبد العزيز والزهري، وهو قول مالك، وعن الشعبي والنخعي والكوفيين: لا بأس ببيع ولاء السائبة وهبته، قال ابن المنذر: واتباع ظاهر قوله: "الولاء لمن أعتق" أولى. قلت: وإلى ذلك أشار البخاري بإيراد حديث عائشة في قصة بريرة وفيه: "فإنما الولاء لمن أعتق، وفيه قول الأسود إن زوج بريرة كان حرا، وقد تقدم الكلام على ذلك في الباب الذي قبله.
ـــــــ
(1) كذا في النسخ بالراء، ولعله محرف من "فآذنا"

(12/41)


21- باب: إِثْمِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ مَوَالِيهِ
6755- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ غَيْرَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ: فَأَخْرَجَهَا فَإِذَا فِيهَا أَشْيَاءُ مِنْ الْجِرَاحَاتِ

(12/41)


وَأَسْنَانِ الإِبِلِ قَالَ: وَفِيهَا" الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ. وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ"
6756- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ"
قوله: "باب إثم من تبرأ من مواليه" هذه الترجمة لفظ حديث. أخرجه أحمد والطبراني من طريق سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لله عبادا لا يكلمهم الله تعالى " الحديث وفيه: "ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم " وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه عند أحمد " كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق " وله شاهد عن أبي بكر الصديق، وأما حديث الباب فلفظه: "من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " ومثله لأحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان عن ابن عباس، ولأبي داود من حديث أنس " فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة " وقد مضى شرح حديث الباب في فضل المدينة وفي الجزية ويأتي في الديات، وفي معنى حديث علي في هذا حديث عائشة مرفوعا: "من تولى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار " صححه ابن حبان، ووالد إبراهيم التيمي الراوي له عن علي اسمه يزيد بن شريك، وقد رواه عن علي جماعة منهم أبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي ومضى في كتاب العلم، وذكرت هناك وفي فضائل المدينة اختلاف الرواة عن علي فيما في الصحيفة وأن جميع ما رووه من ذلك كان فيها، وكان فيها أيضا ما مضى في الخمس من حديث محمد بن الحنفية أن أباه علي بن أبي طالب أرسله إلى عثمان بصحيفة فيها فرائض الصدقة، فإن رواية طارق بن شهاب عن علي في نحو حديث الباب عند أحمد أنه كان في صحيفته فرائض الصدقة، وذكرت في العلم سبب تحديث علي بن أبي طالب بهذا الحديث وإعراب قوله: "إلا كتاب الله" وتفسير الصحيفة وتفسير العقل، ومما وقع فيه في العلم " لا يقتل مسلم بكافر " وأحلت بشرحه على كتاب الديات، والذي تضمنه حديث الباب مما في الصحيفة المذكورة أربعة أشياء: أحدها الجراحات وأسنان الإبل، وسيأتي شرحه في الديات، وهل المراد بأسنان الإبل المتعلقة بالخراج أو المتعلقة بالزكاة أو أعم من ذلك. ثانيها "المدينة حرم" وقد مضى شرحه مستوفى في مكانه في فضل المدينة في أواخر الحج، وذكرت فيه ما يتعلق بالسند، وبيان الاختلاف في تفسير الصرف والعدل. ثالثها "ومن والي قوما" هو المقصود هنا وقوله فيه: "بغير إذن مواليه " قد تقدم هناك أن الخطابي زعم أن له مفهوما وهو أنه إذا استأذن مواليه منعوه، ثم راجعت كلام الخطابي وهو ليس إذن الموالي شرطا في ادعاء نسب وولاء ليس هو منه وإليه، وإنما ذكر تأكيدا للتحريم ولأنه إذا استأذنهم منعوه وحالوا بينه وبين ما يفعل من ذلك انتهى، وهذا لا يطرد لأنهم قد يتواطئون معه على ذلك لغرض ما، والأولى ما قال

(12/42)


غيره إن التعبير بالإذن ليس لتقييد الحكم بعدم الإذن وقصره عليه وإنما ورد الكلام بذلك على أنه الغالب انتهى. ويحتمل أن يكون قول "من تولى" شاملا للمعنى الأعم من الموالاة وأن منها مطلق النصرة والإعانة والإرث، ويكون قوله: "بغير إذن مواليه" يتعلق بمفهومه بما عدا الميراث، ودليل إخراجه حديث: "إنما الولاء لمن أعتق " والعلم عند الله تعالى. وكأن البخاري لحظ هذا فعقب الحديث بحديث ابن عمر في النهي عن بيع الولاء وعن هبته، فإنه يؤخذ منه عدم اعتبار الإذن في ذلك بطريق الأولى، لأنه إذا منع السيد من بيع الولاء مع ما تحصل له من العوض ومن هبته مع ما يحصل له من المانة بذلك فمنعه من الإذن بغير عرض ولا مانة أولى، وهو مندرج في الهبة. وفي الحديث أن انتماء المولى من أسفل إلى غير مولاه من فوق حرام لما فيه من كفر النعمة وتضييع حق الإرث بالولاء والعقل وغير ذلك، وبه استدل مالك على ما ذكره عنه ابن وهب في موطئه قال: سئل عن عبد يبتاع نفسه من سيده على أنه يوالي من شاء فقال لا يجوز ذلك واحتج بحديث ابن عمر ثم قال: فتلك الهبة المنهي عنها، وقد شذ عطاء ابن أبي رباح بالأخذ بمفهوم هذا الحديث فقال فيما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عنه: إن أذن الرجل لمولاه أن يوالي من شاء جاز، واستدل بهذا الحديث، قال ابن بطال: وجماعة الفقهاء على خلاف ما قال عطاء، قال: ويحمل حديث علي على أنه جرى على الغالب مثل قوله تعالى :{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} وقد أجمعوا على أن قتل الولد حرام سواء خشي الإملاق أم لا، وهو منسوخ بحديث النهي عن بيع الولاء وعن هبته. قلت: قد سبق عطاء إلى القول بذلك عثمان، فروى ابن المنذر أن عثمان اختصموا إليه في نحو ذلك فقال للعتيق: وال من شئت، وأن ميمونة وهبت ولاء مواليها للعباس وولده، والحديث الصحيح مقدم على جميع ذلك فلعله لم يبلغ هؤلاء أو بلغهم وتأولوه وانعقد الإجماع على خلاف قولهم. قال ابن بطال، وفي الحديث لأنه لا يجوز للعتيق أن يكتب فلان ابن فلان ويسمي نفسه ومولاه الذي أعتقه، بل يقول فلان مولى فلان، ولكن يجوز له أن ينتسب إلى نسبه كالقرشي وغيره، قال والأولى أن يفصح بذلك أيضا كأن يقول: القرشي بالولاء أو مولاهم. قال: وفيه أن من علم ذلك وفعله سقطت شهادته لما ترتب عليه من الوعيد ويجب عليه التوبة والاستغفار. وفيه جواز لعن أهل الفسق عموما ولو كانوا مسلمين. رابعها "وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الجزية، وأما حديث الباب الثاني فقد مضى في كتاب العتق وأحلت بشرحه على ما هنا. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله: "عن عبد الله بن دينار" هكذا قال الحفاظ من أصحاب سفيان الثوري عنه، منهم عبد الرحمن بن مهدي ووكيع وعبد الله بن نمير وغيرهم. قوله: "عن ابن عمر" في رواية الإسماعيلي من طريق أحمد بن سنان عن عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة وسفيان عن ابن دينار " سمعت ابن عمر " وقد اشتهر هذا الحديث عن عبد الله بن دينار حتى قال مسلم لما أخرجه في صحيحه: الناس في هذا الحديث عيال عليه. وقال الترمذي بعد تخريجه: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار رواه عنه سعيد وسفيان ومالك، ويروى عن شعبة أنه قال وددت أن عبد الله ابن دينار لما حدث بهذا الحديث أذن لي حتى كنت أقوم إليه فأقبل رأسه. قال الترمذي: وروى يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار. قلت: وصل رواية يحيى بن سليم ابن ماجه، ولم ينفرد به يحيى بن سليم فقد تابعه أبو ضمرة أنس بن عياض ويحيى بن سعيد الأموي كلاهما عن عبيد الله بن عمر أخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريقهما لكن قرن كل منهما نافعا بعبد الله بن دينار،

(12/43)


وأخرجه ابن حبان في الثقات في ترجمة أحمد بن أبي أوفى وساقه من طريقه عن شعبة عن عبد الله بن دينار وعمرو بن دينار جميعا عن ابن عمر وقال عمرو بن دينار غريب، وقد اعتنى أبو نعيم الأصبهاني بجمع طرقه عن عبد الله بن دينار فأورده عن خمسة وثلاثين نفسا ممن حدث به عن عبد الله ابن دينار منهم من الأكابر يحيى بن سعيد الأنصاري وموسى بن عقبة ويزيد بن الهاد وعبيد الله العمري وهؤلاء من صغار التابعين وممن دونهم مسعر والحسن بن صالح بن حي وورقاء وأيوب بن موسى وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار. وعبد العزيز بن مسلم وأبو أويس، وممن لم يقع له ابن جريج وهو عند أبي عوانة وسليمان ابن بلال وهو عند مسلم وأحمد بن حازم المغافري في جزء الهروي من طريق الطبراني. قوله: "عن ابن عمر" في رواية أبي داود الحفري عن سفيان عند الإسماعيلي: "سمعت ابن عمر" وكذا مضى في العتق من رواية شعبة وفي مسند الطيالسي عن شعبة " قلت لعبد الله بن دينار أنت سمعت هذا من ابن عمر؟ قال: نعم، سأله ابنه عنه، وذكره أبو عوانة عن بهز بن أسيد عن شعبة " قلت لابن دينار أنت سمعته من ابن عمر؟ قال: نعم وسأله ابنه حمزة عنه، وكذا وقع في رواية عفان عن شعبة عند أبي نعيم، وأخرجه من وجه آخر أن شعبة قال: "قلت لابن دينار: والله لقد سمعت ابن عمر يقول هذا؟ فيحلف له " وقيل لابن عيينة إن شعبة يستحلف عبد الله بن دينار، قال لكنا لم نستحلفه سمعته منه مرارا رويناه في مسند الحميدي عن سفيان، وأخرجه الدار قطني في " غرائب مالك " من طريق الحسن بن زياد اللؤلؤي عن مالك عن ابن دينار عن حمزة بن عبد الله بن عمر أنه سأل أباه عن شراء الولاء فذكر الحديث، فهذا ظاهره أن ابن دينار لم يسمعه من ابن عمر وليس كذلك، وقال ابن العربي في "شرح الترمذي": تفرد بهذا الحديث عبد الله بن دينار وهو من الدرجة الثانية من الخبر لأنه لم يذكر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه نقل معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق " قلت: ويؤيده أن ابن عمر روى هذا الحديث عن عائشة في قصة بريرة كما مضى في العتق، لكن جاءت عنه صيغة الحديث من وجه آخر أخرجه النسائي وأبو عوانة من طريق الليث عن يحيى بن أيوب عن مالك ولفظه: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهي عن بيع الولاء وعن هبته " ووقع في رواية محمد بن أبي سليمان التي أشرت إليها بلفظ: "الولاء لا يباع ولا يوهب " وفي رواية عتبان بن عبيد عن شعبة مثله ذكره أبو نعيم، وزاد محمد بن سليمان الخراز في السند عن ابن عمر "عن عمر" فوهم أخرجه الدار قطني أيضا وضعفه، واتفق جميع من ذكرنا على هذا اللفظ وخالفهم أبو يوسف القاضي فرواه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بلفظ: "الولاء لحمة كلحمة النسب" أخرجه الشافعي ومن طريقه الحاكم ثم البيهقي، وأدخل بشر بن الوليد بين أبي يوسف وبين ابن دينار عبيد الله بن عمر أخرجه أبو يعلى في مسنده عنه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى، وأخرجه أبو نعيم من طريق عبد الله بن جعفر بن أعين عن بشر فزاد في المتن "لا يباع ولا يوهب" ومن طريق عبد الله بن نافع عن عبد الله بن دينار " إنما الولاء نسب لا يصح بيعه ولا هبته " والمحفوظ في هذا ما أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن داود بن أبي هند عن سعيد ابن المسيب موقوفا عليه " الولاء لحمة كلحمة النسب " وكذا ما أخرجه البزار والطبراني من طريق سليمان ابن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده رفعه: "الولاء ليس بمنتقل ولا متحول " وفي سنده المغيرة بن جميل وهو مجهول، نعم عن ابن عباس من قوله الولاء لمن أعتق لا يجوز بيعه ولا هبته. وقال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه لا يجوز تحويل النسب فإذا كان حكم الولاء حكم النسب فكما لا ينتقل النسب لا ينتقل الولاء، وكانوا في

(12/44)


الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره فنهى الشرع عن ذلك، وقال ابن عبد البر: اتفق الجماعة على العمل بهذا الحديث إلا ما روي عن ميمونة أنها وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عباس، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالي من شاء. قلت: وقد تقدم البحث فيه في الباب الذي قبله. وقال ابن بطال وغيره: جاء عن عثمان جواز بيع الولاء وكذا عن عروة، وجاء عن ميمونة جواز هبة الولاء وكذا عن ابن عباس ولعلهم لم يبلغهم الحديث، قلت: قد أنكر ذلك ابن مسعود في زمن عثمان فأخرج عبد الرزاق عنه أنه كان يقول: أيبيع أحدكم نسبه؟ ومن طريق علي: الولاء شعبة من النسب، ومن طريق جابر أنه أنكر بيع الولاء وهبته، ومن طريق عطاء أن ابن عمر كان ينكره، ومن طريق عطاء عن ابن عباس لا يجوز وسنده صحيح ومن ثم فصلوا في النقل عن ابن عباس بين البيع والهبة، وقال ابن العربي: معنى "الولاء لحمة كلحمة النسب" أن الله أخرجه بالحرمة إلى النسب حكما كما أن الأب أخرجه بالنطفة إلى الوجود حسا لأن العبد كان كالمعدوم في حق الأحكام لا يقضي ولا يلي ولا يشهد، فأخرجه سيده بالحرية إلى وجود هذه الأحكام من عدمها، فلما شابه حكم النسب أنيط بالمعتق فلذلك جاء " إنما الولاء لمن أعتق " وألحق برتبة النسب فنهى عن بيعه وهبته، وقال القرطبي استدل للجمهور بحديث الباب، ووجه الدلالة أنه أمر وجودي لا يتأتى الانفكاك عنه كالنسب، فكما لا تنتقل الأبوة والجدودة فكذلك لا ينتقل الولاء، إلا أنه يصح في الولاء جرما يترتب عليه من الميراث كما لو تزوج عبد معتقة آخر فولد له منها ولد فإنه ينعقد حرا لحرية أمه فيكون ولاؤه لمواليها لو مات في تلك الحالة، ولو أعتق السيد أباه قبل موت الولد فإن ولاءه ينتقل إذا مات لمعتق أبيه اتفاقا انتهى. وهذا لا يقدح في الأصل المذكور أن "الولاء لحمة كلحمة النسب" لأن التشبيه لا يستلزم التسوية من كل وجه، واختلف فيمن اشترى نفسه من سيده كالمكاتب فالجمهور على أن ولاءه لسيده وقيل لا ولاء عليه، وفي ولاء من أعتق سائبة وقد تقدم قريبا.

(12/45)


22- باب إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ لاَ يَرَى لَهُ وِلاَيَةً وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" وَيُذْكَرُ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَفَعَهُ قَالَ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ
6757- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً تُعْتِقُهَا فَقَالَ أَهْلُهَا نَبِيعُكِهَا عَلَى أَنَّ وَلاَءَهَا لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لاَ يَمْنَعُكِ ذَلِكِ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
6758- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ". قَالَتْ فَأَعْتَقْتُهَا، قَالَتْ: "فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا" فَقَالَتْ: لَوْ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا مَا بِتُّ عِنْدَهُ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا".
قوله: "باب إذا أسلم على يديه" كذا للنسفي، وزاد الفربري والأكثر "رجل" ووقع في رواية الكشميهني:

(12/45)


"الرجل" وبالتنكر أولى. قوله: "وكان الحسن لا يرى له ولاية" كذا للأكثر، وفي رواية الكشميهني: "ولاء" بالهمز بدل الياء، من الولاء وهو المراد بالولاية، وأثر الحسن هذا وهر البصري وصله سفيان الثوري في جامعه عن مطرف عن الشعبي وعن وهو ابن عبيد عن الحسن قالا في الرجل يوالي الرجل قالا: هو بين المسلمين وقال سفيان: وبذلك أقول. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان، وكذا رواه الدارمي عن أبي نعيم عن سفيان، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا من طريق يونس عن الحسن: لا يرثه، إلا إن شاء أوصى له بماله. قوله: "ويذكر عن تميم الداري رفعه: هو أولى الناس بمحياه ومماته" هذا الحديث أغفله من صنف في الأطراف وكذا من صنف في رجال البخاري، لم يذكروا تميما الداري فيمن أخرج له، وهو ثابت في جميع النسخ هنا. وذكر البخاري من روايته حديثا في الإيمان لكن جعله ترجمة باب وهو "الدين النصيحة" وقد أخرجه مسلم من حديثه وليس له عنده غيره، وقد تكلمت عليه هناك، وذكرته من حديث أبي هريرة وغيره أيضا فلم تعين المراد في تميم، وهو ابن أوس بن خارجة بن سواد اللخمي ثم الداري نسب إلى بنى الدار بن لخم، وكان من أهل الشام ويتعاطى التجارة في الجاهلية، وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم فيقبل منه، وكان إسلامه سنة تسع من الهجرة، وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو على المنبر عن تميم بقصة الجساسة والدجال وعد ذلك في مناقبه، وفي رواية الأكابر عن الأصاغر، وقد وجدت رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن غير تميم، وذلك فيما أخرجه أبو عبد الله بن منده في "معرفة الصحابة" في ترجمة زرعة بن سيف بن ذي يزن فساق بسنده إلى زرعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه كتابا وفيه: "وأن مالك بن مزرد الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت وقاتلت المشركين فأبشر بخير، الحديث. وكان تميم الداري من أفاضل الصحابة وله مناقب، وهو أول من أسرج المساجد وأول من قضى على الناس أخرجهما الطبراني، وسكن تميم بيت المقدس وكان سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعه عيون وغيرها إذا فتحت ففعل فتسلمها بذلك لما فتحت في زمن عمر، ذكر ذلك ابن سعد وغيره، ومات تميم سنة أربعين. وقوله: "رفعه: "هو في معنى قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ونحوها، وقد وصله البخاري في تاريخه وأبو داود. وابن أبي عاصم والطبراني والباغندي في "مسند عمر بن عبد العزيز" بالعنعنة كلهم من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: "سمعت عبيد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري قال: قلت يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يدي رجل من المسلمين؟ قال: هو أولى الناس بمحياه ومماته " قال البخاري قال بعضهم عن ابن موهب سمع تميما ولا يصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن أعتق " وقال الشافعي: هذا الحديث ليس بثابت إنما يرويه عبد العزيز بن عمر عن ابن موهب، وابن موهب ليس بالمعروف ولا نعلمه لقي تميما ومثل هذا لا يثبت، وقال الخطابي: ضعف أحمد هذا الحديث. وأخرجه أحمد والدارمي والترمذي والنسائي من رواية وكيع وغيره عن عبد العزيز عن ابن موهب عن تميم. وصرح بعضهم بسماع ابن موهب من تميم. وأما الترمذي فقال: ليس إسناده بمتصل. قال: وأدخل بعضهم بين ابن موهب وبين تميم قبيصة رواه يحيى بن حمزة. قلت: ومن طريقه أخرجه من بدأت بذكره، وقال بعضهم إنه تفرد فيه بذكر قبيصة، وقد رواه أبو إسحاق السبيعي عن ابن موهب بدون ذكر تميم أخرجه النسائي أيضا، وقال ابن المنذر: هذا الحديث مضطرب: هل هو عن ابن موهب عن تميم أو بينهما قبيصة؟ وقال بعض الرواة فيه عن عبد الله بن موهب وبعضهم ابن موهب وعبد العزيز راويه ليس بالحافظ. قلت: هو من رجال البخاري كما تقدم

(12/46)


في الأشربة ولكنه ليس بالمكثر، وأما ابن موهب فلم يدرك تميما، وقد أشار النسائي إلى أن الرواية التي وقع التصريح فيها بسماعه من تميم خطأ ولكن وثقه بعضهم، وكان عمر بن عبد العزيز ولاه القضاء، ونقل أبو زرعة الدمشقي في تاريخه بسند له صحيح عن الأوزاعي أنه كان يدفع هذا الحديث ولا يرى له وجها، وصحح هذا الحديث أبو زرعة الدمشقي وقال: "هو حديث حسن الخرج متصل " وإلى ذلك أشار البخاري بقوله واختلفوا في صحة هذا الخبر، وجزم في " التاريخ " بأنه لا يصح لمعارضته حديث: "إنما الولاء لمن أعتق " ويؤخذ منه أنه لو صح سنده لما قاوم هذا الحديث، وعلى التنزل فتردد في الجمع هل يخص عموم الحديث المتفق على صحته بهذا فيستثنى منه من أسلم أو تؤول الأولوية في قوله: "أولى الناس " بمعنى النصرة والمعاونة وما أشبه ذلك لا بالميراث ويبقى الحديث المتفق على صحته على عمومه؟ جنح الجمهور إلى الثاني ورجحانه ظاهر، وبه جزم ابن القصار فيما حكاه ابن بطال فقال: لو صح الحديث لكان تأويله أنه أحق بموالاته في النصر والإعانة والصلاة عليه إذا مات ونحو ذلك، ولو جاء الحديث بلفظ أحق بميراثه لوجب تخصيص الأول والله أعلم. قال ابن المنذر: قال الجمهور بقول الحسن في ذلك، وقال حماد وأبو حنيفة وأصحابه وروي عن النخعي أنه يستمر إن عقل عنه، وإن لم يعقل عنه فله أن يتحول لغيره واستحق الثاني وهلم جرا، وعن النخعي قول آخر: ليس له أن يتحول، وعنه إن استمر إلى أن مات تحول عنه وبه قال إسحاق وعمر بن عبد العزيز، ووقع ذلك في طريق الباغندي التي أسلفتها، وفي غيرها أنه أعطى رجلا أسلم على يديه رجل فمات وترك مالا وبنتا نصف المال الذي بقي بعد نصيب البنت. ثم ذكر المصنف حديث ابن عمر في قصة بريرة من أجل قوله فيه: "فإن الولاء لمن أعتق، لأن اللام فيه للاختصاص أي الولاء مختص بمن أعتق، وقد تقدم توجيهه. وقوله فيه: "لا يمنعك" وقع في رواية الكشميهني: "لا يمنعك" بالتأكيد. ثم ذكر حديث عائشة في ذلك مختصرا وقال في آخره: "قال وكان زوجها حرا" وقد تقدم قبل باب من وجه آخر عن منصور أن قائل ذلك هو الأسود راويه عن عائشة، وفي الباب الذي قبله من طريق الحكم عن إبراهيم أنه الحكم، ومضى الكلام على ذلك مستوفى بحمد الله تعالى، ومحمد المذكور في أول السند الثاني قال أبو علي العساني هو ابن سلام إن شاء الله، وجرير هو ابن عبد الحميد. قلت: وقد وقع في الاستقراض "حدثنا محمد حدثنا جرير" كذا عند الأكثر غير منسوب ووقع في رواية أبي علي بن شبوية عن الفربري "محمد بن سلام" وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: "محمد بن يوسف " يعني البيكندي، وليس في الكتاب محمد عن جرير سوى هذين الموضعين والمرجح أنه ابن سلام، وقد أغرب أبو نعيم فأخرج الحديث من طريق عثمان ابن أبي شيبة عن جرير ثم قال: أخرجه البخاري عن عثمان، كذا وجدته وما أظنه إلا ذهولا.

(12/47)


23- باب: مَا يَرِثُ النِّسَاءُ مِنْ الْوَلاَءِ
6759- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَقَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ الْوَلاَءَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اشْتَرِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
6760- حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ وَوَلِيَ النِّعْمَةَ"

(12/47)


قوله: "باب ما يرث النساء من الولاء" ذكر في حديث ابن عمر المذكور في الباب قبله من وجه آخر عن نافع وحديث عائشة من وجه آخر عن منصور مقتصرا على قوله: "الولاء لمن أعطى الورق وولي النعمة " وهذا اللفظ لوكيع عن سفيان الثوري عن منصور، وقد أخرجه الترمذي من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بملفظ: "أنها أرادت أن تشتري بريرة فاشترطوا الولاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فذكره. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق وكيع أيضا ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي جميعا عن سفيان تاما وقال: لفظهما واحد، فعرف أن وكيعا كان ربما اختصره، وعرف أنه في قصة بريرة، وقد ذكره أصحاب منصور كأبي عوانة بلفظ: "إنما الولاء لمن أعتق" وكذلك ذكره أصحاب إبراهيم كالحاكم والأعمش وأصحاب الأسود وأصحاب عائشة وكلها في الكتب الستة، وتفرد الثوري وتابعه جرير عن منصور بهذا اللفظ، فيحتمل أن يكون منصور رواه لهما بالمعنى، وقد تفرد الثوري بزيادة قوله: "وولي النعمة" ومعنى قوله أعطى الورق أي الثمن، وإنما عبر بالورق لأنه الغالب، ومعنى قوله: "وولي النعمة" أعتق، ومطابقته لقوله: "الولاء لمن أعتق" أن صحة العتق تستدعي سبق ملك والملك يستدعي ثبوت العوض، قال ابن بطال: هذا الحديث يقتضي أن الولاء لكل معتق ذكرا كان أو أنثى وهو مجمع عليه، وأما جر الولاء فقال الأبهري: ليس بين الفقهاء اختلاف أنه ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أولاد من أعتقن، إلا ما جاء عن مسروق أنه قال: لا يختص الذكور بولاء من أعتق آباؤهم بل الذكور والإناث فيه سواء كالميراث، ونقل ابن المنذر عن طاوس مثله، وعليه اقتصر سحنون فيما نقله ابن التين، وتعقب الحصر الذي ذكره الأبهري تبعا لسحنون وغيره بأنه يرد عليه ولد الإناث من ولد من أعتقن، قال: والعبارة السالمة أن يقال إلا ما أعتقن أو جره إليهن من أعتقن بولادة أو عتق، احترازا ممن لها ولد من زنا أو كانت ملاعنة أو كان زوجها عبدا فإن ولاء ولد هؤلاء كلهن لمعتق الأم، والحجة للجمهور اتفاق الصحابة، ومن حيث النظر أن المرأة لا تستوعب المال بالفرض الذي هو آكد من التعصيب، فاختص بالولاء من يستوعب المال وهو الذكر وإنما ورثن من عتقن لأنه عن مباشرة لا عن جر الإرث، واستدل بقوله: "الولاء لمن أعطى الورق " على من قال فيمن أعتق عن غيره بوصية من المعتق عنه أن الولاء للمعتق عملا بعموم قوله: "الولاء لمن أعتق " وموضع الدلالة منه قوله: "الولاء لمن أعطى الورق" فدل على أن المراد بقوله: "لمن أعتق " لمن كان من عتق في ملكه حين العتق لا لمن باشر العتق فقط.

(12/48)


باب مولى القوم من أنفسهم ، و ابن الأخت منهم
...
24- باب مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَابْنُ الأُخْتِ مِنْهُمْ
6761- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ وَقَتَادَةُ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ" أَوْ كَمَا قَالَ
6763- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن قتادة "عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم"
قوله: "باب" بالتنوين "مولى القوم من أنفسهم" أي عتيقهم ينسب نسبتهم ويرثونه. قوله: "وابن الأخت منهم" أي لأنه ينتسب إلى بعضهم وهي أمه. قوله: "حدثنا شعبة حدثنا معاوية بن قرة وقتادة عن أنس" هكذا

(12/48)


وقع في رواية آدم عن شعبة مقرونا، وأكثر الرواة قالوا "عن شعبة عن قتادة وحده عن أنس" وقد تقدم بيان ذلك في مناقب قريش وأورده مختصرا، ومن وجه آخر عن شعبة عن قتادة مطولا في غزوة حنين وتقدمت فوائده هناك وفي كتاب الجزية، وأخرجه الإسماعيلي من طرق عن شعبة عن قتادة وقال: المعروف عن شعبة في "مولى القوم منهم أو من أنفسهم" روايته عن قتادة وعن معاوية بن قرة، والمعروف عنه في "ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم" روايته عن قتادة وحده، وانفرد علي بن الجعد عن شعبة به عن معاوية بن قرة أيضا. قلت: وليس كما قال، بل تابعه أبو النصر عن شعبة عن معاوية بن قرة أيضا أخرجه أحمد في مسنده عنه وأفاد فيه أن المعنى بذلك النعمان بن مقرن المزني وكانت أمه أنصارية والله أعلم. واستدل بقوله: "ابن أخت القوم منهم" من قال بأن ذوي الأرحام يرثون كما ورث العصبات، وحمله من لم يقل بذلك على ما تقدم، وكأن البخاري رمز إلى الجواب بإيراد هذا الحديث، لأنه لو صح الاستدلال بقوله: "ابن أخت القوم منهم" على إرادة الميراث لصح الاستدلال له على أن العتيق يرث ممن أعتقه لورود مثله في حقه، فدل على أن المراد بقوله: "من أنفسهم " وكذا " منهم " في المعاونة والانتصار والبر والشفقة ونحو ذلك لا في الميراث. وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في ذكر ذلك إبطال ما كانوا علية في الجاهلية من عدم الالتفات إلى أولاد البنات فضلا عن أولاد الأخوات حتى قال قائلهم:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فأراد بهذا الكلام التحريض كل الألفة بين الأقارب. قلت: وأما القول في الموالي فالحكمة فيه ما تقدم ذكره من جواز نسبة العبد إلى مولاه لا بلفظ البنوة لما سيأتي قريبا من الوعيد الثابت لمن انتسب إلى غير أبيه وجواز نسبته إلى نسب مولاه بلفظ النسبة، وفي ذلك جمع بين الأدلة، وبالله التوفيق.

(12/49)


25- باب: مِيرَاثِ الأَسِيرِ
قَالَ وَكَانَ شُرَيْحٌ يُوَرِّثُ الأَسِيرَ فِي أَيْدِي الْعَدُوِّ وَيَقُولُ: "هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "أَجِزْ وَصِيَّةَ الأَسِيرِ وَعَتَاقَهُ وَمَا صَنَعَ فِي مَالِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ دِينِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مَالُهُ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَشَاءُ"
6763- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عدي عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا فإلينا".
قوله: "باب ميراث الأسير" أي سواء عرف خبره أم جهل. قوله: "وكان شريح" بمعجمة أوله ومهملة آخره وهو ابن الحارث القاضي الكندي الكوفي المشهور. قوله: "يورث الأسير في أيدي العدو ويقول هو أحوج إليه" وصله ابن أبي شيبة والدارمي من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن شريح قال: "يورث الأسير إذا كان في أرض العدو " وزاد ابن أبي شيبة: قال شريح أحوج ما يكون إلى ميراثه وهو أسير. قوله: "وقال عمر بن عبد العزيز: أجز وصية الأسير وعتاقته وما صنع في ماله ما لم يتغير عن دينه، فإنما هو ماله يصنع فيه ما يشاء" في رواية الكشميهني: "ما شاء" وهذا وصله عبد الرزاق عن معمر عن إسحاق بن راشد أن عمر كتب إليه أن أجز وصية الأسير، وأخرجه الدارمي من طريق ابن المبارك عن معمر عن إسحاق بن راشد عن عمر بن عبد

(12/49)


العزيز في الأسير يوصي قال: أجز لي وصيته ما دام على الإسلام لم يتغير عن دينه. قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أن الأسير إذا وجب له ميراث أنه يوقف له، وعن سعيد بن المسيب أنه لم يورث الأسير في أيدي العدو، قال: وقول الجماعة أولى، لأنه إذا كان مسلما دخل تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالا فلورثته " وإلى هذا أشار البخاري بإيراد حديث أبي هريرة، وقد تقدم شرحه قريبا. وأيضا فهو مسلم تجري عليه أحكام المسلمين فلا يخرج عن ذلك إلا بحجة كما أشار إليه عمر بن عبد العزيز، ولا يكفي أن يثبت أنه ارتد حتى يثبت أن ذلك وقع منه طوعا فلا يحكم بخروج ماله عنه حتى يثبت أنه ارتد طائعا لا مكرها، وما ذكره ابن بطال عن سعيد بن المسيب أخرجه ابن أبي شيبة، وأخرج عنه أيضا رواية أخرى أنه يرث، وعن الزهري روايتين أيضا، وعن النخعي لا يرث. "تنبيه" تقدم في أواخر النكاح في " باب حكم المفقود في أهله وماله " أشياء تتعلق بالأسير في حكم زوجته وماله وأن زوجته لا تتزوج وماله لا يقسم ما تحققت حياته وعلم مكانه، فإذا انقطع خبره فهو مفقود، وتقدم بيان الاختلاف في حكمه هناك.

(12/50)


باب لا يرث المسلم الكافر و لا الكافر المسلم ، و إذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له
...
26- باب: لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَإِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ الْمِيرَاثُ فَلاَ مِيرَاثَ لَهُ
6764- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ"
قوله: "باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" هكذا ترجم بلفظ الحديث ثم قال: "وإذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له " فأشار إلى أن عمومه يتناول هذه الصورة، فمن قيد عدم التوارث بالقسمة احتاج إلى دليل، وحجة الجماعة أن الميراث يستحق بالموت، فإذا انتقل عن ملك الميت بموته لم ينتظر قسمته لأنه استحق الذي انتقل عنه ولو لم يقسم المال. قال ابن المنير: صورة المسألة إذا مات مسلم وله ولدان مثلا مسلم وكافر فأسلم الكافر قبل قسمة المال قال ابن المنذر: ذهب الجمهور إلى الأخذ بما دل عليه عموم حديث أسامة يعني المذكور في هذا الباب إلا ما جاء عن معاذ قال: يرث المسلم من الكافر من غير عكس، واحتج بأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام يزيد ولا ينقص، وهو حديث أخرجه أبو داود وصححه الحاكم من طريق يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي عنه قال الحاكم صحيح الإسناد، وتعقب بالانقطاع بين أبي الأسود ومعاذ ولكن سماعه منه ممكن، وقد زعم الجوزقاني أنه باطل وهي مجازفة. وقال القرطبي في "المفهم": هو كلام محكي ولا يروى كذا قال، وقد رواه من قدمت ذكره فكأنه ما وقف على ذلك. وأخرج أحمد بن منيع بسند قوي عن معاذ أنه كان يورث المسلم من الكافر بغير عكس وأخرج مسدد عنه أن أخوين اختصما إليه: مسلم ويهودي مات أبوهما يهوديا فحاز ابنه اليهودي ماله فنازعه المسلم فورث معاذ المسلم، وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن معقل قال: ما رأيت قضاء أحسن من قضاء قضى به معاوية: نرث أهل الكتاب ولا يرثونا، كما يحل النكاح فيهم ولا يحل لهم، وبه قال مسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وإسحاق، وحجة الجمهور أنه قياس في معارضة النص وهو صريح في المراد ولا قياس مع وجوده، وأما الحديث فليس نصا في المراد بل هو محمول على أنه يفضل غيره من الأديان ولا تعلق له بالإرث، وقد عارضه قياس آخر وهو أن التوارث يتعلق بالولاية ولا ولاية بين المسلم والكافر لقوله

(12/50)


تعالى :{لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وبأن الذمي يتزوج الحربية ولا يرثها، وأيضا فإن الدليل ينقلب فيما لو قال الذمي أرث المسلم لأنه يتزوج إلينا، وفيه قول ثالث وهو الاعتبار بقسمة الميراث جاء ذلك عن عمر وعثمان وعن عكرمة والحسن وجابر بن زيد وهو رواية عن أحمد. قلت: ثبت عن عمر خلافه كما مضى في " باب توريث دور مكة " من كتاب الحج فإن فيه بعد ذكر حديث الباب مطولا في ذكر عقيل ابن أبي طالب فكان عمر يقول فذكر المتن المذكور هنا سواء. قوله: "عن ابن شهاب" هو الزهري، وكذا وقع في رواية للإسماعيلي من وجه آخر عن أبي عاصم. قوله: "عن علي بن حسين" هو المعروف بزين العابدين وعمرو بن عثمان أي ابن عفان، وقد تقدم في الحج من هذا الشرح بيان من رواه عن الزهري مصرحا بالإخبار بينه وبين علي وكذا بين علي وعمرو، واتفق الرواة عن الزهري أن عمرو بن عثمان بفتح أوله وسكون الميم إلا أن مالكا وحده قال: "عمر" بضم أوله وفتح الميم، وشذت روايات عن غير مالك على وفقه وروايات عن مالك على وفق الجمهور وقد بين ذلك ابن عبد البر وغيره، ولم يخرج البخاري رواية مالك وقد عد ذلك ابن الصلاح في " علوم الحديث: "له في أمثلة المنكر وفيه نظر أوضحه شيخنا في "النكت" وزدت عليه في "الإفصاح". قوله: "لا يرث المسلم الكافر إلخ" تقدم في المغازي بلفظ: "المؤمن" في الموضعين وأخرجه النسائي كل من رواية هشيم (1) عن الزهري بلفظ: "لا يتوارث أهل ملتين " وجاءت رواية شاذة عن ابن عيينة عن الزهري مثلها، وله شاهد عند الترمذي من حديث جابر وآخر من حديث عائشة عند أبي يعلى وثالث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في السنن الأربعة وسند أبي داود فيه إلى عمرو صحيح، وتمسك بها من قال لا يرث أهل ملة كافرة من أهل ملة أخرى كافرة، وحملها الجمهور على أن المراد بإحدى الملتين الإسلام وبالأخرى الكفر فيكون مساويا للرواية التي بلفظ حديث الباب، وهو أولى من حملها على ظاهر عمومها حتى يمتنع على اليهودي مثلا أن يرث من النصراني، والأصح عند الشافعية أن الكافر يرث الكافر وهو قول الحنفية والأكثر ومقابله عن مالك وأحمد، وعنه التفرقة بين الذمي والحربي وكذا عند الشافعية وعن أبي حنيفة لا يتوارث حربي من ذمي فإن كانا حربيين شرط أن يكونا من دار واحدة، وعند الشافعية لا فرق، وعندهم وجه كالحنفية، وعن الثوري وربيعة وطائفة الكفر ثلاث ملل يهودية ونصرانية وغيرهم فلا ترث ملة من هذه من ملة من الملتين، وعن طائفة من أهل المدينة والبصرة كل فريق من الكفار ملة فلم يورثوا مجوسيا من وثني ولا يهوديا من نصراني وهو قول الأوزاعي، وبالغ فقال ولا يرث أهل نحلة من دين واحد أهل نحلة أخرى منه كاليعقوبية والملكية من النصارى، واختلف في المرتد فقال الشافعي وأحمد يصير ماله إذا مات فيئا للمسلمين. وقال مالك يكون فيئا إلا إن قصد بردته أن يحرم ورثته المسلمين فيكون لهم، وكذا قال في الزنديق، وعن أبي يوسف ومحمد لورثته المسلمين، وعن أبي حنيفة ما كسبه قبل الردة لورثته المسلمين وبعد الردة لبيت المال، وعن بعض التابعين كعلقمة يستحقه أهل الدين الذي انتقل إليه، وعن داود يختص بورثته من أهل الدين الذي انتقل إليه ولم يفصل، فالحاصل من ذلك ستة مذاهب حررها الماوردي، واحتج القرطبي في "المفهم" لمذهبه بقوله تعالى :{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فهي ملل متعددة وشرائع مختلفة، قال: وأما ما احتجوا به في قوله تعالى :{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} فوحد الملة فلا حجة فيه لأن الوحدة في اللفظ
ـــــــ
(1) كذا في نسخة، وفي أخرى "من رواية إبراهيم"

(12/51)


وفي المعنى الكثرة لأنه أضافه إلى مفيد الكثرة كقول القائل: أخذ عن علماء الدين علمهم يريد علم كل منهم، قال: واحتجوا بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخرها، والجواب أن الخطاب بذلك وقع لكفار قريش وهم أهل وثن، وأما ما أجابوا به عن حديث: "لا يتوارث أهل ملتين " بأن المراد ملة الكفر وملة الإسلام فالجواب عنه بأنه إذا صح في حديث أسامة فمردود في حديث غيره، واستدل بقوله: "لا يرث الكافر المسلم: "على جواز تخصيص عموم الكتاب بالآحاد لأن قوله تعالى :{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} عام في الأولاد فخص منه الولد الكافر فلا يرث من المسلم بالحديث المذكور، وأجيب بأن المنع حصل بالإجماع، وخبر الواحد إذا حصل الإجماع على وفقه كان التخصيص بالإجماع لا بالخبر فقط. قلت: لكن يحتاج من احتج في الشق الثاني به إلى جواب، وقد قال بعض الحذاق: طريق العام هنا قطعي ودلالته على كل فرد ظنية وطريق الخاص هنا ظنية ودلالته عليه قطعية فيتعادلان، ثم يترجح الخاص بأن العمل به يستلزم الجمع بين الدليلين المذكورين بخلاف عكسه.

(12/52)


باب ميراث العبد النصراني و المكاتب النصراني و إثم من انتفى من ولده - باب من ادعى أخا أو ابن أخ
...
27- باب: مِيرَاثِ الْعَبْدِ النَّصْرَانِيِّ وَالْمُكَاتَبِ النَّصْرَانِيِّ وَإِثْمِ مَنْ انْتَفَى مِنْ وَلَدِهِ
28- بَاب مَنْ ادَّعَى أَخًا أَوْ ابْنَ أَخٍ
6765- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلاَمٍ، فَقَالَ سَعْدٌ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ، قَالَتْ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ بعد"
قوله: "باب ميراث العبد النصراني والمكاتب النصراني" كذا للأكثر بغير حديث، ولأبي ذر عن المستملى والكشميهني: "باب من ادعى أخا أو ابن أخ " ولم يذكر فيه حديثا، ثم قال عن الثلاثة " باب ميراث العبد النصراني والمكاتب النصراني، ولم يذكر أيضا فيه حديثا، ثم قال عنهم " باب إثم من انتفى من ولده " وذكر قصة سعد وعبد بن زمعة فجرى ابن بطال وابن التين على حذف " باب من انتفي من ولده " وجعل قصة ابن زمعة لباب من ادعى أخا ولم يذكروا في " باب ميراث العبد " حديثا على ما وقع عند الأكثر، وأما الإسماعيلي فلم يقع عنده " باب ميراث العبد النصراني " بل وقع عنده " باب إثم من انتفى من ولده " وقال: ذكره بلا حديث، ثم قال: "باب من ادعى أخا أو ابن أخ " وذكر قصة عبد بن زمعة، ووقع عند أبي نعيم " باب ميراث النصراني ومن انتفى من ولده ومن ادعى أخا أو ابن أخ " وهذا كله راجع إلى رواية الفربري عن البخاري، وأما النسفي فوقع عنده " باب ميراث العبد النصراني والمكاتب النصراني " وقال: لم يكتب فيه حديثا، وفي عقبه " باب من انتفى من ولده ومن ادعى أخا أو ابن أخ " وذكر فيه قصة ابن زمعة، فتلخص لنا من هذا كله أن الأكثر جعلوا قصة ابن زمعة

(12/52)


لترجمة من ادعى أخا أو ابن أخ ولا إشكال فيه، وأما الترجمتان فسقطت إحداهما عند بعض وثبتت عند بعض، قال ابن بطال: لم يدخل البخاري تحت هذا الرسم حديثا، ومذهب العلماء أن العبد النصراني إذا مات فماله لسيده بالرق لأن ملك العبد غير صحيح ولا مستقر فهو مال السيد يستحقه لا بطريق الميراث وإنما يستحق بطريق الميراث ما يكون ملكا مستقرا لمن يورث عنه. وعن ابن سيرين ماله لبيت المال وليس للسيد فيه شيء لاختلاف دينهما، وأما المكاتب فإن مات قبل أداء كتابته وكان في ماله وفاء لباقي كتابته أخذ ذلك في كتابته فما فضل فهو لبيت المال. قلت: وفي مسألة المكاتب خلاف ينشأ من الخلاف فيمن أدى بعض كتابته هل يعتق منه بقدر ما أدى أو يستمر على الرق ما بقي عليه شيء؟ وقد مضى الكلام على ذلك في كتاب العتق. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون البخاري أراد أن يدرج هذه الترجمة تحت الحديث الذي قبلها لأن النظر فيه محتمل كأن يقال يأخذ المال لأن العبد ملكه وله انتزاعه منه حيا فكيف لا يأخذه ميتا؟ ويحتمل أن يقال لا يأخذه لعموم "لا يرث المسلم الكافر" والأول أوجه. قلت: وتوجيهه ما تقدم، وجرى الكرماني عل ما وقع عند أبي نعيم فقال: هاهنا ثلاث تراجم متوالية والحديث ظاهر للثالثة وهب من ادعى أخا أو ابن أخ، قال: وهذا يؤيد ما ذكروا أن البخاري ترجم لأبواب وأراد أن يلحق بها الأحاديث فلم يتفق له إتمام ذلك، وكان أخلى بين كل ترجمتين بياضا فضم النقلة بعض ذلك إلى بعض. قلت: ويحتمل أن يكون في الأصل ميراث العبد النصراني والمكاتب النصراني كان مضموما إلى "لا يرث المسلم الكافر إلخ" وليس بعد ذلك ما يشكل إلا ترجمة من انتفى من ولده ولا سيما على سياق أبي ذر وسأذكره في الباب الذي يليه. "تكميل": لم يذكر البخاري ميراث النصراني إذا أعتقه المسلم، وقد حكى فيه ابن التين ثمانية أقوال فقال عمر بن عبد العزيز والليث والشافعي: هو كالمولى المسلم إذا كانت له ورثة وإلا فماله لسيده، وقيل يرثه الولد خاصة، وقيل الولد والوالد خاصة، وقيل هما والإخوة، وقيل هم والعصبة، وقيل ميراثه لذوي رحمه وقيل لبيت المال فيئا، وقيل يوقف فمن ادعاه من النصارى كان له. انتهى ملخصا. وما نقله عن الشافعي لا يعرفه أصحابه، واختلف في عكسه فالجمهور أن الكافر إذا أعتق مسلما لا يرثه بالولاء، وعن أحمد رواية لأنه يرثه، ونقل مثله عن علي، وأما ما أخرج النسائي والحاكم من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعا: "لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته " وأعله ابن حزم بتدليس أبي الزبير، وهو مردود فقد أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابرا، فلا حجة فيه لكل من المسألتين لأنه ظاهر في الموقوف.
قوله: "باب إثم من انتفى من ولده" أورد فيه حديث عائشة في قصة مخاصمة سعد بن أبي وقاص وعبد ابن زمعة، وقد مضى شرحه مستوفى في "باب الولد للفراش" وقد خفي توجيه هذه الترجمة لهذا الحديث، ويحتمل أن يخرج على أن عتبة بن أبي وقاص مات مسلما وأن الذي حمله على أن يوصي أخاه بأخذ ولد وليدة زمعة خشية أن يكون سكوته عن ذلك مع اعتقاده أنه ولده يتنزل منزلة النفي، وكان سمع ما ورد في حق من انتفى من ولده من الوعيد فعهد إلى أخيه أنه ابنه وأمره باستلحاقه، وعلى تقدير أن يكون عتبة مات كافرا فيحتمل أن يكون ذلك هو الحامل لسعد على استلحاق ابن أخيه ويلحق انتفاء ولد الأخ بالانتفاء من الولد لأنه قد يرث من عمه كما يرث من أبيه؛ وقد ورد الوعيد في حق من انتفى من ولده من رواية مجاهد عن ابن عمر رفعه: "من انتفى من ولده

(12/53)


ليفضحه في الدنيا فضحه الله يوم القيامة" الحديث، وفي سنده الجراح والد وكيع مختلف فيه، وله طريق أخرى عن ابن عمر أخرجه ابن عدي بلفظ: "من انتفى من ولده فليتبوأ مقعده من النار" وفي سنده محمد بن أبي الزعيزعة راوية عن نافع قال أبو حاتم منكر الحديث، وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم بلفظ: "وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه" الحديث، وفي سنده عبيد الله بن يوسف حجازي ما روى عنه سوى يزيد بن الهاد.

(12/54)


29- باب: مَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ
6766- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ - حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ"
6767- فَذَكَرْتُهُ لِأَبِي بَكْرَةَ فَقَالَ "وَأَنَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6768- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عِرَاكٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ"
قوله: "باب من ادعى إلى غير أبيه" لعل المراد إثم من ادعى كما صرح به في الذي قبله، أو أطلق لوقوع الوعيد فيه بالكفر وبتحريم الجنة فوكل ذلك إلى نظر من يسعى في تأويله. قوله: "خالد هو ابن عبد الله" يعني الواسطي الطحان، وخالد شيخه هو ابن مهران الحذاء، وأبو عثمان هو النهدي، وسعد هو ابن أبي وقاص، والسند إلى سعد كله بصريون، والقائل "فذكرته لأبي بكرة" هو أبو عثمان، وقد وقع في رواية هشيم عن خالد الحذاء عند مسلم في أوله قصة، ولفظه عن أبي عثمان قال: "لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة فقلت: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: "فذكر الحديث مرفوعا: "فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والمراد بزياد الذي ادعى زياد بن سمية وهي أمه كانت أمة للحارث بن كلدة زوجها لمولى عبيد فأتت بزياد على فراشه وهم بالطائف قبل أن يسلم أهل الطائف، فلما كان في خلافة عمر سمع أبو سفيان بن حرب كلام زياد عند عمر وكان بليغا فأعجبه فقال: إني لأعرف من وضعه في أمه ولو شئت لسميته ولكن أخاف من عمر، فلما ولي معاوية الخلافة كان زياد على فارس من قبل علي فأراد مداراته فأطمعه في أنه يلحقه بأبي سفيان فأصغى زياد إلى ذلك فجرت في ذلك خطوب إلى أن ادعاه معاوية وأمره على البصرة ثم على الكوفة وأكرمه، وسار زياد سيرته المشهورة وسياسته المذكورة، فكان كثير من أصحابه والتابعين ينكرون ذلك على معاوية محتجين بحديث: "الولد للفراش " وقد مضى قريبا شيء من ذلك، وإنما خص أبو عثمان أبا بكرة بالإنكار لأن زيادا كان أخاه من أمه، ولأبي بكرة مع زياد قصة تقدمت الإشارة إليها في كتاب الشهادات، وقد تقدم الحديث في غزوة حنين من رواية عاصم الأحول عن أبي عثمان قال: "سمعت سعدا وأبا بكرة" وتقدم هناك ما يتعلق بأبي بكرة. قوله: "من ادعي إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام" وفي رواية عاصم المشار إليها عند مسلم: "من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه" والثاني مثله وقد تقدم شرحه في مناقب قريش في الكلام على حديث أبى ذر وفيه:

(12/54)


"ومن ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر" ووقع هناك "إلا كفر بالله" وتقدم القول فيه، وقد ورد في حديث أبي بكر الصديق "كفر بالله انتفى من نسب وإن دق" أخرجه الطبراني. قوله: "أخبرني عمرو" هو ابن الحارث وعراك بكسر المهملة وتخفيف الراء وآخره كاف هو ابن مالك. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية مسلم عن هارون بن سعيد عن ابن وهب بسنده إلى عراك أنه سمع أبا هريرة. قوله: "لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر" كذا للأكثر وكذا لمسلم، ووقع للكشميهني: "فقد كفر" وسيأتي في " باب رجم الحبلى من الزنا " في حديث عمر الطويل " لا ترغبوا عن آبائهم فهو كفر بربكم " قال ابن بطال: ليس معنى هذين الحديثين أن من اشتهر بالنسبة إلى غير أبيه أن يدخل في الوعيد كالمقداد بن الأسود، وإنما المراد به من تحول عن نسبته لأبيه إلى غير أبيه عالما عامدا مختارا، وكانوا في الجاهلية لا يستنكرون أن يتبنى الرجل ولد غيره ويصير الولد ينسب إلى الذي تبناه حتى نزل قوله تعالى :{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} وقوله سبحانه وتعالى :{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} فنسب كل واحد إلى أبيه الحقيقي وترك الانتساب إلى من تبناه لكن بقي بعضهم مشهورا بمن تبناه فيذكر به لقصد التعريف لا لقصد النسب الحقيقي كالمقداد بن الأسود، وليس الأسود أباه، وإنما كان تبناه واسم أبيه الحقيقي عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة البهراني، وكان أبوه حليف كندة فقيل له الكندي، ثم حالف هو الأسود بن عبد يغوث الزهري فتبنى المقداد فقيل له ابن الأسود. انتهى ملخصا موضحا. قال: وليس المراد بالكفر حقيقة الكفر التي يخلد صاحبها في النار، وبسط القول في ذلك، وقد تقدم توجيهه في مناقب قريش وفي كتاب الأيمان في أوائل الكتاب. وقال بعض الشراح: سبب إطلاق الكفر هنا أنه كذب على الله كأنه يقول خلقني الله من ماء فلان، وليس كذلك لأنه إنما خلقه من غيره، واستدل به على أن قوله في الحديث الماضي قريبا "ابن أخت القوم من أنفسهم" و "مولى القوم من أنفسهم" ليس على عمومه إذ لو كان على عمومه لجاز أن ينسب إلى خاله مثلا وكان معارضا لحديث الباب المصرح بالوعيد الشديد لمن فعل ذلك، فعرف أنه خاص، والمراد به أنه منهم في الشفقة والبر والمعاونة ونحو ذلك.

(12/55)


30- باب: إِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ ابْنًا
6769-حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "كَانَتْ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ وَقَالَتْ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَم فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم، فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتْ الصُّغْرَى لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى"
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ"
قوله: "باب إذا ادعت المرأة ابنا" ذكر قصة المرأتين اللتين كان مع كل منهما ابن فأخذ، الذئب أحدهما

(12/55)


فاختلفتا في أيهما الذاهب، فتحاكمتا إلى داود، وفيه حكم سليمان، وقد مضى شرحه مستوفى في ترجمة سليمان من أحاديث الأنبياء. قال ابن بطال: أجمعوا على أن الأم لا تستلحق بالزوج ما ينكره، فإن أقامت البينة قبلت حيث تكون في عصمته، فلو لم تكن ذات زوج وقالت لمن لا يعرف له أب: هذا ابني ولم ينازعها فيه أحد فإنه يعمل بقولها وترثه ويرثها ويرثه وإخوته لأمه، ونازعه ابن التين فحكى عن ابن القاسم: لا يقبل قولها إذا ادعت اللقيط، وقد استنبط النسائي في "السنن الكبرى" من هذا الحديث أشياء نفيسة فترجم " نقض الحاكم ما حكم به غيره ممن هو مثله أو أجل إذا اقتضى الأمر ذلك " ثم ساق الحديث من طريق علي بن عياش عن شعيب بسنده المذكور هنا، وصرح فيه بالتحديث بين أبي الزناد وبين الأعرج وأبي هريرة، وساق الحديث نحو أبي اليمان، وترجم أيضا الحاكم بخلاف ما يعترف به المحكوم له إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به، وساق الحديث من طريق مسكين بن بكير عن شعيب وفيه: "فقال اقطعوه نصفين لهذه نصف ولهذه نصف، فقالت الكبرى نعم اقطعوه، فقالت الصغرى لا تقطعوه هو ولدها فقضى به للتي أبت أن يقطعه " فأشار إلى قول الصغرى هو ولدها ولم بعمل سليمان بهذا الإقرار بل قضى به لها مع إقرارها بأنه لصاحبتها، وترجم له " التوسعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله افعل ليستبين له الحق " وساقه من طريق محمد بن عجلان عن أبي الزناد وفيه: "فقال ائتوني بالسكين أشق الغلام بينهما، فقالت الصغرى أتشقه؟ فقال: نعم، فقالت: لا تفعل، حظي منه لها " وقد أخرجه مسلم من طريق أبي الزناد ولم يسق لفظه بل أحال به على رواية ورقاء عن أبي الزناد، وقد ذكرت ما فيها في ترجمة سليمان. ثم ترجم "الفهم في القضاء والتدبر فيه والحكم بالاستدلال" ثم ساقه من طريق بشر بن نهيك عن أبي هريرة وذكر الحديث مختصرا وقال في آخره: "فقال سليمان - يعني للكبرى - لو كان ابنك لم ترضي أن يقطع".

(12/56)


31- باب الْقَائِفِ
6770- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ: "أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ"
6771- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَسْرُورٌ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَرَأَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ"
قوله: "باب القائف" هو الذي يعرف الشبه ويميز الأثر، سمي بذلك لأنه يقفو الأشياء أي يتبعها فكأنه مقلوب من القافي، تقل الأصمعي: هو الذي يقفو الأثر ويقتافه قفوا وقيافة والجمع القافة، كذا وقع في الغريبين والنهاية. قوله في الطريق الثانية "عن الزهري" في رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا الزهري" أخرجه أبو نعيم. قوله: "دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه" تقدم شرحه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فقال ألم ترى إلى مجزز"

(12/56)


في الرواية التي بعدها "ألم ترى أن مجززا" والمراد من الرؤية هنا الإخبار أو العلم، ومضى في مناقب زيد من طريق ابن عيينة عن الزهري "ألم تسمعي ما قال المدلجي" ومضى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق إبراهيم بن محمد عن الزهري بلفظ: "دخل على قائف" الحديث وفيه فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأعجبه وأخبر به عائشة، ولمسلم من طريق معمر وابن جريج عن الزهري " وكان مجزز قائفا " ومجزز بضم الميم وكسر الزاي الثقيلة وحكى فتحها وبعدها زاي أخرى هذا هو المشهور، ومنهم من قال بسكون الحاء المهملة وكسر الراء ثم زاي وهو ابن الأعور بن جعدة المدلجي نسبة إلى مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة، وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد، والعرب تعترف لهم بذلك، وليس ذلك خاصا بهم على الصحيح، وقد أخرج يزيد بن هارون في الفرائض بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب أن عمر كان قائفا أورده في قصته، وعمر قرشي ليس مدلجيا ولا أسديا لا أسد قريش ولا أسد خزيمة، ومجزز المذكور هو والد علقمة بن مجزز الماضي ذكره في "باب سرية عبد الله بن حذافة" من المغازي، وذكر مصعب الزبيري والواقدي أنه سمي مجززا لأنه كان إذا أخذ أسيرا في الجاهلية جز ناصيته وأطلقه، وهذا يدفع فتح الزاي الأولى من اسمه، وعلى هذا فكان له اسم غير مجزز. لكني لم أر من ذكره. وكان مجزز عارفا بالقيافة، وذكره ابن يونس فيمن شهد فتح مصر وقال: لا أعلم له رواية. قوله: "نظر آنفا" بالمد ويجوز القصر أي قريبا أو أقرب وقت. قوله: "إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد" في الرواية التي بعدها " دخل علي فرأى أسامة بن زيد وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامها " وفي رواية إبراهيم بن سعد "وأسامة وزيد مضطجعان" وفي هذه الزيادة دفع توهم من يقول: لعله حاباهما بذلك لما عرف من كونهم كانوا يطعنون في أسامة. قوله: "بعضها من بعض" في رواية الكشميهني: "لمن بعض" قال أبو داود: نقل أحمد بن صالح عن أهل النسب أنهم كانوا في الجاهلية يقدحون في نسب أسامة لأنه كان أسود شديد السواد وكان أبوه زيد أبيض من القطن، فلما قال القائف ما قال مع اختلاف اللون سر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لكونه كافا لهم عن الطعن فيه لاعتقادهم ذلك، وقد أخرج عبد الرزاق من طريق ابن سيرين، أن أم أسامة - وهي أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم - كانت سوداء فلهذا جاء أسامة أسود، وقد وقع في الصحيح عن ابن شهاب أن أم أيمن كانت حبشية وصيفة لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال كانت من سبي الحبشة الذين قدموا زمن الفيل، فصارت لعبد المطلب فوهبها لعبد الله، وتزوجت قبل زيد عبيد الحبشي فولدت له أيمن فكنيت به واشتهرت بذلك، وكان يقال لها أم الظباء، وقد تقدم لها ذكر في أواخر الهبة. قال عياض: لو صح أن أم أيمن كانت سوداء لم ينكروا سواد ابنها أسامة لأن السوداء قد تلد من الأبيض أسود. قتلت: يحتمل أنها كانت صافية فجاء أسامة شديد السواد فوقع الإنكار لذلك، وفي الحديث جواز الشهادة على المنتقبة والاكتفاء بمعرفتها من غير رؤية الوجه، وجواز اضطجاع الرجل مع ولده في شعار واحد، وقبول شهادة من يشهد قبل أن يستشهد عند عدم التهمة، وسرور الحاكم لظهور الحق لأحد الخصمين عند السلامة من الهوى، وتقدم في "باب إذا عرض بنفي الولد" من كتاب اللعان حدث أبي هريرة في قصة الذي قال: "إن امرأتي ولدت غلاما أسود، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعله نزعه عرق " ومضى شرحه هناك وبالله التوفيق "تنبيه": وجه إدخال هذا الحديث في كتاب الفرائض الرد على من زعم أن القائف لا يعتبر قوله، فإن من اعتبر قوله فعمل به لزم منه حصول التوارث بين الملحق والملحق به.

(12/57)


"خاتمة": اشتمل كتاب الفرائض من الأحاديث المرفوعة على ثلاثة وأربعين حديثا، المعلق منها حديث تميم الداري فيمن أسلم على يديه رجل والبقية موصولة، والمكرر منها فيه وفيما مضى سبعة وثلاثون حديثا والبقية خالصة لم يخرج مسلم منها سوى حديث أبي هريرة " في الجنين غرة " وحديث ابن عباس " ألحقوا الفرائض بأهلها " وأما حديث معاذ في توريث الأخت والبنت وحديث ابن مسعود في توريث بنت الابن وحديثه في السائبة وحديث تميم الداري المعلق فانفرد البخاري بتخريجها. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أربعة وعشرون أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(12/58)


كتاب الحدود
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
86- كِتَاب الْحُدُودِ
قوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الحدود". جمع حد، والمذكور فيه هنا حد الزنا والخمر والسرقة، وقد حصر بعض العلماء ما قيل بوجوب. الحد به في سبعة عشر شيئا، فمن المتفق عليه الردة والحرابة ما لم يتب قبل القدرة والزنا والقذف به وشرب الخمر سواء أسكر أم لا والسرقة، ومن المختلف فيه جحد العارية وشرب ما يسكر كثيره من غير الخمر والقذف بغير الزنا والتعريض بالقذف واللواط ولو بمن يحل له نكاحها وإتيان البهيمة والسحاق وتمكين المرأة القرد وغيره من الدواب من وطئها والسحر وترك الصلاة تكاسلا والفطر في رمضان، هذا كله خارج عما تشرع فيه المقاتلة كما لو ترك قوم الزكاة ونصبوا لذلك الحرب. وأصل الحد ما يحجز بين شيئين فيمنع اختلاطهما، وحد الدار ما يميزها، وحد الشيء وصفه المحيط به المميز له عن غيره. وسميت عقوبة الزاني ونحوه حدا لكونها تمنعه المعاودة أو لكونها مقدرة من الشارع، وللإشارة إلى المنع سمي البواب حدادا. قال الراغب: وتطلق الحدود ويراد بها نفس المعاصي كقوله تعالى :{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} وعلى فعل فيه شيء مقدر، ومنه {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وكأنها لما فصلت بين الحلال والحرام سميت حدودا. فمنها ما زجر عن فعله ومنها ما زجر من الزيادة عليه والنقصان منه، وأما قوله تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فهو من الممانعة، ويحتمل أن يراد استعمال الحديد إشارة إلى المقاتلة، وذكرت البسملة في رواية أبي ذر سابقة على "كتاب".

(12/58)


باب الزنا و شرب الخمر
...
1- باب: مَا يُحْذَرُ مِنْ الْحُدُودِ
قوله: "باب ما يحذر من الحدود" كذا للمستملى ولم يذكر فيه حديثا، ولغيره: "ما يحذر" عطفا على الحدود. وفي رواية النسفي جعل البسملة بين الكتاب والباب ثم قال: "لا يشرب الخمر. وقال ابن عباس إلخ"
2- باب: الزنا وشرب الْخَمْرُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الإِيمَانِ فِي الزِّنَا
6772- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ

(12/58)


2- بَاب مَا جَاءَ فِي ضَرْبِ شَارِبِ الْخَمْرِ
6773- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح وحَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ، وَالنِّعَالِ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ"
[الحديث 6773- طرفه في: 6776]
قوله: "باب ما جاء في ضرب شارب الخمر" أي خلافا لمن قال يتعين الجلد وبيان الاختلاف في كميته، وقد تقدم الكلام على تحريم الخمر ووقته وسبب نزوله وحقيقتها وهل هي مشتقة وهل يجوز تذكيرها في أول كتاب الأشربة. قوله: "عن قتادة عن أنس" في رواية لمسلم والنسائي: "سمعت أنسا " أخرجاها من طريق خالد بن الحارث عن شعبة، وهو يدل على أن رواية شبابة عن شعبة بزيادة الحسن بين قتادة وأنس التي أخرجها النسائي من المزيد في متصل الأسانيد. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم" كذا ذكر طريق شعبة عن قتادة ولم يسق المتن وتحول إلى طريق هشام عن قتادة (1) فساق المتن على لفظه، وقد ذكره في الباب الآتي بعد باب عن شيخ آخر عن هشام بهذا اللفظ،
ـــــــ
(1) في نسخ الصحيح التي بايدينا لم يسق المتن في طريق هشام وتحول إلى طريق شعبة

(12/63)


وأما لفظ شعبة فأخرجه البيهقي في الخلافيات من طريق جعفر بن محمد القلانسي عن آدم شيخ البخاري فيه بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل شرب الخمر فضربه بجريدتين نحوا من أربعين، ثم صنع أبو بكر مثل ذلك فلما كان عمر استشار الناس فقال له عبد الرحمن بن عوف أخف الحدود ثمانون ففعله عمر " ولفظ رواية خالد التي ذكرتها إلى قوله: "نحوا من أربعين " وأخرجه مسلم والنسائي أيضا من طريق محمد بن جعفر عن شعبة مثل رواية آدم إلا أنه قال: "وفعله أبو بكر فلما كان عمر - أي في خلافته - استشار الناس فقال عبد الرحمن - يعني ابن عوف - أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر " ووقع لبعض رواة مسلم: "أخف الحدود ثمانين" قال ابن دقيق العيد: فيه حذف عامل النصب والتقدير جعله، وتعقبه الفاكهي فقال: هذا بعيد أو باطل وكأنه صدر عن غير تأمل لقواعد العربية ولا لمراد المتكلم إذ لا يجوز أجود الناس الزيدين على تقدير اجعلهم، لأن مراد عبد الرحمن الإخبار بأخف الحدود لا الأمر بذلك، فالذي يظهر أن راوي النصب وهم واحتمال توهيمه أولى من ارتكاب ما لا يجوز لفظا ولا معنى، ورد عليه تلميذه ابن مرزوق بأن عبد الرحمن مستشار والمستشار مسئول والمستشير سائل ولا يبعد أن يكون المستشار آمرا، قال: والمثال الذي مثل به غير مطابق. قلت بل هو مطابق لما ادعاه أن عبد الرحمن قصد الإخبار فقط، والحق أنه أخبر برأيه مستندا إلى القياس، وأقرب التقادير أخف الحدود أجده ثمانين أو أجد أخف الحدود ثمانين فنصبهما، وأغرب ابن العطار صاحب النووي في " شرح العمدة " فنقل عن بعض العلماء أنه ذكره بلفظ أخف الحدود ثمانون بالرفع وأعربه مبتدأ وخبرا، قال ولا أعلمه منقولا رواية، كذا قال والرواية بذلك ثابتة والأولى في توجيهها ما أخرجه مسلم أيضا من طريق معاذ بن هشام عن أبيه " ثم جلد أبو بكر أربعين فلما كان عمرو دنا الناس من الريف والقرى قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخف الحدود قال فجلد عمر ثمانين " فيكون المحذوف من هذه الرواية المختصرة أرى أن تجعلها وأداة التشبيه. وأخرج النسائي من طريق يزيد بن هارون عن شعبة " فضربه بالنعال نحوا من أربعين، ثم أتى به أبو بكر فصنع به مثل ذلك " ورواه همام عن قتادة بلفظ: "فأمر قريبا من عشرين رجلا فجلده كل رجل جلدتين بالجريد والنعال " أخرجه أحمد والبيهقي، وهذا يجمع بين ما اختلف فيه على شعبة وإن جملة الضربات كانت نحو أربعين لا إنه جلده بجريدتين أربعين فتكون الجملة ثمانين كما أجاب به بعض الناس. ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظ: "جلد بالجريد والنعال أربعين " علقه أبو داود بسند صحيح ووصله البيهقي، وكذا أخرجه مسلم من طريق وكيع عن هشام بلفظ: "كان يضرب في الخمر مثله " وقد نسب صاحب العمدة قصة عبد الرحمن هذه إلى تخريج الصحيحين ولم يخرج البخاري منها شيئا وبذلك جزم عبد الحق في الجمع ثم المنذري، نعم ذكر معنى صنيع عمر فقط في حديث السائب في الباب الثالث، وسيأتي بسط ذلك فيه. "تنبيه": الرجل المذكور لم أقف على اسمه صريحا لكن سأذكر في " باب ما يكره من لعن الشارب " ما يؤخذ منه، أنه النعيمان.

(12/64)


3- بَاب: مَنْ أَمَرَ بِضَرْبِ الْحَدِّ فِي الْبَيْتِ
6774- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "جِيءَ بِالنُّعَيْمَانِ - أَوْ بِابْنِ النُّعَيْمَانِ – شَارِبًا"، "فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ بِالْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوهُ، قَالَ فَضَرَبُوهُ،

(12/64)


فَكُنْتُ أَنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ بِالنِّعَالِ"
قوله: "باب من أمر بضرب الحد في البيت" يعني خلافا لمن قال: لا يضرب الحد سرا، وقد ورد عن عمر في قصة ولده أبي شحمة لما شرب بمصر فحده عمرو بن العاص في البيت أن عمر أنكر عليه وأحضره إلى المدينة وضربه الحد جهرا، روى ذلك ابن سعد وأشار إليه الزبير وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولا، وجمهور أهل العلم على الاكتفاء، وحملوا صنيع عمر على المبالغة في تأديب ولده لا أن إقامة الحد لا تصح إلا جهرا. قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، وأيوب هو السختياني، وابن أبي مليكة هو عبد الله ابن عبيد الله وقد سمي في الباب الذي بعده من رواية وهيب بن خالد عن أيوب. قوله: "عن عقبة بن الحارث" أي ابن عامر بن نوفل بن عبد مناف، ووقع في رواية عبد الوارث عن أيوب عند أحمد " حدثني عقبة بن الحارث " وقد اتفق هؤلاء على وصله، وخالفهم إسماعيل بن علية فقال: "عن أيوب عن ابن أبي مليكة مرسلا " أخرجه مسدد عنه. قوله: "جيء" كذا لهم على البناء للمجهول، وقد ذكرت في الوكالة تسمية الذي أتى به ولم ينبه عليه أحد ممن صنف في المبهمات. قوله: "بالنعيمان أو بابن النعيمان" في رواية الكشميهني في الباب الذي يليه " نعيمان " بغير ألف ولام في الموضعين وقد تقدم التنبيه على ذلك في كتاب الوكالة وأنه وقع عند الإسماعيلي: "النعيمان" بغير شك، فإن الزبير بن بكار وابن منده أخرجا الحديث من وجهين فيهما "النعيمان" بغير شك وذكرت نسبه هناك. وفي رواية الزبير " كان النعيمان يصيب الشراب " وهذا يعكر على قول ابن عبد البر أن الذي كان أتى به قد شرب الخمر هو ابن النعيمان فإنه قيل في ترجمة النعيمان: كان رجلا صالحا وكان له ابن انهمك في شرب الخمر فجلده النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في موضع آخر أظن ابن النعيمان جلد في الخمر أكثر من خمسين مرة، وذكر الزبير في بكار أيضا أنه كان مزاحا وله في ذلك قصة مع سويبط بن حرملة ومع مخرمة بن نوفل والد المسور مع أمير المؤمنين عثمان ذكرها الزبير مع نظائر لها في " كتاب الفكاهة والمزاح " وذكر محمد ابن سعد أنه عاش إلى خلافة معاوية. قوله: "شاربا" في رواية وهيب "وهو سكران" وزاد: "فشق عليه أي على النبي صلى الله عليه وسلم: "ووقع في رواية معلى بن أسد عن وهيب عند النسائي: "فشق على النبي صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة " وسيأتي بقية ما يتعلق بقصة النعيمان في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. واستدل به على جواز إقامة الحد على السكران في حال سكره، وبه قال بعض الظاهرية والجمهور على خلافه وأولوا الحديث بأن المراد ذكر سبب الضرب وأن ذلك الوصف استمر في حال ضربه وأيدوا ذلك بالمعنى وهو أن المقصود بالضرب في الحد الإيلام ليحصل به الردع، وفي الحديث تحريم الخمر ووجوب الحد على شاربها سواء كان شرب كثيرا أم قليلا وسواء أسكر أم لا.

(12/65)


باب الضرب بالجريد و النعال
...
4- باب الضَّرْبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ
6775- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِنُعَيْمَانَ - أَوْ بِابْنِ نُعَيْمَانَ - وَهُوَ سَكْرَانُ، فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ مَنْ فِي الْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوهُ فَضَرَبُوهُ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَكُنْتُ فِيمَنْ ضَرَبَهُ"

(12/65)


6776- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ"
6777- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قَالَ: اضْرِبُوهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ. قَالَ: لاَ تَقُولُوا هَكَذَا، لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ"
[الحديث 6777- طرفه في 6781]
6778- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ سَمِعْتُ عُمَيْرَ بْنَ سَعِيدٍ النَّخَعِيَّ قَالَ "سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ حَدًّا عَلَى أَحَدٍ فَيَمُوتَ فَأَجِدَ فِي نَفْسِي، إِلاَّ صَاحِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ"
6779- حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْجُعَيْدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ "عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ فصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا، حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى إِذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ"
قوله: "باب الضرب بالجريد والنعال" أي في شرب الخمر، وأشار بذلك إلى أنه لا يشترط الجلد. وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال وهي أوجه عند الشافعية: أصحها يجوز الجلد بالسوط ويجوز الاقتصار على الضرب س بالأيدي والنعال والثياب، ثانيها يتعين الجلد، ثالثها يتعين الضرب. وحجة الراجح أنه فعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت نسخه والجلد في عهد الصحابة فدل على جوازه، وحجة الآخر أن الشافعي قال في " الأم ": لو أقام عليه الحد بالسوط فمات وجبت الدية فسوى بينه وبين ما إذا زاد فدل على أن الأصل الضرب بغير السوط، وصرح أبو الطيب ومن تبعه بأنه لا يجوز بالسوط، وصرح القاضي حسين بتعيين السوط واحتج بأنه إجماع الصحابة ونقل عن النص في القضاء ما يوافقه، ولكن في الاستدلال بإجماع الصحابة نظر فقد قال النووي في " شرح مسلم: ": أجمعوا على الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب، ثم قال: والأصح جوازه بالسوط، وشذ من قال هو شرط وهو غلط منابذ للأحاديث الصحيحة. قلت: وتوسط بعض المتأخرين فعين السوط للمتمردين وأطراف الثياب والنعال للضعفاء ومن عداهم بحسب ما يليق بهم وهو متجه، ونقل ابن دقيق العيد عن بعضهم أن معنى قوله: "نحوا من أربعين" تقدير أربعين ضربة بعصا مثلا لا أن المراد عدد معين، ولذلك وقع في بعض طرق عبد الرحمن بن أزهر أن أبا بكر سأل من حضر ذلك الضرب فقومه أربعين فضرب أبو بكرم أربعين، قال: وهذا عندي خلاف الظاهر، ويبعده قوله في الرواية الأخرى "جلد في الخمر أربعين" قلت: ويبعد التأويل المذكور ما تقدم من

(12/66)


رواية همام في حديث أنس "فأمر عشرين رجلا فجلده كل رجل جلدتين بالجريد والنعال، وذكر المصنف فيه خمسة أحاديث: الأول حديث عقبة بن الحارث قد تقدم في الباب الذي قبله وهو ظاهر فيما ترجم له. الثاني حديث أنس وقد تقدم أيضا في الباب الأول، وقوله فيه: "جلد" تقدم في الباب الأول بلفظ: "ضرب" ولا منافاة بينهما لأن معنى جلد هنا ضربه فأصاب جلده وليس المراد به ضربه بالجلد. الثالث حديث أبي هريرة: قوله: "أبو ضمرة أنس" يعني ابن عياض. قوله: "عن يزيد بن الهاد" هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن عبد الله بن شداد بن الهاد فنسب إلى جده الأعلى، وهو وشيخه وشيخ شيخه مدنيون تابعيون، ووقع في آخر الباب الذي يليه " أنس بن عياض حدثنا ابن الهاد". قوله: "عن محمد بن إبراهيم" أي ابن الحارث بن خالد التيمي، زاد في رواية الطحاوي من طريق نافع ابن يزيد عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم أنه حدثه عن أبي سلمة. قوله: "عن أبي سلمة" هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وصرح به في رواية الطحاوي. قوله: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب" في الرواية التي في الباب الذي يليه " بسكران " وهذا الرجل يحتمل أن يفسر بعبد الله الذي كان يلقب حمارا المذكور في الباب الذي بعده من حديث عمر، ويحتمل أن يفسر بابن النعيمان، والأول أقرب لأن في قصته " فقال رجل من القوم اللهم العنه " ونحوه في قصة المذكور في حديث أبي هريرة لكن لفظه: "قال بعض القوم أخزاك الله " ويحتمل أن يكون ثالثا فإن الجواب في حديثي عمر وأبي هريرة مختلف، وأخرج النسائي بسند صحيح عن أبي سعيد " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بنشوان فأمر به فنهز بالأيدي وخفق بالنعال " الحديث، ولعبد الرزاق بسند صحيح عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين " كان الذي يشرب الخمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وبعض إمارة عمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه". قوله: "قال اضربوه" هذا يفسر الرواية الآتية بلفظ: "فأمر بضربه " ولكن لم يذكر فيهما عددا. قوله: "قال بعض القوم" في الرواية الآتية " فقال رجل " وهذا الرجل هو عمر بن الخطاب إن كانت هذه القصة متحدة مع حديث عمر في قصة حمار كما سأبينه. قوله: "لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان" في الرواية الأخرى " لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم، ووجه عونهم الشيطان بذلك أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية أن يحصل له الخزي فإذا دعوا عليه بالخزي فكأنهم قد حصلوا مقصود الشيطان. ووقع عند أبي داود من طريق ابن وهب عن حيوة بن شريح ويحيى بن أيوب وابن لهيعة ثلاثتهم عن يزيد بن الهاد نحوه وزاد في آخره: "ولكن قولوا اللهم اغفر له اللهم ارحمه " زاد فيه أيضا بعد الضرب" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأصحابه بكتوه " وهو أمر بالتبكيت وهو مواجهته بقبيح فعله، وقد فسره في الخبر بقوله: "فأقبلوا عليه يقولون له ما اتقيت الله عز وجل، ما خشيت الله جل ثناؤه، ما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أرسلوه " وفي حديث عبد الرحمن بن أزهر عند الشافعي بعد ذكر الضرب ثم قال عليه الصلاة والسلام : "بكتوه فبكتوه، ثم أرسله " ويستفاد من ذلك منع الدعاء على العاصي بالإبعاد عن رحمة الله كاللعن، وسيأتي مزيد لذلك في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. الحديث الرابع قوله: "سفيان" هو الثوري، وصرح به في رواية مسلم وأبو حصين بمهملتين مفتوح أوله، وعمير بن سعيد بالتصغير وأبوه بفتح أوله وكسر ثانيه تابعي كبير ثقة، قال النووي: هو في جميع النسخ من الصحيحين هكذا، ووقع في الجمع للحميدي "سعد" بسكون العين وهو غلط، ووقع في المهذب وغيره: "عمر بن سعد" بحذف الياء فيهما وهو غلط فاحش. قلت: ووقع في بعض النسخ من البخاري كما ذكر الحميدي، ثم رأيته في تقييد أبي علي الجياني منسوبا لأبي زيد

(12/67)


المروزي قال: والصواب سعيد، وجزم بذلك ابن حزم وأنه في البخاري سعد بسكون العين فلعله سلف الحميدي، ووقع للنسائي والطحاوي "عمر" بضم العين وفتح الميم كما في المهذب لكن الذي عندهما في أبيه "سعيد" ووقع عند ابن حزم في النسائي: "عمرو" بفتح أوله وسكون الميم والمحفوظ "عمير" كما قال النووي، وقد أعل ابن حزم الخبر بالاختلاف في اسم عمير واسم أبيه، وليست بعلة تقدح في روايته وقد عرفه ووثقه من صحح حديثه، وقد عمر عمير المذكور وعاش إلى سنة خمس عشرة ومائة. قوله: "ما كنت لأقيم" اللام لتأكيد النفي كما في قوله تعالى :{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} . قوله: "فيموت فأجد" بالنصب فيهما، ومعنى أجد من الوجد، وله معان اللائق منها هنا الحزن، وقوله: "فيموت" مسبب عن "أقيم" وقوله: "فأجد" مسبب عن السبب والمسبب معا. قوله: "إلا صاحب الخمر" أي شاربها وهو بالنصب، ويجوز الرفع، والاستثناء منقطع أي لكن أجد من حد شارب الخمر إذا مات، ويحتمل أن يكون التقدير ما أجد من موت أحد يقام عليه الحد شيئا إلا من موت شارب الخمر فيكون الاستثناء على هذا متصلا قاله الطيبي. قوله: "فإنه لو مات وديته" أي أعطيت ديته لمن يستحق قبضها، وقد جاء مفسرا من طريق أخرى أخرجها النسائي وابن ماجه من رواية الشعبي عن عمير بن سعيد قال: "سمعت عليا يقول من أقمنا عليه حدا فمات فلا دية له إلا من ضربناه في الخمر". قوله: "لم يسنه" أي لم يسن فيه عددا معينا، في رواية شريك " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستن فيه شيئا " ووقع في رواية الشعبي "فإنما هو شيء صنعناه". "تكملة": اتفقوا على أن من مات من الضرب في الحد لا ضمان على قاتله إلا في حد الخمر، فعن علي ما تقدم، وقال الشافعي: إن ضرب بغير السوط فلا ضمان وإن جلد بالسوط ضمن قبل الدية وقيل قدر تفاوت ما بين الجلد بالسوط وبغيره، والدية في ذلك على عاقلة الإمام، وكذلك لو مات فيما زاد على الأربعين. الحديث الخامس قوله: "عن الجعيد" بالجيم والتصغير، ويقال الجعد بفتح أوله ثم سكون، وهو تابعي صغير تقدمت روايته عن السائب بن يزيد في كتاب الطهارة، وروي عنه هنا بواسطة، وهذا السند للبخاري في غاية العلو لأن بينه وبين التابعي فيه واحدا فكان في حكم الثلاثيات، وإن كان التابعي رواه عن تابعي آخر وله عنده نظائر، ومثله ما أخرجه في العلم عن عبيد الله بن موسى عن معروف عن أبي الطفيل عن علي فإن أبا الطفيل صحابي فيكون في حكم الثلاثيات لأن بينه وبين الصحابي فيه اثنين وإن كان صحابيه إنما رواه عن صحابي آخر، وقد أخرجه النسائي من رواية حاتم بن إسماعيل عن الجعيد سمعت السائب، فعلى هذا فإدخال يزيد ابن خصيفة بينهما إما من المزيد في متصل الأسانيد وإما أن يكون الجعيد سمعه من السائب، وثبته فيه يزيد، ثم ظهر لي السبب في ذلك وهو أن رواية الجعيد المذكورة عن السائب مختصرة فكأنه سمع الحديث تاما من يزيد عن السائب فحدث بما سمعه من السائب عنه من غير ذكر يزيد، وحدث أيضا بالتام فذكر الواسطة، ويزيد ابن خصيفة المذكور هو ابن عبد الله بن خصيفة نسب لجده وقيل هو يزيد بن عبد الله بن يزيد بن خصيفة فيكون نسب إلى جد أبيه، وخصيفة هو ابن يزيد بن ثمامة أخو السائب بن يزيد صحابي هذا الحديث فتكون رواية يزيد بن خصيفة لهذا الحديث عن عم أبيه أو عم جده. قوله: "كنا نؤتى بالشارب" فيه إسناد القائل الفعل بصيغة الجمع التي يدخل هو فيها مجازا لكونه مستويا معهم في أمر ما وإن لم يباشر هو ذلك الفعل الخاص لأن السائب كان صغيرا جدا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تقدم في الترجمة النبوية أنه كان ابن ست سنين فيبعد أن يكون شارك من كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من ضرب الشارب، فكأن مراده بقوله: "كنا" أي

(12/68)


الصحابة، لكن يحتمل أن يحضر مع أبيه أو عمه فيشاركهم في ذلك فيكون الإسناد على حقيقته. قوله: "وإمرة أبي بكر" بكسر الهمزة وسكون الميم أي خلافته، وفي رواية حاتم " من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وبعض زمان عمر". قوله: "وصدرا من خلافة عمر" أي جانبا أوليا. قوله: "فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا" أي فنضربه بها. قوله: "حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين" ظاهره أن التحديد بأربعين إنما وقع في آخر خلافة عمر، وليس كذلك لما في قصة خالد بن الوليد وكتابته إلى عمر فإنه يدل على أن أمر عمر بجلد ثمانين كان في وسط إمارته لأن خالدا مات في وسط خلافة عمر، وإنما المراد بالغاية المذكورة أولا استمرار الأربعين فليست الفاء معقبة لآخر الإمرة بل لزمان أبي بكر وبيان ما وقع في زمن عمر، فالتقدير فاستمر جلد أربعين، والمراد بالغاية الأخرى في قوله: "حتى إذا عتوا " تأكيدا لغاية الأولى وبيان ما صنع عمر بعد الغاية الأولى. وقد أخرجه النسائي من رواية المغيرة بن عبد الرحمن عن الجعيد بلفظ: "حتى كان وسط إمارة عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا " وهذه لا إشكال فيها، قوله: "حتى إذا عتوا" بمهملة ثم مثناة من العتو وهو التجبر، والمراد هنا انهماكهم في الطغيان والمبالغة في الفساد في شرب الخمر لأنه ينشأ عنه الفساد. قوله: "وفسقوا" أي خرجوا عن الطاعة، ووقع في رواية للنسائي: "فلم ينكلوا " أي يدعوا. قوله: "جلد ثمانين" وقع في مرسل عبيد بن عمير أحد كبار التابعين فيما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عنه نحو حديث السائب وفيه: "أن عمر جعله أربعين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطا وقال: هذا أدنى الحدود " وهذا يدل على أنه وافق عبد الرحمن بن عوف في أن الثمانين أدنى الحدود، وأراد بذلك الحدود المذكورة في القرآن وهي حد الزنا وحد السرقة للقطع وحد القذف وهو أخفها عقوبة وأدناها عددا، وقد مضى من حديث أنس في رواية شعبة وغيره سبب ذلك وكلام عبد الرحمن فيه حيث قال: "أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر" وأخرج مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد (1) "أن عمر استشار في الخمر فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن تجعله ثمانين، فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى " فجلد عمر في الخمر ثمانين، وهذا معضل وقد وصله النسائي والطحاوي من طريق يحيى بن فليح عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس مطولا ولفظه: "أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصا حتى توفي فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدا فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر فجلدهم كذلك حتى أتى برجل " فذكر قصة وأنه تأول قوله تعالى:{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} وأن ابن عباس ناظره في ذلك واحتج ببقية الآية وهو قوله تعالى :{إِذَا مَا اتَّقَوْا} والذي يرتكب ما حرمه الله ليس بمتق، فقال عمر: ما ترون؟ فقال علي فذكره وزاد بعد قوله وإذا هذى افترى " وعلى المفتري ثمانون جلدة فأمر به عمر فجلده ثمانين " ولهذا الأثر عن علي طرق أخرى منها ما أخرجها الطبراني والطحاوي والبيهقي من طريق أسامة بن زيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن " أن رجلا من بني كلب يقال له ابن دبرة أخبره أن أبا بكر كان يجلد في الخمر أربعين وكان عمر يجلد فيها أربعين، قال فبعثني خالد بن الوليد إلى عمر فقلت: إن الناس قد انهمكوا في الخمر واستخفوا العقوبة، فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ قال ووجدت عنده عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف في المسجد،
ـــــــ
(1) هو الكلاعي، وفي النسخة "ثور بن زيد" وهو الديلي، وقد روى مالك عن كليلهما، وكلاهما ثقة

(12/69)


فقال علي" فذكر مثل رواية ثور الموصولة، ومنها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة " أن عمر شاور الناس في الخمر فقال له علي: إن السكران إذا سكر هذى " الحديث، ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: "شرب نفر من أهل الشام الخمر وتأولوا الآية المذكورة فاستشار عمر فيهم فقلت: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا ضربتهم ثمانين ثمانين وإلا ضربت أعناقهم لأنهم استحلوا ما حرم الله، فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين " وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عبد الرحمن بن أزهر في قصة الشارب الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم بحنين وفيه: "فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد: إن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا العقوبة، قال وعنده المهاجرون والأنصار، فسألهم واجتمعوا على أن يضربه ثمانين. وقال علي" فذكر مثله وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج ومعمر عن ابن شهاب قال: "فرض أبو بكر في الخمر أربعين سوطا وفرض فيها عمر ثمانين " قال الطحاوي: جاءت الأخبار متواترة عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن في الخمر شيئا، ويؤيده فذكر الأحاديث التي ليس فيها تقييد بعدد حديث أبي هريرة وحديث عقبة بن الحارث المتقدمين وحديث عبد الرحمن بن أزهر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فقال للناس اضربوه، فمنهم من ضربه بالنعال ومنهم من ضربه بالعصا ومنهم من ضربه بالجريد، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترابا فرمى به في وجهه " وتعقب بأنه قد ورد في بعض طرقه ما يخالف قوله وهو ما عند أبي داود والنسائي في هذا الحديث: "ثم أتى أبو بكر بسكران فتوخى الذي كان من ضربهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه أربعين، ثم أتى عمر بسكران فضربه أربعين " فإنه يدل على أنه وإن لم يكن في الخبر تنصيص على عدد معين ففيما اعتمده أبو بكر حجة على ذلك. ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق حضير بمهملة وضاد معجمة مصغر ابن لمنذر " أن عثمان أمر عليا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر اجلده فجلده، فلما بلغ أربعين قال: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة، وهذا أحب إلي " فإن فيه الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وسائر الأخبار ليس فيها عدد إلا بعض الروايات الماضية عن أنس ففيها " نحو الأربعين " والجمع بينها أن عليا أطلق الأربعين فهو حجة على من ذكرها بلفظ التقريب، وادعى الطحاوي أن رواية أبي ساسان هذه ضعيفة لمخالفتها الآثار المذكورة، ولأن راويها عبد الله بن فيروز المعروف بالداناج بنون وجيم ضعيف، وتعقبه البيهقي بأنه حديث صحيح مخرج في المسانيد والسنن، وأن الترمذي سأل البخاري عنه فقواه، وقد صححه مسلم وتلقاه الناس بالقبول. وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب، قال البيهقي: وصحة الحديث إنما تعرف بثقة رجاله، وقد عرفهم حفاظ الحديث وقبلوهم، وتضعيفه الداناج لا يقبل لأن الجرح بعد ثبوت التعديل لا يقبل إلا مفسرا، ومخالفة الراوي غيره في بعض ألفاظ الحديث لا تقتضي تضعيفه ولا سيما مع ظهور الجمع، قلت: وثق الداناج المذكور أبو زرعة والنسائي، وقد ثبت عن علي في هذه القصة من وجه آخر أنه جلد الوليد أربعين، ثم ساقه من طريق هشام بن يوسف عن معمر وقال: أخرجه البخاري، وهو كما قال، وقد تقدم في مناقب عثمان وأن بعض الرواة قال فيه إنه جلد ثمانين، وذكرت ما قيل في ذلك هناك. وطعن الطحاوي ومن تبعه في رواية أبي ساسان أيضا بأن عليا قال وهذا أحب إلي أي جلد أربعين مع أن عليا جلد النجاشي الشاعر في خلافته ثمانين، وبأن ابن أبي شيبة أخرج من وجه آخر عن علي أن حد النبيذ ثمانون، والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما أنه لا تصح أسانيد شيء من ذلك عن علي، الثاني على

(12/70)


تقدير ثبوته فإنه يجوز أن ذلك يختلف بحال الشارب، وأن حد الخمر لا ينقص عن الأربعين ولا يزاد على الثمانين، والحجة إنما هي في جزمه بأنه صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وقد جمع الطحاوي بينهما بما أخرجه هو والطبري من طريق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن عليا جلد الوليد بسوط له طرفان، وأخرج الطحاوي أيضا من طريق عروة مثله لكن قال: "له ذنبان أربعين جلدة في الخمر في زمن عثمان " قال الطحاوي: ففي هذا الحديث أن عليا جلده ثمانين لأن كل سوط سوطان، وتعقب بأن السند الأول منقطع فإن أبا جعفر ولد بعد موت علي بأكثر من عشرين سنة، وبأن الثاني في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف وعروة لم يكن في الوقت المذكور مميزا وعلى تقدير ثبوته فليس في الطريقين أن الطرفين أصاباه في كل ضربة. وقال البيهقي: يحتمل أن يكون ضربه بالطرفين عشرين فأراد بالأربعين ما اجتمع من عشرين وعشرين، ويوضح ذلك قوله في بقية الخبر " وكل سنة وهذا أحب إلي " لأنه لا يقتضي التغاير، والتأويل المذكور يقتضي أن يكون كل من الفريقين جلد ثمانين فلا يبقى هناك عدد يقع التفاضل فيه. وأما دعوى من زعم أن المراد بقوله هذا الإشارة إلى الثمانين فيلزم من ذلك أن يكون علي رجح ما فعل عمر على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهذا لا يظن به قاله البيهقي، واستدل الطحاوي لضعف حديث أبي ساسان بما تقدم ذكره من قول علي " إنه إذا سكر هذى إلخ " قال فلما اعتمد علي في ذلك على ضرب المثل واستخرج الحد بطريق الاستنباط دل على أنه لا توقيف عنده من الشارع في ذلك، فيكون جزمه بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين غلطا من الراوي، إذ لو كان عنده الحديث المرفوع لم يعدل عنه إلى القياس، ولو كان عند من بحضرته من الصحابة كعمر وسائر من ذكر في ذلك شيء مرفوع لأنكروا عليه، وتعقب بأنه إنما يتجه الإنكار لو كان المنزع واحدا فأما مع الاختلاف فلا يتجه الإنكار، وبيان ذلك أن في سياق القصة ما يقتضي أنهم كانوا يعرفون أن الحد أربعون وإنما تشاوروا في أمر يحصل به الارتداع يزيد على ما كان مقررا، ويشير إلى ذلك ما وقع من التصريح في بعض طرقه أنهم احتقروا العقوبة وانهمكوا فاقتضى رأيهم أن يضيفوا إلى الحد المذكور قدره إما اجتهادا بناء على جواز دخول القياس في الحدود فيكون الكل حدا، أو استنبطوا من النص معنى يقتضي الزيادة في الحد لا النقصان منه، أو القدر الذي زادوه كان على سبيل التعزير تحذيرا وتخويفا، لأن من احتقر العقوبة إذا عرف أنها غلظت في حقه كان أقرب إلى ارتداعه، فيحتمل أن يكونوا ارتدعوا بذلك ورجع الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك فرأى علي الرجوع إلى الحد المنصوص وأعرض عن الزيادة لانتفاء سببها، ويحتمل أن يكون القدر الزائد كان عندهم خاصا بمن تمرد وظهرت منه أمارات الاشتهار بالفجور، ويدل على ذلك أن في بعض طرق حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عند الدار قطني وغيره: "فكان عمر إذا أتى بالرجل الضعيف تكون منه الزلة جلده أربعين" قال وكذلك عثمان جلد أربعين وثمانين، وقال المازري: لو فهم الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الخمر حدا معينا لما قالوا فيه بالرأي كما لم يقولوا بالرأي في غيره، فلعلهم فهموا أنه ضرب فيه باجتهاده في حق من ضربه انتهى. وقد وقع التصريح بالحد المعلوم فوجب المصير إليه ورجح القول بأن الذي اجتهدوا فيه زيادة على الحد إنما هو التعزير على القول بأنهم اجتهدوا في الحد المعين لما يلزم منه من المخالفة التي ذكرها كما سبق في تقريره. وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أنبأنا عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول: كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم، فلما كان عمر فعل ذلك حتى خشي فجعله أربعين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطا وقال: هذا أخف الحدود. والجمع

(12/71)


بين حديث علي المصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين وأنه سنة وبين حديثه المذكور في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه بأن يحمل النفي على أنه لم يحد الثمانين أي لم يسن شيئا زائدا على الأربعين، يؤيده قوله: "وإنما هو شيء صنعناه نحن " يشير إلى ما أشار به على عمر، وعلى هذا فقوله: "لو مات لوديته " أي في الأربعين الزائدة وبذلك جزم البيهقي وابن حزم، ويحتمل أن يكون قوله: "لم يسنه " أي الثمانين لقوله في الرواية الأخرى " وإنما هو شيء صنعناه " فكأنه خاف من الذي صنعوه باجتهادهم أن لا يكون مطابقا، واختص هو بذلك لكونه الذي كان أشار بذلك واستدل له ثم ظهر له أن الوقوف عندما كان الأمر عليه أولا أولى فرجع إلى ترجيحه وأخبر بأنه لو أقام الحد ثمانين فمات المضروب وداه للعلة المذكورة، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: "لم يسنه " لصفة الضرب وكونها بسوط الجلد أي لم يسن الجلد بالسوط وإنما كان يضرب فيه بالنعال وغيرها مما تقدم ذكره، أشار إلى ذلك البيهقي. وقال ابن حزم أيضا: لو جاء عن غير علي من الصحابة في حكم واحد أنه مسنون وأنه غير مسنون لوجب حمل أحدهما على غير ما حمل عليه الآخر فضلا عن علي مع سعة علمه وقوة فهمه، وإذا تعارض خبر عمر بن سعيد وخبر أبي ساسان فخبر أبي ساسان أولى بالقبول لأنه مصرح فيه برفع الحديث عن علي وخبر عمير موقوف على علي، وإذا تعارض المرفوع والموقوف قدم المرفوع. وأما دعوى ضعف سند أبي ساسان فمردودة والجمع أولى مهما أمكن من توهين الأخبار الصحيحة، وعلى تقدير أن تكون إحدى الروايتين وهما فرواية الإثبات مقدمة على رواية النفي، وقد ساعدتها رواية أنس على اختلاف ألفاظ النقلة عن قتادة، وعلى تقدير أن يكون بينهما تمام التعارض فحديث أنس سالم من ذلك، واستدل بصنيع عمر في جلد شارب الخمر ثمانين على أن حد الخمر ثمانون و هو قول الأئمة الثلاثة وأحد القولين للشافعي واختاره ابن المنذر، والقول الآخر للشافعي وهو الصحيح أنه أربعون. قلت: جاء عن أحمد كالمذهبين، قال القاضي عياض: أجمعوا على وجوب الحد في الخمر واختلفوا في تقديره، فذهب الجمهور إلى الثمانين، وقال الشافعي في المشهور عنه وأحمد في رواية وأبو ثور وداود أربعين، وتبعه على نقل الإجماع ابن دقيق العيد والنووي ومن تبعهما، وتعقب بأن الطبري وابن المنذر وغيرهما حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير واستدلوا بأحاديث الباب فإنها ساكتة عن تعيين عدد الضرب وأصرحها حديث أنس ولم يجزم فيه بالأربعين في أرجح الطرق عنه، وقد قال عبد الرزاق " أنبأنا ابن جريج ومعمر سئل ابن شهاب: كم جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر؟ فقال: لم يكن فرض فيها حدا، كان يأمر من حضره أن يضربوه بأيديهم ونعالهم حتى يقول لهم ارفعوا، وورد أنه لم يضربه أصلا وذلك فيما أخرجه أبو داود والنسائي بسند قوي " عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الخمر حدا، قال ابن عباس: وشرب رجل فسكر فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حاذى دار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك ولم يأمر فيه بشيء " وأخرج الطبري من وجه آخر " عن ابن عباس ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر إلا أخيرا، ولقد غزا تبوك فغشى حجرته من الليل سكران فقال ليقم إليه رجل فيأخذ بيده حتى يرده إلى رجله " والجواب أن الإجماع انعقد بعد ذلك على وجوب الحد لأن أبا بكر تحرى ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ضرب السكران فصيره حدا واستمر عليه، وكذا استمر من بعده وإن اختلفوا في العدد، وجمع القرطبي بين الأخبار بأنه لم يكن أولا في شرب الخمر حد وعلى ذلك يحمل حديث ابن عباس في الذي استجار بالعباس، ثم شرع فيه التعزيز على ما في سائر الأحاديث التي لا تقدير فيها، ثم شرع الحد

(12/72)


ولم يطلع أكثرهم على تعيينه صريحا مع اعتقادهم أن فيه الحد المعين، ومن ثم توخى أبو بكر ما فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقر عليه الأمر، ثم رأي عمر ومن وافقه الزيادة على الأربعين إما حدا بطريق الاستنباط وإما تعزيرا. قلت: وبقي ما ورد في الحديث أنه إن شرب فحد ثلاث مرات ثم شرب قتل في الرابعة وفي رواية في الخامسة وهو حديث مخرج في السنن من عدة طرق أسانيدها قوية، ونقل الترمذي الإجماع على ترك القتل وهو محمول على من بعد من نقل غيره عنه القول به كعبد الله بن عمرو فيما أخرجه أحمد والحسن البصري وبعض أهل الظاهر، وبالغ النووي فقال: كل قول باطل مخالف لإجماع الصحابة فمن بعدهم والحديث الوارد فيه منسوخ إما بحديث: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث " وإما لأن الإجماع دل على نسخه. قلت: بل دليل النسخ منصوص وهو ما أخرجه أبو داود من طريق الزهري عن قبيصة في هذه القصة قال: "فأتى برجل قد شرب فجلده، ثم أتى به قد شرب فجلده، ثم أتى به فجلده ثم أتى به فجلده فرفع القتل وكانت رخصة " وسيأتي بسط ذلك في الباب الذي يليه. واحتج من قال إن حده ثمانون بالإجماع في عهد عمر حيث وافقه على ذلك كبار الصحابة، وتعقب بأن عليا أشار على عمر بذلك ثم رجع علي عن ذلك واقتصر على الأربعين لأنها القدر الذي اتفقوا عليه وفي زمن أبي بكر مستندين إلى تقدير ما فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الذي أشار به فقد تبين من سياق قصته أنه أشار بذلك ردعا للذين انهمكوا لأن في بعض طرق القصة كما تقدم أنهم "احتقروا العقوبة" وبهذا تمسك الشافعية فقالوا: أقل ما في حد الخمر أربعون وتجوز الزيادة فيه إلى الثمانين على سبيل التعزير ولا يجاوز الثمانين، واستندوا إلى أن التعزير إلى رأي الإمام فرأى عمر فعله بموافقة علي ثم رجع علي ووقف عندما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ووافقه عثمان على ذلك، وأما قول علي "وكل سنة" فمعناه أن الاقتصار على الأربعين سنة النبي صلى الله عليه وسلم فصار إليه أبو بكر، والوصول إلى الثمانين سنة عمر ردعا للشاربين الذين احتقروا العقوبة الأولى ووافقه من ذكر في زمانه للمعنى الذي تقدم وسوغ لهم ذلك إما اعتقادهم جواز القياس في الحدود على رأي من يجعل الجميع حدا وإما أنهم جعلوا الزيادة تعزيرا بناء على جواز أن يبلغ بالتعزير قدر الحد ولعلهم لم يبلغهم الخبر الآتي في باب التعزير، وقد تمسك بذلك من قال بجواز القياس في الحدود وادعى إجماع الصحابة، وهي دعوى ضعيفة لقيام الاحتمال، وقد شنع ابن حزم على الحنفية في قولهم إن القياس لا يدخل في الحدود والكفارات مع جزم الطحاوي ومن وافقه منهم بأن حد الخمر وقع بالقياس على حد القذف، وبه تمسك من قال بالجواز من المالكية والشافعية، واحتج من منع ذلك بأن الحدود والكفارات شرعت بحسب المصالح، وقد تشترك أشياء مختلفة وتختلف أشياء متساوية فلا سبيل إلى علم ذلك إلا بالنص، وأجابوا عما وقع في زمن عمر بأنه لا يلزم من كونه جلد قدر حد القذف أن يكون جعل الجميع حدا بل الذي فعلوه محمول على أنهم لم يبلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حد فيه أربعين إذ لو بلغهم لما جاوزوه كما لم يجاوزوا غيره من الحدود المنصوصة، وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال فرجح أن الزيادة كانت تعزيرا، ويؤيده ما أخرجه أبو عبيد في " غريب الحديث: "بسند صحيح عن أبي رافع بن عمر أنه أتى بشارب فقال لمطيع بن الأسود: إذا أصبحت غدا فاضربه، فجاء عمر فوجده يضربه ضربا شديدا فقال: كم ضربته؟ قال ستين قال اقتص عنه بعشرين، قال أبو عبيد: يعني اجعل شدة ضربك له قصاصا بالعشرين التي بقيت من الثمانين، قال أبو عبيد: فيؤخذ من هذا الحديث أن ضرب الشارب لا يكون شديدا وأن لا يضرب في حال السكر لقوله: "إذا

(12/73)


أصبحت فاضربه" قال البيهقي: ويؤخذ منه أن الزيادة على الأربعين ليست بحد إذ لو كانت حدا لما جاز النقص منه بشدة الضرب إذ لا قائل به. وقال صاحب "المفهم" ما ملخصه بعد أن ساق الأحاديث الماضية: هذا كله يدل على أن الذي وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان أدبا وتعزيرا، ولذلك قال علي: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه، فلذلك ساغ للصحابة الاجتهاد فيه فألحقوه بأخف الحدود، وهذا قول طائفة من علمائنا. ويرد عليهم قول علي "جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين" وكذا وقوع الأربعين في عهد أبي بكر وفي خلافة عمر أولا أيضا ثم في خلافة عثمان، فلولا أنه حد لاختلف التقدير، ويؤيده قيام الإجماع على أن في الخمر الحد وإن وقع الاختلاف في الأربعين والثمانين، قال: والجواب أن النقل عن الصحابة اختلف في التحديد والتقدير، ولا بد من الجمع بين مختلف أقوالهم، وطريقه أنهم فهموا أن الذي وقع في زمنه صلى الله عليه وسلم كان أدبا من أصل ما شاهدوه من اختلاف الحال، فلما كثر الإقدام علي الشرب ألحقوه بأخف الحدود المذكورة في القرآن، وقوى ذلك عندهم وجود الافتراء من السكر فأثبتوها حذا، ولهذا أطلق على أن عمر جلد ثمانين وهي سنة ثم ظهر لعلي أن الاقتصار على الأربعين أولى مخافة أن يموت فتجب فيه الدية ومراده بذلك الثمانون وبهذا يجمع بين قوله: "لم يسنه " وبين تصريحه بأنه صلى الله عليه وسلم جلد أربعين قال: وغاية هذا البحث أن الضرب في الخمر تعزير يمنع من الزيادة على غايته وهي مختلف فيها، قال: وحاصل ما وقع من استنباط الصحابة أنهم أقاموا السكر مقام القذف لأنه لا يخلوا عنه غالبا فأعطوه حكمه، وهو من أقوى حجج القائلين بالقياس، فقد اشتهرت هذه القصة ولم ينكرها في ذلك الزمان منكر. قال: وقد اعترض بعض أهل النظر بأنه إن ساغ إلحاق حد السكر بحد القذف فليحكم له بحكم الزنا والقتل لأنهما مظنته وليقتصروا في الثمانين على من سكر لا على من اقتصر على الشرب ولم يسكر، قال: وجوابه أن المظنة موجودة غالبا في القذف نادرة في الزنا والقتل، الوجود يحقق ذلك، وإنما أقاموا الحد على الشارب وإن لم يسكر مبالغة في الردع لأن القليل يدعو إلى الكثير والكثير يسكر غالبا وهو المظنة، ويؤيده أنهم اتفقوا على إقامة الحد في الزنا بمجرد الإيلاج وإن لم يتلذذ ولا أنزل ولا أكمل. قلت: والذي تحصل لنا من الآراء في حد الخمر ستة أقوال: الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل فيها حدا معلوما بل كان يقتصر في ضرب الشارب على ما يليق به، قال ابن المنذر قال بعض أهل العلم: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمرهم بضربه وتبكيته، فدل على أن لا حد في السكر بل فيه التنكيل والتبكيت ولو كان ذلك على سبيل الحد لبينه بيانا واضحا. قال: فلما كثر الشراب في عهد عمر استشار الصحابة، ولو كان عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء محدود لما تجاوزوه كما لم يتجاوزوا حد القذف ولو كثر القاذفون وبالغوا في الفحش، فلما اقتضى رأيهم أن يجعلوه كحد القذف، وأستدل علي بما ذكر من أن في تعاطيه ما يؤدي إلى وجود القذف غالبا أو إلى ما يشبه القذف، ثم رجع إلى الوقوف عند تقدير ما وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، دل على صحة ما قلناه، لأن الروايات في التحديد بأربعين اختلفت عن أنس وكذا عن علي فالأولى أن لا يتجاوزوا أقل ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ضربه لأنه المحقق سواء كان ذلك حدا أو تعزيرا. الثاني أن الحد فيه أربعون ولا تجوز الزيادة عليها. الثالث مثله لكن للإمام أن يبلغ به ثمانين، وهل تكون الزيادة من تمام الحد أو تعزيرا؟ قولان. الرابع أنه ثمانون ولا تجوز الزيادة عليها. الخامس كذلك وتجوز الزيادة تعزيرا. وعلى الأقوال كلها هل يتعين الجلد بالسوط أو يتعين بما عداه أو يجوز بكل من ذلك؟ أقوال. السادس إن شرب فجلد ثلاث مرات فعاد الرابعة وجب قتله، وقيل إن شرب أربعا فعاد الخامسة وجب قتله، وهذا السادس في الطرف الأبعد من

(12/74)


القول الأول وكلاهما شاذ وأظن الأول رأي البخاري فإنه لم يترجم بالعدد أصلا ولا أخرج هنا في العدد الصريح شيئا مرفوعا، وتمسك من قال لا يزاد على الأربعين بأن أبا بكر تحرى ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فوجده أربعين فعمل به. ولا يعلم له في زمنه مخالف، فإن كان السكوت إجماعا فهذا الإجماع سابق على ما وقع في عهد عمر والتمسك به أولى لأن مستنده فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثم رجع إليه علي ففعله في زمن عثمان بحضرته وبحضرة من كان عنده من الصحابة منهم عبد الله بن جعفر الذي باشر ذلك والحسن بن علي، فإن كان السكوت إجماعا فهذا هو الأخير فينبغي ترجيحه، وتمسك من قال بجواز الزيادة بما صنع في عهد عمر من الزيادة، ومنهم من أجاب عن الأربعين بأن المضروب كان عبدا وهو بعيد فاحتمل الأمرين: أن يكون حدا أو تعزيرا، وتمسك من قاد بجواز الزيادة على الثمانين تعزيرا بما تقدم في الصيام أن عمر حد الشارب في رمضان ثم نفاه إلى الشام، وبما أخرجه ابن أبي شيبة أن عليا جلد النجاشي الشاعر ثمانين ثم أصبح فجلده عشرين بجراءته بالشرب في رمضان، وسيأتي الكلام في جواز الجمع بين الحد والتعزير في الكلام على تغريب الزاني إن شاء الله تعالى. وتمسك من قال يقتل في الرابعة أو الخامسة بما سأذكره في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى. وقد استقر الإجماع على ثبوت حد الخمر وأن لا قتل فيه واستمر الاختلاف في الأربعين والثمانين، وذلك خاص بالحر المسلم وأما الذمي فلا يحد فيه، وعن أحمد رواية أنه يحد، وعنه إن سكر والصحيح عندهم كالجمهور، وأما من هو في الرق فهو على النصف من ذلك إلا عند أبي ثور وأكثر أهل الظاهر فقالوا الحر والعبد في ذلك سواء لا ينقص عن الأربعين نقله ابن عبد البر وغيره عنهم، وخالفهم ابن حزم فوافق الجمهور.

(12/75)


باب ما يكره من لعن شارب الخمر ، و أنه ليس بخارج من الملة
...
5- باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ لَعْنِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْ الْمِلَّةِ
6780- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: "اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ"! فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"
6781- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ حَدَّثَنَا ابْنُ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِه"ِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ! فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ"
قوله: "باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة" يشير إلى طريق الجمع بين ما تضمنه حديث الباب من النهي عن لعنه وما تضمنه حديث الباب الأول "لا يشرب الخمر وهو مؤمن" وأن المراد به نفي

(12/75)


كمال الإيمان لا أنه يخرج عن الإيمان جملة، وعبر بالكراهة هنا إشارة إلى أن النهي للتنزيه في حق من يستحق اللعن إذا قصد به اللاعن محض السب لا إذا قصد معناه الأصلي وهو الإبعاد عن رحمة الله، فأما إذا قصده فيحرم ولا سيما في حق من لا يستحق اللعن كهذا الذي يحب الله ورسوله ولا سيما مع إقامة الحد عليه، بل يندب الدعاء له بالتوبة والمغفرة كما تقدم تقريره في الباب الذي قبله في الكلام على حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب، وبسبب هذا التفصيل عدل عن قوله في الترجمة كراهية لعن شارب الخمر إلى قوله: "ما يكره من " فأشار بذلك إلى التفصيل، وعلى هذا التقرير فلا حجة فيه لمنع لعن الفاسق المعين مطلقا، وقيل إن المنع خاص بما يقع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتوهم الشارب عند عدم الإنكار أنه مستحق لذلك، فربما أوقع الشيطان في قلبه ما يتمكن به من فتنه، وإلى ذلك الإشارة بقوله في حديث أبي هريرة " لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم " وقيل المنع مطلقا في حق من أقيم عليه الحد، لأن الحد قد كفر عنه الذنب المذكور، وقيل المنع مطلقا في حق ذي الزلة والجواز مطلقا في حق المجاهرين، وصوب ابن المنير أن المنع مطلقا في حق المعين والجواز في حق غير المعين لأنه في حق غير المعين زجر عن تعاطي ذلك الفعل وفي حق المعين أذى له وسب وقد ثبت النهي عن آذى المسلم، واحتج من أجاز لعن المعين بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من يستحق اللعن فيستوي المعين وغيره، وتعقب بأنه إنما يستحق اللعن بوصف الإبهام ولو كان لعنه قبل الحد جائزا لاستمر بعد الحد كما لا يسقط التغريب بالجلد، وأيضا فنصيب غير المعين من ذلك يسير جدا والله أعلم. قال النووي في "الأذكار": وأما الدعاء على إنسان بعينه ممن اتصف بشيء من المعاصي فظاهر الحديث أنه لا يحرم وأشار الغزالي إلى تحريمه وقال في "باب الدعاء على الظلمة" بعد أن أورد أحاديث صحيحة في الجواز قال الغزالي: وفي معنى اللعن الدعاء على الإنسان بالسوء حتى على الظالم مثل "لا أصح الله جسمه" وكل ذلك مذموم انتهى. والأولى حمل كلام الغزالي على الأول، وأما الأحاديث فتدل على الجواز كما ذكره النووي في قوله صلى الله عليه وسلم للذي قال كل بيمينك فقال لا أستطيع فقال: "لا استطعت" فيه دليل على جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي، ومال هنا إلى الجواز قبل إقامة الحد والمنع بعد إقامته، وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين، لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي أو يقنطه من قبول التوبة، بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجرا وردعا عن ارتكاب ذلك وباعثا لفاعله على الإقلاع عنه، ويقويه النهي عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريبا. واحتج شيخنا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح وهو في الصحيح، وقد توقف فيه بعض من لقيناه بأن اللاعن لها الملائكة فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها، والذي قاله شيخنا أقوى فإن الملك معصوم والتأسي بالمعصوم مشروع والبحث في جواز لعن المعين وهو الموجود. قوله: "إن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا" ذكر الواقدي في غزوة خيبر من مغازيه عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال ووجد في حصن الصعب بن معاذ فذكر ما وجد من الثياب وغيرها إلى أن قال: "وزقاق خمر فأريقت، وشرب يومئذ من تلك الخمر رجل يقال له عبد الله الحمار " وهو باسم الحيوان المشهور، وقد وقع في حديث الباب أن الأول اسمه والثاني لقبه، وجوز ابن عبد البر أنه ابن النعيمان المبهم في حديث عقبة بن الحارث فقال في ترجمة النعيمان "كان رجلا صالحا وكان له ابن انهمك في الشراب

(12/76)


فجلده النبي صلى الله عليه وسلم: "فعلى هذا يكون كل من النعيمان وولده عبد الله جلد في الشرب، وقوى هذا عنده بما أخرجه الزبير بن بكار في الفاكهة من حديث محمد بن عمرو بن حزم قال: كان بالمدينة رجل يصيب الشراب فكان يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم فيضربه بنعله ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم ويحثون عليه التراب، فلما كثر ذلك منه قال له رجل لعنك الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله " وحديث عقبة اختلف ألفاظ ناقليه هل الشارب النعيمان أو ابن النعيمان والراجح النعيمان فهو غير المذكور هنا لأن قصة عبد الله كانت في خيبر فهي سابقة على قصة النعيمان فإن عقبة بن الحارث من مسلمة الفتح والفتح كان بعد خيبر بنحو من عشرين شهرا، والأشبه أنه المذكور في حديث عبد الرحمن بن أزهر لأن عقبة بن الحارث ممن شهدها من مسلمة الفتح لكن في حديثه أن النعيمان ضرب في البيت وفي حديث عبد الرحمن بن أزهر أنه أتى به والنبي صلى الله عليه وسلم عند رحل خالد بن الوليد، ويمكن الجمع بأنه أطلق على رحل خالد بيتا فكأنه كان بيتا من شعر فإن كان كذلك فهو الذي في حديث أبي هريرة لأن في كل منهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه "بكتوه" كما تقدم. قوله: "وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي يقول بحضرته أو يفعل ما يضحك منه، وقد أخرج أبو يعلى من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم بسند الباب: "أن رجلا كان يلقب حمارا وكان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العكة من السمن والعسل فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتسم ويأمر به فيعطى " ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم بعد قوله: "يحب الله ورسوله " قال: "وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم جاء فقال: يا رسول الله هذا أهديت لك، فإذا جاء صاحبه طلب ثمنه جاء به فقال: أعط هذا الثمن، فيقول ألم تهده إلي؟ فيقول: ليس عندي، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه " وهذا مما يقوى أن صاحب الترجمة والنعيمان واحد والله أعلم. قوله: "قد جلده في الشراب" أي بسبب شربه الشراب المسكر وكان فيه مضمرة أي كان قد جلده، ووقع في رواية معمر عن زيد بن أسلم بسنده هذا عند عبد الرزاق " أتى برجل قد شرب الخمر فحد، ثم أتى به فحد، ثم أتى به فحد، ثم أتى به فحد أربع مرات". قوله: "فأتى به يوما" فذكر سفيان اليوم الذي أتى به فيه والشراب الذي شربه من عند الواقدي، ووقع في روايته: "وكان قد أتى به في الخمر مرارا". قوله: "فأمر به فجلد" في رواية الواقدي " فأمر به فخفق بالنعال، وعلى هذا فقوله: "فجلد " أي ضرب ضربا أصاب جلده، وقد يؤخذ منه أنه المذكور في حديث أنس في الباب الأول. قوله: "قال رجل من القوم" لم أر هذا الرجل مسمى، وقد وقع في رواية معمر المذكورة " فقال رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم رأيته مسمى في رواية الواقدي فعنده " فقال عمر". قوله: "ما أكثر ما يؤتى به" في رواية الواقدي " ما يضرب " وفي رواية معمر " ما أكثر ما يشرب وما أكثر ما يجلد". قوله: "لا تلعنوه" في رواية الواقدي " لا تفعل يا عمر " وهذا قد يتمسك به من يدعي اتحاد القصتين، وهو بعيد لما بينته من اختلاف الوقتين، ويمكن الجمع بأن ذلك وقع للنعيمان ولابن النعيمان وأنه اسمه عبد الله ولقبه حمار، والله أعلم. قوله: "فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله" كذا للأكثر بكسر الهمزة ويجوز على رواية ابن السكن الفتح والكسر، وقال بعضهم الرواية بفتح الهمزة، على أن "ما" نافية يحيل المعنى إلى ضده، وأغرب بعض شراح المصابيح فقال ما موصولة وإن مع اسمها وخبرها سدت مسد مفعولي علمت لكونه مشتملا على المنسوب والمنسوب إليه والضمير في أنه يعود إلى الموصول والموصول مع صلته خبر مبتدأ محذوف تقديره هو الذي علمت والجملة في

(12/77)


جواب القسم، قال الطيبي: وفيه تعسف. وقال صاحب "المطالع": ما موصولة وإنه بكسر الهمزة مبتدأ، وقيل بفتحها وهو مفعول علمت. قال الطيبي: فعلى هذا علمت بمعنى عرفت وأنه خبر الموصول: وقال أبو البقاء في إعراب الجمع: ما زائدة أي فوالله علمت أنه والهمزة على هذا مفتوحة. قال: ويحتمل أن يكون المفعول محذوفا أي ما علمت عليه أو فيه سوءا، ثم استأنف فقال: إنه يحب الله ورسوله. ونقل عن رواية ابن السكن أن التاء بالفتح للخطاب تقريرا، ويصح على هذا كسر الهمزة وفتحها، والكسر على جواب القسم والفتح معمول علمت، وقيل ما زائدة للتأكيد والتقدير لقد علمت. قلت: وقد حكى في "المطالع" أن في بعض الروايات "فوالله لقد علمت" وعلى هذا فالهمزة مفتوحة، ويحتمل أن تكون ما مصدرية وكسرت إن لأنها جواب القسم. قال الطيبي: وجعل ما نافية أظهر لاقتضاء القسم أن يلتقي بحرف النفي وبإن وباللام خلاف الموصولة، ولأن الجملة القسمية جيء بها مؤكدة لمعنى النفي مقررة للإنكار، ويؤيده أنه وقع في شرح السنة " فوالله ما علمت إلا أنه قال: "فمعنى الحصر في هذه الرواية بمنزلة تاء الخطاب في الرواية الأخرى لإرادة مزيد الإنكار على الخاطب. قلت: وقد وقع في رواية أبي ذر: عن الكشميهني مثل ما عزاه لشرح السنة، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبي زرعة الرازي عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه: "فوالله ما علمت إنه ليحب الله ورسوله " ويصح معه أن تكون ما زائدة وأن تكون ظرفية أي مدة علي، ووقع في رواية معمر والواقدي " فإنه يحب الله ورسوله " وكذا في رواية محمد بن عمرو بن حزم، ولا إشكال فيها لأنها جاءت تعليلا لقوله: "لا تفعل يا عمر " والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفوائد جواز التلقيب وقد تقدم القول فيه في كتاب الأدب، وهو محمود هنا على أنه كان لا يكرهه، أو أنه ذكر به على سبيل التعريف لكثرة من كان يسمى بعبد الله، أو أنه لما تكرر منه الإقدام على الفعل المذكور نسب إلى البلادة فأطلق عليه اسم من يتصف بها ليرتدع بذلك. وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعنه والأمر بالدعاء له. وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه. وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية بل نفي كماله كما تقدم، ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة الله ورسوله في قلب العاصي مقيدا بما إذا ندم على وقوع المعصية وأقيم عليه الحد فكفر عنه الذنب المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك فإنه يخشى عليه بتكرار الذنب أن يطبع على قلبه شيء حتى يسلب منه ذلك نسأل الله العفو والعافية. وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتى به أكثر من خمسين مرة، والأمر المنسوخ أخرجه الشافعي في رواية حرملة عنه وأبو داود وأحمد والنسائي والدارمي وابن المنذر وصححه ابن حبان (1) كلهم من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رفعه: "إذا سكر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاجلده، ثم إذا سكر فاقتلوه" ولبعضهم "فاضربوا عنقه " وله من طريق أخرى عن أبي هريرة أخرجها عبد الرزاق وأحمد والترمذي تعليقا والنسائي كلهم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه بلفظ: "إذا شربوا فاجلدوهم ثلاثا، فإذا شربوا الرابعة فاقتلوهم " وروي عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح فقال أبو بكر بن عياش عنه عن أبي صالح
ـــــــ
(1) في بعض النسخ "وصححه الحاكم"

(12/78)


عن أبي سعيد كذا أخرجه ابن حبان من رواية عثمان بن أبي شيبة عن أبي بكر، وأخرجه الترمذي عن أبي كريب عنه فقال: "عن معاوية" بدل "أبي سعيد" وهو المحفوظ، وكذا أخرجه أبو داود من رواية أبان العطار عنه، وتابعه الثوري وشيبان بن عبد الرحمن وغيرهما عن عاصم، ولفظ الثوري عن عاصم " ثم إن شرب الرابعة فاضربوا عنقه " ووقع في رواية أبان عند أبي داود " ثم إن شربوا فاجلدوهم " ثلاث مرات بعد الأولى ثم قال: "إن شربوا فاقتلوهم " ثم ساقه أبو داود من طريق حميد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر قال: "وأحسبه قال في الخامسة ثم إن شربها فاقتلوه " قال وكذا في حديث عطيف في الخامسة، قال أبو داود " وفي رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه وسهيل بن أبي صالح عن أبيه كلاهما عن أبي هريرة في الرابعة " وكذا في رواية ابن أبي نعيم عن ابن عمر، وكذا في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص والشريد. وفي رواية معاوية: "فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه " وقال الترمذي بعد تخريجه: وفي الباب عن أبي هريرة والشريد وشرحبيل بن أوس وأبي الرمداء وجرير وعبد الله بن عمرو. قلت: وقد ذكرت حديث أبي هريرة، وأما حديث الشريد وهو ابن أوس الثقفي فأخرجه أحمد والدارمي والطبراني وصححه الحاكم بلفظ: "إذا شرب فاضربوه " وقال في آخره: "ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه " وأما حديث شرحبيل وهو الكندي فأخرجه أحمد والحاكم والطبراني وابن منده في " المعرفة " ورواته ثقات نحو رواية الذي قبله، وصححه الحاكم من وجه آخر. وأما حديث أبي الرمداء وهو بفتح الراء وسكون الميم بعدها دال مهملة وبالمد وقيل بموحدة ثم ذال معجمة وهو بدوي نزل مصر فأخرجه الطبراني وابن منده وفي سنده ابن لهيعة وفي سياق حديثه " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذي شرب الخمر في الرابعة أن تضرب عنقه فضربت " فأفاد أن ذلك عمل به قبل النسخ، فإن ثبت كان فيه رد على من زعم أنه لم بعمل به. وأما حديث جرير فأخرجه الطبراني والحاكم ولفظه: "من شرب الخمر فاجلدوه " وقال فيه: "فإن عاد في الرابعة فاقتلوه " وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه أحمد والحاكم من وجهين عنه وفي كل منهما مقال، ففي رواية شهر بن حوشب عنه " فإن شربها الرابعة فاقتلوه". قلت: ورويناه عن أبي سعيد أيضا كما تقدم وعن ابن عمر، وأخرجه النسائي والحاكم من رواية عبد الرحمن بن أبي نعيم عن ابن عمر ونفر من الصحابة بنحوه، وأخرجه الطبراني موصولا من طريق عياض بن عطيف عن أبيه وفيه: "في الخامسة " كما أشار إليه أبو داود، وأخرجه الترمذي تعليقا والبزار والشافعي والنسائي والحاكم موصولا من رواية محمد بن المنكدر عن جابر، وأخرجه البيهقي والخطيب في "المبهمات" من وجهين آخرين عن ابن المنكدر، وفي رواية الخطيب "جلد". وللحاكم من طريق يزيد بن أبي كبشة سمعت رجلا من الصحابة يحدث عبد "الملك" بن مروان رفعه بنحوه " ثم إن عاد في الرابعة فاقتلوه " وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر مرسلا وفيه: "أتى بابن النعيمان بعد الرابعة فجلده " وأخرجه الطحاوي من رواية عمرو بن الحارث عن ابن المنكدر أنه بلغه، وأخرجه الشافعي وعبد الرزاق وأبو داود من رواية الزهري عن قبيصة بن ذؤيب قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شرب الخمر فاجلدوه - إلى أن قال - ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه، قال فأتى برجل قد شرب فجلده ثم أتى به قد شرب فجلده ثم أتى به وقد شرب فجلده، ثم أتى به في الرابعة قد شرب فجلده فرفع القتل عن الناس وكانت رخصة " وعلقه الترمذي فقال روى الزهري وأخرجه الخطيب في " المبهمات " من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري وقال فيه: "فأتى برجل من الأنصار يقال له نعيمان فضربه أربع مرات،

(12/79)


فرأى المسلمون أن القتل قد أخر وأن الضرب قد وجب" وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة وولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، ورجال هذا الحديث ثقات مع إرساله، لكنه أعل بما أخرجه الطحاوي من طريق الأوزاعي عن الزهري قال: "بلغني عن قبيصة " ويعارض ذلك رواية ابن وهب عن يونس عن الزهري أن قبيصة حدثه أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصح لأن يونس أحفظ لرواية الزهري من الأوزاعي، والظاهر أن الذي بلغ قبيصة ذلك صحابي فيكون الحديث على شرط الصحيح لأن إبهام الصحابي لا يضر، وله شاهد أخرجه عبد الرزاق عن معمر قال حدثت به ابن المنكدر فقال: ترك ذلك، قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن نعيمان فجلده ثلاثا ثم أتى به في الرابعة فجلده ولم يزده ووقع عند النسائي من طريق محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر " عن جابر فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منا قد شرب في الرابعة فلم يقتله " وأخرجه من وجه آخر عن محمد بن إسحاق بلفظ: "فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد رفع " قال الشافعي بعد تخريجه: هذا ما لا اختلاف فيه بين أهل العلم علمته. وذكره أيضا عن أبي الزبير مرسلا. وقال: أحاديث القتل منسوخة، وأخرجه أيضا من رواية ابن أبي ذئب حدثني ابن شهاب " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بشارب فجلده ولم يضرب عنقه . وقال الترمذي: لا نعلم بين أهل العلم في هذا اختلافا في القديم والحديث. قال وسمعت محمدا يقول: حديث معاوية في هذا أصح، وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد، وقال في "العلل" آخر الكتاب: جميع ما في هذا الكتاب قد عمل به أهل العلم إلا هذا الحديث وحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر، وتعقبه النووي فسلم قوله في حديث الباب دون الآخر، ومال الخطابي إلى تأويل الحديث في الأمر بالقتل فقال: قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل وإنما قصد به الردع والتحذير، ثم قال: ويحتمل أن يكون القتل في الخامسة كان واجبا ثم تسخ بحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل، وأما ابن المنذر فقال: كان العمل فيمن شرب الخمر أن يضرب وينكل به، ثم نسخ بالأمر بجلده فإن تكرر ذلك أربعا قتل، ثم نسخ ذلك بالأخبار الثابتة وبإجماع أهل العلم إلا من شذ ممن لا يعد "خلافه" خلافا. قلت: وكأنه أشار إلى بعض أهل الظاهر، فقد نقل عن بعضهم واستمر عليه ابن حزم منهم واحتج له وادعى أن لا إجماع وأورد من مسند الحارث بن أبي أسامة ما أخرجه هو والإمام أحمد من طريق الحسن البصري عن عبد الله بن عمرو أنه قال: ائتوني برجل أقيم عليه الحد يعني ثلاثا ثم سكر فإن لم أقتله فأنا كذاب، وهذا منقطع لأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو كما جزم به بن المديني وغيره فلا حجة فيه، وإذا لم يصح هذا عن عبد الله في عمرو لم يبق لمن رد الإجماع على ترك القتل متمسك حتى ولو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ وعد ذلك من نزره المخالف، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو أشد من الأول فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند لين قال: لو رأيت أحدا يشرب الخمر واستطعت أن أقتله لقتلته. وأما قول بعض من انتصر لابن حزم فطعن في النسخ بأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح وليس في شيء من أحاديث غيره الدالة على نسخه التصريح بأن ذلك متأخر عنه، وجوابه أن معاوية أسلم قبل الفتح وقيل في الفتح، وقصة ابن النعيمان كانت بعد ذلك لأن عقبة بن الحارث حضرها إما بحنين وإما بالمدينة، وهو إنما أسلم في الفتح وحنين، وحضور عقبة إلى المدينة كان بعد الفتح جزما فثبت ما نفاه هذا القائل، وقد عمل بالناسخ بعض الصحابة فأخرج عبد الرزاق في مصنفه بسند لين عن عمر بن الخطاب أنه جلد أبا محجن الثقفي في الخمر ثمان مرار، وأورد نحو ذلك عن

(12/80)


سعد بن أبي وقاص، وأخرج حماد بن سلمة في مصنفه من طريق أخرى رجالها ثقات أن عمر جلد أبا محجن في الخمر أربع مرار ثم قال له: أنت خليع، فقال: أما إذ خلعتني فلا أشربها أبداً. قوله: "حدثنا علي بن عبد الله بن جعفر" هو المعروف بابن المديني. قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمر بضربه" وقع في رواية المستملى "فقام ليضربه" وهو تصحيف فقد تقدم الحديث في الباب الذي قبله من وجه آخر عن أبي ضمرة على الصواب بلفظ: "فقال اضربوه " قال القرطبي ظاهره ويقتضي أن السكر بمجرده موجب للحد لأن الفاء للتعليل كقوله سهى فسجد، ولم يفصل هل سكر من ماء عنب أو غيره ولا هل شرب قليلا أو كثيرا، ففيه حجة للجمهور على الكوفيين في التفرقة، وقد مضى بيان ذلك في الأشربة.

(12/81)


6- باب: السَّارِقِ حِينَ يَسْرِقُ
6782- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ"
[الحديث 6782- طرفه في: 6809]
قوله: "باب السارق حين يسرق" ذكر فيه حديث ابن عباس نحو حديث أبي هريرة الماضي في أول الحدود مقتصرا فيه على الزنا والسرقة، ولأبي ذر "ولا يسرق السارق" وسقط لفظ السارق من رواية غيره، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عمرو بن علي شيخ البخاري فيه، وأخرجه أيضاً من طريق إسحاق بن يوسف الأزرق عن الفضيل بن غزوان بسنده فيه: "ولا يشرب الخمر حين يشربها هو مؤمن، ولا يقتل وهو مؤمن" قال عكرمة قلت لابن عباس: كيف ينتزع منه الإيمان؟ قال: هكذا فإن تاب راجعه الإيمان. وقد تقدم بسط هذا في أول كتاب الحدود.

(12/81)


باب امن السارق إذا لم يسم
...
7- باب: لَعْنِ السَّارِقِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ
6783- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ". قَالَ الأَعْمَشُ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ، وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يَسْوَى دَرَاهِمَ
[الحديث 6783- طرفه في: 6799]
قوله: "باب لعن السارق إذا لم يسم" أي إذا لم يعين، إشارة إلى الجمع بين النهي عن لعن الشارب المعين كما مضى تقريره وبين حديث الباب. قال ابن بطال: معناه لا ينبغي تعيين أهل المعاصي ومواجهتهم باللعن وإنما ينبغي أن يلعن في الجملة من فعل ذلك ليكون ردعا لهم وزجرا عن انتهاك شيء منها، ولا يكون لمعين لئلا يقنط، قال: فإن كان هذا مراد البخاري فهو غير صحيح لأنه إنما نهى عن لعن الشارب وقال: "لا تعينوا عليه الشيطان بعد إقامة الحد عليه " قلت: وقد تقدم تقرير ذلك قريبا. وقال الداودي: قوله في هذا الحديث: "لعن الله السارق" يحتمل أن يكون خبرا ليرتدع من سمعه عن السرقة، ويحتمل أن يكون دعاء، قلت: ويحتمل أن لا يراد

(12/81)


8- بَاب: الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ
6784- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ "عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ: بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا. وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ كُلَّهَا {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ"
قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" لم أره منسوبا ويحتمل أن يكون هو البيكندي ويحتمل أن يكون الفريابي وبه جزم أبو نعيم في المستخرج، وابن عيينة هو سفيان. قوله: "عن الزهري" في رواية الحميدي عن سفيان بن عيينة "سمعت الزهري" أخرجه أبو نعيم. وذكر حديث عبادة بن الصامت وفيه: "ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة " وقد تقدم أن عند مسلم من وجه آخر " ومن أتى منكم حدا " ولأحمد من حديث خزيمة بن ثابت رفعه: "من أصاب ذنبا أقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته " وسنده حسن. وفي الباب عن جرير بن عبد الله نحوه عند أبي الشيخ، وفي حديث عمرو في شعيب عن أبيه عن جده عنده بسند صحيح إليه نحو حديث عبادة وفيه: "فمن فعل من ذلك شيئا فأقيم عليه الحد فهو كفارته " وعن ثابت بن الضحاك نحوه عند أبي الشيخ، وقد ذكرت شرح حديث الباب مستوفى في الباب العاشر من كتاب الإيمان في أول الصحيح. وقد استشكل ابن بطال قوله: "الحدود كفارة" مع قوله في الحديث الآخر " ما أدري الحدود كفارة لأهلها أو لا " وأجاب بأن سند حديث عبادة أصح، وأجيب بأن الثاني كان قبل أن يعلم بأن الحدود كفارة ثم أعلم فقال الحديث الثاني، وبهذا جزم ابن التين وهو المعتمد. وقد أجيب من توقف في ذلك لأجل أن الأول من حديث أبي هريرة وهو متأخر الإسلام عن بيعة العقبة، والثاني وهو التردد من حديث عبادة بن الصامت وقد ذكر في الخبر أنه ممن بايع ليلة العقبة وبيعة العقبة كانت قبل إسلام أبي هريرة بست سنين. وحاصل الجواب أن البيعة المذكورة في حديث الباب كانت متأخرة عن إسلام أبي هريرة بدليل أن الآية المشار إليها في قوله: "وقرأ الآية كلها" هي قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} إلى آخرها وكان نزولها في فتح مكة وذلك بعد إسلام أبي هريرة بنحو سنتين، وقررت ذلك تقريرا بينا. وإنما وقع الإشكال من قوله هناك إن عبادة بن الصامت وكان أحد النقباء ليلة العقبة قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال بايعوني على أن لا تشركوا " فإنه يوهم أن ذلك كان ليلة العقبة، وليس كذلك بل البيعة التي وقعت في ليلة العقبة كانت على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره إلخ وهو من حديث عبادة أيضا كما أوضحته هناك، قال ابن العربي: دخل في عموم قوله المشرك، أو هو مستثنى فإن المشرك إذا عوقب على شركه لم يكن ذلك كفارة له بل زيادة في نكاله، قلت: وهذا لا خلاف فيه قال: وأما القتل فهو كفارة بالنسبة إلى الولي المستوفي للقصاص في حق المقتول، لأن القصاص ليس بحق له بل يبقى حق المقتول فيطالبه به في الآخرة كسائر الحقوق. قلت: والذي قاله في مقام المنع، وقد نقلت في الكلام على قوله

(12/84)


تعالى :{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} قول من قال: يبقى للمقتول حق التشفي، وهو أقرب من إطلاق ابن العربي هنا. قال: وأما السرقة فتتوقف براءة السارق فيها على رد المسروق لمستحقه وأما الزنا فأطلق الجمهور أنه حق الله، وهي غفلة لأن لآل المزني بها في ذلك حقا لما يلزم منه من دخول العار على أبيها وزوجها وغيرهما، ومحصل ذلك أن الكفارة تختص بحق الله تعالى دون حق الآدمي في جميع ذلك.

(12/85)


9- باب ظَهْرُ الْمُؤْمِنِ حِمًى إِلاَّ فِي حَدٍّ أَوْ حَقٍّ
6785- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ أَبِي "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَلاَ أَيُّ شَهْرٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا: أَلاَ شَهْرُنَا هَذَا قَالَ: أَلاَ أَيُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا: أَلاَ بَلَدُنَا هَذَا. قَالَ: أَلاَ أَيُّ يَوْمٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا أَلاَ يَوْمُنَا هَذَا. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ - إِلاَّ بِحَقِّهَا - كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ "ثَلاَثًا"؟ كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ: أَلاَ نَعَمْ قَالَ: وَيْحَكُمْ - أَوْ وَيْلَكُمْ - لاَ تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"
قوله: "باب ظهر المؤمن حمى" أي محمي معصوم من الإيذاء. قوله: "إلا في حد أو في حق" أي لا يضرب ولا يذل إلا على سبيل الحد والتعزير تأديبا، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أبو الشيخ في كتاب السرقة من طريق محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظهور المسلمين حمى إلا في حدود الله " وفي محمد بن عبد العزيز ضعف، وأخرجه الطبراني من حديث عصمة بن مالك الخطمي بلفظ: "ظهر المؤمن حمى إلا بحقه " وفي سنده الفضل بن المختار وهو ضعيف، ومن حديث أبي أمامة " من جرد ظهر مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان " وفي سنده أيضا مقال. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله" في رواية غير أبي ذر " حدثني " قال الحاكم: محمد بن عبد الله هذا هو الذهلي، وقال أبو علي الجياني: لم أره منسوبا في شيء من الروايات. قلت: وعلى قول الحاكم فيكون نسب لجده لأنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس، وقد حدث البخاري في الصحيح عن محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي وعن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج بالمثلثة والجيم وعن غيرهما، وقد بينت ذلك موضحا في آخر حديث في كتاب الأيمان والنذور، وقد سقط محمد بن عبد الله من رواية أبي أحمد الجرجاني عن الفربري، واعتمد أبو نعيم في مستخرجه على ذلك فقال: رواه البخاري عن عاصم بن علي وعاصم المذكور هو ابن عاصم الواسطي، وشيخه عاصم بن محمد أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر، وشيخه واقد هو أخوه. قوله: "قال عبد الله" هو ابن عمر جد الراوي عنه. قوله: "ألا أي شهر تعلمونه؟" هو بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف افتتاح للتنبيه لما يقال، وقد كررت في هذه الرواية سؤالا وجوابا، وقوله في هذه الرواية: "أي يوم تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: يومنا هذا " يعارضه أن يوم عرفة أعظهم الأيام، وأجاب الكرماني بأن المراد باليوم الوقت الذي تؤدي فيه المناسك، ويحتمل أن يختص يوم النحر بمزيد الحرمة، ولا يلزم من ذلك حصول المزية التي اختص بها يوم عرفة، وقد تقدم بعض الكلام على هذا الحديث في كتاب العلم،

(12/85)


وتقدم ما يتعلق بالسؤال والجواب مبسوطا في "باب الخطبة أيام مني" من كتاب الحج، ومضى ما يتعلق بقوله: "ويلكم أو ويحكم" في كتاب الأدب، ويأتي ما يتعلق بقوله: "لا ترجعوا بعدي" مستوفى في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى.

(12/86)


باب إقامة الحدود ، و الانتقام لحرمات الله
...
10- باب: إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالِانْتِقَامِ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ
6786- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ. وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ"
قوله: "باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله" ذكر فيه حديث عائشة "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما" وقد تقدم شرحه مستوفى في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم: "من كتاب المناقب، وقوله هنا " ما لم يأثم " في رواية المستملي: "ما لم يكن إثم" قال ابن بطال: هذا التخيير ليس من الله لأن الله لا يخير رسوله بين أمرني أحدهما إثم إلا إن كان في الدين وأحدهما يؤول إلى الإثم كالغلو فإنه مذموم كما لو أوجب الإنسان على نفسه شيئا شاقا من العبادة فعجز عنه، ومن ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الترهب، قال ابن التين: المراد التخيير في أمر الدنيا وأما أمر الآخرة فكلما صعب كان أعظم ثوابا، كذا قال، وما أشار إليه ابن بطال أولى، وأولى منهما أن ذلك في أمور الدنيا لأن بعض أمورها قد يفضي إلى الإثم كثيرا، والأقرب أن فاعل التخيير الآدمي وهو ظاهر وأمثلته كثيرة ولا سيما إذا صدر من الكافر.

(12/86)


باب إقامة الحدود على الشريف و الوضيع
...
11- باب: إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ
6887- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ أُسَامَةَ كَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةٍ"، فَقَالَ: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى الْوَضِيعِ وَيَتْرُكُونَ الشَّرِيفَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"
قوله: "باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع" هو من الوضع وهو النقص، ووقع هنا بلفظ الوضيع وفي الطريق التي تليه بلفظ الضعيف، وهي رواية الأكثر في هذا الحديث، وقد رواه بلفظ الوضيع أيضا النسائي من طريق إسماعيل بن أمية عن الزهري، والشريف يقابل الاثنين لما يستلزم الشرف من الرفعة والقوة، ووقع للنسائي أيضا في رواية لسفيان بلفظ: "الدون الضعيف". قوله: "حدثنا أبو الوليد" هو الطيالسي. قوله: "حدثنا الليث عن ابن شهاب" في رواية أبي النضر هاشم بن القاسم عن الليث عند أحمد "حدثنا ابن شهاب" ولا يعارض ذلك رواية أبي صالح عن الليث عن يونس عن ابن شهاب فيما أخرجه أبو داود لأن لفظ السياقين مختلف فيحمل على أنه عند الليث بلا واسطة باللفظ الأول وعنده باللفظ الثاني بواسطة وسأوضح ذلك. قوله: "عن عروة" في رواية ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب "أخبرني عروة بن الزبير" وقد مضى سياقه في غزوة الفتح. قوله: "أن أسامة" هو

(12/86)


12- باب: كَرَاهِيَةِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِّ إِذَا رُفِعَ إِلَى السُّلْطَانِ
6788- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمْ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: "مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ فقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا"
قوله: "باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان" كذا قيد ما أطلقه في حديث الباب: "أتشفع في حد من حدود الله" وليس القيد صريحا فيه، وكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه صريحا، وهو في مرسل حبيب بن أبي ثابت الذي أشرت إليه وفيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة لما شفع فيها: لا تشفع في حد فإن الحدود إذا انتهت إلي فليس لها مترك " وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب " ترجم له أبو داود " العفو عن الحد ما لم يبلغ السلطان " وصححه الحاكم وسنده إلى عمرو بن شعيب صحيح. وأخرج أبو داود أيضا وأحمد وصححه الحاكم من طريق يحيى بن راشد قال خرج علينا ابن عمر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره " وأخرجه ابن أي شيبة من وجه آخر أصح منه عن ابن عمر موقوفا، وللمرفوع شاهد من حديث أبي هريرة في الأوسط للطبراني وقال: "فقد ضاد الله في ملكه " وأخرج أبو يعلي من طريق أبي المحياة عن أبي مطر: رأيت عليا أتى بسارق فذكر قصة فيها " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق " فذكر قصة فيها " قالوا يا رسول الله أفلا عفوت؟ قال ذلك سلطان سوء الذي يعفو عن الحدود بينكم " وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير قال: "لقي الزبير سارقا فشفع فيه، فقيل له حتى يبلغ الإمام فقال إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع " وأخرج الموطأ عن ربيعة عن الزبير نحوه وهو منقطع مع وقفه، وهو عند ابن أبي شيبة بسند حسن عن الزبير

(12/87)


موقوفا وبسند آخر حسن عن علي نحوه كذلك، وبسند صحيح عن عكرمة أن ابن عباس وعمارا والزبير أخذوا سارقا فخلوا سبيله فقلت لابن عباس: بئسما صنعتم حين خليتم سبيله، فقال: لا أم لك أما لو كنت أنت لسرك أن يخلي سبيلك. وأخرجه الدار قطني من حديث الزبير موصولا مرفوعا بلفظ : "اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي فإذا وصل الوالي فعفا فلا عفا الله عنه " والموقوف هو المعتمد، وفي الباب غير ذلك حديث صفوان بن أمية عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في قصة الذي سرق رداؤه ثم أراد أن لا يقطع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لا قبل أن تأتيني به " وحدث ابن مسعود في قصة الذي سرق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه فرأوا منه أسفا عليه فقالوا: يا رسول الله كأنك كرهت قطعه، فقال: "وما يمنعني؟ لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم، أنه ينبغي للإمام إذا أنهى إليه حد أن يقيمه، والله عفو يحب العفو " وفي الحديث قصة مرفوعة، وأخرج موقوفا أخرجه أحمد وصححه الحاكم وحديث عائشة مرفوعا: "أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم إلا في الحدود " أخرجه أبو داود. ويستفاد منه جواز الشفاعة فيما يقتضي التعزير. وقد نقل ابن عبد البر وغيره فيه الاتفاق، ويدخل فيه سائر الأحاديث الواردة في ندب الستر على المسلم، وهي محمولة على ما لم يبلغ الإمام. قوله: "عن عائشة" كذا قال الحفاظ من أصحاب ابن شهاب عن عروة، وشذ عمر بن قيس الماصر بكسر المهملة فقال: "ابن شهاب عن عروة عن أم سلمة " فذكر حديث الباب سواء أخرجه أبو الشيخ في كتاب السرقة والطبراني وقال: تفرد به عمر بن قيس، يعني من حديث أم سلمة. قال الدار قطني في "العلل": الصواب رواية الجماعة. قوله: "أن قريشا" أي القبيلة المشهورة، وقد تقدم بيان المراد بقريش الذي انتسبوا إليه في المناقب وأن الأكثر أنه فهر بن مالك، والمراد بهم هنا من أدرك القصة التي تذكر بمكة. قوله: "أهمتهم المرأة" أي أجلبت إليهم هما أو صيرتهم ذوي هم بسبب ما وقع منها، يقال أهمني الأمر أي أقلقني، ومضى في المناقب من رواية قتيبة عن الليث بهذا السند " أهمهم شأن المرأة " أي أمرها المتعلق بالسرقة وقد وقع في رواية مسعود بن الأسود الآتي التنبيه عليها " لما سرقت تلك المرأة أعظمنا ذلك فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومسعود المذكور من بطن آخر من قريش، وهو من بني عدي بن كعب رهط عمر. وسبب إعظامهم ذلك خشية أن تقطع يدها لعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرخص في الحدود، وكان قطع السارق معلوما عندهم قبل الإسلام، ونزل القرآن بقطع السارق فاستمر الحال فيه، وقد عقد ابن الكلبي بابا لمن قطع في الجاهلية بسبب السرقة فذكر قصة الذين سرقوا غزال الكعبة فقطعوا في عهد عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر من قطع في السرقة عوف بن عبد بن عمرو بن مخزوم ومقيس ابن قيس بن عدي بن سعد بن سهم وغيرهما وأن عوفا السابق لذلك. قوله: "المخزومية" نسبة إلى مخزوم بن يقظة بفتح التحتانية والقاف بعدها ظاء معجمة مشالة ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، ومخزوم أخو كلاب بن مرة الذي نسب إليه بنو عبد مناف. ووقع في رواية إسماعيل بن أمية عن محمد بن مسلم وهو الذي عند النسائي: "سرقت امرأة من قريش من بني مخزوم" واسم المرأة على الصحيح فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وهي بنت أخي أبي سلمة ابن عبد الأسد الصحابي الجليل الذي كان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، قتل أبوها كافرا يوم بدر قتله حمزة بن عبد المطلب، ووهم من زعم أن له صحبة. وقيل هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد وهي بنت عم المذكورة أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: "أخبرني بشر بن تيم أنها أم عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وهذا معضل، ووقع مع ذلك في سياقه أنه قاله "عن ظن

(12/88)


وحسبان" وهو غلط ممن قاله لأن قصتها مغايرة للقصة المذكورة في هذا الحديث كما سأوضحه. قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد هي التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها لأنها سرقت حليا فكلمت قريش أسامة فشفع فيها وهو غلام. الحديث قلت: وقد ساق ذلك ابن سعد في ترجمتها في الطبقات من طريق الأجلح بن عبد الله الكندي عن حبيب بن أبي ثابت رفعه: "أن فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد سرقت حليا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشفعوا" الحديث. وأورد عبد الغني بن سعيد المصري في "المبهمات" من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل عن عمار الدهني عن شقيق قال: "سرقت فاطمة بنت أبي أسد بنت أخي أبي سلمة، فأشفقت قريش أن يقطعها النبي صلى الله عليه وسلم: "الحديث. والطريق الأولى أقوى، ويمكن أن يقال: لا منافاة بين قوله بنت الأسود وبنت أبي الأسود لاحتمال أن تكون كنية الأسود أبا الأسود، وأما قصة أم عمرو فذكرها ابن سعد أيضا وابن الكلبي في المثالب وتبعه الهيثم بن عدي فذكروا أنها خرجت ليلا فوقعت بركب نزول فأخذت عيبة لهم فأخذها القوم فأوثقوها، فلما أصبحوا أتوا بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بحقوي أم سلمة، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت، وأنشدوا في ذلك شعرا قاله خنيس بن يعلي بن أمية، وفي رواية ابن سعد أن ذلك كان في حجة الوداع، وقد تقدم في الشهادات وفي غزوة الفتح أن قصة فاطمة بنت الأسود كانت عام الفتح، فظهر تغاير القصتين وأن بينهما أكثر من سنتين، ويظهر في ذلك خطأ من اقتصر على أنها أم عمرو كابن الجوزي، ومن رددها بين فاطمة وأم عمرو كابن طاهر وابن بشكوال ومن تبعهما فلله الحمد. وقد تقلد ابن حزم ما قاله بشر بن تيم لكنه جعل قصة أم عمرو بنت سفيان في جحد العارية وقصة فاطمة في السرقة، وهو غلط أيضا لوقوع التصريح في قصة أم عمرو بأنها سرقت. قوله: "التي سرقت" زاد يونس في روايته: "في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح " ووقع بيان المسروق في حديث مسعود بن أبي الأسود المعروف بابن العجماء. فأخرج ابن ماجه وصححه الحاكم من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن طلحة بن ركانة عن أمه عائشة بنت مسعود بن الأسود عن أبيها قال: "لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمنا ذلك، فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمه " وسنده حسن، وقد صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث في رواية الحاكم، وكذا علقه أبو داود فقال: "روى مسعود بن الأسود " وقال الترمذي بعد حديث عائشة المذكور هنا " وفي الباب عن مسعود بن العجماء " وقد أخرجه أبو الشيخ في " كتاب السرقة " من طريق يزيد بن أبي حبيب عن محمد ابن طلحة فقال: "عن خالته بنت مسعود بن العجماء عن أبيها " فيحتمل أن يكون محمد بن طلحة سمعه من أمه ومن خالته، ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت الذي أشرت إليه أنها سرقت حليا، ويمكن الجمع بأن الحلي كان في القطيفة فالذي ذكر القطيفة أراد بما فيها، والذي ذكر الحلي ذكر المظروف دون الظرف.
ثم رجح عندي أن ذكر الحلي في قصة هذه المرأة وهم كما سأبينه، ووقع في مرسل الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب فيما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أن الحسن أخبره قال: سرقت امرأة، قال عمرو: وحسبت أنه قال: "من ثياب الكعبة " الحديث، وسنده إلى الحسن صحيح فإن أمكن الجمع وإلا فالأول أقوى. وقد وقع في رواية معمر عن الزهري في هذا الحديث: "أن المرأة المذكورة كانت تستعير المتاع وتجحده" أخرجه مسلم وأبو داود، وأخرجه النسائي من رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري بلفظ: "استعارت امرأة على ألسنة ناس يعرفون وهي لا تعرف حليا فباعته وأخذت ثمنه" الحديث وقد بينه أبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام

(12/89)


فيما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح إليه "أن امرأة جاءت امرأة فقالت: إن فلانة تستعيرك حليا فأعارتها إياه، فمكثت لا تراه، فجاءت إلى التي استعارت لها فسألتها فقالت: ما استعرتك شيئا، فرجعت إلى الأخرى فأنكرت فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاها فسألها فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئا فقال: اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها. فأتوه فأخذوه، وأمر بها فقطعت " الحديث فيحتمل أن تكون سرقت القطيفة وجحدت الحلي، وأطلق عليها في جحد الحلي في رواية حبيب بن أبي ثابت سرقت مجازا" قال شيخنا في "شرح الترمذي" اختلف على الزهري: فقال الليث ويونس وإسماعيل بن أمية وإسحاق بن راشد سرقت، وقال معمر وشعيب إنها استعارت وجحدت، قال ورواه سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن الزهري فاختلف عليه سندا ومتنا: فرواه البخاري - يعني كما تقدم في الشهادات - عن علي بن المديني عن ابن عيينة قال: ذهبت أسأل الزهري عن حديث المخزومية فصاح علي، فقلت لسفيان: فلم يحفظه عن أحد قال: وجدت في كتاب كتبه أيوب بن موسى عن الزهري وقال فيه إنها سرقت، وهكذا قال محمد بن منصور عن ابن عيينة إنها سرقت أخرجه النسائي عنه، وعن رزق الله بن موسى عن سفيان كذلك لكن قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه " فذكره مختصرا، ومثله لأبي يعلى عن محمد بن عباد عن سفيان، وأخرجه أحمد عن سفيان كذلك لكن في آخره: "قال سفيان لا أدري ما هو" وأخرجه النسائي أيضا عن إسحاق بن راهويه عن سفيان عن الزهري بلفظ: "كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده " الحديث وقال في آخره: "قيل لسفيان من ذكره؟ قال أيوب بن موسى " فذكره بسنده المذكور، وأخرجه من طريق ابن أبي زائدة عن ابن عيينة عن الزهري بغير واسطة وقال فيه: "سرقت " قال شيخنا: وابن عيينة لم يسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري إنما وجده في كتاب أيوب بن موسى ولم يصرح بسماعه من أيوب بن موسى ولهذا قال في رواية أحمد " لا أدري كيف هو " كما تقدم، وجزم جماعة بأن معتمرا تفرد عن الزهري بقوله: "استعارت وجحدت " وليس كذلك بل تابعه شعيب كما ذكره شيخنا عند النسائي، ويونس كما أخرجه أبو داود من رواية أبي صالح كاتب الليث عن الليث عنه، وعلقه البخاري لليث عن يونس لكن لم يسق لفظه كما نبهت عليه وكذا ذكر البيهقي أن شبيب بن سعيد رواه عن يونس، وكذلك رواه ابن أخي الزهري عن الزهري أخرجه ابن أيمن في مصنفه عن إسماعيل القاضي بسنده إليه، وأخرج أصله أبو عوانة في صحيحه، والذي اتضح لي أن الحديثين محفوظان عن الزهري وأنه كان يحدث تارة بهذا وتارة بهذا، فحدث يونس عنه بالحديثين، واقتصرت كل طائفة من أصحاب الزهري غير يونس على أحد الحديثين، فقد أخرج أبو داود والنسائي وأبو عوانة في صحيحه من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر " أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها " وأخرجه النسائي وأبو عوانة أيضا من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ: "استعارت حليا" وقد اختلف نظر العلماء في ذلك فأخذ بظاهره أحمد في أشهر الروايتين عنه وإسحاق وانتصر له ابن حزم من الظاهرية، وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع في جحد العارية وهي رواية عن أحمد أيضا، وأجابوا عن الحديث بأن رواية من روى " سرقت " أرجح، وبالجمع بين الروايتين بضرب من التأويل فأما الترجيح فنقل النووي أن رواية معمر شاذة مخالفة لجماهير الرواة، قال: والشاذة لا يعمل بها. وقال ابن المنذر في الحاشية وتبعه المحب الطبري: قيل إن معمرا انفرد بها. وقال القرطبي: رواية أنها سرقت أكثر وأشهر من رواية الجحد، فقد انفرد بها معمر وحده من بين الأئمة الحفاظ، وتابعه على

(12/90)


ذلك من لا يقتدى بحفظه كابن أخي الزهري ونمطه. هذا قول المحدثين. قلت: سبقه لبعضه القاضي عياض، وهو يشعر بأنه لم يقف على روايته شعيب ويونس بموافقة معمر إذ لو وقف عليها لم يجزم بتفرد معمر وأن من وافقه كابن أخي الزهري ونمطه ولا زاد القرطبي نسبة ذلك للمحدثين إذ لا يعرف عن أحد من المحدثين أنه قرن شعيب بن أبي حمزة ويونس بن يزيد وأيوب بن موسى بابن أخي الزهري بل هم متفقون على أن شعيبا ويونس أرفع درجة في حديث الزهري من ابن أخيه، ومع ذلك فليس في هذا الاختلاف عن الزهري ترجيح بالنسبة إلى اختلاف الرواة عنه إلا لكون رواية: "سرقت" متفقا عليها ورواية: "جحدت" انفرد بها مسلم، وهذا لا يدفع تقديم الجمع إذا أمكن بين الروايتين، وقد جاء عن بعض المحدثين عكس كلام القرطبي فقال: لم يختلف على معمر ولا على شعيب وهما في غاية الجلالة في الزهري، وقد وافقهما ابن أخي الزهري، وأما الليث ويونس وإن كانا في الزهري كذلك فقد اختلف عليهما فيه، وأما إسماعيل بن أمية وإسحاق بن راشد فدون معمر وشعيب في الحفظ قلت: وكذا اختلف على أيوب بن موسى كما تقدم، وعلى هذا فيتعادل الطريقان ويتعين الجمع فهو أولى من إطراح أحد الطريقين، فقال بعضهم كما تقدم عن ابن حزم وغيره: هما قصتان مختلفتان لامرأتين مختلفتين، وتعقب بأن في كل من الطريقين أنهم استشفعوا بأسامة وأنه شفع وأنه قيل له: "لا تشفع في حد من حدود الله " فيبعد أن أسامة يسمع النهي المؤكد عن ذلك ثم يعود إلى ذلك مرة أخرى ولا سيما أن اتحد زمن القصتين، وأجاب ابن حزم بأنه يجوز أن ينسى ويجوز أن يكون الزجر عن الشفاعة في حد السرقة تقدم فظن أن الشفاعة في جحد العارية جائز وأن لا حد فيه فشفع فأجيب بأن فيه الحد أيضا، ولا يخفى ضعف الاحتمالين. وحكى ابن المنذر عن بعض العلماء أن القصة لامرأة واحدة استعارت وجحدت وسرقت فقطعت للسرقة لا للعارية، قال: وبذلك نقول وقال الخطابي في "معالم السنن" بعد أن حكى الخلاف وأشار إلى ما حكاه ابن المنذر: وإنما ذكرت العارية والجحد في هذه القصة تعريفا لها بخاص صفتها إذ كانت تكثر ذلك كما عرفت بأنها مخزومية، وكأنها لما كثر منها ذلك ترقت إلى السرقة وتجرأت عليها. وتلقف هذا الجواب من الخطابي جماعة منهم البيهقي فقال: تحمل رواية من ذكر جحد الجارية على تعريفها بذلك والقطع على السرقة. وقال المنذري نحوه، ونقله المازري ثم النووي عن العلماء. وقال القرطبي: يترجح أن يدها قطعت على السرقة لا لأجل جحد العارية من أوجه: أحدها قوله في آخر الحديث الذي ذكرت فيه العارية "لو أن فاطمة سرقت" فإن فيه دلالة قاطعة على أن المرأة قطعت في السرقة، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغيا، ولقال: لو أن فاطمة جحدت العارية. قلت: وهذا قد أشار إليه الخطابي أيضا. ثانيها لو كانت قطعت في جحد العارية لوجب قطع كل من جحد شيئا إذا ثبت عليه ولو لم يكن بطريق العارية. ثالثها أنه عارض ذلك حديث: "ليس على خائن ولا مختلس ولا منتهب قطع " وهو حديث قوي. قلت: أخرجه الأربعة وصححه أبو عوانة والترمذي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رفعه، وصرح ابن جريج في رواية للنسائي بقوله: "أخبرني أبو الزبير " ووهم بعضهم هذه الرواية، فقد صرح أبو داود بأن ابن جريج لم يسمعه من أبي الزبير، قال: وبلغني عن أحمد إنما سمعه ابن جريج من ياسين الزيات، ونقل ابن عدي في " الكامل " عن أهل المدينة أنهم قالوا: لم يسمع ابن جريج من أبي الزبير. وقال النسائي: رواه الحفاظ من أصحاب ابن جريج عنه عن أبي الزبير فلم يقل أجد منهم أخبرني ولا أحسبه سمعه. قلت: لكن وجد له متابع عن

(12/91)


أبي الزبير أخرجه النسائي أيضا من طريق المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير، لكن أبو الزبير مدلس أيضا وقد عنعنه عن جابر، لكن أخرجه ابن حبان من وجه آخر عن جابر بمتابعة أبي الزبير فقوي الحديث، وقد أجمعوا على العمل به إلا من شذ، فنقل ابن المنذر عن إياس بن معاوية أنه قال: المختلس يقطع، كأنه ألحقه بالسارق لاشتراكهما في الأخذ خفية، ولكنه خلاف ما صرح به في الخبر، وإلا ما ذكر من قطع جاحد العارية، وأجمعوا على أن لا قطع على الخائن في غير ذلك ولا على المنتهب إلا إن كان قاطع طريق والله أعلم. وعارضه غيره ممن خالف فقال ابن القيم الحنبلي: لا تنافي بين جحد العارية وبين السرقة، فإن الجحد داخل في اسم السرقة فيجمع بين الروايتين بأن الذين قالوا سرقت أطلقوا على الجحد سرقة، كذا قال ولا يخفى بعده. قال: والذي أجاب به الخطابي مردود لأن الحكم المرتب على الوصف معمول به، ويقويه أن لفظ الحديث وترتيبه في إحدى الروايتين القطع على السرقة وفي الأخرى على الجحد على حد سواء، وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلمية، فكل من الروايتين دل على أن علة القطع كل من السرقة وجحد العارية على انفراده، ويؤيد ذلك أن سياق حديث ابن عمر ليس فيه ذكر للسرقة ولا للشفاعة من أسامة، وفيه التصريح بأنها قطعت في ذلك، وأبسط ما وجدت من طرقه ما أخرجه النسائي في رواية له " أن امرأة كانت تستعير الحلي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعارت من ذلك حليا فجمعته ثم أمسكته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لتتب امرأة إلى الله تعالى وتؤد ما عندها، مرارا. فلم تفعل، فأمر بها فقطعت " وأخرج النسائي بسند صحيح من مرسل سعيد بن المسيب " أن امرأة من بني مخزوم استعارت حليا على لسان أناس فجحدت، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت " وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح أيضا إلى سعيد قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة في بيت عظيم من بيوت قريش قد أتت أناسا فقالت إن آل فلان يستعيرونكم كذا فأعاروها ثم أتوا أولئك فأنكروا، ثم أنكرت هي، فقطعها النبي صلى الله عليه وسلم". وقال ابن دقيق العيد: صنيع صاحب " العمدة " حيث أورد الحديث بلفظ الليث ثم قال وفي لفظ فذكر لفظ معمر يقتضي أنها قصة واحدة واختلف فيها هل كانت سارقة أو جاحدة، يعني لأنه أورد حديث عائشة باللفظ الذي أخرجاه من طريق الليث ثم قال: وفي لفظ كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، وهذه رواية معمر في مسلم فقط قال: وعلى هذا فالحجة في هذا الخبر في قطع المستعير ضعيفة لأنه اختلاف في واقعة واحدة فلا يبت الحكم فيه بترجيح من روى أنها جاحدة على الرواية الأخرى، يعني وكذا عكسه فيصح أنها قطعت بسبب الأمرين، والقطع في السرقة متفق عليه فيترجح على القطع في الجحد المختلف فيه. قلت: وهذه أقوى الطرق في نظري، وقد تقدم الرد على من زعم أن القصة وقعت لامرأتين فقطعتا في أوائل الكلام على هذا الحديث، والإلزام الذي ذكره القرطبي في أنه لو ثبت القطع في جحد العارية للزم القطع في جحد غير العارية قوي أيضا، فإن من يقول بالقطع في جحد العارية لا يقول به في جحد غير العارية فيقاس المختلف فيه على المتفق عليه إذ لم يقل أحد بالقطع في الجحد على الإطلاق، وأجاب ابن القيم بأن الفرق بين جحد العارية وجحد غيرها أن السارق لا يمكن الاحتراز منه وكذلك جاحد العارية بخلاف المختلس من غير حرز والمنتهب، قال: ولا شك أن الحاجة ماسة بين الناس إلى العارية، فلو علم المعير أن المستعير إذا جحد لا شيء عليه لجر ذلك إلى سد باب العارية وهو خلاف ما تدل عليه حكمة الشريعة، بخلاف ما إذا علم أنه يقطع فإن ذلك يكون أدعى إلى استمرار العارية. وهي مناسبة لا تقوم بمجردها حجة إذا ثبت حديث جابر في أن لا قطع على خائن،

(12/92)


وقد فر من هذا بعض من قال بذلك فخص القطع بمن استعار على لسان غيره مخادعا للمستعار منه ثم تصرف في العارية وأنكرها لما طولب بها، فإن هذا لا يقطع بمجرد الخيانة بل لمشاركته السارق في أخذ المال خفية. "تنبيه" قول سفيان المتقدم: ذهبت أسأل الزهري عن حديث المخزومية التي سرقت فصاح على مما يكثر السؤال عنه وعن سببه، وقد أوضح ذلك بعض الرواة عن سفيان، فرأينا في كتاب المحدث الفاضل لأبي محمد الرامهرمزي من طريق سليمان بن عبد العزيز أخبرني محمد بن إدريس قال: قلت لسفيان بن عيينة كم سمعت من الزهري؟ قال: أما مع الناس فما أحصى، وأما وحدي فحديث واحد، دخلت يوما من باب بني شيبة فإذا أنا به جالس إلى عمود فقلت: يا أبا بكر حدثني حديث المخزومية التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها، قال فضرب وجهي بالحصى ثم قال: قم؛ فما يزال عبد يقدم علينا بما نكره، قال: فقمت منكسرا، فمر رجل فدعاه فلم يسمع فرماه بالحصى فلم يبلغه فاضطر إلى فقال: ادعه لي، فدعوته له فأتاه فقضى حاجته، فنظر إلي فقال: تعال، فجئت فقال: "أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العجماء جبار " الحديث، ثم قال لي: هذا خير لك من الذي أردت. قلت: وهذا الحديث الأخير أخرجه مسلم والأربعة من طريق سفيان بدون القصة. قوله: "فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي يشفع عنده فيها أن لا تقطع إما عفوا وإما بفداء، وقد وقع ما يدل على الثاني في حديث مسعود بن الأسود ولفظه بعد قوله أعظمنا ذلك " فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: نحن نفديها بأربعين أوقية، فقال: تطهر خير لها " وكأنهم ظنوا أن الحد يسقط بالفدية كما ظن ذلك من أفتى والد العسيف الذي زنى بأنه يفتدي منه بمائة شاة ووليدة. ووجدت لحديث مسعود هذا شاهدا عند أحمد من حديث عبد الله بن عمرو " أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قومها: نحن نفديها". قوله: "من يجترئ عليه" بسكون الجيم وكسر الراء يفتعل الجرأة بضم الجيم وسكون الراء وفتح الهمزة، ويجوز فتح الجيم والراء مع المد. ووقع في رواية قتيبة " فقالوا ومن يجترئ عليه " وهو أوضح لأن الذي استفهم بقوله: "من يكلم" غير الذي أجاب بقوله: "ومن يجترئ " والجرأة هي الإقدام بإدلال، والمعنى ما يجترئ عليه إلا أسامة. وقال الطيبي: الواو عاطفة على محذوف تقديره لا يجترئ عليه أحد لمهابته، لكن أسامة له عليه إدلال فهو يجسر على ذلك. ووقع في حديث مسعود بن الأسود بعد قوله تطهر خير لها " فلما سمعنا لين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينا أسامة " ووقع في رواية يونس الماضية في الفتح " ففزع قومها إلى أسامة " أي لجئوا وفي رواية أيوب بن موسى في الشهادات " فلم يجترئ أحد أن يكلمه إلا أسامة " وكان السبب في اختصاص أسامة بذلك ما أخرجه ابن سعد من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: لا تشفع في حد، وكان إذا شفع شفعه " بتشديد الفاء أي قبل شفاعته، وكذا وقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفعه". قوله: "حب رسول الله صلى الله عليه وسلم" بكسر المهملة بمعنى محبوب مثل قسم بمعنى مقسوم، وفي ذلك تلميح بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أحبه فأحبه " وقد تقدم في المناقب. قوله: "فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم" بالنصب. وفي رواية قتيبة " فكلمه أسامة " وفي الكلام شيء مطوي تقديره فجاءوا إلى أسامة فكلموه في ذلك فجاء أسامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، ووقع في رواية يونس " فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها" فأفادت هذه الرواية أن الشافع يشفع بحضرة المشفوع له ليكون أعذر له عنده إذا لم تقبل شفاعته. وعند النسائي من رواية إسماعيل بن أمية "فكلمه فزبره" بفتح الزاي والموحدة أي

(12/93)


أغلظ له في النهي حتى نسبه إلى الجهل، لأن الزبر بفتح ثم سكون هو العقل، وفي رواية يونس " فكلمه فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زاد شعيب عند النسائي: "وهو يكلمه" وفي مرسل حبيب بن أبي ثابت " فلما أقبل أسامة ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تكلمني يا أسامة". قوله: "فقال: أتشفع في حد من حدود الله" بهمزة الاستفهام الإنكاري لأنه كان سبق له منع الشفاعة في الحد قبل ذلك، زاد يونس وشعيب " فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله " ووقع في حديث جابر عند مسلم والنسائي: "أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بأم سلمة " بذال معجمة أي استجارت أخرجاه من طريق معقل بن يسار عن عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر، وذكره أبو داود تعليقا، والحاكم موصولا من طريق موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر " فعاذت بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال المنذري: يجوز أن تكون عاذت بكل منهما، وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ماتت قبل هذه القصة لأن هذه القصة كما تقدم كانت في غزوة الفتح وهي في رمضان سنة ثمان وكان موت زينب قبل ذلك في جمادى الأولى من السنة فلعل المراد أنها عاذت بزينب ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت أم سلمة فتصحفت على بعض الرواة. قلت: أو نسبت زينب بنت أم سلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجازا لكونها ربيبته فلا يكون فيه تصحيف. ثم قال شيخنا: وقد أخرج أحمد هذا الحديث من طريق ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة وقال فيه: "فعاذت بربيب النبي صلى الله عليه وسلم: "براء وموحدة مكسورة وحذف لفظ بنت، وقال في آخره: قال ابن أبي الزناد وكان ربيب النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة وعمر بن أبي سلمة فعاذت بأحدهما. قلت: وقد ظفرت بما يدل على أنه عمر بن أبي سلمة، فأخرج عبد الرزاق من مرسل الحسن بن محمد بن علي " قال سرقت امرأة - فذكر الحديث وفيه - فجاء عمر بن أبي سلمة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أي أبه، إنها عمتي، فقال: لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها " قال عمرو بن دينار الراوي عن الحسن: فلم أشك أنها بنت الأسود بن عبد الأسد. قلت: ولا منافاة بين الروايتين عن جابر، فإنه يحمل على أنها استجارت بأم سلمة بأولادها واختصها بذلك لأنها قريبتها وزوجها عمها، وإنما قال عمر بن أبي سلمة " عمتي " من جهة السن، وإلا فهي بنت عمه أخي أبيه، وهو كما قالت خديجة لورقة في قصة المبعث " أي عم اسمع من ابن أخيك " وهو ابن عمها أخي أبيها أيضا. ووقع عند أبي الشيخ من طريق أشعث عن أبي الزبير عن جابر " أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فعاذت بأسامة " وكأنها جاءت مع قومها فكلموا أسامة بعد أن استجارت بأم سلمة، ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت " فاستشفعوا على النبي صلى الله عليه وسلم بغير واحد فكلموا أسامة". قوله: "ثم قام فخطب" في رواية قتيبة "فاختطب" وفي رواية يونس "فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا". قوله: "فقال يا أيها الناس" في رواية قتيبة بحذف يا من أوله، وفي رواية يونس فقام خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: "أما بعد". قوله: "إنما ضل من كان قبلكم" في رواية أبي الوليد " هلك " وكذا لمحمد بن رمح عند مسلم. وفي رواية سفيان عند النسائي: "إنما هلك بنو إسرائيل " وفي رواية قتيبة " أهلك من كان قبلكم " قال ابن دقيق العيد: الظاهر أن هذا الحصر ليس عاما، فإن بني إسرائيل كان فيهم أمور كثيرة تقتضي الإهلاك، فيحمل ذلك على حصر مخصوص وهو الإهلاك بسبب المحاباة في الحدود فلا ينحصر ذلك في حد السرقة. قلت: يؤيد هذا الاحتمال ما أخرجه أبو الشيخ في "كتاب السرقة" من طريق زازان عن عائشة مرفوعا: "أنهم عطلوا الحدود عن الأغنياء وأقاموها على الضعفاء" والأمور التي أشار إليها الشيخ سبق منها في ذكر ==

 كتاب :39- فتح الباري  أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 =بني إسرائيل حديث ابن عمر في قصة اليهوديين اللذين زنيا وسيأتي شرحه بعد هذا، وفي التفسير حديث ابن عباس في أخذ الدية من الشريف إذا قتل عمدا والقصاص من الضعيف وغير ذلك. قوله: "إنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه" في رواية قتيبة " إذا سرق فيهم الشريف " وفي رواية سفيان عند النسائي: "حين كانوا إذا أصاب فيهم الشريف الحد تركوه ولم يقيموه عليه " وفي رواية إسماعيل بن أمية " وإذا سرق فيهم الوضيع قطعوه". قوله: "وايم الله" تقدم ضبطها في كتاب الأيمان والنذور، ووقع مثله في رواية إسحاق بن راشد، ووقع في رواية أبي الوليد " والذي نفسي بيده " وفي رواية يونس " والذي نفس محمد بيده". قوله: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت" هذا من الأمثلة التي صح فيها أن لو حرف امتناع لامتناع، وقد أتقن القول في ذلك صاحب المغني وسيأتي بسط ذلك في كتاب التمني إن شاء الله تعالى. وقد ذكر ابن ماجد عن محمد بن رمح شيخه في هذا الحديث: "سمعت الليث يقول عقب هذا الحديث: قد أعاذها الله من أن تسرق " وكل مسلم ينبغي له أن يقول هذا، ووقع للشافعي أنه لما ذكر هذا الحديث قال: فذكر عضوا شريفا من امرأة شريفة واستحسنوا ذلك منه لما فيه من الأدب البالغ، وإنما خص صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته بالذكر لأنها أعز أهله عنده، ولأنه لم يبق من بناته حينئذ غيرها، فأراد المبالغة في إثبات إقامة الحد على كل مكلف وترك المحاباة في ذلك، ولأن اسم السارقة وافق اسمها عليها السلام فناسب أن يضرب المثل بها. قوله: "لقطع محمد يدها" في رواية أبي الوليد والأكثر " لقطعت يدها " وفي الأول تجريد، زاد يونس في روايته من رواية ابن المبارك عنه كما مضى في غزوة الفتح " ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها " ووقع في حديث ابن عمر في رواية للنسائي: "قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها " وفي أخرى له " فأمر بها فقطعت " وفي حديث جابر عند الحاكم "فقطعها". وذكر أبو داود تعليقا عن محمد بن عبد الرحمن بن غنج عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد نحو حديث المخزومية وزاد فيه: "قال فشهد عليها " وزاد يونس أيضا في روايته: "قالت عائشة فحسنت توبتها بعد وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأخرجه الإسماعيلي من طريق نعيم بن حماد عن ابن المبارك وفيه: "قال عروة قالت عائشة " ووقع في رواية شعيب عند الإسماعيلي في الشهادات وفي رواية ابن أخي الزهري عند أبي عوانة كلاهما عن الزهري " قال وأخبرني القاسم بن محمد أن عائشة قالت: فنكحت تلك المرأة رجلا من بني سليم وتابت وكانت حسنة التلبس وكانت تأتيني فأرفع حاجتها " الحديث وكأن هذه الزيادة كانت عند الزهري عن عروة وعن القاسم جميعا عن عائشة وعندهما زيادة على الآخر، وفي آخر حديث مسعود بن الحكم عند الحاكم " قال ابن إسحاق وحدثني عبد الله بن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يرحمها ويصلها " وفي حديث عبد الله ابن عمرو عند أحمد أنها قالت: "هل لي من توبة يا رسول الله؟ فقال : أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " وفي هذا الحديث من الفوائد منع الشفاعة في الحدود، وقد تقدمت في الترجمة الدلالة على تقييد المنع بما إذا انتهى ذلك إلى أولي الأمر، واختلف العلماء في ذلك فقال أبو عمر بن عبد البر لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته. وذكر الخطابي وغيره عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذى الناس ومن لم يعرف، فقال: لا يشفع للأول مطلقا سواء بلغ الإمام أم لا، وأما من لم يعرف بذلك فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام. وتمسك بحديث الباب من أوجب إقامة الحد على القاذف إذا بلغ الإمام ولو عفا المقذوف، وهو قول الحنفية والثوري والأوزاعي، وقال مالك والشافعي وأبو يوسف: يجوز العفو مطلقا ويدرأ بذلك الحد لأن الإمام لو وجده بعد عفو المقذوف

(12/95)


لجاز أن يقيم البينة بصدق القاذف فكانت تلك شبهة قوية. وفيه دخول النساء مع الرجال في حد السرقة. وفيه قبول توبة السارق، ومنقبة لأسامة. وفيه ما يدل على أن فاطمة عليها السلام عند أبيها صلى الله عليه وسلم في أعظم المنازل فإن في القصة إشارة إلى أنها الغاية في ذلك عنده ذكره ابن هبيرة، وقد تقدمت مناسبة اختصاصها بالذكر دون غيرها من رجال أهله، ولا يؤخذ منه أنها أفضل من عائشة لأن من جملة ما تقدم من المناسبة كون اسم صاحبة القصة وافق اسمها ولا تنتفي المساواة. وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على من وجب عليه ولو كان ولدا أو قريبا أو كبير القدر والتشديد في ذلك والإنكار على من رخص فيه أو تعرض للشفاعة فيمن وجب عليه. وفيه جواز ضرب المثل بالكبير القدر للمبالغة في الزجر عن الفعل ومراتب ذلك مختلفة، ولا يحق ندب الاحتراز من ذلك حيث لا يترجح التصريح بحسب المقام كما تقدم نقله عن الليث والشافعي. ويؤخذ منه جواز الإخبار عن أمر مقدر يفيد القطع بأمر محقق. وفيه أن من حلف على أمر لا يتحقق أنه يفعله أو لا يفعله لا يحنث كمن قال لمن خاصم أخاه: والله لو كنت حاضرا لهشمت أنفك، خلافا لمن قال يحنث مطلقا وفيه جواز التوجع لمن أقيم عليه الحد بعد إقامته عليه وقد حكى ابن الكلبي في قصة أم عمرو بنت سفيان أن امرأة أسيد بن حضير أوتها بعد أن قطعت وصنعت لها طعاما وأن أسيدا ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم كالمنكر على امرأته فقال: رحمتها رحمها الله. وفيه الاعتبار بأحوال من مضى من الأمم ولا سيما من خالف أمر الشرع، وتمسك به بعض من قال إن شرع من قبلنا شرع لنا لأن فيه إشارة إلى تحذير من فعل الشيء الذي جر الهلاك إلى الذين من قبلنا لئلا نهلك كما هلكوا وفيه نظر، وإنما يتم أن لو لم يرد قطع السارق في شرعنا، وأما اللفظ العام فلا دلالة فيه على المدعي أصلا.

(12/96)


باب قول الله تعالى { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما } و في كم يقطع؟
...
13- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَفِي كَمْ يُقْطَعُ؟ وَقَطَعَ عَلِيٌّ مِنْ الْكَفِّ وَقَالَ قَتَادَةُ فِي امْرَأَةٍ سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ شِمَالُهَا: لَيْسَ إِلاَّ ذَلِكَ
6789- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمْرَةَ "عَنْ عَائِشَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا" تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
[الحديث6789- طرفاه في:6790 ، 6791]
6790- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَمْرَةَ "عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ"
6791- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَتْهُ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ"
6792- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ يَدَ السَّارِقِ

(12/96)


لَمْ تُقْطَعْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ فِي ثَمَنِ مِجَنٍّ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ"
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: مِثْلَهُ
[الحديث6792- طرفاه في: 6793 ، 6794]
6793- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "لَمْ تَكُنْ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي أَدْنَى مِنْ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذُو ثَمَنٍ". رَوَاهُ وَكِيعٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا
6794- حدثني يوسف بن موسى حدثنا أبو أسامة قال هشام بن عروة أخبرنا عن أبيه "عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لم تقطع يد سارق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أدني من ثمن المجن: ترس أو حجفة، وكان كل واحد منهما ذا ثمن"
6795- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ" تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي "نَافِعٌ قِيمَتُهُ"
[الحديث 6795 أطرافه في: 6796 ، 6797 ، 6798]
6796- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ"
6797- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ"
6798- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ سَارِقٍ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ". تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ "قِيمَتُهُ"
6799- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ قَالَ "سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ"
قوله: "باب قول الله تعالى :{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} كذا أطلق في الآية اليد وأجمعوا على أن المراد اليمنى إن كانت موجودة، واختلفوا فيما لو قطعت الشمال عمدا أو خطأ هل يجزئ؟ وقدم السارق على السارقة، وقدمت الزانية على الزاني لوجود السرقة غالبا في الذكورية ولأن داعية الزنا في الإناث أكثر، ولأن الأنثى سبب

(12/97)


في وقوع الزنا إذ لا يتأتى غالبا إلا بطواعيتها. وقوله: بصيغة الجمع ثم التثنية، إشارة إلى أن المراد جنس السارق فلوحظ فيه المعنى فجمع، والتثنية بالنظر إلى الجنسين المتلفظ بهما. والسرقة بفتح السين وكسر الراء ويجوز إسكانها ويجوز كسر أوله وسكون ثانيه: الأخذ خفية، وعرفت في الشرع بأخذ شيء خفية ليس للآخذ أخذه، ومن اشترط الحرز وهم الجمهور زاد فيه من حرز مثله، قال ابن بطال: الحرز مستفاد من معنى السرقة يعني في اللغة، ويقال لسارق الإبل الخارب بخاء معجمة، وللسارق في المكيال مطفف وللسارق في الميزان مخسر، في أشياء أخرى ذكرها ابن خالويه في "كتاب ليس" قال المازري ومن تبعه: صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغصب ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة بخلافها وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع فيه حماية لليد، ثم لما خانت هانت، وفي ذلك إشارة إلى الشبهة التي نسبت إلى أبي العلاء المعري في قوله:
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار؟
فأجابه القاسم عبد الوهاب المالكي بقوله:
صيانة العضو أغلاها وأرخصها ... صيانة المال فافهم حكمة الباري
وشرح ذلك أن الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين، وقد عسر فهم المعنى المقدم ذكره في الفرق بين السرقة وبين النهب ونحوه على بعض منكري القياس فقال: القطع في السرقة دون الغصب وغيره غير معقول المعنى، فإن الغصب أكثر هتكا للحرمة من السرقة، فدل على عدم اعتبار القياس لأنه إذا لم يعمل به في الأعلى فلا يعمل به في المساوي، وجوابه أن الأدلة على العمل بالقياس أشهر من أن يتكلف لإيرادها، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله: "وقطع علي من الكف" أشار بهذا الأثر إلى الاختلاف في محل القطع، وقد اختلف في حقيقة اليد فقيل: أولها من المنكب؛ وقيل من المرفق، وقيل من الكوع، وقيل من أصول الأصابع. فحجة الأول أن العرب تطلق الأيدي على ذلك، ومن الثاني آية الوضوء ففيها {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ومن الثالث آية التيمم، ففي القرآن {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وبينت السنة كما تقدم في بابه أنه عليه الصلاة والسلام مسح على كفيه فقط، وأخذ بظاهر الأول بعض الخوارج ونقل عن سعيد بن المسيب واستنكره جماعة، والثاني لا نعلم من قال به في السرقة، والثالث قول الجمهور ونقل بعضهم فيه الإجماع، والرابع نقل عن علي واستحسنه أبو ثور، ورد بأنه لا يسمى مقطوع اليد لغة ولا عرفا بل مقطوع الأصابع وبحسب هذا الاختلاف وقع الخلف في محل القطع فقال بالأول الخوارج وهم محجوجون بإجماع السلف على خلاف قولهم، وألزم ابن حزم الحنفية بأن يقولوا بالقطع من المرفق قياسا على الوضوء وكذا التيمم عندهم، قال: وهو أولى من قياسهم قدر المهر على نصاب السرقة، ونقله عياض قولا شاذا وحجة الجمهور الأخذ بأقل ما ينطلق عليه الاسم لأن اليد قبل السرقة كانت محترمة فلما جاء النص بقطع اليد وكانت تطلق على هذه المعاني وجب أن لا يترك المتيقن وهو تحريمها إلا بمتيقن وهو القطع من الكف، وأما الأثر عن

(12/98)


علي فوصله الدار قطني من طريق حجبة بن عدي أن عليا قطع من المفصل، وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل رجاء بن حيوة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع من المفصل " وأورده أبو الشيخ في كتاب حد السرقة من وجه آخر عن رجاء عن عدي رفعه مثله، ومن طريق وكيع عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر رفعه مثله. وأخرج سعيد بن منصور عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار قال: كان عمر يقطع من المفصل وعلي يقطع من مشط القدم، وأخرج ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي حيوة أن عليا قطعه من المفصل، وجاء عن علي أنه قطع اليد من الأصابع والرجل من مشط القدم أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عنه وهو منقطع وإن كان رجال السند من رجال الصحيح، وقد أخرج عبد الرزاق من وجه آخر أن عليا كان يقطع الرجل من الكعب، وذكر الشافعي في "كتاب اختلاف علي وابن مسعود" أن عليا كان يقطع من يد السارق الخنصر والبنصر والوسطى خاصة ويقول: أستحيي من الله أن أتركه بلا عمل، وهذا يحتمل أن يكون بقي الإبهام والسبابة وقطع الكف والأصابع الثلاثة ويحتمل أن يكون بقي الكف أيضا والأول أليق لأنه موافق لما نقل البخاري أنه قطع من الكف، وقد وقع في بعض النسخ بحذف "من" بلفظ: "وقطع على الكف". قوله: "وقال قتادة في امرأة سرقت فقطعت شمالها: ليس إلا ذلك" وصله أحمد في تاريخه عن محمد بن الحسين الواسطي عن عوف الأعرابي عنه هكذا قرأت بخط مغلطاي في شرحه ولم يسق لفظه، وقد أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فذكر مثل قول الشعبي: لا يزاد على ذلك قد أقيم عليه الحد. وكان ساق بسنده عن الشعبي أنه سئل عن سارق قدم ليقطع فقدم شماله فقطعت فقال: لا يزاد على ذلك، وأشار المصنف بذكره إلى أن الأصل أن أول شيء يقطع من السارق اليد اليمنى وهو قول الجمهور، وقد قرأ ابن مسعود {فاقطعوا أيمانهما} وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن إبراهيم قال: هي قراءتنا يعني أصحاب ابن مسعود. ونقل فيه عياض الإجماع وتعقب، نعم قد شذ من قال إذا قطع الشمال أجزأت مطلقا كما هو ظاهر النقل عن قتادة، وقال مالك: إن كان عمدا وجب القصاص على القاطع ووجب قطع اليمين، وإن كان خطأ وجبت الدية ويجزئ عن السارق، وكذا قال أبو حنيفة، وعن الشافعي وأحمد قولان في السارق، واختلف السلف فيمن سرق فقطع ثم سرق ثانيا فقال الجمهور تقطع رجله اليسرى، ثم إن سرق فاليد اليسرى، ثم إن سرق فالرجل اليمنى، واحتج لهم بآية المحاربة وبفعل الصحابة وبأنهم فهموا من الآية أنها في المرة الواحدة فإذا عاد السارق وجب عليه القطع ثانيا إلى أن لا يبقى له ما يقطع، ثم إن سرق عزر وسجن، وقيل يقتل في الخامسة قاله أبو مصعب الزهري المدني صاحب مالك، وحجته ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث جابر قال: "جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقتلوه، فقالوا يا رسول الله إنما سرق، قال: اقطعوه، ثم جيء به الثانية فقال اقتلوه - فذكر مثله إلى أن قال - فأتى به الخامسة فقال: اقتلوه. قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه ورميناه في بئر، قال النسائي هذا حديث منكر ومصعب بن ثابت راويه ليس بالقوي، وقد قال بعض أهل العلم كابن المنكدر والشافعي: إن هذا منسوخ، وقال بعضهم هو خاص بالرجل المذكور فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أنه واجب القتل ولذلك أمر بقتله من أول مرة، ويحتمل أنه كان من المفسدين في الأرض. قلت: وللحديث شاهد من حديث الحارث في حاطب أخرجه النسائي ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص فقال: اقتلوه، فقالوا إنما سرق" فذكر نحو حديث جابر في قطع أطرافه الأربع إلا أنه قال في آخره: "ثم سرق الخامسة في عهد أبي بكر فقال أبو بكر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال اقتلوه، ثم دفعه إلى فتية من قريش فقتلوه" قال

(12/99)


النسائي: لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا، قلت: نقل المنذري تبعا لغيره فيه الإجماع، ولعلهم أرادوا أنه استقر على ذلك، وإلا فقد جزم الباجي في "اختلاف العلماء" أنه قول مالك ثم قال: وله قول آخر لا يقتل، وقال عياض: لا أعلم أحدا من أهل العلم قال به إلا ما ذكره أبو مصعب صاحب مالك في مختصره عن مالك وغيره من أهل المدينة فقال: ومن سرق ممن بلغ الحلم قطع يمينه ثم إن عاد فرجله اليسرى ثم إن عاد فيده اليسرى ثم إن عاد فرجله اليمنى فإن سرق في الخامسة قتل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعمر بن عبد العزيز انتهى، وفيه قول ثالث بقطع اليد بعد اليد ثم الرجل بعد الرجل نقل عن أبي بكر وعمر ولا يصح. وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن القاسم بن محمد أن أبا بكر قطع يد سارق في الثالثة، ومن طريق سالم بن عبد الله أن أبا بكر إنما قطع رجله وكان مقطوع اليد ورجال السندين ثقات مع انقطاعهما، وفيه قول رابع تقطع الرجل اليسرى بعد اليمنى ثم لا قطع أخرجه عبد الرزاق من طريق الشعبي عن علي وسنده ضعيف، ومن طريق أبي الضحى أن عليا نحوه ورجاله ثقات مع انقطاعه، وبسند صحيح عن إبراهيم النخعي: كانوا يقولون لا يترك ابن آدم مثل البهيمة ليس له يد يأكل بها ويستنجى بها، وبسند حسن عن عبد الرحمن بن عائذ أن عمر أراد أن يقطع في الثالثة فقال له على: اضربه واحبسه ففعل، وهذا قول النخعي والشعبي والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة، وفيه قول خامس قاله عطاء لا يقطع شيء من الرجلين أصلا على ظاهر الآية وهو قول الظاهرية. قال ابن عبد البر: حديث القتل في الخامسة منكر وقد ثبت "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" وثبت "السرقة فاحشة وفيها عقوبة" وثبت عن الصحابة قطع الرجل بعد اليد وهم يقرءون {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} كما اتفقوا على الجزاء في الصيد وإن قتل خطأ وهم يقرءون {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ويمسحون على الخفين وهم يقرءون غسل الرجلين، وإنما قالوا جميع ذلك بالسنة. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. أحدها حديث عائشة من طريقين الأولى: قوله: "عن عمرة" قال الدار قطني في "العلل" اقتصر إبراهيم بن سعد وسائر من رواه عن ابن شهاب على عمرة، ورواه يونس عنه فزاد مع عمرة عروة. قلت: وحكى ابن عبد البر أن بعض الضعفاء وهو إسحاق الحنيني بمهملة ونونين مصغر رواه عن مالك عن الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة، وكذا روى عن الأوزاعي عن الزهري قال ابن عبد البر: وهذان الإسنادان ليسا صحيحين وقول إبراهيم ومن تابعه هو المعتمد، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية زكريا بن يحيى وحمويه عن إبراهيم بن سعد ورواية يونس بجمعهما صحيحة. قلت: وقد صرح ابن أخي ابن شهاب عن عمه بسماعه له من عمرة وبسماع عمرة له من عائشة أخرجه أبو عوانة، وكذا عند مسلم من وجه آخر عن عمرة أنها سمعت عائشة. قوله: "تقطع اليد في ربع دينار" في رواية يونس "تقطع يد السارق" وفي رواية حرملة عن ابن وهب عند مسلم: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار" وكذا عنده من طريق سليمان بن يسار عن عمرة. قوله: "فصاعدا" قال صاحب المحكم: يختص هذا بالفاء ويجوز ثم بدلها ولا تجوز الواو، وقال ابن جني: هو منصوب على الحال المؤكدة أي ولو زاد ومن المعلوم أنه إذا زاد لم يكن إلا صاعدا. قلت: ووقع في رواية سليمان بن يسار عن عمرة عند مسلم: "فما فوقه" بدل "فصاعدا" وهو بمعناه. قوله: "وتابعه عبد الرحمن بن خالد وابن أخي الزهري ومعمر عن الزهري" أي في الاقتصار على عمرة " ثم ساق رواية يونس وليس في آخره: "فصاعدا" وقد أخرجه مسلم عن حرملة والإسماعيلي من طريق همام كلاهما عن ابن وهب بإثباتها، وأما

(12/100)


متابعة عبد الرحمن بن خالد وهو ابن مسافر فوصلها الذهلي في "الزهريات" عن عبد الله بن صالح عن الليث عنه نحو رواية إبراهيم بن سعد، وقرأت بخط مغلطاي وقلده شيخنا ابن الملقن أن الذهلي أخرجه في "علل حديث الزهري" عن محمد بن بكر وروح بن عبادة جميعا عن عبد الرحمن، وهذا الذي قاله لا وجود له بل ليس لروح ولا لمحمد بن بكر عن عبد الرحمن هذا رواية أصلا، وأما متابعة ابن أخي الزهري وهو محمد بن عبد الله بن مسلم فوصلها أبو عوانة في صحيحه من طريق يعقوب ابن إبراهيم بن سعد عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه، وقرأت بخط مغلطاي وقلده شيخنا أيضا أن الذهلي أخرجه عن روح بن عبادة عنه. قلت: ولا وجود له أيضا، وإنما أخرجه عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد. وأما متابعة معمر فوصلها أحمد عن عبد الرزاق عنه، وأخرجه مسلم من رواية عبد الرزاق لكن لم يسق لفظه، وساقه النسائي ولفظه: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا" ووصلها أيضا هو وأبو عوانة من طريق سعيد بن أبي عروبة عن معمر. وقال أبو عوانة في آخره: قال سعيد نبلنا معمرا رويناه عنه وهو شاب، وهو بنون وموحدة ثقيلة أي صيرناه نبيلا. قلت: وسعيد أكبر من معمر وقد شاركه في كثير من شيوخه، ورواه ابن المبارك عن معمر لكن لم يرفعه أخرجه النسائي، وقد رواه عن الزهري أيضا سليمان ابن كثير أخرجه مسلم من رواية يزيد بن هارون عنه مقرونا برواية إبراهيم بن سعد. قوله: "عن يونس" في رواية مسلم عن حرملة وأبي داود عن أحمد بن صالح كلاهما عن ابن وهب. قوله: "حدثنا الحسين" هو ابن ذكوان المعلم وهو بصري ثقة وفي طبقة حسين بن واقد قاضي مرو وهو دونه في الإتقان. قوله: "عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري" في رواية الإسماعيلي من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث سمعت أبي يقول حدثنا الحسين المعلم عن يحيى حدثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، قال الإسماعيلي رواه حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير كذلك، وقال همام بن يحيى عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن زرارة، قلت: نسب عبد الرحمن إلى جده وهو عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قال الإسماعيلي: ورواه إبراهيم القناد عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان كذا حدثناه ابن صاعد عن لوين عن القناد، والذي قبله أصح وبه جزم البيهقي وأن من قال فيه ابن ثوبان فقد غلط، قلت: وأخرجه النسائي من رواية عبد الرحمن بن أبي الرجال عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرة عن عائشة مرفوعا ولفظه: "تقطع يد السارق في ثمن المجن وثمن المجن ربع دينار"، وأخرجه من طريق سليمان بن يسار عن عمرة بلفظ: "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن، قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت ربع دينار " وقد توبع حسين المعلم عن يحيى أخرجه أبو نعيم في " المستخرج " من طريق هقل بن زياد عنه بلفظه. قوله: "عن عمرة بنت عبد الرحمن حدثته" أي أنها حدثته، وكذا في قوله عن عائشة حدثتهم، وقد جرت عادتهم بحذفها في مثل هذا كما أكثروا من حذف قال في مثل حدثنا عثمان حدثنا عبدة وفي مثل سمعت أبي حدثنا فلان، وذكر ابن الصلاح أنه لا بد من النطق بقال وفيه بحث، ولم ينبه على حذف أن التي أشرت إليها. وفي رواية عبد الصمد المذكورة أن عمرة حدثته أن عائشة أم المؤمنين حدثتها. قوله: "تقطع اليد في ربع دينار" هكذا في هذه الرواية مختصرا وكذا في رواية مسلم وأخرجه أبو داود عن أحمد بن صالح عن ابن وهب بلفظ: "القطع في ربع دينار فصاعدا" وعن وهب بن بيان عن ابن وهب بلفظ: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا" وأخرجه النسائي من طريق عبد الله بن المبارك

(12/101)


عن يونس بلفظ: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا" ورواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة " ما طال علي ولا نسيت، القطع في ربع دينار فصاعدا " وهو إن لم يكن رفعه صريحا لكنه في معنى المرفوع، وأخرجه الطحاوي من رواية ابن عيينة عن يحيى كذلك، ومن رواية جماعة عن عمرة موقوفا على عائشة، قال ابن عيينة: ورواية يحيى مشعرة بالرفع ورواية الزهري صريحة فيه وهو أحفظهم. وقد أخرجه مسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة مثل رواية سليمان بن يسار عنها التي أشرت إليها آنفا. وكذا أخرجه النسائي من طريق ابن الهاد بلفظ: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا" وأخرجه من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة موقوفا، وحاول الطحاوي تعليل رواية أبي بكر المرفوعة برواية ولده الموقوفة وأبو بكر أتقن وأعلم من ولده، على أن الموقوف في مثل هذا لا يخالف المرفوع لأن الموقوف محمول على طريق الفتوى، والعجب أن الطحاوي ضعف عبد الله بن أبي بكر في موضع آخر ورام هنا تضعيف الطريق القويمة بروايته، وكأن البخاري أراد الاستظهار لرواية الزهري عن عمرة بموافقة محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عنها لما وقع في رواية ابن عيينة عن الزهري من الاختلاف في لفظ المتن هل هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من فعله، وكذا رواه ابن عيينة عن غير الزهري فيما أخرجه النسائي عن قتيبة عنه عن يحيى بن سعيد وعبد ربه بن سعيد وزريق صاحب أيلة أنهم سمعوا عمرة عن عائشة قالت: "القطع في ربع دينار فصاعدا، ثم أخرجه النسائي من طريق عن يحيى ابن سعيد به مرفوعا وموقوفا وقال: الصواب ما وقع في رواية مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة ما طال علي العهد ولا نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا وفي هذا إشارة إلى الرفع والله أعلم. وقد تعلق بذلك بعض من لم يأخذ بهذا الحديث فذكره يحيى بن يحيى وجماعة عن ابن عيينة بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا " أورده الشافعي والحميدي وجماعة عن ابن عيينة بلفظ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقطع اليد " الحديث، وعلى هذا التعليل عول الطحاوي فأخرج الحديث عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن عيينة بلفظ: "كان يقطع " وقال: هذا الحديث لا حجة فيه لأن عائشة إنما أخبرت عما قطع فيه فيحتمل أن يكون ذلك لكونها قومت ما وقع القطع فيه إذ ذاك فكان عندها ربع دينار فقالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع في ربع دينار " مع احتمال أن تكون القيمة يومئذ أكثر. وتعقب باستبعاد أن تجزم عائشة بذلك مستندة إلى ظنها المجرد، وأيضا فاختلاف التقويم وإن كان ممكنا لكن محال في العادة أن يتفاوت هذا التفاوت الفاحش بحيث يكون عند قوم أربعة أضعاف قيمته عند آخرين، وإنما يتفاوت بزيادة قليلة أو نقص قليل ولا يبلغ المثل غالبا، وادعى الطحاوي اضطراب الزهري في هذا الحديث لاختلاف الرواة عنه في لفظه، ورد بأن من شرط الاضطراب أن تتساوى وجوهه فأما إذا رجح بعضها فلا، ويتعين الأخذ بالراجح، وهو هنا كذلك لأن جل الرواة عن الزهري ذكروه عن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم على تقرير قاعدة شرعية في النصاب وخالفهم ابن عيينة تارة ووافقهم تارة فالأخذ بروايته الموافقة للجماعة أولى، وعلى تقدير أن يكون ابن عيينة اضطرب فيه فلا يقدح ذلك في رواية من ضبطه، وأما نقل الطحاوي عن المحدثين أنهم يقدمون ابن عيينة في الزهري على يونس فليس متفقا عليه عندهم بل أكثرهم على العكس، وممن جزم بتقديم يونس على سفيان في الزهري يحيى بن معين وأحمد بن صالح المصري وذكر أن يونس صحب الزهري أربع عشرة سنة وكان يزامله في السفر وينزل عليه الزهري إذا قدم أيلة وكان يذكر أنه كان يسمع الحديث الواحد من

(12/102)


الزهري مرارا، وأما ابن عيينة فإنما سمع منه سنة ثلاث وعشرين ومائة ورجع الزهري فمات في التي بعدها، ولو سلم أن ابن عيينة أرجح في الزهري من يونس فلا معارضة بين روايتيهما فتكون عائشة أخبرت بالفعل والقول معا وقد وافق الزهري في الرواية عن عمرة جماعة كما سبق، وقد وقع الطحاوي فيما عابه على من احتج بحديث الزهري مع اضطرابه على رأيه فاحتج بحديث محمد بن إسحاق عن أيوب ابن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: "قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم " أخرجه أبو داود واللفظ له وأحمد والنسائي والحاكم، ولفظ الطحاوي " كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم " وهو أشد في الاضطراب من حديث الزهري فقيل عنه هكذا وقيل عنه عن عمرو بن شعيب عن عطاء عن ابن عباس وقيل عنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه: "كانت قيمة المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم " وقيل عنه عن عمرو عن عطاء مرسلا وقيل عن عطاء عن أيمن " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته دينار " كذا قال منصور والحكم بن عتيبة عن عطاء وقيل عن منصور عن مجاهد وعطاء جميعا عن أيمن وقيل عن مجاهد عن أيمن بن أم أيمن عن أم أيمن قالت: "لم يقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن وثمنه يومئذ دينار " أخرجه النسائي، ولفظ الطحاوي " لا تقطع يد السارق إلا في حجفة وقومت يومئذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا أو عشرة دراهم " وفي لفظ له " أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن، وكان يقوم يومئذ بدينار " واختلف في لفظه أيضا على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقال حجاج ابن أرطاة عنه بلفظ: "لا قطع فيما دون عشرة دراهم " وهذه الرواية لو ثبتت لكانت نصا في تحديد النصاب إلا أن حجاج بن أرطاة ضعيف ومدلس حتى ولو ثبتت روايته لم تكن مخالفة لرواية الزهري بل يجمع بينهما بأنه كان أولا لا قطع فيما دون العشرة ثم شرع القطع في الثلاثة فما فوقها فزيد في تغليظ الحد كما زيد في تغليظ حد الخمر كما تقدم، وأما سائر الروايات فليس فيها إلا إخبار عن فعل وقع في عهده صلى الله عليه وسلم وليس فيه تحديد النصاب فلا ينافي رواية ابن عمر الآتية أنه " قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم " وهو مع كونه حكاية فعل فلا يخالف حديث عائشة من رواية الزهري فإن ربع دينار صرفه ثلاثة دراهم، وقد أخرج البيهقي من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن سليمان بن يسار عن عمرة قالت: "قيل لعائشة ما ثمن المجن؟ قالت ربع دينار " وأخرج أيضا من طريق ابن إسحاق عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: "أتيت بنبطي قد سرق فبعثت إلى عمرة فقالت: أي بني إن لم يكن بلغ ما سرق ربع دينار فلا تقطعه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثتني عائشة أنه قال: "لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا" فهذا يعارض حديث ابن إسحاق الذي اعتمده الطحاوي وهو من رواية ابن إسحاق أيضا، وجمع البيهقي بين ما اختلف في ذلك عن عائشة بأنها كانت تحدث به تارة وتارة تستفتي فتفتى، واستند إلى ما أخرجه من طريق عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة " أن جارية سرقت، فسئلت عائشة فقالت: القطع في ربع دينار فصاعدا". الطريق الثاني لحديث عائشة قوله: "حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة" هو ابن سليمان ثم قال: "حدثنا عثمان حدثنا حميد بن عبد الرحمن" وقد أخرجه مسلم عن عثمان هذا قال: "حدثنا عبدة بن سليمان وحميد بن عبد الرحمن " جمعهما وضمهما إلا غيرهما فقال: "كلهم عن هشام " وحميد بن عبد الرحمن هذا هو الرؤاسي بضم الراء ثم همزة خفيفة ثم سين مهملة، وقد أخرجه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير عنه ونسبه كذلك. قوله: "عن أبيه أخبرتني عائشة أن يد السارق لم تقطع إلخ" وقع عند الإسماعيلي من طريق هارون ابن إسحاق عن عبدة

(12/103)


ابن سليمان فيه زيادة قصة في السند ولفظه عن هشام بن عروة "أن رجلا سرق قدحا فأتى به عمر بن عبد العزيز فقال هشام بن عروة قال أبي إن اليد لا تقطع في الشيء التافه" ثم قال: "حدثتني عائشة" وهكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن عبدة بن سليمان، وهكذا رواه وكيع وغيره عن هشام لكن أرسله كله. قوله: "لم يقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن مجن حجفة أو ترس" المجن بكسر الميم وفتح الجيم مفعل من الاجتنان وهو الاستتار مما يحاذره المستتر وكسرت ميمه لأنه آلة في ذلك، والحجفة بفتح المهملة والجيم ثم فاء هي الدرقة وقد تكون من خشب أو عظم وتغلف بالجلد أو غيره، والترس مثله لكن يطارق فيه بين جلدين وقيل هما بمعنى واحد، وعلى الأول " أو " في الخبر للشك وهو المعتمد ويؤيده رواية عبد الله بن المبارك عن هشام التي تلي رواية حميد بن عبد الرحمن بلفظ: "في أدنى ثمن حجفة أو ترس كل واحد منهما ذو ثمن " والتنوين في قوله: "ثمن " للتكثير والمراد أنه ثمن يرغب فيه، فأخرج الشيء التافه كما فهمه عروة راوي الخبر وليس المراد ترسا بعينه ولا حجفة بعينها وإنما المراد الجنس وأن القطع كان يقع في كل شيء يبلغ قدر ثمن المجن سواء كان ثمن المجن كثيرا أو قليلا، والاعتماد إنما هو على الأقل فيكون نصابا ولا يقطع فيما دونه، ورواية أبي أسامة عن هشام جامعة بين الروايتين المذكورتين أولا، وقوله فيها "كان كل واحد منهما ذا ثمن" كذا ثبت في الأصول، وأفاد الكرماني أنه وقع في بعض النسخ "وكان كل واحد منهما ذو ثمن" بالرفع وخرجه على تقدير ضمير الشأن في كان. قوله: "رواه وكيع وابن إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا" أما رواية وكيع فأخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه عنه ولفظه عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "كان السارق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقطع في ثمن المجن وكان المجن يومئذ له ثمن ولم يكن يقطع في الشيء التافه " وأما رواية ابن إدريس وهو عبد الله الأودي الكوفي فأخرجها الدار قطني في " العلل " والبيهقي من طريق يوسف بن موسى عن جرير وعبد الله بن إدريس ووكيع ثلاثتهم عن هشام عن أبيه " أن يد السارق لم تقطع " فذكر مثل سياق أبي أسامة سواء وزاد: "ولم يكن يقطع في الشيء التافه " وقرأت بخط مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن أن رواية ابن إدريس عند عبد الرزاق عنه فيما ذكره الطبراني في " الأوسط " كذا قال الإسماعيلي، ووصله أيضا عن هشام عمر بن علي المقدمي وعثمان الغطفاني وعبد الله بن قبيصة الفزاري، وأرسله أيضا عبد الرحيم بن سليمان وحاتم بن إسماعيل وجرير. قلت: وقد ذكرت رواية جرير، وأما عبد الرحيم فاختلف عليه فقيل عنه مرسلا ووصله عنه أبو بكر بن أبي شيبة أخرجه مسلم. "تنبيه": لم تختلف الرواة عن هشام بن عروة عن أبيه في هذا المتن، وأما الزهري فاختلف عليه في سنده ولم يختلف عليه في المتن أيضا كما تقدم وهو حافظ فيحتمل أن يكون عروة حدثه به على الوجهين كما تقدم، ويحتمل أن يكون لفظ عروة هو الذي حفظه هشام عنه، وحمل يونس حديث عروة على حديث عمرة فساقه على لفظ عمرة وهذا يقع لهم كثيرا، ويشهد للأول أن النسائي أخرجه من طريق حفص بن حسان عن يونس عن الزهري عن عروة وحده عن عائشة بلفظ رواية ابن عيينة، ورواه أيضا من رواية القاسم بن مبرور عن يونس بهذا السند لكن لفظ المتن "أو نصف دينار فصاعدا" وهي رواية شاذة. الحديث الثاني حديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم" أورده من حديث مالك، قال ابن حزم لم يروه عن ابن عمر إلا نافع، وقال ابن عبد البر هو أصح حديث روي في ذلك. قوله: "تابعه محمد بن إسحاق" يعني عن نافع أي في قوله: "ثمنه" وروايته موصولة عند الإسماعيلي من

(12/104)


طريق عبد الله بن المبارك عن مالك ومحمد بن إسحاق وعبيد الله بن عمر ثلاثتهم عن نافع "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم " وقد أخرجه المؤلف رحمه الله من رواية جويرية وهو ابن أسماء مثل هذا السياق سواء، ومن رواية عبيد الله وهو ابن عمر أي العمري مثله، ومن رواية موسى بن عقبة عن نافع بلفظ: "قطع النبي صلى الله عليه وسلم يد سارق" مثله. قوله: "وقال الليث حدثني نافع قيمته" يعني أن الليث رواه عن نافع كالجماعة لكن قال: "قيمته" بدل قولهم "ثمنه" ورواية الليث وصلها مسلم عن قتيبة ومحمد بن رمح عن الليث عن نافع عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم " وأخرجه مسلم أيضا من رواية سفيان الثوري عن أبي أيوب السختياني وأيوب بن موسى وإسماعيل بن أمية، ومن رواية ابن وهب عن حنظلة بن أبي سفيان ومالك وأسامة بن زيد كلهم عن نافع، قال بعضهم ثمنه وقال بعضهم قيمته، هذا لفظ مسلم ولم يميز، وقد أخرجه أبو داود من رواية ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن نافع ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل سرق ترسا من صيغة النساء ثمنه ثلاثة دراهم " وأخرجه النسائي من رواية ابن وهب عن حنظلة وحده بلفظ: "ثمنه" ومن طريق مخلد بن يزيد عن حنظلة بلفظ: "قيمته" فوافق الليث في قوله: "قيمته " لكن خالف الجميع فقال: "خمسة دراهم" وقول الجماعة "ثلاثة دراهم" هو المحفوظ، وقد أخرجه الطحاوي من طريق عبيد الله بن عمر بلفظ: "قطع في مجن قيمته " ومن رواية أيوب ومن رواية مالك قال مثله، ومن رواية ابن إسحاق بلفظ: "أتى برجل سرق حجفة قيمتها ثلاثة دراهم فقطعه". "تنبيه": قوله: "قطع" معناه أمر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يباشر القطع بنفسه " وقد تقدم في الباب قبله أن بلالا هو الذي باشر قطع يد المخزومية، فيحتمل أن يكون هو الذي كان موكلا بذلك ويحتمل غيره وقوله: "قيمته " قيمة الشيء ما تنتهي إليه الرغبة فيه، وأصله قومة فأبدلت الواو ياء لوقوعها بعد كسرة، والثمن ما يقابل به المبيع عند البيع، والذي يظهر أن المراد هنا، القيمة وأن من رواه بلفظ الثمن إما تجوزا وإما أن القيمة والثمن كانا حينئذ مستويين، قال ابن دقيق العيد: القيمة والثمن قد يختلفان والمعتبر إنما هو القيمة، ولعل التعبير بالثمن لكونه صادف القيمة في ذلك الوقت في ظن الراوي أو باعتبار الغلبة. وقد تمسك مالك بحديث ابن عمر في اعتبار النصاب بالفضة، وأجاب الشافعية وسائر من خالفه بأنه ليس في طرقه أنه لا يقطع في أقل من ذلك، وأورد الطحاوي حديث سعد الذي أخرجه ابن مالك أيضا وسنده ضعيف ولفظه: "لا يقطع السارق إلا في المجن" قال فعلمنا أنه لا يقطع في أقل من ثمن المجن، ولكن اختلف في ثمن المجن، ثم ساق حديث ابن عباس قال: "كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم " قال فالاحتياط أن لا يقطع إلا فيما اجتمعت فيه هذه الآثار وهو عشرة، ولا يقطع فيما دونها لوجود الاختلاف فيه وتعقب بأنه لو سلم في الدراهم لم يسلم في النص الصريح في ربع دينار كما تقدم إيضاحه، ودفع ما أعله به. والجمع بين ما اختلفت الروايات في ثمن المجن ممكن بالحمل على اختلاف الثمن والقيمة أو على تعدد المجان التي قطع فيها وهو أولى. وقال ابن دقيق العيد: الاستدلال بقوله: "قطع في مجن" على اعتبار النصاب ضعيف لأنه حكاية فعل ولا يلزم من القطع في هذا المقدار عدم القطع فيما دونه بخلاف قوله: "يقطع في ربع دينار فصاعدا" فإنه بمنطوقه يدل على أنه يقطع فيما إذا بلغه وكذا فيما زاد عليه، وبمفهومه على أنه لا قطع فيما دون ذلك، قال: واعتماد الشافعي على حديث عائشة وهو قول أقوى في الاستدلال من الفعل المجرد، وهو قوي في الدلالة على الحنفية لأنه صريح في

(12/105)


القطع في دون القدر الذي يقولون بجواز القطع فيه، ويدل على القطع فيما يقولون به بطريق الفحوى، وأما دلالته على عدم القطع في دون ربع دينار فليس هو من حيث منطوقه بل من حيث مفهومه فلا يكون حجة على من لا يقول بالمفهوم. قلت: وقرر الباجي طريق الأخذ بالمفهوم هنا فقال: دل التقويم على أن القطع يتعلق بقدر معلوم وإلا فلا يكون لذكره فائدة، وحينئذ فالمعتمد ما ورد به النص صريحا مرفوعا في اعتبار ربع دينار، وقد خالف من المالكية في ذلك من القدماء ابن عبد الحكم وممن بعدهم ابن العربي فقال: ذهب سفيان الثوري مع جلالته في الحديث إلى أن القطع لا يكون إلا في عشرة دراهم، وحجته أن اليد محترمة بالإجماع فلا تستباح إلا بما أجمع عليه والعشرة متفق على القطع فيها عند الجميع فيتمسك به ما لم يقع الاتفاق على ما دون ذلك، وتعقب بأن الآية دلت على القطع في كل قليل وكثير، وإذا اختلفت الروايات في النصاب أخذ بأصح ما ورد في الأقل، ولم يصح أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم، فكان اعتبار ربع دينار أقوى من وجهين: أحدهما أنه صريح في الحصر حيث ورد بلفظ: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا " وسائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية فعل لا عموم فيها، والثاني أن المعول عليه في القيمة الذهب لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها، ويؤيده ما نقل الخطابي استدلالا على أن أصل النقد في ذلك الزمان الدنانير بأن الصكاك القديمة كان يكتب فيها عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل فعرفت الدراهم بالدنانير وحصرت بها والله أعلم. وحاصل المذاهب في القدر الذي يقطع السارق فيه يقرب من عشرين مذهبا: الأول يقطع في كل قليل وكثير تافها كان أو غير تافه نقل عن أهل الظاهر والخوارج ونقل عن الحسن البصري وبه قال أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي. ومقابل هذا القول في الشذوذ ما نقله عياض ومن تبعه عن إبراهيم النخعي أن القطع لا يجب إلا في أربعين درهما أو أربعة دنانير وهذا هو القول الثاني. الثالث مثل الأول إلا إن كان المسروق شيئا تافها لحديث عروة الماضي " لم يكن القطع في شيء من التافه " ولأن عثمان قطع في فخارة خسيسة وقال لمن يسرق السياط لئن عدتم لأقطعن فيه، وقطع ابن الزبير في نعلين أخرجهما ابن أبي شيبة وعن عمر بن عبد العزيز أنه قطع في مد أو مدين. الرابع تقطع في درهم فصاعدا وهو قول عثمان ألبتي بفتح الموحدة وتشديد المثناة من فقهاء البصرة وربيعة من فقهاء المدينة ونسبه القرطبي إلى عثمان فأطلق ظنا منه أنه الخليفة وليس كذلك الخامس في درهمين وهو قول الحسن البصري جزم به ابن المنذر عنه. السادس فيما زاد على درهمين ولو لم يبلغ الثلاثة أخرجه ابن أبي شيبة بسند قوي عن أنس " أن أبا بكر قطع في شيء ما يساوي درهمين " وفي لفظ: "لا يساوي ثلاثة دراهم". السابع في ثلاثة دراهم ويقوم ما عداها بها ولو كان ذهبا، وهي رواية عن أحمد، وحكاه الخطابي عن مالك. الثامن مثله لكن إن كان المسروق ذهبا فنصابه ربع دينار وإن كان غيرهما فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطع به وإن لم تبلغ لم يقطع ولو كان نصف دينار، وهذا قول مالك المعروف عند أتباعه، وهي رواية عن أحمد، واحتج له بما أخرجه أحمد من طريق محمد ابن راشد عن يحيى بن يحيى الغساني عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة مرفوعا: "اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا في أدنى من ذلك " قالت: وكان ربع الدينار قيمته يومئذ ثلاثة دراهم، والمرفوع من هذه الرواية نص في أن المعتمد والمعتبر في ذلك الذهب، والموقوف منه يقتضي أن الذهب يقوم بالفضة، وهذا يمكن تأويله فلا يرتفع به النص الصريح، التاسع مثله إلا إن كان المسروق غيرهما قطع به إذا بلغت قيمته أحدهما، وهو المشهور عن أحمد ورواية عن إسحاق. العاشر مثله

(12/106)


لكن لا يكتفى بأحدهما إلا إذا كانا غالبين فإن كان أحدهما غالبا فهو المعول عليه، وهو قول جماعة من المالكية وهو الحادي عشر. الثاني عشر ربع دينار أو ما يبلغ قيمته من فضة أو عرض، وهو مذهب الشافعي وقد تقدم تقريره، وهو قول عائشة وعمرة وأبي بكر بن حزم وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث ورواية عن إسحاق وعن داود، ونقله الخطابي وغيره عن عمر وعثمان وعلي، وقد أخرجه ابن المنذر عن عمر بسند منقطع أنه قال: "إذا أخذ السارق ربع دينار قطع " ومن طريق عمرة " أتى عثمان بسارق سرق أترجة قومت بثلاثة دراهم من حساب الدينار باثني عشر فقطع " ومن طريق جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا قطع في ربع دينار كانت قيمته درهمين ونصفا. الثالث عشر أربعة دراهم نقله عياض عن بعض الصحابة ونقله ابن المنذر عن أبي هريرة وأبي سعيد. الرابع عشر ثلث دينار حكاه ابن المنذر عن أبي جعفر الباقر، الخامس عشر خمسة دراهم وهو قول ابن شبرمة وابن أبي ليلى من فقهاء الكوفة ونقل عن الحسن البصري وعن سليمان بن يسار أخرجه النسائي جاء عن عمر بن الخطاب لا تقطع الخمس إلا في خمس أخرجه ابن المنذر من طريق منصور عن مجاهد عن سعيد بن المسيب عنه وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة وأبي سعيد مثله ونقله أبو زيد الدبوسي عن مالك وشذ بذلك. السادس عشر عشرة دراهم أو ما بلغ قيمتها من ذهب أو عرض، وهو قول أبي حنيفة والثوري وأصحابهما. السابع عشر دينار أو ما بلغ قيمته من فضة أو عرض. حكاه ابن حزم عن طائفة، وجزم ابن المنذر بأنه قول النخعي. الثامن عشر دينار أو عشرة دراهم أو ما يساوي أحدهما حكاه ابن حزم أيضا، وأخرجه ابن المنذر عن علي بسند ضعيف وعن ابن مسعود بسند منقطع قال وبه قال عطاء. التاسع عشر ربع دينار فصاعدا من الذهب على ما دل عليه حديث عائشة ويقطع في القليل والكثير من الفضة والعروض، وهو قول ابن حزم، ونقل ابن عبد البر نحوه عن داود واحتج بأن التحديد في الذهب ثبت صريحا في حديث عائشة ولم يثبت التحديد صريحا في غيره فبقى عموم الآية على حاله فيقطع فيما قل أو كثر إلا إذا كان الشيء تافها، وهو موافق للشافعي إلا في قياس أحد النقدين على الآخر وقد أيده الشافعي بأن الصرف يومئذ كان موافقا لذلك، واستدل بأن الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الفضة اثنا عشر ألف درهم، وتقدم في قصة الأترجة قريبا ما يؤيده، ويخرج من تفصيل جماعة من المالكية أن التقويم يكون بغالب نقد البلد إن ذهبا فبالذهب وإن فضة فبالفضة تمام العشرين مذهبا وقد ثبت في حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم، وثبت لا قطع في أقل من ثمن المجن وأقل ما ورد في ثمن المجن ثلاثة دراهم وهي موافقة للنص الصريح في القطع في ربع دينار وإنما ترك القول بأن الثلاثة دراهم نصاب يقطع فيه مطلقا لأن قيمة الفضة بالذهب تختلف فبقي الاعتبار بالذهب كما تقدم والله أعلم، واستدل به على وجوب قطع السارق ولو لم يسرق من حرز، وهو قول الظاهرية أبي عبيد الله البصري من المعتزلة، وخالفهم الجمهور فقالوا: العام إذا خص منه شيء بدليل بقي ما عداه على عمومه، وحجته سواء كان لفظه ينبئ عما ثبت في ذلك الحكم بعد التخصيص أم لا لأنه آية السرقة عامة في كل من سرق فخص الجمهور منها من سرق من غير حرز فقالوا لا يقطع، وليس في الآية ما ينبئ عن اشتراط الحرز وطرد البصري أصله في الاشتراط المذكور فلم يشترط الحرز ليستمر الاحتجاج بالآية، نعم وزعم ابن بطال أن شرط الحرز مأخوذ من معنى السرقة فإن صح ما قال سقطت حجة البصري أصلا، واستدل به على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن آية السرقة نزلت في سارق رداء صفوان أو سارق المجن وعمل بها الصحابة في غيرهما من السارقين، واستدل

(12/107)


بإطلاق ربع دينار على أن القطع يجب بما صدق عليه ذلك من الذهب سواء كان مضروبا أو غير مضروب جيدا كان أو رديئا، وقد اختلف فيه الترجيح عند الشافعية ونص الشافعي في الزكاة على ذلك وأطلق في السرقة فجزم الشيخ أبو حامد وأتباعه بالتعميم هنا، وقال الإصطخري لا يقع إلا في المضروب ورجحه الرافعي، وقيد الشيخ أبو حامد النقل عن الأصطخري بالقدر الذي ينقص بالطبع، واستدل بالقطع في المجن على مشروعية القطع في كل ما يتمول قياسا واستثنى الحنفية ما يسرع إليه الفساد وما أصله الإباحة كالحجارة واللبن والخشب والملح والتراب والكلأ والطير، وفيه رواية عن الحنابلة، والراجح عندهم في مثل السرجين القطع تفريعا على جواز بيعه، وفي هذا تفاريع أخرى محل بسطها كتب الفقه وبالله التوفيق. الحديث الثالث حديث أبي هريرة في لعن السارق يسرق البيضة فيقطع ختم به الباب إشارة إلى أن طريق الجمع بين الأخبار أن يجعل حديث عمرة عن عائشة أصلا فيقطع في ربع دينار فصاعدا وكذا فيما بلغت قيمته ذلك، فكأنه قال المراد بالبيضة ما يبلغ قيمتها ربع دينار فصاعدا وكذا الحبل، ففيه إيماء إلى ترجيح ما سبق من التأويل الذي نقله الأعمش، وقد تقدم البحث فيه.

(12/108)


14- باب: تَوْبَةِ السَّارِقِ
6800- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ "عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ" ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "فَتَابَتْ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا"
6801- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ "عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ فَقَالَ: أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: "إِذَا تَابَ السَّارِقُ بَعْدَ مَا قُطِعَ يَدُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَكُلُّ مَحْدُودٍ كَذَلِكَ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ"
قوله: "باب توبة السارق" أي هل تفيده في رفع اسم الفسق عنه حتى تقبل شهادته أو لا؟ وقد وقع في آخر هذا الباب: قال أبو عبد الله إذا تاب السارق وقطعت يده قبلت شهادته، وكذلك كل الحدود إذا تاب أصحابها قبلت شهادتهم، وهو في رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده، وأبو عبد الله هو البخاري المصنف، وقد تقدمت هذه المسألة في الشهادات فيما يتعلق بالقاذف والسارق في شهادتهما. ونقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: يحتمل أن يسقط كل حق لله بالتوبة، قال وجزم به في كتاب الحدود، وروى الربيع عنه أن حد الزنا لا يسقط، وعن الليث والحسن لا يسقط شيء من الحدود أبدا، قال وهو قول مالك، وعن الحنفية يسقط إلا الشرب. وقال

(12/108)


الطحاوي ولا يسقط إلا قطع الطريق لورود النص فيه والله أعلم. وذكر في الباب حديث عائشة في قصة التي سرقت مختصرا، ووقع في آخره: "وتابت وحسنت توبتها" وقد تقدم شرحه مستوفى قبيل هذا، ووجه مناسبته للترجمة وصف التوبة بالحسن فإن ذلك يقتضي أن هذا الوصف يثبت للتائب المذكور فيعود لحالته التي كان عليها. وحديث عبادة بن الصامت في البيعة وفيه ذكر السرقة وفي آخره: "فمن أصاب من ذلك شيئا فأخذ به في الدنيا فهو كفارة له وطهور" ووجه الدلالة منه أن الذي أقيم عليه الحد وصف بالتطهر فإذا انضم إلى ذلك أنه تاب فإنه يعود إلى ما كان عليه قبل ذلك فتضمن ذلك قبول شهادته أيضا. والله أعلم.

(12/109)


باب المحاربين من أهل الكفر و الردة
...
15- باب: الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}
6802- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو قِلاَبَةَ الْجَرْمِيُّ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ فَأَسْلَمُوا، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا فَصَحُّوا، فَارْتَدُّوا، وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا وَاسْتَاقُوا الإِبِلَ. فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا"
قوله: "كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة" كذا هذه الترجمة ثبتت للجميع هنا، وفي كونها في هذا الموضع إشكال، وأظنها مما انقلب على الذين نسخوا كتاب البخاري من المسودة، والذي يظهر لي أن محلها بين كتاب الديات وبين استتابة المرتدين، وذلك أنها تخللت بين أبواب الحدود. فإن المصنف ترجم "كتاب الحدود وصدره بحديث: "لا يزني الزاني وهو مؤمن" وفيه ذكر السرقة وشرب الخمر، ثم بدأ بما يتعلق بحد الخمر في أبواب ثم بالسرقة كذلك، فالذي يليق أن يثلث بأبواب الزنا على وفق ما جاء في الحديث الذي صدر به ثم بعد ذلك إما أن يقدم كتاب المحاربين وإما أن يؤخره، والأولى أن يؤخره ليعقبه " باب استتابة المرتدين " فإنه يليق أن يكون من جملة أبوابه، ولم أر من نبه على ذلك إلا الكرماني فإنه تعرض لشيء من ذلك في "باب إثم الزناة" ولم يستوفه كما سأنبه عليه. ووقع في رواية النسفي زيادة قد يرتفع بها الإشكال، وذلك أنه قال بعد قوله: "من أهل الكفر والردة" فزاد: "ومن يجب عليه الحد في الزنا " فإن كان محفوظا فكأنه ضم حد الزنا إلى المحاربين لإفضائه إلى القتل في بعض صوره بخلاف الشرب والسرقة، وعلى هذا فالأولى أن يبدل لفظ كتاب بباب وتكون الأبواب كلها داخلة في كتاب الحدود. قوله: وقول الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة وغيرها إلى {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} قال ابن بطال: ذهب البخاري إلى أن آية المحاربة نزلت في أهل الكفر والردة، وساق حديث العرنيين وليس فيه تصريح بذلك، ولكن أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة حديث العرنيين وفي آخره قال: "بلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية"، ووقع مثله في حديث أبي هريرة، وممن قال ذلك الحسن وعطاء والضحاك والزهري قال: وذهب

(12/109)


جمهور الفقهاء إلى أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطريق، وهو قول مالك والشافعي والكوفيين، ثم قال: ليس هذا منافيا للقول الأول لأنها وإن نزلت في العرنيين بأعيانهم لكن لفظها عام يدخل في معناه كل من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد. قلت: بل هما متغايران، والمرجع إلى تفسير المراد بالمحاربة: فمن حملها على الكفر خص الآية بأهل الكفر ومن حملها على المعصية عمم، ثم نقل ابن بطال عن إسماعيل القاضي أن ظاهر القرآن وما مضى عليه عمل المسلمين يدل على أن الحدود المذكورة في هذه الآية نزلت في المسلمين، وأما الكفار فقد نزل فيهم {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إلى آخر الآية فكان حكمهم خارجا عن ذلك. وقال تعالى في آية المحاربة {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وهي دالة على أن من تاب من المحاربين يسقط عنه الطلب بما ذكر بما جناه فيها، ولو كانت الآية في الكافر لنفعته المحاربة، ولكان إذا أحدث الحرابة مع كفره اكتفينا بما ذكر في الآية وسلم من القتل فتكون الحرابة خففت عنه القتل، وأجيب عن هذا الإشكال بأنه لا يلزم من إقامة هذه الحدود على المحارب المرتد مثلا أن تسقط عنه المطالبة بالعود إلى الإسلام أو القتل، وقد تقدم في تفسير المائدة ما نقله المصنف عن سعيد بن جبير أن معنى المحاربة لله الكفر به وأخرج الطبري من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس في آخر قصة العرنيين قال: فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . وأخرج نحوه من وجه آخر عن أنس وأخرج الإسماعيلي هناك من طريق مروان بن معاوية عن معاوية بن أبي العباس عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال هم من عكل. قلت: قد ثبت في الصحيحين أنهم كانوا من عكل وعرينة، فقد وجد التصريح الذي نفاه ابن بطال، والمعتمد أن الآية نزلت أولا فيهم وهي تتناول بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطريق، لكن عقوبة الفريقين مختلفة: فإن كانوا كفارا يخير الإمام فيهم إذا ظفر بهم، وإن كانوا مسلمين فعلى قولين: أحدهما وهو قول الشافعي والكوفيين ينظر في الجناية فمن قتل قتل ومن أخذ المال قطع ومن لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي، وجعلوا "أو" للتنويع. وقال مالك: بل هي للتخيير فيتخير الإمام في المحارب المسلم بين الأمور الثلاثة، ورجح الطبري الأول، واختلفوا في المراد بالنفي في الآية: فقال مالك والشافعي يخرج من بلد الجناية إلى بلدة أخرى، زاد مالك فيحبس فيها. وعن أبي حنيفة بل يحبس في بلده، وتعقب بأن الاستمرار في البلد ولو كان مع الحبس إقامة فهو ضد النفي فإن حقيقة النفي الإخراج من البلد، وقد قرنت مفارقة الوطن بالقتل قال تعالى :{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} وحجة أبي حنيفة أنه لا يؤمن منه استمرار المحاربة في البلدة الأخرى، فانفصل عنه مالك بأنه يحبس بها، وقال الشافعي: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلانا وذلا. ثم ذكر المصنف حديث أنس في قصة العرنيين، أورده من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة مصرحا فيه بالتحديث في جميعه فأمن فيه من التدليس والتسوية، وقد تقدم شرحه في "باب أبوال الإبل" من كتاب الطهارة. ووقع في هذا الموضع "ففعلوا فصحوا فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل".

(12/110)


باب لم يحسم النبي صلى الله عليه و سلم المحاربين من أهل الردة حتى هلكوا
...
16- باب لَمْ يَحْسِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ حَتَّى هَلَكُوا
6803- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ "عَنْ

(12/110)


أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قَطَعَ الْعُرَنِيِّينَ وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا"
قوله: "باب لم يحسم النبي صلى الله عليه وسلم المحاربين إلخ" الحسم بفتح الحاء وسكون السين المهملتين الكي بالنار لقطع الدم حسمته فانحسم كقطعته فانقطع وحسمت العرق معناه حبست دم العرق فمنعته أن يسيل. وقال الداودي: الحسم هنا أن توضع اليد بعد القطع في زيت حار. قلت: وهذا من صور الحسم وليس محصورا فيه، وأورد فيه طرفا من قصة العرنيين مقتصرا على قوله: "قطع العرنيين ولم يحسمهم" قال ابن بطال: إنما ترك حسمهم لأنه أراد إهلاكهم فأما من قطع في سرقة مثلا فإنه يجب حسمه لأنه لا يؤمن معه التلف غالبا بنزف الدم.

(12/111)


17- باب: لَمْ يُسْقَ الْمُرْتَدُّونَ الْمُحَارِبُونَ حَتَّى مَاتُوا
6804- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ وُهَيْبٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي الصُّفَّةِ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْغِنَا رِسْلًا، فَقَالَ: "مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِإِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَوْهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّرِيخُ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا" قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: "سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ"
قوله: "باب لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا" كذا لهم بضم أوله على البناء للمجهول، ولو كان بفتحه لنصب المحاربون وكان راجعا إلى فاعل يحسم في الباب الذي قبله. وأورد فيه قصة العرنيين من وجه آخر عن أبي قلابة عن أنس تاما. قوله: "حتى صحوا وسمنوا وقتلوا الراعي" في رواية الكشميهني: "فقتلوا الراعي " بالفاء وهي أوجه، وحكى ابن بطال عن المهلب أن الحكمة في ترك سقيهم كفرهم نعمة السقي التي أنعشتهم من المرض الذي كان بهم، قال: وفيه وجه آخر يؤخذ مما أخرجه ابن وهب من مرسل سعيد بن المسيب " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما بلغه ما صنعوا: عطش الله من عطش آل محمد الليلة " قال فكان ترك سقيهم إجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا لا ينافي أنه عاقبهم بذلك كما ثبت أنه سملهم لكونهم سملوا أعين الرعاة، وإنما تركهم حتى ماتوا لأنه أراد إهلاكهم كما مضى في الحسم. وأبعد من قال إن تركهم بلا سقي لم يكن بعلم النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله في هذه الطريق "قالوا أبغنا" بهمزة قطع ثم موحدة ثم معجمة أي اطلب لنا يقال أبغاه كذا طلبه له، وقوله: "رسلا " بكسر الراء وسكون المهملة أي لبنا، وقوله: "ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه تجريد وسياق الكلام يقتضي أن يقول بإبلي ولكنه كقول كبير القوم يقول لكم الأمير مثلا، ومنه قول الخليفة يقول لكم أمير المؤمنين، وتقدم في غير هذه الطريق وهو في الباب الأول أيضا بلفظ: "فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة" فجمع بعضهم بين الروايتين بأنه صلى الله عليه وسلم كانت له إبل ترعى وإبل الصدقة في جهة واحدة فدل كل من الصنفين على الصنف الآخر، وقيل بل الكل إبل الصدقة وإضافتها إليه إضافة التبعية لكونه تحت حكمه، ويؤيد الأول ما ذكر قريبا من تعطيش آل محمد لأنهم كانوا لا يتناولون الصدقة.

(12/111)


باب سمر النبي صلى الله عليه و سلم أعين المحاربين
...
18- باب: سَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ الْمُحَارِبِينَ
6805- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ - أَوْ قَالَ عُرَيْنَةَ وَلاَ أَعْلَمُهُ، إِلاَّ قَالَ مِنْ عُكْلٍ - قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا. فَشَرِبُوا، حَتَّى إِذَا بَرِئُوا قَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُدْوَةً، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي إِثْرِهِمْ، فَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ حَتَّى جِيءَ بِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، فَأُلْقُوا بِالْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ"
قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: هَؤُلاَءِ قَوْمٌ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
قوله: "باب" بالتنوين "سمر النبي صلى الله عليه وسلم" بفتح السين المهملة والميم بالفعل الماضي ويجوز مضافا بغير تنوين مع سكون الميم، وأورد فيه حديث العرنيين من وجه آخر عن أيوب، وقوله فيه: "حتى جيء بهم " في رواية الكشميهني: "أتى بهم " وقوله: "وسمر أعينهم " وقع في رواية الأوزاعي في أول المحاربين " وسمل " باللام وهما بمعنى، قال ابن التين وغيره: وفيه نظر، قال عياض سمر العين بالتخفيف كحلها بالمسمار المحمي فيطابق السمل فإنه فسر بأن يدني من العين حديدة محماة حتى يذهب نظرها فيطابق الأول بأن تكون الحديدة مسمارا، قال وضبطناه بالتشديد في بعض النسخ والأول أوجه، وفسروا السمل أيضا بأنه فقء العين بالشوك وليس هو المراد هنا. "تنبيه" أشكل قوله في آية المحاربين {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} مع حديث عبادة الدال على أن من أقيم عليه الحد في الدنيا كان له كفارة فإن ظاهر الآية أن المحارب يجمع له الأمران، والجواب أن حديث عبادة مخصوص بالمسلمين بدليل أن فيه ذكر الشرك مع ما انضم إليه من المعاصي، فلما حصل الإجماع على أن الكافر إذا قتل على شركه فمات مشركا أن ذلك القتل لا يكون كفارة له قام إجماع أهل السنة على أن من أقيم عليه الحد من أهل المعاصي كان ذلك كفارة لإثم معصيته، والذي يضبط ذلك قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} والله أعلم.

(12/112)


19- باب: فَضْلِ مَنْ تَرَكَ الْفَوَاحِشَ
6809- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلاَءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا قَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ"

(12/112)


6807- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ ح وحَدَّثَنِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَكَّلَ لِي مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ"
قوله: "باب فضل من ترك الفواحش" جمع فاحشة وهي كل ما اشتد قبحه من الذنوب فعلا أو قولا، وكذا الفحشاء والفحش ومنه الكلام الفاحش، ويطلق غالبا على الزنا فاحشة ومنه قوله تعالى:{ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وأطلقت على اللواط باللام العهدية في قول لوط عليه السلام لقومه {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} ومن ثم كان حده حد الزاني عند الأكثر، وزعم الحليمي أن الفاحشة أشد من الكبيرة وفيه نظر. ثم ذكر فيه حديثين أحدهما حديث أبي هريرة في السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله، والمقصود منه قوله فيه: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال إني أخاف الله تعالى" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الزكاة، ويلتحق بهذه الخصلة من وقع له نحوها كالذي دعا شابا جميلا لأن يزوجه ابنة له جميلة كثيرة الجهاز جدا لينال منه الفاحشة فعفا الشاب عن ذلك وترك المال والجمال، وقد شاهدت ذلك. وقوله في أول السند "حدثنا محمد" غير منسوب فقال أبو علي الغساني وقع في رواية الأصيلي محمد بن مقاتل. وفي رواية القابسي محمد بن سلام، والأول هو الصواب لأن عبد الله هو ابن المبارك وابن مقاتل معروف بالرواية عنه. قلت: ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هذا الحديث الخاص عند ابن سلام، والذي أشار إليه الغساني قاعدة في تفسير من أبهم واستمر إبهامه فيكون كثرة أخذه وملازمته قرينة في تعيينه، أما إذا أورد التنصيص عليه فلا. وقد صرح أيضا بأنه محمد بن سلام أبو ذر في روايته عن شيوخه الثلاثة وكذا هو في بعض النسخ من رواية كريمة وأبى الوقت. الحديث الثاني قوله: "عمر بن علي" هو المقدمي نسبة إلى جده مقدم بوزن محمد وهو عم محمد بن أبي بكر الراوي عنه، وهو موصوف بالتدليس لكنه صرح بالتحديث في هذه الرواية، وقد أورده في الرقاق عن محمد بن أبي بكر وحده وقرنه هنا بخليفة وساقه على لفظ خليفة. قوله: "من توكل لي" أي تكفل، وقد ذكرت في الرقاق من رواه بلفظ تكفل وبلفظ حفظ وهو هناك بلفظ تضمن، وأصل التوكل الاعتماد على الشيء والوثوق به، وقوله: "توكلت له " من باب المقابلة، وقوله: "ما بين رجليه " أي فرجه " ولحيته " بفتح اللام وهو منبت اللحية والأسنان ويجوز كسر اللام، وثني لأن له أعلى وأسفل والمراد به اللسان وقيل النطق، وقد ترجم له في الرقاق "حفظ اللسان" وتقدم شرحه مستوفى هناك. وقوله في آخره: "له بالجنة" كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي بحذف الباء، ويقرأ بالنصب على نزع الخافض، أو كأنه ضمن توكلت معنى ضمنت.

(12/113)


20- باب: إِثْمِ الزُّنَاةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَزْنُونَ - وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}
6808- حدثنا دَاوُدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ "أَخْبَرَنَا أَنَسٌ قَالَ: لاَحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لاَ يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ"
"وَإِمَّا قَالَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَة"ِ - أَنْ

(12/113)


"يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِلْخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ"
6809- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزْنِي الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ يُنْزَعُ الإِيمَانُ مِنْهُ؟ قَالَ هَكَذَا - وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا - فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا - وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ"
6810- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ ذَكْوَانَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ"
6811- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ". قَالَ يَحْيَى: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي وَاصِلٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِثْلَهُ. قَالَ عَمْرٌو: فَذَكَرْتُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ حَدَّثَنَا عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ وَوَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، قَالَ: دَعْهُ دَعْهُ
قوله: "باب إثم الزناة" بضم أوله جمع زان كرماة ورام. قوله: وقول الله تعالى {وَلا يَزْنُونَ} يشير إلى الآية التي في الفرقان وأولها {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} والمراد قوله في الآية التي بعدها {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} وكأنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه وهو في آخر طريق مسدد عن يحيى القطان فقال متصلا بقوله حليلة جارك "قال فنزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ - إلى قوله - وَلا يَزْنُونَ} ووقعت في الأدب من طريق جرير عن الأعمش وساق إلى قوله: {يَلْقَ أَثَاماً} ولم يقع ذلك في رواية جرير عن منصور كما بينه مسلم، وأخرجه الترمذي من طريق شعبة والنسائي من طريق مالك بن مغول كلاهما عن واصل الأحدب وساقه إلى قوله تعالى :{وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} ووقع لغير أبي ذر بحذف الواو في قوله: "وقول الله".
قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} زاد في رواية النسفي "إلى آخر الآية" والمشهور في الزنا القصر وجاء المد في بعض اللغات. وذكر في الباب أربعة أحاديث: الحديث الأول قوله: "حدثنا" في رواية غير أبي ذر والنسفي "أخبرنا". قوله: "داود بن شبيب" بمعجمة وموحدة وزن عظيم هو الباهلي يكني أبا سليمان بصري صدوق قاله أبو حاتم، وقال البخاري: مات سنة اثنتين وعشرين قلت: ولم يخرج

(12/114)


عنه إلا في هذا الحديث هنا فقط، وقد تقدم في العلم من طريق شعبة عن قتادة بزيادة في أوله، وتقدم شرحه في كتاب العلم، والغرض منه قوله فيه: "ويظهر الزنا" أي يشيع ويشتهر بحيث لا يتكاتم به لكثرة من يتعاطاه، وقد تقدم سبب قول أنس "لا يحدثكموه أحد بعدي". الحديث الثاني حديث ابن عباس "لا يزني الزاني" قد تقدم شرحه مستوفى في شرح حديث أبي هريرة في أول الحدود وقول ابن جرير إن بعضهم رواه بصيغة النهي "لا يزنين مؤمن" وأن بعضهم حمله على المستحل، وساقه بسنده عن ابن عباس، وإسحاق بن يوسف المذكور في السند هو الواسطي المعروف بالأزرق، والفضيل بفاء ومعجمة مصغر وأبو غزوان بغين معجمة ثم زاي ساكنة بوزن شعبان. وقوله فيه: "قال عكرمة إلخ " هو موصول بالسند المذكور، وقوله: "وشبك بين أصابعه " في رواية الإسماعيلي من طريق إسماعيل بن هود الواسطي عن خالد الذي أخرجه البخاري من طريقه وقال: "هكذا فوصف صفة لا أحفظها " وقد قدمت الكلام على الصفة المذكورة هناك. قال الترمذي بعد تخريج حديث أبي هريرة: وحكاية تأويل " لا يزني الزاني وهو مؤمن " لا نعلم أحدا كفر أحدا بالزنا والسرقة والشرب يعني ممن يعتد بخلافه، قال: وقد روي عن أبي جعفر يعني الباقر أنه قال في هذا: خرج من الإيمان إلى الإسلام يعني أنه جعل الإيمان أخص من الإسلام فإذا خرج من الإيمان بقي في الإسلام وهذا يوافق قول الجمهور إن المراد بالإيمان هنا كماله لا أصله والله أعلم. الحديث الثالث حديث أبي هريرة في ذلك قد مضى الكلام عليه، وعلى قوله في آخره: "والتوبة معروضة بعد". الحديث الرابع حديث عبد الله هو ابن مسعود. قوله: "عمرو بن علي" هو الفلاس، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وسفيان هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر، وسليمان هو الأعمش، وأبو وائل هو شقيق، وأبو ميسرة هو عمرو بن شرحبيل، وواصل المذكور في السند الثاني هو ابن حيان بمهملة وتحتانية ثقيلة هو المعروف بالأحدب، ورجال السند من سفيان فصاعدا كوفيون، وقوله: "قال عمرو " هو ابن علي المذكور "فذكرته لعبد الرحمن" يعني ابن مهدي "وكان حدثنا" هكذا ذكره البخاري عن عمرو بن علي قدم رواية يحيى على رواية عبد الرحمن وعقبها بالفاء وقال الهيثم ابن خلف فيما أخرجه الإسماعيلي عنه عن عمرو بن علي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي فساق روايته وحذف ذكر واصل من السند ثم قال: "وقال عبد الرحمن مرة عن سفيان عن منصور والأعمش وواصل فقلت لعبد الرحمن حدثنا يحيى بن سعيد فذكره مفصلا فقال عبد الرحمن دعه والحاصل أن الثوري حدث بهذا الحديث عن ثلاثة أنفس حدثوه به عن أبي وائل فأما الأعمش ومنصور فأدخلا بين أبي وائل وبين ابن مسعود أبا ميسرة، وأما واصل فحذفه فضبطه يحيى القطان عن سفيان هكذا مفصلا، وأما عبد الرحمن فحدث به أولا بغير تفصيل فحمل رواية واصل على رواية منصور والأعمش فجمع الثلاثة وأدخل أبا ميسرة في السند، فلما ذكر له عمرو ابن علي أن يحيى فصله كأنه تردد فيه فاقتصر على التحديث به عن سفيان عن منصور والأعمش حسب وترك طريق واصل، وهذا معنى قوله: "فقال دعه دعه " أي اتركه والضمير للطريق التي اختلف فيها وهي رواية واصل، وقد زاد الهيثم بن خلف في روايته بعد قوله دعه " فلم يذكر فيه واصلا بعد ذلك" فعرف أن معنى قوله دعه أي اترك السند الذي ليس فيه ذكر أبي ميسرة. وقال الكرماني: حاصله أن أبا وائل وإن كان قد روى كثيرا عن عبد الله فإن هذا الحديث لم يروه عنه، قال: وليس المراد بذلك الطعن عليه لكن ظهر له ترجيح الرواية بإسقاط الواسطة لموافقة الأكثرين كذا قال، والذي يظهر

(12/115)


ما قدمته أنه تركه من أجل التردد فيه لأن ذكر أبي ميسرة إن كان في أصل رواية واصل فتحديثه به بدونه يستلزم أنه طعن فيه بالتدليس أو بقلة الضبط، وإن لم يكن في روايته في الأصل فيكون زاد في السند ما لم يسمعه فاكتفى برواية الحديث عمن لا تردد عنده فيه وسكت عن غيره، وقد كان عبد الرحمن حدث به مرة عن سفيان عن واصل وحده بزيادة أبي ميسرة، كذلك أخرجه الترمذي والنسائي لكن الترمذي بعد أن ساقه بلفظ واصل عطف عليه بالسند المذكور طريق سفيان عن الأعمش ومنصور قال بمثله وكأن ذلك كان في أول الأمر، وذكر الخطيب هذا السند مثالا لنوع من أنواع مدرج الإسناد وذكر فيه أن محمد بن كثير وافق عبد الرحمن على روايته الأولى عن سفيان فيصير الحديث عن الثلاثة بغير تفصيل. قلت: وقد أخرجه البخاري في الأدب عن محمد بن كثير لكن اقتصر في السند على منصور، وأخرجه أبو داود عن محمد بن كثير فضم الأعمش إلى منصور، وأخرجه الخطيب من طريق الطبراني عن أبي مسلم الليثي عن معاذ بن المثنى ويوسف القاضي ومن طريق أبي العباس البرقي ثلاثتهم عن محمد بن كثير عن سفيان عن الثلاثة، وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبراني وفيه ما تقدم، وذكر الخطيب الاختلاف فيه على منصور وعلى الأعمش في ذكر أبي ميسرة وحذفه ولم يختلف فيه على واصل في إسقاطه في غير رواية سفيان. قلت: وقد أخرجه الترمذي والنسائي من رواية شعبة عن واصل بحذف أبي ميسرة لكن قال الترمذي رواية منصور أصح يعني بإثبات أبي ميسرة، وذكر الدار قطني الاختلاف فيه وقال: رواه الحسن بن عبيد الله عن أبي وائل عن عبد الله كقول واصل، ونقل عن الحافظ أبي بكر النيسابوري أنه قال: يشبه أن يكون الثوري جمع بين الثلاثة لما حدث به ابن مهدي ومحمد بن كثير وفصله لما حدث به غيرهما يعني فيكون الإدارج من سفيان لا من عبد الرحمن والعلم عند الله تعالى. وقد تقدم الكلام على شيء من هذا في تفسير سورة الفرقان. قوله: "أي الذنب أعظم" ؟ هذه رواية الأكثر، ووقع في رواية عاصم عن أبي وائل عن عبد الله "أعظم الذنوب عند الله" أخرجها الحارث، وفي رواية مسدد الماضية في كتاب الأدب، أي الذنب عند الله أكبر وفي رواية أبي عبيدة بن معن عن الأعمش " أي الذنوب أكبر عند الله " وفي رواية الأعمش عند أحمد وغيره: "أي الذنب أكبر "؟ وفي رواية الحسن بن عبيد الله عن أبي وائل " أكبر الكبائر " قال ابن بطال عن المهلب: يجوز أن يكون بعض الذنوب أعظم من بعض من الذنبين المذكورين في هذا الحديث بعد الشرك، لأنه لا خلاف بين الأمة أن اللواط أعظم إثما من الزنا فكأنه صلى الله عليه وسلم إنما قصد بالأعظم هنا ما تكثر مواقعته ويظهر الاحتياج إلى بيانه في الوقت كما وقع في حق وفد عبد القيس حيث اقتصر في منهياتهم على ما يتعلق بالأشربة لفشوها في بلادهم. قلت: وفيما قاله نظر من أوجه: أحدها ما نقله من الإجماع، ولعله لا يقدر أن يأتي بنقل صحيح صريح بما ادعاه عن إمام واحد بل المنقول عن جماعة عكسه فإن الحد عند الجمهور، والراجح من الأقوال إنما ثبت فيه بالقياس على الزنا والمقيس عليه أعظم من المقيس أو مساويه، والخبر الوارد في قتل الفاعل والمفعول به أو رجمهما ضعيف. وأما ثانيا فما من مفسدة فيه إلا ويوجد مثلها في الزنا وأشد، ولو لم يكن إلا ما قيد به في الحديث المذكور فإن المفسدة فيه شديدة جدا، ولا يتأتى مثلها في الذنب الآخر، وعلى التنزل فلا يزيد. وأما ثالثا ففيه مصادمة للنص الصريح على الأعظمية من غير ضرورة إلى ذلك. وأما رابعا فالذي مثل به من قصة الأشربة ليس فيه إلا أنه اقتصر لهم على بعض المناهي، وليس فيه تصريح ولا إشارة بالحصر في الذي اقتصر عليه، والذي يظهر أن كلا من الثلاثة على

(12/116)


ترتيبها في العظم، ولو جاز أن يكون فيما لم يذكره شيء يتصف بكونه أعظم منها لما طابق الجواب السؤال، نعم يجوز أن يكون فيما لم يذكر شيء يساوي ما ذكر فيكون التقدير في المرتبة الثانية مثلا بعد القتل الموصوف وما يكون في الفحش مثله أو نحوه، لكن يستلزم أن يكون فيما لم يذكر في المرتبة الثانية شيء هو أعظم مما ذكر في المرتبة الثالثة ولا محذور في ذلك، وأما ما مضى في كتاب الأدب من عد عقوق الوالدين في أكبر الكبائر لكنها ذكرت بالواو فيجوز أن تكون رتبة رابعة وهي أكبر مما دونها. قول "حليلة جارك" بفتح الحاء المهملة وزن عظيمة أي التي يحل له وطؤها، وقيل التي تحل معه في فراش واحد، وقوله: "أجل أن يطعم معك " بفتح اللام أي من أجل فحذف الجار فانتصب، وذكر الأكل لأنه كان الأغلب من حال العرب، وسيأتي الكلام على بقية شرح هذا الحديث في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(12/117)


21 - باب: رَجْمِ الْمُحْصَنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ حَدُّهُ حَدُّ الزَّانِي
6812- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ "عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: قَدْ رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6813- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ "سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدُ؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي"
[الحديث 6813- طرفه في: 6840]
6814- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ "أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَ، وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ"
قوله: "باب رجم المحصن" هو بفتح الصاد المهملة من الإحصان، ويأتي بمعنى العفة والتزويج والإسلام والحرية لأن كلا منها يمنع المكلف من عمل الفاحشة، قال ابن القطاع: رجل محصن بكسر الصاد على القياس وبفتحها على غير قياس. قلت: يمكن تخريجه على القياس، وهو أن المراد هنا من له زوجة عقد عليها ودخل بها وأصابها فكأن الذي زوجها له أو حمله على التزويج بها ولو كانت نفسه أحصنه أي جعله في حصن من العفة أو منعه من عمل الفاحشة. وقال الراغب: يقال للمتزوجة محصنة أي أن زوجها أحصنها، ويقال امرأة محصن بالكسر إذا تصور حصنها من نفسها، وبالفتح إذا تصور حصنها من غيرها. ووقع هنا قبل الباب عند ابن بطال "كتاب الرجم" ولم يقع في الروايات المعتمدة. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا يكون الإحصان بالنكاح الفاسد ولا الشبهة، وخالفهم أبو ثور فقال: يكون محصنا، واحتج بأن النكاح الفاسد يعطي أحكام الصحيح في تقدير المهر ووجوب العدة ولحوق الولد وتحريم الربيبة، وأجيب بعموم "ادرءوا الحدود" قال: وأجمعوا على أنه لا يكون بمجرد العقد محصنا، واختلفوا إذا دخل بها وادعى أنه لم يصبها قال: حتى تقوم البينة أو يوجد منه إقرار أو يعلم له منها واحد، وعن بعض المالكية إذا زنى أحد الزوجين واختلفوا في الوطء لم يصدق الزاني ولو لم يمض لهما إلا ليلة

(12/117)


وأما قبل الزنا فلا يكون محصنا ولو أقام معها ما أقام، واختلفا إذا تزوج الحر أمة هل تحصنه؟ فقال الأكثر: نعم، وعن عطاء والحسن وقتادة والثوري والكوفيين وأحمد وإسحاق: لا. واختلفوا إذا تزوج كتابية فقال إبراهيم وطاوس والشعبي: لا تحصنه، وعن الحسن لا تحصنه حتى يطأها في الإسلام، أخرجهما ابن أبي شيبة. وعن جابر بن زيد وابن المسيب تحصنه، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير. وقال ابن بطال: أجمع الصحابة وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامدا عالما مختارا فعليه الرجم، ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة واعتلوا بأن الرجم لم يذكر في القرآن، وحكاه ابن العربي عن طائفة من أهل المغرب لقيهم وهم من بقايا الخوارج، واحتج الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم وكذلك الأئمة بعده، ولذلك أشار علي رضي الله عنه بقوله في أول أحاديث الباب: "ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وثبت في صحيح مسلم عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا. الثيب بالثيب الرجم" وسيأتي في "باب رجم الحبلى من الزنا" من حديث عمر أنه خطب فقال: "إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه القرآن فكان مما أنزل آية الرجم " ويأتي الكلام عليه هناك مستوفى إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال الحسن" هو البصري كذا للأكثر، وللكشميهني وحده "وقال منصور" بدل الحسن وزيفوه. قوله: "من زنى بأخته فحده حد الزاني" في رواية الكشميهني: "الزنا " وصله ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث قال سألت عمر: ما كان الحسن يقول فيمن تزوج ذات محرم وهو يعلم؟ قال: عليه الحد. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق جابر بن زيد وهو أبو الشعثاء التابعي المشهور فيمن أتى ذات محرم منه قال: تضرب عنقه. ووجه الدلالة من حديث على أنه قال: "رجمتها بسنة رسول الله" فإنه لم يفرق بين ما إذا كان الزنا بمحرم أو بغير محرم. وأشار البخاري إلى ضعف الخبر الذي ورد في قتل من زنى بذات محرم، وهو ما رواه صالح بن راشد قال: أتى الحجاج برجل قد اغتصب أخته على نفسها فقال سلوا من هنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن المطرف " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تخطى الحرمتين فخطوا وسطه بالسيف " فكتبوا إلى ابن عباس فكتب إليهم بمثله ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" ونقل عن أبيه أنه روى عن مطرف ابن عبد الله بن الشخير من قوله، قال: ولا أدري أهو هذا أو لا يشير إلى تجويز أن يكون الراوي غلط في قوله عبد الله بن مطرف وفي قوله سمعت. وإنما هو مطرف بن عبد الله ولا صحبة له، وقال ابن عبد البر: يقولون إن الراوي غلط فيه، وأثر مطرف الذي أشار إليه أبو حاتم أخرجه ابن أبي شيبة من طريق بكر بن عبد الله المزي قال: أتى الحجاج برجل قد وقع على ابنته وعنده مطرف بن عبد الله بن الشخير وأبو بردة، فقال أحدهما: اضرب عنقه، فضربت عنقه. قلت: والراوي عن صالح بن راشد ضعيف وهو رفدة بكسر الراء وسكون الفاء. ويوضح ضعفه قوله: "فكتبوا إلى ابن عباس" وابن عباس مات قبل أن يلي الحجاج الإمارة بأكثر من خمس سنين، ولكن له طريق أخرى إلى ابن عباس أخرجها الطحاوي وضعف راويها، وأشهر حديث في الباب حديث البراء " لقيت خالي ومعه الراية فقال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن اضرب عنقه " أخرجه أحمد وأصحاب السنن وفي سنده اختلاف كثير، وله شاهد من طريق معاوية بن مرة عن أبيه أخرجه ابن ماجه والدار قطني، وقد قال بظاهره أحمد. وحمله الجمهور على من استحل ذلك بعد العلم بتحريمه بقرينة الأمر بأخذ ماله وقسمته ثم ذكر في الباب ثلاثة أحاديث: الحديث الأول قوله: "حدثنا سلمة بن كهيل" في رواية على بن الجعد عن شعبة: عن سلمة ومجالد أخرجه الإسماعيلي، وذكر الدار قطني

(12/118)


أن قعنب بن محرز رواه عن وهب بن جرير عن شعبة عن سلمة عن مجالد، وهو غلط والصواب سلمة ومجالد. قوله: "سمعت الشعبي عن علي" أي يحدث عن علي، قد طعن بعضهم كالحازمي في هذا الإسناد بأن الشعبي لم يسمعه من علي، قال الإسماعيلي: رواه عصام بن يوسف عن شعبة فقال: "عن سلمة عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي " وكذا ذكر الدار قطني عن حسين بن محمد عن شعبة ووقع في رواية قعنب المذكورة عن الشعبي عن أبيه عن علي وجزم الدار قطني بأن الزيادة في الإسنادين وهم وبأن الشعبي سمع هذا الحديث من على قال ولم يسمع عنه غيره. قوله: "حين رجم المرأة يوم الجمعة" في رواية علي بن الجعد " أن عليا أتى بامرأة زنت فضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة " وكذا عند النسائي من طريق بهز بن أسد عن شعبة والدار قطني من طريق أبي حصين بفتح أوله عن الشعبي قال: "أتي علي بشراحة - وهي بضم الشين المعجمة وتخفيف الراء ثم حاء مهملة الهمدانية بسكون الميم - وقد فجرت، فردها حتى ولدت وقال: ائتوني بأقرب النساء منها فأعطاها الولد ثم رجمها " ومن طريق حصين بالتصغير عن الشعبي قال: "أتى علي بمولاة لسعيد بن قيس فجرت وفي لفظ وهي حبلى فضربها مائة ثم رجمها " وذكر ابن عبد البر أن في تفسير سنيد بن داود من طريق أخرى إلى الشعبي قال: "أتى علي بشراحة فقال لها: لعل رجلا استكرهك، قالت: لا، قال فلعله أتاك وأنت نائمة؟ قالت: لا. قال: لعل زوجك من عدونا؟ قالت: لا. فأمر بها فحبست، فلما وضعت أخرجها يوم الخميس فجلدها مائة ثم ردها إلى الحبس، فلما كان يوم الجمعة حفر لها ورجمها " ولعبد الرزاق من وجه آخر عن الشعبي " إن عليا لما وضعت أمر لها بحفرة في السوق ثم قال: إن أولى الناس أن يرجم الإمام إذا كان بالاعتراف، فإن كان الشهود فالشهود ثم رماها". قوله: "رجمتها بسنة رسول الله" زاد علي بن الجعد " وجلدتها بكتاب الله " زاد إسماعيل بن سالم في أوله عن الشعبي "قيل لعلي جمعت حدين" فذكره. وفي رواية عبد الرزاق "أجلدها بالقرآن وأرجمها بالسنة" قال الشعبي: وقال أبي بن كعب مثل ذلك، قال الحازمي: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن المنذر إلى أن الزاني المحصن يجلد ثم يرجم، وقال الجمهور - وهي رواية عن أحمد أيضا - لا يجمع بينهما، وذكروا أن حديث عبادة منسوخ يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم " والبكر بالبكر جلد مائة والنفي والناسخ له ما ثبت في قصة ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم رجمه ولم يذكر الجلد، قال الشافعي: فدلت السنة على أن الجلد ثابت على البكر وساقط عن الثيب. والدليل على أن قصة ماعز متراخية عن حديث عبادة أن حديث عبادة ناسخ لما شرع أولا من حبس الزاني في البيوت فنسخ الحبس بالجلد وزيد الثيب الرجم، وذلك صريح في حديث عبادة، ثم نسخ الجلد في حق الثيب، وذلك مأخوذ من الاقتصار في قصة ماعز على الرجم وذلك في قصة الغامدية والجهنية واليهوديين لم يذكر الجلد مع الرجم وقال ابن المنذر: عارض بعضهم الشافعي فقال الجلد ثابت في كتاب الله والرجم ثابت بسنة رسول الله كما قال علي، وقد ثبت الجمع بينهما في حديث عبادة وعمل به على ووافقه أبي، وليس في قصة ماعز ومن ذكر معه تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم لاحتمال أن يكون ترك ذكره لوضوحه ولكونه الأصل فلا يرد ما وقع التصريح به بالاحتمال، وقد احتج الشافعي بنظير هذا حين عورض إيجابة العمرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من سأله أن يحج على أبيه ولم يذكر العمرة، فأجاب الشافعي بأن السكوت عن ذلك لا يدل على سقوطه، قال فكذا ينبغي أن يجاب هنا. قلت: وبهذا ألزم الطحاوي أيضا الشافعية، ولهم أن ينفصلوا لكن في بعض طرقه: "حج عن أبيك واعتمر" كما تقدم بيانه في كتاب الحج،

(12/119)


فالتقصير في ترك ذكر العمرة من بعض الرواة، وأما قصة ماعز فجاءت من طرق متنوعة بأسانيد مختلفة لم يذكر في شيء منها أنه جلد، وكذلك الغامدية والجهنية وغيرهما. وقال في ماعز "اذهبوا فارجموه" وكذا في حق غيره ولم يذكر الجلد، فدل ترك ذكره على عدم وقوعه ودل عدم وقوعه على عدم وجوبه. ومن المذاهب المستغربة ما حكاه ابن المنذر وابن حزم عن أبي بن كعب زاد ابن حزم وأبي ذر وابن عبد البر عن مسروق أن الجمع بين الجلد والرجم خاص بالشيخ والشيخة، وأما الشاب فيجلد إن لم يحصن ويرجم إن أحصن فقط، وحجتهم في ذلك حديث الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة كما سيأتي بيانه في الكلام على حديث عمر في "باب رجم الحبلى من الزنا" وقال عياض: شذت فرقة من أهل الحديث فقالت الجمع على الشيخ الثيب دون الشاب ولا أصل له. وقال النووي: هو مذهب باطل، كذا قاله ونفى أصله، ووصفه، بالبطلان إن كان المراد به طريقه فليس بجيد لأنه ثابت كما سأبينه في " باب البكران يجلدان " وإن كان المراد دليله ففيه نظر أيضا لأن الآية وردت بلفظ الشيخ ففهم هؤلاء من تخصيص الشيخ بذلك أن الشاب أعذر منه في الجملة، فهو معنى مناسب وفيه جمع بين الأدلة فكيف يوصف بالبطلان، واستدل به على جواز نسخ التلاوة دون الحكم. وخالف في ذلك بعض المعتزلة واعتل بأن التلاوة مع حكمها كالعلم مع العالمية فلا ينفكان، وأجيب بالمنع فإن العالمية لا تنافى قيام العلم بالذات، سلمنا لكن التلاوة أمارة الحكم فيدل وجودها على ثبوته ولا دلالة من مجردها على وجوب الدوام فلا يلزم من انتفاء الأمارة في طرف الدوام انتفاء ما دلت عليه، فإذا نسخت التلاوة ولم ينتف المدلول، وكذلك بالعكس. الحديث الثاني قوله: "حدثني" في رواية أبي ذر "حدثنا إسحاق" وهو ابن شاهين الواسطي، وخالد هو ابن عبد الله الطحان، والشيباني هو أبو إسحاق سليمان مشهور بكنيته. قوله: "قبل سورة النور أم بعد" في رواية الكشميهني: "أم بعدها " وفائدة هذا السؤال أن الرجم إن كان وقع قبلها فيمكن أن يدعي نسخه بالتنصيص فيها على أن حد الزاني الجلد، وإن كان وقع بعدها فيمكن أن يستدل به على نسخ الجلد في حق المحصن، لكن يرد عليه أنه من نسخ الكتاب بالسنة وفيه خلاف، وأجيب بأن الممنوع نسخ الكتاب بالسنة إذا جاءت من طريق الآحاد، وأما السنة المشهورة فلا وأيضا فلا نسخ وإنما هو مخصص بغير المحصن. قوله: "لا أدري" يأتي بيانه بعد أبواب، وقد قام الدليل على أن الرجم وقع بعد سورة النور لأن نزولها كان في قصة الإفك، واختلف هل كان سنة أربع أو خمس أو ست على ما تقدم بيانه، والرجم كان بعد ذلك فقد حضره أبو هريرة وإنما أسلم سنة سبع وابن عباس إنما جاء مع أمه إلى المدينة سنة تسع. الحديث الثالث قوله: "حدثنا" في رواية أبي ذر " أخبرنا " وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "حدثني أبو سلمة" في رواية أبي ذر " أخبرني". قوله: "أن رجلا من أسلم" أي من بني أسلم القبيلة المشهورة، واسم هذا الرجل ماعز بن مالك كما سيأتي مسمى عن ابن عباس بعد سبعة أبواب.

(12/120)


باب لا يرجم المجنون و المجنونة
...
22- باب لاَ يُرْجَمُ الْمَجْنُونُ وَالْمَجْنُونَةُ. وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ رضي الله عنه: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ؟
6815- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي

(12/120)


زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لاَ قَالَ: فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ"
6816- ...قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ "فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ"
قول "باب لا يرجم المجنون والمجنونة" أي إذا وقع في الزنا في حال الجنون، وهو إجماع واختلف فيما إذا وقع في حال الصحة ثم طرأ الجنون هل يؤخر إلى الإفاقة؟ قال الجمهور: لا، لأنه يراد به التلف فلا معنى للتأخير، بخلاف من يجلد فإنه يقصد به الإيلام فيؤخر حتى لم يفيق. قوله: "وقال علي رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: أما علمت الخ" تقدم بيان من وصله في " باب الطلاق في الإغلاق " وأن أبا داود وابن حبان والنسائي أخرجوه مرفوعا ورجح النسائي الموقوف، ومع ذلك فهو مرفوع حكما، وفي أول الأثر المذكور قصة تناسب هذه الترجمة وهو " عن ابن عباس أتى عمر أي بمجنونة قد زنت وهي حبلى فأراد أن يرجمها، فقال له علي: أما بلغك أن القلم قد رفع عن ثلاثة " فذكره، هذا لفظ علي بن الجعد الموقوف في " الفوائد الجعديات " ولفظ الحديث المرفوع عن ابن عباس " مر علي ابن أبي طالب بمجنونة بني فلان قد زنت فأمر عمر برجمها فردها علي وقال لعمر: أما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ؟ قال: صدقت، فخلى عنها، هذه رواية جرير بن حازم عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن أبي داود وسندها متصل، لكن أعله النسائي بأن جرير بن حازم حدث بمصر بأحاديث غلط فيها، وفي رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش بسنده " أتى عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها الناس فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها على بن أبي طالب فقال: ارجعوا بها ثم أتاه فقال: أما علمت أن القلم قد رفع " فذكر الحديث وفي آخره قال بلى قال فما بال هذه ترجم؟ فأرسلها، فجعل يكبر " ومن طريق وكيع عن الأعمش نحوه، وأخرجه أبو داود موقوفا من الطريقين ورجحه النسائي، ورواه عطاء بن السائب عن أبي ظبيان عن علي بدون ذكر ابن عباس وفي آخره فجعل عمر يكبر " أخرجه أبو داود والنسائي بلفظ قال: "أتى عمر بامرأة " فذكر نحوه وفيه: "فخلى على سبيلها، فقال عمر: ادع لي عليا، فأتاه فقال: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم فذكره لكن بلفظ: المعتوه حتى يبرأ، وهذه معتوهة بني فلان لعل الذي أتاها وهي في بلائها " ولأبي داود من طريق أبي الضحى عن علي مرفوعا نحوه لكن قال: "عن الخرف " بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء بعدها فاء، ومن طريق حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة مرفوعا: "رفع القلم عن ثلاثة " فذكره بلفظ: "وعن المبتلي حتى يبرأ " وهذه طرق تقوي بعضها ببعض، وقد أطنب النسائي في تخريجها ثم قال: لا يصح منها شيء والمرفوع أولى بالصواب، قلت: وللمرفوع شاهد من حديث أبي إدريس الخولاني، أخبرني غير واحد من الصحابة منهم شداد بن أوس وثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم في الحد عن الصغير حتى يكبر وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن المعتوه الهالك " أخرجه الطبراني، وقد أخذ الفقهاء بمقتضى هذه الأحاديث، لكن ذكر ابن حبان أن المراد برفع القلم ترك كتابة الشر عنهم دون الخير. وقال شيخنا في "شرح الترمذي": هو ظاهر في الصبي دون المجنون والنائم لأنهما في حيز من

(12/121)


ليس قابلا لصحة العبادة منه لزوال الشعور. وحكى ابن العربي أن بعض الفقهاء سئل عن إسلام الصبي فقال: لا يصح واستدل بهذا الحديث، فعورض بأن الذي ارتفع عنه قلم المؤاخذة وأما قلم الثواب فلا لقوله للمرأة لما سألته " ألهذا حج؟ قال: نعم " ولقوله: "مروهم بالصلاة" فإذا جرى له قلم الثواب فكلمة الإسلام أجل أنواع الثواب فكيف يقال إنها تقع لغوا ويعتد بحجه وصلاته؟ واستدل بقوله: "حتى يحتلم " على أنه لا يؤاخذ قبل ذلك، واحتج من قال: يؤاخذ قبل ذلك بالردة، وكذا من قال من المالكية يقام الحد على المراهق ويعتبر طلاقه لقوله في الطريق الأخرى "حتى يكبر" والأخرى "حتى يشب". وتعقبه ابن العربي بأن الرواية بلفظ: "حتى يحتلم " هي العلامة المحققة فيتعين اعتبارها وحمل باقي الروايات عليها. قوله: "عن عقيل" هو ابن خالد. قوله: "عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب" هذه رواية يحيى بن بكير عن الليث، ووافقه شعيب بن الليث عن أبيه عند مسلم، وسيأتي بعد ستة أبواب من رواية سعيد بن عفير عن الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب، وجمعها مسلم فوصل رواية عقيل وعلق رواية عبد الرحمن فقال بعد رواية الليث عن عقيل: ورواه الليث أيضا عن عبد الرحمن ابن خالد. قلت: ورواه معمر ويونس وابن جريج عن ابن شهاب عن أبي سلمة وحده عن جابر، وجميع مسلم هذه الطرق وأحال بلفظها على رواية عقيل، وسيأتي للبخاري بعد بابين من رواية معمر، وعلق طرفا منه ليونس وابن جريج ووصل رواية يونس قبل هذا، وأما رواية ابن جريج فوصلها مسلم عن إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق عن معمر وابن جريج معا، ووقعت لنا بعلو في " مستخرج أبي نعيم " من رواية الطبراني عن الفربري عن عبد الرزاق عن ابن جريج وحده. قوله: "أتى رجل" زاد ابن مسافر في روايته: "من الناس" وفي رواية شعيب بن الليث "من المسلمين" وفي رواية يونس ومعمر " أن رجلا من أسلم " وفي حديث جابر بن سمرة عند مسلم رأيت ماعز بن مالك الأسلمي حين جيء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه: "رجل قصير أعضل ليس عليه رداء " وفي لفظ: "ذو عضلات " بفتح المهملة ثم المعجمة، قال أبو عبيدة: العضلة ما اجتمع من اللحم في أعلى باطن الساق. وقال الأصمعي: كل عصبة مع لحم فهي عضلة. وقال ابن القطاع: العضلة لحم الساق والذراع وكل لحمة مستديرة في البدن والأعضل الشديد الخلق ومنه أعضل الأمر إذا اشتد، لكن دلت الرواية الأخرى على أن المراد به هنا كثير العضلات. قوله: "فأعرض عنه"زاد ابن مسافر" فتنحى لشق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعرض قبله " بكسر القاف وفتح الموحدة، وفي رواية شعيب "فتنحى تلقاء وجهه" أي انتقل من الناحية التي كان فيها إلى الناحية التي يستقبل بها وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاء منصوب على الظرفية وأصله مصدر أقيم مقام الظرف أي مكان تلقاء فحذف مكان قبل، وليس من المصادر تفعال بكسر أوله إلا هذا وتبيان وسائرها بفتح أوله، وأما الأسماء بهذا الوزن فكثيرة. قوله: "حتى ردد" في رواية الكشميهني: "حتى رد" بدال واحدة، وفي رواية شعيب بن الليث " حتى ثنى ذلك عليه " وهو بمثلثة بعدها نون خفيفة أي كرر، وفي حديث بريدة عند مسلم: "قال ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه " فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: "يا رسول الله طهرني" وفي لفظ: "فلما كان من الغد أتاه" ووقع في مرسل سعيد بن المسيب عند مالك والنسائي من رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد " إن رجلا من أسلم قال لأبي بكر الصديق: إن الآخر زنى، قال: فتب إلى الله واستتر بستر الله . ثم أتى عمر كذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ثلاث مرات، حتى إذا أكثر عليه بعث إلى أهله". قوله: "فلما شهد على نفسه أربع

(12/122)


شهادات" في رواية أبي ذر "أربع مرات" وفي رواية بريدة المذكورة "حتى إذا كانت الرابعة قال فبم أطهرك" وفي حديث جابر بن سمرة من طريق أبي عوانة عن سماك " فشهد على نفسه أربع شهادات " أخرجه مسلم وأخرجه من طريق شعبة عن سماك قال: "فرده مرتين " وفي أخرى " مرتين أو ثلاثا " قال شعبة قال سماك: فذكرته لسعيد بن جبير فقال إنه رده أربع مرات. ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم أيضا: "فاعترف بالزنا ثلاث مرات " والجمع بينهما أما رواية مرتين فتحمل على أنه اعترف مرتين في يوم ومرتين في يوم آخر لما يشعر به قول بريدة " فلما كان من الغد " فاقتصر الراوي على أحدهما، أو مراده اعترف مرتين في يومين فيكون من ضرب اثنين في اثنين، وقد وقع عند أبي داود من طريق إسرائيل عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا مرتين فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين " وأما رواية الثلاث فكأن المراد الاقتصار على المرات التي رده فيها، وأما الرابعة فإنه لم يرده بل استثبت فيه وسأل عن عقله، لكن وقع في حديث أبي هريرة عند أبي داود من طريق عبد الرحمن بن الصامت ما يدل على أن الاستثبات فيه إنما وقع بعد الرابعة ولفظه: "جاء الأسلمي فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل في الخامسة فقال: تدري ما الزاني " إلى آخره، والمراد بالخامسة الصفة التي وقعت منه عند السؤال والاستثبات، لأن صفة الإعراض وقعت أربع مرات وصفة الإقبال عليه للسؤال وقعت بعدها. قوله: "فقال أبك جنون؟ قال لا" في رواية شعيب في الطلاق " وهل بك جنون " وفي حديث بريدة " فسأل أبه جنون؟ فأخبر بأنه ليس بمجنون " وفي لفظ: "فأرسل إلى قومه فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا " وفي حديث أبي سعيد " ثم سأل قومه فقالوا: ما نعلم به بأسا إلا أنه أصاب شيئا يرى أنه لا يخرج منه إلا أن يقام فيه الحد لله " وفي مرسل أبي سعيد " بعث إلى أهله فقال: أشتكى به جنة؟ فقالوا: يا رسول الله إنه لصحيح " ويجمع بينهما بأنه سأله ثم سأل عنه احتياطا، فإن فائدة سؤاله أنه لو ادعى الجنون لكان في ذلك دفع لإقامة الحد عليه حتى يظهر خلاف دعواه، فلما أجاب بأنه لا جنون به سأل عنه لاحتمال أن يكون كذلك ولا يعتد بقوله، وعند أبي داود من طريق نعيم بن هزال قال: "كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك ورجاء أن يكون له مخرج " فذكر الحديث فقال عياض: فائدة سؤاله أبك جنون سترا لحاله واستبعاد أن يلح عاقل بالاعتراف بما يقتضي إهلاكه، ولعله يرجع عن قوله، أو لأنه سمعه وحده، أو ليتم إقراره أربعا عند من يشترطه. وأما سؤاله قومه عنه بعد ذلك فمبالغة في الاستثبات وتعقب بعض الشراح قوله: "أو لأنه سمعه وحده" بأنه كلام ساقط لأنه وقع في نفس الخبر أن ذلك كان بمحضر الصحابة في المسجد. قلت: ويرد بوجه آخر وهو أن انفراده صلى الله عليه وسلم بسماع إقرار المقر كاف في الحكم عليه بعلمه اتفاقا إذ لا ينطق عن الهوى، بخلاف غيره ففيه احتمال. قوله: "قال فهل أحصنت" أي تزوجت، هذا معناه جزما هنا، لافتراق الحكم في حد من تزوج ومن لم يتزوج. قوله: "قال: نعم" زاد في حديث بريدة قبل هذا "أشربت خمرا؟ قال لا" وفيه: "فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريحا" وزاد في حديث ابن عباس الآتي قريبا "لعلك قبلت أو غمزت - بمعجمة وزاي - أو نظرت" أي فأطلقت على كل ذلك زنا ولكنه لا حد في ذلك "قال: لا" وفي حديث نعيم "فقال هل ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: فهل باشرتها؟ قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم" وفي حديث ابن عباس

(12/123)


المذكور "فقال أنكتها" لا يكنى بفتح التحتانية وسكون الكاف من الكناية أي أنه ذكر هذا اللفظ صريحا ولم يكن عنه بلفظ آخر كالجماع، ويحتمل أن يجمع بأنه ذكر بعد ذكر الجماع بأن الجماع قد يحمل على مجرد الاجتماع، وفي حديث أبي هريرة المذكور "أنكتها؟ قال نعم. قال حتى دخل ذلك منك في ذلك منها؟ قال نعم، قال كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ قال نعم. قال: تدري ما الزنا قال: نعم؟ أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرني، فأمر به فرجم " وقبله عند النسائي هنا " هل أدخلته وأخرجته؟ قال نعم". قوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله" صرح يونس ومعمر في روايتهما بأنه أبو سلمة ابن عبد الرحمن، فكأن الحديث كان عند أبي سلمة عن أبي هريرة كما عند سعيد بن المسيب وعنده زيادة عليه عن جابر. قوله: "فكنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى" في رواية معمر " فأمر به فرجم بالمصلى " وفي حديث أبي سعيد " فما أوثقناه ولا حفرنا له " قال: "فرميناه بالعظام والمدر والخزف " بفتح المعجمة والزاي وبالفاء وهي الآنية التي تتخذ من الطين المشوي وكأن المراد ما تكسر منها. قوله: "فلما أذلقته" بذال معجمة وفتح اللام بعدها قاف أي أقلقته وزنه ومعناه قال أهل اللغة: الذلق بالتحريك القلق وممن ذكره الجوهري، وقال في النهاية: أذلقته بلغت منه الجهد حتى قلق، يقال أذلقه الشيء أجهده، وقال النووي: معنى أذلقته الحجارة أصابته بحدها، ومنه انذلق صار له حد يقطع. قوله: "هرب" في رواية ابن مسافر " جمز " بجيم وميم مفتوحتين ثم زاي أي وثب مسرعا وليس بالشديد العدو بل كالقفز. ووقع في حديث أبي سعيد "فاشتد وأسند لنا خلفه". قوله: "فأدركناه بالحرة فرجمناه" زاد معمر في روايته: "حتى مات " وفي حديث أبي سعيد " حتى أتى عرض - بضم أوله أي جانب - الحرة، فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت " وعند الترمذي من طريق محمد ابن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة في قصة ماعز " فلما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل فضربه وضربه الناس حتى مات " وعند أبي داود والنسائي من رواية يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه في هذه القصة " فوجد مس الحجارة فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه فقتله " وهذا ظاهره يخالف ظاهر رواية أبي هريرة أنهم ضربوه معه، لكن يجمع بأن قوله في هذا " فقتله " أي كان سببا في قتله، وقد وقع في رواية للطبراني في هذه القصة " فضرب ساقه فصرعه، ورجموه حتى قتلوه" والوظيف بمعجمة وزن عظيم: خف البعير وقيل مستدق الذراع والساق من الإبل وغيرها، وفي حديث أبي هريرة عند النسائي: "فانتهى إلى أصل شجرة فتوسد يمينه حتى قتل " وللنسائي من طريق أبي مالك عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذهبوا به إلى حائط يبلغ صدره فذهب يثب فرماه رجل فأصاب أصل أذنه فصرع فقتله " وفي هذا الحديث من الفوائد منقبة عظيمة لماعز بن مالك لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه مع توبته ليتم تطهيره ولم يرجع عن إقراره مع أن الطبع البشري يقتضي أنه لا يستمر على الإقرار بما يقتضى إزهاق نفسه فجاهد نفسه على ذلك وقوى عليها وأقر من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشهادة مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة، ولا يقال لعله لم يعلم أن الحد بعد أن يرفع للإمام يرتفع بالرجوع لأنا نقول كان له طريق أن يبرز أمره في صورة الاستفتاء فيعلم ما يخفى عليه من أحكام المسألة ويبنى على ما يجاب به ويعدل عن الإقرار إلى ذلك، ويؤخذ من قضيته أنه يستحب لمن وقع في مثل قضيته

(12/124)


أن يتوب إلى الله تعالى ويستر نفسه ولا يذكر ذلك لأحد كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز، وأن من أطلع على ذلك يستر عليه بما ذكرنا ولا يفضحه ولا يرفعه إلى الإمام كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القصة " لو سترته بثوبك لكان خيرا لك " وبهذا جزم الشافعي رضي الله عنه فقال: أحب لمن أصاب ذنبا فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب، واحتج بقصة ماعز مع أبي بكر وعمر. وقال ابن العربي: هذا كله في غير المجاهر، فأما إذا كان متظاهرا بالفاحشة مجاهرا فإني أحب مكاشفته والتبريح به لينزجر هو وغيره. وقد استشكل استحباب الستر مع ما وقع من الثناء على ماعز والغامدية، وأجاب شيخنا " في شرح الترمذي " بأن الغامدية كان ظهر بها الحبل مع كونها غير ذات زوج فتعذر الاستتار للاطلاع على ما يشعر بالفاحشة، ومن ثم قيد بعضهم ترجيح الاستتار حيث لا يكون هناك ما يشعر بضده، وإن وجد فالرفع إلى الإمام ليقيم عليه الحد أفضل انتهى. والذي يظهر أن الستر مستحب والرفع لقصد المبالغة في التطهير أحب والعلم عند الله تعالى. وفيه التثبت في إزهاق نفس المسلم والمبالغة في صيانته لما وقع في هذه القصة من ترديده والإيماء إليه بالرجوع والإشارة إلى قبول دعواه إن ادعى إكراها وأخطأ في معنى الزنا أو مباشرة دون الفرج مثلا أو غير ذلك. وفيه مشروعية الإقرار بفعل الفاحشة عند الإمام وفي المسجد والتصريح فيه بما يستحي من التلفظ به من أنواع الرفث في القول من أجل الحاجة الملجئة لذلك. وفيه نداء الكبير بالصوت العالي وإعراض الإمام عن من أقر بأمر محتمل لإقامة الحد لاحتمال أن يفسره بما لا يوجب حدا أو يرجع، واستفساره عن شروط ذلك ليرتب عليه مقتضاه وأن إقرار المجنون لاغ، والتعريض للمقر بأن يرجع وأنه إذا رجع قبل، قال ابن العربي: وجاء عن مالك رواية أنه لا أثر لرجوعه، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع. وفيه أنه يستحب لمن وقع في معصية وندم أن يبادر إلى التوبة منها ولا يخبر بها أحدا ويستتر بستر الله، وإن اتفق أنه يخبر أحدا فيستحب أن يأمره بالتوبة وستر ذلك عن الناس كما جرى لماعز مع أبي بكر ثم عمر، وقد أخرج قصته معهما في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب مرسلة، ووصله أبو داود وغيره من رواية يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه. وفي القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهزال " لو سترته بثوبك لكان خيرا لك " وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد ذكرت هذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم فقال هزال جدي جدي وهذا الحديث حق. قال الباجي: المعنى خيرا لك مما أمرته به من إظهار أمره، وكان ستره بأن يأمره بالتوبة والكتمان كما أمره أبو بكر وعمر، وذكر الثوب مبالغة أي لو لم تجد السبيل إلى ستره إلا بردائك ممن علم أمره كان أفضل مما أشرت به عليه من الإظهار. واستدل به على اشتراط تكرير الإقرار بالزنا أربعا لظاهر قوله: "فلما شهد على نفسه أربع شهادات " فإن فيه إشعارا بأن العدد هو العلة في تأخير إقامة الحد عليه وإلا لأمر برجمه في أول مرة، ولأن في حديث ابن عباس " قال لماعز قد شهدت على نفسك أربع شهادات، اذهبوا به فارجموه " وقد تقدم ما يؤيده ويؤيد القياس على عدد شهود الزنا دون غيره من الحدود، وهو قول الكوفيين والراجح عند الحنابلة، وزاد ابن أبي ليلى فاشترط أن تتعدد مجالس الإقرار، وهي رواية عن الحنفية وتمسكوا بصورة الواقعة، لكن الروايات فيها اختلفت، والذي يظهر أن المجالس تعددت لكن لا بعدد الإقرار، فأكثر ما نقل في ذلك أنه أقر مرتين ثم عاد من الغد فأقر مرتين كما تقدم بيانه من عند مسلم وتأول الجمهور بأن ذلك وقع في قصة ماعز وهي واقعة حال فجاز أن يكون لزيادة الاستثبات، ويؤيد هذا الجواب ما تقدم في سياق حديث أبي هريرة

(12/125)


وما وقع عند مسلم في قصة الغامدية حيث قالت لما جاءت " طهرني، فقال ويحك ارجعي فاستغفري، قالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعزا إنها حبلى من الزنا " فلم يؤخر إقامة الحد عليها إلا لكونها حبلى. فلما وضعت أمر برجمها ولم يستفسرها مرة أخرى ولا اعتبر تكرير إقرارها ولا تعدد المجالس، وكذا وقع في قصة العسيف حيث قال: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " وفيه: "فغدا عليها فاعترفت فرجمها " ولم يذكر تعدد الاعتراف ولا المجالس، وسيأتي قريبا مع شرحه مستوفى. وأجابوا عن القياس المذكور بأن القتل لا يقبل فيه إلا شاهدان بخلاف سائر الأموال فيقبل فيها شاهد وامرأتان، فكان قياس ذلك أن يشترط الإقرار بالقتل مرتين، وقد اتفقوا أنه يكفي فيه مرة. فإن قلت: والاستدلال بمجرد عدم الذكر في قصة العسيف وغيره فيه نظر، فإن عدم الذكر لا يدل على عدم الوقوع، فإذا ثبت كون العدد شرطا فالسكوت عن ذكره يحتمل أن يكون لعلم المأمور به. وأما قول الغامدية " تريد أن ترددني كما رددت ماعزا " فيمكن التمسك به، لكن أجاب الطيبي بأن قولها إنها حبلى من الزنا فيه إشارة إلى أن حالها مغايرة لحال ماعز، لأنهما وإن اشتركا في الزنا لكن العلة غير جامعة لأن ماعزا كان متمكنا من الرجوع عن إقراره بخلافها، فكأنها قالت أنا غير متمكنة من الإنكار بعد الإقرار لظهور الحمل بها بخلافه. وتعقب بأنه كان يمكنها أن تدعى إكراها أو خطأ أو شبهة. وفيه أن الإمام لا يشترط أن يبدأ بالرجم فيمن أقر وإن كان ذلك مستحبا لأن الإمام إذا بدأ مع كونه مأمورا بالتثبت والاحتياط فيه كان ذلك أدعى إلى الزجر عن التساهل في الحكم وإلى الحض على التثبت في الحكم، ولهذا يبدأ الشهود إذا ثبت الرجم بالبينة. وفيه جواز تفويض الإمام إقامة الحد لغيره، واستدل به على أنه لا يشترط الحفر للمرجوم لأنه لم يذكر في حديث الباب بل وقع التصريح في حديث أبي سعيد عند مسلم فقال: "فما حفرنا له ولا أوثقناه " ولكن وقع في حديث بريدة عنده " فحفر له حفيرة " ويمكن الجمع بأن المنفي حفيرة لا يمكنه الوثوب منها والمثبت عكسه، أو أنهم في أول الأمر لم يحفروا له ثم لما فر فأدركوه حفروا له حفيرة فانتصب لهم فيها حتى فرغوا منه. وعند الشافعية لا يحفر للرجل وفي وجه يتخير الإمام وهو أرجح لثبوته في قصة ماعز فالمثبت مقدم على النافي، وقد جمع بينهما بما دل على وجود حفر في الجملة، وفي المرأة أوجه ثالثها الأصح إن ثبت زناها بالبينة استحب لا بالإقرار وعن الأئمة الثلاثة في المشهور عنهم لا يحفر. وقال أبو يوسف وأبو ثور يحفر للرجل وللمرأة. وفيه جواز تلقين المقر بما يوجب الحد ما يدفع به عنه الحد وأن الحد لا يجب إلا بالإقرار الصريح، ومن ثم شرط على من شهد بالزنا أن يقول رأيته ولج ذكره في فرجها أو ما أشبه ذلك، ولا يكفي أن يقول أشهد أنه زنى، وثبت عن جماعة من الصحابة تلقين المقر بالحد كما أخرجه مالك عن عمرو بن أبي شيبة (1) عن أبي الدرداء وعن علي في قصة شراحة، ومنهم من خص التلقين بمن يظن به أنه يجهل حكم الزنا وهو قول أبي ثور، وعند المالكية يستثنى تلقين المشتهر بانتهاك الحرمات، ويجوز تلقين من عداه وليس ذلك بشرط. وفيه ترك سجن من اعترف بالزنا في مدة الاستثبات وفي الحامل حتى تضع، وقيل إن المدينة لم يكن بها حينئذ سجن، وإنما كان يسلم كل جان لوليه. وقال ابن العربي: إنما لم يأمر بسجنه ولا التوكيل به لأن رجوعه مقبول فلا فائدة في ذلك مع جواز الإعراض عنه إذا رجع، ويؤخذ من قوله: "هل أحصنت" وجوب الاستفسار عن الحال التي تختلف الأحكام باختلافها. وفيه أن إقرار السكران لا أثر له يؤخذ من قوله: "استنكهوه" والذين اعتبروه وقالوا إن عقله زال بمعصيته، ولا دلالة
ـــــــ
(1) كذا، ولعل في اسم الراوي عن أبي الدرداء تحريفا

(12/126)


في قصة ماعز لاحتمال تقدمها على تحريم الخمر أو أن سكره وقع عن غير معصية. وفيه أن المقر بالزنا إذا أقر يترك، فإن صرح بالرجوع فذاك وإلا اتبع ورجم وهو قول الشافعي وأحمد ودلالته من قصة ماعز ظاهرة، وقد وقع في حديث نعيم بن هزال " هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه " أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وحسنه، وللترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وصححه الحاكم أيضا، وعند أبي داود من حديث بريدة قال: "كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن ماعزا والغامدية لو رجعا لم يطلبهما " وعند المالكية في المشهور لا يترك إذا هرب، وقيل يشترط أن يؤخذ على الفور فإن لم يؤخذ ترك، وعن ابن عيينة إن أخذ في الحال كمل عليه الحد وإن أخذ بعد أيام ترك، وعن أشهب إن ذكر عذرا يقبل ترك وإلا فلا، ونقله القعنبي عن مالك، وحكى الكجي عنه قولين فيمن رجع إلى شبهة، ومنهم من قيده بما بعد إقراره عند الحاكم، واحتجوا بأن الذين رجموه حتى مات بعد أن هرب لم يلزموا بديته فلو شرع تركه لوجبت عليهم الدية، والجواب أنه لم يصرح بالرجوع، ولم يقل أحد إن حد الرجم يسقط بمجرد الهرب، وقد عبر في حديث بريدة بقوله: "لعله يتوب" واستدل به على الاكتفاء بالرجم في حد من أحضر من غير جلد وقد تقدم البحث فيه، وأن المصلي إذا لم يكن وقفا لا يثبت له حكم المسجد وسيأتي البحث فيه بعد بابين، وأن المرجوم في الحد لا تشرع الصلاة عليه إذا مات بالحد ويأتي البحث فيه أيضا قريبا، وأن من وجد منه ريح الخمر وجب عليه الحد من جهة استنكاه ماعز بعد أن قال له أشربت خمرا؟ قال القرطبي: وهو قول مالك والشافعي كذا قال، وقال المازري استدل به بعضهم على أن طلاق السكران لا يقع وتعقبه عياض بأنه لا يلزم من درء الحد به أنه لا يقع طلاقه لوجود تهمته على ما يظهره من عدم العقل، قال ولم يختلف في غير الطافح أن طلاقه لازم، قال ومذهبنا التزامه بجميع أحكام الصحيح لأنه أدخل ذلك على نفسه وهو حقيقة مذهب الشافعي، واستثنى من أكره ومن شرب ما ظن أنه غير مسكر ووافقه بعض متأخري المالكية، وقال النووي: الصحيح عندنا صحة إقرار السكران ونفوذ أقواله فيما له وعليه، قال: والسؤال عن شربه الخمر محمول عندنا على أنه لو كان سكرانا لم يقم عليه الحد كذا أطلق فألزم التناقض، وليس كذلك فإن مراده لم يقم عليه الحد لوجود الشبهة كما تقدم من كلام عياض. قلت: وقد مضى ما يتعلق بذلك في كتاب، الطلاق، ومن المذاهب الظريفة فيه قول الليث: يعمل بأفعاله ولا يعمل بأقواله لأنه يلتذ بفعله ويشفى غيظه ولا يفقه أكثر ما يقول وقد قال تعالى :{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}.

(12/127)


23- باب: لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ
6817- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "اخْتَصَمَ سَعْدٌ وَابْنُ زَمْعَةَ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ، زَادَ لَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ اللَّيْثِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ"
6818- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ "سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ"

(12/127)


قوله: "باب للعاهر الحجر" ذكر فيه حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة وقد تقدم شرحه مستوفي في أواخر الفرائض، أورده عن أبي الوليد عن الليث وفيه: "الولد للفراش" وقال بعده زاد قتيبة عن الليث "وللعاهر الحجر" وفي رواية أبي ذر زادنا وقال في البيوع: "حدثنا قتيبة " فذكره بتمامه، وذكر هنا حديث أبي هريرة بالجملتين المذكورتين، وقد أورده في كتاب القدر من وجه آخر مقتصرا على الجملة الأولى، وفي ترجمته هنا إشارة إلى أنه يرجح قول من أول الحجر هنا بأنه الحجر الذي يرجم به الزاني، وقد تقدم ما فيه والمراد منه أن الرجم مشروع للزاني بشرطه لا أن على كل من زنى الرجم.

(12/128)


24- باب: الرَّجْمِ فِي الْبَلاَطِ
6819- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ أَحْدَثَا جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا إِنَّ أَحْبَارَنَا أَحْدَثُوا تَحْمِيمَ الْوَجْهِ وَالتَّجْبِيهَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: ادْعُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِالتَّوْرَاةِ فَأُتِيَ بِهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَجَعَلَ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سَلاَمٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَحْتَ يَدِهِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرُجِمَا عِنْدَ الْبَلاَطِ، فَرَأَيْتُ الْيَهُودِيَّ أَجْنَأَ عَلَيْهَا"
قوله: "باب الرجم في البلاط" في رواية المستملي: "بالبلاط" بالموحدة بدل في، ففهم منه بعضهم أنه يريد أن الآلة التي يرجم بها تجوز بكل شيء حتى بالبلاط وهو بفتح الموحدة وفتح اللام ما تفرش به الدور من حجارة وآجر وغير ذلك وفيه بعد والأولى أن الباء ظرفية ودل على ذلك رواية غير المستملي، والمراد بالبلاط هنا موضع معروف عند باب المسجد النبوي كان مفروشا بالبلاط، ويؤيد ذلك قوله في هذا المتن " فرجما عند البلاط " وقيل المراد بالبلاط الأرض الصلبة سواء كانت مفروشة أم لا ورجحه بعضهم والراجح خلافه، قال أبو عبيد البكري: البلاط بالمدينة ما بين المسجد والسوق، وفي الموطأ عن عمه أبي سهيل بن مالك بن أبي عامر عن أبيه كنا نسمع قراءة عمر بن الخطاب ونحن عند دار أبي جهم بالبلاط وقد استشكل ابن بطال هذه الترجمة فقال: البلاط وغيره في ذلك سواء، وأجاب ابن المنير بأنه أراد أن ينبه على أن الرجم لا يختص بمكان معين للأمر بالرجم بالمصلى تارة وبالبلاط أخرى، قال: ويحتمل أنه أراد أن ينبه على أنه لا يشترط الحفر للمرجوم لأن البلاط لا يتأتى الحفر فيه، وبهذا جزم ابن القيم وقال: أراد رد رواية بشير بن المهاجر عن أبي بريدة عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فحفرت لماعز بن مالك حفرة فرجم فيها " أخرجه مسلم قال: هو وهم سرى من قصة الغامدية إلى قصة ماعز قلت: ويحتمل أن يكون أراد أن ينبه على أن المكان الذي يجاور المسجد لا يعطي حكم المسجد في الاحترام لأن البلاط المشار إليه موضع كان مجاورا للمسجد النبوي كما تقدم ومع ذلك أمر بالرجم عنده، وقد وقع في حديث ابن عباس عند أحمد والحاكم "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم اليهوديين عند باب المسجد" . قوله: "حدثنا محمد بن عثمان"

(12/128)


زاد أبو ذر ابن كرامة. قوله: "عن سليمان". هو ابن بلال، وهو غريب ضاق على الإسماعيلي مخرجه فأخرجه عن عبد الله بن جعفر المديني أحد الضعفاء، ولو وقع عن سليمان بن بلال لم يعدل عنه، وكذا ضاق على أبي نعيم فلم يستخرجه بل أورده بسنده عن البخاري، وخالد بن مخلد أكثر البخاري عنه بواسطة وبغير واسطة، وقد تقدم له في الرقاق عن محمد بن عثمان بن كرامة عن خالد بن مخلد حديث، وتقدم في العلم والهبة والمناقب وغيرها عدة أحاديث، وكذا يأتي في التعبير والاعتصام عن خالد بن مخلد بغير واسطة. وقوله في المتن "قد أحدثا" أي فعلا أمرا فاحشا، وقوله: "أحدثوا" أي ابتكروا، وقوله: "تحميم الوجه" أي يصب عليه ماء حار مخلوط بالرماد والمراد تسخيم الوجه بالحميم وهو الفحم وقوله: "والتجبية " بفتح المثناة وسكون الجيم وكسر الموحدة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم هاء أصلية من جبهت الرجل إذا قابلته بما يكره من الإغلاظ في القول أو الفعل قاله ثابت في "الدلائل" وسبقه الحربي. وقال غيره هو بوزن تذكرة ومعناه الإركاب منكوسا، وقال عياض: فسر التجبية في الحديث بأنهما يجلدان ويحمم وجههما ويحملان على دابة مخالفا بين وجوههما، قال الحربي: كذا فسره الزهري، قلت: غلط من ضبطه هنا بالنون بدل الموحدة ثم فسره بأن يحمل الزانيان على بعير أو حمار ويخالف بين وجوههما والمعتمد ما قال أبو عبيدة، والتجبية أن يضع اليدين على الركبتين وهو قائم فيصير كالراكع وكذا أن ينكب على وجهه باركا كالساجد، وقال الفارابي: جبا بفتح الجيم وتشديد الموحدة قام قيام الراكع وهو عريان، والذي بالنون بعد الجيم إنما جاء في قوله: "فرأيت اليهودي أجنأ عليها " وقد ضبطت بالحاء المهملة ثم نون بلفظ الفعل الماضي أي أكب عليها يقال أحنت المرأة على ولدها حنوا وحنت بمعنى، وضبطت بالجيم والنون فعند الأصيلي بالهمز وعند أبي ذر بلا همز وهو بمعنى الذي بالمهملة. قال ابن القطاع: جنأ على الشيء حنا ظهره عليه. وقال الأصمعي: أجنأ الترس جعله مجنأ أي محدوبا، وقال عياض: الصحيح في هذا ما قاله أبو عبيدة يعني بالجيم والهمز والله أعلم، وسيأتي مزيد لهذا في شرح حديث اليهوديين في "باب أحكام الذمة".

(12/129)


25- باب: الرَّجْمِ بِالْمُصَلَّى
6820- حَدَّثَنِا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: آحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ فَرَّ، فَأُدْرِكَ، فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ" ولَمْ يَقُلْ يُونُسُ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ "فَصَلَّى عَلَيْهِ"
سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ "فَصَلَّى عَلَيْهِ" يَصِحُّ أم لا؟ قَالَ رَوَاهُ مَعْمَرٌ، قِيلَ لَهُ هل رَوَاهُ غَيْرُ مَعْمَرٍ؟ قَالَ: لاَ
قوله: "باب الرجم بالمصلي" أي عنده والمراد المكان الذي كان يصلي عنده العيد والجنائز، وهو من ناحية بقيع؟ الغرقد، وقد وقع في حديث أبي سعيد عند مسلم: "فأمرنا أن نرجمه، فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد " وفهم بعضهم كعياض من قوله: "بالمصلى" أن الرجم وقع داخله وقال: يستفاد منه أن المصلي لا يثبت له حكم

(12/129)


المسجد إذ لو ثبت له ذلك لاجتنب الرجم فيه لأنه لا يؤمن التلويث من المرجوم خلافا لما حكاه الدارمي أن المصلي يثبت له حكم المسجد ولو لم يوقف، وتعقب بأن المراد أن الرجم وقع عنده لا فيه كما تقدم في البلاط، وأن في حديث ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين عند باب المسجد " وفي رواية موسى ابن عقبة " أنهما رجما قريبا من موضع الجنائز قرب المسجد " وبأنه ثبت في حديث أم عطية الأمر بخروج النساء حتى الحيض في العيد إلى المصلى وهو ظاهر في المراد والله أعلم. وقال النووي: ذكر الدارمي من أصحابنا أن مصلى العيد وغيره إذا لم يكن مسجدا يكون في ثبوت حكم المسجد له وجهان أصحهما لا، وقال البخاري وغيره في رجم هذا بالمصلى دليل على أن مصلى الجنائز والأعياد إذا لم يوقف مسجدا لا يثبت له حكم المسجد إذ لو كان له حكم المسجد لاجتنب فيه ما يجتنب في المسجد. قلت: وهو كلام عياض بعينه وليس للبخاري منه سوى الترجمة. قوله: "حدثنا محمود" في رواية غير أبي ذر " حدثني " وللنسفي " محمود بن غيلان " وهو المروزي وقد أكثر البخاري عنه. قوله: "أخبرنا معمر" في رواية إسحاق بن راهويه في مسنده عن عبد الرزاق " أنبأنا معمر وابن جريج " وكذا أخرجه مسلم عن إسحاق. قوله: "فاعترف بالزنا" زاد في رواية إسحاق " فأعرض عنه " أعادها مرتين. قوله: "فأمر به فرجم بالمصلى" ليس في رواية يونس " بالمصلى " وقد تقدمت في " باب رجم المحصن " وسيأتي في رواية عبد الرحمن بن خالد بلفظ كنت فيمن رجمه فرجمناه "بالمصلى". قوله: "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرا" أي ذكره بجميل، ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم: "فما استغفر له ولا سبه " وفي حديث بريدة عنده " فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول ما توبة أفضل من توبة ماعز، فلبثوا ثلاثا ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: استغفروا لماعز بن مالك " وفي حديث بريدة أيضا: "لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لوسعتهم " وفي حديث أبي هريرة عند النسائي: "لقد رأيته بين أنهار الجنة ينغمس " قال يعني يتنعم كذا في الأصل، وفي حديث جابر عند أبي عوانة " فقد رأيته يتخضخض في أنهار الجنة " وفي حديث اللجلاج عند أبي داود والنسائي: "ولا تقل له خبيث لهو عند الله أطيب من ريح المسك " وفي حديث أبي الفيل عند الترمذي " لا تشتمه " وفي حديث أبي ذر عند أحمد "قد غفر له وأدخل الجنة". قوله: "وصلى عليه" هكذا وقع هنا عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق، وخالفه محمد بن يحيى الذهلي وجماعة عن عبد الرزاق فقالوا في آخره: "ولم يصل عليه " قال المنذري في حاشية السنن: رواه ثمانية أنفس عن عبد الرزاق فلم يذكروا قوله: "وصلى عليه " قلت: قد أخرجه أحمد في مسنده عن عبد الرزاق ومسلم عن إسحاق بن راهويه وأبو داود عن محمد بن المتوكل العسقلاني وابن حبان من طريقه زاد أبو داود والحسن بن علي الخلال والترمذي عن الحسن بن علي المذكور، والنسائي وابن الجارود عن محمد بن يحيى الذهلي، زاد النسائي ومحمد بن رافع ونوح بن حبيب والإسماعيلي والدار قطني من طريق أحمد بن منصور الرمادي. زاد الإسماعيلي، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، وأخرجه أبو عوانة عن الدبري ومحمد بن سهل الصغاني فهؤلاء أكثر من عشرة أنفس خالفوا محمودا منهم من سكت عن الزيادة ومنهم من صرح بنفيها. قوله: "ولم يقال يونس وابن جريج عن الزهري: وصلى عليه" أما رواية يونس فوصلها المؤلف رحمه الله كما تقدم في " باب رجم المحصن " ولفظه: "فأمر به فرجم وكان قد أحصن" وأما رواية ابن جريج فوصلها مسلم مقرونة برواية معمر ولم يسق المتن وساقه إسحاق شيخ مسلم في مسنده وأبو نعيم من طريقه فلم يذكر فيه: "وصلى عليه". قوله: "سئل أبو عبد

(12/130)


الله هل قوله: "فصلى عليه" يصح أم لا؟ قال: رواه معمر، قبل له: هل رواه غير معمر؟ قال: لا" وقع هذا الكلام في رواية المستملي وحده عن الفربري، وأبو عبد الله هو البخاري، وقد اعترض عليه في جزمه بأن معمرا روى هذه الزيادة مع أن المنفرد بها إنما هو محمود بن غيلان عن عبد الرزاق، وقد خالفه العدد الكثير من الحفاظ فصرحوا بأنه لم يصل عليه، لكن ظهر لي أن البخاري قويت عنده رواية محمود بالشواهد، فقد أخرج عبد الرزاق أيضا وهو في السنن لأبي قرة من وجه آخر عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف في قصة ماعز قال: "فقيل يا رسول الله أتصلي عليه؟ قال: لا. قال: فلما كان من الغد قال: صلوا على صاحبكم، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس " فهذا الخبر يجمع الاختلاف فتحمل رواية النفي على أنه لم يصل عليه حين رجم، ورواية الإثبات على أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه في اليوم الثاني، وكذا طريق الجمع لما أخرجه أبو داود عن بريدة " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالصلاة على ماعز ولم ينه عن الصلاة عليه " ويتأيد بما أخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة الجهنية التي زنت ورجمت " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليها، فقال له عمر: أتصلي عليها وقد زنت؟ فقال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين لوسعتهم " وحكى المنذري قول من حمل الصلاة في الخبر على الدعاء، ثم قال: في قصة الجهنية دلالة على توهين هذا الاحتمال، قال: وكذا أجاب النووي فقال: إنه فاسد لأن التأويل لا يصار إليه إلا عند الاضطرار إليه ولا اضطرار هنا. وقال ابن العربي: لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ماعز، قال وأجاب من منع عن صلاته على الغامدية لكونها عرفت حكم الحد وماعز إنما جاء مستفهما، قال: وهو جواب واه، وقيل لأنه قتله غضبا لله وصلاته رحمة فتنافيا، قال: وهذا فاسد لأن الغضب انتهى، قال: ومحل الرحمة باق، والجواب المرضي أن الإمام حيث ترك الصلاة على المحدود كان ردعا لغيره. قلت: وتمامه أن يقال: وحيث صلى عليه يكون هناك قرينة لا يحتاج معها إلى الردع فيختلف حينئذ باختلاف الأشخاص، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة فقال مالك: يأمر الإمام بالرجم ولا يتولاه بنفسه ولا يرفع عنه حتى يموت، ويخلي بينه وبين أهله يغسلونه ويصلون عليه ولا يصلى عليه الإمام ردعا لأهل المعاصي إذا علموا أنه ممن لا يصلى عليه، ولئلا يجترئ الناس على مثل فعله. وعن بعض المالكية: يجوز للإمام أن يصلي عليه وبه قال الجمهور، والمعروف عن مالك أنه يكره للإمام وأهل الفضل الصلاة على المرجوم، وهو قول أحمد، وعن الشافعي لا يكره وهو قول الجمهور، وعن الزهري لا يصلى على المرجوم ولا على قاتل نفسه، وعن قتادة لا يصلى على المولود من الزنا وأطلق عياض فقال لم يختلف العلماء في الصلاة على أهل الفسق والمعاصي والمقتولين في الحدود وإن كره بعضهم ذلك لأهل الفضل إلا ما ذهب إليه أبو حنيفة في المحاربين وما ذهب إليه الحسن في الميتة من نفاس الزنا وما ذهب إليه الزهري وقتادة، قال: وحديث الباب في قصة الغامدية حجة للجمهور والله أعلم.

(12/131)


26- باب: مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا دُونَ الْحَدِّ فَأَخْبَرَ الإِمَامَ فَلاَ عُقُوبَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا . قَالَ عَطَاءٌ: لَمْ يُعَاقِبْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَلَمْ يُعَاقِبْ الَّذِي جَامَعَ فِي رَمَضَانَ، وَلَمْ يُعَاقِبْ عُمَرُ صَاحِبَ الظَّبْيِ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6821- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(12/131)


عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، فَاسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا"
6822- وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ "عَنْ عَائِشَةَ: "أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: احْتَرَقْتُ. قَالَ: مِمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ بِامْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ لَهُ: تَصَدَّقْ قَالَ. مَا عِنْدِي شَيْءٌ فَجَلَسَ، وَأَتَاهُ إِنْسَانٌ يَسُوقُ حِمَارًا وَمَعَهُ طَعَامٌ - قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، مَا أَدْرِي مَا هُوَ - إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ؟ فَقَالَ: هَا أَنَا ذَا. قَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنِّي؟ مَا لِأَهْلِي طَعَامٌ. قَالَ: فَكُلُوهُ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْحَدِيثُ الأَوَّلُ أَبْيَنُ، قَوْلُهُ "أَطْعِمْ أَهْلَكَ"
قوله: "باب من أصاب ذنبا دون الحد فأخبر الإمام فلا عقوبة عليه بعد التوبة إذا جاء مستفتيا" كذا للأكثر بفاء ساكنة بعدها مثناة مكسورة ثم ياء آخر الحروف من الاستفتاء، ويؤيده قوله في حديث الباب: "فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية الكشميهني: "مستعينا " وضبطت بالمهملة وبالنون قبل الألف وبالمعجمة ثم المثلثة، والتقييد بدون الحد يقتضى أن من كان ذنبه يوجب الحد أن عليه العقوبة ولو تاب، وقد مضى الاختلاف في ذلك في أوائل الحدود، وأما التقييد الأخير فلا مفهوم له بل الذي يظهر أنه ذكر لدلالته على توبته. قوله: "قال عطاء لم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم" أي الذي أخبر أنه وقع في معصية بلا مهلة حتى صلى معه فأخبره بأن صلاته كفرت ذنبه. قوله: "وقال ابن جريج: ولم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم الذي جامع في رمضان" تقدم شرحه مستوفي في كتاب الصيام وليس في شيء من طرقه أنه عاقبه. قوله: "ولم يعاقب عمر صاحب الظبي" كأنه أشار بذلك إلى ما ذكره مالك منقطعا ووصله سعيد بن منصور بسند صحيح عن قبيصة بن جابر قال: "خرجنا حجاجا فسنح لي ظبي فرميته بحجر فمات، فلما قدمنا مكة سألنا عمر فسأل عبد الرحمن بن عوف فحكما فيه بعنز، فقلت إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال فعلاني بالدرة فقال: أتقتل الصيد في الحرم وتسفه الحكم؟ قال الله تعالى :{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وهذا عبد الرحمن بن عوف وأنا عمر " ولا يعارض هذا المنفي الذي في الترجمة لأن عمر إنما علاه بالدرة لما طعن في الحكم وإلا لو وجبت عليه عقوبة بمجرد الفعل المذكور لما أخرها. قوله: "وفيه عن أبي عثمان عن ابن مسعود" أي في معنى الحكم المذكور في الترجمة حديث مروي عن أبي عثمان عن ابن مسعود وزاد الكشميهني: "مثله " وهي زيادة لا حاجة إليها لأنه يصير ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب صاحب الظبي، ووقع في بعض النسخ "عن أبي مسعود" وهو غلط والصواب "ابن مسعود" وقد وصله المؤلف رحمه الله في أوائل كتاب الصلاة في " باب الصلاة كفارة " من رواية سليمان التيمي عن أبي عثمان به وأوله " إن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية وقد ذكرت شرحه في تفسير سورة هود، وأن الأصح في تسمية هذا الرجل أنه أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، وأن نحو ذلك وقع لجماعة غيره. قوله: "عن حميد بن عبد الرحمن" هو ابن عوف الزهري، وقد

(12/132)


تقدم شرح حديثه مستوفي في كتاب الصيام. قوله: "وقال الليث إلخ" وصله المصنف في التاريخ الصغير قال: "حدثني عبد الله بن صالح حدثني الليث به " ورويناه موصولا أيضا في الأوسط للطبراني والمستخرج للإسماعيلي. قوله: "عن عمرو بن الحارث" لليث فيه سند آخر أخرجه مسلم عن قتيبة ومحمد بن رمح كلاهما عن الليث عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقد مضى في الصيام من وجه آخر عن يحيى بن سعيد موصولا وأخرجه مسلم من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث. قوله: "عن عبد الرحمن بن القاسم" أي ابن محمد بن أبي بكر الصديق "عن محمد بن جعفر بن الزبير" أي ابن العوام "عن عباد" وهو ابن عمه. ووقع في رواية ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه أن محمد بن جعفر بن الزبير حدثه أن عباد بن عبد الله حدثه. قوله: "عن عائشة" في رواية ابن وهب "أنه سمع عائشة". قوله: "أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد" زاد في رواية ابن وهب "في رمضان". قوله: "فقال احترقت" كررها ابن وهب. قوله: "قال مم ذاك" في رواية ابن وهب "فسأله عن شأنه". قوله: "قال ما عندي شيء" في رواية ابن وهب " فقال يا نبي الله مالي شيء وما أقدر عليه". قوله: "فجلس فأتاه إنسان" في رواية ابن وهب " قال اجلس فجلس فبينما هو على ذلك أقبل رجل". قوله: "ومعه طعام فقال عبد الرحمن" هو ابن القاسم راوي الحديث "ما أدري ما هو" مقول عبد الرحمن، وفي رواية الكشميهني: "قال: "بغير فاء ولم يقع هذا في رواية الليث، ووقع فيها عند الإسماعيلي: "عرقان فيهما طعام" وقال: "قال أبو صالح عن الليث عرق " وكذا قال عبد الوهاب يعني الثقفي ويزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد، قال الإسماعيلي: وعرقان ليس بمحفوظ. قوله: "أين المحترق" زاد ابن وهب "آنفا". قوله: "على أحوج مني" ؟ هو استفهام حذفت أداته، ووقع في رواية ابن وهب " أغيرنا " أي أعلى غيرنا. قوله: "ما لأهلي طعام" في رواية ابن وهب "إنا الجياع ما لنا شيء". قوله: "قال فكلوا" في رواية ابن وهب "قال فكلوه" وقد مضى شرحه في الصيام.

(12/133)


باب إذا أقر لالحد و لم يبين هل للامام أن يستر عليه
...
27- باب إِذَا أَقَرَّ بِالْحَدِّ وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ؟
6823- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلاَبِيُّ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، قَالَ وَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاَةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ. قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ، أَوْ قَالَ: حَدَّكَ"
قوله: "باب إذا أقر بالحد ولم يبين" أي لم يفسره "هل للإمام أن يستر عليه" تقدم في الباب الذي قبله التنبيه على حديث أبي أمامة في ذلك وهو يدخل في هذا المعنى. قوله: "حدثنا عبد القدوس بن محمد" أي ابن عبد الكبير بن شعيب بن الحبحاب بمهملتين مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة وآخره موحدة، هو بصري صدوق وماله في البخاري إلا هذا الحديث الواحد، وعمرو ابن عاصم هو الكلابي وهو من شيوخ البخاري أخرج عنه بغير واسطة في الأدب وغيره، وقد طعن الحافظ أبو بكر البرزنجي في صحة هذا الخبر مع كون الشيخين اتفقا عليه فقال هو منكر وهم

(12/133)


وفيه عمرو بن عاصم مع أن هماما كان يحيى بن سعيد لا يرضاه ويقول: أبان العطار أمثل منه، قلت: لم يبين وجه الوهم، وأما إطلاقه كونه منكرا فعلى طريقته في تسميته ما ينفرد به الراوي منكرا إذا لم يكن له متابع، لكن يجاب بأنه وإن لم يوجد لهمام ولا لعمرو بن عاصم فيه متابع فشاهده حديث أبي أمامة الذي أشرت إليه، ومن ثم أخرجه مسلم عقبه والله أعلم. قوله: "فجاء رجل فقال: إني أصبت حدا فأقمه على" لم أقف على اسمه، ولكن من وحد هذه القصة والتي في حديث ابن مسعود فسره به وليس بجيد لاختلاف القصتين، وعلى التعدد جرى البخاري في هاتين الترجمتين فحمل الأولى على من أقر بذنب دون الحد للتصريح بقوله: "غير أني لم أجامعها " وحمل الثانية على ما يوجب الحد ظاهر قول الرجل، وأما من وحد بين القصتين فقال لعله ظن ما ليس بحد حدا، أو استعظم الذي فعله فظن أنه يجب فيه الحد، ولحديث أنس شاهد أيضا من رواية الأوزاعي عن شداد أبي عمار عن وائلة. قوله: "ولم يسأل عنه" أي لم يستفسره، وفي حديث أبي أمامة عند مسلم: "فسكت عنه ثم عاد " قوله: "وحضرت الصلاة" في حديث أبي أمامة " وأقيمت " قوله: "أليس قد صليت معنا" في حديث أبي أمامة " أليس حيث خرجت من بيتك توضأت فأحسنت الوضوء؟ قال: بلى. قال: ثم شهدت معنا الصلاة؟ قال: نعم " قوله: "ذنبك أو قال حدك" في رواية مسلم عن الحسن بن علي الحلواني عن عمرو بن عاصم بسنده فيه: "قد غفر لك " وفي حديث أبي أمامة بالشك ولفظه: "فإن الله قد غفر لك ذنبك أو قال حدك". وقد اختلف نظر العلماء في هذا الحكم، فظاهر ترجمة البخاري حمله على من أقر بحد ولم يفسره فإنه لا يجب على الإمام أن يقيمه عليه إذا تاب، وحمله الخطابي على أنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع بالوحي على أن الله قد غفر له لكونها واقعة عين، وإلا لكان يستفسره عن الحد ويقيمه عليه، وقال أيضا في هذا الحديث أنه لا يكشف عن الحدود بل يدفع مهما أمكن، وهذا الرجل لم يفصح بأمر يلزمه به إقامة الحد عليه فلعله أصاب صغيرة ظنها كبيرة توجب الحد فلم يكشفه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لأن موجب الحد لا يثبت بالاحتمال، وإنما لم يستفسره إما لأن ذلك قد يدخل في التجسيس المنهي عنه وإما إيثار للستر ورأى أن في تعرضه لإقامة الحد عليه ندما ورجوعا، وقد استحب العلماء تلقين من أقر بموجب الحد بالرجوع عنه إما بالتعريض وإما بأوضح منه ليدرأ عنه الحد، وجزم النووي وجماعة أن الذنب الذي فعله كان من الصغائر بدليل أن في بقية الخبر أنه كفرته الصلاة بناء على أن الذي تكفره الصلاة من الذنوب الصغائر لا الكبائر، وهذا هو الأكثر الأغلب، وقد تكفر الصلاة بعض الكبائر كمن كثر تطوعه مثلا بحيث صلح لأن يكفر عددا كثيرا من الصغائر ولم يكن عليه من الصغائر شيء أصلا أو شيء يسير وعليه كبيرة واحدة مثلا فإنها تكفر عنه ذلك لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. قلت: وقد وقع في رواية أبي بكر البرزنجي عن محمد بن عبد الملك الواسطي عن عمرو بن عاصم بسند حديث الباب بلفظ: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني زنيت فأقم علي الحد " الحديث فحمله بعض العلماء على أنه ظن ما ليس زنا زنا فلذلك كفرت ذنبه الصلاة، وقد يتمسك به من قال إنه إذا جاء تائبا سقط عنه الحد، ويحتمل أن يكون الراوي عبر بالزنا من قوله أصبت حدا فرواه بالمعنى الذي ظنه والأصل ما في الصحيح فهو الذي اتفق عليه الحفاظ عن عمرو ابن عاصم بسنده المذكور، ويحتمل أن يختص ذلك بالمذكور لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد كفر عنه حده بصلاته، فإن ذلك لا يعرف إلا بطريق الوحي فلا يستمر الحكم في غيره إلا في من علم أنه مثله في ذلك وقد انقطع علم ذلك بانقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تمسك بظاهره

(12/134)


صاحب الهدى فقال للناس في حديث أبي أمامة - يعني المذكور قبل - ثلاث مسالك: أحدها أن الحد لا يجب إلا بعد تعيينه والإصرار عليه من المقر به، والثاني أن ذلك يختص بالرجل المذكور في القصة، والثالث أن الحد يسقط بالتوبة، قال: وهذا أصح المسالك، وقواه بأن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا بخشية الله وحده تقاوم السيئة التي عملها، لأن حكمة الحدود الردع عن العود، وصنيعه ذلك دال على ارتداعه فناسب رفع الحد عنه لذلك والله أعلم.

(12/135)


28- باب هَلْ يَقُولُ الإِمَامُ لِلْمُقِرِّ: لَعَلَّكَ لَمَسْتَ أَوْ غَمَزْتَ؟
6824- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ يَعْلَى بْنَ حَكِيمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ؟ قَالَ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا؟ - لاَ يَكْنِي
قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ"
قوله: "باب هل يقول الإمام للمقر" أي بالزنا "لعلك لمست أو غمزت" هذه الترجمة معقودة لجواز تلقين الإمام المقر بالحد ما يدفعه عنه، وقد خصه بعضهم بمن يظن به أنه أخطأ أو جهل. قوله: "سمعت يعلى بن حكيم" في رواية موسى بن إسماعيل عند أبي داود عن جرير بن حازم " حدثنا يعلى " ولم يسم أباه في روايته فظن بعضهم أنه ابن مسلم وليس كذلك للتصريح في إسناد هذا الباب بأنه ابن حكيم. قوله: "عن ابن عباس" لم يذكره موسى في روايته بل أرسله وأشار إلى ذلك أبو داود، وكان البخاري لم يعتبر هذه العلة لأن وهب بن جرير وصله وهو أخبر بحديث أبيه من غيره، ولأنه ليس دون موسى في الحفظ، ولأن أصل الحديث معروف عن ابن عباس فقد أخرجه أحمد وأبو داود من رواية خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قوله: "لما أتى ماعز بن مالك" في رواية خالد الحذاء " إن ماعز بن مالك أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه زنى فأعرض عنه، فأعاد عليه مرار، فسأل قومه: أمجنون هو؟ قالوا ليس به بأس " وسنده على شرط البخاري، وذكر الطبراني في "الأوسط" أن يزيد بن زريع تفرد به عن خالد الحذاء. قوله: "قال له لعلك قبلت" حذف المفعول للعلم به أي المرأة المذكورة ولم يعين محل التقبيل وقوله: "أو غمزت " بالغين المعجمة والزاي أي بعينك أو يدك أي أشرت " أو المراد بغمزت بيدك الجس أو وضعها على عضو الغير، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "لمست " بدل " غمزت " وقد وقع في رواية يزيد بن هارون عن جرير بن حازم عند الإسماعيلي بلفظ: "لعلك قبلت أو لمست". قوله: "أو نظرت" أي فأطلقت على أي واحدة فعلت من الثلاث زنا ففيه إشارة إلى الحديث الآخر المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة "العين تزني وزناها النظر" وفي بعض طرقه عندهما أو عند أحدهما ذكر اللسان واليد والرجل والأذن، زاد أبو داود والفم، وعندهم "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" وفي الترمذي وغيره عن أبي موسى الأشعري رفعه: "كل عين زانية". قوله: "أنكتها" بالنون والكاف "لا يكنى" أي تلفظ بالكلمة المذكورة ولم يكن عنها بلفظ آخر، وقد وقع في رواية خالد بلفظ: "أفعلت بها" وكأن هذه الكناية صدرت منه أو من شيخه للتصريح في رواية الباب بأنه لم يكن، وقد تقدم في حديث أبي هريرة

(12/135)


الذي تقدمت الإشارة إلى أن أبا داود أخرجه في "باب لا يرجم المجنون" زيادات في هذه الألفاظ. قوله: "فعند ذلك أمر برجمه" زاد خالد الحذاء في روايته: "فانطلق به فرجم ولم يصل عليه".

(12/136)


29- باب: سُؤَالِ الإِمَامِ الْمُقِرَّ: هَلْ أَحْصَنْتَ؟
6825- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: "أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ النَّاسِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ - يُرِيدُ نَفْسَهُ - فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ لِشِقِّ وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ"
6826- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرًا قَالَ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ، حَتَّى أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ"
قوله: "باب سؤال الإمام المقر هل أحصنت" أي تزوجت ودخلت بها وأصبتها. قوله: "رجل من الناس" أي ليس من أكابر الناس ولا بالمشهور فيهم. قوله: "زنيت يريد نفسه" أي أنه لم يجيء مستفتيا لنفسه ولا لغيره وإنما جاء مقرا بالزنا ليفعل معه ما يجب عليه شرعا، وقد تقدمت فوائد الحديث المذكور فيه في " باب لا يرجم المجنون " قال ابن التين: محل مشروعية سؤال المقر بالزنا عن ذلك إذا كان لم يعلم أنه تزوج تزويجا صحيحا ودخل بها، فأما إذا علم إحصانه فلا يسأل عن ذلك. ثم حكى عن المالكية تفصيلا فيما إذا علم أنه تزوج ولم يسمع منه إقرارا بالدخول فقيل: من أقام مع الزوجة ليلة واحدة لم يقبل إنكاره، وقيل أكثر من ذلك. وهل يحد حد الثيب أو البكر؟ الثاني أرجح، وكذا إذا اعترف الزوج بالإصابة. ثم قال: إنما اعترفت بذلك لأملك الرجعة أو اعترفت المرأة ثم قالت: إنما فعلت ذلك لأستكمل الصداق، فإن كلا منهما يحد حد البكر انتهى. وعند غيرهم يرفع الحد أصلا. ونقل الطحاوي عن أصحابهم أن من قال لآخر يا زاني فصدقه أنه يجلد القائل ولا يحد المصدق. وقال زفر بل يحد، قلت: وهو قول الجمهور، ورجح الطحاوي قول زفر واستدل بحديث الباب وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز " أحق ما بلغني عنك أنك زنيت؟ قال: نعم، فحده " قال وباتفاقهم على أن من قال لآخر لي عليك ألف فقال صدقت أنه يلزمه المال.
30- باب: الِاعْتِرَافِ بِالزِّنَا
6827 ، 6828- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّهُ "سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ قَالاَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ: رَجُلٌ فَقَالَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلاَّ قَضَيْتَ

(12/136)


بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ فَقَالَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي قَالَ قُلْ قَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَعَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ، عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا. فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا" قُلْتُ لِسُفْيَانَ: لَمْ يَقُلْ "فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ" فَقَالَ: الشَّكُّ فِيهَا مِنْ الزُّهْرِيِّ، فَرُبَّمَا قُلْتُهَا وَرُبَّمَا سَكَتُّ
6829- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ عُمَرُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ لاَ نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، أَلاَ وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَمَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ. قَالَ سُفْيَانُ: كَذَا حَفِظْتُ، أَلاَ وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ"
قوله: "باب الاعتراف بالزنا" هكذا عبر بالاعتراف لوقوعه في حديثي الباب، وقد تقدم في شرح قصة ماعز البحث في أنه هل يشترط في الإقرار بالزنا التكرير أو لا؟ واحتج من اكتفى بالمرة بإطلاق الاعتراف في الحديث ولا يعارض ما وقع في قصة ماعز من تكرار الاعتراف لأنها واقعة حال كما تقدم. قوله "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "حفظناه من في الزهري" في رواية الحميدي عن سفيان " حدثنا الزهري " وفي رواية عبد الجبار ابن العلاء عن سفيان عند الإسماعيلي: "سمعت الزهري". قوله: "أخبرني عبيد الله" زاد الحميدي " ابن عبد الله بن عتبة". قوله: "أنه سمع أبا هريرة وزيد بن خالد" في رواية الحميدي " عن زيد بن خالد الجهني وأبي هريرة وشبل " وكذا قال أحمد وقتيبة عند النسائي وهشام بن عمار وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح عند ابن ماجه وعمرو بن علي وعبد الجبار بن العلاء والوليد بن شجاع وأبو خيثمة ويعقوب الدورقي وإبراهيم ابن سعيد الجوهري عند الإسماعيلي وآخرون عن سفيان. وأخرجه الترمذي عن نصر بن علي وغير واحد عن سفيان ولفظه: "سمعت من أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل لأنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الترمذي: هذا وهم من سفيان، وإنما روى عن الزهري بهذا السند حديث: "إذا زنت الأمة " فذكر فيه شبلا، وروى حديث الباب بهذا السند ليس فيه شبل فوهم سفيان في تسويته بين الحديثين. قلت: وسقط ذكر شبل من رواية الصحيحين من طريقه لهذا الحديث، وكذا أخرجاه من طرق عن الزهري: منها عن مالك والليث وصالح بن كيسان، وللبخاري من رواية ابن أبي ذئب وشعيب بن أبي حمزة، ولمسلم من رواية يونس بن يزيد ومعمر كلهم عن الزهري ليس فيه شبل، قال الترمذي وشبل لا صحبة له، والصحيح ما روى الزبيدي ويونس وابن أخي الزهري فقالوا عن الزهري " عن عبيد الله عن شبل بن خالد عن عبد الله بن مالك الأوسي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة إذا زنت". قلت: ورواية الزبيدي عند النسائي، وكذا أخرجه من رواية يونس عن الزهري، وليس هو في الكتب الستة من هذا الوجه إلا عند النسائي، وليس فيه: "كنت

(12/137)


عند النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية شعيب " بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية ابن أبي ذئب " وهو جالس في المسجد". قوله: "فقام رجل" في رواية ابن أبي ذئب الآتية قريبا وصالح بن كيسان الآتية في الأحكام والليث الماضية في الشروط " إن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس " وفي رواية شعيب في الأحكام " إذ قام رجل من الأعراب " وفي رواية مالك الآتية قريبا " إن رجلين اختصما". قوله: "أنشدك الله" في رواية الليث " فقال يا رسول الله أنشدك الله " بفتح أوله ونون ساكنة وضم الشين المعجمة أي أسألك بالله، وضمن أنشدك معنى أذكرك فحذف الباء أي أذكرك رافعا نشيدتي أي صوتي، هذا أصله ثم استعمل في كل مطلوب مؤكد ولو لم يكن هناك رفع صوت، وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل رفع الرجل صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم مع النهي عنه ثم أجاب عنه بأنه لم يبلغه النهي لكونه أعرابيا، أو النهي لمن يرفعه حيث يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم على ظاهر الآية. وذكر أبو علي الفارسي أن بعضهم رواه بضم الهمزة وكسر المعجمة وغلطه. قوله: "إلا قضيت بيننا بكتاب الله" في رواية الليث " إلا قضيت لي بكتاب الله " قيل فيه استعمال الفعل بعد الاستثناء بتأويل المصدر وإن لم يكن فيه حرف مصدري لضرورة افتقار المعنى إليه، وهو من المواضع التي يقع فيها الفعل موقع الاسم ويراد به النفي المحصور فيه المفعول، والمعنى هنا لا أسألك إلا القضاء بكتاب الله، ويحتمل أن تكون إلا جواب القسم لما فيها من معنى الحصر وتقديره أسألك بالله لا تفعل شيئا إلا القضاء، فالتأكيد إنما وقع لعدم التشاغل بغيره لا لأن لقوله: "بكتاب الله " مفهوما، وبهذا يندفع إيراد من استشكل فقال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم إلا بكتاب الله فما فائدة السؤال والتأكيد في ذلك؟ ثم أجاب بأن ذلك من جفاة الأعراب والمراد بكتاب الله ما حكم به وكتب على عباده، وقيل المراد القرآن وهو المتبادر. وقال ابن دقيق العيد: الأول أولى لأن الرجم والتغريب ليسا مذكورين في القرآن إلا بواسطة أمر الله باتباع رسوله، قيل وفيما قال نظر لاحتمال أن يكون المراد ما تضمنه قوله تعالى :{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن السبيل جلد البكر ونفيه ورجم الثيب. قلت: وهذا أيضا بواسطة التبيين، ويحتمل أن يراد بكتاب الله الآية التي نسخت تلاوتها وهي " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما " وسيأتي بيانه في الحديث الذي يليه، وبهذا أجاب البيضاوي ويبقى عليه التغريب، وقيل المراد بكتاب الله ما فيه من النهي عن أكل المال بالباطل لأني خصمه كان أخذ منه الغنم والوليدة بغير حق فلذلك قال: "الغنم والوليدة رد عليك". والذي يترجح أن المراد بكتاب الله ما يتعلق بجميع أفراد القصة مما وقع به الجواب الآتي ذكره، والعلم عند الله تعالى. قوله: "فقام خصمه وكان أفقه منه" في رواية مالك " فقال الآخر وهو أفقههما " قال شيخنا في "شرح الترمذي" يحتمل أن يكون الراوي كان عارفا بهما قبل أن يتحاكما فوصف الثاني بأنه أفقه من الأول إما مطلقا وإما في هذه القصة الخاصة، أو استدل بحسن أدبه في استئذانه وترك رفع صوته إن كان الأول رفعه وتأكيده السؤال على فقهه، وقد ورد أن حسن السؤال نصف العلم، وأورده ابن السني في " كتاب رياضة المتعلمين " حديثا مرفوعا بسند ضعيف. قوله: "فقال اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي" في رواية مالك " فقال أجل " وفي رواية الليث " فقال نعم فاقض " وفي رواية ابن أبي ذئب وشعيب " فقال صدق اقض له يا رسول الله بكتاب الله". قوله: "وائذن لي" زاد ابن أبي شيبة عن سفيان "حتى أقول" وفي رواية مالك "أن أتكلم". قوله: "قل" في رواية محمد بن يوسف "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قل" وفي رواية مالك "قال تكلم". قوله: "قال" ظاهر

(12/138)


السياق أن القائل هو الثاني، وجزم الكرماني بأن القائل هو الأول واستند في ذلك لما وقع في كتاب الصلح عن آدم عن ابن أبي ذئب هنا " فقال الأعرابي إن ابني " بعد قوله في أول الحديث: "جاء أعرابي، وفيه: "فقال خصمه " وهذه الزيادة شاذة والمحفوظ ما في سائر الطرق كما في رواية سفيان في هذا الباب، وكذا وقع في الشروط عن عاصم بن علي عن ابن أبي ذئب موافقا للجماعة ولفظه: "فقال صدق، اقض له يا رسول الله بكتاب الله، إن ابني إلخ " فالاختلاف فيه على ابن أبي ذئب، وقد وافق آدم أبو بكر الحنفي عند أبي نعيم في " المستخرج " ووافق عاصما يزيد بن هارون عند الإسماعيلي. قوله: "إن ابني هذا" فيه أن الابن كان حاضرا فأشار إليه، وخلا معظم الروايات عن هذه الإشارة. قوله: "كان عسيفا على هذا" هذه الإشارة الثانية لخصم المتكلم وهو زوج المرأة، زاد شعيب في روايته: "والعسيف الأجير " وهذا التفسير مدرج في الخبر، وكأنه من قول الزهري لما عرف من عادته أنه كان يدخل كثيرا من التفسير في أثناء الحديث كما بينته في مقدمة كتابي في المدرج، وقد فصله مالك فوقع في سياقه، " كان عسيفا على هذا. قال مالك: والعسيف الأجير " وحذفها سائر الرواة، والعسيف بمهملتين الأجير وزنه ومعناه والجمع عسفاء كأجراء، ويطلق أيضا على الخادم وعلى العبد وعلى السائل، وقيل يطلق على من يستهان به، وفسره عبد الملك بن حبيب بالغلام الذي لم يحتلم، وإن ثبت ذلك فإطلاقه على صاحب هذه القصة باعتبار حاله في ابتداء الاستئجار. ووقع في رواية للنسائي تعيين كونه أجيرا، ولفظه من طريق عمرو بن شعيب عن ابن شهاب " كان ابني أجيرا لامرأته " وسمي الأجير عسيفا لأن المستأجر يعسفه في العمل والعسف الجور، أو هو بمعنى الفاعل لكونه يعسف الأرض بالتردد فيها، يقال عسف الليل عسفا إذا أكثر السير فيه، ويطلق العسف أيضا على الكفاية، والأجير يكفي المستأجر الأمر الذي أقامه فيه. قوله: "على هذا" ضمن على معنى عند بدليل رواية عمرو بن شعيب، وفي رواية محمد بن يوسف " عسيفا في أهل هذا " وكأن الرجل استخدمه فيما تحتاج إليه امرأته من الأمور فكان ذلك سببا لما وقع له معها. قوله: "فزنى بامرأته فافتديت" زاد الحميدي عن سفيان " فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت " وقد ذكر على بن المديني رواية في آخره هنا أن سفيان كان يشك في هذه الزيادة فربما تركها، وغالب الرواة عنه كأحمد ومحمد بن يوسف وابن أبي شيبة لم يذكروها وثبتت عند مالك والليث وابن أبي ذئب وشعيب وعمرو بن شعيب، ووقع في رواية آدم " فقالوا لي على ابنك الرجم " وفي رواية الحميدي فأخبرت، بضم الهمزة على البناء للمجهول. وفي رواية أبي بكر الحنفي " فقال لي " بالإفراد، وكذا عند أبي عوانة من رواية ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب، فإن ثبتت فالضمير في قوله فافتديت منه لخصمه، وكأنهم ظنوا أن ذلك حق له يستحق أن يعفو عنه على مال يأخذه، وهذا ظن باطل، ووقع في رواية عمرو بن شعيب " فسألت من لا يعلم فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه". قوله: "بمائة شاة وخادم" المراد بالخادم الجارية المعدة للخدمة بدليل رواية مالك بلفظ: "وجارية لي " وفي رواية ابن أبي ذئب وشعيب " بمائة من الغنم ووليدة " وقد تقدم تفسير الوليدة في أواخر الفرائض. قوله: "ثم سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني" لم أقف على أسمائهم ولا على عددهم ولا على اسم الخصمين ولا الابن ولا المرأة. وفي رواية مالك وصالح بن كيسان وشعيب " ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني " ومثله لابن أبي ذئب لكن قال: "فزعموا" وفي رواية معمر " ثم أخبرني أهل العلم " وفي رواية عمرو بن شعيب "ثم سألت من يعلم". قوله: "أن على ابني" في رواية مالك " إنما على ابني". قوله: "جلد مائة" بالإضافة للأكثر، وقرأه

(12/139)


بعضهم بتنوين جلد مرفوع وتنوين مائة منصوب على التمييز ولم يثبت رواية. قوله: "وعلى امرأة هذا الرجم" في رواية مالك والأكثر " وإنما الرجم على امرأته " وفي رواية عمرو ابن شعيب " فأخبروني أن ليس على ابني الرجم". قوله: "والذي نفسي بيده" في رواية مالك " أما والذي". قوله: "لأقضين" بتشديد النون للتأكيد. قوله: "بكتاب الله" في رواية عمرو بن شعيب " بالحق " وهي ترجح أول الاحتمالات الماضي ذكرها. قوله: "المائة شاة والخادم رد" في رواية الكشميهني: "عليك " وكذا في رواية مالك ولفظه: "أما غنمك وجاريتك فرد عليك " أي مردود من إطلاق لفظ المصدر على اسم المفعول كقولهم ثوب نسج أي منسوج. ووقع في رواية صالح بن كيسان " أما الوليدة والغنم فردها " وفي رواية عمرو بن شعيب " أما ما أعطيته فرد عليك " فإن كان الضمير في أعطيته لخصمه تأيدت الرواية الماضية وإن كان للعطاء فلا. قوله: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام" قال النووي: هو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم علم أن الابن كان بكرا وأنه اعترف بالزنا، ويحتمل أن يكون أضمر اعترافه والتقدير وعلى ابنك إن اعترف، والأول أليق فإنه كان في مقام الحكم، فلو كان في مقام الإفتاء لم يكن فيه إشكال لأن التقدير إن كان زنى وهو بكر، وقرينة اعترافه حضوره مع أبيه وسكوته عما نسبه إليه، وأما العلم بكونه بكرا فوقع صريحا من كلام أبيه في رواية عمرو بن شعيب ولفظه: "كان ابني أجيرا لامرأة هذا وابني لم يحصن". قوله: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام" وافقه الأكثر، ووقع في رواية عمرو بن شعيب " وأما ابنك فنجلده مائة ونغربه سنة " وفي رواية مالك وصالح بن كيسان " وجلد ابنه مائة وغربه عاما " وهذا ظاهر في أن الذي صدر حينئذ كان حكما لا فتوى، بخلاف رواية سفيان ومن وافقه. قوله: "واغد يا أنيس" بنون ومهملة مصغر "على امرأة هذا" زاد محمد بن يوسف: فاسألها، قال ابن السكن في كتاب الصحابة: لا أدري من هو ولا وجدت له رواية ولا ذكرا إلا في هذا الحديث، وقال ابن عبد البر: هو ابن الضحاك الأسلمي وقيل ابن مرثد وقيل ابن أبي مرثد، وزيفوا الأخير بأن أنيس ابن أبي مرثد صحابي مشهور وهو غنوي بالغين المعجمة والنون لا أسلمي وهو بفتحتين لا التصغير، وغلط من زعم أيضا أنه أنس بن مالك وصغر كما صغر في رواية أخرى عند مسلم لأنه أنصاري لا أسلمي، ووقع في رواية شعيب وابن أبي ذئب " وأما أنت يا أنيس - لرجل من أسلم - فاغد " وفي رواية مالك ويونس وصالح ابن كيسان " وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر " وفي رواية معمر " ثم قال لرجل من أسلم يقال له أنيس قم يا أنيس فسل امرأة هذا " وهذا يدل على أن المراد بالغدو الذهاب والتوجه كما يطلق الرواح على ذلك، وليس المراد حقيقة الغدو وهو التأخير إلى أول النهار كما لا يراد بالرواح التوجه نصف النهار، وقد حكى عياض أن بعضهم استدل به على جواز تأخر إقامة الحد عند ضيق الوقت واستضعفه بأنه ليس في الخبر أن ذلك كان في آخر النهار. قوله: "فإن اعترفت فارجمها" في رواية يونس " وأمر أنيسا الأسلمي أن يرجم امرأة الآخر إذ اعترفت". قوله: "فغدا عليها فاعترفت فرجمها" كذا للأكثر، ووقع في رواية الليث " فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت " واختصره ابن أبي ذئب فقال: "فغدا عليها فرجمها " ونحوه في رواية صالح ابن كيسان، وفي رواية عمرو بن شعيب " وأما امرأة هذا فترجم " ورواية الليث أتمها لأنها تشعر بأن أنيسا أعاد جوابها عل النبي صلى الله عليه وسلم فأمر حينئذ برجمها ويحتمل أن يكون المراد أمره الأول المعلق على اعترافها فيتحد مع رواية الأكثر وهو أولى. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم الرجوع إلى كتاب الله نصا أو استنباطا، وجواز القسم على الأمر لتأكيده، والحلف بغير استحلاف، وحسن

(12/140)


خلق النبي صلى الله عليه وسلم وحلمه على من يخاطبه بما الأولى خلافه، وأن من تأسى به من الحكام في ذلك يحمد كمن لا ينزعج لقول الخصم مثلا احكم بيننا بالحق. وقال البيضاوي: إنما تواردا على سؤال الحكم بكتاب الله مع أنهما يعلمان أنه لا يحكم إلا بحكم الله ليحكم بينهما بالحق الصرف لا بالمصالحة ولا الأخذ بالأرفق، لأن للحاكم أن يفعل ذلك برضا الخصمين. وفيه أن حسن الأدب في مخاطبة الكبير يقتضي التقديم في الخصومة ولو كان المذكور مسبوقا، وأن للإمام أن يأذن لمن شاء من الخصمين في الدعوى إذا جاءا معا وأمكن أن كلا منهما يدعى، واستحباب استئذان المدعي والمستفتي الحاكم والعالم في الكلام، ويتأكد ذلك إذا ظن أن له عذرا. وفيه أن من أقر بالحد وجب على الإمام إقامته عليه ولو لم يعترف مشاركه في ذلك، وأن من قذف غيره لا يقام عليه الحد إلا إن طلبه المقذوف، خلافا لابن أبي ليلى فإنه قال يجب ولو لم يطلب المقذوف. قلت: وفي الاستدلال به نظر، لأن محل الخلاف إذا كان المقذوف حاضرا، وأما إذا كان غائبا كهذا فالظاهر أن التأخير لاستكشاف الحال. فإن ثبت في حق المقذوف فلا حد على القاذف كما في هذه القصة، وقد قال النووي تبعا لغيره أن سبب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنيسا للمرأة ليعلمها بالقذف المذكور لتطالب بحد قاذفها إن أنكرت، قال: هكذا أوله العلماء من أصحابنا وغيرهم ولا بد منه لأن ظاهره أنه بعث يطلب إقامة حد الزنا وهو غير مراد لأن حد الزنا لا يحتاط له بالتجسس والتنقيب عنه بل يستحب تلقين المقر به ليرجع كما تقدم في قصة ماعز وكأن لقوله: "فإن اعترفت " مقابلا أي وإن أنكرت فأعلمها أن لها طلب حد القذف فحذف لوجود الاحتمال. فلو أنكرت وطلبت لأجيبت. وقد أخرج أبو داود والنسائي من طريق سعيد بن المسيب عن ابن عباس " أن رجلا أقر بأنه زنى بامرأة فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة " ثم سأل المرأة فقالت كذب فجلده حد الفرية ثمانين وقد سكت عليه أبو داود وصححه الحاكم واستنكره النسائي. وفيه أن المخدرة التي لا تعتاد البروز لا تكلف الحضور لمجلس الحكم بل يجوز أن يرسل إليها من يحكم لها وعليها، وقد ترجم النسائي لذلك. وفيه أن السائل يذكر كل ما وقع في القصة لاحتمال أن يفهم المفتي أو الحاكم من ذلك ما يستدل به على خصوص الحكم في المسألة لقول السائل إن ابني كان عسيفا على هذا، وهو إنما جاء يسأل عن حكم الزنا، والسر في ذلك أنه أراد أن يقيم لابنه معذرة ما وأنه لم يكن مشهورا بالعهر ولم يهجم على المرأة مثلا ولا استكرهها، وإنما وقع له ذلك لطول الملازمة المقتضية لمزيد التأنيس والإدلال، فيستفاد منه الحث على إبعاد الأجنبي من الأجنبية مهما أمكن، لأن العشرة قد تفضي إلى الفساد ويتسور بها الشيطان إلى الإفساد. وفيه جواز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل، والرد على من منع التابعي أن يفتي مع وجود الصحابي مثلا. وفيه جواز الاكتفاء في الحكم بالأمر الناشئ عن الظن مع القدرة على اليقين، لكن إذا اختلفوا على المستفتي يرجع إلى ما يفيد القطع وإن كان في ذلك العصر الشريف من يفتي بالظن الذي لم ينشأ عن أصل، ويحتمل أن يكون وقع ذلك من المنافقين أو من قرب عهده بالجاهلية فأقدم على ذلك. وفيه أن الصحابة كانوا يفتون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي بلده، وقد عقد محمد ابن سعد في الطبقات بابا لذلك وأخرج بأسانيد فيها الواقدي أن منهم أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن ابن عوف وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت. وفيه أن الحكم المبني على الظن ينقض بما يفيد القطع. وفيه أن الحد لا يقبل الفداء، وهو مجمع عليه في الزنا والسرقة والحرابة وشرب المسكر، واختلف في القذف والصحيح أنه كغيره وإنما يجري الفداء في البدن كالقصاص في النفس والأطراف. وأن الصلح المبني على غير الشرع يرد ويعاد المال المأخوذ فيه،

(12/141)


قال ابن دقيق العيد: وبذلك يتبين ضعف عذر من اعتذر من الفقهاء عن بعض العقود الفاسدة بأن المتعاوضين تراضيا وأذن كل منهما للآخر في التصرف، والحق أن الإذن في التصرف مقيد بالعقود الصحيحة. وفيه جواز الاستنابة في إقامة الحد، واستدل به على وجوب الإعذار والاكتفاء فيه بواحد، وأجاب عياض باحتمال أن يكون ذلك ثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة هذين الرجلين، كذا قال والذي تقبل شهادته من الثلاثة والد العسيف فقط وأما العسيف والزوج فلا، وغفل بعض من تبع القاضي فقال: لا بد من هذا الحمل وإلا لزم الاكتفاء بشهادة واحد في الإقرار بالزنا ولا قائل به، ويمكن الانفصال عن هذا بأن أنيس بعث حاكما فاستوفى شروط الحكم ثم استأذن في رجمها فأذن له في رجمها، وكيف يتصور من الصورة المذكورة إقامة الشهادة عليها من غير تقدم دعوى عليها ولا على وكيلها مع حضورها في البلد غير متوارية، إلا أن يقال إنها شهادة حسبة، ويجاب بأنه لم يقع هناك صيغة الشهادة المشروطة في ذلك. واستدل به على جواز الحكم بإقرار الجاني من غير ضبط بشهادة عليه، ولكنها واقعة عين فيحتمل أن يكون أنيس أشهد قبل رجمها. قال عياض: احتج قوم بجواز حكم الحاكم في الحدود وغيرها بما أقر به الخصم عنده وهو أحد قولي الشافعي وبه قال أبو ثور، وأبى ذلك الجمهور، والخلاف في غير الحدود أقوى، قال وقصة أنيس يطرقها احتمال معنى الإعذار كما مضى، وأن قوله: "فارجمها " أي بعد إعلامي، أو أنه فوض الأمر إليه فإذا اعترفت بحضرة من يثبت ذلك بقولهم تحكم، وقد دل قوله: "فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت " أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حكم فيها بعد أن أعلمه أنيس باعترافها، كذا قال، والذي يظهر أن أنيسا لما اعترفت أعلم النبي صلى الله عليه وسلم مبالغة في الاستثبات، مع كونه كان علق له رجمها على اعترافها. واستدل به على أن حضور الإمام الرجل ليس شرطا، وفيه نظر لاحتمال أن أنيسا كان حاكما وقد حضر - بل باشر - الرجم لظاهر قوله: "فرجمها". وفيه ترك الجمع بين الجلد والتغريب، وسيأتي في " باب البكران يجلدان وينفيان " وفيه الاكتفاء بالاعتراف بالمرة الواحدة لأنه لم ينقل أن المرأة تكرر اعترافها، والاكتفاء بالرجم من غير جلد لأنه لم ينقل في قصتها أيضا، وفيه نظر لأن الفعل لا عموم له فالترك أولى. وفيه جواز استئجار الحر. وجواز إجارة الأب ولده الصغير لمن يستخدمه إذا احتاج لذلك. واستدل به على صحة دعوى الأب لمحجوره ولو كان بالغا لكون الولد كان حاضرا ولم يتكلم إلا أبوه، وتعقب باحتمال أن يكون وكيله أو لأن التداعي لم يقع إلا بسبب المال الذي وقع به الفداء فكأن والد العسيف ادعى على زوج المرأة بما أخذه منه إما لنفسه وإما لامرأته بسبب ذلك حين أعلمه أهل العلم بأن ذلك الصلح فاسد ليستعيده منه سواء كان من ماله أو من مال ولده، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم برد ذلك إليه، وأما ما وقع في القصة من الحد فباعتراف العسيف ثم المرأة. وفيه أن حال الزانيين إذا اختلفا أقيم على كل واحد حده لأن العسيف جلد والمرأة رجمت، فكذا لو كان أحدهما حرا والآخر رقيقا، وكذا لو زنى بالغ بصبية أو عاقل بمجنونة حد البالغ والعاقل دونهما، وكذا عكسه. وفيه أن من قذف ولده لا يحد له لأن الرجل قال إن ابني زنى ولم يثبت عليه حد القذف. قوله: "عن الزهري" صرح الحميدي فيه بالتحديث عن سفيان قال: "أتينا - يعني الزهري - فقال إن شئتم حدثتكم بعشرين حديثا أو حدثتكم بحديث السقيفة، فقالوا: حدثنا بحديث السقيفة " فحدثهم به بطوله، فحفظت منه شيئا ثم حدثني ببقيته بعد ذلك معمر. قوله: "عن عبيد الله" بالتصغير هو المذكور في الحديث قبله: ووقع عند أبي عوانة في رواية يونس عن الزهري "أخبرني عبيد الله". قوله: "عن ابن عباس قال: قال عمر"

(12/142)


في رواية محمد بن منصور عن سفيان عند النسائي: "سمعت عمر". قوله: "لقد خشيت إلخ" هو طرف من الحديث ويأتي بتمامه في الباب الذي يليه، والغرض منه هنا قوله: "ألا وإن الرجم حق " إلخ. قوله: "قال سفيان" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "كذا حفظت" هذه جملة معترضة بين قوله: "أو الاعتراف " وبين قوله: "وقد رجم " وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية جعفر الفريابي عن علي بن عبد الله شيخ البخاري فيه فقال بعد قوله أو الاعتراف " وقد قرأناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده " فسقط من رواية البخاري من قوله: "وقرأ: { إلى قوله: "البتة " ولعل البخاري وهو الذي حذف ذلك عمدا، فقد أخرجه النسائي عن محمد بن منصور عن سفيان كرواية جعفر ثم قال: "لا أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث الشيخ والشيخة غير سفيان " وينبغي أن يكون وهم في ذلك - قلت: وقد أخرج الأئمة هذا الحديث من رواية مالك ويونس ومعمر وصالح بن كيسان وعقيل وغيرهم من الحفاظ عن الزهري فلا يذكروها، وقد وقعت هذه الزيادة في هذا الحديث من رواية الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: "لما صدر عمر من الحج وقدم المدينة خطب الناس فقال: أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة - ثم قال إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". قال مالك: الشيخ والشيخة الثيب والثيبة. ووقع في " الحلية " في ترجمة داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عن عمر " لكتبتها في آخر القرآن " ووقعت أيضا في هذا الحديث في رواية أبي معشر الآتي التنبيه عليها في الباب الذي يليه، فقال متصلا بقوله قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده " ولولا أن يقولوا كتب عمر ما ليس في كتاب الله لكتبته، قد قرأناها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " وأخرج هذه الجملة النسائي وصححه الحاكم من حديث أبي بن كعب قال: "ولقد كان فيها - أي سورة الأحزاب - آية الرجم: الشيخ " فذكر مثله. ومن حديث زيد بن ثابت "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الشيخ والشيخة" مثله إلى قوله: "البتة" ومن رواية أبي أسامة بن سهل أن خالته أخبرته قالت: "لقد أقرأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الرجم " فذكره إلى قوله: "البتة " وزاد: "بما قضيا من اللذة " وأخرج النسائي أيضا أن مروان بن الحاكم قال لزيد بن ثابت " ألا تكتبها، في المصحف؟ قال: لا، ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان؟ ولقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: أنا أكفيكم، فقال: يا رسول الله أكتبني آية الرجم، قال لا أستطيع " وروينا في فضائل القرآن لابن الضريس من طريق يعلى وهو ابن حكيم عن زيد بن أسلم " أن عمر خطب الناس فقال: لا تشكوا في الرجم فإنه حق، ولقد هممت أن أكتبه في المصحف فسألت أبي بن كعب فقال: أليس إنني وأنا أستقرئها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعت في صدري وقلت أستقرئه آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الخمر " ورجاله ثقات. وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها وهو الاختلاف، وأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص يكتبان في المصحف فمرا على هذه الآية فقال زيد " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم" فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها.

(12/143)


باب الاعتراف بالزنا
باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت
...
31- باب: رَجْمِ الْحُبْلَى مِنْ الزِّنَا إِذَا أَحْصَنَتْ
6830- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ "مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ لَكَ فِي فُلاَنٍ يَقُولُ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلاَنًا فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلاَّ فَلْتَةً فَتَمَّتْ فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ وَأَنْ لاَ يَعُوهَا وَأَنْ لاَ يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا فَقَالَ عُمَرُ أَمَا وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي عُقْبِ ذِي الْحَجَّةِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَجَّلْتُ الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ حَتَّى أَجِدَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ جَالِسًا إِلَى رُكْنِ الْمِنْبَرِ فَجَلَسْتُ حَوْلَهُ تَمَسُّ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ مُقْبِلًا قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ لَيَقُولَنَّ الْعَشِيَّةَ مَقَالَةً لَمْ يَقُلْهَا مُنْذُ اسْتُخْلِفَ فَأَنْكَرَ عَلَيَّ وَقَالَ مَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ فَجَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لاَ أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لاَ يَعْقِلَهَا فَلاَ أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنْ لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ أَوْ إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ أَلاَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لاَ تُطْرُونِي كَمَا أُطْرِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ وَاللَّهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلاَنًا، فَلاَ يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ

(12/144)


أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً، وَتَمَّتْ أَلاَ وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ، مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يُبَايَعُ هُوَ وَلاَ الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلاَ وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الأَنْصَارَ خَالَفُونَا وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ يَا أَبَا بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلاَءِ مِنْ الأَنْصَارِ فَانْطَلَقْنَا نُرِيدُهُمْ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلاَنِ صَالِحَانِ فَذَكَرَا مَا تَمَالاَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَقَالاَ أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ فَقُلْنَا نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلاَءِ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالاَ لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَقْرَبُوهُمْ اقْضُوا أَمْرَكُمْ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالُوا هَذَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقُلْتُ مَا لَهُ قَالُوا يُوعَكُ فَلَمَّا جَلَسْنَا قَلِيلًا تَشَهَّدَ خَطِيبُهُمْ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَكَتِيبَةُ الإِسْلاَمِ وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا وَأَنْ يَحْضُنُونَا مِنْ الأَمْرِ فَلَمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَكُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِي أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ وَكُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رِسْلِكَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ هُوَ أَحْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ وَاللَّهِ مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي فِي تَزْوِيرِي إِلاَّ قَالَ فِي بَدِيهَتِهِ مِثْلَهَا أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا حَتَّى سَكَتَ فَقَالَ مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ وَلَنْ يُعْرَفَ هَذَا الأَمْرُ إِلاَّ لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ فَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا كَانَ وَاللَّهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي لاَ يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ تُسَوِّلَ إِلَيَّ نَفْسِي عِنْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا لاَ أَجِدُهُ الْآنَ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الأَنْصَارِ أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ فَكَثُرَ اللَّغَطُ وَارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ حَتَّى فَرِقْتُ مِنْ الِاخْتِلاَفِ فَقُلْتُ ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ بَايَعَتْهُ الأَنْصَارُ وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَقُلْتُ قَتَلَ اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ عُمَرُ وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ بَعْدَنَا فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لاَ نَرْضَى وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيَكُونُ فَسَادٌ فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يُتَابَعُ هُوَ وَلاَ الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلاَ"
قوله: "باب رجم الحبلى في الزنا" في رواية غير أبي ذر "من الزنا". قوله: "إذا أحصنت" أي تزوجت،

(12/145)


قال الإسماعيلي يريد إذا حبلت من زنا على الإحصان ثم وضعت، فأما وهي حبلى فلا ترجم حتى تضع. وقال ابن بطال: معنى الترجمة هل يجب على الحبلى رجم أو لا، وقد استقر الإجماع على أنها لا ترجم حتى تضع. قال النووي: كذا لو كان حدها الجلد لا تجلد حتى تضع، وكذا من وجب عليها قصاص وهي حامل لا يقتص منها حتى تضع بالإجماع في كل ذلك ا هـ. وقد كان عمر أراد أن يرجم الحبلى فقال له معاذ " لا سبيل لك عليها حتى تضع ما في بطنها " أخرجه ابن أبي شيبة ورجاله ثقات، واختلف بعد الوضع فقال مالك إذا وضعت رجمت ولا ينتظر أن يكفل ولدها، وقال الكوفيون لا ترجم حين تضع حتى تجد من يكفل ولدها، وهو قول الشافعي ورواية عن مالك، وزاد الشافعي: لا ترجم حتى ترضع اللبأ، وقد أخرج مسلم من حديث عمران بن حصين " أن امرأة جهنية أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فذكرت أنها زنت فأمرها أن تقعد حتى تضع، فلما وضعت أتته فأمر بها فرجمت". وعنده من حديث بريدة " أن امرأة من غامد قالت يا رسول الله طهرني "فقالت إنها حبلى من الزنا" فقال لها حتى تضعي. فلما وضعت قال لا نرجمها وتضع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه، فقام رجل فقال إلى رضاعه يا رسول الله، فرجمها " وفي رواية له " فأرضعته حتى فطمته ودفعته إلى رجل من المسلمين ورجمها " وجمع بين روايتي بريدة بأن في الثانية زيادة فتحمل الأولى على أن المراد بقوله: "إلي إرضاعه " أي تربيته. وجمع بين حديثي عمران وبريدة أن الجهنية كان لولدها من يرضعه بخلاف الغامدية. قوله: "عن صالح" وهو ابن كيسان، ووقع كذلك عند يعقوب بن سفيان في تاريخه عن عبد العزيز شيخ البخاري فيه بسنده، وأخرجه الإسماعيلي من طريقه. قوله: "عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله" في رواية مالك " عن الزهري أن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة أخبره " وأخرجه أحمد والدار قطني في " الغرائب " وصححه ابن حبان. قوله: "عن ابن عباس" في رواية مالك " أن عبد الله بن عباس أخبره كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف " ولم أقف على اسم أحد منهم غيره، زاد مالك في روايته: "في خلافة عمر فلم أر رجلا يجد من الأقشعريرة ما يجد عبد الرحمن عند القراءة " قال الداودي فيما نقله ابن التين معنى قوله: "كنت أقرئ رجالا " أي أتعلم منهم القرآن، لأن ابن عباس كان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما حفظ المفصل من المهاجرين والأنصار، قال: وهذا الذي قاله خروج عن الظاهر بل عن النص، لأن قوله أقرئ بمعنى أعلم. قلت: ويؤيد التعقب ما وقع في رواية ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري " كنت أختلف إلى عبد الرحمن بن عوف ونحن بمنى مع عمر بن الخطاب أعلم عبد الرحمن بن عوف القرآن " أخرجه ابن أبي شيبة وكان ابن عباس ذكيا سريع الحفظ، وكان كثير من الصحابة لاشتغالهم بالجهاد لم يستوعبوا القرآن حفظا، وكان من اتفق له ذلك يستدركه بعد الوفاة النبوية وإقامتهم بالمدينة، فكانوا يعتمدون على نجباء الأبناء فيقرءونهم تلقينا للحفظ. قوله: "فبينما أنا بمنزله بمنى وهو عند عمر" في رواية ابن إسحاق " فأتيته في المنزل فلم أجده فانتظرته حتى جاء". قوله: "في آخر حجة حجها" يعني عمر، كان ذلك سنة ثلاث وعشرين. قوله: "لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم" لم أقف على اسمه. قوله: "هل لك في فلان" لم أقف على اسمه أيضا، ووقع في رواية ابن إسحاق أن من قال ذلك كان أكثر من واحد ولفظه: "أن رجلين من الأنصار ذكرا بيعة أبي بكر". قوله: "لقد بايعت فلانا" هو طلحة بن عبيد الله أخرجه البزار من طريق أبي معشر عن زيد بن أسلم عن أبيه وعن عمير مولى غفرة بضم المعجمة وسكون الفاء قالا " قدم على أبي بكر مال - فذكر قصة طويلة في قسم الفيء ثم قال - حتى إذا كان من آخر

(12/146)


السنة التي حج فيها عمر قال بعض الناس: لو قد مات أمير المؤمنين أقمنا فلانا، يعنون طلحة بن عبيد الله" ونقل ابن بطال عن المهلب أن الذين عنوا أنهم يبايعونه رجلا من الأنصار ولم يذكر مستنده في ذلك. قوله: "فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة"، بفتح الفاء وسكون اللام بعدها مثناة ثم تاء تأنيث أي فجأة وزنه ومعناه، وجاء عن سحنون عن أشهب أنه كان يقولها بضم الفاء ويفسرها بانفلات الشيء من الشيء ويقول إن الفتح غلط وإنه إنما يقال فيما يندم عليه، وبيعة أبي بكر مما لا يندم عليه أحد، وتعقب بثبوت الرواية بفتح الفاء ولا يلزم من وقوع الشيء بغتة أن يندم عليه كل أحد بل يمكن الندم عليه من بعض دون بعض، وإنما أطلقوا على بيعة أبي بكر ذلك بالنسبة لمن لم يحضرها في الحال الأول، ووقع في رواية ابن إسحاق بعد قوله فلتة " فما يمنع امرئ إن هلك هذا أن يقوم إلى من يريد فيضرب على يده فتكون أي البيعة كما كانت أي في قصة أبي بكر " وسيأتي مزيد في معنى الفلتة بعد. قوله: "فغضب عمر" زاد ابن إسحاق " غضبا ما رأيته غضب مثله منذ كان". قوله: "أن يغصبوهم أمورهم" كذا في رواية الجميع بغين معجمة وصاد مهملة، وفي رواية مالك "يغتصبوهم" بزيادة مثناة بعد الغين المعجمة، وحكى ابن التين أنه روى بالعين المهملة وضم أوله من أعضب أي صار لا ناصر له، والمعضوب الضعيف، وهو من عضبت الشاة إذا انكسر أحد قرنيها أو قرنها الداخل وهو المشاش، والمعنى أنهم يغلبون على الأمر فيضعف لضعفهم، والأول أولى، والمراد أنهم يثبتون على الأمر بغير عهد ولا مشاورة، وقد وقع ذلك بعد على وفق ما حذره عمر رضي الله عنه. قوله: "يجمع رعاع الناس وغوغاءهم" الرعاع بفتح الراء وبمهملتين الجهلة الرذلاء، وقيل الشباب منهم والغوغاء بمعجمتين بينهما واو ساكنة، أصله صغار الجراد حين يبدأ في الطيران، ويطلق على السفلة المسرعين إلى الشر. قوله: "يغلبون عل قربك" بضم القاف وسكون الراء ثم موحدة أي المكان الذي يقرب منك، ووقع في رواية الكشميهني وأبي زيد المروزي بكسر القاف وبالنون وهو خطأ، وفي رواية ابن وهب عن مالك " على مجلسك إذا قمت في الناس". قوله: "يطيرها" بضم أوله من أطار الشيء إذا أطلقه، وللسرخسي " يطيرها " بفتح أوله أي يحملونها على غير وجهها، ومثله لابن وهب وقال يطيرنها أولئك ولا يعونها، أي لا يعرفون المراد بها. قوله: "فتخلص" بضم اللام بعدها مهملة أي تصل. قوله: "لأقومن" في رواية مالك " فقال لئن قدمت المدينة صالحا لأكلمن الناس بها". قوله: "أقومه" في رواية الكشميهني والسرخسي "أقوم" بحذف الضمير. قوله: "في عقب ذي الحجة" بضم المهملة وسكون القاف وبفتحها وكسر القاف وهو أولى، فإن الأول يقال لما بعد التكملة والثاني لما قرب منها، يقال جاء عقب الشهر بالوجهين، والواقع الثاني لأن قدوم عمر كان قبل أن ينسلخ ذو الحجة في يوم الأربعاء. قوله: "عجلت الرواح" في رواية الكشميهني: "بالرواح" زاد سفيان عند البزار "وجاءت الجمعة وذكرت ما حدثني عبد الرحمن بن عوف فهجرت إلى المسجد " وفي رواية جويرية عن مالك عند ابن حبان والدار قطني "لما أخبرني". قوله: "حين زاغت الشمس" في رواية مالك " حين كانت صكة عمى" بفتح الصاد وتشديد الكاف وعمى بضم أوله وفتح الميم وتشديد التحتانية وقيل بتشديد الميم وزن حبلى، زاد أحمد عن إسحاق بن عيسى " قلت لمالك ما صكة عمى؟ قال: الأعمى قال لا يبالي أي ساعة حرج لا يعرف الحر من البرد أو نحو هذا " قلت: وهو تفسير معنى. وقال أبو هلال العسكري: المراد به اشتداد الحاجرة، والأصل فيه أنه اسم رجل من العمالقة يقال له عمى غزا قوما في قائم الظهيرة فأوقع بهم فصار مثلا لكل من جاء في ذلك الوقت، وقيل

(12/147)


هو رجل من عدوان كان يفيض بالحاج عند الهاجرة فضرب به المثل، وقيل المعنى أن الشخص في هذا الوقت يكون كالأعمى لا يقدر على مباشرة الشمس بعينه، وقيل أصله أن الظبي يدور أي يدوخ من شدة الحر فيصك برأسه ما واجهه، وللدار قطني من طريق سعيد بن داود عن مالك " صكة عمى ساعة من النهار تسميها العرب " وهو نصف النهار أو قريبا منه. قوله: "فجلست حوله" في رواية الإسماعيلي: "حذوه" وكذا لمالك، وفي رواية إسحاق الغروي عن مالك " حذاءه " وفي رواية معمر "فجلست إلى جنبه تمس ركبتي ركبته". قوله: "فلم أنشب" بنون ومعجمة وموحدة أي لم أتعلق بشيء غير ما كنت فيه والمراد سرعة خروج عمر. قوله: "أن خرج" أي من مكانه إلى جهة المنبر. وفي رواية مالك " أن طلع عمر - أي ظهر - يؤم المنبر " أي يقصده. قوله: "ليقولن العشية مقالة" أي عمر. قوله: "لم يقلها منذ استخلف" في رواية مالك " لم يقلها أحد قط قبله". قوله: "ما عسيت" في رواية الإسماعيلي: "ما عسى". قوله: "أن يقول ما لم يقل قبله" زاد سفيان " فغضب سعيد وقال ما عسيت " قيل أراد ابن عباس أن ينبه سعيدا معتمدا على ما أخبره به عبد الرحمن ليكون على يقظة فيلقى باله لما يقوله عمر فلم يقع ذلك من سعيد موقعا بل أنكره، لأنه لم يعلم بما سبق لعمر وعلى بناء أن الأمور استقرت. قوله: "لا أدري لعلها بين يدي أجلي" أي بقرب موتي، وهو من الأمور التي جرت على لسان عمر فوقعت كما قال، ووقع في رواية أبي معشر المشار إليها قبل ما يؤخذ منه سبب ذلك وأن عمر قال في خطبته هذه " رأيت رؤياي وما ذاك إلا عند قرب أجلي، رأيت كأن ديكا نقرني " وفي مرسل سعيد بن المسيب في الموطأ " أن عمر لما صدر من الحج دعا الله أن يقبضه إليه غير مضيع ولا مفرط " وقال في آخر القصة " فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر". قوله: "إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق" قال الطيبي: قدم عمر هذا الكلام قبل ما أراد أن يقوله توطئة له ليتيقظ السامع لما يقول. قوله: "فكان مما" في رواية الكشميهني: "فيما". قوله: "آية الرجم" تقدم القول فيها في الباب الذي قبله، قال الطيبي: آية الرجم بالرفع اسم كان وخبرها من التبعيضية في قوله: "مما أنزل الله" ففيه تقديم الخبر على الاسم وهو كثير. قوله: "ووعيناها رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الإسماعيلي: "ورجم " بزيادة واو وكذا لمالك. قوله: "فأخشى" في رواية معمر " وإني خائف". قوله: "فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله" أي في الآية المذكورة التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها، وقد وقع ما خشيه عمر أيضا فأنكر الرجم طائفة من الخوارج أو معظمهم وبعض المعتزلة، ويحتمل أن يكون استند في ذلك إلى توقيف، وقد أخرج عبد الرزاق والطبري من وجه آخر عن ابن عباس أن عمر قال: "سيجيء قوم يكذبون بالرجم " الحديث. ووقع في رواية سعيد بن إبراهيم عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة في حديث عمر عند النسائي: "وإن ناسا يقولون ما بال الرجم وإنما في كتاب الله الجلد، ألا قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفيه إشارة إلى أن عمر استحضر أن ناسا قالوا ذلك فرد عليهم، وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر " إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل لا أجد حدين في كتاب الله، فقد رجم". قوله: "والرجم في كتاب الله حق" أي في قوله تعالى:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد به رجم الثيب وجلد البكر كما تقدم التنبيه عليه في قصة العسيف قريبا. قوله: "إذا قامت البينة" أي بشرطها. قوله: "إذا أحصن" أي كان بالغا عاقلا قد تزوج حرة تزويجا صحيحا وجامعها. قوله: "أو كان الحبل" بفتح المهملة والموحدة، في رواية معمر "الحمل" أي وجدت المرأة الخلية من زوج أو سيد حبلى ولم تذكر شبهة ولا

(12/148)


إكراه. قوله: "أو الاعتراف" أي الإقرار بالزنا والاستمرار عليه، وفي رواية سفيان "أو كان حملا أو اعترافا" ونصب على نزع الخافض أي كان الزنا عن حمل أو عن اعتراف. قوله: "ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله" أي مما نسخت تلاوته. قوله: "لا ترغبوا عن آبائكم" أي لا تنتسبوا إلى غيرهم. قوله: "فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إن كفرا بكم" كذا هو بالشك، وكذا في رواية معمر بالشك لكن قال: "لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم، أو إن كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم " ووقع في رواية جويرية عن مالك " فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم". قوله: "ألا ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية مالك " ألا وإن " بالواو بدل ثم، وألا بالتخفيف حرف افتتاح كلام غير الذي قبله. قوله: "لا تطروني" هذا القدر مما سمعه سفيان من الزهري أفرده الحميدي في مسنده عن ابن عيينة سمعت الزهري به، وقد تقدم مفردا في ترجمة عيسى عليه السلام من أحاديث الأنبياء عن الحميدي بسنده هذا وتقدم شرح الإطراء. قوله: "كما أطرى عيسى" في رواية سفيان " كما أطرت النصارى عيسى". قوله: "وقولوا عبد الله" في رواية مالك " فإنما أنا عبد الله فقولوا" قال ابن الجوزي: لا يلزم من النهي عن الشيء وقوعه لأنا لا نعلم أحدا ادعى في نبينا ما ادعته النصارى في عيسى، وإنما سبب النهي فيما يظهر ما وقع في حديث معاذ بن جبل لما استأذن في السجود له فامتنع ونهاه، فكأنه خشي أن يبالغ غيره بما هو فوق ذلك فبادر إلى النهي تأكيدا للأمر. وقال ابن التين: معنى قوله: "لا تطروني " لا تمدحوني كمدح النصارى، حتى غلا بعضهم في عيسى فجعله إلها مع الله، وبعضهم ادعى أنه هو الله، وبعضهم ابن الله. ثم أردف النهي بقوله: "أنا عبد الله" قال والنكتة في إيراد عمر هذه القصة هنا أنه خشي عليهم الغلو، يعني خشي على من لا قوة له في الفهم أن يظن بشخص استحقاقه الخلافة فيقوم في ذلك مع أن المذكور لا يستحق فيطريه بما ليس فيه فيدخل في النهي، ويحتمل أن تكون المناسبة أن الذي وقع منه في مدح أبي بكر ليس من الإطراء المنهي عنه ومن ثم قال: وليس فيكم مثل أبي بكر، ومناسبة إيراد عمر قصة الرجم والزجر عن الرغبة عن الآباء للقصة التي خطب بسببها وهي قول القائل: "لو مات عمر لبايعت فلانا " أنه أشار بقصة الرجم إلى زجر من يقول لا أعمل في الأحكام الشرعية إلا بما وجدته في القرآن وليس في القرآن تصريح باشتراط التشاور إذا مات الخليفة، بل إنما يؤخذ ذلك من جهة السنة كما أن الرجم ليس فيما يتلى من القرآن وهو مأخوذ من طريق السنة، وأما الزجر عن الرغبة عن الآباء فكأنه أشار إلى أن الخليفة يتنزل للرعية منزلة الأب فلا يجوز لهم أن يرغبوا إلى غيره بل يجب عليهم طاعته بشرطها كما تجب طاعة الأب، هذا الذي ظهر لي من المناسبة والعلم عند الله تعالى. قوله: "ألا وإنها" أي بيعة أبي بكر. قوله: "قد كانت كذلك" أي فلتة، وصرح بذلك في رواية إسحاق بن عيسى عن مالك، حكى ثعلب عن ابن الأعرابي وأخرجه سيف في الفتوح بسنده عن سالم بن عبد الله بن عمر نحوه قال: الفلتة الليلة التي يشك فيها هل هي من رجب أو شعبان وهل من المحرم أو صفر، كان العرب لا يشهرون السلاح في الأشهر الحرم فكان من له ثأر تربص فإذا جاءت تلك الليلة انتهز الفرصة من قبل أن يتحقق انسلاخ الشهر فيتمكن ممن يريد إيقاع الشر به وهو آمن فيترتب على ذلك الشر الكثير، فشبه عمر الحياة النبوية بالشهر الحرام والفلتة بما وقع من أهل الردة ووقى الله شر ذلك ببيعة أبي بكر لما وقع منه من النهوض في قتالهم وإخماد شوكتهم، كذا قال والأولى أن يقال: الجامع بينهما انتهاز الفرصة، لكن كان ينشأ عن أخذ الثأر الشر الكثير فوقى الله المسلمين شر ذلك فلم ينشأ عن بيعة أبي بكر شر بل

(12/149)


أطاعه الناس كلهم من حضر البيعة ومن غاب عنها. وفي قوله: "وقى الله شرها" إيماء إلى التحذير من الوقوع في مثل ذلك حيث لا يؤمن من وقوع الشر والاختلاف. قوله: "ولكن الله وقى شرها" أي وقاهم ما في العجلة غالبا من الشر، لأن من العادة أن من لم يطلع على الحكمة في الشيء الذي يفعل بغتة لا يرضاه، وقد بين عمر سبب إسراعهم ببيعة أبي بكر لما خشوا أن يبايع، الأنصار سعد بن عبادة، قال أبو عبيدة: عاجلوا ببيعة أبي بكر خيفة انتشار الأمر وأن يتعلق به من لا يستحقه فيقع الشر. وقال الداودي: معنى قوله: "كانت فلتة " أنها وقعت من غير مشورة مع جميع من كان ينبغي أن يشاور، وأنكر هذه الكرابيسي صاحب الشافعي وقال: بل المراد أن أبا بكر ومن معه تفلتوا في ذهابهم إلى الأنصار فبايعوا أبا بكر بحضرتهم، وفيهم من لا يعرف ما يجب عليه من بيعته فقال: منا أمير ومنكم أمير، فالمراد بالفلتة ما وقع من مخالفة الأنصار وما أرادوه من مبايعة سعد بن عبادة وقال ابن حبان: معنى قوله: "كانت فلتة " أن ابتداءها كان عن غير ملأ كثير، والشيء إذا كان كذلك يقال له الفلتة فيتوقع فيه ما لعله يحدث من الشر بمخالفة من يخالف في ذلك عادة، فكفى الله المسلمين الشر المتوقع في ذلك عادة، لا أن بيعة أبي بكر كان فيها شر. قوله: "وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر" قال الخطابي: يريد أن السابق منكم الذي لا يلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر، فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له أولا في الملأ اليسير ثم اجتماع الناس عليه وعدم اختلافهم عليه لما تحققوا من استحقاقه فلم يحتاجوا في أمره إلى نظر ولا إلى مشاورة أخرى، وليس غيره في ذلك مثله. انتهى ملخصا. وفيه إشارة إلى التحذير من المسارعة إلى مثل ذلك حيث لا يكون هناك مثل أبي بكر لما اجتمع فيه من الصفات المحمودة من قيامه في أمر الله، ولين جانبه للمسلمين، وحسن خلقه، ومعرفته بالسياسة، وورعه التام ممن لا يوجد فيه مثل صفاته لا يؤمن من مبايعته عن غير مشورة الاختلاف الذي ينشأ عنه الشر، وعبر بقوله: "تقطع الأعناق " لكون الناظر إلى السابق تمتد عنقه لينظر، فإذا لم يحصل مقصوده من سبق من يريد سبقه قيل انقطعت عنقه، أو لأن المتسابقين تمتد إلى رؤيتهما الأعناق حتى يغيب السابق عن النظر، فعبر عن امتناع نظره بانقطاع عنقه. وقال ابن التين: هو مثل، يقال للفرس الجواد تقطعت أعناق الخيل دون لحاقه، ووقع في رواية أبي معشر المذكورة " ومن أين لنا مثل أبي بكر تمد أعناقنا إليه". قوله: "من غير" في رواية الكشميهني: "من غير مشورة " بضم المعجمة وسكون الواو وبسكون المعجمة وفتح الواو " فلا يبايع" بالموحدة، وجاء بالمثناة وهو أولى " لقوله هو والذي " تابعه. قوله: "تغرة أن يقتلا" بمثناة مفتوحة وغين معجمة مكسورة وراء ثقيلة بعدها هاء تأنيث أي حذرا من القتل، وهو مصدر من أغررته تغريرا أو تغرة، والمعنى أن من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل. قوله: "وإنه قد كان من خبرنا" كذا للأكثر من الخبر بفتح الموحدة، ووقع للمستملي بسكون التحتانية والضمير لأبي بكر، وعلى هذا فيقرأ: "إن الأنصار" بالكسر على أنه ابتداء كلام آخر، وعلى رواية الأكثر بفتح همزة "أن" على أنه خبر كان. قوله: "خالفونا" أي لم يجتمعوا معنا في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وخالف عنا علي والزبير ومن معهما" في رواية مالك ومعمر " وأن عليا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا في رواية سفيان لكن قال: "العباس" بدل "الزبير". قوله: "يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا" زاد في رواية جويرية عن مالك "فبينما نحن في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا برجل ينادي من وراء الجدار: اخرج إلي يا ابن

(12/150)


الخطاب، فقلت إليك عني فإني مشغول، قال: اخرج إلي فإنه قد حدث أمر، إن الأنصار اجتمعوا فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرا يكون بينكم فيه حرب، فقلت لأبي بكر: انطلق". قوله: "فانطلقنا نريدهم" زاد جويرية " فلقينا أبو عبيدة بن الجراح فأخذ أبو بكر بيده يمشي بيني وبينه". قوله: "لقينا رجلان صالحان" في رواية معمر عن ابن شهاب "شهدا بدرا" كما تقدم في غزوة بدر. وفي رواية ابن إسحاق " رجلا صدق عويم بن ساعدة ومعن بن عدي " كذا أدرج تسميتهما، وبين مالك أنه قول عروة ولفظه: "قال ابن شهاب أخبرني عروة أنهما معن بن عدي وعويم بن ساعدة " وفي رواية سفيان " قال الزهري: هما " ولم يذكر عروة، ثم وجدته من رواية صالح بن كيسان رواية في هذا الباب بزيادة، فأخرجه الإسماعيلي من طريقه وقال فيه: "قال ابن شهاب وأخبرني عروة الرجلين فسماهما وزاد: فأما عويم فهو الذي بلغنا أنه قيل يا رسول الله من الذين قال الله فيهم {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قال نعم المرء منهم عويم بن ساعدة " وأما معن فبلغنا أن الناس بكوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفاه الله وقالوا وددنا أنا متنا قبله لئلا نفتتن بعده، فقال معن بن عدي: والله ما أحب أن لو مت قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حيا، واستشهد باليمامة. قوله: "ما تمالأ" بفتح اللام والهمز أي اتفق، وفي رواية مالك " الذي صنع القوم أي من اتفاقهم على أن يبايعوا لسعد بن عبادة. قوله: "لا عليكم أن لا تقربوهم" لا بعد أن زائدة. قوله: "اقضوا أمركم" في رواية سفيان " امهلوا حتى تقضوا أمركم" ويؤخذ من هذا أن الأنصار كلها لم تجتمع على سعد ابن عبادة. قوله: "مزمل" بزاي وتشديد الميم المفتوحة أي ملفف، قوله: "بين ظهرانيهم" بفتح المعجمة والنون أي في وسطهم. قوله: "يوعك" بضم أوله وفتح المهملة أي يحصل له الوعك - وهو الحمى بنافض - ولذلك زمل، وفي رواية سفيان، وعك بصيغة الفعل الماضي، وزعم بعض الشراح أن ذلك وقع لسعد من هول ذلك المقام، وفيه نظر لأن سعدا كان من الشجعان والذين كانوا عنده أعوانه وأنصاره وقد اتفقوا على تأميره، وسياق عمر يقتضي أنه جاء فوجده موعوكا، فلو كان ذلك حصل له بعد كلام أبي بكر وعمر لكان له بعض اتجاه لأن مثله قد سكون من الغيظ، وأما قبل ذلك فلا، وقد وقع في رواية الإسماعيلي: "قالوا سعد وجع يوعك " وكأن سعدا كان موعوكا فلما اجتمعوا إليه في سقيفة بني ساعدة - وهو منسوبة إليه لأنه كان كبير بني ساعدة خرج إليهم من منزله وهو بتلك الحالة فطرقهم أبو بكر وعمر في تلك الحالة. قوله: "تشهد خطيبهم" لم أقف على اسمه، وكان ثابت بن قيس بن شماس يدعى خطيب الأنصار فالذي يظهر أنه هو. قوله: "وكتيبة الإسلام" الكتيبة بمثناة ثم موحدة وزن عظيمة وجمعها كتائب هي الجيش المجتمع الذي لا يتقشر، وأطلق عليهم ذلك مبالغة كأنه قال لهم أنتم مجتمع الإسلام. قوله: "وأنتم معشر" في رواية الكشميهني: "معاشر". قوله: "رهط" أي قليل، وقد تقدم أنه يقال للعشرة فما دونها، زاد ابن وهب في روايته: "منا " وكذا لمعمر، وهو يرفع الإشكال فإنه لم يرد حقيقة الرهط وإنما أطلقه عليهم بالنسبة إليهم أي أنتم بالنسبة إلينا قليل، لأن عدد الأنصار في المواطن النبوية التي ضبطت كانوا دائما أكثر من عدد المهاجرين، وهو بناء على أن المراد بالمهاجرين من كان مسلما قبل فتح مكة وهو المعتمد، وإلا فلو أريد عموم من كان من غير الأنصار لكانوا أضعاف أضعاف الأنصار. قوله: "وقد دفت دافة من قومكم" بالدال المهملة والفاء أي عدد قليل، وأصله من الدف وهو السير البطيء في جماعة. قوله: "يختزلونا" بخاء معجمة وزاي أي يقتطعونا عن الأمر وينفردوا به دوننا، وقال أبو

(12/151)


زيد: خزلته عن حاجته عوقته عنها، والمراد هنا بالأصل ما يستحقونه من الأمر. قوله: "وأن يحضنونا" بحاء مهملة وضاد معجمة، ووقع في رواية المستملي: "أي يخرجونا " قاله أبو عبيد، وهو كما يقال حضنه واحتضنه عن الأمر أخرجه في ناحية عنه واستبد به أو حبسه عنه، ووقع في رواية أبي علي بن السكن " يختصونا " بمثناة قبل الصاد المهملة وتشديدها، ومثله للكشميهني لكن بضم الخاء بغير تاء وهي بمعنى الاقتطاع والاستئصال. وفي رواية سفيان عند البزار "ويختصون بالأمر أو يستأثرون بالأمر دوننا " وفي رواية أبي بكر الحنفي عن مالك عند الدار قطني " ويخطفون " بخاء معجمة ثم طاء مهملة ثم فاء، والروايات كلها متفقة على أن قوله: "فإذا هم إلخ " بقية كلام خطيب الأنصار، لكن وقع عند ابن ماجه بعد قوله: "وقد دفت دافة من قومكم ": "قال عمر فإذا هم يريدون إلخ " وزيادة قوله هنا " قال عمر " خطأ والصواب أنه كله كلام الأنصار، ويدل له قول عمر " فلما سكت " وعلى ذلك شرحه الخطابي فقال: قوله: "رهط " أي أن عددكم قليل بالإضافة للأنصار، وقوله: "دفت دافة من قومكم" يريد أنكم قوم طرأة غرباء أقبلتم من مكة إلينا ثم أنتم تريدون أن تستأثروا علينا. قوله: "فلما سكت" أي خطيب الأنصار، وحاصل ما تقدم من كلامه أنه أخبر أن طائفة من المهاجرين أرادوا أن يمنعوا الأنصار من أمر تعتقد الأنصار أنهم يستحقونه وإنما عرض بذلك بأبي بكر وعمر ومن حضر معهما. قوله: "أردت أن أتكلم وكنت قد زورت" بزاي ثم راء أي هيأت وحسنت، وفي رواية مالك "رويت" براء وواو ثقيلة ثم تحتانية ساكنة من الرواية ضد البديهة، ويؤيده قول عمر بعد " فما ترك كلمة " وفي رواية مالك " ما ترك من كلمة أعجبتني في رويتي إلا قالها في بديهته، وفي حديث عائشة " وكان عمر يقول: والله ما أردت لذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر". قوله: "على رسلك" بكسر الراء وسكون المهملة ويجوز الفتح أي على مهلك بفتحتين وقد تقدم بيانه في الاعتكاف، وفي حديث عائشة الماضي في مناقب أبي بكر " فأسكته أبو بكر". قوله: "أن أغضبه" بغين ثم ضاد معجمتين ثم موحدة، وفي رواية الكشميهني بمهملتين ثم ياء آخر الحروف. قوله: "فكان هو أحلم مني وأوقر" في حديث عائشة "فتكلم أبلغ الناس". قوله: "ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل" زاد ابن إسحاق في روايته عن الزهري " إنا والله يا معشر الأنصار ما ننكر فضلكم ولا بلاءكم في الإسلام ولا حقكم الواجب علينا". قوله: "ولن يعرف" بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية مالك "ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وكذا في رواية سفيان وفي رواية ابن إسحاق " قد عرفتم أن هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب ليس بها غيرهم وأن العرب لا تجتمع إلا على رجل منهم، فاتقوا الله لا تصدعوا الإسلام ولا تكونوا أول من أحدث في الإسلام". قوله: "هم أوسط العرب" في رواية الكشميهني: "هو " بدل " هم " والأول أوجه، وقد بينت في مناقب أبي بكر أن أحمد أخرج من طريق حميد بن عبد الرحمن عن أبي بكر الصديق أنه قال يومئذ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش " وسقت الكلام على ذلك هناك، وسيأتي القول في حكمه في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله: "وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين" زاد عمرو بن مرزوق عن مالك عند الدار قطني هنا " فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح " وقد ذكرت في هذا الحديث مفاخره. وتقدم ما يتعلق بذلك في مناقب أبي بكر. قوله: "فقال قائل الأنصار" في رواية الكشميهني: "من الأنصار" وكذا في رواية مالك وقد سماه سفيان في روايته عند البزار فقال: "حباب بن المنذر" لكنه من هذه الطريق مدرج فقد بين مالك في روايته عن الزهري

(12/152)


أن الذي سماه سعيد بن المسيب فقال: "قال ابن شهاب فأخبرني سعيد بن المسيب أن الحباب بن المنذر هو الذي قال: أنا جذيلها المحكك " وتقدم موصولا في حديث عائشة " فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال الحباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير " وتقدم تفسير الموجب والمحكك هناك، وهكذا سائر ما يتعلق ببيعة أبي بكر المذكورة مشروحا، وزاد إسحاق بن الطباع هناك: فقلت لمالك ما معناه؟ قال: كأنه يقول أنا داهيتها، وهو تفسير معنى، زاد سفيان في روايته هنا "وإلا أعدنا الحرب بيننا وبينكم خدعة، فقلت: إنه لا يصلح سيفان في غمد واحد" ووقع عند معمر أن راوي ذلك قتادة، فقال: "قال قتادة قال عمر: لا يصلح سيفان في غمد واحد، ولكن منا الأمراء ومنكم الوزراء " ووقع عند ابن سعد بسند صحيح من مرسل القاسم بن محمد قال: "اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة، فأتاهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فقام الحباب بن المنذر وكان بدريا فقال: منا أمير ومنكم أمير، فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر ولكنا نخاف أن يليها أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم. فقال عمر: إذا كان ذلك فمت إن استطعت " قال الخطابي: الحامل للقائل " منا أمير ومنكم أمير " أن العرب لم تكن تعرف السيادة على قوم إلا لمن يكون منهم، وكأنه لم يكن يبلغه حكم الإمارة في الإسلام واختصاص ذلك بقريش فلما بلغه أمسك عن قوله وبايع هو وقومه أبا بكر. قوله: "حتى فرقت" بفتح الفاء وكسر الراء ثم قاف من الفرق بفتحتين وهو الخوف، وفي رواية مالك "حتى خفت" وفي رواية جويرية "حتى أشفقنا الاختلاف" ووقع في رواية ابن إسحاق المذكورة فيما أخرجه الذهلي في "الزهريات" بسند صحيح عنه حدثني عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن عمر قال: "قلت يا معشر الأنصار إن أولى الناس بنبي الله ثاني اثنين إذ هما في الغار، ثم أخذت بيده " ووقع في حديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي من طريق عاصم عن زر بن حبيش عنه أن عمر قال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يؤم بالناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالوا نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر وسنده حسن، وله شاهد من حديث سالم ابن عبيد الله عن عمر أخرجه النسائي أيضا، وآخر من طريق رافع بن عمرو الطائي أخرجه الإسماعيلي في مسند عمر بلفظ: "فأيكم يجترئ أن يتقدم أبا بكر؟ فقالوا لا أينا " وأصله عند أحمد وسنده جيد، وأخرج الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد قال: "قال أبو بكر: ألست أحق الناس بهذا الأمر؟ ألست أول من أسلم؟ ألست صاحب كذا". قوله: "فبايعته وبايعه المهاجرون" فيه رد على قول الداودي فيما نقله ابن التين عنه حيث أطلق أنه لم يكن مع أبي بكر حينئذ من المهاجرين إلا عمر وأبو عبيدة، وكأنه استصحب الحال المنقولة في توجههم، لكن ظهر من قول عمر " وبايعه المهاجرون " بعد قوله: "بايعته " أنه حضر معهم جمع من المهاجرين، فكأنهم تلاحقوا بهم لما بلغهم أنهم توجهوا إلى الأنصار، فلما بايع عمر أبا بكر وبايعه من حضر من المهاجرين على ذلك بايعه الأنصار حين قامت الحجة عليهم بما ذكره أبو بكر وغيره. قوله: "ثم بايعته الأنصار" في رواية ابن إسحاق المذكورة قريبا ثم أخذت بيده وبدرني رجل من الأنصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده، ثم ضربت على يده فنتابع الناس " والرجل المذكور بشير بن سعد والد النعمان. قوله: "ونزونا" بنون وزاي مفتوحة أي وثبنا. قوله: "فقلت: قتل الله سعد بن عبادة" تقدم بيانه في شرح حديث عائشة في مناقب أبي بكر، وسيأتي في الأحكام من وجه آخر عن الزهري قال: "أخبرني أنس أنه سمع خطبة عمر الآخرة من الغد من يوم

(12/153)


توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر صامت لا يتكلم، فقص قصة البيعة العامة، ويأتي شرحها هناك. قوله: "وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا" بصيغة الفعل الماضي. قوله: "من أمر" في موضع المفعول أي حضرنا في تلك الحالة أمورا فما وجدنا فيها أقوى من سابقة أبي بكر، والأمور التي حضرت حينئذ الاشتغال بالمشاورة واستيعاب من يكون أهلا لذلك، وجعل بعض الشراح منها الاشتغال بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه، وهو محتمل لكن ليس في سياق القصة إشعار به، بل تعليل عمر يرشد إلى الحصر فيما يتعلق بالاستخلاف. قوله: "فإما بايعناهم" في رواية الكشميهني بمثناة وبعد الألف موحدة. قوله: "على ما نرضى" في رواية مالك " على ما لا نرضى " وهو الوجه، وبقية الكلام ترشد إلى ذلك. قوله: "فمن بايع رجلا" في رواية مالك فمن تابع رجلا. قوله: "فلا يتابع هو ولا الذي بايعه" في رواية معمر من وجه آخر عن عمر " من دعي إلى إمارة من غير مشورة فلا يحل له أن يقبل". وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم أخذ العلم عن أهله وإن صغرت سن المأخوذ عنه عن الأخذ، وكذا لو نقص قدره عن قدره. وفيه التنبيه على أن العلم لا يودع عند غير أهله، ولا يحدث به إلا من يعقله، ولا يحدث القليل الفهم بما لا يحتمله. وفيه جواز إخبار السلطان بكلام من يخشى منه وقوع أمر فيه إفساد للجماعة ولا يعد ذلك من النميمة المذمومة، لكن محل ذلك أن يبهمه صونا له وجمعا له بين المصلحتين، ولعل الواقع في هذه القصة كان كذلك واكتفى عمر بالتحذير من ذلك ولم يعاقب الذي قال ذلك ولا من قيل عنه، وبنى المهلب على ما زعم أن المراد مبايعة شخص من الأنصار فقال: إن في ذلك مخالفة لقول أبي بكر " إن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش " فإن المعروف هو الشيء الذي لا يجوز خلافه. قلت: والذي ظهر من سياق القصة أن إنكار عمر إنما هو على من أراد مبايعة شخص على غير مشورة من المسلمين، ولم يتعرض لكونه قرشيا أو لا: وفيه أن العظيم يحتمل في حقه من الأمور المباحة ما لا يحتمل في حق غيره، لقول عمر " وليس فيكم من تمد إليه الأعناق مثل أبي بكر " أي فلا يلزم من احتمال المبادرة إلى بيعته عن غير تشاور عام أن يباح ذلك لكل أحد من الناس لا يتصف بمثل صفة أبي بكر. قال المهلب: وفيه أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، وأدلة ذلك كثيرة. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أوصى من ولي أمر المسلمين بالأنصار، وفيه دليل واضح على أن لا حق لهم في الخلافة، كذا قال، وفيه نظر سيأتي بيانه عند شرح باب الأمراء من قريش من كتاب الأحكام. وفيه أن المرأة إذا وجدت حاملا ولا زوج لها ولا سيد وجب عليها الحد إلا أن تقيم بينة على الحمل أو الاستكراه. وقال ابن العربي: إقامة الحمل عليه إذا ظهر ولد لم يسبقه سبب جائز يعلم قطعا أنه من حرام، ويسمى قياس الدلالة كالدخان على النار، ويعكر عليه احتمال أن يكون الوطء من شبهة، وقال ابن القاسم: إن ادعت الاستكراه وكانت غريبة فلا حد عليها، وقال الشافعي والكوفيون: لا حد عليها إلا ببينة أو إقرار. وحجة مالك قول عمر في خطبته ولم ينكرها أحد، وكذا لو قامت القرينة على الإكراه أو الخطأ قال المازري في تصديق المرأة الخلية إذا ظهر بها حمل فادعت الإكراه خلاف هل يكون ذلك شبهة أم يجب عليها الحد لحديث عمر؟ قال ابن عبد البر: قد جاء عن عمر في عدة قضايا أنه درأ الحد بدعوى الإكراه ونحوه، ثم ساق من طريق شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال: "إنا لمع عمر بمنى فإذا بامرأة حبلى ضخمة تبكي، فسألها فقالت: إني ثقيلة الرأس فقمت بالليل أصلي ثم نمت فما استيقظت إلا ورجل قد ركبني ومضى فما أدري من هو، قال فدرأ عنها الحد، وجمع بعضهم بأن من عرف منها مخايل الصدق في دعوى الإكراه قبل منها، وأما

(12/154)


المعروفة في البلد التي لا تعرف بالدين ولا الصدق ولا قرينة معها على الإكراه فلا ولا سيما إن كانت متهمة، وعلى الثاني يدل قوله: "أو كان الخبل " واستنبط منه الباجي أن من وطئ في غير الفرج فدخل ماؤه فيه فادعت المرأة أن الولد منه لا يقبل ولا يلحق به إذا لم يعترف به، لأنه لو لحق به لما وجب الرجم على حبلى لجواز مثل ذلك، وعكسه غيره فقال: هذا يقتضي أن لا يجب على الحبلى بمجرد الحبل حد لاحتمال مثل هذه الشبهة وهو قول الجمهور، وأجاب الطحاوي أن المستفاد من قول عمر " الرجم حق على من زنى " أن الحبل إذا كان من زنا وجب فيه الرجم وهو كذلك، ولكن لا بد من ثبوت كونه من زنى، ولا ترجم بمجرد الحبل مع قيام الاحتمال فيه، لأن عمر لما أتى بالمرأة الحبلى وقالوا إنها زنت وهي تبكي فسألها ما يبكيك فأخبرت أن رجلا ركبها وهي نائمة فدرأ عنها الحد بذلك. قلت: ولا يخفى تكلفه، فإن عمر قابل الحبل بالاعتراف، وقسيم الشيء لا يكون قسمه، وإنما اعتمد من لا يرى الحد بمجرد الحبل قيام الاحتمال بأنه ليس عن زنى محقق، وأن الحد يدفع بالشبهة والله أعلم. وفيه أن من اطلع على أمر يريد الإمام أن يحدثه فله أن ينبه غيره عليه إجمالا ليكون إذا سمعه على بصيرة، كما وقع لابن عباس مع سعيد بن زيد. وإنما أنكر سعيد على ابن عباس لأن الأصل عنده أن أمور الشرع قد استقرت، فمهما أحدث بعد ذلك إنما يكون تفريعا عليها، وإنما سكت ابن عباس عن بيان ذلك له لعلمه بأنه سيسمع ذلك من عمر على الفور. وفيه جواز الاعتراض على الإمام في الرأي إذا خشي أمرا وكان فيما أشار به رجحان على ما أراده الإمام، واستدل به على أن أهل المدينة مخصوصون بالعلم والفهم لاتفاق عبد الرحمن بن عوف وعمر على ذلك، كذا قال المهلب فيما حكاه ابن بطال وأقره، وهو صحيح في حق أهل ذلك العصر، ويلتحق بهم من ضاهاهم في ذلك، ولا يلزم من ذلك أن يستمر ذلك في كل عصر بل ولا في كل فرد فرد. وفيه الحث على تبليغ العلم ممن حفظه وفهمه وحث من لا يفهم على عدم التبليغ إلا إن كان يورده بلفظه ولا يتصرف فيه. وأشار المهلب إلى أن مناسبة إيراد عمر حديث: "لا ترغبوا عن آبائكم " وحديث الرجم من جهة أنه أشار إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يقطع فيما لا نص فيه من القرآن أو السنة، ولا يتسور برأيه فيه فيقول أو يعمل بما تزين له نفسه، كما يقطع الذي قال: "لو مات عمر بايعت فلانا " لما لم يجد شرط من يصلح للإمامة منصوصا عليه في الكتاب فقاس ما أراد أن يقع له بما وقع في قصة أبي بكر فأخطأ القياس لوجود الفارق، وكان الواجب عليه أن يسأل أهل العلم بالكتاب والسنة عنه ويعمل بما يدلونه عليه، فقدم عمر قصة الرجم وقصة النهي عن الرغبة عن الآباء وليسا منصوصين، في الكتاب المتلو وإن كانا مما أنزل الله واستمر حكمهما ونسخت تلاوتهما، لكن ذلك مخصوص بأهل العلم ممن اطلع على ذلك، وإلا فالأصل أن كل شيء نسخت تلاوته نسخ حكمه، وفي قوله: "أخشى إن طال بالناس زمان " إشارة إلى دروس العلم مع مرور الزمن فيجد الجهال السبيل إلى التأويل بغير علم، وأما الحديث الآخر وهو " لا تطروني " ففيه إشارة إلى تعليمهم ما يخشى عليهم جهله، قال: وفيه اهتمام الصحابة وأهل القرن الأول بالقرآن والمنع من الزيادة في المصحف، وكذا منع النقص بطريق الأولى، لأن الزيادة إنما تمنع لئلا يضاف إلى القرآن ما ليس منه فإطراح بعضه أشد، قال: وهذا يشعر بأن كل ما نقل عن السلف كأبي بن كعب وابن مسعود من زيادة ليست في الإمام إنما هي على سبيل التفسير ونحوه، قال: ويحتمل أن يكون ذلك كان في أول الأمر ثم استقر الإجماع على ما في الإمام وبقيت تلك الروايات تنقل لا على أنها ثبتت في المصحف. وفيه دليل

(12/155)


على أن من خشي من قوم فتنة وأن لا يجيبوا إلى امتثال الأمر الحق أن يتوجه إليهم ويناظرهم ويقيم عليهم الحجة وقد أخرج النسائي من حديث سالم بن عبيد الله قال: "اجتمع المهاجرون يتشاورون فقالوا: انطلقوا بنا إلى إخواننا الأنصار، فقالوا منا أمير ومنكم أمير، فقال عمر فسيفان في غمد إذا لا يصلحان، ثم أخذ بيد أبي بكر فقال: من له هذه الثلاثة {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ؟ من صاحبه "إذ هما في الغار" من هما؟ فبايعه وبايعه الناس أحسن بيعة وأجملها. وفيه أن للكبير القدر أن يتواضع ويفضل من هو دونه على نفسه أدبا وفرارا من تزكية نفسه، ويدل عليه أن عمر لما قال له ابسط يدك لم يمتنع. وفيه أنه لا يكون للمسلمين أكثر من إمام. وفيه جواز الدعاء على من يخشى في بقائه فتنة، واستدل به على أن من قذف غيره عند الإمام لم يجب على الإمام أن يقيم عليه الحد حتى طلبه المقذوف لأن له أن يعفو عن قاذفه أو يريد الستر. وفيه أن على الإمام إن خشي من قوم الوقوع في محذور أن يأتيهم فيعظهم ويحذرهم قبل الإيقاع بهم، وتمسك بعض الشيعة بقول أبي بكر " قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين " بأنه لم يكن يعتقد وجوب إمامته ولا استحقاقه للخلافة، والجواب من أوجه: أحدهما أن ذلك كان تواضعا منه، والثاني لتجويزه إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وإن كان من الحق له فله أن يتبرع لغيره. الثالث أنه علم أن كلا منهما لا يرضى أن يتقدمه فأراد بذلك الإشارة إلى أنه لو قدر أنه لا يدخل في ذلك لكان الأمر منحصرا فيهما، ومن ثم لما حضره الموت استخلف عمر لكون أبي عبيدة كان إذ ذاك غائبا في جهاد أهل الشام متشاغلا بفتحها، وقد دل قول عمر " لأن أقدم فتضرب عنقي إلخ، على صحة الاحتمال المذكور. وفيه إشارة ذي الرأي على الإمام بالمصلحة العامة بما ينفع عموما أو خصوصا وإن لم يستشره، ورجوعه إليه عند وضوح الصواب. واستدل بقول أبي بكر " أحد هذين الرجلين " أن شرط الإمام أن يكون واحدا، وقد ثبت النص الصريح في حديث مسلم: "إذا بايعوا الخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" وإن كان بعضهم أوله بالخلع والإعراض عنه فيصير كمن قتل. وكذا قال الخطابي في قول عمر في حق سعد اقتلوه أي اجعلوه كمن قتل.

(12/156)


باب البكران يجلدان و ينفيان
...
32- باب الْبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: رَأْفَةٌ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ
6831- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ"
6832- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ "وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَرَّبَ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تِلْكَ السُّنَّةَ"
6833- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي

(12/156)


هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِنَفْيِ عَامٍ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ"
قوله: "باب البكران يجلدان وينفيان" هذه الترجمة لفظ خبر أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عن مسروق عن أبي بن كعب مثله وزاد: "والثيبان يجلدان ويرجمان " وأخرج ابن المنذر الزيادة بلفظ: "والثيبان يرجمان واللذان بلغا سنا يجلدان ثم يرجمان " وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن مسروق " البكران يجلدان وينفيان، والثيبان يرجمان ولا يجلدان، والشيخان يجلدان ثم يرجمان " ورجاله رجال الصحيح وقد تقدمت الإشارة إلى هذه الزيادة في " باب رجم المحصن " ونقل محمد بن نصر في " كتاب الإجماع " الاتفاق على نفي الزاني إلا عن الكوفيين، ووافق الجمهور منهم ابن أبي ليلى وأبو يوسف، وادعى الطحاوي أنه منسوخ، وسأذكره في "باب لا تغريب على الأمة ولا تنفى". واختلف القائلون بالتغريب فقال الشافعي والثوري وداود والطبري بالتعميم، وفي قول للشافعي لا ينفى الرقيق، وخص الأوزاعي النفي بالذكورية، وبه قال مالك وقيده بالحرية، وبه قال إسحاق. وعن أحمد روايتان. واحتج من شرط الحرية بأن في نفي العبد عقوبة لمالكه لمنعه منفعته مدة نفيه، وتصرف الشرع يقتضي أن لا يعاقب إلا الجاني، ومن ثم سقط فرض الحج والجهاد عن العبد. وقال ابن المنذر: أقسم النبي صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف أنه يقضي فيه بكتاب الله ثم قال: إن عليه جلد مائة وتغريب عام، وهو المبين لكتاب الله. وخطب عمر بذلك على رءوس الناس، وعمل به الخلفاء الراشدون فلم ينكره أحد فكان إجماعا، واختلف في المسافة التي ينفى إليها: فقيل هو إلى رأي الإمام، وقيل يشترط مسافة القصر، وقيل إلى ثلاثة أيام، وقيل إلى يومين، وقيل يوم وليلة، وقيل من عمل إلى عمل، وقيل إلى ميل، وقيل إلى ما ينطلق عليه اسم نفي. وشرط المالكية الحبس في المكان الذي ينفى إليه، وسيأتي البحث فيه في باب " لا تغريب على الأمة ولا نفي " ومن عجيب الاستدلال احتجاج الطحاوي لسقوط النفي أصلا بأن نفي الأمة ساقط بقوله: "بيعوها" كما سيأتي تقريره قال: وإذا سقط عن الأمة سقط عن الحرة لأنها في معناها، ويتأكد بحديث: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " قال: وإذا انتفى أن يكون على النساء نفي انتفى أن يكون على الرجال، كذا قال وهو مبني على أن العموم إذا سقط خص الاستدلال به، وهو مذهب ضعيف جدا. قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} الآية كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى قوله: {الْمُؤْمِنِينَ} والمراد بذكر هذه الآية أن الجلد ثابت بكتاب الله، وقام الإجماع ممن يعتد به على اختصاصه بالبكر وهو غير المحصن، وقد تقدم بيان المحصن في "باب رجم المحصن" واختلفوا في كيفية الجلد فعن مالك يختص بالظهر لقوله في حديث اللعان "البينة وإلا جلد في ظهرك" وقال غيره: يفرق على الأعضاء ويتقي الوجه والرأس، ويجلد في الزنا والشرب والتعزير قائما مجردا، والمرأة قاعدة، وفي القذف وعليه ثيابه. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: لا يجرد أحد في الحد، وليس في الآية للنفي ذكر فتمسك به الحنفية فقالوا: لا يزاد على القرآن بخبر الواحد، والجواب أنه مشهور لكثرة طرقه ومن عمل به من الصحابة، وقد عملوا بمثله بل بدونه كنقض الوضوء بالقهقهة وجواز الوضوء بالنبيذ وغير ذلك مما ليس في القرآن، وقد أخرج مسلم من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: كن يحبسن في البيوت إن ماتت ماتت وإن عاشت عاشت: لما نزل {وَاللَّاتِي

(12/157)


يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} حتى نزلت: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}. قوله: "قال ابن عيينة رأفة في إقامة الحد" كذا للأكثر وسقط "في" لبعضهم ولبعضهم "ابن عليه" بلام وتحتانية ثقيلة وعليه جرى ابن بطال والأول المعتمد، وقد ذكر مغلطاي في شرحه أنه رآه في تفسير سفيان ابن عيينة. قلت: ووقع نظيره عند ابن أبي شيبة عن مجاهد بسند صحيح إليه وزاد بعد قوله في إقامة الحد "يقام ولا يعطل" والمراد بتعطيل الحد تركه أصلا أو نقصه عددا ومعنى، وقوله تعالى:{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} نقل ابن المنذر عن أحمد الاجتزاء بواحد، وعن إسحاق اثنين، وعن الزهري ثلاثة، وعن مالك والشافعي أربعة، وعن ربيعة ما زاد عليها، وعن الحسن عشرة. ونقل ابن أبي شيبة بأسانيده عن مجاهد أدناها رجل، وعن محمد بن كعب في قوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} قال: هو رجل واحد، وعن عطاء اثنان، وعن الزهري ثلاثة، وسيأتي في أول خبر الواحد ما جاء في قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}. قوله: "عبد العزيز" هو ابن أبي سلمة الماجشون. قوله: "عن زيد بن خالد" هكذا اختصر عبد العزيز من السند ذكر أبي هريرة ومن المتن سياق قصة العسيف كلها واقتصر منها على قوله: "يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام " ويحتمل أن يكون ابن شهاب اختصره لما حدث به عبد العزيز، وقوله، "جلد مائة" بالنصب على نزع الخافض. ووقع في رواية النسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن عبد العزيز بلفظ: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام " وقوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "أن عمر بن الخطاب" هو منقطع لأن عروة لم يسمع من عمر، لكنه ثبت عن عمر من وجه آخر أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب " أخرجوه من رواية عبد الله بن إدريس عنه، وذكر الترمذي أن أكثر أصحاب عبيد الله بن عمر رووه عنه موقوفا على أبي بكر وعمر. قوله: "غرب ثم لم تزل تلك السنة" زاد عبد الرزاق في روايته عن مالك " حتى غرب مروان " ثم ترك الناس ذلك يعني أهل المدينة. قوله في رواية الليث "عن عقيل" ووقع عند الإسماعيلي في رواية حجاج بن محمد عن الليث "حدثني عقيل". قوله: "عن سعيد بن المسيب" هكذا خالف عقيل عبد العزيز بن أبي سلمة في شيخ الزهري فإن كان هذا المتن مختصرا من قصة العسيف فقد وافق عبد العزيز جميع أصحاب الزهري فإن شيخه عندهم عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة لا سعيد بن المسيب، وإن كان حديثا آخر فالراجح قول عقيل لأنه أحفظ لحديث الزهري من عبد العزيز لكن قد روى عقيل عن الزهري الحديث الآخر موافقا لعبد العزيز أخرجهما النسائي من طريق حجين بمهملة ثم جيم مصغر ابن المثنى عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب فذكر الحديثين على الولاء حديث زيد بن خالد من رواية عبيد الله عنه وحديث أبي هريرة من رواية سعيد بن المسيب عنه، وابن شهاب صاحب حديث لا يستنكر منه حمله الحديث عن جماعة بألفاظ مختلفة. قوله: "بنفي عام وبإقامة الحد عليه" وقع في رواية النسائي: "أن ينفي عاما مع إقامة الحد عليه" وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد عن الليث، وعرف أن الباء في رواية يحيى بن بكير بمعنى مع والمراد بإقامة الحد ما ذكر في رواية عبد العزيز جلد المائة وأطلق عليها الجلد لكونها بنص القرآن، وقد تمسك بهذه الرواية من زعم أن النفي تعزير وأنه ليس جزءا من

(12/158)


الحد، وأجيب بأن الحديث يفسر بعضه بعضا، وقد وقع التصريح في قصة العسيف من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أن عليه جلد مائة وتغريب عام، وهو ظاهر في كون الكل حده، ولم يختلف على راويه في لفظه فهو أرجح من حكاية الصحابي مع الاختلاف. ومما يؤيد كون حديثي الباب واحدا مع أنه اختلف على ابن شهاب في تابعيه وصحابيه أن الزيادة التي عن عمر عند عبد العزيز في حدث زيد بن خالد وقعت عند عقيل في حديث أبي هريرة، ففي آخر رواية حجاج بن محمد التي أشرت إليها عند الإسماعيلي: "قال ابن شهاب وكان عمر ينفي من المدينة إلى البصرة وإلى خيبر " وفيه إشارة إلى بعد المسافة وقربها في النفي بحسب ما يراه الإمام وأن ذلك لا يتقيد. والذي تحرر لي من هذا الاختلاف أن في حديثي الباب اختصارا من قصة العسيف وأن أصل الحديث كان عند عبيد الله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد جميعا فكان يحدث به عنهما بتمامه وربما حدث عنه عن زيد بن خالد باختصار، وكان عند سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وحده باختصار والله أعلم. وفي الحديث جواز الجمع بين الحد والتعزير خلافا للحنفية إن أخذ بظاهر قوله: "مع إقامة الحد" وجواز الجمع بين الجلد والنفي في حق الزاني الذي لم يحصن خلافا لهم أيضا إن قلنا إن الجميع حد. واحتج بعضهم بأن حديث عبادة الذي فيه النفي منسوخ بآية النور لأن فيها الجلد بغير نفي، وتعقب بأنه يحتاج إلى ثبوت التاريخ، وبأن العكس أقرب فإن آية الجلد مطلقة في حق كل زان فخص منها في حديث عبادة الثيب، ولا يلزم من خلو آية النور عن النفي عدم مشروعيته كما لم يلزم من خلوها من الرجم ذلك، ومن الحجج القوية أن قصة العسيف كانت بعد آية النور لأنه كانت في قصة الإفك وهي متقدمة على قصة العسيف لأن أبا هريرة حضرها وإنما هاجر بعد قصة الإفك بزمان.

(12/159)


باب نفي أهل المعاصي و المخنثين
...
33- باب: نَفْيِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْمُخَنَّثِينَ
6834- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلاَتِ مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ، وَأَخْرَجَ فُلاَنًا وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلاَنًا"
قوله: "باب نفي أهل المعاصي والخنثين" كأنه أراد الرد على من أنكر النفي على غير المحارب فبين أنه ثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده في حق عير المحارب وإذا ثبت في حق من لم يقع منه كبيرة فوقوعه فيمن أتى كبيرة بطريق الأولى،. وقد تقدم ضبط المخنث في "باب ما ينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة". في أواخر النكاح. قوله: "هشام" هو الدستوائي، ويحيى هو ابن أبي كثير " وقد تقدم بيان الاختلاف على هشام في سنده في كتاب اللباس في " باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت " مع بقية شرحه. قوله: "وأخرج عمر فلانا" سقط لفظ عمر من رواية غير أبي ذر، وقد أخرج أبو داود الحديث عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه بعد قوله: "وقال أخرجوهم من بيوتكم وأخرجوا فلانا وفلانا يعني المخنثين " وتقدم في اللباس عن معاذ بن فضالة عن هشام كرواية أبي ذر هنا، وكذا عند أحمد عن يزيد بن هارون وغيره عن هشام، وذكرت هناك اسم من نفاه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ولم أذكر اسم الذي نفاه عمر، ثم وقفت في " كتاب المغربين لأبي الحسن المدايني" من طريق الوليد بن سعيد قال: "سمع عمر قوما يقولون أبو ذؤيب أحسن أهل المدينة، فدعا به فقال: أنت لعمري، فأخرج عن المدينة

(12/159)


فقال: إن كنت تخرجني فإلى البصرة حيث أخرجت يا عمر نصر بن حجاج" وذكر قصة. نصر بن حجاج وهي مشهورة، وساق قصة جعدة السلمي وأنه كان يخرج مع النساء إلى البقيع ويتحدث إليهن حتى كتب بعض الغزاة إلى عمر يشكو ذلك فأخرجه، وعن مسلمة بن محارب عن إسماعيل بن مسلم أن أمية بن يزيد الأسدي ومولى مزينة كانا يحتكران الطعام بالمدينة فأخرجهما عمر، ثم ذكر عدة قصص لمبهم ومعين، فيمكن التفسير في هذه القصة ببعض هؤلاء. قال ابن بطال: أشار البخاري بإيراد هذه الترجمة عقب ترجمة الزاني إلى أن النفي إذا شرع في حق من أتى معصية لأحد فيها فلأن يشرع في حق من أتى ما فيه حد أولى، فتتأكد السنة الثابتة بالقياس ليرد به عل من عارض السنة بالقياس، فإذا تعارض القياسان بقيت السنة بلا معارض. واستدل به على أن المراد بالمخنثين المتشبهون بالنساء لا من يؤتي، فإن ذلك حده الرجم، ومن وجب رجمه لا ينفي، وتعقب بأن حده مختلف فيه، والأكثر أن حكمه حكم الزاني، فإن ثبت عليه جلد ونفى، لأنه لا يتصور فيه الإحصان، وإن كان يتشبه فقط نفى فقط، وقيل إن في الترجمة إشارة إلى ضعف القول الصائر إلى رجم الفاعل والمفعول به وأن هذا الحديث الصحيح لم يأت فيه إلا النفي، وفي هذا نظر لأنه لم يثبت عن أحد ممن أخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يؤتي، وقد أخرج أبو داود من طريق أبي هاشم عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بمخنث قد خضب يديه ورجليه فقالوا: ما بال هذا؟ قيل يتشبه بالنساء، فأمر به فنفى إلى النقيع" يعني بالنون والله أعلم.

(12/160)


باب من أمر غير الامام باقامة الحد غالبا عنه
...
34- باب: مَنْ أَمَرَ غَيْرَ الإِمَامِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ غَائِبًا عَنْهُ
6835 ، 6836- حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ "أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِكِتَابِ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَزَعَمُوا أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْغَنَمُ وَالْوَلِيدَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا، فَغَدَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا"
قوله: "باب من أمر غير الإمام بإقامة الحد غائبا عنه" قال الكرماني: في هذا التركيب قلق، وكان الأولى أن يبدل لفظ: "غير " بالضمير فيقول من أمره الإمام إلخ. وقال ابن بطال: قد ترجم بعد، يعني في آخر أبواب الحدود " هل يأمر الإمام رجلا فيضرب الحد غائبا عنه " ومعنى الترجمتين واحد، كذا قال، ويظهر لي أن بينهما تغايرا من جهة أن قوله في الأول غائبا عنه حال من المأمور وهو الذي يقيم الحد، وفي الآخر حال من الذي يقام عليه الحد. ثم ذكر حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف، وقد مضى شرحه مستوفى قريبا. وقوله في هذه الرواية: "فقام خصمه فقال: صدق، اقض له يا رسول الله بكتاب الله، إن ابني " قال الكرماني: القائل هو الأعرابي لا خصمه، لأنه وقع في كتاب الصلح " جاء أعرابي فقال يا رسول الله. اقض بيننا بكتاب الله فقام خصمه وقال: صدق اقض بيننا بكتاب الله، فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفا". قلت: بل الذي قال: اقض بيننا هو

(12/160)


والد العسيف، ففي الرواية الماضية قريبا في باب الاعتراف بالزنا " فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي إلخ " هذه رواية سفيان بن عيينة ووافقه الجمهور، فتقدمت رواية مالك في الأيمان والنذور ورواية الليث في الشروط وتأتي رواية صالح بن كيسان وشعيب بن أبي حمزة في خبر الواحد وكذا أخرجه مسلم من رواية الليث وصالح بن كيسان ومعمر وساقه على لفظ الليث، ومع ذلك فالاختلاف في هذا على ابن أبي ذئب، فإنه رواه عن الزهري هنا وفي الصلح، فالراوي له في الصلح عن ابن أبي ذئب آدم بن أبي إياس وهنا عاصم بن علي، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق يزيد ابن هارون عن ابن أبي ذئب فوافق عاصم بن علي وهذا هو المعتمد، وإن قوله في رواية آدم "فقال الأعرابي" زيادة إلا إن كان كل من الخصمين متصفا بهذا الوصف، وليس ذلك ببعيد، والله أعلم.

(12/161)


باب قول الله تعالى { و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات }
...
35- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ زَوَانِي وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ أَخِلاَءَ
قوله: "باب قول الله تعالى :{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية" كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، قال الواحدي قرئ {الْمُحْصَنَاتِ} في القرآن بكسر الصاد وفتحها إلا في قوله تعالى :{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فبالفتح جزما، وقرئ {فَإِذَا أُحْصِنَّ} بالضم وبالفتح، فالبضم معناه التزويج وبالفتح معناه الإسلام، وقال غيره: اختلف في إحصان الأمة، فقال الأكثر إحصانها التزويج، وقيل العتق، وعن ابن عباس وطائفة إحصانها التزويج، ونصره أبو عبيد وإسماعيل القاض واحتج له بأنه تقدم في الآية قوله تعالى :{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فيبعد أن يقول بعده فإذا أسلمن، قال: فإن كان المراد التزويج كان مفهومه أنها قبل أن تتزوج لا يجب عليها الحد إذا زنت، وقد أخذ به ابن عباس فقال: لأحد على الأمة إذا زنت قبل أن تتزوج، وبه قال جماعة من التابعين، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام، وهو وجه للشافعية، واحتج بما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس " ليس على الأمة حد حتى تحصن " وسنده حسن لكن اختلف في رفعه ووقفه والأرجح وقفه وبذلك جزم ابن خزيمة وغيره، وادعى ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" أنه منسوخ بحديث الباب، وتعقب بأن النسخ يحتاج إلى التاريخ وهو لم يعلم، وقد عارضه حديث على "أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن" واختلف أيضا في رفعه ووقفه، والراجح أنه موقوف، لكن سياقه في مسلم يدل على رفعه فالتمسك به أقوى، وإذا حمل الإحصان في الحديث على التزويج وفي الآية على الإسلام حصل الجمع، وقد بينت السنة أنها إذا زنت قبل الإحصان تجلد، وقال غيره التقييد بالإحصان يفيد أن الحكم في حقها الجلد لا الرجم، فأخذ حكم زناها بعد الإحصان من الكتاب وحكم زناها قبل الإحصان من السنة، والحكمة فيه أن الرجم لا ينتصف فاستمر حكم الجلد في حقها. قال البيهقي: ويحتمل أن يكون نص على الجلد في أكمل حاليها ليستدل به على سقوط الرجم عنها لا على إرادة إسقاط الجلد عنها إذا لم تتزوج، وقد بينت السنة أن عليها الجلد

(12/161)


وإن لم تحصن. قوله: "غير مسافحات زواني، ولا متخذات أخدان أخلاء" بفتح الهمزة وكسر المعجمة والتشديد جمع خليل، وهذا التفسير ثبت في رواية المستملي وحده، وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، والمسافحات جمع مسافحة مأخوذ من السفاح وهو من أسماء الزنا، والأخدان جمع خدن بكسر أوله وسكون ثانيه وهو الخدين والمراد به الصاحب، قال الراغب: وأكثر ما يستعمل فيمن يصاحب غيره بشهوة، وأما قول الشاعر في المدح "خدين المعالي" فهو استعارة. قلت: والنكتة فيه أنه جعله يشتهي معالي الأمور كما يشتهي غيره الصورة الجميلة فجعله خدينا لها. وقال غيره: الخدين الخليل في السر.
باب: إِذَا زَنَتْ الأَمَةُ
6837 ، 6838- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ "عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ قَالَ: إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ" قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لاَ أَدْرِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ
قوله: "باب إذا زنت الأمة" أي ما يكون حكمها؟ وسقطت هذه الترجمة للأصيلي، وجرى على ذلك ابن بطال وصار الحديث المذكور فيها حديث الباب المذكور قبلها، ولكن صرح الإسماعيلي بأن الباب الذي قبلها لا حديث فيه، وقد تقدم الجواب عن نظيره وأنه إما أن يكون أخلى بياضا في المسودة فسده النساخ بعده، وإما أن يكون اكتفى بالآية وتأويلها في الحدث المرفوع، وهذا هو الأقرب لكثرة وجود مثله في الكتاب. قوله: "عن أبي هريرة وزيد بن خالد" سبق التنبيه في شرح قصة العسيف على أن الزبيدي ويونس زادا في روايتهما لهذا الحديث عن الزهري شبل بن خليل أو ابن حامد، وتقدم بيانه مفصلا. قوله: "سئل عن الأمة" في رواية حميد بن عبد الرحمن عن أي هريرة " أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن جاريتي زنت فتبين زناها، قال: اجلدها " ولم أقف على اسم هذا الرجل. قوله: "إذا زنت ولم تحصن" تقدم القول في المراد بهذا الإحصان، قال ابن بطال: زعم من قال لا جلد عليها قبل التزويج بأنه لم يقل في هذا الحديث: "ولم تحصن " غير مالك، وليس كما زعموا فقد رواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن شهاب كما قال مالك، وكذا رواه طائفة عن ابن عيينة عنه. قلت: رواية يحيى بن سعيد أخرجها النسائي ورواية ابن عيينة تقدمت في البيوع ليس فيها "ولم تحصن" وزادها النسائي في روايته عن الحارث بن مسكين عن ابن عيينة بلفظ: "سئل عن الأمة تزني قبل أن تحصن " وكذا عند ابن ماجة عن أبي بكر ابن أبي شيبة ومحمد بن الصباح كلاهما عن ابن عيينة، وقد رواه عن ابن شهاب أيضا صالح بن كيسان كما قال مالك وتقدمت روايته في كتاب البيوع في "باب بيع المدبر" وكذا أخرجهما مسلم والنسائي، ووقع في رواية سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة هناك بدونها وسيأتي قريبا أيضا، وعلى تقدير أن مالكا تفرد بها فهو من الحفاظ وزيادته مقبولة، وقد سبق الجواب عن مفهومها. قوله: "قال إن زنت فاجلدوها" قيل أعاد الزنا في الجواب غير مقيد بالإحصان للتنبيه على أنه لا أثر له وأن موجب الحد في الأمة مطلق الزنا، ومعنى "اجلدوها" الحد اللائق بها المبين في الآية وهو نصف ما على الحرة، وقد وقع في رواية أخرى عن أبي هريرة: فليجلدها الحد

(12/162)


والخطاب في اجلدوها لمن يملك الأمة، فاستدل به على أن السيد يقيم الحد على من يملكه من جارية وعبد، أما الجارية فبالنص وأما العبد فبالإلحاق، وقد اختلف السلف فيمن يقيم الحدود على الأرقاء: فقالت طائفة لا يقيمها إلا الإمام أو من يأذن له وهو قول الحنفية، وعن الأوزاعي والثوري لا يقيم السيد إلا حد الزنا، واحتج الطحاوي بما أورده من طريق مسلم ابن يسار قال: "كان أبو عبد الله رجل من الصحابة يقول: الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان " قال الطحاوي لا نعلم له مخالفا من الصحابة، وتعقبه ابن حزم فقال: بل خالفه اثنا عشر نفسا من الصحابة، وقال آخرون يقيمها السيد ولو لم يأذن له الإمام وهو قول الشافعي، وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر " في الأمة إذا زنت ولا زوج لها يحدها سيدها، فإن كانت ذات زوج فأمرها إلى الإمام " وبه قال مالك إلا إن كان زوجها عبدا لسيدها فأمرها إلى السيد، واستثنى مالك القطع في السرقة، وهو وجه للشافعية وفي آخر يستثنى حد الشرب، واحتج للمالكية بأن في القطع مثلة فلا يؤمن السيد أن يريد أن يمثل بعده فيخشى أن يتصل الأمر بمن يعتقد أنه يعتق بذلك فيدعى عليه السرقة لئلا يعتق فيمنع من مباشرته القطع سدا للذريعة، وأخذ بعض المالكية من هذا التعليل اختصاص ذلك بما إذا كان مستند السرقة علم السيد أو الإقرار، بخلاف ما لو ثبتت بالبينة فإنه يجوز للسيد لفقد العلة المذكورة، وحجة الجمهور حديث على المشار إليه قبل وهو عند مسلم والثلاثة، وعند الشافعية خلاف في اشتراط أهلية السيد لذلك، وتمسك من لم يشترط بأن سبيله سبيل الاستصلاح فلا يفتقر للأهلية. وقال ابن حزم: يقيمه السيد إلا إن كان كافرا، واحتج بأنهم لا يقرون إلا بالصغار وفي تسليطه على إقامة الحد منافاة لذلك. وقال ابن العربي: في قول مالك إن كانت الأمة ذات زوج لم يحدها الإمام من أجل أن للزوج تعلقا بالفرج في حفظه عن النسب الباطل والماء الفاسد، لكن حديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى أن يتبع، يعني حديث على المذكور الدال على التعميم في ذات الزوج وغيرها، وقد وقع في بعض طرقه: "من أحصن منهم ومن لم يحصن". قوله: "ثم بيعوها ولو بضفير" بفتح الضاد المعجمة غير المشالة ثم فاء أي المضفور فعيل بمعنى مفعول، زاد يونس وابن أخي الزهري والزبيدي ويحيى بن سعيد كلهم عن ابن شهاب عند النسائي: "والضفير الحبل " وهكذا أخرجه عن قتيبة عن مالك وزادها عمار بن أبي فروة عن محمد بن مسلم وهو ابن شهاب الزهري عند النسائي وابن ماجة، لكن خالف في الإسناد فقال: "إن محمد بن مسلم حدثه أن عروة وعمرة حدثاه أن عائشة حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا زنت الأمة فاجلدوها " وقال في آخره: "ولو بضفير والضفير الحبل " وقوله والضفير الحبل مدرج في هذا الحديث من قوله الزهري على ما بين في رواية القعنبي عن مالك عند مسلم وأبي داود فقال في آخره: "قال ابن شهاب والضفير الحبل " وكذلك ذكره الدار قطني في الموطآت منسوبا لجميع من روى الموطأ إلا ابن مهدي فإن ظاهر سياقه أنه أدرجه أيضا، ومنهم من لم يذكر قوله والضفير الحبل كما في رواية الباب. قوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة" لم يختلف في رواية مالك في هذا، وكذا في رواية صالح بن كيسان وابن عيينة، وكذا في رواية يونس والزبيدي عن الزهري عند النسائي، وكذا في رواية معمر عند مسلم وأدرجه في رواية يحيى بن سعيد عند النسائي ولفظه: "ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير بعد الثالثة أو الرابعة " ولم يقل قال ابن شهاب وعن قتيبة عن مالك كذلك، وأدرج أيضا في رواية محمد بن أبي فروة عن الزهري في حدث عائشة عند النسائي، والصواب التفصيل، وأما

(12/163)


الشك في الثالثة أو في الرابعة فوقع في حديث أبي صالح عن أبي هريرة عند الترمذي " فليجلدها ثلاثا فإن عادت فليبعها " ونحوه في مرسل عكرمة عند أبي قرة بلفظ: "وإذا زنت الرابعة فبيعوها " ووقع في رواية سعيد المقبري المذكورة في الباب الذي يليه " ثم إن زنت الثالثة فليبعها " ومحصل الاختلاف هل يجلدها في الرابعة قبل البيع أو يبيعها بلا جلد؟ والراجح الأول ويكون سكوت من سكت عنه للعلم بأن الجلد لا يترك ولا يقوم البيع مقامه، ويمكن الجمع بأن البيع يقع بعد المرة الثالثة في الجلد لأنه المحقق فيلغي الشك، والاعتماد على الثلاث في كثر من الأمور المشروعة. وقوله: "ولو بضفير" أي حبل مضفور، ووقع في رواية المقبري " ولو بحبل من شعر " وأصل الضفر نسج الشعر وإدخال بعضه في بعض ومنه ضفائر شعر الرأس للمرأة وللرجل، قيل لا يكون مضفورا إلا إن كان من ثلاث، وقيل شرطه أن يكون عريضا وفيه نظر. وفي الحديث أن الزنا عيب يرد به الرقيق للأمر بالحط من قيمة المرقوق إذا وجد منه الزنا، كذا جزم به النووي تبعا لغيره، وتوقف فيه ابن دقيق العيد لجواز أن يكون المقصود الأمر بالبيع ولو انحطت القيمة فيكون ذلك متعلقا بأمر وجودي لا إخبارا عن حكم شرعي إذ ليس في الخبر تصريح بالأمر من حط القيمة. وفيه أن من زنى فأقيم عليه الحد ثم عاد أعيد عليه، بخلاف من زنى مرارا فإنه يكتفي فيه بإقامة الحد عليه مرة واحدة على الراجح. وفيه الزجر عن مخالطة الفساق ومعاشرتهم ولو كانوا من الإلزام إذا تكرر زجرهم ولم يرتدعوا ويقع الزجر بإقامة الحد فيما شرع فيه الحد وبالتعزير فيما لا حد فيه. وفيه جواز عطف الأمر المقتضى للندب على الأمر المقتضى للوجوب لأن الأمر بالجلد واجب والأمر بالبيع مندوب عند الجمهور خلافا لأبي ثور وأهل الظاهر، وادعى بعض الشافعية أن سبب صرف الأمر عن الوجوب أنه منسوخ، وممن حكاه ابن الرفعة في المطلب ويحتاج إلى ثبوت، وقال ابن بطال: حمل الفقهاء الأمر بالبيع على الحض على مساعدة من تكرر منه الزنا لئلا ظن بالسيد الرضا بذلك ولما في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا، قال: وحمله بعضهم على الوجوب ولا سلف لي من الأمة فلا يستقل به، وقد ثبت النهي عن إضاعة المال فكيف يجب بيع الأمة ذات القيمة بحبل من شعر لا قيمة له: فدل على أن المراد الزجر عن معاشرة من تكرر منه ذلك، وتعقب بأنه لا دلالة فيه عل بيع الثمين بالحقير وإن كان بعضهم قد استدل به على جواز بيع المطلق التصرف ماله بدون قيمته ولو كان بما يتغابن بمثله إلا أن قوله: "ولو بحبل من شعر " لا يراد به ظاهره وإنما ذكر للمبالغة كما وقع في حديث: "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة " على أحد الأجوبة، لأن قدر المفحص لا يسع أن يكون مسجدا حقيقة، فلو وقع ذلك في عين مملوكة لمحجور فلا يبيعها وليه إلا بالقيمة، ويحتمل أن يطرد لأن عيب الزنا تنقص به القيمة عند كل أحد فيكون بيعها بالنقصان بيعا بثمن المثل نبه عليه القاضي عياض ومن تبعه، وقال ابن العربي: المراد من الحديث الإسراع بالبيع وإمضاؤه ولا يتربص به طلب الراغب في الزيادة، وليس المراد بيعه بقيمة الحبل حقيقة، وفيه أنه يجب عل البائع أن يعلم المشتري بعيب السلعة لأن قيمتها إنما تنقص مع العلم بالعيب حكاه ابن دقيق العيد، وتعقبه بأن العيب لو لم يعلم له تنقص القيمة فلا يتوقف على الإعلام، واستشكل الأمر ببيع الرقيق إذا زنى مع أن كل مؤمن مأمور أن يرى لأخيه ما يرى لنفسه، ومن لزم البيع أن يوافق أخاه المؤمن على أن يقتني ما لا يرضي اقتناءه لنفسه، وأجيب بأن السبب الذي باعه لأجله ليس محقق الوقوع عند المشتري لجواز أن يرتدع الرقيق إذا علم أنه متى عاد أخرج فإن الإخراج من الوطن المألوف شاق، ولجواز أن قع الإعفاف عند المشتري بنفسه أو بغيره،

(12/164)


قال ابن العربي: يرجى عند تبديل المحل تبديل الحال، ومن المعلوم أن للمجاورة تأثيرا في الطاعة وفي المعصية، قال النووي: وفيه أن الزاني إذا حد ثم زنى لزمه حد آخر ثم كذلك أبدا، فإذا زنى مرات ولم يدل فلا يلزمه إلا حد واحد. قلت: من قوله فإذا زنى ابتداء كلام قاله لتكميل الفائدة وإلا فليس في الحديث ما يدل عليه إثباتا ولا نفيا بخلاف الشق الأول فإنه ظاهر، وفيه إشارة إلى أن العقوبة في التعزيرات إذا لم يفد مقصودها من الزجر لا يفعل لأن إقامة الحد واجبة، فلما تكرر ذلك ولم يفد عدل إلى ترك شرط إقامته على السيد وهو الملك، ولذلك قال: "بيعوها " ولم يقل اجلدوها كلما زنت، ذكره ابن دقيق العيد وقال قد تعرض إمام الحرمين لشيء من ذلك فقال: إذا علم المعزر في أن التأديب لا يحصل إلا بالضرب المبرح فليتركه لأن المبرح يهلك وليس له الإهلاك، وغير المبرح لا يفيد، قال الرافعي: وهو مبني على أن الإمام لا يجب عليه تعزير من يستحق التعزير، فإن قلنا يجب التحق بالحد فليعزره بغير المبرح وإن لم ينزجر. وفيه أن السيد يقيم الحد على عبده وإن لم يستأذن السلطان، وسيأتي البحث فيه بعد ثلاثة أبواب.

(12/165)


باب لا يثرب على الأمة إذا زنت و لا تنفى
...
36- باب: لاَ يُثَرَّبُ عَلَى الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلاَ تُنْفَى
6839- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا زَنَتْ الأَمَةُ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُثَرِّبْ ثُمَّ إِنْ زَنَتْ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ" تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب لا يثرب على الأمة إذا زنت ولا تنفى" أما التثريب بمثناة ثم مثلثة ثم موحدة فهو التعنيف وزنه ومعناه. وقد جاء بلفظ: "ولا يعنفها" في رواية عبيد الله العمري عن سعيد المقبري عند النسائي، وأما النفي فاستنبطوه من قوله: "فليبعها" لأن المقصود من النفي الإبعاد عن الوطن الذي وقعت فيه المعصية وهو حاصل بالبيع، وقال ابن بطال: وجه الدلالة أنه قال: "فليجلدها " وقال: "فليبعها " فدل على سقوط النفي لأن الذي ينفي لا يقدر على تسليمه إلا بعد مدة فأشبه الآبق. قلت: وفيه نظر لجواز أن يتسلمه المشتري مسلوب المنفعة مدة النفي، أو يتفق بيعه لمن يتوجه إلى المكان الذي يصدق عليه وجود النفي، وقال ابن العربي: تستثنى الأمة لثبوت حق السيد فيقدم على حق الله، وإنما لم يسقط الحد لأنه الأصل والنفي فرع. قلت: وتمامه أن يقال: روعي حق السيد فيه أيضا بترك الرجم لأنه فوت المنفعة من أصلها بخلاف الجلد، واستمر نفي العبد إذ لا حق للسيد في الاستمتاع به، واستدل من استثنى نفي الرقيق بأنه لا وطن له وفي نفيه قطع حق السيد لأن عموم الأمر بنفي الزاني عارضه عموم نهى المرأة عن السفر بغير المحرم، وهذا خاص بالإماء من الرقيق دون الذكور وبه احتج من قال: لا يشرع نفي النساء مطلقا كما تقدم في " باب البكران يجلدان وينفيان " واختلف من قال بنفي الرقيق، فالصحيح نصف سنة، وفي وجه ضعيف عند الشافعية سنة كاملة، وفي ثالث لا نفي على رقيق وهو قول الأئمة الثلاثة والأكثر. قوله: "إذا زنت الأمة فتبين زناها" أي ظهر، وشرط بعضهم أن يظهر بالبينة مراعاة للفظ تبين، وقيل يكتفي في ذلك بعلم السيد. قوله: "فليجلدها" أي الحد الواجب عليها المعروف من صريح الآية {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ووقع في رواية النسائي من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة "فليجلدها بكتاب الله". قوله: "ولا

(12/165)


يثرب" أي لا يجمع عليها العقوبة بالجلد وبالتعيير، وقيل المراد لا يقتنع بالتوبيخ دون الجلد، وفي رواية سعيد عن أبي هريرة عند عبد الرزاق " ولا يعيرها ولا يفندها " قال ابن بطال: يؤخذ منه أن كل من أقيم عليه الحد لا يعزر بالتعنيف واللوم وإنما يليق ذلك بمن صدر منه قبل أن يرفع إلى الإمام للتحذير والتخويف، فإذا رفع وأقيم عليه الحد كفاه. قلت: وقد تقدم قريبا نهيه صلى الله عليه وسلم عن سب الذي أقيم عليه حد الخمر وقال: "لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم". قوله: "تابعه إسماعيل بن أمية عن سعيد عن أبي هريرة" يريد في المتن لا في السند، لأنه نقص منه قوله: "عن أبيه" ورواية إسماعيل وصلها النسائي من طريق بشر بن المفضل عن إسماعيل بن أمية ولفظه مثل الليث، إلا أنه قال: "فإن عادت فزنت فليبعها " والباقي سواء، ووافق الليث على زيادة قوله: "عن أبيه" محمد بن إسحاق أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، ووافق إسماعيل على حذفه عبيد الله بن عمر العمري عندهم وأيوب بن موسى عند مسلم والنسائي ومحمد بن عجلان وعبد الرحمن بن إسحاق عند النسائي، ووقع في رواية عبد الرحمن المذكور عن سعيد سمعت أبا هريرة ولإسماعيل فيه شيخ آخر رواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وقال إنه خطأ والصواب الأول، ووقع في رواية حميد هذه بلفظ آخر قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: جاريتي زنت فتبين زناها، قال: اجلدها خمسين " الحديث.

(12/166)


باب أحكام أهل الذمة و إحصانهم إذا زنوا و رفعوا إلى الامام
...
37- باب: أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِحْصَانِهِمْ إِذَا زَنَوْا وَرُفِعُوا إِلَى الإِمَامِ
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى عَنْ الرَّجْمِ فَقَالَ: "رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَقَبْلَ النُّورِ أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي". تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمُحَارِبِيُّ وَعَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَائِدَةِ، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ
6841- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ"؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، قَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ"
قوله: "باب أحكام أهل الذمة" أي اليهود والنصارى وسائر من تؤخذ منه الجزية. قوله: "وإحصانهم إذا زنوا" يعني خلافا لمن قال إن من شروط الإحصان الإسلام. قوله: "ورفعوا إلى الإمام" أي سواء جاءوا إلى حاكم المسلمين ليحكموه أو رفعهم إليه غيرهم متعديا عليهم خلافا لمن قيد ذلك بالشق الأول كالحنفية وسأذكر ذلك مبسوطا، وذكر فيه حديثين: الحديث الأول، قوله: "عبد الواحد" هو ابن زياد، والشيباني هو أبو إسحاق سليمان. قوله: "عن الرجم" أي رجم من ثبت أنه زنى وهو محصن. قوله: "فقال رجم النبي صلى الله عليه وسلم" كذا أطلق،

(12/166)


فقال الكرماني: مطابقته للترجمة من حيث الإطلاق قلت: والذي ظهر لي أنه جرى على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، وهو ما أخرجه أحمد والإسماعيلي والطبراني من طريق هشيم عن الشيباني قال: "قلت هل رجم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم رجم يهوديا ويهودية " وسياق أحمد مختصر. قوله: "أقبل النور؟" أي سورة النور، والمراد بالقبلية النزول "قوله أم بعد" ؟ في رواية الكشميهني: "أم بعده". قوله: "لا أدري" فيه أن الصحابي الجليل قد تخفى عليه بعض الأمور الواضحة، وأن الجواب من الفاضل بلا أدري لا عيب عليه فيه بل يدل على تحريه وتثبته فيمدح به. قوله: "تابعه علي بن مسهر" قلت وصلها ابن أبي شيبة عنه عن الشيباني قال: "قلت لعبد الله بن أبي أوفي " فذكر مثله بلفظ: "قلت بعد سورة النور". قوله: "وخالد بن عبد الله" أي الطحان وهي عند المؤلف في " باب رجم المحصن " وقد تقدم لفظه. قوله: "والمحاربي" يعني عبد الرحمن بن محمد الكوفي. قوله: "وعبيدة" بفتح أوله، وأبوه حميد بالتصغير، ومتابعته وصلها الإسماعيلي من رواية أبي ثور وأحمد ابن منيع قالا حدثنا عبيدة بن حميد وجرير هو ابن عبد الله عن الشيباني ولفظه: "قلت قبل النور أو بعدها". قوله: "وقال بعضهم" أي بعض المسلمين وهو عبيدة فإن لفظه في مستند أحمد بن منيع ومن طريقه الإسماعيلي: "فقلت بعد سورة المائدة أو قبلها "؟ كذا وقع في رواية هشيم التي أشرت إليها قبل. قوله: "والأول أصح" أي في ذكر النور. قلت: ولعل من ذكره توهم من ذكر اليهودي واليهودية أن المراد سورة المائدة لأن فيها الآية التي نزلت بسبب سؤال اليهود عن حكم اللذين زنيا منهم. الحديث الثاني قوله: "عن نافع" في موطأ محمد بن الحسن وحده "حدثنا نافع" قاله الدار قطني في الموطآت. قوله: "إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا" ذكر السهيلي عن ابن العربي (1) أن اسم المرأة بسرة بضم الموحدة وسكون المهملة ولم يسم الرجل، وذكر أبو داود السبب في ذلك من طريق الزهري " سمعت رجلا من مزينة ممن تبع العلم وكان عند سعيد بن المسيب يحدث عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك. قال فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا منهم " ونقل ابن العربي عن الطبري والثعلبي عن المفسرين قالوا " انطلق قوم من قريظة والنضير منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعيد في عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وشاس بن قيس ويوسف ابن عازوراء فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم وكان رجل وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا واسم المرأة بسرة، وكانت خيبر حينئذ حربا فقال لهم اسألوه، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا " فذكر القصة مطولة، ولفظ الطبري من طريق الزهري المذكورة " إن أحبار اليهود اجتمعوا في بيت المدراس، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة منهم قد أحصنت " فذكر القصة وفيها " فقال اخرجوا إلى عبد الله بن صوريا الأعور" قال أبي إسحاق "ويقال إنهم أخرجوا معه أبا ياسر بن أحطب ووهب بن يهودا، فخلا النبي صلى الله عليه وسلم، بابن صوريا " فذكر الحديث. ووقع عند مسلم من حديث البراء " مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا. فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم" وهذا يخالف الأول من حيث إن فيه أنهم ابتدءوا السؤال قبل إقامة الحد، وفي هذا أنهم أقاموا الحد قبل السؤال،
ـــــــ
(1) في نسخة عن ابن العمري

(12/167)


ويمكن الجمع بالتعدد بأن يكون الذين سألوا عنهما غير الذي جلدوه، ويحتمل أن يكون: بادروا فجلدوه ثم بدا لهم فسألوا فاتفق المرور بالمجلود في حال سؤالهم عن ذلك فأمرهم بإحضارهما فوقع ما وقع والعلم عند الله، ويؤيد الجمع ما وقع عند الطبراني من حديث ابن عباس " أن رهطا من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ومعهم امرأة فقالوا: يا محمد ما أنزل عليك في الزنا " فيتجه أنهم جلدوا الرجل ثم بدا لهم أن يسألوا عن الحكم فأحضروا المرأة وذكروا القصة والسؤال، ووقع في رواية عبيد الله العمري عن نافع عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بيهودي ويهودية زنيا " ونحوه في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر الماضية قريبا ولفظه: "أحدثا" وفي حديث عبد الله بن الحارث عند البزار " أن اليهود أتوا بيهوديين زنيا وقد أحصنا". قوله: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم" قال الباجي: يحتمل أن يكون علم بالوحي أن حكم الرجم فيها ثابت على ما شرع لم يلحقه تبدل، ويحتمل أن يكون علم ذلك بإخبار عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم منهم على وجه حصل له به العلم بصحة نقلهم، ويحتمل أن يكورن إنما سألهم عن ذلك ليعلم ما عندهم فيه ثم يتعلم صحة ذلك من قبل الله تعالى. قوله: "فقالوا نفضحهم" بفتح أوله وثالثه من الفضيحة. قوله: "ويجلدون" وقع بيان الفضيحة في رواية أيوب عن نافع الآتية في التوحيد بلفظ: "قالوا نسخم وجوههما، ونخزيهما " وفي رواية عبد الله بن عمر " قالوا نسود وجوههما ونحممهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما" وفي رواية عبد الله بن دينار " أن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبيه " وفي حديث أبي هريرة " يحمم ويجبه ويجلد " والتجبيه أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما وطاف بهما، وقد تقدم في " باب الرجم بالبلاط " النقل عن إبراهيم الحربي أنه جزم بأن تفسير التجبيه من قول الزهري فكأنه أدرج في الخبر لأن أصل الحديث من روايته. وقال المنذري: يشبه أن يكون أصله الهمزة وأنه التجبئة وهي الردع والزجر يقال جبأته تجبيئا أي ردعته، والتجبيه أن ينكس رأسه فيحتمل أن يكون من فعل به ذلك ينكس رأسه استحياء فسمى ذلك الفعل تجبيه. ويحتمل أن يكون من الجبه وهو الاستقبال بالمكروه وأصله من إصابة الجبهة تقول جبهته إذا أصبت جبهته كرأسه إذا أصبت رأسه، وقال الباجي: ظاهر الأمر أنهم قصدوا في جوابهم تحريف حكم التوراة والكذب على النبي إما رجاء أن يحكم بينهم بغير ما أنزل الله وإما لأنهم قصدوا بتحكيمه التخفيف عن الزانيين واعتقدوا أن ذلك يخرجهم عما وجب عليهم، أو قصدوا اختبار أمره، لأنه من المقرر أن من كان نبيا لا يقر على باطل، فظهر بتوفيق الله نبيه كذبهم وصدقه ولله الحمد. قوله: "قال عبد الله بن سلام: كذبتم، أن فيها الرجم" رواية أيوب وعبيد الله بن عمر " قال فأتوا بالتوراة قال فاتلوها إن كنتم صادقين". قوله: "فأتوا" بصيغة الفعل الماضي، وفي رواية أيوب فجاءوا وزاد عبيد الله بن عمر " بها فقرؤها " وفي رواية زيد بن أسلم "فأتى بها فنزع الوسادة من تحته فوضع التوراة عليها ثم قال آمنت بك وبمن أنزلك " وفي حديث البراء عند مسلم: "فدعا رجلا من علمائهم فقال أنشدك بالله وبمن أنزله " وفي حديث جابر عند أبي دواد " فقال ائتوني بأعلم رجلين منكم، فأتى بابن صوريا " زاد الطبري في حديث ابن عباس " ائتوني برجلين من علماء بني إسرائيل، فأتوه برجلين أحدهما شاب والآخر شيخ قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر " ولابن أبي حاتم من طريق مجاهد " أن اليهود استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزانيين فأفتاهم بالرجم، فأنكروه، فأمرهم أن يأتوا بأحبارهم فناشدهم فكتموه إلا رجلا من أصاغرهم أعور فقال: كذبوك يا رسول الله في التوراة". قوله: "فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها

(12/168)


وما بعدها" ونحوه في رواية عبد الله بن دينار وفي رواية عبيد الله بن عمر " فوضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم فقرأ ما بين يديها وما وراءها " وفي رواية أيوب " فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور اقرأ. فقرأ، حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه " واسم هذا الرجل عبد الله بن صوريا كما تقدم، وقد وقع عند النقاش في تفسيره أنه أسلم، لكن ذكر مكي في تفسيره أنه ارتد بعد أن أسلم، كذا ذكر القرطبي، ثم وجدته عند الطبري بالسند المتقدم في الحديث الماضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ناشده قال: "يا رسول الله إنهم ليعلمون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك " وقال في آخر الحديث: "ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ونزلت فيه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الآية. قوله: "فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك لم فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم" في رواية عبد الله بن دينار " فإذا آية الرجم تحت يده " ووقع في حديث البراء " فحده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد، فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم " ووقع بيان ما في التوراة من آية الرجم في رواية أبي هريرة " المحصن والمحصنة إذا زنيا فقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها " وفي حديث جابر عند أبي داود " قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما " زاد البزار من هذا الوجه " فإن وجدوا الرجل مع المرأة في بيت أو في ثوبها أو على بطنها فهي ريبة وفيها عقوبة، قال فما منعكما أن ترجموهما قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل " وفي حديث أبي هريرة " فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ قال: زنى ذوا قرابة من الملك فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل شريف فأرادوا رجمه فحال قومه دونه وقالوا ابدأ بصاحبك، فاصطلحوا على هذه العقوبة، وفي حديث ابن عباس عند الطبراني " إنا كنا شببة وكان في نسائنا حسن وجه فكثر فينا فلم يقم له فصرنا نجلد " والله أعلم. قوله: "فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما" زاد في حديث أبي هريرة " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أحكم بما في التوراة " وفي حديث البراء " اللهم إني أول من أحي أمرك إذ أماتوه " ووقع في حديث جابر من الزيادة أيضا: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر بهما فرجما". قوله: "فرأيت الرجل يحني" كذا في رواية أبي ذر عن السرخسي بالحاء المهملة بعدها نون مكسورة ثم تحتانية ساكنة، وعن المستملي والكشميهني بجيم ونون مفتوحة ثم همزة، وهو الذي قال ابن دقيق العيد إنه الراجح في الرواية، وفي رواية أيوب "يجانئ" بضم أوله وجيم مهموز. وقال ابن عبد البر: وقع في رواية يحيى بن يحيى كالسرخسي والصواب "يحني" أي يميل. وجملة ما حصل لنا من الاختلاف في ضبط هذه اللفظة عشرة أوجه: الأولان والثالث بضم أوله والجيم وكسر النون وبالهمزة، الرابع كالأول إلا أنه بالموحدة بدل النون، الخامس كالثاني إلا أنه بواو بدل التحتانية، السادس كالأول إلا أنه بالجيم، السابع بضم أوله وفتح المهملة وتشديد النون، الثامن "يجاني" بالنون التاسع مثله لكن بالحاء، العاشر مثله لكنه بالفاء بدل النون وبالجيم أيضا. ورأيت في "الزهريات الذهلي" بخط الضياء في هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري " يجافي " بجيم وفاء بغير همز وعلى الفاء صح صح. قوله: "يقيها" بفتح أوله ثم قاف تفسير لقوله: "يحني" وفي رواية عبيد الله بن عمر "فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه" ولابن ماجة من هذا الوجه "يسترها" وفي حديث ابن عباس عند الطبراني "فلما وجد مس الحجارة قام على صاحبته يحني عليها يقيها

(12/169)


الحجارة حتى قتلا جميعا فكان ذلك مما صنع الله لرسوله في تحقيق الزنا منهما" وفي هذا الحدث من الفوائد وجوب الحد على الكافر الذمي إذا زنى وهو قول الجمهور، وفيه خلاف عند الشافعية، وقد ذهل ابن عبد البر فنقل الاتفاق على أن شرط الإحصان الموجب للرجم الإسلام، ورد عليه بأن الشافعية وأحمد لا يشترطان ذلك، ويؤيد مذهبهما وقوع التصريح بأن اليهوديين اللذين رجما كانا قد أحصنا كما تقدم نقله، وقال المالكية ومعظم الحنفية وربيعة شيخ مالك شرط الإحصان الإسلام، وأجابوا عن حديث الباب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما رجمهما بحكم التوراة وليس هو من حكم الإسلام في شيء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بما في كتابهم، فإن في التوراة الرجم على المحصن وغير المحصن قالوا وكان ذلك أول دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان مأمورا باتباع حكم التوراة والعمل بها حتى ينسخ ذلك في شرعه، فرجم اليهوديين على ذلك الحكم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلى قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} ثم نسخ ذلك بالتفرقة بين من أحصن ومن لم يحصن كما تقدم انتهى. وفي دعوى الرجم على من لم يحصن نظر، لما تقدم من رواية الطبري وغيره، وقال مالك: إنما رجم اليهوديين لأن اليهود يومئذ لم يكن لهم ذمة فتحاكموا إليه، وتعقبه الطحاوي بأنه لو لم يكن واجبا ما فعله، قال: وإذا أقام الحد على من لا ذمة له فلأن يقيمه على من له ذمة أولى. وقال المازري، يعترض على جواب مالك بكونه رجم المرأة وهو يقول لا تقتل المرأة إلا إن أجاب ذلك كان قبل النهي عن قتل النساء، وأيد القرطبي أنهما كانا حربيين بما أخرجه الطبري كما تقدم، ولا حجة فيه لأنه منقطع، قال القرطبي: ويعكر عليه أن مجيئهم سائلين يوجب لهم عهدا كما لو دخلوا لغرض كتجارة أو رسالة أو نحو ذلك فإنهم في أمان إلى أن يردوا إلى مأمنهم. قلت: ولم ينفصل عن هذا إلا أن يقول إن السائل عن ذلك ليس هو صاحب الواقعة. وقال النووي: دعوى أنهما كان حربيين باطلة بل كانا من أهل العهد، كذا قال: وسلم بعض المالكية أنهما كانا من أهل العهد واحتج بأن الحاكم مخير إذا تحاكم إليه أهل الذمة بين أن يحكم فيهم بحكم الله وبين أن يعرض عنهم على ظاهر الآية، فاختار صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أن يحكم بينهم، وتعقب بأن ذلك لا يستقيم على مذهب مالك لأن شرط الإحصان عنده الإسلام وهما كانا كافرين، وانفصل ابن العربي عن ذلك بأنهما كانا محكمين له في الظاهر ومختبرين ما عنده في الباطن هل هو نبي حق أو مسامح في الحق، وهذا لا يرفع الإشكال ولا يخلص عن الإيراد. ثم قال ابن العربي: في الحديث أن الإسلام ليس شرطا في الإحصان، والجواب بأنه إنما رجمهما لإقامة الحجة على اليهود فيما حكموه فيه من حكم التوراة فيه نظر، لأنه كيف يقيم الحجة عليهم بما لا يراه في شرعه مع قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال: وأجيب بأن سياق القصة يقتضي ما قلناه، ومن ثم استدعى شهودهم ليقيم الحجة عليهم منهم، إلى أن قال: والحق أحق أن يتبع ولو جاءوني لحكمت عليهم بالرجم ولم أعتبر الإسلام في الإحصان. وقال ابن عبد البر: حد الزاني حق من حقوق الله. وعلى الحاكم إقامته، وقد كان لليهود حاكم وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما. وقول بعضهم إن الزانيين حكماه دعوى مردودة، واعترض بأن التحكيم لا يكون إلا لغير الحاكم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فحكمه بطريق الولاية لا بطريق التحكيم: وأجاب الحنفية عن رجم اليهوديين بأنه وقع بحكم التوراة، ورده الخطابي لأن الله قال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وإنما جاءه القوم سائلين عن الحكم عنده كما دلت عليه الرواية المذكورة فأشار عليهم بما كتموه من حكم التوراة، ولا جائز أن يكون حكم الإسلام عنده مخالفا لذلك لأنه لا يجوز الحكم بالمنسوخ، فدل

(12/170)


على أنه إنما حكم بالناسخ. وأما قوله في حديث أبي هريرة "فإني أحكم بما في التوراة" ففي سنده رجل مبهم، ومع ذلك فلو ثبت لكان معناه لإقامة الحجة عليهم، وهو موافق لشريعته، قلت: ويؤيده أن الرجم جاء ناسخا للجلد كما تقدم تقريره، ولم يقل أحد إن الرجم شرع ثم نسخ بالجلد ثم نسخ الجلد بالرجم، وإذا كان حكم الرجم باقيا منذ شرع فما حكم عليهما بالرجم بمجرد حكم التوراة بل بشرعه الذي استمر حكم التوراة عليه ولم يقدر أنهم بدلوه فيما بدلوا وأما ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم رجمهما أول ما قدم المدينة لقوله في بعض طرق القصة " لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه اليهود " فالجواب أنه لا يلزم من ذلك الفور، ففي بعض طرقه الصحيحة كما تقدم أنهم تحاكموا إليه وهو في المسجد بين أصحابه، والمسجد لم يكمل بناؤه إلا بعد مدة من دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة فبطل الفور، وأيضا ففي حديث عبد الله بن الحارث بن جزء أنه حضر ذلك وعبد الله إنما قدم مع أبيه مسلما بعد فتح مكة، وقد تقدم حدث ابن عباس وفيه ما يشعر بأنه شاهد ذلك. وفيه أن المرأة إذا أقيم عليها الحد تكون قاعدة هكذا استدل به الطحاوي، وقد تقدم أنهم اختلفوا في الحفر للمرجومة، فمن يرى أنه يحفر لها تكون في الغالب قاعدة في الحفرة واختلافهم في إقامة الحد عليها قاعدة أو قائمة إنما هو في الجلد، ففي الاستدلال بصورة الجهد على صورة الرجم نظر لا يخفى. وفيه قبول شهادة أهل الذمة بعضهم عل بعض، وزعم ابن العربي أن معنى قوله في حديث جابر "فدعا بالشهود" أي شهود الإسلام على اعترافهما، وقوله: "فرجمهما بشهادة الشهود " أي البينة على اعترافهما، ورد هذا التأويل بقوله في نفس الحديث: "إنهم رأوا ذكره في فرجها كالميل في المكحلة " وهو صريح في أن الشهادة بالمشاهدة لا بالاعتراف، وقال القرطبي: الجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم ولا على كافر لا في حد ولا في غيره ولا فرق بين السفر والحضر في ذلك، وقبل شهادتهم جماعة من التابعين وبعض الفقهاء إذا لم يوجد مسلم، واستثنى أحمد حالة السفر إذا لم يوجد مسلم، وأجاب القرطبي عن الجمهور عن واقعة اليهود بأنه صلى الله عليه وسلم نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به إظهارا لتحريفهم كتابهم وتغييرهم حكمه، أو كان ذلك خاصا بهذه الواقعة كذا قال، والثاني مردود، وقال النووي: الظاهر أنه رجمهما بالاعتراف، فإن ثبت حديث جابر فلعل الشهود كانوا مسلمين وإلا فلا عبرة بشهادتهم، ويتعين أنهما أقرا بالزنا. قلت: لم يثبت أنهم كانوا مسلمين، ويحتمل أن يكون الشهود أخبروا بذلك لسؤال بقية اليهود لهم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامهم ولم يحكم فيهم إلا مستندا لما أطلعه الله تعالى فحكم في ذلك بالوحي وألزمهم الحجة بينهم كما قال تعالى :{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} وأن شهودهم شهدوا عليهم عند أحبارهم بما ذكر فلما رفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم استعلم القصة على وجهها فذكر كل من حضره من الرواة ما حفظه في ذلك، ولم يكن مستند حكم النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما أطلعه الله عليه، واستدل به بعض المالكية على أن المجلود يجلد قائما إن كان رجلا والمرأة قاعدة لقول ابن عمر "رأيت الرجل يقيها الحجارة"، فدل على أنه كان قائما وهي قاعدة، وتعقب بأنه واقعة عين فلا دلالة فيه على أن قيام الرجل كان بطريق الحكم عليه بذلك، واستدل به على رجم المحصن وقد تقدم البحث فيه مستوفى، وعلى الاقتصار على الرجم ولا يضم إليه الجلد وقد تقدم الخلاف فيه في باب مفرد، وكذا احتج به بعضهم، ولو احتج به لعكسه لكان أقرب لأنه في حديث البراء عند مسلم أن الزاني جلد أولا ثم رجم كما تقدم، لكن يمكن الانفصال بأن الجلد الذي وقع له لم يكن بحكم حاكم. وفيه أن أنكحة الكفار صحيحة لأن ثبوت الإحصان فرع ثبوت صحة النكاح. وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وفي أخذه من هذه القصة

(12/171)


بعد. وفيه أن اليهود كانوا ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها ولو لم يكن مما أقدموا على تبديله وإلا لكان في الجواب حيدة عن السؤال لأنه سأل عما يجدون في التوراة فعدلوا عن ذلك لما يفعلونه وأوهموا أن فعلهم مرافق لما في التوراة فأكذبهم عبد الله بن سلام. وقد استدل به بعضهم على أنهم لم يسقطوا شيئا من ألفاظها كما يأتي تقريره في كتاب التوحيد، والاستدلال به لذلك غير واضح لاحتمال خصوص ذلك بهذه الواقعة فلا يدل على التعميم، وكذا من استدل به على أن التوراة التي أحضرت حينئذ كانت كلها صحيحة سالمة من التبديل لأنه يطرقه هذا الاحتمال بعينه ولا يرده قوله: "آمنت بك وبمن أنزلك " لأن المراد أصل التوراة. وفيه اكتفاء الحاكم بترجمان واحد موثوق به وسيأتي بسطه في كتاب الأحكام. واستدل به على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ثبت ذلك لنا بدليل قرآن أو حديث صحيح ما لم يثبت نسخه بشريعة نبينا أو نبيهم أو شريعتهم، وعلى هذا فيحمل ما وقع في هذه القصة على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن هذا الحكم لم ينسخ من التوراة أصلا.

(12/172)


باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا عند الحاكم و الناس
...
38- باب إِذَا رَمَى امْرَأَتَهُ أَوْ امْرَأَةَ غَيْرِهِ بِالزِّنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالنَّاسِ هَلْ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهَا فَيَسْأَلَهَا عَمَّا رُمِيَتْ بِهِ؟
6842 ، 6843- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الْآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا - : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ: تَكَلَّمْ . قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا - قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَسِيفُ الأَجِيرُ - فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ. أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ. وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا. وَأَمَرَ أُنَيْسًا الأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الْآخَرِ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا"
قوله: "باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا عند الحاكم والناس هل على الحاكم أن يبعث إليها فيسألها عما رميت به" ذكر قصة العسيف، وقد تقدم شرحه مستوفي، والحكم المذكور ظاهر فيمن قذف امرأة غيره، وأما من قذف امرأته فكأنه أخذه من كون زوج المرأة كان حاضرا ولم ينكر ذلك، وأشار بقوله: "هل على الإمام " إلى الخلاف في ذلك، والجمهور على أن ذلك بحسب ما يراه الإمام. قال النووي: الأصح عندنا وجوبه والحجة فيه بعث أنيس إلى المرأة، وتعقب بأنه فعل وقع في واقعة حال لا دلالة فيه على الوجوب لاحتمال أن يكون سبب البعث ما وقع بين زوجها وبين والد العسيف من الخصام والمصالحة على الحد واشتهار القصة حتى صرح والد العسيف بما صرح به ولم ينكر عليه زوجها، فالإرسال إلى هذه يختص بمن كان على مثل حالها من التهمة القوية بالفجور، وإنما علق على اعترافها لأن حد الزنا لا يثبت في مثلها إلا بالإقرار لتعذر إقامة البينة على ذلك،

(12/172)


وقد تقدم شرح الحدث مستوفي، وذكرت ما قيل من الحكمة في إرسال أنيس إلى المرأة المذكورة، وفي الموطأ أن عمر أتاه رجل فأخبره أنه وجد مع امرأته رجلا فبعث إليها أبا واقد فسألها عما قال زوجها وأعلمها أنه لا يؤخذ بقوله فاعترفت، فأمر بها عمر فرجمت. قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن من قذف امرأته أو امرأة غيره بالزنا فلم يأت عل ذلك ببينة أن عليه الحد، إلا إن أقر المقذوف، فلهذا يجب على الإمام أن يبعث إلى المرأة يسألها عن ذلك، ولو لم تعترف المرأة في قصة العسيف لوجب على والد العسيف حد القذف. ومما يتفرع عن ذلك لو اعترف رجل بأنه زنى بامرأة معينة فأنكرت هل يجب عليه حد الزنا وحد القذف أو حد القذف فقط؟ قال بالأول مالك وبالثاني أبو حنيفة، وقال الشافعي وصاحبا أبي حنيفة: من أقر منهما فإنما عليه حد الزنا فقط، والحجة فيه أنه إن كان صدق في نفس الأمر فلا حد عليه لقذفها، وإن كان كذب فليس بزان وإنما يجب عليه حد الزنا لأن كل من أقر على نفسه وعلى غيره لزمه ما أقر به على نفسه وهو مدع فيما أقر به على غيره فيؤاخذ بإقراره على نفسه دون غيره.

(12/173)


39- باب مَنْ أَدَّبَ أَهْلَهُ أَوْ غَيْرَهُ دُونَ السُّلْطَانِ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا صَلَّى فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ" وَفَعَلَهُ أَبُو سَعِيدٍ
6844- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "جَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي
فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ. فَعَاتَبَنِي وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي. وَلاَ يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ"
6845- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَكَزَنِي لَكْزَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: "حَبَسْتِ النَّاسَ فِي قِلاَدَةٍ، فَبِي الْمَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَوْجَعَنِي .. نَحْوَهُ" لَكَزَ وَوَكَزَ: وَاحِدٌ
قوله: "باب من أدب أهله أو غيره دون السلطان" أي دون إذنه له في ذلك. هذه الترجمة معقودة لبيان الخلاف هل يحتاج من وجب عليه الحد من الأرقاء إلى أن يستأذن سيده الإمام في إقامة الحد عليه، أو له أن يقيم ذلك بغير مشورة؟ وقد تقدم بيانه في "باب إذا زنت الأمة". قوله: "وقال أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى لأراد أحد أن يمر بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله " وفعله أبو سعيد" هذا مختصر من الحديث الذي تقدم موصولا في " باب يرد المصلي من مر بين يديه " ولفظه: "فإن أراد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان " أخرجه من طريق أبي صالح عن أبي سعيد. وأما قوله: "وفعله أبو سعيد" فهو في الباب المذكور بلفظ: "رأيت أبا سعيد يصلي وأراد شاب أن تجتاز بين يديه فدفع أبو سعيد في صدره " وقد تقدم شرحه مستوفي هناك والغرض منه أن الخبر ورد بالإذن للمصلي أن يؤدب المجتاز بالدفع ولا يحتاج في ذلك إلى إذن الحاكم، وفعله أبو

(12/173)


سعيد الخدري ولم ينكر عليه مروان، بل استفهمه عن السبب، فلما ذكره له أقره على ذلك. ذكر حديث عائشة في سبب نزول آية التيمم من وجهين عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها، وقد تقدمت طريق مالك في تفسير سورة المائدة وطريق عمرو بن الحارث عقبها. قوله: "لكز ووكز واحد" أي بمعنى واحد، ثبت هذا في رواية المستملي، وهو من كلام أبي عبيدة قال: الوكز في الصدر بجمع الكف ولهزه مثله وهو اللكز. قال ابن بطال: في هذين الحديثين دلالة على جواز تأديب الرجل أهله وغير أهله بحضرة السلطان ولو لم يأذن له إذا كان ذلك في حق. وفي معنى تأديب الأهل تأديب الرقيق، وقد تقدمت الإشارة إليه في "باب لا تثريب على الأمة".

(12/174)


40- باب: مَنْ رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ
6846- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ "عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: "لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لاَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي"
[الحديث 6846- طرفه في: 7416]
قول "باب من رأى مع امرأته رجلا فقتله" كذا أطلق ولم يبين الحكم، وقد اختلف فيه: فقال الجمهور عليه القود، وقال أحمد وإسحاق إن أقام بينة أنه وجده مع امرأته هدر دمه. وقال الشافعي يسعه فيما بينه وبين الله قتل الرجل إن كان ثيبا وعلم أنه نال منها ما يوجب الغسل، ولكن لا يسقط عنه القود في ظاهر الحكم. وقد أخرج عبد الرزاق بسند صحيح إلى هانئ بن حزام " أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتلهما، فكتب عمر كتابا في العلانية أن يقيدوه به وكتابا في السر أن يعطوه الدية " وقال ابن المنذر: جاءت الأخبار عن عمر في ذلك مختلفة وعامة أسانيدها منقطعة، وقد ثبت عن علي أنه سئل عن رجل قتل رجلا وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء وإلا فليغط برمته، قال الشافعي: وبهذا نأخذ، ولا نعلم لعلى مخالفا في ذلك. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل وعبد الملك هو ابن عمير ووراد هو كاتب المغيرة بن شعبة، وثبت كذلك لغير أبي ذر. قوله: "قال سعد بن عبادة" هو الأنصاري سيد الخزرج. قوله: "لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف" كذا في هذه الرواية بالجزم، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهل حتى آتى بأربعة شهداء " الحديث، وله من وجه آخر " فقال سعد: كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك " ولأبي داود من هذا الوجه " أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله الرجل يجد مع أهله رجلا فيقتله؟ قال: لا. قال: بلى والذي أكرمك بالحق " وأخرج الطبراني من حديث عبادة بن الصامت " لما نزلت آية الرجم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد جعل لهن سبيلا " الحديث وفيه: "فقال أناس لسعد بن عبادة: يا أبا ثابت قد نزلت الحدود، أرأيت لو وجدت مع امرأتك رجلا كيف كنت صانعا؟ قال: كنت ضاربه بالسيف حتى يسكنا، فأنا أذهب وأجمع أربعة؟ فإلى ذلك قد قضى الخائب حاجته فانطلق، وأقول: رأيت فلانا فيجلدوني ولا يقبلون لي شهادة أبدا، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كفى بالسيف شاهدا ثم قال: لولا أني أخاف أن يتتابع فيها السكران والغيران" وقد تقدم شرح هذا الحديث في "باب الغيرة" في أواخر كتاب النكاح ويأتي الكلام على قوله: "والله أغير مني" في كتاب التوحيد. وفي الحديث أن الأحكام الشرعية لا تعارض بالرأي.

(12/174)


41- باب: مَا جَاءَ فِي التَّعْرِيضِ
6847- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُرَاهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ. قَالَ: فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ"
قوله: "باب ما جاء في التعريض" بعين مهملة وضاد معجمة، قال الراغب: هو كلام له وجهان ظاهر وباطن، فيقصد قائله الباطن ويظهر إرادة الظاهر، وتقدم شيء من الكلام فيه في " باب التعريض بنفي الولد " من كتاب اللعان في شرح حدث أبي هريرة في قصة الأعرابي الذي قال: "إن امرأتي ولدت غلاما أسود " الحديث، وذكرت هناك ما قيل في اسمه وبيان الاختلاف في حكم التعريض، وأن الشافعي استدل بهذا الحديث على أن التعريض بالقذف لا يعطي حكم التصريح، فتبعه البخاري حيث أورد هذا الحديث في الموضوعين، وقد وقع في آخر رواية معمر التي أشرت إليها هناك " ولم يرخص له في الانتفاء منه " وقول الزهري: إنما تكون الملاعنة إذا قال رأيت الفاحشة، قال ابن بطال: احتج الشافعي بأن التعريض في خطبة المعتدة جائز مع تحريم التصريح بخطبتها، فدل على افتراق حكمها، قال وأجاب القاضي إسماعيل بأن التعريض بالخطبة جائز لأن النكاح لا يكون إلا بين اثنين، فإذا صرح بالخطبة وقع عليه الجواب بالإيجاب أو الوعد فمنع، وإذا عوض فأفهم أن المرأة من حاجته لم يحتج إلى جواب، والتعريض بالقذف يقع من الواحد ولا يفتقر إلى جواب، فهو قاذف من غير أن يخفيه عن أحد فقام مقام الصريح، كذا فرق، ويعكر عليه أن الحد يدفع بالشبهة والتعريض يحتمل الأمرين، بل عدم القذف فيه هو الظاهر وإلا لما كان تعريضا، ومن لم يقل بالحد في التعريض يقول بالتأديب فيه لأن في التعريض أذى المسلم، وقد أجمعوا على تأديب من وجد مع امرأة أجنبية في بيت والباب مغلق عليهما، وقد ثبت عن إبراهيم النخعي أنه قال في التعريض عقوبة. وقال عبد الرزاق " أنبأنا ابن جريج قلت لعطاء: فالتعريض؟ قال: ليس فيه حد، قال عطاء وعمرو بن دينار: فيه نكال " ونقل ابن التين عن الداودي أنه قال تبويب البخاري غير معتدل، قال: ولو قال: ما جاء في ذكر ما يقع في النفوس عندما يرى ما ينكره لكان صوابا. قلت: ولو سكت عن هذا لكان هو الصواب، قال ابن التين: وقد انفصل المالكية عن حديث الباب بأن الأعرابي إنما جاء مستفتيا ولم يرد بتعريضه قذفا. وحاصله أن القذف في التعريض إنما يثبت على من عرف من إرادته القذف، وهذا يقوى أن لا حد في التعريض لتعذر الاطلاع على الإرادة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(12/175)


باب كم التعزير و الأدب
...
42- باب: كَمْ التَّعْزِيرُ وَالأَدَبُ؟
6848- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(12/175)


يَقُولُ: لاَ يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ"
[الحديث 6848- طرفاه في: 6849 ، 6850]
6849- حدثنا عمرو بن علي حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا مسلم بن أبي مريم "حدثني عبد الرحمن بن جابر عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عقوبة فوق عشر ضربات، إلا في حد من حدود الله"
6850- حدثنا يحيى بن سليمان حدثني ابن وهب أخبرني عمرو أن بكيرا حدثه قال: "بينما أنا جالس عند سليمان بن يسار إذ جاء عبد الرحمن بن جابر فحدث سليمان بن يسار، ثم أقبل علينا سليمان بن يسار: فقال حدثني عبد الرحمن بن جابر ان أباه حدثه أنه "سمع أبا بردة الأنصاري قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله"
6851- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ، فَقَالَ لَهُ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّكُمْ مِثْلِي، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ. فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلاَلَ فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ بِهِمْ حِينَ أَبَوْا" . تَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَيُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ: عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6852- حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ - عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ"
6853- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ، حَتَّى يُنْتَهَكَ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ "
قوله: "باب" بالتنوين "كم التعزير والأدب" التعزير مصدر عزره وهو مأخوذ من العزر وهو الرد والمنع، واستعمل في الدفع عن الشخص كدفع أعدائه عنه ومنعهم من إضراره، ومنه {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} وكدفعه عن إتيان القبيح، ومنه عزره القاضي أي أدبه لئلا يعود إلى القبيح. ويكون بالقول وبالفعل بحسب ما يليق به، والمراد بالأدب في الترجمة التأديب وعطفه على التعزير لأن التعزير يكون بسبب المعصية والتأديب أعم منه، ومنه تأديب الولد وتأديب المعلم، وأورد الكمية بلفظ الاستفهام إشارة إلى الاختلاف فيها كما سأذكره، وقد ذكر في الباب أربعة أحاديث: الأول، قوله: "عن بكير بن عبد الله" يعني ابن الأشج. قوله: "عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن" في رواية عمرو بن الحارث الآتية في الباب، أن بكيرا حدثه قال: بينما أنا جالس عند سليمان بن يسار إذ جاء عبد الرحمن بن جابر فحدث سليمان بن يسار، ثم أقبل علينا سليمان فقال: حدثني عبد

(12/176)


الرحمن. قوله: "عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله" في رواية الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني " عن عبد الرحمن عن جابر " ثم خط على قوله عن جابر فصار عن عبد الرحمن عن أبي بردة وهو صواب، وأصوب منه رواية الجمهور بلفظ: "ابن" بدل "عن". قوله: "عن أبي بردة" في رواية علي بن إسماعيل بن حماد عن عمرو بن علي شيخ البخاري فيه بسنده إلى عبد الرحمن بن جابر قال: "حدثني رجل من الأنصار، قال أبو حفص يعني عمرو بن علي المذكور: هو أبو بردة ابن نيار أخرجه أبو نعيم، وفي رواية عمرو بن الحارث حدثني عبد الرحمن بن جابر أن أباه حديثه أنه سمع أبا بردة الأنصاري، ووقع في الطريق الثانية من رواية فضيل بن سليمان عن مسلم بن أبي مريم " حدثني عبد الرحمن بن جابر عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سماه حفص بن ميسرة وهو أوثق من فضيل بن سليمان فقال فيه: "عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه " أخرجه الإسماعيلي. قلت: قد رواه يحيى بن أيوب عن مسلم بن أبي مريم مثل رواية فضيلي أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" قال الإسماعيلي: ورواه إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق عن ابن جريح عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جابر عن رجل من الأنصار. قلت: وهذا لا يعين أحد التفسيرين، فإن كلا من جابر وأبي بردة أنصاري، قال الإسماعيلي: لم يدخل الليث عن يزيد بين عبد الرحمن وأبي بردة أحدا وقد وافقه سعيد بن أيوب عن يزيد ثم ساقه من روايته كذلك. وحاصل الاختلاف هل هو عن صحابي مبهم أو مسمى؟ الراجح الثاني، ثم الراجح أنه أبو بردة بن نيار. وهل بين عبد الرحمن وأبي بردة واسطة وهو جابر أو لا؟ الراجح الثاني أيضا، وقد ذكر الدار قطني في "العلل" الاختلاف ثم قال: القول قول الليث ومن تابعه، وخالف ذلك في جميع كتاب التتبع فقال: القول قود عمرو بن الحارث وقد تابعة أسامة بن زيد. قلت: ولم يقدح هذا الاختلاف عن الشيخين في صحة الحديث فإنه كيفما دار يدور على ثقة، ويحتمل أن يكون عبد الرحمن وقع له فيه ما وقع لبكير بن الأشج في تحديث عبد الرحمن بن جابر لسليمان بحضرة بكير ثم تحديث سليمان بكيرا به عن عبد الرحمن، أو أن عبد الرحمن سمع أبا بردة لما حدث به أباه وثبته فيه أبوه فحدث به تارة بواسطة أبيه وتارة بغير واسطة، وادعى الأصيلي أن الحديث مضطرب فلا يحتج به لاضطرابه، وتعقب بأن عبد الرحمن ثقة فقد صرح بسماعه، وإبهام الصحابي لا يضر، وقد اتفق الشيخان على تصحيحه وهما العمدة في التصحيح، وقد وجدت له شاهدا بسند قوي لكنه مرسل أخرجه الحارث بن أبي أسامة من رواية عيد الله بن أبي بكر بن الحارث بن هشام رفعه: "لا يحل أن يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد " وله شاهد آخر عن أبي هريرة عند ابن ماجة ستأتي الإشارة إليه. قوله: "لا يجلد" بضم أوله بصيغة النفي، ولبعضهم بالجزم، ويؤيده ما وقع في الرواية التي بعدها بصيغة النهي "لا تجلدوا". قوله: "فوق عشرة أسواط" في رواية يحيى بن أيوب وحفص بن ميسرة "فوق عشر جلدات" وفي رواية علي بن إسماعيل بن حماد المشار إليها "لا عقوبة فوق عشر ضربات". قوله: "إلا في حد من حدود الله" ظاهره أن المراد بالحد ما ورد فيه من الشارع عدد من الجلد أو الضرب مخصوص أو عقوبة مخوصة، والمتفق عليه من ذلك الزنا والسرقة وشرب المسكر والحرابة والقذف بالزنا والقتل والقصاص في النفس والأطراف والقتل في الارتداد، واختلف في تسمية الأخيرين حدا، واختلف في أشياء كثيرة يستحق مرتكبها العقوبة هل تسمى عقوبته حدا أو لا، وهي جحد العارية واللواط وإتيان البهيمة وتحميل المرأة الفحل من البهائم عليها والسحاق وأكل الدم والميتة في حال الاختيار ولحم الخنزير،

(12/177)


وكذا السحر والقذف بشرب الخمر وترك الصلاة تكاسلا والفطر في رمضان والتعرض بالزنا. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالحد في حديث الباب حق الله، قال ابن دقيق العيد بلغني أن بعض العصريين قرر هذا المعنى بأن تخصيص الحد بالمقدرات المقدم ذكرها أمر اصطلاحي من الفقهاء، وأن عرف الشرع أول الأمر كان يطلق الحد على كل معصية كبرت أو صغرت، وتعقبه ابن دقيق العيد أنه خروج عن الظاهر ويحتاج إلى نقل، والأصل عدمه، قال ويرد عليه أنا إذا أجزنا في كل حق من حقوق الله أن يزاد على العشر لم يبق لنا شيء يختص المنع به، لأن ما عدا الحرمات التي لا يجوز فيها الزيادة هو ما ليس بمحرم، وأصل التعزير أنه لا يشرع فيما ليس بمحرم فلا يبقى لخصوص الزيادة معنى. قلت: والعصري المشار إليه أظنه ابن تيمية، وقد تقلد صاحبه ابن القيم المقالة المذكورة فقال: الصواب في الجواب أن المراد بالحدود هنا الحقوق التي هي أوامر الله ونواهيه، وهي المراد بقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وفي أخرى {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً} قال: فلا يزاد على العشر في التأديبات التي لا تتعلق بمعصية كتأديب الأب ولده الصغير. قلت: ويحتمل أن يفرق بين مراتب المعاصي، فما ورد فيه تقدير لا يزاد عليه وهو المستثنى في الأصل، وما لم يرد فيه تقدير فإن كان كبيرة جازت الزيادة فيه وأطلق عليه اسم الحد كما في الآيات المشار إليها والتحق بالمستثنى، وإن كان صغيرة فهو المقصود بمنع الزيادة، فهذا يدفع إيراد الشيخ تقي الدين على العصري المذكور إن كان ذلك مراده، وقد أخرج ابن ماجة من حديث أبي هريرة بالتعزير بلفظ: "لا تعزروا فوق عشرة أسواط" وقد اختلف السلف في مدلول هذا الحديث فأخذ بظاهره الليث وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وبعض الشافعية، وقال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزيادة على العشر، ثم اختلفوا فقال الشافعي: لا يبلغ أدنى الحدود، وهل الاعتبار بحد الحر أو العبد؟ قولان، وفي قول أو وجه يستنبط كل تعزير من جنس حده ولا يجاوزه، وهو مقتضى قول الأوزاعي "لا يبلغ به الحد" ولم يفصل، وقال الباقون: هو إلى رأي الإمام بالغا ما بلغ وهو اختيار أبي ثور، وعن عمر أنه كتب إلي أنى موسى "لا تجلد في التعزير أكثر من عشرين" وعن عثمان ثلاثين وعن عمر أنه بلغ بالسوط مائة وكذا عن ابن مسعود وعن مالك وأبي ثور وعطاء: لا يعزر إلا من تكرر منه، ومن وقع منه مرة واحدة معصية لا حد فيها فلا يعزر، وعن أبي حنيفة لا يبلغ أربعين، وعن ابن أبي ليلى وأبي يوسف لا يزاد على خمس وتسعين جلدة، وفي رواية عن مالك وأبي يوسف لا يبلغ ثمانين، وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها ما تقدم، ومنها قصره على الجلد وأما الضرب بالعصا مثلا وباليد فتجوز الزيادة لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا رأي الأصطخري من الشافعية وكأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب، ومنها أنه منسوخ دل على نسخه إجماع الصحابة، ورد بأنه قال به بعض التابعين وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار، ومنها معارضة الحديث بما هو أقوى منه وهو الإجماع على أن التعزير يخالف الحدود وحديث الباب يقتضي تحديده بالعشر فما دونها فيصير مثل الحد، وبالإجماع على أن التعزير موكول إلى رأي الإمام فيما يرجع إلى التشديد والتخفيف لا من حيث العدد لأن التعزير شرع للردع ففي الناس من يردعه الكلام ومنهم من لا يردعه الضرب الشديد، فلذلك كان تعزير كل أحد بحسبه، وتعقب بأن الحد لا يزاد فيه، ولا ينقص فاختلفا، وبأن التخفيف والتشديد مسلم لكن مع مراعاة العدد المذكور وبأن الردع لا يراعى في الأفراد بدليل أن من الناس من لا يردعه الحد، ومع ذلك لا يجمع

(12/178)


عندهم بين الحد والتعزير، فلو نظر إلى كل فرد لقيل بالزيادة على الحد أو الجمع بين الحد والتعزير، ونقل القرطبي أن الجمهور قالوا بما دل عليه حديث الباب، وعكسه النووي وهو المعتمد فإنه لا يعرف القول به عن أحد من الصحابة، واعتذر الداودي فقال: لم يبلغ مالكا هذا الحديث فكان يرى العقوبة بقدر الذنب، وهو يقتضي أنه لو بلغه ما عدل عنه فيجب على من بلغه أن يأخذ به. الحدث الثاني حديث النهي عن الوصال، والغرض منه قوله: "فواصل بهم كالمنكل بهم" قال ابن بطال عن المهلب: فيه أن التعزير موكول إلى رأي الإمام لقوله: "لو امتد الشهر لزدت" فدل على أن للإمام أن يزيد في التعزير ما يراه، وهو كما قال، لكن لا يعارض الحدث المذكور لأنه ورد في عدد من الضرب أو الجلد فيتعلق بشيء محسوس، وهذا يتعلق بشيء متروك وهو الإمساك عن المفطرات والألم فيه يرجع إلى التجويع والتعطيش، وتأثيرهما في الأشخاص متفاوت جدا، والظاهر أن الذين واصل بهم كان لهم اقتدار على ذلك في الجملة فأشار إلى أن ذلك لو تمادى حتى ينتهي إلى عجزهم عنه لكان هو المؤثر في زجرهم، ويستفاد منه أن المراد من التعزير ما يحصل به الردع. وذلك ممكن في العشر بأن يختلف الحال في صفة الجلد أو الضرب تخفيفا وتشديدا والله أعلم. نعم يستفاد منه جواز التعزير بالتجويع ونحوه من الأمور المعنوية. قوله: "تابعه شعيب ويحيى بن سعيد ويونس في الزهري، وفال عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب: عن سعيد بن المسيب" أي تابعوا عقيلا في قوله عن أبي سلمة وخالفهم عبد الرحمن بن خالد فقال سعيد بن المسيب. قلت: فأما متابعة شعيب فوصلها المؤلف في كتاب الصيام، وأما متابعة يحيى بن سعيد وهو الأنصاري فوصلها الذهلي في " الزهريات " وأما متابعة يونس وهو ابن يزيد فوصلها مسلم من طريق ابن وهب عنه، وأما رواية عبد الرحمن في خالد فسيأتي الكلام عليها في كتاب الأحكام، وذكر الإسماعيلي أن أبا صالح رواه عن الليث عن عبد الرحمن المذكور فجمع فيه بين سعيد وأبي سلمة، قال: وكذا رواه عبد الرحمن بن نمر عن الزهري بسنده إليه كذلك انتهى، وقد تقدم شرج هذا الحديث في كتاب الصيام. الحديث الثالث، قوله: "حدثني عياش" بتحتانية ثم معجمة وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى البصري. قوله: "عن سالم" هو ابن عبد الله بن عمر. قوله: "عن عبد الله بن عمر أنهم كانوا يضربون على عهد رسول صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانهم" في رواية أبي أحمد الجرجاني عن الفربري " سالم بن عبد الله بن عمر أنهم كانوا إلخ " فصارت صورة الإسناد الإرسال والصواب "عن سالم عن عبد الله" فتصحفت "عن" فصارت "ابن" وقد وقع في رواية مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى بهذا الإسناد " عن سالم عن ابن عمر به " وتقدم في البيوع من طريق يونس عن الزهري " أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر قال فذكر نحوه " وتقدم شرح هذا الحدث في كتاب البيوع مستوفي، ويستفاد منه جواز تأديب من خالف الأمر الشرعي فتعاطى العقود الفاسدة بالضرب، ومشروعية إقامة المحتسب في الأسواق، والضرب المذكور محمول على من خالف الأمر بعد أن علم به. الحديث الرابع، قوله: "عبدان" هو عبد الله بن عثمان وعبد الله هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد. قوله: "ما انتقم" هذا طرف من حدث أوله " ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما " أخرجه مسلم بتمامه من رواية يونس، وقد تقدم شرحه مستوفي في " باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم: "من طريق مالك عن الزهري، وقد تقدم قريبا في أوائل الحدود من طريق عقيل عن ابن شهاب.

(12/179)


باب من أطهر الفاحشة و اللطخ و النهمة بغير بينة
...
43- باب: مَنْ أَظْهَرَ الْفَاحِشَةَ وَاللَّطْخَ وَالتُّهَمَةَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ
6854- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "شَهِدْتُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ زَوْجُهَا: كَذَبْتُ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا، قَالَ فَحَفِظْتُ ذَاكَ مِنَ الزُّهْرِيِّ: إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ .. وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا - كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ - فَهُوَ .. وَسَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: جَاءَتْ بِهِ لِلَّذِي يُكْرَهُ"
6855- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ "ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُتَلاَعِنَيْنِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: هِيَ الَّتِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً عَنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ. قَالَ: لاَ. تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ"
6856- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ ابْنِ مُحَمَّدٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: "ذُكِرَ المتلاعنان عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلًا ثُمَّ انْصَرَفَ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا إِلاَّ لِقَوْلِي، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبِطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ آدَمَ خَدِلًا كَثِيرَ اللَّحْمِ"، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَيِّنْ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلاَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ هِيَ الَّتِي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ؟ فَقَالَ: لاَ، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الإِسْلاَمِ السُّوءَ"
قوله: "باب من أظهر الفاحشة واللطخ والتهمة بغير بينة" أي ما حكمه؟ والمراد بإظهار الفاحشة أن يتعاطى ما يدل عليها عادة من غير أن يثبت ذلك ببينه أو إقرار، واللطخ هو بفتح اللام والطاء المهملة بعدها خاء معجمة: الرمي بالشر، يقال لطخ فلان بكذا أي رمى بشر، ولطخه بكذا مخففا ومثقلا لوثه به، وبالتهمة بضم المثناة وفتح الهاء من يتهم بذلك من غير أن يتحقق فيه ولو عادة. وذكر فيه حديثين: أحدهما حديث سهل بن سعد في قصة المتلاعنين أورده مختصرا، وفي آخره تصريح سفيان حيث قال: "حفظت من الزهري" وقد تقدم شرحه في كتاب اللعان مستوفي، وقوله: "إن جاءت به كذا فهو، وإن جاءت به كذا فهو " كذا وقع بالكناية وبالاكتفاء في الموضعين، وتقدم في اللعان بيانه من طريق ابن جريح عن ابن شهاب ولفظه: "إن جاءت به أحمر قصيرا كأنه وحرة فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين ذا أليتين فلا أراه إلا قد صدق عليها وكذبت عليه " انتهى، وعلى هذا فتقدير الكلام فهو كاذب في الأولى فهو صادق في الثانية، وعرف منه أن الضمير للزوج كأنه قال إن جاءت به أحمر فزوجها كاذب فيما رماها به، وإن جاءت به أسود فزوجها صادق.

(12/180)


ثانيهما حديث ابن عباس في اللعان أيضا. أورده من طريقين مختصرة ثم مطولة كلاهما من طريق القاسم بن محمد عنه، ووقع لبعضهم بإسقاط القاسم بن محمد من السند وهو غلط، وقد تقدم شرحه مستوفي أيضا في كتاب اللعان وقوله: "من غير بينة" في رواية الكشميهني: "عن" بدل "من" وقوله في الطريق الأخرى "ذكر المتلاعنان" في رواية الكشميهني: "ذكر التلاعن". قوله: "فقال رجل لابن عباس في المجلس" هو عبد الله بن شداد بن الهاد كما صرح به في الرواية التي قبلها. قوله: "تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء" في رواية عروة عن ابن عباس بسند صحيح عند ابن ماجة " لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت فلانة، فقد ظهر فيها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها " ولم أقف على اسم المرأة المذكورة فكأنهم تعمدوا إبهامها سترا على، قال المهلب: فيه أن الحد لا يجب على أحد بغير بينة أو إقرار ولو كان متهما بالفاحشة، وقال النووي: معنى تظهر السوء أنه اشتهر عنها وشاع ولكن لم تقم البينة عليها بذلك ولا اعترفت، فدل على أن الحد لا يجب بالاستفاضة. وقد أخرج الحاكم من طريق ابن عباس عن عمر أنه قال لرجل أقعد جاريته وقد اتهمها بالفاحشة على النار حتى احترق فرجها " هل رأيت ذلك عليها؟ قال: لا، قال: فاعترفت لك؟ قال: لا. قال: فضربه وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يقاد مملوك من مالكه لأقدتها منك، " قال الحاكم صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بأن في إسناده عمرو بن عيسى شيخ الليث وفيه منكر الحديث، كذا قال فأوهم أن لغيره كلاما، وليس كذلك فإنه ذكره في الميزان فقال: لا يعرف، لم يزد على ذلك، ولا يلزم من ذلك القدح فيما رواه بل يتوقف فيه.

(12/181)


44- باب: رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
6857- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ"
قوله: "باب رمي المحصنات" أي قذفهن، والمراد الحرائر العفيفات، ولا يختص بالمزوجات بل حكم البكر كذلك بالإجماع. قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} الآية كذا لأبي ذر والنسفي، وأما غيرهما فساقوا الآية إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} . قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا} كذا لأبي ذر، ولغيره: إلى قوله :{عَظِيمٌ} واقتصر النسفي على {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ} الآية وتضمنت الآية الأولى بيان حد القذف والثانية بيان كونه من الكبائر بناء على أن كل ما توعد عليه باللعن أو العذاب أو شرع فيه حد فهو كبيرة وهو المعتمد وبذلك يطابق حديث الباب الآيتين المذكورتين، وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء، واختلف في حكم قذف الأرقاء كما سأذكره في الباب الذي بعده.

(12/181)


قوله: {والذين يرمون أزواجهم ثم لم يأتوا} الآية كذا لأبي ذر وحده، ونبه على أنه وقع فيه وهم لأن التلاوة {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} وهو كذلك لكن في إيرادها هنا تكرار لأنها تتعلق باللعان، وقد تقدم قريبا "باب من رمى امرأته". قوله: "حدثني سليمان" هو ابن بلال ولغير أبي ذر "حدثنا" وأبو الغيث هو سالم. قول "اجتنبوا السبع الموبقات" بموحدة وقاف أي المهلكات، قال المهلب: سميت بذلك لأنها سبب لإهلاك مرتكبها. قلت: والمراد بالموبقة هنا الكبيرة كما ثبت في حديث أبي هريرة من وجه آخر أخرجه البزار وابن المنذر من طريق عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "الكبائر الشرك بالله وقتل النفس " الحديث مثل رواية أبي الغيث، إلا أنه ذكر بدل السحر الانتقال إلى الأعرابية بعد الهجرة، وأخرج النسائي والطبراني وصححه ابن حبان والحاكم من طريق صهيب مولى العتواريين عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يصلي الخمس ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة " الحديث، ولكن لم يفسرها، والمعتمد في تفسيرها ما وقع في رواية سالم، وقد وافقه كتاب عمرو بن حزم الذي أخرجه النسائي وابن حبان في صحيحه والطبراني من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال: "كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الفرائض والديات والسنن وبعث به مع عمرو بن حزم إلى اليمن " الحديث بطوله، وفيه: "وكان في الكتاب: وإن أكبر الكبائر الشرك " فذكر مثل حديث سالم سواء، وللطبراني من حديث سهل بن أبي خيثمة عن على رفعه: "اجتنب الكبائر السبع " فذكرها لكن ذكر التعرب بعد الهجرة بدل السحر، وله في الأوسط من حديث أبي سعيد مثله وقال: "الرجوع إلى الأعراب بعد الهجرة " ولإسماعيل القاضي من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب عن عبد الله بن عمرو قال: "صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ثم قال أبشروا من صلى الخمس واجتنب الكبائر السبع نودي من أبواب الجنة " فقيل له: أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهن؟ قال: نعم، فذكر مثل حديث على سواء وقال عبد الرزاق " أنبأنا معمر عن الحسن قال الكبائر الإشراك بالله " فذكر حديث الأصول سواء إلا أنه قال: "اليمين الفاجرة " بدل السحر، ولابن عمرو فيما أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " والطبري في التفسير وعبد الرزاق والخرائطي في " مساوئ الأخلاق " وإسماعيل القاضي في " أحكام القرآن " مرفوعا وموقوفا قال: "الكبائر تسع " فذكر السبعة المذكورة وزاد: "الإلحاد في الحرم وعقوق الوالدين " ولأبي داود والطبراني من رواية عبيد بن عمير بن قتادة الليثي عن أبيه رفعه: "إن أولياء الله المصلون ومن يجتنب الكبائر قالوا: ما الكبائر؟ قال: هن تسع، أعظمهن الإشراك بالله " فذكر مثل حديث ابن عمر سواء إلا أنه عبر عن الإلحاد في الحرم باستحلال البيت الحرام. وأخرج إسماعيل القاضي بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب قال: "هن عشر " فذكر السبعة التي في الأصل وزاد: "وعقوق الوالدين واليمين الغموس وشرب الخمر " ولابن أبي حاتم من طريق مالك بن حريث عن علي قال: "الكبائر " فذكر التسعة إلا مال اليتيم وزاد العقوق والتغرب بعد الهجرة وفراق الجماعة ونكث الصفقة، وللطبراني عن أبي أمامة أنهم تذاكروا الكبائر فقالوا: الشرك ومال اليتيم والفرار من الزحف والسحر والعقوق وقول الزور والغلول والزنا (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله ثمنا قليلا". قلت وقد تقدم في كتاب الأدب عد اليمين الغموس وكذا شهادة الزور وعقوق الوالدين وعند
ـــــــ
(1) في نسخة "والربا"

(12/182)


عبد الرزاق والطبراني عن ابن مسعود " أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله " وهو موقوف، وروى إسماعيل بسند صحيح من طريق ابن سيرين عن عبد الله بن عمرو مثل حديث الأصل لكن قال: "البهتان " بدل السحر والقذف، فسئل عن ذلك فقال: البهتان يجمع، وفي الموطأ عن النعمان بن مرة مرسلا " الزنا والسرقة وشرب الخمر فواحش " وله شاهد من حديث عمران بن حصين عند البخاري في " الأدب المفرد " والطبراني والبيهقي وسنده حسن، وتقدم حديث ابن عباس في النميمة ومن رواه بلفظ الغيبة وترك التنزه من البول كل ذلك في الطهارة، ولإسماعيل القاضي من مرسل الحسن ذكر " الزنا والسرقة " وله عن أبي إسحاق السبيعي " شتم أبي بكر وعمر " وهو لابن أبي حاتم من قول مغيرة بن مقسم، وأخرج الطبري عنه بسند صحيح " الإضرار في الوصية من الكبائر " وعنه " الجمع بين الصلاتين من غير عذر " رفعه وله شاهد أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر قوله، وعند إسماعيل من قول ابن عمر ذكر النهبة، ومن حديث بريدة عند البزار منع فضل الماء ومنع طروق الفحل، ومن حديث أبي هريرة عند الحاكم " الصلوات كفارات إلا من ثلاث: الإشراك بالله ونكث الصفقة وترك السنة " ثم فسر نكث الصفقة بالخروج على الإمام وترك السنة بالخروج عن الجماعة أخرجه الحاكم، ومن حديث ابن عمر عند ابن مردويه " أكبر الكبائر سوء الظن بالله " ومن الضعيف في ذلك نسيان القرآن أخرجه أبو داود والترمذي عن أنس رفعه: "نظرت في الذنوب فلم أر أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل فنسيها" وحديث: "من أتى حائضا أو كاهنا فقد كفر " أخرجه الترمذي، فهذا جميع ما وقفت عليه مما ورد التصريح بأنه من الكبائر أو من أكبر الكبائر صحيحا وضعيفا مرفوعا وموقوفا، وقد تتبعته غاية التتبع، وفي بعضه ما ورد خاصا ويدخل في عموم غيره كالتسبب في لعن الوالدين وهو داخل في العقوق وقتل الولد وهو داخل في قتل النفس والزنا بحليلة الجار وهو داخل في الزنا والنهبة والغلول واسم الخيانة يشمله ويدخل الجميع في السرقة وتعلم السحر وهو داخل في السحر وشهادة الزور وهي داخلة في قول الزور ويمين الغموس وهي داخلة في اليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله كاليأس من روح الله، والمعتمد من كل ذلك ما ورد مرفوعا بغير تداخل من وجه صحيح وهي السبعة المذكورة في حديث الباب والانتقال عن الهجرة والزنا والسرقة والعقوق واليمين الغموس والإلحاد في الحرم وشرب الخمر وشهادة الزور والنميمة وترك التنزه من البول والغلول ونكث الصفقة وفراق الجماعة، فتلك عشرون خصلة وتتفاوت مراتبها، والمجمع على عده من ذلك أقوى من المختلف فيه إلا ما عضده القرآن أو الإجماع فيلتحق بما فوقه ويجتمع من المرفوع ومن الموقوف ما يقاربها، ويحتاج عند هذا إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع، ويجاب بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو جواب ضعيف، وبأنه أعلم أولا بالمذكورات ثم أعلم بما زاد فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل أو من وقعت له واقعة ونحو ذلك. وقد أخرج الطبري وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له الكبائر سبع فقال: هن أكثر من سبع وسبع. وفي رواية عنه هي إلى السبعين أقرب، وفي رواية إلى السبعمائة، ويحمل كلامه على المبالغة بالنسبة إلى من اقتصر على سبع، وكأن المقتصر عليها اعتمد على حدث الباب المذكور. وإذا تقرر ذلك عرف فساد من عرف الكبيرة بأنها ما وجب فيما الحد، لأن أكثر المذكورات لا يجب فيها الحد، قال الرافعي في الشرح الكبير: الكبيرة هي الموجبة للحد، وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة، هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن

(12/183)


الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر، وقد أقره في الروضة، وهو يشعر بأنه لا يوجد عن أحد من الشافعية الجمع بين التعريفين، وليس كذلك، فقد قال الماوردي في "الحاوي": هي ما يوجب الحد أو توجه إليها الوعيد، وأوفى كلامه للتنويع لا للشك، وكيف يقول عالم إن الكبيرة ما ورد فيه الحد مع التصريح في الصحيحين بالعقوق واليمين الغموس وشهادة الزور وغير ذلك، والأصل فيما ذكره الرافعي قول البغوي في "التهذيب" من ارتكب كبيرة من زنا أو لواط أو شرب خمر أو غصب أو سرقة أو قتل بغير حق ترد شهادته وإن فعله مرة واحدة، ثم قال: فكل ما يوجب الحد من المعاصي فهو كبيرة، وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة انتهى. والكلام الأول لا يقتضي الحصر، والثاني هو المعتمد. وقال ابن عبد السلام: لم أقف على ضابط الكبيرة يعني يسلم من الاعتراض، قال: والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها، قال وضبطها بعضهم بكل ذنب قرن به وعيد أو لعن. قلت: وهذا أشمل من غيره، ولا يرد عليه إخلاله بما فيه حد، لأن كل ما ثبت فيه الحد لا يخلو من ورود الوعيد على فعله، ويدخل فيه ترك الواجبات الفورية منها مطلقا والمتراخية إذا تضيقت. وقال ابن الصلاح: لها أمارات منها إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف صاحبها بالفسق، ومنها اللعن، قلت: وهذا أوسع مما قبله. وقد أخرج إسماعيل القاضي بسند فيه ابن لهيعة عن أبي سعيد مرفوعا: "الكبائر كل ذنب أدخل صاحبه النار" وبسند صحيح عن الحسن البصري قال: "كل ذنب نسبه الله تعالى إلى النار فهو كبيرة" ومن أحسن التعاريف قول القرطبي في المفهم " كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدة العقاب أو علق عليه الحد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة " وعلى هذا فينبغي تتبع ما ورد فيه الوعيد أو العن أو الفسق من القرآن أو الأحاديث الصحيحة والحسنة ويضم إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن والأحاديث الصحاح والحسان على أنه كبيرة، فمهما بلغ مجموع ذلك عرف منه تحير عدها، وقد شرعت في جمع ذلك، وأسأل الله الإعانة على تحريره بمنه وكرمه. وقال الحليمي في "المنهاج" ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشة كذلك، إلا الكفر بالله فإنه أفحش الكبائر وليس من نوعه صغيرة، قلت: ومع ذلك فهو ينقسم إلى فاحش وأفحش. ثم ذكر الحليمي أمثلة لما قال فالثاني كقتل النفس بغير حق فإنه كبيرة، فإن قتل أصلا أو فرعا أو ذا رحم أو بالحرم أو بالشهر الحرام فهو فاحشة. والزنا كبيرة، فإن كان بحليلة الجار أو بذات رحم أو في شهر رمضان أو في الحرم فهو فاحشة. وشرب الخمر كبيرة، فإن كان في شهر رمضان نهارا أو في الحرم أو جاهر به فهو فاحشة. والأول كالمفاخذة مع الأجنبية صغيرة، فإن كان مع امرأة الأب أو حليلة الابن أو ذات رحم فكبيرة. وسرقة ما دون النصاب صغيرة، فإن كان المسروق منه لا يملك غيره وأفضى به عدمه إلى الضعف فهو كبيرة. وأطال في أمثلة ذلك. وفي الكثير منه ما يتعقب، لكن هذا عنوانه، وهو منهج حسن لا بأس باعتباره، ومداره على شدة المفسدة وخفتها والله أعلم. "تنبيه": يأتي القول في تعظيم قتل النفس في الكتاب الذي بعد هذا، وتقدم الكلام على السحر في آخر كتاب الطب، وعلى أكل مال اليتيم في كتاب الوصايا، وعلى أكل الربا في كتاب البيوع، وعلى التولي يوم الزحف في كتاب الجهاد، وذكر هنا قذف المحصنات. وقد شرط القاضي أبو سعيد الهروي في "أدب القضاء" أن شرط كون غصب المال كبيرة أن يبلغ

(12/184)


نصابا، ويطرد في السرقة وغيرها، وأطلق في ذلك جماعة، ويطرد في أكل مال اليتيم وجميع أنواع الجناية. والله أعلم.

(12/185)


45- باب: قَذْفِ الْعَبِيدِ
6858- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ"
قوله: "باب قذف العبيد" أي الأرقاء. عبر بالعبيد اتباعا للفظ الخبر، وحكم الأمة والعبد في ذلك سواء، والمراد بلفظ الترجمة الإضافة للمفعول بدليل ما تضمنه حديث الباب، ويحتمل إرادة الإضافة للفاعل، والحكم فيه أن على العبد إذا قذف نصف ما على الحر ذكرا كان أو أنثى، وهذا قول الجمهور. وعن عمر بن عبد العزيز والزهري وطائفة يسيرة والأوزاعي وأهل الظاهر: حده ثمانون، وخالفهم ابن حزم فوافق الجمهور. قوله: "عن ابن أبي نعم" هو ابن عبد الرحمن. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية الإسماعيلي من طريق محمد بن خلاد وعلي بن المديني كلاهما عن يحيى بن سعيد وهو القطان بهذا السند " حدثنا أبو هريرة". قوله: "سمعت أبا القاسم" في رواية الإسماعيلي: "حدثنا أبو القاسم نبي التوبة". قوله: "من قذف كل مملوكه" في رواية الإسماعيلي: "من قذف عبده بشيء". قوله: "وهو برئ مما قال" جملة حالية، وقوله: "إلا أن يكون كما قال: "أي فلا يجلد. وفي رواية النسائي من هذا الوجه " أقام عليه الحد يوم القيامة " وأخرج من حديث ابن عمر " من قذف مملوكه كان لله في ظهره حد يوم القيامة إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه " فال المهلب: أجمعوا على أن الحر إذا قذف عبدا لم يجب عليه الحد. ودل هذا الحديث عل ذلك لأنه لو وجب على السيد أن يجلد في قذف عبده في الدنيا لذكره كما ذكره في الآخرة، وإنما خص ذلك بالآخرة تمييزا للأحرار من المملوكين، فأما في الآخرة فإن ملكهم يزول عنهم ويتكافئون في الحدود، ويقتص لكل منهم إلا أن يعفو، ولا مفاضلة حينئذ إلا بالتقوى. قلت: في نقله الإجماع نظر، فقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع " سئل ابن عمر عمن قذف أم ولد لآخر فقال: يضرب الحد صاغرا " وهذا بسند صحيح وبه قال الحسن وأهل الظاهر. وقال ابن المنذر: اختلفوا فيمن قذف أم ولد فقال مالك وجماعة: يجب فيه الحد، وهو قياس قول الشافعي بعد موت السيد، وكذا كل من يقول إنها عتقت بموت السيد. وعن الحسن البصري أنه كان لا يرى الحد من قاذف أم الولد. وقال مالك والشافعي: من قذف حرا يظنه عبدا وجب عليه الحد.

(12/185)


باب هل يأمر الامام رجلا فيضرب الحد غالبا عنه
...
46- باب: هَلْ يَأْمُرُ الإِمَامُ رَجُلًا فَيَضْرِبُ الْحَدَّ غَائِبًا عَنْهُ وَقَدْ فَعَلَهُ عُمَرُ
6859 ، 6860- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالاَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلاَّ قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ،

(12/185)


كتاب الديات
باب قول الله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم }
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
87- كِتَاب الدِّيَاتِ
1- باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}
6861- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ. قَالَ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَهَا {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}
6862- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا"
[الحديث 6862- طرفه في: 6863]
6863- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ"
6864- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ"
6865- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيٍّ حَدَّثَهُ "أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ - حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ - حَدَّثَهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَقِيتُ كَافِرًا فَاقْتَتَلْنَا فَضَرَبَ يَدِي بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لاَذَ بِشَجَرَةٍ وَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، آقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقْتُلْهُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ طَرَحَ إِحْدَى يَدَيَّ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا آقْتُلُهُ؟ قَالَ: لاَ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ"
6866- وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ سَعِيدٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم "لِلْمِقْدَادِ: إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ، فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ"
قوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الديات" بتخفيف التحتانية جمع دية مثل عدات وعدة، وأصلها ودية بفتح الواو وسكون الدال تقول: ودي القتل يديه إذا أعطى وليه ديته، وهي ما جعل في مقابلة النفس، وسمى دية تسمية بالمصدر وفاؤها محذوفة والهاء عوض وفي الأمرد القتيل بدال مكسورة حسب فإن وقفت قلت ده، وأورد البخاري تحت هذه الترجمة ما يتعلق بالقصاص لأن كل ما يجب فيه القصاص يجوز العفو عنه على مال فتكون الدية أشمل، وترجم غيره: "كتاب القصاص" وأدخل تحته الديات، بناء على أن القصاص هو الأصل في

(12/187)


العمد. قوله: وقول الله تعالى :{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} كذا للجميع، لكن سقطت الواو الأولى لأبي ذر والنسفي، وفي هذه الآية وعيد شديد لمن قتل مؤمنا متعمدا بغير حق، وقد تقدم النقل في تفسير سورة الفرقان عن ابن عباس وغيره في ذلك وبيان الاختلاف هل للقاتل توبة بما يغني عن إعادته. وأخرج إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" بسند حسن أن هذه الآية لما نزلت قال المهاجرون والأنصار وجبت، حتى نزل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. قلت: وعلى ذلك عول أهل السنة في أن القاتل في مشيئة الله، ويؤيده حديث عبادة المتفق عليه بعد أن ذكر القتل والزنا وغيرهما: "ومن أصاب من ذلك شيئا فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه " ويؤيده قصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم قتل المكمل مائة وقد مضى في ذكر بني إسرائيل من أحادث الأنبياء. ثم ذكر فيه خمسة أحاديث مرفوعة، الحديث الأول حديث ابن مسعود "أي الذنب أكبر" وقد تقدم شرحه مستوفي في "باب إثم الزناة" وقوله: "أن تقتل ولدك" قال الكرماني لا مفهوم له لأن القتل مطلقا أعظم. قلت: لا يمتنع أن يكون الذنب أعظم من غيره وبعض أفراده أعظم من بعض، ثم قال الكرماني وجه كونه أعظم أنه جمع مع القتل ضعف الاعتقاد في أن الله هو الرزاق. الحديث الثاني حدث ابن عمر. قوله: "حدثنا علي" كذا للجميع غير منسوب ولم يذكره أبو علي الجياني في تقييده ولا نبه عليه الكلاباذي، وقد ذكرت في المقدمة أنه على بن الجعد لأن علي بن المديني لم يدرك إسحاق بن سعيد. قوله: "لا" في رواية الكشميهني: "لن". قوله: "في فسحة" بضم الفاء وسكون المهملة وبحاء مهملة أي سعة. قوله: "من دينه" كذا للأكثر بكسر المهملة من الدين وفي رواية الكشميهني: "من ذنبه " فمفهوم الأول أن يضيق عليه دينه ففيه إشعار بالوعيد على قتل المؤمن متعمدا بما يتوعد به الكافر، ومفهوم الثاني أنه يصير في ضيق بسبب ذنبه ففيه إشارة إلى استبعاد العفو عنه لاستمراره في الضيق المذكور. وقال ابن العربي: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقتا لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول، وحاصله أنه فسره على رأي ابن عمر في عدم قبول توبة القاتل. قوله: "ما لم يصب دما حراما" في رواية إسماعيل القاضي من هذا الوجه " ما لم يتند بدم حرام " وهو بمثناة ثم نون ثم دال ثقيلة ومعناه الإصابة وهو كناية عن شدة المخالطة ولو قلت، وقد أخرج الطبراني في " المعجم الكبير " عن ابن مسعود بسند رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا مثل حديث ابن عمر موقوفا أيضا وزاد في آخره: "فإذا أصاب دما حراما نزع من الحياء" ثم أورد عن أحمد بن يعقوب وهو المسعودي الكوفي عن إسحاق بن سعيد وهو المذكور في السند الذي قبله بالسند المذكور إلى ابن عمر. قوله: "إن من ورطات" بفتح الواو والراء، وحكى ابن مالك أنه قيد في الرواية بسكون الراء والصواب التحريك وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها. قوله: "سفك الدم" أي إراقته والمراد به القتل بأي صفة كان، لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبر به. قوله: "بغير حله" في رواية أبي نعيم "بغير حقه" وهو موافق للفظ الآية، وهل الموقوف على ابن عمر منتزع من المرفوع فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحه أنه ورط نفسه فأهلكها، لكن التعبير بقوله: "من ورطات الأمور" يقتضي المشاركة بخلاف اللفظ الأول فهو أشد في الوعيد، وزعم الإسماعيلي أن هذه الرواية الثانية غلط ولم يبين وجه الغلط،

(12/188)


وأظنه من جهة انفراد أحمد بن يعقوب بها فقد رواه عن إسحاق بن سعيد أبو النضر هاشم بن القاسم ومحمد بن كناسة وغيرهما باللفظ الأول، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال لمن قتل عامدا بغير حق " تزود من الماء البارد فإنك لا تدخل الجنة " وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر " زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم: " قال الترمذي حديث حسن. قلت: وأخرجه النسائي بلفظ: "لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " قال ابن العربي: ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالتقي الصالح. الحديث الثالث قوله: "حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش" هذا السند يلتحق بالثلاثيات وهي أعلى ما عند البخاري من حيث العدد، وهذا في حكمه من جهة أن الأعمش تابعي وإن كان روى هذا عن تابعي آخر فإن ذلك التابعي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم تحصل له صحبة. قوله: "عن أبي وائل عن عبد الله" تقدم في "باب القصاص يوم القيامة" في أواخر الرقاق من رواية حفص بن غياث عن الأعمش حدثني شقيق وهو أبو وائل المذكور قال: "سمعت عبد الله" وهو ابن مسعود. قوله: "أول ما يقضي بين الناس في الدماء" زاد مسلم من طريق آخر عن الأعمش " يوم القيامة " وقد ذكرت شرحه في الباب المذكور وطريق الجمع بينه وبين حديث أبي هريرة " أول ما يحاسب به المرء صلاته " وننبه هنا على أن النسائي أخرجهما في حديث واحد من طريق أبي وائل عن ابن مسعود رفعه: "أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضي بين الناس في الدماء " " وما " في هذا الحديث موصولة وهو موصول حرفي ويتعلق الجار بمحذوف أي أول القضاء يوم القيامة القضاء في الدماء أي في الأمر المتعلق بالدماء، وفيه عظم أمر القتل لأن الابتداء إنما يقع بالأهم، وقد استدل به على أن القضاء يختص بالناس ولا مدخل فيه للبهائم، وهو غلط لأن مفاده حصر الأولية في القضاء بين الناس وليس فيه نفي القضاء بين البهائم بعد القضاء بين الناس. الحديث الرابع قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد، وعطاء بن يزيد هو الليثي، وعبيد الله بالتصغير هو ابن عدي أي ابن الخيار بكسر المعجمة وتخفيف التحتانية النوفلي له إدراك، وقد تقدم بيانه في مناقب عثمان، والمقداد بن عمر وهو المعروف ابن الأسود. قول "إن لقيت" كذا للأكثر بصيغة الشرط، وفي رواية أبي ذر "إني لقيت كافرا فاقتتلنا فضرب يدي فقطعها" وظاهر سياقه أن ذلك وقع، والذي في نفس الأمر بخلافه، وإنما سأل المقداد عن الحكم في ذلك لو وقع، وقد تقدم في غزوة بدر بلفظ: "أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار" الحديث وهو يؤيد رواية الأكثر. قوله: "ثم لاذ بشجرة" أي التجأ إليها، وفي رواية الكشميهني ثم لاذ مني بشجرة والشجرة مثال. قوله: "وقال أسلمت لله" أي دخلت في الإسلام. قوله: "فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله" قال الكرماني: القتل ليس سببا لكون كل منهما بمنزلة الآخر لكن عند النحاة مؤول بالإخبار أي هو سبب لإخباري لك بذلك، وعند البيانيين المراد لازمه كقوله يباح دمك إن عصيت. قوله: "وأنت بمنزلته قبل أن يقول" قال الخطابي: معناه أن الكافر مباح الدم بحكم الدين قبل أن يسلم، فإذا أسلم صار مصان الدم كالمسلم، فإن قتله المسلم بعد ذلك صار دمه مباحا بحق القصاص كالكافر بحق الدين، وليس المراد إلحاقه في الكفر كما تقوله الخوارج من تكفير المسلم بالكبيرة، وحاصله اتحاد المنزلتين مع اختلاف المأخذ، فالأول أنه مثلك في صون الدم، والثاني أنك مثله في الهدر. ونقل ابن التين عن الداودي قال: معناه إنك صرت قاتلا كما كان هو قاتلا، قال: وهذا من المعاريض، لأنه

(12/189)


أراد الإغلاظ بظاهر اللفظ دون باطنه، وإنما أراد أن كلا منهما قاتل، ولم يرد أنه صار كافرا بقتله إياه. ونقل ابن بطال عن المهلب معناه فقال: أي أنك بقصدك لقتله عمدا آثم كما كان هو بقصده لقتلك آثما، فأنتما في حالة واحدة من العصيان. وقيل المعنى أنت عنده حلال الدم قبل أن تسلم وكنت مثله في الكفر كما كان عندك حلال الدم قبل ذلك، وقيل معناه إنه مغفور له بشهادة التوحيد كما أنك مغفور لك بشهود بدر. ونقل ابن بطال عن ابن القصار أن معنى قوله: "وأنت بمنزلته" أي في إباحة الدم، وإنما قصد بذلك ردعه وزجره عن قتله لا أن الكافر إذا قال أسلمت حرم قتله، وتعقب بأن الكافر مباح الدم والمسلم الذي قتله إن لم يتعمد قتله ولم يكن عرف أنه مسلم وإنما قتله متأولا فلا يكون بمنزلته في إباحته. وقال القاضي عياض: معناه أنه مثله في مخالفة الحق وارتكاب الإثم وإن اختلف النوع في كون أحدهما كفرا والآخر معصية. وقيل المراد إن قتلته مستحلا لقتله فأنت مثله في الكفر، وقيل المراد بالمثلية أنه مغفور له بشهادة التوحيد وأنت مغفور لك بشهود بدر، ونقل ابن التين أيضا عن الداودي أنه أوله على وجه آخر فقال: يفسره حديث ابن عباس الذي في آخر الباب ومعناه أنه يجاز أن يكون اللائذ بالشجرة القاطع لليد مؤمنا يكتم إيمانه مع قوم كفار غلبوه على نفسه، فإن قتلته فأنت شاك في قتلك إياه أني ينزله الله من العمد والخطأ كما كان هو مشكوكا في إيمانه لجواز أن يكون يكتم إيمانه، ثم قال: فإن قيل كيف قطع يد المؤمن وهو ممن يكتم إيمانه؟ فالجواب أنه دفع عن نفسه من يريد قتله فجاز له ذلك كما جاز للمؤمن أن يدفع عن نفسه من يريد قتله ولو أفضى إلى قتل من يريد قتله فإن دمه يكون هدرا، فلذلك لم يقد النبي صلى الله عليه وسلم من يد المقداد لأنه قطعها متأولا. قلت: وعليه مؤاخذات: منها الجمع بين القصتين بهذا التكلف مع ظهور اختلافهما، وإنما الذي ينطبق على حديث ابن عباس قصة أسامة الآتية في الباب الذي يليه حيث حمل على رجل أراد قتله فقال إني مسلم فقتله ظنا أنه قال ذلك متعوذا من القتل، وكان الرجل في الأصل مسلما، فالذي وقع للمقداد نحو ذلك كما سأبينه وأما قصة قطع اليد فإنما قالها مستفتيا على تقدير أن لو وقعت كما تقدم تقريره، وإنما تضمن الجواب النهي عن قتله لكونه أظهر الإسلام فحقن دمه وصار ما وقع منه قبل الإسلام عفوا. ومنها أن في جوابه عن الاستشكال نظرا لأنه كان يمكنه أن يدفع بالقول بأن يقول له عند إرادة المسلم قتله إني مسلم فيكف عنه، وليس له أن يبادر لقطع يده مع القدرة على القول المذكور ونحوه، واستدل به على صحة إسلام من قال أسلمت لله ولم يزد على ذلك، وفيه نظر لأن ذلك كاف في الكف، على أنه ورد في بعض طرقه أنه قال لا إله إلا الله، وهو رواية معمر عن الزهري عند مسلم في هذا الحديث، واستدل به على جواز السؤال عن النوازل قبل وقوعها بناء على ما تقدم ترجيحه، وأما ما نقل عن بعض السلف من كراهة ذلك فهو محمول على ما يندر وقوعه، وأما ما يمكن وقوعه عادة فيشرع السؤال عنه ليعلم. الحديث الخامس قوله: "وقال حبيب بن أبي عمرة" هو القصاب الكوفي لا يعرف اسم أبيه، وهذا التعليق وصله البزار والدار قطني في " الأفراد " والطبراني في " الكبير " من رواية أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم والد محمد بن أبي بكر المقدمي عن حبيب وفي أوله " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد، فلما أتوهم وجدوهم تفرقوا وفيهم رجل له مال كثير لم يبرح فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد فقتله " الحديث، وفيه: "فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا مقداد قتلت رجلا قال لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "للمقداد: كان رجلا مؤمنا يخفي إيمانه" إلخ قال

(12/190)


الدار قطني: تفرد به حبيب وتفرد به أبو بكر عنه. قلت: قد تابع أبا بكر سفيان الثوري لكنه أرسله، أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عنه، وأخرجه الطبري من طريق أبي إسحاق الفزاري عن الثوري كذلك، ولفظ وكيع بسنده عن سعيد بن جبير "خرج المقداد بن الأسود في سرية" فذكر الحديث مختصرا إلى قوله: "فنزلت": ولم يذكر الخبر المعلق، وقد تقدمت الإشارة إلى هذه القصة في تفسير سورة النساء، وبينت الاختلاف في سبب نزول الآية المذكورة، وطريق الجمع، ولله الحمد.

(12/191)


2- باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا...} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلاَّ بِحَقٍّ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"
6867- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا"
6868- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي عَنْ أَبِيهِ "سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"
6869- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ "عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "اسْتَنْصِتْ النَّاسَ، لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ". رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6870- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - أَوْ قَالَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، شَكَّ شُعْبَةُ - وَقَالَ مُعَاذٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - أَوْ قَالَ: وَقَتْلُ النَّفْسِ"
6871- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ "سَمِعَ أَنَساً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَبَائِرُ .." وحَدَّثَنَا عَمْرٌ وحَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ أَوْ قَالَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ"
6872- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ حَدَّثَنَا أَبُو ظَبْيَانَ "قَالَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ قَالَ: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ. قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، قَالَ فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ. قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فَقَالَ لِي: يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟

(12/191)


قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ"
6873- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ "عَنْ عُبَادَةَ ابْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنِّي مِنْ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ نَسْرِقَ، وَلاَ نَزْنِيَ، وَلاَ نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَلاَ نَنْتَهِبَ، وَلاَ نَعْصِيَ بِالْجَنَّةِ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ"
6874- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا" رَوَاهُ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 6874- طرفه في: 7070]
6875- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ "عَنْ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ قَالَ: ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ"
قوله: "باب ومن أحياها" في رواية غير أبي ذر "باب قوله تعالى ومن أحياها" وذاد المستملي والأصيلي {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}. قوله: "قال ابن عباس: من حرم قتلها إلا بحق فكأنما أحيا الناس جميعا" وصله ابن أبي حاتم، ومضى بيانه في تفسر سورة المائدة. وذكره مغلطاي من طريق وكيع عن سفيان عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس، واعترض بأن خصيفا ضعيف، وهو اعتراض ساقط لوجوده من غير رواية خصيف، والمراد من هذه الآية صدرها وهو قوله تعالى:{ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} وعليه ينطبق أول أحادث الباب وهو قوله: "إلا كان علي ابن آدم الأول كفل منها " وسائرها في تعظيم أمر القتل وهي اثنا عشر حديثا قال ابن بطال: فيها تغليظ أمر القتل والمبالغة في الزجر عنه، قال: واختلف السلف في المراد بقوله: "قتل الناس جميعا وأحيا الناس جميعا" فقالت طائفة: معناه تغليظ الوزر والتعظيم في قتل المؤمن أخرجه الطبري عن الحسن ومجاهد وقتادة، ولفظ الحسن أن قاتل النفس الواحدة يصير إلى النار كما لو قتل الناس جميعا، وقتل معناه أن الناس خصماؤه جمعيا، وقيل يجب عليه من القود بقتله المؤمن مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعا، لأنه لا يكون عليه غير قتلة واحدة لجميعهم، أخرجه الطبري عن زيد بن أسلم، واختار الطبري أن المراد بذلك تعظيم العقوبة وشدة الوعيد من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استيجاب غضب الله وعذابه وفي مقابله أن من لم يقتل أحدا فقد حيى الناس منه جميعا لسلامتهم منه وحكى ابن التين أن معناه أن من وجب له قصاص فعفا عنه أعطى من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعا، وقتل وجب شكره على الناس جميعا وكأنما من عليهم جميعا. قال ابن بطال: وإنما اختار هذا لأنه لا توجد نفس يقوم قتلها في عاجل الضر مقام قتل جميع النفوس، ولا

(12/192)


إحياؤها في عاجل النفع مقام إحياء جميع النفوس. قلت: واختار بعض المتأخرين تخصيص الشق الأول بابن آدم الأول لكونه سن القتل وهتك حرمة الدماء وجرا الناس على ذلك، وهو ضعيف لأن الإشارة بقوله في أول الآية "من أجل ذلك" لقصة ابني آدم فدل على أن المذكور بعد ذلك متعلق بغيرهما، فالحمل على ظاهر العموم أولى والله أعلم. الحديث الأول قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري، ويحتمل أن يكون ابن عيينة فسيأتي في الاعتصام من رواية الحميدي عنه حدثنا الأعمش. قوله: "الأعمش" هو سليمان بن مهران. قوله: "عن عبد الله بن مرة" في رواية حفص بن غياث عن الأعمش "حدثني عبد الله بن مرة" وهو الخارتي بمعجمة وراء مكسورة وفاء كوفي، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق كوفيون. قوله: "لا تقتل نفس" زاد حفص د روايته: "ظلما" وفي الاعتصام "لهس من نفس تقتل ظلما". قوله: "على ابن آدم الأول" هو قابيل عن الأكثر، وعكس القاضي جمال الدين بن واصل في تاريخه فقال: اسم المقتول قابيل اشتق من قبول قربانه، وقيل اسمه قابن بنون بدل اللام بغير ياء، وقيل قبن مثله بغير ألف، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في " باب خلق آدم من بدء الخلق " وأخرج الطبري عن ابن عباس: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، إنما كان القربان يقربه الرجل فمهما قبل تنزل النار فتأكله وإلا فلا، وعن الحسن: لم يكونا ولدي آدم لصلبه وإنما كانا من بني إسرائيل أخرجه الطبري، ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كانا ولدي آدم لصلبه وهذا هو المشهور، ويؤيده حديث الباب لوصفه ابن بأنه الأول أي أول ما ولد لآدم، ويقال إنه لم يولد في الجنة لآدم غيره وغير توأمته، ومن ثم فخر على أخيه هابيل فقال: نحن من أولاد الجنة وأنتما من أولاد الأرض، ذكر ذلك ابن إسحاق في "المبتدأ" وعن الحسن: ذكر لي أن هابيل قتل وله عشرون سنة ولأخيه القاتل خمس وعشرون سنة، وتفسير هابيل هبة الله، ولما قتل هابيل وحزن عليه آدم ولد له بعد ذلك شيث ومعناه عطية الله ومنه انتشرت ذرية آدم. وقال الثعلبي: ذكر أهل العلم بالقرآن أن حواء ولدت لآدم أربعين نفسا في عشرين بطنا أولهم قابيل وأخته إقليما وآخرهم عبد المغيث وأمة المغيث ثم لم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا وهلكوا كلهم فلم يبق بعد الطوفان إلا ذرية نوح وهو من نسل شيث، قال الله تعالى :{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} وكان معه في السفينة ثمانون نفسا وهو المشار إليهم بقوله تعالى :{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} ومع ذلك فما بقي إلا نسل نوح فتوالدوا حتى ملؤوا الأرض، وقد تقدم شيء من ذلك ترجمة نوح من أحاديث الأنبياء. قوله: "كفل منها" زاد في الاعتصام: وربما قال سفيان من دمها، وزاد في آخره: لأنه من سن القتل، وهذا مثل لفظ حفص بن غياث الماضي في خلق آدم، والكفل بكسر أوله وسكون الفاء النصيب، وأكثر ما يطلق على الأجر والضعف على الإثم، ومنه قوله تعالى :{كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} ووقع على الإثم في قوله تعالى :{وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} وقوله: "لأنه أول من سن القتل" فيه أن من سن شيئا كتب له أو عليه، وهو أصل في أن المعونة على ما لا يحل حرام، وقد أخرج مسلم من حديث جرير " من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " وهو محمول على من لم يتب من ذلك الذنب. وعن السدي: شدخ قابيل رأس أخيه بحجر فمات. وعن ابن جريح: تمثل له إبليس فأخذ بحجر فشدخ به رأس طير ففعل ذلك قابيل وكان ذلك على جبل ثور، وقيل على عقبة حراء، وقيل بالهند، وقيل بموضع المسجد الأعظم

(12/193)


بالبصرة، وكان من شأنه في دفنه ما قصه الله في كتابه. الحديث الثاني قوله: "واقد بن عبد الله أخبرني" هو من تقديم الاسم على الصيغة، وواقد هذا قال أبو ذر في روايته كذا وقع هنا واقد بن عبد الله واقد بن عبد الله والصواب واقد بن محمد. قلت: وهو كذلك لكن لقوله واقد ابن عبد الله توجيه وهو أن يكون الراوي نسبه لجده الأعلى عبد الله بن عمر فإنه واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله ابن عمر، والذي نسبه كذلك أبو الوليد شيخ البخاري فيه، فقد أخرجه أبو داود في السنن عن أبي الوليد كذلك، وتقدم للمصنف في الأدب من رواية خالد بن الحارث عن شعبة على الحقيقة فقال: "عن واقد بن محمد" ويأتي في الفتن عن حجاج بن منهال عن شعبة كذلك وكذا لمسلم والنسائي من رواية غندر عن شعبة، ثم وجدته في الأول من فوائد أبي عمرو بن السماك كل من طريق عفان عن شعبة كما قال أبو الوليد، فلعل نسبته كذلك من شعبة، لكن أخرجه أحمد كل عن عفان وغيره عن شعبة كالجادة، وفي الجملة فقوله: "عن أبيه" لا ينصرف لعبد الله بل لمحمد بن زيد جزما،. فمن ترجم لعبد الله والد واقد في رجال البخاري أخطأ، نعم في هذا النسب واقد عبد الله بن عمر تابعي معروف، وهو أقدم من هذا فإنه عم والد واقد المذكور هنا، وله والد اسمه عبد الله بن واقد وقد أخرج له مسلم. قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا" جملة ما فيه من الأقوال ثمانية: أحدها قول الخوارج إنه على ظاهره، ثانيها هو في المستحلين، ثالثها المعنى كفارا بحرمة الدماء وحرمة المسلمين وحقوق الدين، رابعها تفعلون فعل الكفار في قتل بعضهم بعضا، خامسها لابسين السلاح يقال كفر درعه إذا لبس فوقها ثوبا، سادسها كفارا بنعمة الله، سابعها المراد الزجر عن الفعل وليس ظاهره مرادا، ثامنها لا يكفر بعضكم بعضا كأن يقول أحد الفريقين للآخر يا كافر فيكفر أحدهما، ثم وجدت تاسعا وعاشرا ذكرتهما في كتاب الفتن، وسيأتي شرح الحديث مستوفي في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. الحديث الثالث حديث جرير وهو ابن عبد الله البجلي، قوله: "استنصت الناس" أي اطلب منهم الإنصات ليسمعوا الخطبة، وقد تقدم أتم سياقا من هذا في كتاب الحج، ويأتي شرحه في الفتن أيضا. الحديث الرابع والخامس، قوله: "رواه أبو بكرة وابن عباس" يريد قوله لا ترجعوا بعدي كفارا، وحديث أبي بكرة وصله المؤلف مطولا في الحج وشرح هناك، ويأتي في الفتن أيضا، وكذلك حديث ابن عباس. الحديث السادس حديث عبد الله بن عمرو في الكبائر تقدم شرحه في كتاب الأدب، قوله: "وعقوق الوالدين أو قال اليمين الغموس شك شعبة" قلت تقدم في الأيمان والنذور من طريق النضر بن شميل عن شعبة بالواو بغير شك وزاد مع الثلاثة "وقتل النفس" وهو المراد في هذا الباب. قوله: "معاذ" هر ابن معاذ العنبري، وهو من تعاليق البخاري، وجوز الكرماني أن يكون مقول محمد بن بشار فيكون موصولا، وقد وصله الإسماعيلي من رواية عبيد الله بن معاذ عن أبيه ولفظه: "والكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين أو قال قتل النفس واليمين الغموس " وهذا مطابق لتعليق البخاري إلا أن فيه تأخير اليمين الغموس، والغرض منه إنما هو إثبات قتل النفس، وحاصل الاختلاف على شعبة أنه تارة ذكرها وتارة لم يذكرها وأخرى ذكرها مع الشك. الحديث السابع حديث أنس في الكبائر أيضا تقدم شرحه في كتاب الأدب، الحديث الثامن حديث أسامة، قوله: "حدثنا عمرو بن زرارة حدثنا هشيم" تقدم في المغازي عن عمرو بن محمد عن هشيم وكلاهما من شيوخ البخاري. قوله: "حدثنا هشيم" في رواية الكشميهني: "أنبأنا". قوله: "حدثنا حصين" في رواية أبي ذر والأصيلي: "أنبأنا حصين " وهو ابن عبد الرحمن الواسطي من صغار التابعين، وأبو

(12/194)


ظبيان بظاء معجمة مفتوحة ثم موحدة ساكنة ثم ياء آخر الحروف واسمه أيضا حصين وهو ابن جندب من كبار التابعين. قوله: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة" بضم المهملة وبالراء ثم قاف وهم بطن من جهينة تقدم نسبتهم إليهم في غزوة الفتح، قال ابن الكلبي: سموا بذلك لوقعة كانت بينهم وبين بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان فأحرقوهم بالسهام لكثرة من قتلوا منهم، وهذه السرية يقال لها سرية غالب بن عبيد الله الليثي وكانت في رمضان سنة سبع فيما ذكره ابن سعد عن شيخه، وكذا ذكره ابن إسحاق في المغازي " حدثني شيخ من أسلم عن رجال من قومه قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبيد الله الكلبي ثم الليثي إلى أرض بني مرة وبها مرداس بن نهيك حليف لهم من بنى الحرقة فقتله أسامة " فهذا يبين السبب في قول أسامة " بعثنا إلى الحرقات من جهينة " والذي يظهر أن قصة الذي قتل ثم مات فدفن ولفظته الأرض غير قصة أسامة، لأن أسامة عاش بعد ذلك دهرا طويلا، وترجم البخاري في المغازي " بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة " فجرى الداودي في شرحه على ظاهره فقال فيه: "تأمير من لم يبلغ " وتعقب من وجهين: أحدهما أنه ليس فيه تصريح بأن أسامة كان الأمير إذ يحتمل أن يكون جعل الترجمة باسمه لكونه وقعت له تلك الواقعة لا لكونه كان الأمير، والثاني أن كانت إن كانت سنة سبع أو ثمان فما كان أسامة يومئذ إلا بالغا لأنهم ذكروا أنه كان له لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر عاما. قوله: "فصبحنا القوم" أي هجموا عليهم صباحا قبل أن يشعروا بهم، يقال صبحته أتيتيه صباحا بغتة، ومنه قوله: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ}. قوله: "ولحقت أنا ورجل من الأنصار" لم اقف على اسم الأنصاري المذكور في هذه القصة قوله: "رجلا منهم" قال ابن عبد البر اسمه مرداس بن عمرو الفدكي ويقال، مرداس بن نهيك الفزاري وهو قول ابن الكلبي قتله أسامة وساق القصة، وذكر ابن منده أن أبا سعيد الخدري قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها أسامة إلى بني ضمرة " فذكر قتل أسامة الرجل، وقال ابن أبي عاصم في الديات " حدثنا يعقوب بن حميد حدثنا يحيى بن سليم عن هشام بن حسان عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا إلى فدك فأغاروا عليهم، وكان مرداس الفدكي قد خرج من الليل وقال لأصحابه أني لاحق بمحمد وأصحابه فبصر به رجل فحمل عليه فقال إني مؤمن فقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا شققت عن قلبه: قال فقال أنس: إن قاتل مرداس مات فدفنوه فأصبح فوق القبر فأعادوه فأصبح فوق القبر مرارا فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن يطرح في واد بين جبلين ثم قال: إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله وعظكم". قلت: إن ثبت هذا فهو مرداس آخر، وقتيل أسامة لا يسمى مرداسا، وقد وقع مثل هذا عند الطبري في قتل محلم بن جثامة عامر بن الأضبط وأن محلهما لما مات ودفن لفظته الأرضي فذكر نحوه. قوله: "غشيناه" بفتح أوله وكسر ثانيه معجمتين أي لحقنا به حتى تغطي بنا، وفي رواية الأعمش عن أبي ظبيان عند مسلم: "فأدركت رجلا فطعنته برمحي حتى قتلته " ووقع في حديث جندب عند مسلم: "فلما رفع عليه السيف قال لا إله إلا الله فقتله " ويجمع بأنه رفع عليه السيف أولا فلما لم يتمكن من ضربه بالسيف طعنه بالرمح. قوله: "فلما قدمنا" أي المدينة "بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية الأعمش " فوقع في نفسي من ذلك شيء فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم: "ولا منافاة بينهما لأنه يحمل على أن ذلك بلغ النبي صلى الله عليه وسلم من أسامة لا من غيره، فتقديره الأول بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مني. قوله: "أقتلته بعد ما قال" في رواية الكشميهني: "بعد أن قال: "قال ابن التين: في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد. وقال القرطبي: في

(12/195)


تكريره ذلك والإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك". قوله: "إنما كان متعوذا" في رواية الأعمش " قالها خوفا من السلاح " وفي رواية ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أسامة " إنما فعل ذلك ليحرز دمه". قوله: "قال قلت يا رسول الله والله إنما كان متعوذا" كذا أعاد الاعتذار وأعيد عليه الإنكار، وفي رواية الأعمش " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا " قال النووي الفاعل في قوله: "أقالها " هو القلب، ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان وأما القلب فليس لك طريق إلى ما فيه، فأنكر عليه ترك العمل بما ظهر من اللسان فقال: "أفلا شققت عن قلبه " لتنظر هل كانت فيه حين قالها واعتقدها أو لا، والمعنى أنك إذا كنت لست قادرا على ذلك فاكتف منه باللسان. وقال القرطبي: فيه حجة لمن أثبت الكلام النفسي، وفيه دليل عل ترتب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة. قوله: "حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم" أي أن إسلامي كان ذلك اليوم لأن الإسلام يجب ما قبله، فتمنى أن يكون ذلك الوقت أول دخوله في الإسلام ليأمن من جريرة تلك الفعلة، ولم يرد أنه تمنى أن لا يكون مسلما قبل ذلك. قال القرطبي: وفيه إشعار بأنه كان استصغر ما سبق له قبل ذلك من عمل صالح في مقابلة هذه الفعلة لما سمع من الإنكار الشديد، وإنما أورد ذلك على سبيل المبالغة، ويبين ذلك أن في بعض طرقه في رواية الأعمش " حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ " ووقع عند مسلم من حديث جندب بن عبد الله في هذه القصة زيادات ولفظه: "بعث بعثا من المسلمين إلى قوم من المشركين فالتقوا فأوجع رجل من المشركين فيهم فأبلغ، فقصد رجل من المسلمين غيلته - كنا نتحدث إنه أسامة بن زيد - فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله فقتله " الحديث. وفيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : فكيف تصنع بلا إلى إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة؟ قال: يا رسول الله استغفر لي، قال: كيف تصنع بلا إله إلا الله؟ فجعل لا يزيده على ذلك " وقال الخطابي: لعل أسامة تأول قوله تعالى :{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ولذلك عذره النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلزمه دية ولا غيرها. قلت: كأنه حمل نفي النفع على عمومه دنيا وأخرى، وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أنه في مثل تلك الحالة ينفعه نفعا مقيدا بأن يجب الكف عنه حتى يختبر أمره هل قال ذلك خالصا من قلبه أو خشية من القتل، وهذا بخلاف ما لو هجم عليه الموت ووصل خروج الروح إلى الغرغرة وانكشف الغطاء فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة وهو المراد من الآية، وأما كونه لم يلزمه دية ولا كفارة فيتوقف فيه الداودي وقال: لعله سكت عنه لعلم السامع أو كان ذلك قبل نزول آية الدية والكفارة، وقال القرطبي: لا يلزم من السكوت عنه عدم الوقوع، لكن فيه بعد لأن العادة جرت بعدم السكوت عن مثل ذلك إن وقع، قال: فيحتمل أنه لم يجب عليه شيء لأنه كان مأذونا له في أصل القتل فلا يضمن ما أتلف من نفس ولا مال كالخاتن والطبيب، أو لأن المقتول كان من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين يستحق ديته، قال: وهذا يتمشى على بعض الآراء، أو لأن أسامة أقر بذلك ولم تقم بذلك بينة فلم تلزم العاقلة الدية وفيه نظر. قال ابن بطال: كانت هذه القصة سبب حلف أسامة أن لا يقاتل مسلما بعد ذلك، ومن ثم تخلف عن علي في الجمل وصفين كما سيأتي بيانه في كتاب الفتن. قلت: وكذا وقع في رواية الأعمش المذكورة " أن سعد بن أبي وقاص كان يقول لا أقاتل مسلما حتى يقاتله أسامة " واستدل به النووي على رد الفرع الذي ذكره الرافعي فيمن رأى كافرا أسلم فأكرم إكراما كثرا فقال ليتني كنت كافرا فأسلمت لأكرم، فقال الرافعي: يكفر بذلك، ورده النووي بأنه لا يكفر لأنه جازم الإسلام في الحال

(12/196)


والاستقبال، وإنما تمنى ذلك في الحال الماضي مقيدا له بالإيمان ليتم له الإكرام، واستدل بقصة أسامة ثم قال: ويمكن الفرق. الحديث التاسع حديث عبادة، قوله: "حدثني يزيد" هو ابن أبي كل حبيب المصري. وأبو الخير هو مرثد بن عبد الله، والصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة بمهملتين مصغر. قوله: "إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني ليلة العقبة. قوله: "بايعناه على أن لا نشرك" ظاهره أن هذه البيعة على هذه الكيفية كانت ليلة العقبة، وليس كذلك كما بينته في كتاب الإيمان في أوائل الصحيح، وإنما كانت البيعة ليلة العقبة " على المنشط والمكره في العسر واليسر إلى آخره: "وأما البيعة المذكورة هنا وهي التي تسمى بيعة النساء فكانت بعد ذلك بمدة، فإن آية النساء التي فيها البيعة المذكورة نزلت بعد عمرة الحديبية في زمن الهدنة وقبل فتح مكة، وكانت البيعة التي وقعت للرجال على وفقها كانت عام الفتح، وقد أوضحت ذلك والسبب في الحمل عليه في كتاب الإيمان، ومضى شرح الحديث هناك. الحديث العاشر حديث ابن عمر، قوله: "جويرية" بالجيم تصغير جارية وهر ابن أسماء سمع من نافع مولى ابن عمر وحدث عنه بواسطة مالك أيضا. قوله: "من حمل علينا السلاح فليس منا" المراد من حمل عليهم السلاح لقتالهم لما فيه من إدخال الرعب عليهم، لا من حمله لحراستهم مثلا فإنه يحمله لهم لا عليهم، وقوله فليس منا أي على طريقتنا، وأطلق اللفظ مع احتمال إرادة أنه ليس على الملة للمبالغة في الزجر والتخويف، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. الحديث الحادي عشر، قوله: "رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم" قلت: سيأتي موصولا مع شرحه في كتاب الفتن ومعه حديث أبي هريرة بمعناه، وهو عند مسلم من حديث سلمة بلفظ: "من حمل علينا السيف". الحديث الثاني عشر، قوله: "حدثنا أيوب" هو السختياني، ويونس هو ابن عبيد البصري، والحسن البصري. قوله: "عن الأحنف" هو ابن قيس. قوله: "لأنصر هذا الرجل" هو علي بن أبي طالب وكان الأحنف تخلف عنه في وقعة الجمل. قوله: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما" بالتثنية، وفي رواية الكشميهني بالإفراد. قوله: "في النار" أي إن أنفذ الله عليهما ذلك لأنهما فعلا فعلا يستحقان أن يعذبا من أجله، وقوله: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه " احتج به الباقلاني ومن تبعه على أن من عزم على المعصية يأثم ولو لم يفعلها، وأجاب من خالفه بأن هذا شرع في الفعل والاختلاف فيمن هم مجردا ثم صمم ولم يفعل شيئا هل يأثم، وقد تقدم شرحه مستوفى في شرح حديث: "من هم بحسنة ومن هم بسيئة " في كتاب الرقاق. وقال الخطابي: هذا الوعيد لمن قاتل على عداوة دنيوية أو طلب ملك مثلا، فأما من قاتل أهل البغي أو دفع الصائل فقتل فلا يدخل في هذا الوعيد لأنه مأذون له في القتال شرعا، وسيأتي شرح هذا الحديث في كتاب الفتن أيضا إن شاء الله تعالى.

(12/197)


باب قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر و العبد بالعبد} الآية
...
3- باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قوله: "باب قول الله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية" كذا لأبي ذر. وفي

(12/197)


رواية الأصيلي والنسفي وابن عساكر {الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ - إلى قوله - عَذَابٌ أَلِيمٌ} وللإسماعيلي {الْقَتْلَى - إلى قوله أَلِيمٌ} وساق في رواية كريمة الآية كلها.

(12/198)


باب سؤال القابل حتى يقر و الاقرار في الحدود
...
4- باب: سُؤَالِ الْقَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ وَالإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ
6876- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلاَنٌ أَوْ فُلاَنٌ - حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقَرَّ، بِهِ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ"
قوله: "باب سؤال القاتل حتى يقر، والإقرار في الحدود" كذا للأكثر، وبعده حديث أنس في قصة اليهودي والجارية. ووقع عند النسفي وكريمة وأبي نعيم في "المستخرج" بحذف "باب" وقالوا بعد قوله عذاب أليم " وإذا لم يزل يسأل القاتل حتى أقر " والإقرار في الحدود، وصنيع الأكثر أشبه، وقد صرح الإسماعيلي بأن الترجمة الأولى بلا حديث. قلت: والآية المذكورة أصل في اشتراط التكافؤ في القصاص وهو قول الجمهور، وخالفهم الكوفيون فقالوا يقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر الذمي، وتمسكوا بقوله تعالى:{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} قال إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن": الجمع بين الآيتين أولى، فتحمل النفس على المكافئة، ويؤيده اتفاقهم على أن الحر لو قذف عبدا لم يجب عليه حد القذف، قال ويؤخذ الحكم من الآية نفسها فإن في آخرها {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} والكافر لا يسمى متصدقا ولا مكفرا عنه، وكذلك العبد لا يتصدق بجرحه لأن الحق لسيده. وقال أبو ثور: لما اتفقوا على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس كانت النفس أولى بذلك. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن العبد يقتل بالحر وأن الأنثى تقتل بالذكر ويقتل بها إلا أنه ورد عن بعض الصحابة كعلي والتابعين كالحسن البصري أن الذكر إذا قتل الأنثى فشاء أولياؤها قتله وجب عليهم نصف الدية وإلا فلهم الدية كاملة قال: ولا يثبت عن علي لكن هو قول عثمان البتي أحد فقهاء البصرة، ويدل على التكافؤ بين الذكر والأنثى أنهم اتفقوا على أن مقطوع اليد والأعور لو قتله الصحيح عمدا لوجب عليه القصاص ولم يجب له بسبب عينه أو يده دية. قوله في الترجمة "سؤال القاتل حتى يقر" أي من اتهم بالقتل ولم تقم عليه البينة. قوله: "حدثنا همام" هو ابن يحيى. قوله: "عن أنس" في رواية حبان بفتح المهملة وتشديد الموحدة عن همام الآتية بعد سبعة أبواب "حدثنا أنس". قوله: "أن يهوديا" لم أقف على اسمه. قوله: "رض رأس جارية" الرض بالضاد المعجمة والرضخ بمعنى، والجارية يحتمل أن تكون أمة ويحتمل أن تكون حرة لكن دون البلوغ وقد وقع في رواية هشام بن زيد عن أنس في الباب الذي يليه " خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة فرماها يهودي بحجر " وتقدم من هذا الوجه في الطلاق بلفظ: "عدا يهودي على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ورضخ رأسها " وفيه: "فأتى أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق " وهذا لا يعين كونها حرة لاحتمال أن يراد بأهلها مواليها رقيقة كانت أو عتيقة، ولم أقف على اسمها لكن في بعض طرقه أنها من الأنصار، ولا تنافي بين قوله: "رض رأسها بين حجرين" وبين قوله: "رماها بحجر" وبين قوله: "رضخ رأسها" لأنه يجمع بينها بأنه رماها

(12/198)


بحجر فأصاب رأسها فسقطت على حجر آخر، وأما قوله: "على أوضاح" فمعناه بسبب أوضاح، وهي بالضاد المعجمة والحاء المهملة جمع وضح، قال أبو عبيد هي حلي الفضة، ونقل عياض أنها حلي من حجارة، ولعله أراد حجارة الفضة احترازا من الفضة المضروبة أو المنقوشة. قوله: "فقيل لها من فعل بك هذا أفلان أو فلان" ؟ في رواية الكشميهني: "فلان أو فلان" بحذف الهمزة، وقد تقدم في الأشخاص من وجه آخر عن همام " أفلان أفلان " بالتكرار بغير واو عطف، وجاء بيان الذي خاطبها بذلك في الرواية التي تلي هذه بلفظ: "فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان قتلك " وبين في رواية أبي قلابة عن أنس عند مسلم وأبي داود " فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها من قتلك". قوله: "حتى سمي اليهودي" زاد في الروايتين اللتين في الأشخاص والوصايا " فأومأت برأسها " ووقع في رواية هشام بن زيد في الرواية التي تلي هذا بيان الإيماء المذكور وأنه كان تارة دالا على النفي وتارة دالا على الإثبات بلفظ: "فلان قتلك؟ فرفعت رأسها، فأعاد فقال: فلان قتلك؟ فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة: فلان قتلك؟ فخفضت رأسها " وهو مشعر بأن فلانا الثاني غير الأول، ووقع التصريح بذلك في الرواية التي في الطلاق وكذا الآتية بعد بابين " فأشارت برأسها أن لا، قال: ففلان؟ لرجل آخر يعني عن - رجل آخر - فأشارت أن لا، قال: ففلان قاتلها فأشارت أن نعم". قوله: "فلم يزل به حتى أقر" في الوصايا " فجيء به يعترف فلم يزل به حتى اعترف " قال أبو مسعود: لا أعلم أحدا قال في هذا الحديث: فاعترف ولا فأقر إلا همام بن يحيى، قال المهلب: فيه أنه ينبغي للحاكم أن يستدل على أهل الجنايات ثم يتلطف بهم حتى يقروا ليؤخذوا بإقرارهم، وهذا بخلاف ما إذا جاءوا تائبين فإنه يعرض عمن لم يصرح بالجناية فإنه يجب إقامة الحد عليه إذا أقر، وسياق القصة يقتضي أن اليهودي لم تقم عليه بينة وإنما أخذ بإقراره، وفيه أنه تجب المطالبة بالدم بمجرد الشكوى وبالإشارة، قال: وفيه دليل على جواز وصية غير البالغ ودعواه بالدين والدم. قلت: في هذا نظر لأنه لم يتعين كون الجارية دون البلوغ، وقال المازري فيه الرد على من أنكر القصاص بغير السيف، وقتل الرجل بالمرأة. قلت: وسيأتي البحث فيهما في بابين مفردين قال: واستدل به بعضهم على التدمية لأنها لو لم تعتبر لم يكن لسؤال الجارية فائدة، قال: ولا يصح اعتباره مجردا لأنه خلاف الإجماع فلم يبق إلا إنه يفيد القسامة. وقال النووي: ذهب مالك إلى ثبوت قتل المتهم بمجرد قول المجروح، واستدل بهذا الحديث، ولا دلالة فيه بل هو قول باطل لأن اليهودي اعترف كما وقع التصريح به في بعض طرقه، ونازعه بعض المالكية فقال: لم يقل مالك ولا أحد من أهل مذهبه بثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح، وإنما قالوا إن قول المحتضر عند موته فلان قتلني لوث يوجب القسامة فيقسم اثنان فصاعدا من عصبته بشرط الذكورية، وقد وافق بعض المالكية الجمهور، واحتج من قال بالتدمية أن دعوى من وصل إلى تلك الحالة وهي وقت إخلاصه وتوبته عند معاينة مفارقة الدنيا يدل على أنه لا يقول إلا حقا، قالوا وهي أقوى من قول الشافعية أن الولي يقسم إذا وجد قرب وليه المقتول رجلا معه سكين لجواز أن يكون القاتل غير من معه السكين. قوله: "فرض رأسه بالحجارة" أي دق، وفي رواية الأشخاص "فرضخ رأسه بين حجرين" ويأتي في رواية حبان أن هماما قال كلا من اللفظين، وفي رواية هشام التي تليها " فقتله بين حجرين " ومضى في الطلاق بلفظ الرواية التي في الأشخاص، وفي رواية أبي قلابة عند مسلم: "فأمر به فرجم حتى مات" لكن في رواية أبي داود من هذا الوجه "فقتل بين حجرين" قال عياض: رضخه بين حجرين ورميه بالحجارة ورجمه بها بمعنى، والجامع أنه

(12/199)


رمى بحجر أو أكثر ورأسه على آخر. وقال ابن التين: أجاب بعض الحنفية بأن هذا الحديث لا دلالة فيه على المماثلة في القصاص، لأن المرأة كانت حية والقود لا يكون في حي، وتعقبه بأن إنما أمر بقتله بعد موتها لأن في الحديث: "أفلان قتلك " فدل على أنها ماتت حينئذ لأنها كانت تجود بنفسها، فلما ماتت اقتص منه وادعى ابن المرابط من المالكية أن هذا الحكم كان في أول الإسلام وهو قبول قول القتيل، وأما ما جاء أنه اعترف فهو في رواية قتادة ولم يقله غيره وهذا مما عد عليه انتهى. ولا يخفى فساد هذه الدعوى فقتادة حافظ زيادته مقبولة لأن غيره لم يتعرض لنفيها فلم يتعارضا، والنسخ لا يثبت بالاحتمال. واستدل به على وجوب القصاص على الذمي، وتعقب بأنه ليس فيه تصريح بكونه ذميا فيحتمل أن يكون معاهدا أو مستأمنا، والله أعلم.

(12/200)


5- باب: إِذَا قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ بِعَصًا
6877- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ "عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ فَرَمَاهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ. قَالَ فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا رَمَقٌ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فُلاَنٌ قَتَلَكِ؟ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَأَعَادَ عَلَيْهَا قَالَ: فُلاَنٌ قَتَلَكِ؟ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا. فَقَالَ لَهَا فِي الثَّالِثَةِ: فُلاَنٌ قَتَلَكِ: فَخَفَضَتْ رَأْسَهَا. فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ"
قوله: "باب إذا قتل بحجر أو بعصا" كذا أطلق ولم يبت الحكم إشارة إلى الاختلاف في ذلك، ولكن إيراده الحديث يشير إلى ترجيح قول الجمهور، وذكر فيه حديث أنس في اليهودي والجارية، وهو حجة للجمهور أن القاتل يقتل بما قتل به، وتمسكوا بقوله تعالى :{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وبقوله تعالى:{ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وخالف الكوفيون فاحتجوا بحديث لا قود إلا بالسيف، وهو ضعيف أخرجه البزار وابن عدي من حديث أبي بكرة، وذكر البزار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده. وقال ابن عدي: طرقه كلها ضعيفة، وعلى تقدير ثبوته فإنه على خلاف قاعدتهم في أن السنة لا تنسخ الكتاب ولا تخصصه، وبالنهي عن المثلة وهو صحيح لكنه محمول عند الجمهور على غير المماثلة في القصاص جمعا بين الدليلين، قال ابن المنذر: قال الأكثر إذا قتله بشيء يقتل مثله غالبا فهو عمد، وقال ابن أبي ليلى: إن قتل بالحجر أو العصا نظر إن كرر ذلك فهو عمد وإلا فلا، وقال عطاء وطاوس: شرط العمد أن يكون بسلاح وقال الحسن البصري والشعبي والنخعي والحكم وأبو حنيفة ومن تبعهم: شرطه أن يكون بحديدة. واختلف فيمن قتل بعصا فأقيد بالضرب بالعصا فلم يمت هل يكرر عليه؟ فقيل: لم يكرر، وقيل إن لم يمت قتل بالسيف وكذا فيمن قتل بالتجويع. وقال ابن العربي يستثنى من المماثلة ما كان فيه معصية كالخمر واللواط والتحريق، وفي الثالثة خلاف عند الشافعية، والأولان بالاتفاق، لكن قال بعضهم يقتل بما يقوم مقام ذلك انتهى. ومن أدلة المانعين حديث المرأة التي رمت ضرتها بعمود الفسطاط فقتلتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها الدية، وسيأتي البحث فيه في "باب جنين المرأة" وهو بعد باب القسامة. ومحمد في أول السند جزم الكلاباذي بأنه ابن عبد الله بن نمير. وقال أبو علي بن السكن: هو ابن سلام.

(12/200)


باب قول الله تعالى { أن النفس بالنفس و العين بالعين و الانف بالأنف } الآية
...
6- باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
6878- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَفارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ"
قوله: "باب قول الله تعالى :{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} كذا لأبي ذر والأصيلي، وعند النسفي بعده الآية إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وساق في رواية كريمة إلى قوله: {الظَّالِمُونَ} والغرض من ذكر هذه الآية مطابقتها للفظ الحديث، ولعله أراد أن يبين أنها وإن وردت في أهل الكتاب لكن الحكم الذي دلت عليه مستمر في شريعة الإسلام، فهو أصل في القصاص في قتل العمد. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل" وقع في رواية سفيان الثوري عن الأعمش عند مسلم والنسائي زيادة في أوله وهي " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذي لا إله غيره لا يحل " وظاهر قوله: "لا يحل" إثبات إباحة قتل من استثنى، وهو كذلك بالنسبة لتحريم قتل غيرهم وإن كان قتل من أبيح قتله منهم واجبا في الحكم. قوله: "دم امرئ مسلم" في رواية الثوري " دم رجل " والمراد لا يحل إراقة دمه أي كله وهو كناية عن قتله ولو لم يرق دمه. قوله: "يشهد أن لا إله إلا الله" هي صفة ثانية ذكرت لبيان أن المراد بالمسلم هو الآتي بالشهادتين، أو هي حال مقيدة للموصوف إشعارا بأن الشهادة هي العمدة في حقن الدم، وهذا رجحه الطيبي واستشهد بحديث أسامة "كيف تصنع بلا إله إلا الله". قوله: "إلا بإحدى ثلاث" أي خصال ثلاث، ووقع في رواية الثوري " إلا ثلاثة نفر". قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي من قتل عمدا بغير حق قتل بشرطه، ووقع في حديث عثمان المذكور " قتل عمدا فعليه القود " وفي حديث جابر عند البزار " ومن قتل نفسا ظلما". قوله: "والثيب الزاني" أي فيحل قتله بالرجم، وقد وقع في حديث عثمان عند النسائي بلفظ: "رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم " قال النووي: الزاني يجوز فيه إثبات الياء وحذفها وإثباتها أشهر. قوله: "والمفارق لدينه التارك للجماعة" كذا في رواية أبي ذر عن الكشميهني، وللباقين " والمارق من الدين " لكن عند النسفي والسرخسي والمستملي: "والمارق لدينه " قال الطيبي المارق لدينه هو التارك له، من المروق وهو الخروج وفي رواية مسلم: "والتارك لدينه المفارق للجماعة " وله في رواية الثوري "المفارق للجماعة" وزاد: قال الأعمش فحدثت بهما إبراهيم يعني النخعي فحدثني عن الأسود يعني ابن يزيد عن عائشة بمثله. قلت: وهذه الطريق أغفل المزي في الأطراف ذكرها في مسند عائشة وأغفل التنبيه عليها في ترجمة عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود، وقد أخرجه مسلم أيضا بعده من طريق شيبان بن عبد الرحمن عن الأعمش ولم يسق لفظه لكن قال: "بالإسنادين جميعا " ولم يقل " والذي لا إله غيره: "وأفرده أبو عوانة في صحيحه من طريق شيبان باللفظ المذكور سواء، والمراد بالجماعة جماعة المسلمين أي فارقهم أو تركهم بالارتداد، فهي صفة للتارك أو المفارق لا صفة

(12/201)


مستقلة وإلا لكانت الخصال أربعا، وهو كقوله قبل ذلك " مسلم يشهد أن لا إله إلا الله " فإنها صفة مفسرة لقوله: "مسلم: "وليست قيدا فيه إذ لا يكون مسلما إلا بذلك. ويؤيد ما قلته أنه وقع في حديث عثمان " أو يكفر بعد إسلامه " أخرجه النسائي بسند صحيح، وفي لفظ له صحيح أيضا: "ارتد بعد إسلامه " وله من طريق عمرو بن غالب عن عائشة " أو كفر بعد ما أسلم " وفي حديث ابن عباس عند النسائي (1) "مرتد بعد إيمان" قال ابن دقيق العيد: الردة سبب لإباحة دم المسلم بالإجماع في الرجل، وأما المرأة ففيها خلاف. وقد استدل بهذا الحديث للجمهور في أن حكمها حكم الرجل لاستواء حكمهما في الزنا، وتعقب بأنها دلالة اقتران وهي ضعيفة، وقال البيضاوي: التارك لدينه صفة مؤكدة للمارق أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم، قال: وفي الحديث دليل لمن زعم أنه لا يقتل أحد دخل في الإسلام بشيء غير الذي عدد كترك الصلاة ولم ينفصل عن ذلك، وتبعه الطيبي، وقال ابن دقيق العيد: قد يؤخذ من قوله: "المفارق للجماعة " أن المراد المخالف لأهل الإجماع فيكون متمسكا لمن يقول مخالف الإجماع كافر، وقد نسب ذلك إلى بعض الناس، وليس ذلك بالهين فإن المسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلا وتارة لا يصحبها التواتر، فالأول يكفر جاحده لمخالفة التواتر لا لمخالفة الإجماع، والثاني لا يكفر به. قال شيخنا في شرح الترمذي: الصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما يعلم وجوبه من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس، ومنهم من عبر بإنكار ما علم وجوبه بالتواتر ومنه القول بحدوث العالم، وقد حكى عياض وغيره الإجماع على تكفير من يقول بقدم العالم، وقال ابن دقيق العيد: وقع هنا من يدعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظن أن المخالف في حدوث العالم لا يكفر لأنه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسك بقولنا إن منكر الإجماع لا يكفر على الإطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواترا عن صاحب الشرع، قال وهو تمسك ساقط إما عن عمى في البصيرة أو تعام لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل. وقال النووي: قوله: "التارك لدينه" عام في كل من ارتد بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، وقوله: "المفارق للجماعة " يتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو نفي إجماع كالروافض والخوارج وغيرهم، كذا قال، وسيأتي البحث فيه. وقال القرطبي في "المفهم" ظاهر قوله: "المفارق للجماعة" أنه نعت للتارك لدينه، لأنه إذا ارتد فارق، جماعة المسلمين، غير أنه يلتحق به كل من خرج عن جماعة المسلمين وإن لم يرتد كمن يمتنع من إقامة الحد عليه إذا وجب ويقاتل على ذلك كأهل البغي وقطاع الطريق والمحاربين من الخوارج وغيرهم، قال: فيتناولهم لفظ المفارق للجماعة بطريق العموم، ولو لم يكن كذلك لم يصح الحصر لأنه يلزم أن ينفي من ذكر ودمه حلال فلا يصح الحصر، وكلام الشارع منزه عن ذلك، فدل على أن وصف المفارقة للجماعة يعم جميع هؤلاء. قال: وتحقيقه أن كل من فارق الجماعة ترك دينه، غير أن المرتد ترك كله والمفارق بغير ردة ترك بعضه انتهى. وفيه مناقشة لأن أصل الخصلة الثالثة الارتداد فلا بد من وجوده، والمفارق بغير ردة لا يسمى مرتدا فيلزم الخلف في الحصر، والتحقيق في جواب ذلك أن الحصر فيمن يجب قتله عينا، وأما من ذكرهم فإن قتل الواحد منهم إنما يباح إذا وقع حال المحاربة والمقاتلة، بدليل أنه لو أسر لم يجز قتله صبرا اتفاقا في غير المحاربين، وعلى الراجح في المحاربين أيضا، لكن يرد على ذلك قتل تارك الصلاة، وقد تعرض له ابن دقيق العيد فقال: استدل بهذا الحديث أن تارك
ـــــــ
(1) في نسخة "عند الطبراني"

(12/202)


الصلاة لا يقتل بتركها لكونه ليس من الأمور الثلاثة، وبذلك استدل شيخ والدي الحافظ أبو الحسن بن المفضل المقدسي في أبياته المشهورة، ثم ساقها ومنها وهو كاف في تحصيل المقصود هنا:
والرأي عندي أن يعزره الإما ... م بكل تعزير يراه صوابا
فالأصل عصمته إلى أن يمتطى ... إحدى الثلاث إلى الهلاك ركابا
قال: فهذا من المالكية اختار خلاف مذهبه، وكذا استشكله إمام الحرمين من الشافعية. قلت: تارك الصلاة اختلف فيه، فذهب أحمد وإسحاق وبعض المالكية ومن الشافعية ابن خزيمة وأبو الطيب بن سلمة وأبو عبيد بن جويرية (1) ومنصور الفقيه وأبو جعفر الترمذي إلى أنه يكفر بذلك ولو لم يجحد وجوبها، وذهب الجمهور إلى أنه يقتل حدا، وذهب الحنفية ووافقهم المزني إلى أنه لا يكفر ولا يقتل. ومن أقوى ما يستدل به على عدم كفره حديث عبادة رفعه: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد" الحديث وفيه: "ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة " أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن حبان وابن السكن وغيرهما، وتمسك أحمد ومن وافقه بظواهر أحاديث وردت بتكفيره وحملها من خالفهم على المستحل جمعا بين الأخبار والله أعلم. وقال ابن دقيق العيد: وأراد بعض من أدركنا زمانه أن يزيل الإشكال فاستدل بحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " ووجه الدليل منه أنه وقف العصمة على المجموع، والمرتب على أشياء لا تحصل إلا بحصول مجموعها وينتفي بانتفاء بعضها، قال: وهذا إن قصد الاستدلال بمنطوقه وهو " أقاتل الناس إلخ " فإنه يقتضي الأمر بالقتال إلى هذه الغاية، فقد ذهل للفرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه، فإن المقاتلة مفاعلة تقتضي الحصول من الجانبين فلا يلزم من إباحة المقاتلة على الصلاة إباحة قتل الممتنع من فعلها إذا لم يقاتل، وليس النزاع في أن قوما لو تركوا الصلاة ونصبوا القتال أنه يجب قتالهم، وإنما النظر فيما إذا تركها إنسان من غير نصب قتال هل يقتل أو لا، والفرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه ظاهر، وإن كان أخذه من آخر الحديث وهو ترتب العصمة على فعل ذلك فإن مفهومه يدل على أنها لا تترتب على فعل بعضه هان الأمر لأنها دلالة مفهوم، ومخالفه في هذه المسألة لا يقول بالمفهوم، وأما من يقول به فله أن يدفع حجته بأنه عارضته دلالة المنطوق في حديث الباب وهي أرجح من دلالة المفهوم فيقدم عليها، واستدل به بعض الشافعية لقتل تارك الصلاة لأنه تارك للدين الذي هو العمل، وإنما لم يقولوا بقتل تارك الزكاة لإمكان انتزاعها منه قهرا، ولا يقتل تارك الصيام لإمكان منعه المفطرات فيحتاج هو أن ينوي الصيام لأنه يعتقد وجوبه، واستدل به على أن الحر لا يقتل بالعبد لأن العبد لا يرجم إذا زنى ولو كان ثيبا حكاه ابن التين قال: وليس لأحد أن يفرق ما جمعه الله إلا بدليل من كتاب أو سنة، قال: وهذا بخلاف الخصلة الثالثة فإن الإجماع انعقد على أن العبد والحر في الردة سواء، فكأنه جعل أن الأصل العمل بدلالة الاقتران ما لم يأت دليل يخالفه. وقال شيخنا في شرح الترمذي: استثنى بعضهم من الثلاثة قتل الصائل فإنه يجوز قتله للدفع، وأشار بذلك إلى قول النووي يخص من عموم الثلاثة الصائل ونحوه فيباح قتله في الدفع، وقد يجاب بأنه داخل في المفارق للجماعة أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله بمعنى أنه لا يحل قتله إلا مدافعة بخلاف الثلاثة، واستحسنه الطيبي وقال: هو أولى من تقرير البيضاوي لأنه فسر قوله:
ـــــــ
(1) في نسخة "حروبيه"

(12/203)


{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يحل قتل النفس قصاصا للنفس التي قتلها عدوانا فاقتضى خروج الصائل ولو لم يقصد الدافع قتله. قلت: والجواب الثاني هو المعتمد، وأما الأول فتقدم الجواب عنه، وحكى ابن التين عن الداودي أن هذا الحديث منسوخ بآية المحاربة {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} قال: فأباح القتل بمجرد الفساد في الأرض قال وقد ورد في القتل بغير الثلاث أشياء: منها قوله تعالى :{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} وحديث: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه " وحديث: "من أتى بهيمة فاقتلوه " وحديث: "من خرج وأمر الناس جمع يريد تفرقهم فاقتلوه " وقول عمر " تغرة أن يقتلا " وقول جماعة من الأئمة: إن تاب أهل القدر وإلا قتلوا، وقل جماعة من الأئمة: يضرب المبتدع حتى يرجع أو يموت، وقول جماعة من الأئمة يقتل تارك الصلاة قال: وهذا كله زائد على الثلاث. قلت: وزاد غيره قتل من طلب أخذ مال إنسان أو حريمه بغير حق، ومانع الزكاة المفروضة، ومن ارتد ولم يفارق الجماعة، ومن خالف الإجماع وأظهر الشقاق والخلاف، والزنديق إذا تاب على رأي، والساحر. والجواب عن ذلك كله أن الأكثر في المحاربة أنه إن قتل قتل، وبأن حكم الآية في الباغي أن يقاتل لا أن يقصد إلى قتله، وبأن الخبرين في اللوط وإتيان البهيمة لم يصحا وعلى تقدير الصحة فهما داخلان في الزنا، وحديث الخارج عن المسلمين تقدم تأويله بأن المراد بقتله حبسه ومنعه من الخروج، وأثر عمر من هذا القبيل، والقول في القدرية وسائر المبتدعة مفرع على القول بتكفيرهم، وبأن قتل تارك الصلاة عند من لا يكفره مختلف فيه كما تقدم إيضاحه، وأما من طلب المال أو الحريم فمن حكم دفع الصائل، ومانع الزكاة تقدم جوابه، ومخالف الإجماع داخل في مفارق الجماعة، وقتل الزنديق لاستصحاب حكم كفره، وكذا الساحر، والعلم عند الله تعالى. وقد حكى ابن العربي عن بعض أشياخه أن أسباب القتل عشرة، قال ابن العربي: ولا تخرج عن هذه الثلاثة بحال، فإن من سحر أو سب نبي الله كفر فهو داخل في التارك لدينه والله أعلم. واستدل بقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} على تساوي النفوس في القتل العمد فيقاد لكل مقتول من قاتله سواء كان حرا أو عبدا، وتمسك به الحنفية وادعوا أن آية المائدة المذكورة في الترجمة ناسخة لآية البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ومنهم من فرق بين عبد الجاني وعبد غيره فأقاد من عبد غيره دون عبد نفسه، وقال الجمهور: آية البقرة مفسرة لآية المائدة فيقتل العبد بالحر ولا يقتل الحر بالعبد لنقصه، وقال الشافعي: ليس بين العبد والحر قصاص إلا أن يشاء الحر، واحتج للجمهور بأن العبد سلعة فلا يجب فيه إلا القيمة لو قتل خطأ، وسيأتي مزيد لذلك بعد باب. واستدل بعمومه على جواز قتل المسلم بالكافر المستأمن والمعاهد، وقد مضى في الباب قبله شرح حديث علي "لا يقتل مؤمن بكافر" وفي الحديث جواز وصف الشخص بما كان عليه ولو انتقل عنه لاستثنائه المرتد من المسلمين، وهو باعتبار ما كان.

(12/204)


7- باب مَنْ أَقَادَ بِالْحَجَرِ
6879- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ، فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا رَمَقٌ فَقَالَ: أَقَتَلَكِ فُلاَنٌ؟

(12/204)


فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لاَ، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لاَ، ثُمَّ سَأَلَهَا الثَّالِثَةَ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ، فَقَتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرَيْنِ"
قوله: "باب من أقاد بالحجر" أي حكم بالقود بفتحتين وهو المماثلة في القصاص، ذكر فيه حديث أنس في قصة اليهودي والجارية وقد تقدم شرحه مستوفى قريبا، وقوله: "فأشارت برأسها أي نعم" في رواية الكشميهني: "أن نعم" بالنون بدل التحتانية وكلاهما يجيء لتفسير ما يتقدمه، والمراد أنها أشارت إشارة مفهمة يستفاد منها ما يستفاد منها لو نطقت فقالت نعم.

(12/205)


8- باب مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ
6880- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا.." وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا حَرْبٌ عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ "حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ. أَلاَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أَلاَ وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلاَ وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ: لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا إِلاَّ مُنْشِدٌ. وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أن يُودَى وَإِمَّا أن يُقَادُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاهٍ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ . ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِذْخِرَ فَإِنَّمَا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِلاَّ الإِذْخِرَ". وَتَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ شَيْبَانَ فِي الْفِيلِ. قَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ: الْقَتْلَ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: إِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ
6881- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ مُجَاهِدٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قِصَاصٌ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ، فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ..} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ، قَالَ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أَنْ يَطْلُبَ بِمَعْرُوفٍ وَيُؤَدِّيَ بِإِحْسَانٍ"
قوله: "باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين" ترجم بلفظ الخبر، وظاهره حجة لمن قال إن الاختيار في أخذ الدية أو الاقتصاص راجع إلى أولياء المقتول ولا يشترط في ذلك رضا القاتل. وهذا القدر مقصود الترجمة ومن ثم عقب حديث أبي هريرة بحديث ابن عباس الذي فيه تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي ترك له دمه ورضي منه بالدية {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي في المطالبة بالدية. وقد فسر ابن عباس العفو بقبول الدية في العمد، وقبول الدية راجع إلى الأولياء الذين لهم طلب القصاص، وأيضا فإنما لزمت القاتل الدية بغير

(12/205)


رضاه لأنه مأمور بإحياء نفسه لعموم قوله تعالى :{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فإذا رضي أولياء المقتول بأخذ الدية له لم يكن للقاتل أن يمتنع من ذلك، قال ابن بطال: معنى قوله تعالى :{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} إشارة إلى أن أخذ الدية لم يكن في بني إسرائيل بل كان القصاص متحتما، فخفف الله عن هذه الأمة بمشروعية أخذ الدية إذا رضي أولياء المقتول. ثم ذكر في الباب حديثين، الأول: قوله: "عن أبي هريرة" كذا للأكثر ممن رواه عن يحيى بن أبي كثير في الصحيحين وغيرهما، ووقع في رواية النسائي مرسلا، وهو من رواية يحيى بن حميد عن الأوزاعي وهي شاذة. قوله: "أن خزاعة قتلوا رجلا، وقال عبد الله بن رجاء" كذا تحول إلى طريق حرب بن شداد عن يحيى وهو ابن أبي كثير في الطريقين، وساق الحديث هنا على لفظ حرب، وقد تقدم لفظ شيبان وهو ابن عبد الرحمن في كتاب العلم، وطريق عبد الله بن رجاء هذه وصلها البيهقي من طريق هشام بن علي السيرافي عنه، وتقدم في اللقطة من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة مصرحا بالتحديث في جميع السند. قوله: "أنه عام فتح مكة" الهاء في أنه ضمير الشأن. قوله: "قتلت خزاعة رجلا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية" وقع في رواية ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم مكة " فذكر الحديث وفيه: "ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله " وقع نحو ذلك في رواية ابن إسحاق عن المقبري كما أوردته في " باب لا يعضد شجر الحرم " من أبواب جزاء الصيد من كتاب الحج، فأما خزاعة فتقدم نسبهم في أول مناقب قريش وأما بنو ليث فقبيلة مشهورة ينسبون إلى ليث بن بكر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وأما هذيل فقبيلة كبيرة ينسبون إلى هذيل وهم بنو مدركة بن إلياس بن مضر، وكانت هذيل وبكر من سكان مكة وكانوا في ظواهرها خارجين من الحرم، وأما خزاعة فكانوا غلبوا على مكة وحكموا فيها ثم أخرجوا منها فصاروا في ظاهرها، وكانت بينهم وبين بني بكر عداوة ظاهرة في الجاهلية، وكانت خزاعة حلفاء بني هاشم بن عبد مناف إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بنو بكر حلفاء قريش كما تقدم بيانه في أول فتح مكة من كتاب المغازي، وقد ذكرت في كتاب العلم أن اسم القاتل من خزاعة خراش بمعجمتين ابن أمية الخزاعي، وأن المقتول منهم في الجاهلية كان اسمه أحمر وأن المقتول من بني ليث لم يسم وكذا القاتل، ثم رأيت في السيرة النبوية لابن إسحاق أن الخزاعي المقتول اسمه منبه، قال ابن إسحاق في المغازي " حدثني سعيد بن أبي سندر الأسلمي عن رجل من قومه قال: كان معنا رجل يقال له أحمر كان شجاعا وكان إذا نام غط فإذا طرقهم شيء صاحوا به فيثور مثل الأسد، فغزاهم قوم من هذيل في الجاهلية فقال لهم ابن الأثوع وهو بالثاء المثلثة والعين المهملة: لا تعجلوا حتى أنظر فإن كان أحمر فيهم فلا سبيل إليهم، فاستمع فإذا غطيط أحمر فمشى إليه حتى وضع السيف في صدره فقتله وأغاروا على الحي، فلما كان عام الفتح وكان الغد من يوم الفتح أتى ابن الأثوع الهذلي حتى دخل مكة وهو على شركه، فرأته خزاعة فعرفوه فأقبل خراش بن أمية فقال أفرجوا عن الرجل فطعنه بالسيف في بطنه فوقع قتيلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، ولقد قتلتم قتيلا لأدينه" قال ابن إسحاق "وحدثني عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي عن سعيد بن المسيب قال: لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع خراش بن أمية قال: إن خراشا لقتال" يعيبه بذلك. ثم ذكر حديث أبي شريح الخزاعي كما تقدم، فهذا قصة الهذلي، وأما قصة المقتول من بني ليث فكأنها أخرى، وقد ذكر ابن هشام أن المقتول من بني ليث اسمه جندب بن الأدلع، وقال بلغني أن أول قتيل وداه

(12/206)


رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح جندب بن الأدلع قتله بنو كعب فوداه بمائة ناقة، لكن ذكر الواقدي أن اسمه جندب بن الأدلع، فرآه جندب بن الأعجب الأسلمي فخرج يستجيش عليه فجاء خراش فقتله، فظهر أن القصة واحدة فلعله كان هذليا حالف بني ليث أو بالعكس، ورأيت في آخر الجزء الثالث من " فوائد أبي علي بن خزيمة: "أن اسم الخزاعي القاتل هلال بن أمية، فإن ثبت فلعل هلالا لقب خراش والله أعلم. قوله: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية سفيان المشار إليها في العلم " فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فركب راحلته فخطب". قوله: "إن الله حبس عن مكة الفيل" بالفاء اسم الحيوان المشهور، وأشار بحبسه عن مكة إلى قصة الحبشة وهي مشهورة ساقها ابن إسحاق مبسوطة، وحاصل ما ساقه أن أبرهة الحبشي لما غلب على اليمن وكان نصرانيا بنى كنيسة وألزم الناس بالحج إليها، فعمد بعض العرب فاستغفل الحجبة وتغوط فهرب، فغضب أبرهة وعزم على تخريب الكعبة، فتجهز في جيش كثيف واستصحب معه فيلا عظيما، فلما قرب من مكة خرج إليه عبد المطلب فأعظمه وكان جميل الهيئة، فطلب منه أن يرد عليه إبلا له نهبت فاستقصر همته وقال: لقد ظننت أنك لا تسألني إلا في الأمر الذي جئت فيه، فقال إن لهذا البيت ربا سيحميه، فأعاد إليه إبله، وتقدم أبرهة بجيوشه فقدموا الفيل فبرك وعجزوا فيه، وأرسل الله عليهم طيرا مع كل واحد ثلاثة أحجار حجرين في رجليه وحجر في منقاره فألقوها عليهم فلم يبق منهم أحد إلا أصيب، وأخرج ابن مردويه بسند حسن عن عكرمة عن ابن عباس قال: "جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح " وهو بكسر المهملة ثم فاء ثم مهملة موضع خارج مكة من جهة طريق اليمن، فأتاهم عبد المطلب فقال: إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحدا، قالوا لا نرجع حتى نهدمه، فكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداء فلما حاذتهم رمتهم، فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك أحد منهم جلده إلا تساقط لحمه قال ابن إسحاق " حدثني يعقوب بن عتبة قال: حدثت أن أول ما وقعت الحصباء والجدري بأرض العرب من يومئذ " وعند الطبري بسند صحيح عن عكرمة أنها كانت طيرا خضرا خرجت من البحر لها رءوس كرءوس السباع. ولابن أبي حاتم من طريق عبيد بن عمير بسند قوي: بعث الله عليهم طيرا أنشأها من البحر كأمثال الخطاطيف. فذكر نحو ما تقدم. قوله: "وإنها لم تحل لأحد قبلي إلخ" تقدم بيانه مفصلا في "باب تحريم القتال بمكة" من أبواب جزاء الصيد وفيما قبله في "باب لا يعضد شجر الحرم". قوله: "ولا يلتقط" بضم أوله على البناء للمجهور وفي آخره "إلا لمنشد" ووقع للكشميهني هنا بفتح أوله وفي آخره: "إلا منشد" وهو واضح. قوله: "ومن قتل له قتيل" أي من قتل له قريب كان حيا فصار قتيلا بذلك القتل. قوله: "فهو بخير النظرين" تقدم في العلم بلفظ: "ومن قتل فهو بخير النظرين: وهو مختصر ولا يمكن حمله على ظاهره لأن المقتول لا اختيار له وإنما الاختيار لوليه وقد أشار إلى نحو ذلك الخطابي، ووقع في رواية الترمذي من طريق الأوزاعي " فإما أن يعفو وإما أن يقتل " والمراد العفو على الدية جمعا بين الروايتين، ويؤيده أن عنده في حديث أبي شريح " فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين: إما أن يقتلوا أو يأخذوا الدية " ولأبي داود وابن ماجه وعلقه الترمذي من وجه آخر عن أبي شريح بلفظ: "فإنه يختار إحدى ثلاث إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه" أي إن أراد زيادة على القصاص أو الدية، وسأذكر الاختلاف فيمن يستحق الخيار هل هو القاتل أو ولي المقتول في شرح الحديث الذي بعده. وفي الحديث، أن ولي الدم يخير بين القصاص والدية،

(12/207)


واختلف إذا اختار الدية هل يجب على القاتل إجابته؟ فذهب الأكثر إلى ذلك، وعن مالك لا يجب إلا برضا القاتل، واستدل بقوله: "ومن قتل له" بأن الحق يتعلق بورثة المقتول، فلو كان بعضهم غائبا أو طفلا لم يكن للباقين القصاص حتى يبلغ الطفل ويقدم الغائب. قوله: "إما أن يودي" بسكون الواو أي يعطي القاتل أو أولياؤه لأولياء المقتول الدية "وإما أن يقاد" أي يقتل به، ووقع في العلم بلفظ: "إما أن يعقل " بدل " إما أن يودي " وهو بمعناه، والعقل الدية. وفي رواية الأوزاعي في اللقطة " أما أن يفدي " بالفاء بدل الواو، وفي نسخة " وإما أن يعطي " أي الدية. ونقل ابن التين عن الداودي أن في رواية أخرى " إما أن يودي أو يفادي " وتعقبه بأنه غير صحيح لأنه لو كان بالفاء لم يكن له فائدة لتقدم ذكر الدية. ولو كان بالقاف واحتمل أن يكون للمقتول وليان لذكرا بالتثنية أي يقادا بقتيلهما والأصل عدم التعدد، قال وصحيح الرواية: "إما أن يودي أو يقاد " وإنما يصح يقادي إن تقدمه أن يقتص. وفي الحديث جواز إيقاع القصاص بالحرم لأنه صلى الله عليه وسلم خطب بذلك بمكة ولم يقيده بغير الحرم، وتمسك بعمومه من قال يقتل المسلم بالذمي وقد سبق ما فيه. قوله: "فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه" تقدم ضبطه مع شرحه في العلم، وحكى السلفي أن بعضهم نطق بها بتاء في آخره وغلطه وقال هو فارسي من فرسان الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن. قوله: "ثم قام رجل من قريش فقال: يا رسول الله إلا الإذخر" تقدم بيان اسمه وأنه العباس بن عبد المطلب وشرح بقية الحديث المتعلق بتحريم مكة وبالإذخر في الأبواب المذكورة من كتاب الحج. قوله: "وتابعه عبيد الله" يعني ابن موسى. قوله: "عن شيبان في الفيل" أي تابع حرب بن شداد عن يحيى في الفيل بالفاء، ورواية عبيد الله المذكورة موصولة في صحيح مسلم من طريقه. قوله: "وقال بعضهم عن أبي نعيم القتل" هو محمد بن يحيى الذهلي جزم عن أبي نعيم في روايته عنه بهذا الحديث بلفظ: "القتل " وأما البخاري فرواه عنه بالشك كما تقدم في كتاب العلم. قوله: "وقال عبيد الله إما أن يقاد أهل القتيل" أي يؤخذ لهم بثأرهم، وعبيد الله هو ابن موسى المذكور، وروايته إياه عن شيبان بن عبد الرحمن بالسند المذكور، وروايته عنه موصولة في صحيح مسلم كما بينته ولفظه: "إما أن يعطي الدية وإما أن يقاد أهل القتيل " وهو بيان لقوله: "إما أن يقاد". الحديث الثاني، قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "عن مجاهد" وقد تقدم في تفسير البقرة عن الحميدي " عن سفيان حدثنا عمرو سمعت مجاهدا". قوله: "عن ابن عباس رضي الله عنهما" في رواية الحميدي " سمعت ابن عباس " هكذا وصله ابن عيينة عن عمرو بن دينار وهو من أثبت الناس في عمرو، ورواه ورقاء بن عمر عن عمرو فلم يذكر فيه ابن عباس أخرجه النسائي. قوله: "كانت في بني إسرائيل القصاص" كذا هنا من رواية قتيبة عن سفيان بن عيينة، وفي رواية الحميدي عن سفيان "كان في بني إسرائيل القصاص" كما تقدم في التفسير وهو أوجه، وكأنه أنث باعتبار معنى القصاص وهو المماثلة والمساواة. قوله: "فقال الله لهذه الأمة كتب عليكم القصاص في القتلى إلى هذه الآية فمن عفي له من أخيه شيء" قلت: كذا وقع في رواية قتيبة، ووقع هنا عند أبي ذر والأكثر. ووقع هنا في رواية النسفي والقابسي "إلى قوله :{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ووقع في رواية ابن أبي عمر في مسنده ومن طريقه أبو نعيم في المستخرج "إلى قوله في هذه الآية" وبهذا يظهر المراد، وإلا فالأول يوهم أن قوله: {فَمَنْ عُفِيَ} في آية تلي الآية المبدأ بها وليس كذلك، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أبي كريب وغيره عن سفيان فقال بعد قوله في القتلى "فقرأ إلى والأنثى بالأنثى فمن عفي له" ووقع في رواية

(12/208)


الحميدي المذكورة ما حذف هنا من الآية وزاد في آخره تفسير قوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} وزاد فيه أيضا تفسير قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى} أي قتل بعد قبول الدية. وقد اختلف في تفسير العذاب في هذه الآية فقيل: يتعلق بالآخرة وأما في الدنيا فهو لمن قتل ابتداء وهذا قول الجمهور، وعن عكرمة وقتادة والسدي يتحتم القتل ولا يتمكن الولي من أخذ الدية. وفيه حديث جابر رفعه: "لا أعفو عمن قتل بعد أخذ الدية" أخرجه أبو داود وفي سنده انقطاع، قال أبو عبيد: ذهب ابن عباس إلى أن هذه الآية ليست منسوخه بآية المائدة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} بل هما محكمتان، وكأنه رأى أن آية المائدة مفسرة لآية البقرة وأن المراد بالنفس نفس الأحرار ذكورهم وإناثهم دون الأرقاء فإن أنفسهم متساوية دون الأحرار. وقال إسماعيل المراد في النفس بالنفس المكافئة للأخرى في الحدود لأن الحر لو قذف عبدا لم يجلد اتفاقا والقتل قصاصا من جملة الحدود، قال وبينه قوله في الآية {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} فمن هنا يخرج العبد والكافر لأن العبد ليس له أن يتصدق بدمه ولا بجرحه، ولأن الكافر لا يسمى متصدقا ولا مكفرا عنه. قلت: محصل كلام ابن عباس يدل على أن قوله تعالى :{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} أي على بني إسرائيل في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} مطلقا فخفف عن هذه الأمة بمشروعية الدية بدلا عن القتل لمن عفا من الأولياء عن القصاص وبتخصيصه بالحر في الحر، فحينئذ لا حجة في آية المائدة لمن تمسك بها في قتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر، لأن شرع من قبلنا إنما يتمسك منه بما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وقد قيل إن شريعة عيسى لم يكن فيها قصاص وإنه كان فيها الدية فقط، فإن ثبت ذلك امتازت شريعة الإسلام بأنها جمعت الأمرين فكانت وسطى لا إفراط ولا تفريط، واستدل به على أن المخير في القود أو أخذ الدية هو الولي وهو قول الجمهور، وقرره الخطابي بأن العفو في الآية يحتاج إلى بيان، لأن ظاهر القصاص أن لا تبعة لأحدهما على الآخر، لكن المعنى أن من عفي عنه من القصاص إلى الدية فعلى مستحق الدية الاتباع بالمعروف وهو المطالبة وعلى القاتل الأداء وهو دفع الدية بإحسان. وذهب مالك والثوري وأبو حنيفة إلى أن الخيار في القصاص أو الدية للقاتل، قال الطحاوي: والحجة لهم حديث أنس في قصة الربيع عمته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" فإنه حكم بالقصاص ولم يخير، ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما، فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله: "فهو بخير النظرين " أي ولي المقتول مخير بشرط أن يرضني الجاني أن يغرم الدية. وتعقب بأن قوله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص " إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القود فأعلم أن كتاب الله نزل على أن المجني عليه إذا طلب القود أجيب إليه وليس فيه ما ادعاه من تأخير البيان، واحتج الطحاوي أيضا بأنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقاتل رضيت أن تعطيني كذا على أن لا أقتلك أن القاتل لا يجبر عل ذلك ولا يؤخذ منه كرها وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه. وقال المهلب وغيره: يستفاد من قوله: "فهو بخير النظرين " أن الولي إذا سئل في العفو على مال إن شاء قبل ذلك وإن شاء اقتص وعلى الولي اتباع الأولى في ذلك، وليس فيه ما يدل على إكراه القاتل على بذل الدية، واستدل بالآية على أن الواجب في قتل العمد القود والدية بدل منه، وقيل الواجب الخيار، وهما قولان للعلماء، وكذا في مذهب الشافعي أصحهما الأول، واختلف في سبب نزول الآية فقيل نزلت في حيين من العرب كان لأحدهما طول على الآخر في الشرف فكانوا يتزوجون من نسائهم بغير مهر وإذا قتل منهم

(12/209)


عبد قتلوا به حرا أو امرأة قتلوا بها رجلا أخرجه الطبري عن الشعبي، وأخرج أبو داود من طريق علي بن صالح بن حي عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة يودي بمائة وسق من التمر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا ادفعوه لنا نقتله، فقالوا بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم، فأتوه فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} واستدل به الجمهور على جواز أخذ الدية في قتل العمد ولو كان غيلة وهو أن يخدع شخصا حتى يصير به إلى موضع خفي فيقتله، خلافا للمالكية، وألحقه مالك بالمحارب فإن الأمر فيه إلى السلطان وليس للأولياء العفو عنه، وهذا على أصله في أن حد المحارب القتل إذا رآه الإمام وأن "أو" في الآية للتخيير لا للتنويع، وفيه أن من قتل متأولا كان حكمه حكم من قتل خطأ في وجوب الدية لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإني عاقله" واستدل به بعض المالكية على قتل من التجأ إلى الحرم بعد أن يقتل عمدا خلافا لمن قال لا يقتل في الحرم بل يلجأ إلى الخروج منه، ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم قاله في قصة قتيل خزاعة المقتول في الحرم، وأن القود مشروع فيمن قتل عمدا، ولا يعارضه ما ذكر من حرمة الحرم فإن المراد به تعظيمه بتحريم ما حرم الله، وإقامة الحد على الجاني به من جملة تعظيم حرمات الله، وقد تقدم شيء من هذا في الموضع الذي أشرت إليه آنفا من كتاب الحج.

(12/210)


9- باب: مَنْ طَلَبَ دَمَ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ
6882- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاَثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ"
قوله: "باب من طلب دم امرئ بغير حق" أي بيان حكمه. قوله: "عن عبد الله بن أبي حسين" هو عبد الله بن عبد الرحمن نسب إلى جده، وثبت ذكر أبيه في هذا السند عند الطبراني في نسخة شعيب بن أبي حمزة وكذا في مستخرج أبي نعيم، ونافع بن جبير أي ابن مطعم. قوله: "أبغض" هو أفعل من البغض، قال وهو شاذ ومثله أعدم من العدم إذا افتقر، قال وإنما يقال أفعل من كذا للمفاضلة في الفعل الثلاثي، قال المهلب وغيره: المراد بهؤلاء الثلاثة أنهم أبغض أهل المعاصي إلى الله، فهو كقوله: "أكبر الكبائر" وإلا فالشرك أبغض إلى الله من جميع المعاصي. قوله: "ملحد في الحرم" أصل الملحد هو المائل عن الحق، والإلحاد العدول عن القصد، واستشكل بأن مرتكب الصغيرة مائل عن الحق، والجواب أن هذه الصيغة في العرف مستعملة للخارج عن الدين فإذا وصف به من ارتكب معصية كان في ذلك إشارة إلى عظمها، وقيل إيراده بالجملة الاسمية مشعر بثبوت الصفة، ثم التنكير للتعظيم فيكون ذلك إشارة إلى عظم الذنب، وقد تقدم قريبا في عد الكبائر مستحل البيت الحرام، وأخرج الثوري في تفسيره عن السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: "ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، إلا أن رجلا لو هم بعدن أبين أن يقتل رجلا بالبيت الحرام إلا أذاقه الله من عذاب أليم" وهذا سند صحيح، وقد ذكر شعبة أن السدي رفعه لهم، وكان شعبة يرويه عنه موقوفا أخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن شعبة،

(12/210)


وأخرجه الطبري من طريق أسباط بن نصر عن السدي موقوفا، وظاهر سياق الحديث أن فعل الصغيرة في الحرم أشد من فعل الكبيرة في غيره، وهو مشكل فيتعين أن المراد بالإلحاد فعل الكبيرة، وقد يؤخذ ذلك من سياق الآية فإن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} الآية يفيد ثبوت الإلحاد ودوامه، والتنوين للتعظيم أي من يكون إلحاده عظيما والله أعلم. قوله: "ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية" أي يكون له الحق عند شخص فيطلبه من غيره ممن لا يكون له فيه مشاركة كوالده أو ولده أو قريبه، وقيل المراد من يريد بقاء سيرة الجاهلية أو إشاعتها أو تنفيذها. وسنة الجاهلية اسم جنس يعم جميع ما كان أهل الجاهلية يعتمدونه من أخذ الجار بجاره والحليف بحليفه ونحو ذلك، ويلتحق بذلك ما كانوا يعتقدونه، والمراد منه ما جاء الإسلام بتركه كالطيرة والكهانة وغير ذلك، وقد أخرج الطبراني والدار قطني من حديث أبي شريح رفعه: "إن أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله، أو طلب بدم الجاهلية في الإسلام " فيمكن أن يفسر به سنة الجاهلية في هذا الحديث. قوله: "ومطلب" بالتشديد مفتعل من الطلب فأبدلت التاء طاء وأدغمت والمراد من يبالغ في الطلب. وقال الكرماني: المعنى المتكلف للطب، والمراد الطلب المترتب عليه المطلوب لا مجرد الطلب، أو ذكر الطلب ليلزم الزجر في الفعل بطريق الأولى. وقوله: "بغير حق" احتراز عمن يقع له مثل ذلك لكن بحق كطلب القصاص مثلا. وقوله: "ليهريق" بفتح الهاء ويجوز إسكانها، وقد تمسك به من قال إن العزم المصمم يؤاخذ به، وتقدم البحث في ذلك في الكلام على حديث: "من هم بحسنة" في كتاب الرقاق. "تنبيه": وقفت لهذا الحديث على سبب فقرأت في "كتاب مكة لعمر بن شبة" من طريق عمرو بن دينار عن الزهري عن عطاء بن يزيد قال: قتل رجل بالمزدلفة يعني في غزوة الفتح، فذكر القصة وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وما أعلم أحدا أعتى على الله من ثلاثة: رجل قتل في الحرم أو قتل غير قاتله أو قتل بذحل في الجاهلية" ومن طريق مسعر عن عمرو بن مرة عن الزهري ولفظه: "إن أجرأ الناس على الله" فذكر نحوه وقال فيه: "وطلب بذحول الجاهلية".

(12/211)


10- باب: الْعَفْوِ فِي الْخَطَإِ بَعْدَ الْمَوْتِ
6883- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ.." وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّا - يَعْنِي الْوَاسِطِيَّ - عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: صَرَخَ إِبْلِيسُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي النَّاسِ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ حَتَّى قَتَلُوا الْيَمَانِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَبِي أَبِي، فَقَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ انْهَزَمَ مِنْهُمْ قَوْمٌ حَتَّى لَحِقُوا بِالطَّائِفِ"
قوله: "باب العفو في الخطأ بعد الموت" أي عفو الولي لا عفو المقتول لأنه محال، ويحتمل أن يدخل، وإنما قيده بما بعد الموت لأنه لا يظهر أثره إلا فيه، إذ لو عفا المقتول ثم مات لم يظهر لعفوه أثر، لأنه لو عاش تبين أن لا شيء له يعفو عنه، وقال ابن بطال: أجمعوا على أن عفو الولي إنما يكون بعد موت المقتول، وأما قبل ذلك فالعفو للقتيل، خلافا لأهل الظاهر فإنهم أبطلوا عفو القتيل. وحجة الجمهور أن الولي لما قام مقام المقتول في طلب

(12/211)


ما يستحقه فإذا جعل له العفو كان ذلك للأصيل أولى، وقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة من مرسل قتادة أن عروة بن مسعود لما دعا قومه إلى الإسلام فرمي بسهم فقتل عفا عن قاتله قبل أن يموت فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عفوه. قوله: "حدثنا فروة" بفاء هو ابن أبي المغراء. قوله: "عن أبيه عن عائشة هزم المشركون يوم أحد" سقط هذا القدر لأبي ذر وتحول إلى السند الآخر فصار ظاهره أن الروايتين سواء وليس كذلك، ويحيى بن أبي زكريا في السند الثاني هو يحيى بن يحيى الغساني، وساق المتن هنا على لفظه، وأما لفظ علي بن مسهر فتقدم في " باب من حنث ناسيا " من كتاب الأيمان والنذور، وقد بينت ذلك في الكلام عليه في غزوة أحد. قوله: "فقال حذيفة غفر الله لكم" استدل به من قال إن ديته وجبت على من حضر، لأن معنى قوله: "غفر الله لكم" عفوت عنكم، وهو لا يعفو إلا عن شيء استحق له أن يطالب به. وقد أخرج أبو إسحاق الفزاري في السنن عن الأوزاعي عن الزهري قال: "أخطأ المسلمون بأبي حذيفة يوم أحد حتى قتلوه، فقال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم فزاده عنده خيرا ووداه من عنده " وهذه الزيادة ترد قول من حمل قوله: "فلم يزل في حذيفة منها بقية خير " على الحزن على أبيه، وقد أوضحت الرد عليه في " باب من حنث ناسيا " ويؤخذ منها أيضا التعقب على المحب الطبري حيث قال: حمل البخاري قول حذيفة " غفر الله لكم " على العفو عن الضمان وليس بصريح، فيجاب بأن البخاري أشار بهذا الذي هو غير صريح إلى ما ورد صريحا وإن كان ليس على شرطه فإنه يؤيد ما ذهب إليه.

(12/212)


11- باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
قوله: "باب: قول الله تعالى :{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} كذا لأبي ذر وابن عساكر، وساق الباقون الآية إلى {عَلِيماً حَكِيماً} ولم يذكر معظمهم في هذا الباب حديثا. قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} ذكر ابن إسحاق في السيرة سبب نزولها عن عبد الرحمن ابن الحارث بن عبد الله بن عياش بتحتانية وشين معجمة أي ابن ربيعة المخزومي قال: "قال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: نزلت هذه الآية في جدك عياش بن أبي ربيعة والحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي وكان يؤذيهم بمكة وهو كافر، فلما هاجر المسلمون أسلم الحارث وأقبل مهاجرا حتى إذا كان بظاهر الحرة لقيه عياش بن أبي ربيعة فظنه على شركه فعلاه بالسيف حتى قتله، فنزلت" روى هذه القصة أبو يعلى من طريق حماد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه فذكرها مرسلة أيضا وزاد في السند عبد الرحمن بن القاسم، وأخرج ابن أبي حاتم في التفسير من طريق سعيد بن جبير أن عياش بن أبي ربيعة حلف ليقتلن الحارث بن يزيد إن ظفر به فذكر نحوه ومن طريق مجاهد نحوه لكن لم يسم الحارث، وفي سياقه ما يدل عل أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلم ثم خرج فقتله عياش بن أبي ربيعة، وقيل في سبب نزولها غير ذلك مما لا يثبت. قوله: "إلا خطأ" هو استثناء منقطع عند الجمهور إن أريد بالنفي معناه فإنه لو قدر متصلا لكان مفهومه فله قتله، وانفصل من قال إنه متصل بأن المراد بالنفي

(12/212)


التحريم، ومعنى إلا خطأ بأن عرفه بالكفر فقتله ثم ظهر أنه كان مؤمنا، وقيل نصب على أنه مفعول له أي لا يقتله لشيء أصلا إلا للخطأ، أو حال أي إلا في حال الخطأ، أو هو نعت مصدر محذوف أي إلا قتلا خطأ، وقيل "إلا" هنا بمعنى الواو وجوزه جماعة، وقيده الفراء بشرط مفقود هنا فلذلك لم يجزه هنا. واستدل بهذه الآية على أن القصاص من المسلم مختص بقتله المسلم فلو قتل كافرا لم يجب عليه شيء سواء كان حربيا أم غير حربي لأن الآيات بينت أحكام المقتولين عمدا ثم خطأ فقال في الحربي {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ثم قال فيمن لهم ميثاق {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} وقال فيمن عاود المحاربة {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} وقال في الخطأ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} فكان مفهومها أن له أن يقتل الكافر عمدا فخرج الذمي بما ذكر قبلها، وجعل في قتل المؤمن خطأ الدية والكفارة ولم يذكر ذلك في قتل الكافر، فتمسك به من قال لا يجب في قتل الكافر ولو كان ذميا لشيء، وأيده بقوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وإسحاق في أول السند قال أبو علي الجياني: لم أجده منسوبا ويشبه أن يكون ابن منصور. قلت: ولا يبعد أن يكون ابن راهويه فإنه كثير الرواية عن حبان بن هلال شيخ إسحاق هنا.

(12/213)


12- باب: إِذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً قُتِلَ بِهِ
6884- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلاَنٌ أَفُلاَنٌ، حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِيءَ بِالْيَهُودِيِّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. وَقَدْ قَالَ هَمَّامٌ: بِحَجَرَيْنِ"
قوله: "باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به" كذا لهم، وأما النسفي فعطف بدون "باب" فقال بعد قوله خطأ "الآية، وإذا أقر إلخ " وذكروا كلهم حديث أنس في قصة اليهودي والجارية ويحتاج إلى مناسبته للآية فإنه لا يظهر أصلا فالصواب صنيع الجماعة، قال ابن المنذر: حكم الله في المؤمن يقتل المؤمن خطأ بالدية، وأجمع أهل العلم على ذلك ثم اختلفوا في قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} فقيل المراد كافر ولعاقلته الدية من أجل العهد وهذا قول ابن عباس والشعبي والنخعي والزهري، وقيل مؤمن جاء ذلك عن النخعي وأبي الشعثاء، قال الطبري: والأول أولى لأن الله أطلق الميثاق ولم يقل في المقتول وهو مؤمن كما قال في الذي قبله، ويترجح أيضا حيث ذكر المؤمن ذكر الدية والكفارة معا وحيث ذكر الكافر ذكر الكفارة فقط وهنا ذكر الدية والكفارة معا. قوله: "فجيء باليهودي فاعترف" في رواية هدبة عن همام " فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل به حتى أقر " أخرجه الإسماعيلي، وفي حديث أنس في قصة اليهودي حجة للجمهور في أنه لا يشترط في الإقرار بالقتل أن يتكرر، وهو مأخوذ من إطلاق قوله: "فأخذ اليهودي فاعترف " فإنه لم يذكر فيه عددا والأصل عدمه، وذهب الكوفيون إلى اشتراط تكرار الإقرار بالقتل مرتين قياسا على اشتراط تكرار الإقرار بالزنا أربعا تبعا لعدد الشهود في الموضعين.

(12/213)


13- باب: قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ
6885- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ

(12/213)


باب القصاص بين الرجال و النساء في الجراحات
...
14- باب: الْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْجِرَاحَاتِ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ. وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ: "تُقَادُ الْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ فِي كُلِّ عَمْدٍ يَبْلُغُ نَفْسَهُ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْجِرَاحِ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِبْرَاهِيمُ وَأَبُو الزِّنَادِ عَنْ أَصْحَابِهِ. وَجَرَحَتْ أُخْتُ الرُّبَيِّعِ إِنْسَانًا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْقِصَاصُ"
6886- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "لَدَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ: "لاَ تُلِدُّونِي"، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: "لاَ يَبْقَى أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلاَّ لُدَّ، غَيْرَ الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ"
قوله: "باب: القصاص بين الرجال والنساء في الجراحات" قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الرجل يقتل بالمرأة والمرأة بالرجل إلا رواية عن علي وعن الحسن وعطاء، وخالف الحنفية فيما دون النفس، واحتج بعضهم بأن اليد الصحيحة لا تقطع باليد الشلاء بخلاف النفس فإن النفس الصحيحة تقاد بالمريضة اتفاقا، وأجاب ابن القصار بأن اليد الشلاء في حكم الميتة والحي لا يقاد بالميت، وقال ابن المنذر: لما أجمعوا على القصاص في النفس واختلفوا فيما دونها وجب رد المختلف إلى المتفق. قوله: "وقال أهل العلم يقتل الرجل بالمرأة" المراد الجمهور، أو أطلق إشارة إلى وهي الطريق إلى على. أو إلى أنه من ندرة المخالف. قوله: "ويذكر عن عمر تقاد المرأة من الرجل في كل عمد يبلغ نفسه فما دونها من الجراح" وصله سعيد بن منصور من طريق النخعي قال: "كان فيما جاء به عروة البارقي إلى شريح من عند عمر قال جرح الرجال والنساء سواء " وسنده صحيح إن كان النخعي سمعه من شريح، وقد أخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر فقال: "عن إبراهيم عن شريح، قال أتاني عروة، فذكره، ومعنى قوله: "تقاد " يقتص منها إذا قتلت الرجل ويقطع عضوها الذي تقطعه منه وبالعكس. قوله: "وبه قال عمر بن عبد العزيز وإبراهيم وأبو الزناد عن أصحابه" أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الثوري عن جعفر بن برقان عن عمر بن عبد العزيز وعن مغيرة عن إبراهيم النخعي قالوا: القصاص بين الرجل والمرأة في العمد سواء، وأخرج الأثرم من هذا الوجه عن عمر بن عبد العزيز قال: القصاص فيما بين المرأة والرجل حتى في النفس، وأخرج البيهقي من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: كل من أدركت من فقهائنا - وذكر السبعة في مشيخة سواهم أهل فقه وفضل ودين - وقال وربما اختلفوا في الشيء فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيا أنهم كانوا يقولون المرأة تقاد من الرجل عينا بعين وأذنا بأذن وكل شيء من الجراح على ذلك وإن من قتلها قتل بها. قوله: "وجرحت أخت الربيع إنسانا فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" القصاص" كذا لهم، ووقع للنسفي "كتاب الله القصاص" والمعتمد ما عند الجماعة وهو بالنصب على الإغراء، قال أبو ذر: كذا وقع هنا والصواب "الربيع بنت النضر عمة أنس" وقال الكرماني: قيل إن

(12/214)


الصواب "وجرحت الربيع" بحذف لفظة أخت فإنه الموافق لما تقدم في البقرة من وجه آخر "عن أنس أن الربيع بنت النضر عمته كسرت ثنية جارية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص، قال: إلا أن يقال إن هذه امرأة أخرى، لكنه لم ينقل عن أحد، كذا قال، وقد ذكر جماعة أنهما قصتان، والمذكور هنا طرف من حديث أخرجه مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس " أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: القصاص القصاص، فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة والله لا يقتص منها، فقال: سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله فما زالت حتى قبلوا الدية فقال: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " والحدث المشار إليه في سورة البقرة مختصر من حديث طويل ساقه البخاري في الصلح بتمامه من طريق حميد عن أنس وفيه، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، قال يا أنس كتاب الله القصاص، فرضي القوم وعفوا فقال: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " وسيأتي بعد أربعة أبواب أيضا باختصار، قال النووي قال العلماء: المعروف رواية البخاري، ويحتمل أن يكونا قصتين. قلت: وجزم ابن حزم بأنهما قصتان صحيحتان وقعتا لامرأة واحدة إحداهما أنها جرحت إنسانا فقضى عليها بالضمان والأخرى أنها كسرت ثنية جارية فقضى عليها بالقصاص وحلفت أمها في الأولى وأخوها في الثانية. وقال البيهقي بعد أن أورد الروايتين: ظاهر الخبرين يدل على أنهما قصتان، فإن قبل هذا الجمع وإلا فثابت أحفظ من حميد. قلت: في القصتين مغايرات: منها هل الجانية الربيع أو أختها، وهل الجناية كسر الثنية أو الجراحة، وهل الحالف أم الربيع أو أخوها أنس بن النضر؟ وأما ما وقع في أول الجنايات عند البيهقي من وجه آخر عن حميد عن أنس قال: "لطمت الربيع بنت معوذ جارية فكسرت ثنيتها " فهو غلط في ذكر أبيها والمحفوظ أنها بنت النضر عمة أنس كما وقع التصريح به في صحيح البخاري، وفي الحديث أن كل من وجب له القصاص في النفس أو دونها فعفا على مال فرضوا به جاز. قوله: "يحيى" هو القطان وسفيان هو الثوري. قوله: "لددنا النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فقال لا تلدوني" تقدم شرحه في الوفاة النبوية، والمراد منه هنا " لا يبقى أحد منكم إلا لد " فإن فيه إشارة إلى مشروعية الاقتصاص من المرأة بما جنته على الرجل، لأن الذين لدوه كانوا رجالا ونساء، وقد ورد التصريح في بعض طرقه بأنهم لدوا ميمونة وهي صائمة من أجل عموم الأمر كما مضى في الوفاة النبوية من وجهين. قوله: "غير العباس فإنه لم يشهدكم" تقدم بيانه أيضا في الوفاة النبوية قبل. وفي الحديث أن صاحب الحق يستثنى من غرمائه من شاء فيعفو عنه ويقتص من الباقين، وفيه نظر لقوله: "لم يشهدكم " وفيه أخذ الجماعة بالواحد، قال الخطابي: وفيه حجة لمن رأى القصاص في اللطمة ونحوها، واعتل من لم ير ذلك بأن اللطم يتعذر ضبطه وتقديره بحيث لا يزيد ولا ينقص وأما اللدود فاحتمل أن يكون قصاصا واحتمل أن يكون معاقبة على مخالفة أمره فعوقبوا من جنس جنايتهم. وفيه أن الشركاء في الجناية يقتص من كل واحد منهم إذا كانت أفعالهم لا تتميز، بخلاف الجناية في المال لأنها تتبعض، إذ لو اشترك جماعة في سرقة ربع دينار لم يقطعوا اتفاقا، وسيأتي بيان ذلك بعد ستة أبواب

(12/215)


15- باب: مَنْ أَخَذَ حَقَّهُ أَوْ اقْتَصَّ دُونَ السُّلْطَانِ
6887- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ "سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ

(12/215)


إِنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
6888- وَبِإِسْنَادِهِ "لَوْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِكَ أَحَدٌ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ خَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ"
[الحديث 6888- طرفه في: 6902]
6889- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ "أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَدَّدَ إِلَيْهِ مِشْقَصًا" فَقُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ قَالَ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
قوله: "باب من أخذ حقه" أي من جهة غريمه بغير حكم حاكم "أو اقتص" أي إذا وجب له على أحد قصاص في نفس أو طرف هل يشترط أن يرفع أمره إلى الحاكم أو يجوز أن يستوفيه دون الحاكم وهو المراد بالسلطان في الترجمة. قال ابن بطال: اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من حقه دون السلطان، قال: وإنما اختلفوا فيمن أقام الحد على عبده كما تقدم تفصيله. قال: وأما أخذ الحق فإنه يجوز عندهم أن يأخذ حقه من المال خاصة إذا جحده إياه ولا بينة عليه كما سيأتي تقريره قريبا. ثم أجاب عن حديث الباب بأنه خرج على التغليظ والزجر عن الاطلاع على عورات الناس انتهى. قلت: فأما من نقل الاتفاق فكأنه استند فيه إلى ما أخرجه إسماعيل القاضي في " نسخة أبي الزناد " عن الفقهاء الذين ينتهي إلى قولهم ومنه: لا ينبغي لأحد أن يقيم شيئا من الحدود دون السلطان، إلا أن للرجل أن يقيم حد الزنا على عبده، وهذا إنما هو اتفاق أهل المدينة في زمن أبي الزناد. وأما الجواب فإن أراد أنه لا يعمل بظاهر الخبر فهو محل النزاع. قوله: "أنه سمع أبا هريرة يقول إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" كذا لأبي ذر وسقط "يوم القيامة" للباقين. قوله: "وبإسناده لو اطلع إلخ" هو المراد في هذه الترجمة، والأول ذكره لكونه أول حديث في نسخة شعيب عن أبي الزناد، ومن ثم لم يسق الحديث بتمامه هنا بل اقتصر على أوله إشارة إلى ذلك، وساقه بتمامه في كتاب الجمعة، ولم يطرد للبخاري صنيع في ذلك واطرد صنيع مسلم في " نسخة همام " بأن يسوق السند ثم يقول فذكر أحاديث منها ثم يذكر الحديث الذي يريده وقد أشرت إلى ذلك في كتاب الرقاق، وجوز الكرماني أن الراوي سمع الحديثين في نسق واحد فجمعهما فاستمر من بعده على ذلك. قلت: وهذا يحتاج إلى تكملة، وهو أن البخاري اختصر الأول لأنه لا يحتاج إليه هنا. قوله: "لو اطلع" الفاعل مؤخر وهو "أحد". قوله: "ولم تأذن له" احتراز ممن اطلع بإذن. قوله: "حذفته بحصاة" كذا هنا بغير فاء، وأخرجه الطبراني عن أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه بلفظ: "فحذفته " وهو الأولى والأول جائز، وسيأتي بعد سبعة أبواب من رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد بلفظ: "لو أن امرءا اطلع عليك بغير إذن فحذفته " وقوله حذفته بالحاء المهملة عند أبي ذر والقابسي وعند غيرهما بالخاء المعجمة وهو أوجه لأن الرمي بحصاة أو نواة ونحوهما إما بين الإبهام والسبابة وإما بين السبابتين وجزم النووي بأنه في مسلم بالمعجمة، وسيأتي في رواية سفيان المشار إليها بالمهملة، وقال القرطبي: الرواية بالمهملة خطأ لأن في نفس الخبر أنه الرمي بالحصى وهو بالمعجمة جزما. قلت: ولا مانع من استعمال المهملة في ذلك مجازا. قوله: "ففقأت عينه" بقاف ثم همزة ساكنة أي شققت عينه، قال ابن القطاع: فقأ عينه أطفأ ضوءها.

(12/216)


قوله: "جناح" أي إثم أو مؤاخذة. قوله: "يحيى" هو القطان وحميد هو الطويل. قوله: "إن رجلا" هذا ظاهره الإرسال لأن حميدا لم يدرك القصة، لكن بين في آخر الحديث أنه موصول. وسيأتي بعد سبعة أبواب من وجه آخر عن أنس ويذكر فيه ما قيل في تسمية الرجل المذكور. قوله: "فسدد إليه" بدالين مهملتين الأولى ثقيلة قبلها سين مهملة أي صوب وزنه ومعناه، والتصويب توجيه السهم إلى مرماه وكذلك التسديد ومنه البيت المشهور:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
وقد حكي فيه الإعجام ويترجح كونه بالمهملة بإسناده إلى التعليم لأنه الذي في قدرة المعلم بخلاف الشدة بمعنى القوة فإنه لا قدرة للمعلم عل اجتلابها، ووقع في رواية أبي ذر عن السرخسي وفي رواية كريمة عن الكشميهني بالشين المعجمة والأول أولى فقد أخرجه أحمد عن محمد بن أبي عدي عن حميد بلفظ: "فأهوى إليه " أي أمال إليه. قوله: "مشقصا" تقدم ضبطه وتفسيره في كتاب الاستئذان في الكلام على رواية عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس وسياقه أتم، ووقع هنا في رواية حميد مختصرا أيضا، وقد أخرجه أحمد عن يحيى القطان شيخ شيخ البخاري فيه فزاد في آخره حتى أخر رأسه بتشديد الخاء المعجمة أي أخرجها من المكان الذي اطلع فيه وفاعل أخر هو الرجل، ويحتمل أن يكون المشقص وأسند الفعل إليه مجازا، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لكونه السبب في ذلك والأول أظهر، فقد أخرجه أحمد أيضا عن سهل بن يوسف عن حميد بلفظ: "فأخرج الرجل رأسه " وعنده في رواية ابن أبي عدي التي أشرت إليها: فتأخر الرجل. قوله: "فقلت من حدثك" القائل هو يحيى القطان والمقول له هو حميد وجوابه بقوله أنس بن مالك يقتضي أنه سمعه منه بغير واسطة، وهذا من المتون التي سمعها حميد من أنس وقد قيل إنه لم يسمع منه سوى خمسة أحاديث والبقية سمعها من أصحابه عنه كثابت وقتادة فكان يدلسها فيرويها عن أنس بلا واسطة، والحق أنه سمع منه أضعاف ذلك، وقد أكثر البخاري من تخريج حديث حميد عن أنس، بخلاف مسلم فلم يخرج منها إلا القليل لهذه العلة، لكن البخاري لا يخرج من حديثه إلا ما صرح فيه بالتحديث أو ما قام مقام التصريح ولو باللزوم كما لو كان من رواية شعبة عنه فإن شعبة لا يحمل عن شيوخه إلا ما عرف أنهم سمعوه من شيوخهم، وقد أوضحت ذلك في ترجمة حميد في مقدمة هذا الشرح ولله الحمد.

(12/217)


16- باب: إِذَا مَاتَ فِي الزِّحَامِ أَوْ قُتِلَ
6890- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ هِشَامٌ أَخْبَرَنَا عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ، فَصَاحَ إِبْلِيسُ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، أُخْرَاكُمْ. فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ الْيَمَانِ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، أَبِي أَبِي. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، قَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَمَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ"
قوله: "باب إذا مات في الزحام أو قتل به" كذا لابن بطال وسقط "به" من رواية الأكثر، أورد البخاري الترجمة مورد الاستفهام ولم يجزم بالحكم كما جزم به في الذي بعده لوجود الاختلاف في هذا الحكم وذكر فيه

(12/217)


حديث عائشة في قصة قتل اليمان والد حذيفة وقد تقدم الكلام عليه قريبا. قال ابن بطال: اختلف علي وعمر هل تجب ديته في بيت المال أو لا؟ وبه قال إسحاق أي بالوجوب، وتوجيهه أنه مسلم مات بفعل قوم من المسلمين فوجبت ديته في بيت مال المسلمين. قلت: ولعل حجته ما ورد في بعض طرق قصة حذيفة، وهو ما أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة أن والد حذيفة قتل يوم أحد قتله بعض المسلمين وهو يظن أنه من المشركين فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات مع إرساله، وقد تقدم له شاهد مرسل أيضا في " باب العفو عن الخطأ " وروى مسدد في مسنده من طريق يزيد بن مذكور أن رجلا زحم يوم الجمعة فمات فوداه علي من بيت المال، وفي المسألة مذاهب أخرى منها قول الحسن البصري إن ديته تجب على جميع من حضر وهو أخص من الذي قبله، وتوجهه أنه مات بفعلهم فلا يتعداهم إلى غيرهم. ومنها قول الشافعي ومن تبعه أنه يقال لوليه ادع على من شئت واحلف فإن حلفت استحقيت الدية وإن نكلت حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة، وتوجيهه أن الدم لا يجب إلا بالطلب. ومنها قول مالك دمه هدر، وتوجهه أنه إذا لم يعلم قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد، وقد تقدمت الإشارة إلى الراجح من هذه المذاهب في "باب العفو عن الخطأ". قوله: "قال هشام أخبرنا" من تقديم اسم الراوي على الصيغة وهو جائز، وهشام المذكور هو ابن عروة ابن الزبير. قوله: "فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان" تقدم شرح قصته في غزوة أحد، وقوله: "قال عروة " هو موصول بالسند المذكور، وقوله: "فما زالت في حذيفة منه " أي من ذلك الفعل وهو العفو، و "من" سببية وتقدم القول فيه أيضا.

(12/218)


باب إذا قتل نفسه فلا دية له
...
17- بَاب: إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً فَلاَ دِيَةَ لَهُ
6891- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ "عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَسْمِعْنَا يَا عَامِرُ مِنْ هُنَيْهَاتِكَ، فَحَدَا بِهِمْ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ السَّائِقُ؟ قَالُوا: عَامِرٌ فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلاَ أَمْتَعْتَنَا بِهِ؟ فَأُصِيبَ صَبِيحَةَ لَيْلَتِهِ. فَقَالَ الْقَوْمُ: حَبِطَ عَمَلُهُ، قَتَلَ نَفْسَهُ. فَلَمَّا رَجَعْتُ - وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ - فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَهَا، إِنَّ لَهُ لاَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ، وَأَيُّ قَتْلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ"
قوله "إذا قتل نفسه خطأ فلا دية له" قال الإسماعيلي قلت ولا إذا قتلها عمدا، يعني أنه لا مفهوم لقوله خطا والذي يظهر أن البخاري انما قيد بالخطأ لأنه محل الخلاف، قال بن بطال قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق: تجب ديته على عاقلته، فان عاش فهي له عليهم وإن مات فهي لورثته. وقال الجمهور لا يجب في ذلك شيء، وقصة عامر هذه حجة لهم إذ لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في هذه القصة له شيئا، ولو وجب لبينها إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد أجمعوا على أنه لو قطع طرفا من أطرافه عمدا أو خطأ لا يجب فيه شيئ. قوله: "عن سلمة" هو ابن الأكوع. قوله: "من هنياتك" بضم أوله وتشديد التحتانية بعد النون، ووقع في رواية المستملي بحذف التحتانية وقد تقدم ضبطه في كتاب المغازي، وعامر هو ابن الأكوع فهو أخو سلمة وقيل عمه، قال ابن بطال:

(12/218)


لم يذكر في هذه الطريق صفة قتل عامر نفسه، وقد تقدم بيانه في كتاب الأدب ففيه: "وكان سيف عامر قصيرا فتناول به يهوديا ليضربه فرجع ذبابه فأصاب ركبته " قلت: ونقل بعض الشراح عن الإسماعيلي أنه قال ليس في رواية مكي شيخ البخاري أنه ارتد عليه سيفه فقتله، والباب مترجم بمن قتل نفسه، وظن أن الإسماعيلي تعقب ذلك على البخاري وليس كما ظن وإنما ساق الحديث بلفظ: "فارتد عليه سيفه" ثم نبه على أن هذه اللفظة لم تقع في رواية البخاري هنا فأشار إلى أنه عدل هنا عن رواية مكي بن إبراهيم لهذه النكتة فيكون أولى لوضوحه، ويجاب بأن البخاري يعتمد هذه الطريق كثيرا فيترجم بالحكم ويكون قد أورد ما يدل عليه صريحا في مكان آخر فلا يجب أن يعيده فيورده من طريق أخرى ليس فيها دلالة أصلا أو فيها دلالة خفية كل ذلك للفرار من التكرار لغير فائدة وليبعث الناظر فيه على تتبع الطرق والاستكثار منها ليتمكن من الاستنباط ومن الجزم بأحد المحتملين مثلا، وقد عرف ذلك بالاستقراء من صنيع البخاري فلا معنى للاعتراض به عليه، وقد ذكرت ذلك مرارا، وإنما أنبه على ذلك إذا بعد العهد به، وقد تقدم في الدعوات من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد شيخ مكي بلفظ فيه: "فلما تصاف القوم أصيب عامر بقائمة سيفه فمات " وقد اعترض عليه الكرماني فقال: قوله في الترجمة " فلا دية له " لا وجه له هنا، وإنما موضعه اللائق به الترجمة السابقة إذا مات في الزحام فلا دية له على المزاحمين لظهور أن قاتل نفسه لا دية له، قال: ولعله من تصرف النقلة بالتقديم والتأخير عن نسخة الأصل. ثم قال: وقال الظاهرية دية من قتل نفسه على عاقلته، فلعل البخاري أراد رد هذا القول. قلت: نعم أراد البخاري رد هذا القول لكن على قائله قبل الظاهرية وهو الأوزاعي كما قدمته، وما أظن مذهب الظاهرية اشتهر عند تصنيف البخاري كتابه فإنه صنف كتابه في حدود العشرين ومائتين وكان داود بن علي الأصبهاني رأسهم في ذلك الوقت طالبا وكان سنه يومئذ دون العشرين وأما قول الكرماني بأن قول البخاري " فلا دية له " يليق بترجمة من مات في الزحام فهو صحيح لكنه في ترجمة من قتل نفسه أليق لأن الخلاف فيمن مات في الزحام قوي فمن ثم لم يجزم في الترجمة بنفي الدية، بخلاف من قتل نفسه فإن الخلاف فيه ضعيف فجزم فيه بالنفي، وهو من محاسن تصرف البخاري، فظهر أن النقلة لم يخالفوا تصرفه وبالله التوفيق. قوله: "وأي قتل يزيده عليه" في رواية المستملي وكذا في رواية النسفي "وأي قتيل" وصوبها ابن بطال وكذا عياض، وليست الرواية الأخرى خطأ محضا بل يمكن ردها إلى معنى الأخرى والله أعلم.

(12/219)


18- باب: إِذَا عَضَّ رَجُلًا فَوَقَعَتْ ثَنَايَاهُ
6892- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَمِعْتُ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى "عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" فَقَالَ: "يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لاَ دِيَةَ لَه"
6893- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى "عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "خَرَجْتُ فِي غَزْوَةٍ، فَعَضَّ رَجُلٌ فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَبْطَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب: إذا عض يد رجل فوقعت ثناياه" أي هل يلزمه فيه شيء أو لا؟ ذكر فيه حديثين: الأول،

(12/219)


قوله: "عن زرارة" بضم الزاي المعجمة ثم مهملتين الأولى خفيفة بينهما ألف بغير همز وهو العامري، ووقع عند الإسماعيلي في رواية علي بن الجعد عن شعبة " أخبرني قتادة أنه سمع زرارة". قوله: "أن رجلا عض يد رجل" في رواية محمد بن جعفر عن شعبة عند مسلم بهذا السند عن عمران قال: "قاتل يعلى بن أمية رجلا فعض أحدهما صاحبه " الحديث قال شعبة وعن قتادة عن عطاء هو ابن أبي رباح عن أبي يعلى يعني صفوان عن يعلى بن أمية قال مثله، وكذا أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة بهذا السند فقال في روايته بمثل الذي قبله يعني حديث عمران بن حصين. قلت: ولشعبة فيه سند آخر إلى يعلى أخرجه النسائي من طريق ابن أبي عدي وعبيد بن عقيل كلاهما عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن يعلى، ووقع في رواية عبيد بن عقيل " أن رجلا من بني تميم قاتل رجلا فعض يده " ويستفاد من هذه الرواية تعيين أحد الرجلين المبهمين وأنه يعلى بن أمية، وقد روى يعلى هذه القصة وهي الحديث الثاني في الباب فبين في بعض طرقه أن أحدهما كان أجيرا له، ولفظه في الجهاد " غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذكر الحديث وفيه: "فاستأجرت أجيرا فقاتل رجلا فعض أحدهما الآخر فعرف أن الرجلين المبهمين يعلى وأجيره وأن يعلى أبهم نفسه لكن عينه عمران بن حصين، ولم أقف على تسمية أجيره. وأما تمييز العاض من المعضوض فوقع بيانه في غزوة تبوك من المغازي من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج في حديث يعلى قال عطاء: فلقد أخبرني صفوان بن يعلى أيهما عض الآخر فنسيته فظن أنه مستمر على الإبهام، ولكن وقع عند مسلم والنسائي من طريق بديل بن ميسرة عن عطاء بلفظ: "إن أجيرا ليعلى عض رجل ذراعه " وأخرجه النسائي أيضا عن إسحاق بن إبراهيم عن سفيان بلفظ: "فقاتل أجيري رجلا فعضه الآخر " ويؤيده ما أخرجه النسائي من طريق سفيان بن عبد الله عن عميه سلمة بن أمية ويعلى بن أمية قالا " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ومعنا صاحب لنا فقاتلا رجلا من المسلمين فعض الرجل ذراعه " ويؤيده أيضا رواية عبيد بن عقيل التي ذكرتها من عند النسائي بلفظ: "أن رجلا من بني تميم عض " فإن يعلى تميمي وأما أجيره فإنه لم يقع التصريح بأنه تميمي، وأخرج النسائي أيضا من رواية محمد بن مسلم الزهري عن صفوان بن يعلى عن أبيه نحو رواية سلمة ولفظه: "فقاتل رجلا فعض الرجل ذراعه فأوجعه " وعرف بهذا أن العاض هو يعلى بن أمية، ولعل هذا هو السر في إبهامه نفسه. وقد أنكر القرطبي أن يكون يعلى هو العاض فقال: يظهر من هذه الرواية أن يعلى هو الذي قاتل الأجير، وفي الرواية الأخرى "أن أجيرا ليعلى عض يد رجل" وهذا هو الأولى والأليق إذ لا يليق ذلك الفعل بيعلى مع جلالته وفضله. قلت: لم يقع في شيء من الطرق أن الأجير هو العاض وإنما التبس عليه أن في بعض طرقه عند مسلم كما بينته " أن أجيرا ليعلى عض رجل ذراعه " فجوز أن يكون العاض غير يعلى، وأما استبعاده أن يقع ذلك من يعلى مع جلالته فلا معنى له مع ثبوت التصريح به في الخبر الصحيح، فيحتمل أن يكون ذلك صدر منه في أوائل إسلامه فلا استبعاد. وقال النووي: وأما قوله يعني في الرواية الأولى "أن يعلى هو المعضوض" وفي الرواية الثانية والثالثة المعضوض هو أجير يعلى لا يعلى فقال الحفاظ الصحيح المعروف أن المعضوض أجير يعلى لا يعلى. قال: ويحتمل أنهما قضيتان جرتا ليعلى ولأجيره في وقت أو وقتين، وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأنه ليس في رواية مسلم ولا رواية غيره في الكتب الستة ولا غيرها أن يعلى هو المعضوض لا صريحا ولا إشارة، وقال شيخنا: فيتعين على هذا أن يعلى هو العاض والله أعلم. قلت وإنما تردد

(12/220)


عياض وغيره في العاض هل هو يعلى أو آخر أجنبي كما قدمته من كلام القرطبي والله أعلم. قوله: "فنزع يده من فيه" وكذا في حديث يعلى الماضي في الجهاد في رواية الكشميهني: "من فمه" وفي رواية هشام عن عروة عند مسلم: "عض ذراع رجل فجذبه " وفي حديث يعلى الماضي في الإجارة " فعض إصبع صاحبه فانتزع إصبعه " وفي الجمع بين الذراع والأصبع عسر، ويبعد الحمل على تعدد القصة لاتحاد المخرج لأن مدارها على عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه، فوقع في رواية إسماعيل بن علية عن ابن جريج عنه " إصبعه " وهذه في البخاري ولم يسق مسلم لفظها. وفي رواية بن ميسرة عن عطاء عند مسلم وكذا في رواية الزهري عن صفوان عند النسائي: "ذراعه" ووافقه سفيان بن عيينة من ابن جريج في رواية إسحاق بن راهويه عنه، فالذي يترجح الذراع، وقد وقع أيضا في حديث سلمة بن أمية عند النسائي مثل ذلك، وانفراد ابن علية عن ابن جريج بلفظ الأصبع لا يقاوم هذه الروايات المتعاضدة على الذراع والله أعلم. قوله: "فوقعت ثنيتاه" كذا للأكثر بالتثنية وللكشميهني: "ثناياه" بصيغة الجمع. وفي رواية هشام المذكورة "فسقطت ثنيته" بالإفراد وكذا له في رواية ابن سيرين عن عمران، وكذا في رواية سلمة بن أمية بلفظ: "فجذب صاحبه يده فطرح ثنيته" وقد تترجح رواية التثنية لأنه يمكن حمل الرواية التي بصيغة الجمع عليها على رأي من يجيز في الاثنين صيغة الجمع ورد الرواية التي بالإفراد إليها على إرادة الجنس، لكن وقع في رواية محمد بن بكر " فانتزع إحدى ثنيتيه " فهذه أصرح في الوحدة، وقول من يقول في هذا بالحمل على التعدد بعيد أيضا لاتحاد المخرج، ووقع في رواية الإسماعيلي: "فندرت ثنيته". قوله: "فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم" كذا في هذا الموضوع والمراد يعلى وأجيره ومن انضم إليهما ممن يلوذ بهما أو بأحدهما، وفي رواية هشام فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية ابن سيرين "فاستعدى عليه" وفي حديث يعلى "فانطلق" هذه رواية ابن علية وفي رواية سفيان " فأتى " وفي رواية محمد بن بكر عن ابن جريج في المغازي " فأتيا". قوله: "فقال يعض" بفتح أوله والعين المهملة بعدها ضاد معجمة ثقيلة وفي رواية مسلم: "يعمد أحدكم إلى أخيه فيعضه " وأصل عض عضض بكسر الأولى يعضض بفتحها فأدغمت. قوله: "كما يعض الفحل" وفي حدث سلمة " كعضاض الفحل " أي الذكر من الإبل ويطلق على غيره من ذكور الدواب ووقع في الرواية التي في الجهاد وكذا في حديث هشام " ويقضمها " بسكون القاف وفتح الضاد المعجمة على الأفصح "كما يقضم الفحل" من القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان والخضم بالخاء المعجمة بدل القاف الأكل بأقصاها وبأدنى الأضراس ويطلق على الدق والكسر ولا يكون إلا في الشيء الصلب حكاه صاحب الراعي في اللغة. قوله: "لا دية له" في رواية الكشميهني: "لا دية لك " ووقع في رواية هشام " فأبطله وقال أردت أن تأكل لحمه " وفي حديث سلمة " ثم تأتي تلتمس العقل لا عقل لها فأبطلها " وفي رواية ابن سيرين " فقال ما تأمرني؟ أتأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل ادفع يدك حتى يقضمها ثم انزعها " كذا لمسلم وعند أبي نعيم في المستخرج من الوجه الذي أخرجه مسلم: "إن شئت أمرناه فعض يدك ثم انتزعها أنت " وفي حديث يعلى بن أمية " فأهدرها " وفي هذا الباب: "فأبطلها" وهي رواية الإسماعيلي. الحديث الثاني قوله: "حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج" كذا وقع هنا بعلو درجة، وتقدم له في الإجارة والجهاد والمغازي من طريق ابن جريج بنزول لكن سياقه فيها أتم مما هنا. قوله: "عن عطاء" هو ابن أبي رباح "عن صفوان بن يعلى" وفي رواية ابن علية في الإجارة " أخبرني عطاء " وفي رواية محمد بن أبي بكر في المغازي " سمعت عطاء أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية " وكذا المسلم من طريق أبي

(12/221)


أسامة عن ابن جريج. قوله: "عن أبيه" في رواية ابن علية " عن يعلى بن أمية " وفي رواية حجاج بن محمد عند أبي نعيم في المستخرج " أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية أنه سمع يعلى " وأخرجه مسلم من طريق شعبة عن قتادة عن عطاء عن ابن يعلى عن أبيه، ومن طريق همام عن عطاء كذلك وهي عند البخاري في الحج مختصرة مضمومة إلى حديث الذي سأل عن العمرة، ومن طريق هشام الدستوائي عن قتادة وفيها مخالفة لرواية شعبة من وجهين أحدهما أنه أدخل بين قتادة وعطاء بديل بن ميسرة والآخر أنه أرسله، ولفظه عن صفوان بن يعلى " أن أجيرا ليعلى بن أمية عض رجل ذراعه " وقد اعترض الدار قطني على مسلم في تخريجه هذه الطريق وتخريجه طريق محمد بن سيرين عن عمران وهو لم يسمع منه، وأجاب النووي بما حاصله: أن المتابعات يغتفر فيها ما لا يغتفر في الأصول، وهو كما قال، ومنية التي نسب إليها يعلى هنا هي أمه وقيل جدته والأول المعتمد، وأبوه كما تقدم في الروايات أمية بن أبي عبيد بن همام بن الحارث التميمي الحنظلي، أسلم يوم الفتح وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ما بعدها كحنين والطائف وتبوك ومنية أمه بضم الميم وسكون النون بعدها تحتانية هي بنت جابر عمة عتبة بن غزوان وقيل أخته، وذكر عياض أن بعض رواة مسلم صحفها وقال منبه بفتح النون وتشديد الموحدة وهو تصحيف، وأغرب ابن وضاح فقال منبه بسكون النون أمه وبفتحها ثم موحدة أبوه ولم يوافقه أحد على ذلك. قوله: "خرجت في غزوة" في رواية الكشميهني: "في غزاة" وثبت في رواية سفيان أنها غزوة تبوك، ومثله في رواية ابن علية بلفظ: "جيش العسرة " وبه جزم غير واحد من الشراح، وتعقبه بعض من لقيناه بأن في " باب من أحرم جاهلا وعليه قميص " من كتاب الحج في البخاري من حديث يعلى " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل عليه جبة بها أثر صفرة " فذكر الحديث وفيه: "فقال اصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك . وعض رجل يد رجل فانتزع ثنيته فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم: "فهذا يقتضي أن يكون ذلك في سفر كان فيه الإحرام بالعمرة. قلت: وليس ذلك صريحا في هذا الحديث، بل هو محمول على أن الراوي سمع الحديثين فأوردهما معا عاطفا لأحدهما على الآخر بالواو التي لا تقتضي الترتيب، وعجيب ممن يتكلم عن الحديث فيرد ما فيه صريحا بالأمر المحتمل، وما سبب ذلك إلا إيثار الراحة بترك تتبع طرق الحديث فإنها طريق توصل إلى الوقوف على المراد غالبا. قوله: "فعض رجل فانتزع ثنيته" كذا وقع عنده هنا بهذا الاختصار المجحف، وقد بينه الإسماعيلي من طريق يحيى القطان عن ابن جريج ولفظه: "قاتل رجل آخر فعض يده فانتزع يده فانتدرت ثنيته " وقد بينت اختلاف طرقه في الذي قبله، وقد أخذ بظاهر هذه القصة الجمهور فقالوا لا يلزم المعضوض قصاص ولا دية لأنه في حكم الصائل، واحتجوا أيضا بالإجماع بأن من شهر على آخر سلاحا ليقتله فدفع عن نفسه فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه، فكذا لا يضمن سنه بدفعه إياه عنها، قالوا ولو جرحه المعضوض في موضع آخر لم يلزمه شيء، وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض وأن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك من ضرب في شدقيه أو فك لحيته ليرسلها، ومهما أمكن التخليص بدون ذلك فعدل عنه إلى الأثقل لم يهدر وعند الشافعية وجه أنه يهدر على الإطلاق، ووجه أنه لو دفعه في ذلك ضمن، وعن مالك روايتان أشهرهما يجب الضمان، وأجابوا عن هذا الحديث باحتمال أن يكون سبب الإنذار شدة العض لا النزع فيكون سقوط ثنية العاض بفعله لا بفعل المعضوض، إذ لو كان من فعل صاحب اليد لأمكنه أن يخلص يده من غير قلع، ولا يجوز الدفع بالأثقل مع إمكان الأخف. وقال بعض المالكية: العاض قصد العضو نفسه والذي

(12/222)


استحق في إتلاف ذلك العضو غير ما فعل به فوجب أن يكون كل منهما ضامنا ما جناه على الآخر، كمن قلع عين رجل فقطع الآخر يده. وتعقب بأنه قياس في مقابل النص فهو فاسد. وقال بعضهم: لعل أسنانه كانت تتحرك فسقطت عقب النزع، وسياق هذا الحديث يدفع هذا الاحتمال، وتمسك بعضهم بأنها واقعة عين ولا عموم لها، وتعقب بأن البخاري أخرج في الإجارة عقب حديث يعلى هذا من طريق أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه وقع عنده مثل ما وقع عند النبي صلى الله عليه وسلم وقضى فيه بمثله، وما تقدم من التقييد ليس في الحديث وإنما أخذ من القواعد الكلية، وكذا إلحاق عضو آخر غير الفم به فإن النص إنما ورد في صورة مخصوصة، نبه على ذلك ابن دقيق العيد. وقد قال يحيى بن عمر: لو بلغ مالكا هذا الحديث لما خالفه، وكذا قال ابن بطال: لم يقع هذا الحديث لمالك وإلا لما خالفه، وقال الداودي: لم يروه مالك لأنه من رواية أهل العراق. وقال أبو عبد الملك كأنه لم يصح الحديث عنده لأنه أتى من قبل المشرق. قلت: وهو مسلم في حديث عمران، وأما طريق يعلى ابن أمية فرواها أهل الحجاز وحملها عنهم أهل العراق، واعتذر بعض المالكية بفساد الزمان، ونقل القرطبي عن بعض أصحابهم إسقاط الضمان قال وضمنه الشافعي وهو مشهور مذهب مالك، وتعقب بأن المعروف عن الشافعي أنه لا ضمان، وكأنه انعكس على القرطبي. "تنبيه": لم يتكلم النووي على ما وقع في رواية ابن سيرين عن عمران، فإن مقتضاها إجراء القصاص في العضة، وسيأتي البحث فيه مع القصاص في اللطمة بعد بابين. وقد يقال إن العض هنا إنما أذن فيه للتوصل إلى القصاص في قلع السن، لكن الجواب السديد في هذا أنه استفهمه استفهام إنكار لا تقرير شرع، هذا الذي يظهر لي والله أعلم. وفي هذه القصة من الفوائد التحذير من الغضب، وأن من وقع له ينبغي له أن يكظمه ما استطاع لأنه أدى إلى سقوط ثنية الغضبان، لأن يعلى غضب من أجيره فضربه فدفع الأجير عن نفسه فعضه يعلى فنزع يده فسقطت ثنية العاض، ولولا الاسترسال مع الغضب لسلم من ذلك. وفيه استئجار الحر للخدمة وكفاية مؤنة العمل في الغزو لا ليقاتل عنه كما تقدم تقريره في الجهاد. وفيه رفع الجناية إلى الحاكم من أجل الفصل، وأن المرء لا يقتص لنفسه، وأن المتعدي بالجناية يسقط ما ثبت له قبلها من جناية إذا ترتبت الثانية على الأولى. وفيه جواز تشبيه فعل الآدمي بفعل البهيمة إذا وقع في مقام التنفير عن مثل ذلك الفعل، وقد حكى الكرماني أنه رأى من صحف قوله: "كما يقضم الفجل " بالجيم بدل الحاء المهملة وحمله على البقل المعروف، وهو تصحيف قبيح. وفيه دفع الصائل وأنه إذا لم يمكن الخلاص منه إلا بجناية على نفسه أو على بعض أعضائه ففعل به ذلك كان هدرا، وللعلماء في ذلك اختلاف وتفصيل معروف. وفيه أن من وقع له أمر يأنفه أو يحتشم من نسبته إليه إذا حكاه كنى عن نفسه بأن يقول فعل رجل أو إنسان أو نحو ذلك كذا وكذا كما وقع ليعلى في هذه القصة، وكما وقع لعائشة حيث قالت: "قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، فقال لها عروة: هل هي إلا أنت؟ فتبسمت".

(12/223)


19- باب: السِّنَّ بِالسِّنِّ
6894- حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ ابْنَةَ النَّضْرِ لَطَمَتْ جَارِيَةً فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ"

(12/223)


قوله: "باب السن بالسن" قال ابن بطال: أجمعوا على قلع السن بالسن في العمد، واختلفوا في سائر عظام الجسد فقال مالك فيها القود إلا ما كان مجوفا أو كان كالمأمومة والمنقلة والهاشمة ففيها الدية واحتج بالآية، ووجه الدلالة منها أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد على لسان نبينا بغير إنكار، وقد دل قوله: "السن بالسن " على إجراء القصاص في العظم لأن السن عظم إلا ما أجمعوا على أن لا قصاص فيه إما لخوف ذهاب النفس وإما لعدم الاقتدار على المماثلة فيه. وقال الشافعي والليث والحنفية: لا قصاص في العظم غير السن لأن دون العظم حائلا من جلد ولحم وعصب يتعذر معه المماثلة، فلو أمكنت لحكمنا بالقصاص، ولكنه لا يصل إلى العظم حتى ينال ما دونه مما لا يعرف قدره. وقال الطحاوي اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس فليلتحق بها سائر العظام، وتعقب بأنه قياس مع وجود النص فإن في حديث الباب أنها كسرت الثنية فأمرت بالقصاص مع أن الكسر لا تطرد فيه المماثلة. قوله: "حدثنا الأنصاري" هو محمد بن عبد الله وسماه البخاري في روايته عنه هذا الحديث في تفسير سورة البقرة. قوله: "عن حميد عن أنس" في رواية التفسير " حدثنا حميد أن أنسا حدثه". قوله: "أن ابنة النضر" تقدم في التفسير بهذا السند عن أنس أن الربيع بضم أوله والتشديد عمته، وفي تفسير المائدة من رواية الفزاري عن حميد عن أنس " كسرت الربيع عمة أنس " ولأبي داود من طريق معتمر عن حميد عن أنس " كسرت الربيع أخت أنس بن النضر". قوله: "لطمت جارية فكسرت ثنيتها" وفي رواية الفزاري " جارية من الأنصار " وفي رواية معتمر " امرأة " بدل جارية، وهو يوضح أن المراد بالجارية المرأة الشابة لا الأمة الرقيقة. قوله: "فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم" زاد في الصلح ومثله لابن ماجه والنسائي من وجه آخر عن أنس " فطلبوا إليهم العفو فأبوا، فعرضوا عليهم الأرش فأبوا " أي طالب أهل الربيع إلى أهل التي كسرت ثنيتها أن يعفوا عن الكسر المذكور مجانا أو على مال فامتنعوا، زاد في الصلح " فأبوا إلا القصاص " وفي رواية الفزاري " فطلب القوم القصاص فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "فأمر بالقصاص" زاد في الصلح " فقال أنس بن النضر " إلى آخر ما حكيته قريبا في " باب القصاص بين الرجال والنساء " وقوله فيه: "فرضي القوم وعفوا " وقع في رواية الفزاري " فرضي القوم فقبلوا الأرش " وفي رواية معتمر " فرضوا بأرش أخذوه " وفي رواية مروان بن معاوية عن حميد عند الإسماعيلي: "فرضي أهل المرأة بأرش أخذوه فعفوا " فعرف أن قوله: "فعفوا " أي على الدية، زاد معتمر " فعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " أي لأبر قسمه. ووقع في رواية خالد الطحان عن حميد عن أنس في هذا الحديث عند ابن أبي عاصم " كم من رجل لو أقسم على الله لأبره " ووجه تعجبه أن أنس بن النضر أقسم على نفي فعل غيره مع إصرار ذلك الغير على إيقاع ذلك الفعل فكان قضية ذلك في العادة أن يحنث في يمينه، فألهم الله الغير العفو فبر قسم أنس، وأشار بقوله: "إن من عباد الله " إلى أن هذا الاتفاق إنما وقع إكراما من الله لأنس ليبر يمينه، وأنه من جملة عباد الله الذين يجيب دعاءهم ويعطيهم أربهم. واختلف في ضبط قوله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" فالمشهور أنهما مرفوعان على أنهما مبتدأ وخبر، وقيل منصوبان على أنه مما وضع فيه المصدر موضع الفعل أي كتب الله القصاص، أو على الإغراء والقصاص بدل منه فينصب، أو ينصب بفعل محذوف، ويجوز رفعه بأن يكون خبر مبتدأ محذوف. واختلف أيضا في المعنى فقيل: المراد حكم كتاب الله القصاص فهو على تقدير حذف مضاف، وقيل المراد بالكتاب الحكم أي حكم الله القصاص، وقيل أشار إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ

(12/224)


قِصَاصٌ ، فَعَاقِبُوا} وقيل إلى قوله: {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقيل إلى قوله: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يرفعه. وقد استشكل إنكار أنس بن النضر كسر سن الربيع مع سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالقصاص ثم قال: "أتكسر سن الربيع "؟ ثم أقسم أنها لا تكسر، وأجيب بأنه أشار بذلك إلى التأكيد على النبي صلى الله عليه وسلم في طلب الشفاعة إليهم أن يعفوا عنهما، وقيل كان حلفه قبل أن يعلم أن القصاص حتم فظن أنه على التخيير بينه وبين الدية أو العفو، وقيل لم يرد الإنكار المحض والرد بل قاله توقعا ورجاء من فضل الله أن يلهم الخصوم الرضا حتى يعفوا أو يقبلوا الأرش، وبهذا جزم الطيبي فقال: لم يقله ردا للحكم بل نفى وقوعه لما كان له عند الله من اللطف به في أموره والثقة بفضله أن لا يخيبه فيما حلف به ولا يخيب ظنه فيما أراده بأن يلهمهم العفو، وقد وقع الأمر على ما أراد. وفيه جواز الحلف فيما يظن وقوعه والثناء على من وقع له ذلك عند أمن الفتنة بذلك عليه، واستحباب العفو عن القصاص، والشفاعة في العفو، وأن الخيرة في القصاص أو الدية للمستحق على المستحق عليه، وإثبات القصاص بين النساء في الجراحات وفي الأسنان. وفيه الصلح على الدية، وجريان القصاص في كسر السن، ومحله فيما إذا أمكن التماثل بأن لكون المكسور مضبوطا فيبرد من سن الجاني ما يقابله بالمبرد مثلا، قال أبو داود في السنن: قلت للأحمد كيف؟ فقال: يبرد. ومنهم من حمل الكسر في هذا الحديث على القلع وهو بعيد من هذا السياق.

(12/225)


20- باب: دِيَةِ الأَصَابِعِ
6895- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ، يَعْنِي الْخِنْصَرَ وَالإِبْهَامَ"
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ"
قوله: "باب دية الأصابع" أي هل مستوية أو مختلفة؟ قوله: "عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه وهذه سواء يعني الخنصر والإبهام" في رواية النسائي من طريق يزيد بن زريع عن شعبة " الإبهام والخنصر " وحذف لفظة " يعني " وزاد في رواية عنه " عشر عشر " ولعلي بن الجعد عن شعبة عن الإسماعيلي: "وأشار إلى الخنصر والإبهام " وللإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن شعبة " ديتهما سواء " ولأبي داود من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة " الأصابع والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء " ولأبي داود والترمذي من طريق يزيد النحوي عن عكرمة بلفظ: "الأسنان و الأصابع سواء " وفي لفظ: "أصابع اليدين والرجلين سواء " وأخرج ابن أبي عاصم من رواية يحيى القطان عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال بعثه مروان إلى ابن عباس يسأله عن الأصابع فقال: "قضى النبي صلى الله عليه وسلم في اليد خمسين وكل أصبع عشر " وكذا في كتاب عمرو بن حزم عند مالك " في الأصابع عشر عشر " وسأذكر سنده، ولابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "الأصابع سواء كلهن فيه عشر عشر من الإبل، وفرقه أبو داود حديثين وسنده جيد. قوله: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نحوه" نزل المصنف في هذا السند درجة من أجل وقوع

(12/225)


التصريح فيه بالسماع. وأما قوله: "نحوه" فقد أخرجه ابن ماجه والإسماعيلي من رواية ابن أبي عدي المذكورة بلفظ: "الأصابع سواء" وأخرجاه من رواية ابن أبي عدي أيضا لكن مقرونا به غندر والقطان بلفظ الرواية الأولى ولكن بتقديم الإبهام على الخنصر، قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم، وبه يقول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. قلت: وبه قال جميع فقهاء الأمصار، وكان فيه خلاف قديم فأخرج ابن أبي شيبة من رواية سعيد بن المسيب عن عمر " في الإبهام خمسة عشر وفي السبابة والوسطى عشر عشر وفي البنصر تسع وفي الخنصر ست " ومثله عن مجاهد، وفي " جامع الثوري " عن عمر نحوه وزاد: "قال سعيد بن المسيب: حتى وجد عمر في كتاب الديات لعمرو بن حزم في كل إصبع عشر فرجع إليه". قلت: وكتاب عمرو بن حزم أخرجه مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه " أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم في العقول أن في العشر مائة من الإبل " وفيه: "وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل " ووصله أبو داود في "المراسيل" والنسائي من وجه آخر عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده مطولا، وصححه ابن حبان، وأعله أبو داود والنسائي، وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه " في الإبهام والتي تليها نصف دية اليد، وفي كل واحدة عشر " وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد نحو أثر عمر إلا أنه قال: "في البنصر ثمان وفي الخنصر سبع" ومن طريق الشعبي " كنت عند شريح فجاءه رجل فسأله فقال: في كل إصبع عشر، فقال: سبحان الله هذه وهذه سواء الإبهام والخنصر، قال: ويحك أن السنة منعت القياس اتبع ولا تبتدع" وأخرجه ابن المنذر وسنده صحيح، وأخرج مالك في الموطأ " أن مروان بعث أبا غطفان المزني إلى ابن عباس: ماذا في الضرس؟ فقال: خمس من الإبل، قال: فردني إليه: أتجعل مقدم الفم مثل الأضراس؟ فقال: لو لم تعتبر ذلك إلا في الأصابع عقلها سواء" وهذا يقتضي أن لا خلاف عند ابن عباس ومروان في الأصابع وإلا لكان في القياس المذكور نظر. قال الخطابي: هذا أصل في كل جناية لا تضبط كميتها، فإذا فاق ضبطها من جهة المعنى اعتبرت من حيث الاسم فتتساوى ديتها وإن اختلف حالها ومنفعتها ومبلغ فعلها، فإن للإبهام من قوة ما ليس للخنصر ومع ذلك فديتهما سواء، ومثله في الجنين غرة سواء كان ذكرا أو أنثى، وهكذا القول في الواضح ديتها سواء ولو اختلف في المساحة، وكذلك الأسنان نفع بعضها أقوى من بعض وديتها سواء نظرا للاسم فقط. وما أخرجه مالك في الموطأ عن ربيعة " سألت سعيد بن المسيب كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر، قلت: ففي إصبعين؟ قال: عشرون، قلت: ففي ثلاث؟ قال: ثلاثون، قلت: ففي أربع؟ قال: عشرون. قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها، قال: يا ابن أخي هي السنة، فإنما قال ذلك لأن دية المرأة نصف دية الرجل لكنها عنده تساويه فيما كان قدر ثلث الدية فما دونه فإذا زاد على ذلك رجعت إلى حكم النصف.

(12/226)


21- باب: إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ مِنْ رَجُلٍ هَلْ يُعَاقِبُ أَوْ يَقْتَصُّ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ؟
وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ "فِي رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَهُ عَلِيٌّ ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ وَقَالاَ أَخْطَأْنَا فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمَا وَأُخِذَا بِدِيَةِ الأَوَّلِ وَقَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا"

(12/226)


6896- وَقَالَ لِي ابْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ غُلاَمًا قُتِلَ غِيلَةً، فَقَالَ عُمَرُ لَوْ اشْتَرَكَ فِيهَا أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ" وَقَالَ مُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ "إِنَّ أَرْبَعَةً قَتَلُوا صَبِيًّا فَقَالَ عُمَرُ.. مِثْلَهُ". وَأَقَادَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلِيٌّ وَسُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ مِنْ لَطْمَةٍ. وَأَقَادَ عُمَرُ مِنْ ضَرْبَةٍ بِالدِّرَّةِ. وَأَقَادَ عَلِيٌّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَسْوَاطٍ. وَاقْتَصَّ شُرَيْحٌ مِنْ سَوْطٍ وَخُمُوشٍ
6897- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ "قَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ، وَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا لاَ تَلُدُّونِي، قَالَ فَقُلْنَا كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ بِالدَّوَاءِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: "أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي"! قَالَ قُلْنَا كَرَاهِيَةٌ لِلدَّوَاءِ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ، إِلاَّ الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ"
قوله: "باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب؟" كذا للأكثر، وفي رواية: "يعاقبون" بصيغة الجمع، وفي أخرى بحذف النون وهي لغة ضعيفة. وقوله: "أو يقتص منهم كلهم " أي إذا قتل أو جرح جماعة شخصا واحدا هل يجب القصاص على الجميع أو يتعين واحدا ليقتص منه ويؤخذ من الباقين الدية، فالمراد بالمعاقبة هنا المكافأة، وكأن المصنف أشار إلى قول ابن سيرين فيمن قتله اثنان يقتل أحدهما ويؤخذ من الآخر الدية، فإن كانوا أكثر وزعت عليهم بقية الدية كما لم قتله عشرة فقتل واحد أخذ من التسعة تسع الدية، وعن الشعبي يقتل الولي من شاء منهما أو منهم إن كانوا أكثر من واحد ويعفو عمن بقي، وعن بعض السلف يسقط القود ويتعين الدية حكي عن ربيعة وأهل الظاهر، وقال ابن بطال: جاء عن معاوية وابن الزبير والزهري مثل قول ابن سيرين وحجة الجمهور أن النفس لا تتبعض فلا يكون زهوقها بفعل بعض دون بعض وكان كل منهم قاتلا، ومثله لو اشتركوا في رفع حجر على رجل فقتله كان كل واحد منهم رفع، بخلاف ما لو اشتركوا في أكل رغيف فإن الرغيف يتبعض حسا ومعنى. قوله: "وقال مطرف عن الشعبي في رجلين شهدا على رجل إلخ" وصله الشافعي عن سفيان بن عيينة عن مطرف بن طريف عن الشعبي " أن رجلين أتيا عليا فشهدا على رجل أنه سرق فقطع يده، ثم أتياه بآخر فقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا على الأول، فلم يجز شهادتهما على الآخر وأغرمهما دية الأول وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما " ولم أقف على الشاهدين ولا على اسم المشهود عليهما، وعرف بقوله: "ولم يجز شهادتيهما على الآخر " المراد بقوله في رواية البخاري " فأبطل شهادتهما " ففيه تعقب على من حمل الإبطال على شهادتهما معا الأولى لإقرارهما فيها بالخطأ والثانية لكونهما صارا متهمين، ووجه التعقب أن اللفظ وإن كان محتملا لكن الرواية الأخرى عينت أحد الاحتمالين. قوله: "وقال لي ابن بشار" هو محمد المعروف ببندار ويحيى هو القطان وعبيد الله هو ابن عمر العمري. قوله: "أن غلاما قتله غيلة" بكسر الغين المعجمة أي سرا "فقال عمر لو اشترك فيها" في رواية الكشميهني: "فيه: "وهو أوجه، والتأنيث على إرادة النفس، وهذا الأثر موصول إلى عمر بأصح إسناد، وقد أخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن يحيى القطان من وجه آخر عن نافع ولفظه: "أن عمر قتل

(12/227)


سبعة من أهل صنعاء برجل إلخ " وأخرجه الموطأ بسند آخر قال: "عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قتل خمسة أو ستة برجل قتلوه غيلة وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا " ورواية نافع أوصل وأوضح، وقوله تمالأ بهمزة مفتوحة بعد اللام ومعناه توافق، والأثر مع ذلك مختصر من الذي بعده. قول "وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه إلخ" هو مختصر من الأثر الذي وصله ابن وهب ومن طريقه قاسم بن أصبغ والطحاوي والبيهقي، قال ابن وهب حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنعاني حدثه عن أبيه أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها وترك في حجرها ابنا له من غيرها غلاما يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلا فقالت له أن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى، فامتنعت منه، فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ثم قطعوه أعضاء وجعلوه في عيبة - بفتح المهملة وسكون التحتانية ثم موحدة مفتوحة هي وعاء من أدم - فطرحوه في ركية - بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتانية هي البئر التي لم تطو - في ناحية القرية ليس فيها ماء فذكر القصة وفيه: "فأخذ خليلها فاعترف ثم اعترف الباقون فكتب يعلى وهو يومئذ أمر بشأنهم إلى عمر فكتب إليه عمر بقتلهم جميعا وقال: والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين " وأخرجه أبو الشيخ في " كتاب الترهيب " من وجه آخر عن جرير بن حازم وفيه: "فكتب يعلى بن أمية عامل عمر على اليمن إلى عمر فكتب إليه نحوه " وفي أثر ابن عمر هذا تعقب على ابن عبد البر في قوله لم يقل فيه أنه قتل غيلة إلا مالك " وروينا نحو هذه القصة من وجه آخر عند الدار قطني وفي فوائد أبي الحسن بن زنجويه بسند جيد إلى أبي المهاجر عبد الله بن عميرة من بني قيس ابن ثعلبة قال: "كان رجل يسابق الناس كل سنة بأيام، فلما قدم وجد مع وليدته سبعة رجال يشربون فأخذوه فقتلوه " فذكر القصة في اعترافهم وكتاب الأمير إلى عمر وفي جوابه أن " أضرب أعناقهم واقتلها معهم فلو أن أهل صنعاء اشتركوا في دمه لقتلتهم " وهذه القصة غير الأولى وسنده جيد، فقد تكرر ذلك من عمر، ولم أقف على اسم واحد ممن ذكر فيها إلا على اسم الغلام في رواية ابن وهب، وحكيم والد المغيرة صنعاني لا أعرف حاله ولا اسم والده وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين. قوله: "وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعلي وسويد بن مقرن من لطمة، وأقاد عمر من ضربة بالدرة، وأقاد علي من ثلاثة أسواط، واقتص شريح من سوط وخموش" أما أثر أبي بكر وهو الصديق فوصله ابن أبي شيبة من طريق يحيى في الحصين سمعت طارق بن شهاب يقول: "لطم أبو بكر يوما رجلا لطمة فقيل ما رأينا كاليوم قط هنعه ولطمه، فقال أبو بكر: إن هذا أتاني ليستحملني فحملته فإذا هو يتبعهم، فحلفت أن لا أحمله ثلاث مرات، ثم قال له: اقتص، فعفا الرجل " وأما أثر ابن الزبير فوصله ابن أبي شيبة ومسدد جميعا عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار " أن ابن الزبير أقاد من لطمة " وأما أثر على الأول فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ناجية أبي الحسن عن أبيه " أن عليا أتى في رجل لطم رجلا فقال للملطوم اقتص " وأما أثر سويد بن مقرن فوصله ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه، وأما أثر عمر فأخرجه في الموطأ عن عاصم بن عبيد الله عن عمر منقطعا، ووصله عبد الرزاق عن مالك عن عاصم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: "كنت مع عمر بطريق مكة فبال تحت شجرة، فناداه رجل فضربه بالدرة فقال: عجلت علي، فأعطاه المخفقة وقال: اقتص، فأبى، فقال لتفعلن، قال: فإني أغفرها " وأما أثر على الثاني فأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور من طريق فضيل بن عمرو عن عبد الله بن معقل بكسر القاف قال: "كنت عند علي فجاءه رجل فساره

(12/228)


فقال: يا قنبر اخرج فاجلد هذا، فجاء المجلود فقال: إنه زاد علي ثلاثة أسواط فقال صدق قال: خذ السوط فاجلده ثلاثة أسواط ثم قال: يا قنبر إذا جلدت فلا تتعد الحدود " وأما أثر شريح فوصله ابن سعد وسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي قال: "جاء رجل إلى شريح فقال: أقدني من جلوازك، فسأله فقال: ازدحموا عليك فضربته سوطا. فأقاده منه". ومن طريق ابن سرين قال: اختصم إليه يعني شريحا عبد جرح حرا فقال: إن شاء اقتص منه. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عن شريح أنه أقاد من لطمة. ومن وجه آخر عن أبي إسحاق عن شريح أنه أقاد من لطمة وخموش، والخموش بضم المعجمة الخدوش وزنه ومعناه، والخماشة ما ليس له أرش معلوم من الجراحة. والجلواز بكسر الجيم وسكون اللام وآخره زاي هو الشرطي سمي بذلك لأن من شأنه حمل الجلاز بكسر الجيم وباللام الخفيفة وهو السير الذي يشد في السوط، وعادة الشرطي أن يربطه في وسطه. قال ابن بطال: جاء عن عثمان وخالد بن الوليد نحو قول أبي بكر. وهو قول الشعبي وطائفة من أهل الحديث. وقال الليث وابن القاسم: يقاد من الضرب بالسوط وغيره إلا اللطمة في العين ففيها العقوبة خشية على العين. والمشهور عن مالك وهو قول الأكثر لا قود في اللطمة إلا إن جرحت ففيها حكومة، والسبب فيه تعذر المماثلة لافتراق لطمتي القوي والضعيف فيجب التعزير بما يليق باللاطم. وقال ابن القيم: بالغ بعض المتأخرين فنقل الإجماع على عدم القود في اللطمة والضربة وإنما يجب التعزير، وذهل في ذلك، فإن القول بجريان القود في ذلك ثابت عن الخلفاء الراشدين، فهو أولى بأن يكون إجماعا، وهو مقتضى إطلاق الكتاب والسنة. ذكر المصنف حديث عائشة في اللدود، وقد مضى القول فيه في " باب القصاص بين الرجال والنساء " وأنه ليس بظاهر في القصاص، لكن قوله في آخره إلا العباس فإنه لم يشهدكم فقد تمسك به من قال إنه فعله قصاصا لا تأديبا. قال ابن بطال: هو حجة لمن قال يقاد من اللطمة والسوط، يعني ومناسبة ذكر ذلك في ترجمة القصاص من الجماعة للواحد ليست ظاهرة. وأجاب ابن المنير بأن ذلك مستفاد من إجراء القصاص في الأمور الحقيرة ولا يعدل فيها عن القصاص إلى التأديب، فكذا ينبغي أن يجري القصاص على المشتركين في الجناية سواء قلوا أم كثروا فإن نصيب كل منهم عظيم معدود من الكبائر فكيف لا يجري فيه القصاص. والعلم عند الله تعالى.

(12/229)


22- باب: الْقَسَامَةِ. وَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: لَمْ يُقِدْ بِهَا مُعَاوِيَةُ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ - وَكَانَ أَمَّرَهُ عَلَى الْبَصْرَةِ - فِي قَتِيلٍ وُجِدَ عِنْدَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ السَّمَّانِينَ: إِنْ وَجَدَ أَصْحَابُهُ بَيِّنَةً وَإِلاَ فَلاَ تَظْلِمْ النَّاسَ، فَإِنَّ هَذَا لاَ يُقْضَى فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
6898- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ "زَعَمَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ: قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا: مَا قَتَلْنَا وَلاَ عَلِمْنَا قَاتِلًا، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلًا، فَقَالَ: الْكُبْرَ الْكُبْرَ. فَقَالَ لَهُمْ: تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا: مَا لَنَا

(12/229)


بَيِّنَةٌ. قَالَ: فَيَحْلِفُونَ. قَالُوا: لاَ نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ" فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ"
6899- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الأَسَدِيُّ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ حَدَّثَنِي أَبُو رَجَاءٍ - مِنْ آلِ أَبِي قِلاَبَةَ - "حَدَّثَنِي أَبُو قِلاَبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟ قَالَوا: نَقُولُ الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ وَقَدْ أَقَادَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ. قَالَ لِي مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلاَبَةَ؟ وَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِنْدَكَ رُءُوسُ الأَجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى لَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟ قَالَ: لاَ. قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَالَ: لاَ. قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ فِي إِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: رَجُلٌ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ، أَوْ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٌ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنْ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ الْقَوْمُ: أَوَلَيْسَ قَدْ حَدَّثَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي السَّرَقِ وَسَمَرَ الأَعْيُنَ ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِي الشَّمْسِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلاَمِ، فَاسْتَوْخَمُوا الأَرْضَ فَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَفَلاَ تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا؟ قَالُوا: بَلَى، فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَصَحُّوا فَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطْرَدُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمْ فَأُدْرِكُوا، فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِي الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا. قُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ؟ ارْتَدُّوا عَنْ الإِسْلاَمِ وَقَتَلُوا وَسَرَقُوا. فَقَالَ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ: وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ فَقُلْتُ: أَتَرُدُّ عَلَيَّ حَدِيثِي يَا عَنْبَسَةُ؟ قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ جِئْتَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ، وَاللَّهِ لاَ يَزَالُ هَذَا الْجُنْدُ بِخَيْرٍ مَا عَاشَ هَذَا الشَّيْخُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ فِي هَذَا سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَتَحَدَّثُوا عِنْدَهُ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَقُتِلَ، فَخَرَجُوا بَعْدَهُ فَإِذَا هُمْ بِصَاحِبِهِمْ يَتَشَحَّطُ فِي الدَّمِ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَاحِبُنَا كَانَ تَحَدَّثَ مَعَنَا فَخَرَجَ بَيْنَ أَيْدِينَا فَإِذَا نَحْنُ بِهِ يَتَشَحَّطُ فِي الدَّمِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بِمَنْ تَظُنُّونَ - أَوْ تَرَوْنَ
قَتَلَهُ؟ قَالُوا: نَرَى أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلَتْهُ. فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِ فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: آنْتُمْ قَتَلْتُمْ هَذَا؟ قَالُوا: لاَ. قَالَ: أَتَرْضَوْنَ نَفَلَ خَمْسِينَ مِنْ الْيَهُودِ مَا قَتَلُوهُ؟ فَقَالُوا:

(12/230)


مَا يُبَالُونَ أَنْ يَقْتُلُونَا أَجْمَعِينَ ثُمَّ يَنْتَفِلُونَ. قَالَ: أَفَتَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: مَا كُنَّا لِنَحْلِفَ. فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ كَانَتْ هُذَيْلٌ خَلَعُوا خَلِيعًا لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَطَرَقَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ الْيَمَنِ بِالْبَطْحَاءِ فَانْتَبَهَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَحَذَفَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَتْ هُذَيْلٌ فَأَخَذُوا الْيَمَانِيَّ فَرَفَعُوهُ إِلَى عُمَرَ بِالْمَوْسِمِ وَقَالُوا: قَتَلَ صَاحِبَنَا. فَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ خَلَعُوهُ فَقَالَ: يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْ هُذَيْلٍ مَا خَلَعُوهُ. قَالَ فَأَقْسَمَ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَقَدِمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ الشَّأْمِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يُقْسِمَ، فَافْتَدَى يَمِينَهُ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَدْخَلُوا مَكَانَهُ رَجُلًا آخَرَ فَدَفَعَهُ إِلَى أَخِي الْمَقْتُولِ فَقُرِنَتْ يَدُهُ بِيَدِهِ، قَالُوا: فَانْطَلَقَا وَالْخَمْسُونَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِنَخْلَةَ أَخَذَتْهُمْ السَّمَاءُ، فَدَخَلُوا فِي غَارٍ فِي الْجَبَلِ فَانْهَجَمَ الْغَارُ عَلَى الْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، فَمَاتُوا جَمِيعًا وَأَفْلَتَ الْقَرِينَانِ وَاتَّبَعَهُمَا حَجَرٌ فَكَسَرَ رِجْلَ أَخِي الْمَقْتُولِ، فَعَاشَ حَوْلًا ثُمَّ مَاتَ. قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَقَادَ رَجُلًا بِالْقَسَامَةِ ثُمَّ نَدِمَ بَعْدَ مَا صَنَعَ فَأَمَرَ بِالْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا فَمُحُوا مِنْ الدِّيوَانِ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّأْمِ"
قوله: "باب القسامة" بفتح القاف وتخفيف المهملة هي مصدر أقسم قسما وقسامة، وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم أو على المدعى عليهم الدم، وخص القسم على الدم بلفظ القسامة. وقال إمام الحرمين: القسامة عند أهل اللغة اسم للقوم الذين يقسمون، وعند الفقهاء اسم للأيمان. وقال في المحكم: القسامة الجماعة يقسمون على الشيء أو يشهدون به. ويمين القسامة منسوب إليهم ثم أطلقت على الأيمان نفسها. قوله: "وقال الأشعث بن قيس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" هو طرف من حديث تقدم موصولا تاما في كتاب الشهادات ثم في كتاب الأيمان والنذور مع شرحه، وأشار المصنف بذكره هنا إلى ترجيح رواية سعيد بن عبيد في حديث. الباب أن الذي يبدأ في يمين القسامة المدعى عليهم كما سيأتي البحث فيه. قوله: "وقال ابن أبي مليكة لم يقد" بضم أوله والقاف من أقاد إذا اقتص، وقد وصله حماد بن سلمة في مصنفه ومن طريقه ابن المنذر، قال حماد عن ابن أبي مليكة " سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة فأخبرته أن عبد الله بن الزبير أقاد بها وأن معاوية يعني ابن أبي سفيان لم يقد بها " وهذا سند صحيح، وقد توقف ابن بطال في ثبوته فقال: قد صح عن معاوية أنه أقاد بها ذكر ذلك عنه أبو الزناد في احتجاجه على أهل العراق. قلت: هو في صحيفة عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ومن طريقه أخرجه البيهقي قال: "حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال قتل رجل من الأنصار رجلا من بني العجلان ولم يكن على ذلك بينة ولا لطخ، فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه، فركبت إلى معاوية في ذلك فكتب إلى سعيد بن العاص: إن كان ما ذكره حقا فافعل ما ذكروه، فدفعت الكتاب إلى سعيد فأحلفنا خمسين يمينا ثم أسلمه إلينا". قلت: ويمكن الجمع بأن معاوية لم يقد بها لما وقعت له وكان الحكم في ذلك، ولما وقعت لغيره وكل الأمر في ذلك إليه ونسب إليه أنه أقاد بها لكونه أذن في ذلك. وقد تمسك مالك بقول خارجة المذكور فأطلق أن القود بها إجماع، ويحتمل أن يكون معاوية كان يرى القود بها ثم رجع عن ذلك أو

(12/231)


بالعكس. وقد أخرج الكرابيسي في "أدب القضاء" بسند صحيح عن الزهري عن سعيد بن المسيب قصة أخرى قضى فيها معاوية بالقسامة لكن لم يصرح فيها بالقتل، وقصة أخرى لمروان قضى فيها بالقتل، وقضى عبد الملك بن مروان بمثل قضاء أبيه. قوله: "وكتب عمر بن عبد العزيز إلخ" وصله سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا حميد الطويل قال: "كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز في قتيل وجد في سوق البصرة، فكتب إليه عمر رحمه الله أن من القضايا ما لا يقضى فيه إلى يوم القيامة وأن هذه القضية لمنهن " وأخرج ابن المنذر من وجه آخر عن حميد قال وجد قتيل بين قشير وعائش فكتب فيه عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز فذكر نحوه، وهذا أثر صحيح، وعدي بن أرطاة بفتح الهمزة وسكون الراء بعدها مهملة وهو فزاري من أهل دمشق. قوله في الأثر المعلق "وكان أمره" بالتشديد "على البصرة". قلت: كانت ولاية عمر بن عبد العزيز لعدي على إمرة البصرة سنة تسع وتسعين، وذكر خليفة أنه قتل سنة ثنتين ومائة. وقوله: "من بيوت السمانين " بتشديد الميم أي الذين يبيعون السمن، وقد اختلف على عمر بن عبد العزيز في القود بالقسامة كما اختلف على معاوية، فذكر ابن بطال أن في " مصنف حماد بن سلمة " عن ابن أبي مليكة أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة في إمرته على المدينة. قلت: ويجمع بأنه كان يرى بذلك لما كان أميرا على المدينة ثم رجع لما ولي الخلافة، ولعل سبب ذلك ما سيأتي في آخر الباب من قصة أبي قلابة حيث احتج على عدم القود بها، فكأنه وافقه على ذلك. وأخرج ابن المنذر من طريق الزهري قال "قال لي عمر بن عبد العزيز إني أريد أن أدع القسامة يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا فيحلفون على ما لا يرون، فقلت إنك إن تتركها يوشك أن الرجل يقتل عند بابك فيبطل دمه، وإن للناس في القسامة لحياة " وسبق عمر بن عبد العزيز إلى إنكار القسامة سالم بن عبد الله بن عمر فأخرج ابن المنذر عنه أنه كان يقول: "بالقوم يحلفون على أمر لم يروه ولم يحضروه، ولو كان لي أمر لعاقبتهم ولجعلتهم نكالا ولم أقبل لهم شهادة " وهذا يقدح في نقل إجماع أهل المدينة على القود بالقسامة فإن سالما من أجل فقهاء المدينة. وأخرج ابن المنذر أيضا عن ابن عباس أن القسامة لا يقاد بها. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال: القود بالقسامة جور. ومن طريق الحكم بن عتيبة أنه كان لا يرى القسامة شيئا. ومحصل الاختلاف في القسامة هل يعمل بها أو لا؟ وعلى الأول فهل توجب القود أو الدية، وهل يبدأ بالمدعين أو المدعى عليهم؟ واختلفوا أيضا في شرطها. قوله: "سعيد بن عبيد" هو الطائي الكوفي يكنى أبا هذيل روى عنه الثوري وغيره من الأكابر، وأبو نعيم الراوي عنه هنا هو آخر من روى عنه وثقه أحمد وابن معين وآخرون، وقال الآجري عن أبي داود كان شعبة يتمنى لقاءه، وفي طبقته سعيد بن عبيد الهنائي بضم الهاء وتخفيف النون وهمز ومد بصري صدوق أخرج له الترمذي والنسائي. قوله: "عن بشير" بالموحدة والمعجمة مصغر ابن يسار بتحتانية ثم مهملة خفيفة لا أعرف اسم جده، وفي رواية مسلم من طريق ابن نمير عن سعيد بن عبيد " حدثنا بشير بن يسار الأنصاري". قلت: وهو من موالي بني حارثة من الأنصار، قال ابن إسحاق: كان شيخا كبيرا فقيها أدرك عامة الصحابة ووثقه يحيى بن معين والنسائي وكناه محمد بن إسحاق في روايته أبا كيسان. قوله: "زعم أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة" بفتح المهملة وسكون المثلثة، ولم يقع في رواية ابن نمير زعم بل عنده عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري أنه أخبره، وكذا لأبي نعيم في المستخرج من وجه آخر عن أبي نعيم شيخ البخاري، واسم أبي حثمة عامر بن ساعدة بن عامر ويقال

(12/232)


اسم أبيه عبد الله فاشتهر هو بالنسبة إلى جده وهو من بني حارثة بطن من الأوس. قوله: "أن نفرا من قومه" سمي يحيى بن سعيد الأنصاري في روايته عن بشير بن يسار منهم اثنين، فتقدم في الجزية من طريق بشر بن المفضل عن يحيى بهذا السند " انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود بن زيد " وفي الأدب من رواية حماد بن زيد عن يحيى عن بشير " عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج أنهما حدثا أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود انطلقا " وعند مسلم من رواية الليث عن يحيى عن بشير عن سهل " قال يحيى وحسبت أنه قال ورافع بن خديج أنهما قالا خرج عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد " ونحوه عنده من رواية هشيم عن يحيى لكن لم يذكر رافعا ولفظه عن بشير بن يسار " أن رجلا من الأنصار من بني حارثة يقال له عبد الله بن سهل بن زيد انطلق هو وابن عم له يقال له محيصة بن مسعود بن زيد " وأسنده في آخره عن سهل بن أبي حثمة به، وثبت ذكر رافع بن خديج في هذا الحديث غير مسمى عند أبي داود من طريق أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل " عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره هو ورجل من كبراء قومه " وعند ابن أبي عاصم من طريق إسماعيل بن عياش عن يحيى عن بشير " عن سهل ورافع وسويد بن النعمان أن القسامة كانت فيهم في بني حارثة فذكر بشر عنهم أن عبد الله بن سهل خرج " فذكر الحديث، ومحيصة بضم الميم وفتح المهملة وتشديد التحتانية مكسورة بعدها صاد مهملة وكذا ضبط أخيه حويصة وحكي التخفيف في الاسمين معا ورجحه طائفة. قوله: "انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها" في رواية يحيى بن سعيد "انطلقا إلى خيبر فتفرقا" وتحمل رواية الباب على أنه كان معهما تابع لهما، وقد وقع في رواية عبد بن إسحاق عن بشر بن يسار عن ابن أبي عاصم " خرج عبد الله بن سهل في أصحاب له يمتارون تمرا " زاد سليمان بن بلال عند مسلم في روايته عن يحيى بن سعيد " في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ صلح وأهلها يهود، وقد تقدم بيان ذلك في المغازي، والمراد أن ذلك وقع بعد فتحها، فإنها لما فتحت أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهلها فيها على أن يعملوا في المزارع بالشطر مما يخرج منها كما تقدم بيانه. وفي رواية أبي ليلى بن عبد الله "خرج إلى خيبر". قوله: "فوجدوا أحدهم قتيلا" في رواية بشر بن المفضل " فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا " أي يضطرب فيتمرغ في دمه فدفنه، وفي رواية الليث " فإذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلا فدفنه" وفي رواية سليمان بن بلال "فوجد عبد الله بن سهل مقتولا في سربه فدفنه صاحبه" وفي رواية أبي ليلى " فأخبر محيصة أن عبد الله قتل وطرح في فقير " بفاء مفتوحة ثم قاف مكسورة أي حفيرة. قوله: "فقالوا للذين وجد فيهم قد قتلتم صاحبنا، قالوا ما قتلنا ولا علمنا قاتلا" في رواية أبي ليلى " فأتى محيصة يهود فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا والله ما قتلناه". قوله: "فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية حماد بن زيد " فجاء عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلموا في أمر صاحبهم " وفي رواية سليمان بن بلال " فأتى أخو المقتول عبد الرحمن ومحيصة وحويصة فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأن عبد الله حيث قتل " وفي رواية الليث " ثم أقبل محيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو وحويصة وعبد الرحمن بن سهل " زاد أبو ليلى في روايته: "وهو - أي حويصة - أكبر منه، أي من محيصة. قوله: "فقال الكبر الكبر" بضم الكاف وسكون الموحدة وبالنصب فيهما على الإغراء، زاد في رواية يحيى بن سعيد " فبدأ عبد الرحمن يتكلم وكان أصغر القوم " زاد حماد بن زيد عن يحيى عند مسلم: "في أمر أخيه " وفي رواية بشر " وهو أحدث القوم " وفي رواية الليث "فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال كبر الكبر" الأولى أمر والأخرى

(12/233)


كالأول، ومثله في رواية حماد بن زيد وزاد: "أو قال يبدأ الأكبر " وفي رواية بشر بن المفضل " كبر كبر " بتكرار الأمر، وكذا في رواية أبي ليلى وزاد: "يريد السن " وفي رواية الليث " فسكت وتكلم صاحباه " وفي رواية بشر "وتكلما". قوله: "تأتون بالبينة على من قتله، قالوا: ما لنا بينة" كذا في رواية سعيد بن عبيد، ولم يقع في رواية يحيى بن سعيد الأنصاري ولا في رواية أبي قلابة الآتية في الحديث الذي بعده للبينة ذكر وإنما قال يحيى في رواية: "أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم " هذه رواية بشر بن المفضل عنه وفي رواية حماد عنه " أتستحقون قاتلكم أو صاحبكم بأيمان خمسين منكم " وفي رواية عند مسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته " وفي رواية سليمان بن بلال " تحلفون خمسين يمينا وتستحقون " وفي رواية ابن عيينة عن يحيى عند أبي داود " تبرئكم يهود بخمسين يمينا تحلفون، فبدأ بالمدعى عليهم لكن قال أبو داود إنه وهم، كذا جزم بذلك، وقد قال الشافعي: كان ابن عيينة لا يثبت أقدم النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار في الأيمان أو اليهود، فيقال له إن في هذا الحديث إنه قدم الأنصار فيقول هو ذاك وربما حدث به كذلك ولم يشك، وفي رواية أبي ليلى "فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ فقالوا لا " وفي رواية أبي قلابة "فأرسل إلى اليهود فدعاهم فقال أنتم قتلتم هذا؟ فقالوا: لا. فقال أترضون نقل خمسين من اليهود ما قتلوه " ونفل بفتح النون وسكون الفاء يأتي شرحه، وزاد يحيى بن سعيد " كيف نحلف ولم نشهد ولم نر " وفي رواية حماد عنه " أمر لم نره " وفي رواية سليمان "ما شهدنا ولا حضرنا". قوله: "قال فيحلفون، قالوا لا لم نرضى بأيمان اليهود" وفي رواية أبي ليلى " فقالوا ليسوا بمسلمين " وفي رواية يحيى بن سعيد " فتبرئكم يهود بخمسين يمينا " أي يخلصونكم من الأيمان بأن يحلفوهم فإذا حلفوا انتهت الخصومة فلم يجب عليهم شيء وخلصتم أنتم من الأيمان، " قالوا كيف نأخذ بأيمان قوم كفار " وفي رواية الليث " نقبل " بدل " نأخذ " وفي رواية أبي قلابة " ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون " كذا في رواية سعيد بن عبيد لم يذكر عرض الأيمان على المدعين كما لم يقع في رواية يحيى بن سعيد طلب البينة أولا، وطريق الجمع أن يقال حفظ أحدهم ما لم يحفظ الآخر، فيحمل على أنه طلب البينة أولا فلم تكن لهم بينة، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم فأبوا. وأما قول بعضهم إن ذكر البينة وهم لأنه صلى الله عليه وسلم قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من المسلمين فدعوى نفي العلم مردودة فإنه وإن سلم أنه لم يسكن مع اليهود فيها أحد من المسلمين لكن في نفس القصة أن جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون تمرا فيجوز أن تكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك وإن لم يكن في نفس الأمر كذلك، وقد وجدنا لطلب البينة في هذه القصة شاهدا من وجه آخر أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليك برمته، قال: يا رسول الله إني أصيب شاهدين وإنما أصبح قتيلا على أبوابهم؟ قال فتحلف خمسين قسامة، قال فكيف أحلف على ما لا أعلم، قال تستحلف خمسين منهم، قال كيف وهم يهود" وهذا السند صحيح حسن وهو نص في الحمل الذي ذكرته فتعين المصير إليه. وقد أخرج أبو داود أيضا من طريق عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج قال: "أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولا، فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم، قال: لم يكن ثم أحد من المسلمين وإنما هم اليهود وقد يجترئون على أعظم من هذا". قوله: "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل" بضم أوله وفتح الطاء وتشديد

(12/234)


اللام أي يهدر. قوله: "فوداه مائة" في رواية الكشميهني: "بمائة " ووقع في رواية أبي ليلى " فوداه من عنده " وفي رواية يحيى بن سعيد " فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده " أي أعطى ديته، وفي رواية حماد بن زيد " من قبله " بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهته وفي رواية الليث عنه " فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عقله". قوله: "من إبل الصدقة" زعم بعضهم أنه غلط من سعيد بن عبيد لتصريح يحيى بن سعيد بقوله: "من عنده " وجمع بعضهم بين الروايتين باحتمال أن يكون اشتراها من إبل الصدقة بمال دفعه من عنده، أو المراد بقوله: "من عنده " أي بيت المال المرصد للمصالح، وأطلق عليه صدقة باعتبار الانتفاع به مجانا لما في ذلك من قطع المنازعة وإصلاح ذات البين، وقد حمله بعضهم على ظاهره فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة واستدل بهذا الحديث وغيره. قلت: وتقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة في الكلام على حديث أبي لاس قال: "حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة في الحج " وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت أمره وحكمه، وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم، قال القرطبي في " المفهم " فعل صلى الله عليه وسلم ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبا للمصلحة ودرءا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق، ورواية من قال: "من عنده " أصح من رواية من قال: "من إبل الصدقة " وقد قيل إنها غلط والأولى أن لا يغلط الراوي ما أمكن، فيحتمل أوجها منها فذكر ما تقدم وزاد: أن يكون تسلف ذلك من إبل الصدقة ليدفعه من مال الفيء، أو أن أولياء القتيل كانوا مستحقين للصدقة فأعطاهم، أو أعطاهم ذلك من سهم المؤلفة استئلافا لهم واستجلابا لليهود انتهى. وزاد أبو ليلى في روايته: "قال سهل فركضتني ناقة " وفي رواية حماد بن زيد عن يحيى " أدركته ناقة من تلك الإبل فدخلت مربدا لهم فركضتني برجلها " وفي رواية شيبان بن بلال " لقد ركضتني ناقة من تلك الفرائض بالمربد " وفي رواية محمد بن إسحاق " فوالله ما أنسى ناقة بكرة منها حمراء ضربتني وأنا أحوزها " وفي حديث الباب من الفوائد مشروعية القسامة. قال القاضي عياض: هذا الحديث أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ كافة الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأنصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين وإن اختلفوا في صورة الأخذ به، وروي التوقف عن الأخذ به عن طائفة فلم يروا القسامة ولا أثبتوا بها في الشرع حكما، وهذا مذهب الحكم بن عتيبة وأبي قلابة وسالم ابن عبد الله وسليمان بن يسار وقتادة ومسلم بن خالد وإبراهيم بن علية وإليه ينحو البخاري، وروي عن عمر ابن عبد العزيز باختلاف عنه. قلت: وهذا ينافي ما صدر به كلامه أن كافة الأئمة أخذوا بها، وقد تقدم النقل عمن لم يقل بمشروعيتها في أول الباب، وفيهم من لم يذكره القاضي، قال: واختلف قول مالك في مشروعية القسامة في قتل الخطأ، واختلف القائلون بها في العمد هل يجب بها القود أو الدية؟ فمذهب معظم الحجازيين إيجاب القود إذا كملت شروطها، وهو قول الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك والليث والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود، وروي ذلك عن بعض الصحابة كابن الزبير، واختلف عن عمر بن عبد العزيز. وقال أبو الزناد: قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان. قلت: إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلا عن ألف. ثم

(12/235)


قال القاضي: وحجتهم حديث الباب: يعني من رواية يحيى بن سعيد التي أشرت إليها، قال: فإن مجيئه من طرق صحاح لا يدفع، وفيه تبرئة المدعين ثم ردها حين أبوا على المدعى عليهم واحتجوا بحديث أبي هريرة " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه إلا القسامة"، ويقول مالك: أجمعت الأئمة في القديم والحديث على أن المدعين يبدءون في القسامة، ولأن جنبة المدعي إذا قويت بشهادة أو شبهة صارت اليمين له. وهاهنا الشبهة قوية، وقالوا هذه سنة بحيالها وأصل قائم برأسه لحياة الناس وردع المعتدين، وخالفت الدعاوى في الأموال فهي على ما ورد فيها، وكل أصل يتبع ويستعمل ولا تطرح سنة لسنة، وأجابوا عن رواية سعيد ابن عبيد يعني المذكورة في حديث هذا الباب بقول أهل الحديث إنه وهم من رواية أسقط من السياق تبرئة المدعين باليمين لكونه لم يذكر فيه رد اليمين، واشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ فوجب قبولها وهي تقضي على من لم يعرفها. قلت: وسيأتي مزيد بيان لذلك. قال القرطبي: الأصل في الدعاوى أن اليمين على المدعى عليه، وحكم القسامة أصل بنفسه لتعذر إقامة البينة على القتل فيها غالبا، فإن القاصد للقتل يقصد الخلوة ويترصد الغفلة، وتأيدت بذلك الرواية الصحيحة المتفق عليها وبقي ما عدا القسامة على الأصل، ثم ليس ذلك خروجا عن الأصل بالكلية بل لأن المدعى عليه إنما كان القول قوله لقوة جانبه بشهادة الأصل له بالبراءة مما ادعى عليه، وهو موجود في القسامة في جانب المدعي لقوة جانبه باللوث الذي يقوي دعواه، قال عياض: وذهب من قال بالدية إلى تقديم المدعى عليهم في اليمين، إلا الشافعي وأحمد فقالا بقول الجمهور: يبدأ بأيمان المدعين وردها إن أبوا على المدعى عليهم. وقال بعكسه أهل الكوفة وكثير من أهل البصرة وبعض أهل المدينة والأوزاعي فقال يستحلف من أهل القرية خمسين رجلا خمسين يمينا ما قتلناه ولا علمناه من قتله. فإن حلفوا برءوا وإن نقصت قسامتهم عن عدد أو نكلوا حلف المدعون على رجل واحد واستحقوا، فإن نقصت قسامتهم قاده دية، وقال عثمان البتي من فقهاء البصرة: ثم يبدأ بالمدعى عليهم بالأيمان فإن حلفوا فلا شيء عليهم. وقال الكوفيون: إذا حلفوا وجبت عليهم الدية، وجاء ذلك عن عمر، قال واتفقوا كلهم على أنها لا تجب بمجرد دعوى الأولياء حتى يقترن بها شبهة يغلب على الظن الحكم بها، واختلفوا في تصوير الشبهة على سبعة أوجه فذكرها، وملخصها: الأول أن يقول المريض دمي عند فلان أو ما أشبه ذلك، ولو لم يكن به أثر أو جرح فإن ذك يوجب القسامة عند مالك والليث لم يقل به غيرهما، واشترط بعض المالكية الأثر أو الجرح، واحتج لمالك بقصة بقرة بني إسرائيل، قال: ووجه الدلالة منها أن الرجل حي فأخبر بقاتله، وتعقب بخفاء الدلالة منها، وقد بالغ ابن حزم في رد ذلك، واحتجوا بأن القاتل يتطلب حالة غفلة الناس فتتعذر البينة، فلو لم يعمل بقول المضروب لأدى ذلك إلى إهدار دمه لأنها حالة يتحرى فيها اجتناب الكذب ويتزود فيها من البر والتقوى، وهذا إنما يأتي في حالة المحتضر. الثانية أن يشهد من لا يكمل النصاب بشهادته كالواحد أو جماعة غير عدول قال بها المذكوران ووافقهما الشافعي ومن تبعه. الثالثة أن يشهد عدلان بالضرب ثم يعيش بعده أياما ثم يموت منه من غير تخلل إفاقة، فقال المذكوران: تجب فيه القسامة. وقال الشافعي: بل يجب القصاص بتلك الشهادة. الرابعة أن يوجد مقتول وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل وعليه أثر الدم مثلا ولا يوجد غيره فتشرع فيه القسامة عند مالك والشافعي، ويلتحق به أن تفترق به جماعة عن قتيل: الخامسة أن يقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل ففيه القسامة عند الجمهور، وفي رواية عن مالك تختص القسامة بالطائفة التي ليس هو منها إلا إن كان

(12/236)


من غيرهما فعلى الطائفتين. السادسة المقتول في الزحمة، وقد تقدم بيان الاختلاف فيه في باب مفرد. السابعة أن يوجد قتيل في محلة أو قبيلة، فهذا يوجب القسامة عند الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأتباعهم، ولا يوجب القسامة عندهم سوى هذه الصورة، وشرطها عندهم إلا الحنفية أن يوجد بالقتيل أثر، وقال داود لا تجرى القسامة إلا في العمد على أهل مدينة أو قرية كبيرة وهم أعداء للمقتول، وذهب الجمهور إلى أنه لا قسامة فيه بل هو هدر لأنه قد يقتل ويلقى في المحلة ليتهموا، وبه قال الشافعي، وهو رواية عن أحمد، إلا أن يكون في مثل القصة التي في حديث الباب فيتجه فيها القسامة لوجود العداوة. ولم تر الحنفية ومن وافقهم لوثا يوجب القسامة إلا هذه الصورة، وحجة الجمهور القياس على هذه الواقعة، والجامع أن يقترن بالدعوى شيء يدل على صدق المدعي فيقسم معه ويستحق، وقال ابن قدامة: ذهب الحنفية إلى أن القتيل إذا وجد في محل فادعى وليه على خمسين نفسا من موضع قتله فحلفوا خمسين يمينا ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا فإن لم يجد خمسين كرر الأيمان على من وجد وتجب الدية على بقية أهل الخطة، ومن لم يحلف من المدعى عليهم حبس حتى يحلف أو يقر، واستدلوا بأثر عمر أنه أحلف خمسين نفسا خمسين يمينا وقضى بالدية عليهم، وتعقب باحتمال أن يكونوا أقروا بالخطأ وأنكروا العمد وبأن الحنفية لا يعملون بخبر الواحد إذا خالف الأصول ولو كان مرفوعا فكيف احتجوا بما خالف الأصول بخبر واحد موقوف وأوجبوا اليمين على غير المدعى عليه، واستدل به على القود في القسامة لقوله: "فتستحقون قاتلكم " وفي الرواية الأخرى " دم صاحبكم " قال ابن دقيق العيد: الاستدلال بالرواية التي فيها " فيدفع برمته " أقوى من الاستدلال بقوله: "دم صاحبكم " لأن قوله: "يدفع برمته " لفظ مستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل، ولو أن الواجب الدية لبعد استعمال هذا اللفظ وهو في استعماله في تسليم القاتل أظهر، والاستدلال بقوله: "دم صاحبكم " أظهر من الاستدلال بقوله: "قاتلكم " أو " صاحبكم " لأن هذا اللفظ لا بد فيه من إضمار، فيحتمل أن يضمر دية صاحبكم احتمالا ظاهرا، وأما بعد التصريح بالدية فيحتاج إلى تأويل اللفظ بإضمار بدل دم صاحبكم والإضمار على خلاف الأصل ولو احتيج إلى إضمار لكان حمله على ما يقتضي إراقة الدم أقرب، وأما من قال يحتمل أن يكون قوله: "دم صاحبكم " هو القتيل لا القاتل فيرده قوله: "دم صاحبكم أو قاتلكم " وتعقب بأن القصة واحدة اختلفت ألفاظ الرواة فيها على ما تقدم بيانه فلا يستقيم الاستدلال بلفظ منها لعدم تحقق أنه اللفظ الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل من قال بالقود أيضا بما أخرجه مسلم والنسائي من طريق الزهري عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القسامة كانت في الجاهلية وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه من الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر، وهذا يتوقف على ثبوت أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون في القسامة، وعند أبي داود من طريق عبد الرحمن بن بجيد بموحدة وجيم مصغر قال: إن سهلا يعني ابن أبي حثمة وهم في الحديث أن رسول الله كتب إلى يهود " إنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه " فكتبوا يحلفون ما قتلناه ولا علمنا قاتلا، قال فوداه من عنده، وهذا رده الشافعي بأنه مرسل، ويعارض ذلك ما أخرجه ابن منده في "الصحابة" من طريق مكحول حدثني عمرو بن أبي خزاعة أنه قتل فيهم قتيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل القسامة على خزاعة بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا فحلف كل منهم عن نفسه وغرم الدية، وعمرو مختلف في صحبته، وأخرج ابن أبي شيبة بسند جيد إلى إبراهيم النخعي قال: كانت القسامة في الجاهلية إذا وجد القتيل بين

(12/237)


ظهري قوم أقسم منهم خمسون خمسين يمينا، ما قتلنا ولا علمنا، فإن عجزت الأيمان ردت عليهم ثم عقلوا، وتمسك من قال لا يجب فيها إلا الدية بما أخرجه الثوري في جامعه وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي قال: وجد قتيل بين حيين من العرب فقال عمر: قيسوا ما بينهما فأيهما وجدتموه إليه أقرب فأحلفوهم خمسين يمينا وأغرموهم الدية، وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن منصور عن الشعبي أن عمر كتب في قتيل وجد بين خيران ووادعة أن يقاس ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسون رجلا حتى يوافوه مكة فأدخلهم الحجر فأحلفهم ثم قضى عليهم الدية فقال: حقنت أيمانكم دماءكم ولا يطل دم رجل مسلم، قال الشافعي: إنما أخذه الشعبي عن الحارث الأعور والحارث غير مقبول انتهى. وله شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عند أحمد أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاس إلى أيهما أقرب، فألقى ديته على الأقرب، ولكن سنده ضعيف. وقال عبد الرزاق في مصنفه: قلت لعبيد الله بن عمر العمري أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت فعمر؟ قال: لا، قلت فلم تجترئون عليها؟ فسكت. وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن أن عمر قال: القسامة توجب العقل ولا تسقط الدم، واستدل به الحنفية على جواز سماع الدعوى في القتل على غير معين لأن الأنصار ادعوا على اليهود أنهم قتلوا صاحبهم وسمع النبي صلى الله عليه وسلم دعواهم، ورد بأن الذي ذكره الأنصار أولا ليس على صورة الدعوى بين الخصمين لأن من شرطها إذا لم يحضر المدعى عليه أن يتعذر حضوره، سلمنا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين لهم أن الدعوى إنما تكون على واحد لقوله: "تقسمون على رجل منهم فيدفع إليكم برمته " واستدل بقوله: "على رجل منهم " على أن القسامة إنما تكون على رجل واحد وهو قول أحمد ومشهور قول مالك، وقال الجمهور: يشترط أن تكون على معين سواء كان واحدا أو أكثر واختلفوا هل يختص القتل بواحد أو يقتل الكل؟ وقد تقدم البحث فيه، وقال أشهب: لهم أن يحلفوا على جماعة ويختاروا واحدا للقتل ويسجن الباقون عاما ويضربون مائة مائة، وهو قول لم يسبق إليه. وفيه أن الحلف في القسامة لا يكون إلا مع الجزم بالقاتل، والطريق إلى ذلك المشاهدة وإخبار من يوثق به مع القرينة الدالة على ذلك، وفيه أن من توجهت عليه اليمين فنكل عنها لا يقضى عليه حتى يرد اليمين على الآخر وهو المشهور عند الجمهور، وعند أحمد والحنفية يقضى عليه دون رد اليمين. وفيه أن أيمان القسامة خمسون يمينا واختلف في عدد الحالفين فقال الشافعي لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خمسين يمينا سواء قلوا أم كثروا فلو كان بعدد الأيمان حلف كل واحد منهم يمينا وإن كانوا أقل أو نكل بعضهم ردت الأيمان على الباقين فإن لم يمكن إلا واحد حلف خمسين يمينا واستحق حتى لو كان من يرث بالفرض والتعصيب أو بالنسب والولاء حلف واستحق، وقال مالك: إن كان ولي الدم واحدا ضم إليه آخر من العصبة ولا يستعان بغيرهم وإن كان الأولياء أكثر حلف منهم خمسون وقال الليث: لم أسمع أحدا يقول أنها تنزل عن ثلاثة أنفس، وقال الزهري عن سعيد بن المسيب: أول من نقص القسامة عن خمسين معاوية. قال الزهري: وقضى به عبد الملك ثم رده عمر بن عبد العزيز إلى الأمر الأول. واستدل به على تقديم الأسن في الأمر المهم إذا كانت فيه أهلية ذلك لا ما إذا كان عريا عن ذلك، وعلى ذلك يحمل الأمر بتقديم الأكبر في حديث الباب إما لأن ولي الدم لم يكن متأهلا فأقام الحاكم قريبه مقامه في الدعوى وإما لغير ذلك. وفيه التأنيس والتسلية لأولياء المقتول لا أنه حكم على الغائبين لأنه لم يتقدم صورة دعوى على غائب وإنما وقع الإخبار بما وقع فذكر لهم قصة الحكم على التقديرين

(12/238)


ومن ثم كتب إلى اليهود بعد أن دار بينهم الكلام المذكور، ويؤخذ منه أن مجرد الدعوى لا توجب إحضار المدعى عليه، لأن في إحضاره مشغلة عن إشغاله وتضييعا لماله من غير موجب ثابت لذلك، أما لو ظهر ما يقوي الدعوى من شبهة ظاهرة فهل يسوغ استحضار الخصم أو لا؟ محل نظر، والراجح أن ذلك يختلف بالقرب والبعد وشدة الضرر وخفته. وفيه الاكتفاء بالمكاتبة وبخبر الواحد مع إمكان المشافهة. وفيه أن اليمين قبل توجيهها من الحاكم لا أثر لها لقول اليهود في جوابهم والله ما قتلنا وفي قولهم لا نرضى بأيمان اليهود استبعاد لصدقهم لما عرفوه من إقدامهم على الكذب وجراءتهم على الأيمان الفاجرة، واستدل به على أن الدعوى في القسامة لا بد فيها من عداوة أو لوث، واختلف في سماع هذه الدعوى ولو لم توجب القسامة: فعن أحمد روايتان، وبسماعها قال الشافعي لعموم حديث: "اليمين على المدعى عليه " بعد قوله: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم " ولأنها دعوى في حق آدمي فتسمع ويستحلف وقد يقر فيثبت الحق في قتله ولا يقبل رجوعه عنه، فلو نكل ردت على المدعي واستحق القود في العمد والدية في الخطأ، وعن الحنفية لا ترد اليمين، وهي رواية عن أحمد، واستدل به على أن المدعين والمدعى عليهم إذا نكلوا عن اليمين وجبت الدية في بيت المال وقد تقدم ما فيه قريبا، واستدل به على أن من يحلف في القسامة لا يشترط أن يكون رجلا ولا بالغا لإطلاق قوله: "خمسين منكم" وبه قال ربيعة والثوري والليث والأوزاعي وأحمد، وقال مالك لا مدخل للنساء في القسامة لأن المطلوب في القسامة القتل ولا يسمع من النساء. وقال الشافعي: لا يحلف في القسامة إلا الوارث البالغ لأنها يمين في دعوى حكمية فكانت كسائر الأيمان ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، واختلف في القسامة هل هي معقولة المعنى فيقاس عليها أو لا والتحقيق أنها معقولة المعنى لكنه خفي ومع ذلك فلا يقاس عليها لأنها لا نظير لها في الأحكام، وإذا قلنا إن المبدأ فيها يمين المدعي فقد خرجت عن سنن القياس، وشرط القياس أن لا يكون معدولا به عن سنن القياس كشهادة خزيمة. "تنبيه": نبه ابن المنير في الحاشية على النكتة في كون البخاري لم يورد في هذا الباب الطريق الدالة على تحليف المدعي، وهي مما خالفت فيه القسامة بقية الحقوق فقال: مذهب البخاري تضعيف القسامة، فلهذا صدر الباب بالأحاديث الدالة على أن اليمين في جانب المدعى عليه، وأورد طريق سعيد بن عبيد وهو جار على القواعد، وإلزام المدعي البينة ليس من خصوصية القسامة في شيء. ثم ذكر حديث القسامة الدال على خروجها عن القواعد بطريق العرض في كتاب الموادعة والجزية فرارا من أن يذكرها هنا فيغلط المستدل بها على اعتقاد البخاري، قال وهذا الإخفاء مع صحة القصد ليس من قبيل كتمان العلم. قلت: الذي يظهر لي أن البخاري لا يضعف القسامة من حيث هي، بل يوافق الشافعي في أنه لا قود فيها، ويخالفه في أن الذي يحلف فيها هو المدعي، بل يرى أن الروايات اختلفت في ذلك في قصة الأنصار ويهود خيبر فيرد المختلف إلى المتفق عليه من أن اليمين على المدعى عليه فمن ثم أورد رواية سعيد بن عبيد في " باب القسامة " وطريق يحيى بن سعيد في باب آخر، وليس في شيء من ذلك تضعيف أصل القسامة والله أعلم. وادعى بعضهم أن قوله: "تحلفون وتستحقون" استفهام إنكار واستعظام للجمع بين الأمرين، وتعقب بأنهم لم يبدءوا بطلب اليمين حتى يصح الإنكار عليهم، وإنما هو استفهام تقرير وتشريع. قوله: "أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي" بفتح السين المهملة المعروف بابن علية واسم جده مقسم وهو الثقة المشهور، وهو منسوب إلى بني أسد بن خزيمة لأن أصله من مواليهم، والحجاج بن أبي عثمان هو

(12/239)


المعروف بالصواف، واسم أبي عثمان ميسرة وقيل سالم، وكنية الحجاج أبو الصلت ويقال غير ذلك وهو بصري أيضا وهو مولى بني كندة، وأبو رجاء اسمه سليمان وهو مولى أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، ووقع هنا " من آل أبي قلابة " وفيه تجوز فإنه منهم باعتبار الولاء لا بالأصالة، وقد أخرجه أحمد فقال: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا حجاج عن أبي رجاء مولى أبي قلابة " وكذا عند مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، وكذا عند الإسماعيلي من رواية أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة كلهم عن إسماعيل. قوله: "أن عمر بن عبد العزيز" يعني الخليفة المشهور "أبرز سريره" أي أظهره. وكان ذلك في زمن خلافته وهو بالشام، والمراد بالسرير ما جرت عادة الخلفاء الاختصاص بالجلوس عليه، والمراد أنه أخرجه إلى ظاهر الدار لا إلى الشارع، ولذلك قال: "أذن للناس" ووقع عند مسلم من طريق عبد الله بن عون عن أبي رجاء عن أبي قلابة "كنت خلف عمر بن عبد العزيز". قوله: "ما تقولون في القسامة" زاد أحمد بن حرب عن إسماعيل بن علية عند أبي نعيم في المستخرج فأضب الناس أي سكتوا مطرقين يقال أضبوا إذا سكتوا وأضبوا إذا تكلموا، وأصل أضب أضمر ما في قلبه ويقال أضب على الشيء لزمه والاسم الضب كالحيوان المشهور، ويحتمل أن يكون المراد أنهم علموا رأي عمر بن عبد العزيز في إنكار القسامة فلما سألهم سكتوا مضمرين مخالفته، ثم تكلم بعضهم بما عنده في ذلك كما وقع في هذه الرواية: "قالوا نقول القسامة القود بها حق وقد أقادت بها الخلفاء " وأرادوا بذلك ما تقدم نقله عن معاوية وعن عبد الله بن الزبير وكذا جاء عن عبد الملك بن مروان، لكن عبد الملك أقاد بها ثم ندم كما ذكره أبو قلابة بعد ذلك في رواية حماد بن زيد عن أيوب وحجاج الصواف عن أبي رجاء " أن عمر بن عبد العزيز استشار الناس في القسامة فقال قوم: هي حق، قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضى بها الخلفاء، أخرجه أبو عوانة في صحيحه وأصله عند الشيخين من طريقه. قوله: "قال لي ما تقول" في رواية أحمد بن حرب " فقال لي يا أبا قلابة ما تقول". قوله: "ونصبني للناس" أي أبرزني لمناظرتهم، أو لكونه كان خلف السرير فأمره أن يظهر، وفي رواية أبي عوانة " وأبو قلابة خلف السرير قاعدا فالتفت إليه فقال: ما تقول يا أبا قلابة". قوله: "عندك رءوس الأجناد" بفتح الهمزة وسكون الجيم بعدها نون جمع جند وهي في الأصل الأنصار والأعوان ثم اشتهر في المقاتلة، وكان عمر قسم الشام بعد موت أبي عبيدة ومعاذ على أربعة أمراء مع كل أمير جند، فكان كل من فلسطين ودمشق وحمص وقنسرين يسمى جندا باسم الجند الذي نزلوها " وقيل كان الرابع الأردن وإنما أفردت قنسرين بعد ذلك"، وقد تقدم شيء من هذا في الطب في شرح حديث الطاعون " لما خرج عمر إلى الشام فلقيه أمراء الأجناد " ولابن ماجه وصححه ابن خزيمة من طريق أبي صالح الأشعري عن أبي عبد الله الأشعري في غسل الأعقاب " قال أبو صالح فقلت لأبي عبد الله من حدثك؟ قال: أمراء الأجناد خالد بن الوليد ويذيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص". قوله: "وأشراف العرب" في رواية أحمد بن حرب " وأشراف الناس". قوله: "أرأيت لو أن خمسين إلخ" وقع في رواية حماد " شهد عندك أربعة من أهل حمص على رجل من أهل دمشق". وزاد بعد قوله أكنت تقطعه " قال لا. قال يا أمير المؤمنين هذا أعظم من ذلك". قوله: "فوالله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قط" في رواية حماد " لا والله لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أحدا من أهل الصلاة " وهو موافق لحديث ابن مسعود الماضي مرفوعا في أول الديات " لا يحل دم امرئ مسلم". قوله: "إلا في إحدى" في رواية أحمد بن حرب "إلا بإحدى". قوله: "بجريرة نفسه" أي بجنايتها.

(12/240)


قوله: "فقال القوم أوليس قد حدث أنس" عند مسلم من طريق ابن عون " فقال عنبسة قد حدثنا أنس بكذا " وفي رواية حماد المذكورة " فقال عنبسة بن سعيد: فأين حديث أنس بن مالك في العكليين " كذا في هذه الرواية، وتقدم في الطهارة وغيرها بلفظ: "العرنيين " وأوضحت أن بعضهم كان من عكل وبعضهم كان من عرينة، وثبت كذلك في كثير من الطرق. وعنبسة المذكور بفتح المهملة وسكون النون وفتح الموحدة بعدها سين مهملة هو الأموي أخو عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق، واسم جده العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، وكان عنبسة من خيار أهل بيته، وكان عبد الملك بن مروان بعد أن قتل أخاه عمرو بن سعيد يكرمه، وله رواية وأخبار مع الحجاج بن يوسف، ووثقه ابن معين وغيره. قوله: "أنا أحدثكم حديث أنس حدثني أنس" في رواية أحمد بن حرب "فإياي حديث أنس". قوله: "فبايعوا" في رواية أحمد بن حرب " فبايعوه". قوله: "أجسامهم" في رواية أحمد بن حرب " أجسادهم". قوله: "من ألبانها وأبوالها" في رواية أحمد بن حرب " من رسلها " وهو بكسر الراء وسكون المهملة اللبن وبفتحتين المال من الإبل والغنم، وقيل بل الإبل خاصة إذا أرسلت إلى الماء تسمى رسلا. قوله: "ثم نبذهم" بنون وموحدة مفتوحتين ثم ذال معجمة أي طرحهم. قوله: "قلت وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء؟ ارتدوا عن الإسلام وقتلوا وسرقوا" في رواية حماد " قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله". قوله: "قال عنبسة" هو المذكور قبل. قوله: "إن سمعت كاليوم قط" إن بالتخفيف وكسر الهمزة بمعنى ما النافية وحذف مفعول سمعت والتقدير ما سمعت قبل اليوم مثل ما سمعت منك اليوم. وفي رواية حماد "فقال عنبسة يا قوم ما رأيت كاليوم قط" ووقع في رواية ابن عون " قال أبو قلابة فلما فرغت قال عنبسة سبحان الله". قوله: "أترد على حديثي يا عنبسة" في رواية ابن عون " فقلت أتتهمني يا عنبسة " وكذا في رواية حماد كأن أبا قلابة فهم من كلام عنبسة إنكار ما حدث به. قوله: "لا ولكن جئت بالحديث على وجهه" في رواية ابن عون " قال لا هكذا حدثنا أنس " وهذا دال على أن عنبسة كان سمع حديث العكليين من أنس. وفيه إشعار بأنه كان غير ضابط له على ما حدث به أنس فكان يظن أن فيه دلالة على جواز القتل في المعصية ولو لم يقع الكفر، فلما ساق أبو قلابة الحديث تذكر أنه هو الذي حدثهم به أنس فاعترف لأبي قلابة بضبطه ثم أثنى عليه. قوله: "والله لا يزال هذا الجند بخير ما كان هذا الشيخ بين أظهرهم" المراد بالجند أهل الشام، ووقع في رواية ابن عوان " يا أهل الشام لا تزالون بخير ما دام فيكم هذا أو مثل هذا" وفي رواية حماد "والله لا يزال هذا الجند بخير ما أبقاك الله بين أظهرهم". قوله: "وقد كان في هذا سنة - إلى قوله - دخل عليه نفر من الأنصار" كذا أورد أبو قلابة هذه القصة مرسلة، ويغلب على الظن أنها قصة عبد الله بن سهل ومحيصة، فإن كان كذلك فلعل عبد الله بن سهل ورفقته تحدثوا عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوجهوا إلى خيبر ثم توجهوا فقتل عبد الله بن سهل كما تقدم وهو المراد بقوله هنا " فخرج رجل منهم بين أيديهم فقتل". قوله: "فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعله صلى الله عليه وسلم لما جاءوه كان داخل بيته أو المسجد فكلموه فخرج إليهم فأجابهم. قوله: "فقال بمن تظنون أو ترون" بضم أوله وهما بمعنى. قوله: "قالوا: نرى أن اليهود قتله" كذا للأكثر بلفظ الفعل الماضي بالإفراد وفي رواية المستملي: "قتلته" بصيغة المسند إلى الجمع المستفاد من لفظ اليهود لأن المراد قتلوه، وقد قدمت بيان ما اختلف فيه من ألفاظ هذه القصة في شرح الحديث الذي قبله. قوله: "قلت وقد كانت هذيل" أي القبيلة المشهورة، وهم ينتسبون إلى هذيل بن مدركة

(12/241)


ابن إلياس بن مضر، وهذا من قول أبي قلابة، وهي قصة موصولة بالسند المذكور إلى أبي قلابة، لكنها مرسلة لأن أبا قلابة لم يدرك عمر. قوله: "خلعوا خليعا" في رواية الكشميهني حليفا بحاء مهملة وفاء بدل العين، والخليع فعيل بمعنى مفعول يقال تخالع القوم إذا نقضوا الحلف، فإذا فعلوا ذلك لم يطالبوا بجنايته فكأنهم خلعوا اليمين التي كانوا لبسوها معه، ومنه سمي الأمير إذا عزل خليعا ومخلوعا، وقال أبو موسى في المعين خلعه قومه أي حكموا بأنه مفسد فتبرءوا منه: ولم يكن ذلك في باب الجاهلية يختص بالحليف بل كانوا ربما خلعوا الواحد من القبيلة ولو كان من صميمها إذا صدرت منه جناية تقتضي ذلك، وهذا مما أبطله الإسلام من حكم الجاهلية، ومن ثم قيده في الخبر بقوله: "في الجاهلية " ولم أقف على اسم الخليع المذكور ولا على اسم أحد ممن ذكر في القصة. قوله: "فطرق أهل بيت" بضم الطاء المهملة أي هجم عليهم ليلا في خفية ليسرق منهم، وحاصل القصة أن القاتل ادعى أن المقتول لص وأن قومه خلعوه فأنكروا هم ذلك وحلفوا كاذبين فأهلكهم الله بحنث القسامة وخلص المظلوم وحده. قوله: "ما خلعوا" في رواية أحمد بن حرب " ما خلعوه". قوله: "حتى إذا كانوا بنخلة" بلفظ واحدة النخيل، وهو موضع على ليلة من مكة. قوله: "فانهجم عليهم الغار" أي سقط عليهم بغتة. قوله: "وأفلت" بضم أوله وسكون الفاء أي تخلص، والقرينان هما أخو المقتول والذي أكمل الخمسين. قوله: "واتبعهما حجر" أي بتشديد التاء وقع عليهما بعد أن خرجا من الغار. قوله: "وقد كان عبد الملك بن مروان" هو مقول أبي قلابة بالسند أيضا وهي موصولة لأن أبا قلابة أدركها. قوله: "أقاد رجلا" لم أقف على اسمه. قوله: "ثم ندم بعد" بضم الدال. قوله: "ما صنع" كأنه ضمن ندم معنى كره ووقع في رواية أحمد بن حرب " على الذي صنع". قوله: "فأمر بالخمسين" أي الذين حلفوا، ووقع في رواية أحمد بن حرب الذين أقسموا. قوله: "وسيرهم إلى الشام" أي نفاهم، وفي رواية أحمد بن حرب " من الشام " وهذه أولى لأن إقامة عبد الملك كانت بالشام ويحتمل أن يكون ذلك وقع لما كان عبد الملك بالعراق عند محاربته مصعب بن الزبير ويكونوا من أهل العراق فنفاهم إلى الشام، قال المهلب فيما حكاه ابن بطال: الذي اعترض به أبو قلابة من قصة العرنيين لا يفيد مراده من ترك القسامة لجواز قيام البينة والدلائل التي لا تدفع على تحقيق الجناية في حق العرنيين، فليس قصتهم من طريق القسامة في شيء لأنها إنما تكون في الاختفاء بالقتل حيث لا بينة ولا دليل، وأما العرنيون فإنهم كشفوا وجوههم لقطع السبيل والخروج على المسلمين فكان أمرهم غير أمر من ادعى القتل حيث لا بينة هناك، قال: وما ذكره هنا من انهدام الغار عليهم يعارضه ما تقدم من السنة، قال: وليس رأي أبي قلابة حجة ولا ترد به السنن، وكذا محو عبد الملك أسماء الذين أقسموا من الديوان قلت: والذي يظهر لي أن مراد أبي قلابة بقصة العرنيين خلاف ما فهمه عنه المهلب أن قصتهم كان يمكن فيها القسامة فلم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أراد الاستدلال بها لما ادعاه من الحصر الذي ذكره في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل أحدا إلا في إحدى ثلاث فعورض بقصة العرنيين وحاول المعترض إثبات قسم رابع فرد عليه أبو قلابة بما حاصله أنهم إنما استوجبوا القتل بقتلهم الراعي وبارتدادهم عن الدين وهذا بين لا خفاء فيه، وإنما استدل على ترك القود بالقسامة بقصة القتيل عند اليهود فليس فيها للقود بالقسامة ذكر، بل ولا في أصل القصة التي هي عمدة الباب تصريح بالقود كما سأبينه، ثم رأيت في آخر الحاشية لابن المنير نحو ما أجبت به، وحاصله توهم المهلب أن أبا قلابة عارض حديث القسامة بحديث العرنيين فأنكر عليه فوهم. وإنما اعترض أبو قلابة على القسامة بالحديث الدال على حصر

(12/242)


القتل في ثلاثة أشياء، فإن الذي عارضه ظن أن في قصة العرنيين حجة في جواز قتل من لم يذكر في الحديث المذكور كأن يتمسك الحجاج في قتل من لم يثبت عليه واحدة من الثلاثة، وكأن عنبسة تلقف ذلك عنه فإنه كان صديقه، فبين أبو قلابة أنه ثبت عليهم قتل الراعي بغير حق والارتداد عن الإسلام. وهو جواب ظاهر فلم يورد أبو قلابة قصة العرنيين مستدلا بها على ترك القسامة بل رد على من تمسك بها للقود بالقسامة، وأما قصة الغار فأشار بها إلى أن العادة جرت بهلاك من حلف في القسامة من غير علم كما وقع في حديث ابن عباس في قصة القتيل الذي وقعت القسامة بسببه قبل البعثة وقد مضى في كتاب المبعث وفيه: "فما حال الحول ومن الثمانية والأربعين الذين حلفوا عين تطرف " وجاء عن ابن عباس حديث آخر في ذلك أخرجه الطبراني من طريق أبي بكر بن أبي الجهم عن عبيد الله بن عبد الله عنه قال: "كانت القسامة في الجاهلية حجازا بين الناس، فكان من حلف على إثم أري عقوبة من الله ينكل بها عن الجراءة على الحرام، فكانوا يتورعون عن أيمان الصبر ويهابونها، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان المسلمون لها أهيب " ثم إنه ليس في سياق قصة الهذليين تصريح بما صنع عمر هل أقاد بالقسامة أو حكم بالدية، فقول المهلب ما تقدم من السنة إن كان أشار به إلى صنيع عمر فليس بواضح، وأما قوله إن رأى أبي قلابة ومحو عبد الملك من الديوان لا ترد به السنن فمقبول، لكن ما هي السنة التي وردت بذلك؟ نعم لم يظهر لي وجه استدلال أبي قلابة بأن القتل لا يشرع إلا في الثلاثة لرد القود بالقسامة مع أن القود قتل نفس بنفس وهو أحد الثلاثة، وإنما وقع النزاع في الطريق إلى ثبوت ذلك.

(12/243)


باب من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه
...
23- باب: مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلاَ دِيَةَ لَهُ
6900- حَدَّثَنَا أَبُو اليمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ - أَوْ مَشَاقِصَ - وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعُنَهُ"
6901- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ "أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ - فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنَيْكَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِذْنُ مِنْ قِبَلِ الْبَصَرِ"
6902- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِعَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ"
قوله: "باب من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينيه فلا دية له" كذا جزم بنفي الدية، وليس في الخبر الذي ساقه تصريح بذلك لكنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه على عادته. قوله: "أن رجلا اطلع" أي نظر من علو، وهذا الرجل لم أعرف اسمه صريحا لكن نقل ابن بشكوال عن أبي الحسن بن الغيث أنه الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان ولم يذكر مستندا لذلك، ووجدت في "كتاب مكة للفاكهي" من طريق أبي سفيان عن

(12/243)


الزهري وعطاء الخراساني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه وهو يلعن الحكم بن أبي العاص وهو يقول اطلع علي وأنا مع زوجتي فلانة فكلح في وجهي، وهذا ليس صريحا في المقصود هنا، ووقع في سنن أبي داود من طريق هذيل بن شرحبيل قال: "جاء سعد فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم فقام يستأذن على الباب فقال: هكذا عنك فإنما الاستئذان من أجل البصر " وهذا أقرب إلى أن يفسر به المبهم الذي في ثاني أحاديث الباب، ولم ينسب سعد هذا في رواية أبي داود، ووقع في رواية الطبراني أنه سعد بن عبادة والله أعلم. قوله: "من حجر في بعض حجر" تقدم ضبط اللفظ في كتاب الاستئذان. قوله: "بمشقص أو مشاقص" هو شك من الراوي وتقدم بيانه وأنه النصل العريض، وقوله في الخبر الذي بعده " مدرى " قد يخالفه فيحمل على تعدد القصة، ويحتمل أن رأس المدرى كان محددا فأشبه النصل، وتقدم ضبط المدرى في " باب الامتشاط " من كتاب اللباس وأن مما قيل في تفسيره حديدة كالخلال لها رأس محدد وقيل لها سنان من حديد. قوله: "وجعل يختله" بفتح أوله وسكون الخاء المعجمة بعدها مثناة مكسورة ثم لام من الختل بفتح أوله وسكون ثانيه وهو الإصابة على غفلة. قوله: "ليطعنه" بضم العين المهملة بناء على المشهور أن الطعن بالفعل بضم العين وبالقول بفتحها وقد قيل هما سواء، زاد أبو الربيع الزهراني عن حماد عند مسلم: "فذهب أو لحقه فأخطأ " وفي رواية عاصم بن علي عن حماد عند أبي نعيم " فما أدري أذهب أو كيف صنع". الحديث الثاني، قوله: "حدثنا ليث" هو ابن سعد. قوله: "أن رجلا اطلع في حجر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الكشميهني: "من" في الموضعين. قوله: "أنك" رواية الكشميهني أن خفيفة. قوله: "في عينيك" كذا للمستملي والسرخسي وللباقين "في عينك" بالإفراد، وهذا مما يقوي تعدد القصة لأنه في حديث أنس جزم بأنه اطلع وأراد أن يطعنه، وفي حديث سهل علق طعنه على نظره. قوله: "إنما جعل الإذن من قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهة. قوله: "البصر" في رواية الكشميهني: "النظر" وقد تقدم في الاستئذان من وجه آخر عن الزهري بلفظ آخر. الحديث الثالث، قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخرجه عن ابن أبي عمر عن سفيان. قوله: "لو أن امرأ" تقدم ضبطه قبل ستة أبواب. قوله: "لم يكن عليك جناح" عند مسلم من هذا الوجه " ما كان عليك من جناح " والمراد بالجناح هنا الحرج، وقد أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن ابن عيينة بلفظ: "ما كان عليك من حرج " ومن طريق ابن عجلان عن أبيه عن الزهري عن أبي هريرة " ما كان عليك من ذلك من شيء " ووقع عند مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه " أخرجه من رواية أبي صالح عنه، وفيه رد على من حمل الجناح هنا على الإثم، ورتب على ذلك وجوب الدية إذ لا يلزم من رفع الإثم رفعها لأن وجوب الدية من خطاب الوضع، ووجه الدلالة أن إثبات الحل يمنع ثبوت القصاص والدية، وورد من وجه آخر عن أبي هريرة أصرح من هذا عند أحمد وابن أبي عاصم والنسائي وصححه ابن حبان والبيهقي كلهم من رواية بشير بن نهيك عنه بلفظ: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية ولا قصاص " وفي رواية من هذا الوجه " فهو هدر " وفي هذه الأحاديث من الفوائد إبقاء شعر الرأس وتربيته واتخاذ آلة يزيل بها عنه الهوام ويحك بها لدفع الوسخ أو القمل. وفيه مشروعية الاستئذان على من يكون في بيت مغلق الباب ومنع التطلع عليه من خلل الباب، وفيه مشروعية الامتشاط. وقد

(12/244)


تقدم كثير من هذا كله في "باب الاستئذان" وأن الاستئذان لا يختص بغير المحارم بل يشرع على من كان منكشفا ولو كان أما أو أختا واستدل به على جواز رمي من يتجسس ولو لم يندفع بالشيء الخفيف جاز بالثقيل، وأنه إن أصيبت نفسه أو بعضه فهو هدر، وذهب المالكية إلى القصاص وأنه لا يجوز قصد العين ولا غيرها، واعتلوا بأن المعصية لا تدفع بالمعصية، وأجاب الجمهور بأن المأذون فيه إذا ثبت الإذن لا يسمى معصية وإن كان الفعل لو تجرد عن هذا السبب يعد معصية، وقد اتفقوا على جواز دفع الصائل ولو أتى على نفس المدفوع، وهو بغير السبب المذكور معصية فهذا ملحق به مع ثبوت النص فيه، وأجابوا عن الحديث بأنه ورد على سبيل التغليظ والإرهاب، ووافق الجمهور منهم ابن نافع، وقال يحيى بن عمر منهم لعل مالكا لم يبلغه الخبر، وقال القرطبي في "المفهم" ما كان عليه الصلاة والسلام بالذي يهم أن يفعل ما لا يجوز أو يؤدي إلى ما لا يجوز، والحمل على رفع الإثم لا يتم مع وجود النص برفع الحرج وليس مع النص قياس، واعتل بعض المالكية أيضا بالإجماع على أن من قصد النظر إلى عورة الآخر ظاهر أن ذلك لا يبيح فقء عينه ولا سقوط ضمانها عمن فقأها فكذا إذا كان المنظور في بيته وتجسس الناظر إلى ذلك، ونازع القرطبي في ثبوت هذا الإجماع وقال: إن الخبر يتناول كل مطلع، قال: وإذا تناول المطلع في البيت مع المظنة فتناوله المحقق أولى. قلت: وفيه نظر لأن التطلع إلى ما في داخل البيت لم ينحصر في النظر إلى شيء معين كعورة الرجل مثلا بل يشمل استكشاف الحريم وما يقصد صاحب البيت ستره من الأمور التي لا يجب اطلاع كل أحد عليها، ومن ثم ثبت النهي عن التجسيس والوعيد عليه حسما لمواد ذلك، فلو ثبت الإجماع المدعي لم يستلزم رد هذا الحكم الخاص، ومن المعلوم أن العاقل يشتد عليه أن الأجنبي يرى وجه زوجته وابنته ونحو ذلك وكذا في حال ملاعبته أهله أشد مما رأى الأجنبي ذكره منكشفا، والذي ألزمه القرطبي صحيح في حق من يروم النظر فيدفعه المنظور إليه، وفي وجه للشافعية لا يشرع في هذه الصورة، وهل يشترط الإنذار قبل الرمي؟ وجهان، قيل يشترط كدفع الصائل، وأصحهما لا لقوله في الحديث: "يختله بذلك" وفي حكم المتطلع من خلل الباب الناظر من كوة من الدار وكذا من وقف في الشارع فنظر إلى حريم غيره أو إلى شيء في دار غيره، وقيل المنع مختص بمن كان في ملك المنظور إليه، وهل يلحق الاستماع بالنظر؟ وجهان، الأصح لا، لأن النظر إلى العورة أشد من استماع ذكرها، وشرط القياس المساواة أو أولوية المقيس وهنا بالعكس. واستدل به على اعتبار قدر ما يرمي به بحصى الخذف المقدم بيانها في كتاب الحج لقوله في حديث الباب: "فخذفته" فلو رماه بحجر يقتل أو سهم تعلق به القصاص، وفي وجه لا ضمان مطلقا ولو لم يندفع إلا بذلك جاز، ويستثنى من ذلك من له في تلك الدار زوج أو محرم أو متاع فأراد الاطلاع عليه فيمتنع رميه للشبهة، وقيل لا فرق، وقيل: يجوز إن لم يكن في الدار غير حريمه فإن كان فيها غيرهم أنذر فإن انتهى وإلا جاز، ولو لم يكن في الدار إلا رجل واحد هو مالكها أو ساكنها لم يجز الرمي قبل الإنذار إلا إن كان مكشوف العورة، وقيل يجوز مطلقا لأن من الأحوال ما يكره الاطلاع عليه كما تقدم. ولو قصر صاحب الدار بأن ترك الباب مفتوحا وكان الناظر مجتازا فنظر غير قاصد لم يجز، فإن تعمد النظر فوجهان أصحهما لا، ويلتحق بهذا من نظر من سطح بيته ففيه الخلاف. وقد توسع أصحاب الفروع في نظائر ذلك، فإن ابن دقيق العيد: وبعض تصرفاتهم مأخوذة من إطلاق الخبر الوارد في ذلك، وبعضها من مقتضى فهم المقصود، وبعضها بالقياس على ذلك، والله أعلم.

(12/245)


24- باب: الْعَاقِلَةِ
6903- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ قَالَ "سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ مَرَّةً مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ فَقَالَ وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلاَّ مَا فِي الْقُرْآنِ - إِلاَّ فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ - وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الأَسِيرِ وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ"
قوله: "باب العاقلة" بكسر القاف جمع عاقل وهو دافع الدية، وسميت الدية عقلا تسمية بالمصدر لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي القتيل، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية ولو لم تكن إبلا، وعاقلة الرجل قراباته من قبل الأب وهم عصبته، وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول. وتحمل العاقلة الدية ثابت بالسنة، وأجمع أهل العلم على ذلك، وهو مخالف لظاهر قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لكنه خص من عمومها ذلك لما فيه من المصلحة، لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله، لأن تتابع الخطأ منه لا يؤمن ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول. قلت: ويحتمل أن يكون السر فيه أنه لو أفرد بالتغريم حتى يفتقر لآل الأمر إلى الإهدار بعد الافتقار، فجعل على عاقلته لأن احتمال فقر الواحد أكثر من احتمال فقر الجماعة، ولأنه إذا تكرر ذلك منه كان تحذيره من العود إلى مثل ذلك من جماعة أدعى إلى القبول من تحذيره نفسه والعلم عند الله تعالى. وعاقلة الرجل عشيرته، فيبدأ بفخذه الأدنى فإن عجزوا ضم إليهم الأقرب إليهم وهي على الرجال الأحرار البالغين أولى اليسار منهم. قوله: "قال مطرف" كذا لأبي ذر، وللباقين "حدثنا مطرف" ويؤيده أنه سيأتي بعد ستة أبواب بهذا السند بعينه ولفظه: "حدثنا مطرف " وكذا هو في رواية الحميدي عن ابن عيينة، ومطرف هو ابن طريف بطاء مهملة ثم فاء في اسمه واسم أبيه، وهو كوفي ثقة معروف، ووقع مذكورا باسم أبيه في رواية النسائي عن محمد ابن منصور عن ابن عيينة. قوله: "هل عندكم شيء ما ليس في القرآن" أي مما كتبتموه عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء حفظتموه أم لا، وليس المراد تعميم كل مكتوب ومحفوظ لكثرة الثابت عن علي من مرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم مما ليس في الصحيفة المذكورة والمراد ما يفهم من فحوى لفظ القرآن ويستدل به من باطن معانيه، ومراد على أن الذي عنده زائدا على القرآن مما كتب عنه الصحيفة المذكورة وما استنبط من القرآن كأنه كان يكتب ما يقع له من ذلك لئلا ينساه، بخلاف ما حفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام فإنه يتعاهدها بالفعل والإفتاء بها فلم يخش عليها من النسيان، وقوله: "إلا فهما يعطى رجل في كتابه " في رواية الحميدي المذكورة " إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه " وكذا في رواية النسائي، وقد تقدم في كتاب الجهاد من وجه آخر عن مطرف بلفظ: "إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن".

(12/246)


25- باب: جَنِينِ الْمَرْأَةِ
6904- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ

(12/246)


عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ"
6905- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فِي إِمْلاَصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ"
[الحديث 6905- أطرافه في: 6907 ، 6908 م ، 7317]
6906- قال ائت من يشهد معك"فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ"
[الحديث 6906- طرفه في: 6908 ، 7318]
6907- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ عُمَرَ نَشَدَ النَّاسَ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي السِّقْطِ؟ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَنَا سَمِعْتُهُ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ"
6908- "قَالَ: ائْتِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ عَلَى هَذَا فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَا أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا"
6908 م- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّهُ سَمِعَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فِي إِمْلاَصِ الْمَرْأَةِ.. مِثْلَهُ"
قوله: "باب جنين المرأة" الجنين بجيم ونونين وزن عظيم حمل المرأة ما دام في بطنها، سمي بذلك لاستتاره، فإن خرج حيا فهو ولد أو ميتا فهو سقط، وقد يطلق عليه جنين، قال الباجي في " شرح رجال الموطأ " الجنين ما ألقته المرأة مما يعرف أنه ولد سواء كان ذكرا أو أنثى ما لم يستهل صارخا كذا قال. قوله: "حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك وحدثنا إسماعيل" يعني ابن أبي أويس "حدثنا مالك" كذا للأكثر، وسقط رواية إسماعيل هنا لأبي ذر. قوله: "عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن" كذا قال عبد الله بن يوسف عن مالك وقال كما في الباب الذي يليه عن الليث " عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب " وكلا القولين صواب إلا أن مالكا كان يرويه عن ابن شهاب عن سعيد مرسلا وعن أبي سلمة موصولا، وقد مضى في الطب عن قتيبة عن مالك بالوجهين وهو عند الليث من رواية أبي سلمة أيضا لكن بواسطة، كما تقدم في الطب أيضا عن سعيد بن عفير عن الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب، ورواه يونس بن يزيد عن ابن شهاب عنهما جميعا كما في الباب الذي يليه أيضا، ورواه معمر عن الزهري عن أبي سلمة وحده أخرجه مسلم، وأخرجه أبو داود والترمذي من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة. وذكر فيه حديثين: الحديث الأول، قوله: "أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى" وفي رواية يونس "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت" وفي رواية حمل التي سأنبه عليها إحداهما لحيانية قلت: ولحيان بطن من هذيل، وهاتان المرأتان كانتا ضرتين وكانتا تحت حمل بن النابغة الهذلي فأخرج أبو داود من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس "عن عمر أنه سأل عن قضية النبي صلى الله عليه وسلم فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى" هكذا رواه موصولا، وأخرجه

(12/247)


الشافعي عن سفيان ابن عيينة عن عمر فلم يذكر ابن عباس في السند ولفظه: "أن عمر قال: أذكر الله امرأ سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا " وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أن عمر استشار، وأخرج الطبراني من طريق أبي المليح بن أسامة بن عمير الهذلي عن أبيه قال: "كان فينا رجل يقال له حمل بن مالك له امرأتان إحداهما هذلية والأخرى عامرية فضربت الهذلية بطن العامرية " وأخرجه الحارث من طريق أبي المليح فأرسله لم يقل عن أبيه ولفظه: "أن حمل بن النابغة كانت له امرأتان مليكة وأم عفيف " وأخرج الطبراني من طريق عون بن عويم قال: "كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح تحت حمل بن النابغة فضربت أم عفيف مليكة " ووقع في رواية عكرمة عن ابن عباس في آخر هذه القصة " قال ابن عباس: إحداهما مليكة والأخرى أم عفيف " أخرجه أبو داود، وهذا الذي وقفت عليه منقولا، وبالآخر جزم الخطيب في " المبهمات " وزاد بعض شراح العمدة " وقيل أم مكلف وقيل أم مليكة " وأما قوله: "رمت " فوقع في رواية يونس وعبد الرحمن بن خالد " فرمت إحداهما الأخرى بحجر " زاد عبد الرحمن " فأصاب بطنها وهي حامل " وكذا في رواية أبي المليح عند الحارث لكن قال: "فخذفت " وقال: "فأصاب قبلها " ووقع في رواية أبي داود المذكورة من طريق حمل بن مالك " فضربت إحداهما الأخرى بمسطح " وعند مسلم من طريق عبيد بن نضيلة - بنون وضاد معجمة مصغر - عن المغيرة بن شعبة قال: "ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى فقتلتها " وكذا في حديث أبي المليح بن أسامة عن أبيه " فضربت الهذلية بطن العامرية بعمود فسطاط أو خباء " وفي حديث عويم " ضربتها بمسطح بيتها وهي حامل " وكذا عند أبي داود من حديث حمل بن مالك " بمسطح " ومن حديث بريدة أن امرأة خذفت امرأة أخرى. قوله: "فطرحت جنينها" في رواية عبد الرحمن بن خالد " فقتلت ولدها في بطنها " وفي رواية يونس " فقتلتها وما في بطنها " وفي حديث حمل بن مالك مثله بلفظ: "فقتلتها وجنينها " ونحوه في رواية عويم وكذا في رواية أبي المليح عن أبيه. قوله: "فقضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة" في رواية عبد الرحمن بن خالد ويونس " فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة " ونحوه في رواية يونس لكن قال: "أو وليدة " وفي رواية معمر من طريق أبي سلمة فقال قائل " كيف يعقل " وفي رواية يونس عند مسلم وأبي داود " وورثها ولدها ومن معهم فقال حمل بن النابغة " وفي رواية عبد الرحمن بن خالد الماضية في الطب " فقال ولي المرأة التي غرمت ثم اتفقا: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان " وفي مرسل سعيد بن المسيب عند مالك " قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة " وفي رواية الليث من طريق سعيد الموصولة نحوه عند الترمذي ولكن قال: "إن هذا ليقول بقول شاعر بل فيه غرة " وفيه: "ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وإن العقل على عصبتها " وفي رواية عكرمة عن ابن عباس " فقال عمها إنها قد أسقطت غلاما قد نبت شعره، فقال أبو القاتلة إنه كاذب، إنه والله ما استهل ولا شرب ولا أكل، فمثله يطل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الجاهلية وكهانتها " وفي رواية عبيد بن نضيلة عن المغيرة " فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة وغرة لما في بطنها، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم من لا أكل - وفي آخره - أسجع كسجع الأعراب؟ وجعل عليهم الدية " وفي حديث عويم عند الطبراني "فقال أخوها العلاء بن مسروح: يا رسول الله أنغرم من لا شرب ولا أكل

(12/248)


ولا نطق ولا استهل، فمثل هذا يطل. فقال: أسجع كسجع الجاهلية " ونحوه عند أبي يعلى من حديث جابر لكن قال: "فقالت عاقلة القاتلة " وعند البيهقي من حديث أسامة بن عميرة " فقال أبوها إنما يعقلها بنوها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الدية على العصبة وفي الجنين غرة، فقال: ما وضع فحل ولا صاح فاستهل، فأبطله فمثله يطل " وبهذا يجمع الاختلاف فيكون كل من أبيها وأخيها وزوجها قالوا ذلك لأنهم كلهم من عصبتها بخلاف المقتولة فإن في حديث أسامة بن عمير أن المقتولة عامرية والقاتلة هذلية، ووقع في رواية أسامة " فقال دعني من أراجيز الأعراب " وفي لفظ: "أسجاعة بك " وفي آخر " أسجع كسجع الجاهلية؟ قيل يا رسول الله إنه شاعر " وفي لفظ: "لسنا من أساجيع الجاهلية في شيء " وفيه: "فقال إن لها ولدا هم سادة الحي وهم أحق أن يعقلوا عن أمهم، قال بل أنت أحق أن تعقل عن أختك من ولدها، فقال ما لي شيء، قال حمل وهو يومئذ على صدقات هذيل وهو زوج المرأة وأبو الجنين أقبض من صدقات هذيل " أخرجه البيهقي، وفي رواية ابن أبي عاصم " ما له عبد ولا أمة قال عشر من الإبل، قالوا ما له من شيء إلا أن تعينه من صدقة بني لحيان فأعانه بها، فسعى حمل عليها حتى استوفاها " وفي حديثه عند الحارث بن أبي أسامة " فقضى أن الدية على عاقلة القاتلة وفي الجنين غرة عبد أو أمة وعشر من الإبل أو مائة شاة " ووقع في حديث أبي هريرة من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل " وكذا وقع عند عبد الرزاق في رواية ابن طاوس عن أبيه عن عمر مرسلا " فقال حمل بن النابغة قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية في المرأة وفي الجنين غرة عبد أو أمة أو فرس " وأشار البيهقي إلى أن ذكر الفرس في المرفوع وهم وأن ذلك أدرج من بعض رواته على سبيل التفسير للغرة، وذكر أنه في رواية حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوس بلفظ: "فقضى أن في الجنين غرة قال طاوس الفرس غرة". قلت: وكذا أخرج الإسماعيلي من طريق حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "الفرس غرة " وكأنهما رأيا أن الفرس أحق بإطلاق لفظ الغرة من الآدمي، ونقل ابن المنذر والخطابي عن طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير " الغرة عبد أو أمة أو فرس " وتوسع داود ومن تبعه من أهل الظاهر فقالوا: يجزئ كل ما وقع عليه اسم غرة، والغرة في الأصل البياض يكون في جبهة الفرس، وقد استعمل للآدمي في الحديث المتقدم في الوضوء " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا " وتطلق الغرة على الشيء النفيس آدميا كان أو غيره ذكرا كان أو أنثى، وقيل أطلق على الآدمي غرة لأنه أشرف الحيوان، فإن محل الغرة الوجه والوجه أشرف الأعضاء، وقوله في الحديث: "غرة عبد أو أمة " قال الإسماعيلي قرأه العامة بالإضافة وغيرهم بالتنوين، وحكى القاضي عياض الخلاف، وقال: التنوين أوجه لأنه بيان للغرة ما هي، وتوجيه الآخر أن الشيء قد يضاف إلى نفسه لكنه نادر، وقال الباجي: يحتمل أن تكون " أو " شكا من الراوي في تلك الواقعة المخصوصة، ويحتمل أن تكون للتنويع وهو الأظهر، وقيل المرفوع من الحديث قوله: "بغرة " وأما قوله عبد أو أمة فشك من الراوي في المراد بها، قال وقال مالك: الحمران أولى من السودان في هذا، وعن أبي عمرو بن العلاء قال: الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء، قال فلا يجزئ في دية الجنين سوداء إذ لو لم يكن في الغرة معنى زائد لما ذكرها ولقال عبد أو أمة، ويقال إنه انفرد بذلك وسائر الفقهاء على الإجزاء فيما لو أخرج سوداء، وأجابوا بأن المعنى الزائد كونه نفيسا فلذلك فسره بعبد أو أمة لأن الآدمي أشرف الحيوان، وعلى هذا فالذي وقع في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة من زيادة ذكر

(12/249)


الفرس في هذا الحديث وهم ولفظه: "غرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل " ويمكن إن كان محفوظا أن الفرس هي الأصل في الغرة كما تقدم، وعلى قول الجمهور فأقل ما يجزئ من العبد والأمة ما سلم من العيوب التي يثبت بها الرد في البيع لأن المعيب ليس من الخيار، واستنبط الشافعي من ذلك أن يكون منتفعا به فشرط أن لا ينقص عن سبع سنين لأن من لم يبلغها لا يستقل غالبا بنفسه فيحتاج إلى التعهد بالتربية فلا يجبر المستحق على أخذه، وأخذ بعضهم من لفظ الغلام أن لا يزيد على خمس عشرة ولا تزيد الجارية على عشرين، ومنهم من جعل الحد ما بين السبع والعشرين، والراجح كما قال ابن دقيق العيد أنه يجزئ ولو بلغ الستين وأكثر منها ما لم يصل إلى عدم الاستقلال بالهرم والله أعلم. واستدل به على عدم وجوب القصاص في القتل بالمثقل لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر فيه بالقود وإنما أمر بالدية، وأجاب من قال به بأن عمود الفسطاط يختلف بالكبر والصغر بحيث يقتل بعضه غالبا ولا يقتل بعضه غالبا، وطرد المماثلة في القصاص إنما يشرع فيما إذا وقعت الجناية بما يقتل غالبا، وفي هذا الجواب نظر، فإن الذي يظهر أنه إنما لم يوجب فيه القود لأنها لم يقصد مثلها، وشرط القود العمد وهذا إنما هو شبه العمد فلا حجة فيه للقتل بالمثقل ولا عكسه. الحديث الثاني، قوله: "حدثنا وهيب" هو ابن خالد وصرح أبو داود في روايته عن موسى بن إسماعيل شيخ البخاري به. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة، وصرح الإسماعيلي من طريق عفان عن وهيب به. قوله: "عن أبيه عن المغيرة" في رواية الإسماعيلي من طريق ابن جريج " حدثني هشام بن عروة عن أبيه أنه حدثه عن المغيرة بن شعبة أنه حدثه " قال أبو داود عقب رواية وهيب: رواه حماد بن زيد وحماد بن سلمة عن هشام عن أبيه أن عمر، يعني لم يذكر المغيرة في السند. قلت: وهي رواية عبيد الله بن موسى التي تلي حديث الباب، وساق الإسماعيلي من طريق حماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وعبيدة كلهم عن هشام نحوه، وخالف الجميع وكيع فقال: "عن هشام عن أبيه عن المسور بن مخرمة أن عمر استشار الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة " أخرجه مسلم. قوله: "عن عمر رضي الله عنه أنه استشارهم" في رواية الإسماعيلي من طريق سفيان بن عيينة " عن هشام عن أبيه عن المغيرة أن عمر". قوله: "في إملاص المرأة" في رواية المصنف في الاعتصام من طريق أبي معاوية عن هشام عن أبيه " عن المغيرة سأل عمر بن الخطاب في إملاص المرأة وهي التي تضرب بطنها فتلقي جنينها فقال: أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئا " وهذا التفسير أخص من قول أهل اللغة أن الإملاص أن تزلقه المرأة قبل الولادة أي قبل حين الولادة، هكذا نقله أبو داود في السنن عن أبي عبيد، وهو كذلك في الغريب له، وقال الخليل أملصت المرأة والناقة إذا رمت ولدها، وقال ابن القطاع أملصت الحامل ألقت ولدها، ووقع في بعض الروايات ملاص بغير ألف كأنه اسم فعل الولد فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو اسم لتلك الولادة كالخداج، ووقع عند الإسماعيلي من رواية ابن جريج عن هشام المشار إليها قال هشام الملاص للجنين، وهذا يتخرج أيضا على الحذف. وقال صاحب البارع: الإملاص الإسقاط، وإذا قبضت على شيء فسقط من يدك تقول أملص من يدي إملاصا وملص ملصا ووقع في رواية عبيد الله بن موسى التي تلي حديث الباب: "أن عمر نشد الناس من سمع النبي صلى الله عليه وسلم قضى في السقط". قوله: "قال المغيرة" كذا في رواية عبيد الله بن موسى، وفي رواية ابن عيينة " فقام المغيرة بن شعبة فقال: بلى أنا يا أمير المؤمنين " وفيه تجريد، وكان السياق يقتضي أن يقول فقلت، وقد وقع في رواية أبي معاوية المذكورة " فقلت أنا". قوله: "قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبد أو أمة" كذا

(12/250)


في رواية عفان عن وهيب باللام، وهو يؤيد رواية التنوين وسائر الروايات بغرة ومنها رواية أبي معاوية بلفظ: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها غرة عبد أو أمة". قوله: "فشهد محمد بن مسلمة أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى به" كذا في رواية وهيب مختصرا وفي رواية ابن عيينة " فقال عمر من يشهد معك؟ فقام محمد فشهد بذلك " وفي رواية وكيع " فقال ائتني بمن يشهد معك فجاء محمد بن مسلمة فشهد له " وفي رواية أبي معاوية فقال لا تبرح حتى تجيء بالمخرج مما قلت " قال فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد معي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قضى به". قوله: "حدثنا عبيد الله بن موسى عن هشام" هو ابن عروة، وهذا في حكم الثلاثيات لأن هشاما تابعي كما سبق تقريره في رواية عبيد الله بن موسى أيضا عن الأعمش في أول الديات. قوله: "عن أبيه أن عمر" هذا صورته الإرسال لكن تبين من الرواية السابقة واللاحقة أن عروة حمله عن المغيرة وإن لم يصرح به في هذه الرواية، وفي عدول البخاري عن رواية وكيع إشارة إلى ترجيح رواية من قال فيه: "عن عروة عن المغيرة " وهم الأكثر. قوله: "فقال المغيرة" كذا لأبي ذر وهو الأوجه، ولغيره: "وقال المغيرة " بالواو. قوله: "ائت بمن يشهد" كذا للأكثر بصيغة فعل الأمر من الإتيان، وحذفت عند بعضهم الباء من قوله: "بمن " ووقع في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني بألف ممدودة ثم نون ثم مثناة بصيغة استفهام الخاطب على إرادة الاستثبات أي أنت تشهد، ثم استفهمه ثانيا: من يشهد معك؟ قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله" هو محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي نسبه إلى جده، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق ابن خزيمة عن محمد بن يحيى عن محمد بن سابق، وكلام الإسماعيلي يشعر بأن البخاري أخرجه عن محمد بن سابق نفسه بلا واسطة. قوله: "أنه استشارهم في إملاص المرأة مثله" يعني مثل رواية وهيب قال ابن دقيق العيد: الحديث أصل في إثبات دية الجنين وأن الواجب فيه غرة إما عبد وإما أمة، وذلك إذا ألقته ميتا بسبب الجناية، وتصرف الفقهاء بالتقييد في سن الغرة وليس ذلك من مقتضى الحديث كما تقدم، واستشارة عمر في ذلك أصل في سؤال الإمام عن الحكم إذا كان لا يعلمه أو كان عنده شك أو أراد الاستثبات. وفيه أن الوقائع الخاصة قد تخفى على الأكابر ويعلمها من دونهم، وفي ذلك رد على المقلد إذا استدل عليه بخبر يخالفه فيجيب لو كان صحيحا لعلمه فلان مثلا فإن ذلك إذا جاز خفاؤه عن مثل عمر فخفاؤه عمن بعده أجوز، وقد تعلق بقول عمر لتأتين بمن يشهد معك من يرى اعتبار العدد في الرواية ويشترط أنه لا يقبل أقل من اثنين كما في غالب الشهادات، وهو ضعيف كما قال ابن دقيق العيد، فإنه قد ثبت قبول الفرد في عدة مواطن، وطلب العدد في صورة جزئية لا يدل على اعتباره في كل واقعة لجواز المانع الخاص بتلك الصورة أو وجود سبب يقتضي التثبت وزيادة الاستظهار ولا سيما إذا قامت قرينة وقريب من هذا قصة عمر مع أبي موسى في الاستئذان. قلت: وقد تقدم شرحها مستوفى في كتاب الاستئذان وبسط هذه المسألة أيضا هناك، ويأتي أيضا في باب إجازة خبر الواحد من كتاب الأحكام، وقد صرح عمر في قصة أبي موسى بأنه أراد الاستثبات. وقوله: "في إملاص المرأة " أصرح في وجوب بالانفصال ميتا من قوله في حديث أبي هريرة " قضى في الجنين " وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين ميتا بسبب الجناية، فلو انفصل حيا ثم مات وجب فيه القود أو الدية كاملة، ولو ماتت الأم ولم ينفصل الجنين لم يجب شيء عند الشافعية لعدم تيقن وجود الجنين، وعلى هذا هل المعتبر نفس الانفصال أو تحقق حصول الجنين؟ فيه وجهان: أصحهما الثاني، ويظهر أثره فيما لو قدت نصفين أو شق بطنها فشوهد الجنين، وأما إذا خرج رأس الجنين مثلا بعد ما ضرب

(12/251)


وماتت الأم ولم ينفصل قال ابن دقيق العيد: ويحتاج من قال ذلك إلى تأويل الرواية وحملها على أنه انفصل وإن لم يكن في اللفظ ما يدل عليه. قلت: وقع في حديث ابن عباس عند أبي داود " فأسقطت غلاما قد نبت شعره ميتا " فهذا صريح في الانفصال، ووقع مجموع ذلك في حديث الزهري، ففي رواية عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الماضية في الطب " فأصاب بطنها وهي حامل فقتل ولدها في بطنها " وفي رواية مالك في هذا الباب: "فطرحت جنينها" واستدل به على أن الحكم المذكور خاص بولد الحرة لأن القصة وردت في ذلك، وقوله: "في إملاص المرأة" وإن كان فيه عموم لكن الراوي ذكر أنه شهد واقعة مخصوصة، وقد تصرف الفقهاء في ذلك فقال الشافعية: الواجب في جنين الأمة عشر قيمة أمه كما أن الواجب في جنين الحرة عشر ديتها، وعلى أن الحكم المذكور خاص بمن يحكم بإسلامه (1) ولم يتعرض لجنين محكوم بتهوده أو تنصره، ومن الفقهاء من قاسه على الجنين المحكوم بإسلامه تبعا وليس هذا من الحديث، وفيه أن القتل المذكور لا يجري مجرى العمد والله أعلم. واستدل به على ذم السجع في الكلام، ومحل الكراهة إذا كان ظاهر التكلف، وكذا لو كان منسجما لكنه في إبطال حق أو تحقيق باطل، فأما لو كان منسجما وهو في حق أو مباح فلا كراهة، بل ربما كان في بعضه ما يستحب مثل أن يكون فيه إذعان مخالف للطاعة كما وقع لمثل القاضي الفاضل في بعض رسائله " أو إقلاع عن معصية كما وقع لمثل أبي الفرج بن الجوزي في بعض مواعظه " وعلى هذا يحمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا عن غيره من السلف الصالح، والذي يظهر لي أن الذي جاء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عن قصد إلى التسجيع وإنما جاء اتفاقا لعظم بلاغته، وأما من بعده فقد يكون كذلك وقد يكون عن قصد وهو الغالب، ومراتبهم في ذلك متفاوتة جدا. والله أعلم
ـــــــ
(1) كذا في بعض النسخ، وفي بعضها قبل قوله ولم يتعرض "ولا سلامة تبعا" ولعل فيه سقطا وتحريفا

(12/252)


باب جنين المرأة و ان العقل على الوالد
...
26- باب: جَنِينِ الْمَرْأَةِ وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى الْوَالِدِ وَعَصَبَةِ الْوَالِدِ لاَ عَلَى الْوَلَدِ
6909- حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب "عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان بغرة عبد أو أمة". "ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها"
6910- حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثنا يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على عاقلتها"
قوله: "باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد" ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور في الباب الذي قبله من وجهين، قال الإسماعيلي: هكذا ترجم أن العقل على الوالد وعصبة الوالد، وليس في الخبر إيجاب العقل على الوالد، فإن أراد الوالدة التي كانت هي الجانية فقد يكون الحكم عليها فإذا ماتت أو عاشت فالعقل على عصبتها انتهى. والمعتمد ما قال ابن بطال، مراده أن عقل المرأة المقتولة على والد القاتلة وعصبته. قلت:

(12/252)


وأبوها وعصبة أبيها عصبتها فطابق لفظ الخبر الأول في الباب وأن العقل على عصبتها، وبينه لفظ الخبر الثاني في الباب أيضا وقضى أن دية المرأة على عاقلتها وإنما ذكره بلفظ الوالد للإشارة إلى ما ورد في بعض طرق القصة وقوله: "لا على الولد " قال ابن بطال: يريد أن ولد المرأة إذا لم يكن من عصبتها لا يعقل عنها لأن العقل على العصبة دون ذوي الأرحام ولذلك لا يعقل الإخوة من الأم، قال: ومقتضى الخبر أن من يرثها لا يعقل عنها إذا لم يكن من عصبتها، وهو متفق عليه بين العلماء كما قاله ابن المنذر. قلت: وقد ذكرت قبل هذا أن في رواية أسامة بن عمير " فقال أبوها إنما يعقلها بنوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدية على العصبة".

(12/253)


27- باب مَنْ اسْتَعَانَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا وَيُذْكَرُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ بَعَثَتْ إِلَى مُعَلِّمِ الْكُتَّابِ: ابْعَثْ إِلَيَّ غِلْمَانًا يَنْفُشُونَ صُوفًا، وَلاَ تَبْعَثْ إِلَيَّ حُرًّا
6911- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ "عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَنَسًا غُلاَمٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ فَخَدَمْتُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَاللَّهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا، وَلاَ لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا"
قوله: "باب من استعان عبدا أو صبيا" كذا للأكثر بالنون. وللنسفي والإسماعيلي: "استعار" بالراء. قال الكرماني: ومناسبة الباب للكتاب أنه لو هلك وجبت قيمة العبد أو دية الحر. قوله: "ويذكر أن أم سلمة بعثت إلى معلم الكتاب" في رواية النسفي " معلم كتاب " بالتنكير. قوله: "ابعث إلي غلمانا ينفشون" هو بضم الفاء وبالشين المعجمة. قوله: "صوفا ولا تبعث إلي حرا" كذا للجمهور بكسر الهمزة وفتح اللام الخفيفة بعدها ياء ثقيلة وذكره ابن بطال بلفظ: "إلا " بحرف الاستثناء وشرحه على ذلك، وهو عكس معنى رواية الجماعة. وهذا الأثر وصله الثوري في جامعه وعبد الرزاق في مصنفه عنه عن محمد بن المنكدر عن أم سلمة وكأنه منقطع بين ابن المنكدر وأم سلمة لذلك ولم يجزم به، ثم ذكر حديث أنس في خدمته النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر بالتماس أبي طلحة من النبي صلى الله عليه وسلم وإجابته له، وأبو طلحة كان زوج أم أنس وعن رأيها فعل ذلك، وقد بينت ذلك في أول كتاب الوصايا. قال ابن بطال: إنما اشترطت أم سلمة الحر لأن جمهور العلماء يقولون من استعان حرا لم يبلغ أو عبدا بغير إذن مولاه فهلكا من ذلك العمل فهو ضامن لقيمة العبد وأما دية الحر فهي على عاقلته. قلت: وفي الفرق من هذا التعليل نظر، ونقل ابن التين ما قال ابن بطال ثم نقل عن الداودي أنه قال: يحمل فعل أم سلمة على أنها أمهم قال فعلى هذا لا فرق بين حر وعبد، ونقل عن غيره أنها إنما اشترطت أن لا يكون حرا لأنها أم لنا فمالنا كمالها وعبيدنا كعبيدها، وأما أولادنا فاجتبتهم، وقال الكرماني: لعل غرضها من منع بعث الحر إكرام الحر وإيصال العوض لأنه على تقدير هلاكه في ذلك لا تضمنه، بخلاف العبد فإن الضمان عليها لو هلك به. وفيه دليل على جواز استخدام الأحرار وأولاد الجيران فيما لا كبير مشقة فيه ولا يخاف منه التلف كما في حديث الباب، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أواخر الوصايا. قوله: "عن عبد العزيز" هو ابن صهيب، وقد تقدم منسوبا في هذا الحديث بعينه في كتاب الوصايا، ومناسبة أثر أم سلمة لقصة أنس أن في كل منهما استخدام الصغير بإذن وليه، ==بعده

========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............