السبت، 7 مايو 2022

كتاب :38- و39- فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

  كتاب :38- فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 == تحلفوا بآبائكم، قال عمر: فوالله ما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا". وأما متابعة إسحاق الكلبي وهو ابن يحيى الحمصي فوقعت لنا موصولة في نسخته المروية من طريق أبي بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان عن عبد القدوس بن موسى الحمصي عن سليم بن عبد الحميد عن يحيى بن صالح الوحاظي عن إسحاق ولفظه: "عن الزهري أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه أخبرني أن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فذكر مثل رواية يونس عند مسلم، لكن قال بعد قوله: "ينهى عنها": ولا تكلمت بها ذاكرا ولا آثرا، فجمع بين لفظ يونس ولفظ عقيل. وقد صرح مسلم بأن عقيلا لم يقل في روايته ذاكرا ولا آثرا. قوله: "وقال ابن عيينة ومعمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر" أما رواية ابن عيينة فوصلها الحميدي في مسنده عنه بهذا السياق، وكذا قال أبو بكر بن أبي شيبة وجمهور أصحاب ابن عيينة عنه منهم الإمام أحمد. وقال محمد بن يحيي بن أبي عمر العدني ومحمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وسعيد من عبد الرحمن المخزومي بهذا السند عن ابن عمر عن عمر "سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقد بين ذلك الإسماعيلي فقال: اختلف فيه على سفيان بن عيينة وعلى معمر، ثم ساقه من طريق ابن أبي عمر عن سفيان فقال في روايته: "عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه يحلف بأبيه" قال وقال عمرو الناقد وغير واحد عن سفيان بسنده إلى ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر". وأما رواية معمر فوصلها الإمام أحمد عن عبد الرزاق عنه. وأخرجها أبو داود عن أحمد. قلت: وصنيع مسلم يقتضي أن رواية معمر كذلك، فإنه صدر برواية يونس ثم ساقه إلى عقيل ثم قال بعدها "وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا أنبأنا عبد الرزاق أنبأنا معمر" ثم قال كلاهما: عن الزهري بهذا الإسناد أي الإسناد الذي ساقه ليونس مثله، أي مثل المتن الذي ساقه له. قال: غير أن في حديث عقيل "ولا تكلمت بها" لكن حكى الإسماعيلي أن إسحاق ابن إبراهيم رواه عن عبد الرزاق كرواية أحمد عنه، وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن عبد الرزاق فقال في روايته عن عمر "سمعني النبي صلى الله عليه وسلم أحلف" وهكذا قال محمد بن أبي السري عن عبد الرزاق، وذكر الإسماعيلي أن عبد الأعلى رواه عن معمر فلم يقل في السند "عن عمر" كرواية أحمد. قلت: وكذا أخرجه أحمد في مسنده من رواية عبد الأعلى قال يعقوب بن شيبة رواه إسحاق بن يحيى عن سالم عن أبيه ولم يقل عن عمر، قلت: فكان الاختلاف فيه على الزهري رواه إسحاق بن يحيى، وهو متقن صاحب حديث، ويشبه أن يكون ابن عمر سمع المتن من النبي صلى الله عليه وسلم والقصة التي وقعت لعمر منه فحدث به على الوجهين. وفي هذا الحديث من الفوائد الزجر عن الحلف بغير الله، وإنما خص في حديث عمر بالآباء لوروده على سببه المذكور، أو خص لكونه كان غالبا عليه لقوله في الرواية الأخرى "وكانت قريش تحلف بآبائها" ويدل على التعميم قوله: "من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله" وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير الله ففيه جوابان: أحدهما أن فيه حذفا والتقدير ورب الشمس ونحوه، والثاني أن ذلك يختص بالله فإذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به وليس لغيره ذلك. وأما ما وقع مما يخالف ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي "أفلح وأبيه إن صدق" فقد تقدم في أوائل هذا الشرح في "باب الزكاة من الإسلام" في كتاب الأيمان الجواب عن ذلك وأن فيهم من طعن في صحة هذه اللفظة، قال ابن عبد البر: هذه اللفظة غير محفوظة وقد جاءت عن راويها وهو إسماعيل بن جعفر بلفظ: "أفلح والله إن صدق" قال: وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ أفلح وأبيه لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح. ولم تقع في رواية مالك أصلا. وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحف قوله:

(11/533)


"وأبيه" من قوله: "والله" وهو محتمل ولكن مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال، وقد ثبت مثل ذلك من لفظ أبي بكر الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال في حقه "وأبيك ما ليلك بليل سارق" أخرجه في الموطأ وغيره قال السهيلي: وقد ورد نحو في حديث آخر مرفوع قال للذي سأل أي الصدقة أفضل فقال: "وأبيك لتنبأن" أخرجه مسلم. فإذا ثبت ذلك فيجاب بأجوبة: الأول أن هذا اللفظ كان يجرى على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف، وإلى هذا جنح البيهقي. وقال النووي: إنه الجواب المرضي. الثاني أنه كان يقع في كلامهم على وجهين: أحدهما للتعظيم والآخر للتأكيد، والنهي إنما وقع عن الأول فمن أمثلة ما وقع في كلامهم للتأكيد لا للتعظيم قول الشاعر "لعمر أبي الواشين إني أحبها" وقول الآخر.
فإن تك ليلى استودعتني أمانة ... فلا وأبي أعدائها لا أذيعها
فلا يظن أن قائل ذلك قصد تعظيم والد أعدائها كما لم يقصد الآخر تعظيم والد من وشى به، فدل على أن القصد بذلك تأكيد الكلام لا التعظيم. وقال البيضاوي: هذا اللفظ من جملة ما يزاد في الكلام لمجرد التقرير والتأكيد ولا يراد به القسم، كما تزاد صيغة النداء لمجرد الاختصاص دون القصد إلى النداء، وقد تعقب الجواب بأن ظاهر سياق حديث عمر يدل على أنه كان يحلفه لأن في بعض طرقه أنه كان يقول لا وأبي لا وأبي فقيل له لا تحلفوا، فلولا أنه أتى بصيغة الحلف ما صادف النهي محلا، ومن ثم قال بعضهم وهو الجواب الثالث: إن هذا كان جائزا ثم نسخ قاله الماوردي وحكاه البيهقي. وقال السبكي: أكثر الشراح عليه، حتى قال ابن العربي: وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهى عن ذلك. قال: وترجمة أبي داود تدل على ذلك، يعني قوله: "باب الحلف بالآباء" ثم أورد الحديث المرفوع الذي فيه: "أفلح وأبيه إن صدق" قال السهيلي ولا يصح لأنه لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحلف بغير الله ولا يقسم بكافر، تالله إن ذلك لبعيد من شيمته. وقال المنذري: دعوى النسخ ضعيفة لإمكان الجمع ولعدم تحقق التاريخ. والجواب الرابع أن في الجواب حذفا تقديره أفلح ورب أبيه قاله البيهقي، وقد تقدم. الخامس أنه للتعجب قاله السهيلي، قال: ويدل عليه أنه لم يرد بلفظ: "أبي" وإنما ورد بلفظ: "وأبيه" أو "وأبيك" بالإضافة إلى ضمير المخاطب حاضرا أو غائبا. السادس أن ذلك خاص بالشارع دون غيره من أمته، وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. وفيه أن من حلف بغير الله مطلقا لم تنعقد يمينه سواء كان المحلوف به يستحق التعظيم لمعنى غير العبادة كالأنبياء والملائكة والعلماء والصلحاء والملوك والآباء والكعبة، أو كان لا يستحق التعظيم كالآحاد، أو يستحق التحقير والإذلال كالشياطين والأصنام وسائر من عبد من دون الله، واستثنى بعض الحنابلة من ذلك الحلف بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: تنعقد به اليمين وتجب الكفارة بالحنث، فاعتل بكونه أحد ركني الشهادة التي لا تتم إلا به. وأطلق ابن العربي نسبته لمذهب أحمد وتعقبه بأن الأيمان عند أحمد لا تتم إلا بفعل الصلاة فيلزمه أن من حلف بالصلاة أن تنعقد يمينه ويلزمه الكفارة إذا حنث. ويمكن الجواب عن إيراده والانفصال عما ألزمهم به، وفيه الرد على من قال إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر أنه ينعقد يمينا ومتى فعل تجب عليه الكفارة، وقد نقل ذلك عن الحنفية والحنابلة، ووجه الدلالة من الخبر أنه لم يحلف بالله ولا بما يقوم مقام ذلك، وسيأتي مزيد لذلك بعد، وفيه أن من قال أقسمت لأفعلن كذا لا يكون يمينا؛ وعند الحنفية يكون يمينا، وكذا قال مالك وأحمد لكن بشرط أن ينوي بذلك الحلف بالله وهو متجه، وقد قال بعض الشافعية: إن قال على

(11/534)


أمانة الله لأفعلن كذا وأراد اليمين أنه يمين وإلا فلا. وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة هو خاص بالأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون به تعظيما لغير الله تعالى كاللات والعزى والآباء فهذه يأثم الحالف بها ولا كفارة فيها، وأما ما كان يؤول إلى تعظيم الله كقوله وحق النبي والإسلام والحج والعمرة والهدى والصدقة والعتق ونحوها مما يراد به تعظيم الله والقربة إليه فليس داخلا في النهي، وممن قال بذلك أبو عبيد وطائفة ممن لقيناه، واحتجوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق والهدى والصدقة ما أوجبوه مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدل على أن ذلك عندهم ليس على عمومه، إذ لو كان عاما لنهوا عن ذلك ولم يوجبوا فيه شيئا انتهى. وتعقبه ابن عبد البر بأن ذكر هذه الأشياء وإن كانت بصورة الحلف فليست يمينا في الحقيقة وإنما خرج عن الاتساع، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله. وقال المهلب: كانت العرب تحلف بآبائها وآلهتها فأراد الله نسخ ذلك من قلوبهم لينسيهم ذكر كل شيء سواه ويبقى ذكره، لأنه الحق المعبود فلا يكون اليمين إلا به، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالآباء. وقال الطبري: في حديث عمر - يعني حديث الباب - أن اليمين لا تنعقد إلا بالله وأن من حلف بالكعبة أو آدم أو جبريل ونحو ذلك لم تنعقد يمينه ولزمه الاستغفار لإقدامه على ما نهى عنه ولا كفارة في ذلك، وأما ما وقع في القرآن من القسم بشيء من المخلوقات فقال الشعبي: فالخالق يقسم بما شاء من خلقه والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق، قال: ولأن أقسم بالله فأحنث أحب إلي من أن أقسم بغيره فأبر. وجاء مثله عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر. ثم أسند عن مطرف عن عبد الله أنه قال: إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ولدلالتها على خالقها، وقد أجمع العلماء على من وجبت له يمين على آخر في حق عليه أنه لا يحلف له إلا بالله، فلو حلف له بغيره وقال نويت رب المحلوف به لم يكن ذلك يمينا. وقال ابن هبيرة في كتاب الإجماع: أجمعوا على أن اليمين منعقدة بالله وبجميع أسمائه الحسنى وبجميع صفات ذاته كعزته وجلاله وعلمه وقوته وقدرته، واستثنى أبو حنيفة علم الله فلم يره يمينا وكذا حق الله، واتفقوا على أنه لا يحلف بمعظم غير الله كالنبي، وانفرد أحمد في رواية فقال تنعقد. وقال عياض: لا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الحلف بأسماء الله وصفاته لازم إلا ما جاء عن الشافعي من اشترط نية اليمين في الحلف بالصفات وإلا فلا كفارة، وتعقب إطلاقه ذلك عن الشافعي، وإنما يحتاج إلى النية عنده ما يصح إطلاقه عليه سبحانه وتعالى وعلى غيره. وأما ما لا يطلق في معرض التعظيم شرعا إلا عليه تنعقد اليمين به وتجب الكفارة إذا حنث كمقلب القلوب وخالق الخلق ورازق كل حي ورب العالمين وفالق الحب وبارئ النسمة، وهذا في حكم الصريح كقوله والله، وفي وجه لبعض الشافعية أن الصريح الله فقط، ويظهر أثر الخلاف فيما لو قال قصدت غير الله هل ينفعه في عدم الحنث، وسيأتي زيادة تفصيل فيما يتعلق بالصفات في باب الحلف بعزة الله وصفاته، والمشهور عن المالكية التعميم، وعن أشهب التفصيل في مثل وعزة الله إن أراد التي جعلها بين عبادة فليست بيمين، وقياسه أن يطرد في كل ما يصح إطلاقه عليه وعلى غيره. وقال به ابن سحنون منهم في عزة الله. وفي العتبية أن من حلف بالمصحف لا تنعقد، واستنكره بعضهم ثم أولها على أن المراد إذا أراد جسم المصحف، والتعميم عند الحنابلة حتى لو أراد بالعلم والقدرة المعلوم والمقدور انعقدت والله أعلم. "تنبيه": وقع في رواية محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر في آخر هذا الحديث زيادة أخرجها ابن ماجه من طريقه بلفظ:" سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يحلف بأبيه فقال:

(11/535)


لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض بالله فليس من الله" وسنده حسن. حديث أبي موسى في قصة الذي حلف أن لا يأكل الدجاج وفيه قصة أبي موسى مع النبي صلى الله عليه وسلم لما استحمل النبي صلى الله عليه وسلم للأشعريين وفيه: "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت" الحديث، وقد تقدم شرح ما يتعلق بالدجاج، وبما وقع في صدر الحديث من قصة الرجل الجرمي وتسميته في كتاب الذبائح، ويأتي شرح قصته في كفارات الأيمان؛ وقوله في السند "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، وأيوب هو السختياني والقاسم التيمي هو ابن عاصم بصرى تابعي وهو من صغار شيوخ أيوب، قال ابن المنير: أحاديث الباب مطابقة للترجمة إلا حديث أبي موسى، لكن يمكن أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن أيمانه أنها تقتضي الكفارة، والذي يشرح تكفيره ما كان الحلف فيه بالله تعالى فدل على أنه لم يكن يحلف إلا بالله تعالى.

(11/536)


باب لا يحلف باللات والعزى ، ولا بالطواغيبت
...
5 - باب لاَ يُحْلَفُ بِاللاَتِ وَالْعُزَّى وَلاَ بِالطَّوَاغِيتِ
6650- حدثني عبد الله بن محمد حدثنا هشام بن يوسف أخبرنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق"
قوله: "باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت" أما الحلف باللات والعزى فذكر في حديث الباب وقد تقدم تفسيره في تفسير سورة النجم، وأما الطواغيت فوقع في حديث أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق هشام بن حسان عن الحسن البصري عن عبد الرحمن بن سمرة مرفوعا: "لا تحلفوا بالطواغيت ولا بآبائكم" وفي رواية مسلم وابن ماجه: "بالطواغي" وهو جمع طاغية والمراد الصنم، ومنه الحديث الآخر "طاغية دوس" أي صنمهم، سمى باسم المصدر لطغيان الكفار بعبادته لكونه السبب في طغيانهم، وكل من جاوز الحد في تعظيم أو غيره فقد طغى، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} ، وأما الطواغيت فهو جمع طاغوت وقد تقدم بيانه في تفسير سورة النساء، ويجوز أن يكون الطواغي مرخما من الطواغيت بدون حرف النداء على أحد الآراء، ويدل عليه مجيء أحد اللفظين موضع الآخر في حديث واحد، ولذلك اقتصر المصنف على لفظ الطواغيت لكونه الأصل وعطفه على اللات والعزى لاشتراك الكل في المعنى؛ وإنما أمر الحالف بذلك بقول لا إله إلا الله لكونه تعاطي صورة تعظيم الصنم حيث حلف به، قال جمهور العلماء: من حلف باللات والعزى أو غيرهما من الأصنام أو قال إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النبي صلى الله عليه وسلم لم تنعقد يمينه وعليه أن يستغفر الله ولا كفارة عليه ويستحب أن يقول لا إله إلا الله، وعن الحنفية تجب الكفارة إلا في مثل قوله أنا مبتدع أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم، واحتج بإيجاب الكفارة على المظاهر مع أن الظهار منكر من القول وزور كما قال الله تعال والحلف بهذه الأشياء منكر، وتعقب بهذا الخبر لأنه لم يذكر فيه إلا الأمر بلا إله إلا الله ولم يذكر فيه كفارة والأصل عدمها حتى يقام الدليل، وأما القياس على الظهار فلا يصح لأنهم لم يوجبوا فيه كفارة الظهار واستثنوا أشياء لم يوجبوا فيها كفارة أصلا مع أنه منكر من القول. وقال النووي في الأذكار: الحلف بما ذكر حرام تجب التوبة منه، وسبقه إلى ذلك الماوردي وغيره ولم يتعرضوا لوجوب قول لا إله إلا الله وهو ظاهر الخبر

(11/536)


وبه جزم ابن درباس في شرح المهذب. وقال البغوي في شرح السنة تبعا للخطابي: في هذا الحديث دليل على أن لا كفارة على من حلف بغير الإسلام وإن أثم به، لكن تلزمه التوبة لأنه صلى الله عليه وسلم أمره بكلمة التوحيد فأشار إلى أن عقوبته تختص بذنبه ولم يوجب عليه في ماله شيئا، وإنما أمره بالتوحيد لأن الحلف باللات والعزى يضاهي الكفار فأمره أن يتدارك بالتوحيد. وقال الطيبي: الحكمة في ذكر القمار بعد الحلف باللات أن من حلف باللات وافق الكفار في حلفهم فأمر بالتوحيد، ومن دعا إلى المقامرة وافقهم في لعبهم فأمر بكفارة ذلك بالتصدق. قال: وفي الحديث أن من دعا إلى اللعب فكفارته أن يتصدق، ويتأكد ذلك في حق من لعب بطريق الأولى. وقال النووي: فيه أن من عزم على المعصية حتى استقر ذلك في قلبه أو تكلم بلسانه أنه تكتبه عليه الحفظة. كذا قال، وفي أخذ هذا الحكم من هذا الدليل وقفة.

(11/537)


باب من حلف على شيء وإن لم يحلف
...
6 - باب مَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يُحَلَّفْ
6651- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَكَانَ يَلْبَسُهُ فَيَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ فَصَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لاَ أَلْبَسُهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ
قوله: "باب من حلف على الشيء وإن لم يحلف" بضم أوله وتشديد اللام، تقدم قريبا في "باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم" أمثلة كثيرة لذلك وهي ظاهرة في ذلك. حديث ابن عمر في لبس النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الذهب وفيه: "فرمى به ثم قال: والله لا ألبسه أبدا" وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر كتاب اللباس. وقد أطلق بعض الشافعية أن اليمين بغير استحلاف تكره فيما لم يكن طاعة، والأولى أن يعبر بما فيه مصلحة. قال ابن المنير: مقصود الترجمة أن يخرج مثل هذا من قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} يعني على أحد التأويلات فيها لئلا يتخيل أن الحالف قبل أن يستحلف يرتكب النهي، فأشار إلى أن النهي يختص بما ليس فيه قصد صحيح كتأكيد الحكم، كالذي ورد في حديث الباب من منع لبس خاتم الذهب.

(11/537)


7 - باب مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى مِلَّةِ الإِسْلاَمِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِاللاَتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى الْكُفْرِ"
6652- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ "عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الإِسْلاَمِ فَهُوَ كَمَا قَالَ قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ"
قوله: "باب من حلف بملة سوى الإسلام" الملة بكسر الميم وتشديد اللام الدين والشريعة، وهي نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية ومن لحق بهم من المجوسية والصابئة وأهل الأوثان

(11/537)


باب لا يقول ماشاء الله وشئت . وهل يقول أنا بالله ثم بك؟
...
8 - باب لاَ يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ وَهَلْ يَقُولُ أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ

(11/539)


6653- وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ مَلَكًا فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فَلاَ بَلاَغَ لِي إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قوله: "باب لا يقول ما شاء الله وشئت، وهل يقول أنا بالله ثم بك"؟ هكذا بت الحكم في الصورة الأولى وتوقفت في الصورة الثانية، وسببه أنها وإن كانت وقعت في حديث الباب الذي أورده مختصرا وساقه مطولا فيما مضى لكن إنما وقع ذلك من كلام الملك على سبيل الامتحان للمقول له فتطرق إليه الاحتمال. قوله: "وقال عمرو بن عاصم إلخ" وصله في ذكر بني إسرائيل فقال: "حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عمرو بن عاصم" وساقه بطوله. وقد يتمسك به من يقول أنه قد يطلق "قال" لبعض شيوخه فيما لم يسمعه منه ويكون بينهما واسطة، كأنه أشار بالصورة الأولى إلى ما أخرجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور وصححه من طريق عبد الله بن يسار بتحتانية ومهملة عن قتيلة بقاف ومثناة فوقانية والتصغير امرأة من جهينة "أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت" وأخرج النسائي وابن ماجه أيضا وأحد من رواية يزيد بن الأصم عن ابن عباس رفعه: "إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت" وفي أول حديث النسائي قصة وهي عند أحمد ولفظه: "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، فقال له: "أجعلتني والله عدلا، لا بل ما شاء الله وحده" وأخرج أحمد والنسائي وابن ماجه أيضا عن حذيفة "أن رجلا من المسلمين رأى رجلا من أهل الكتاب في المنام فقال: نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشاء محمد، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد" وفي رواية النسائي أن الراوي لذلك هو حذيفة الراوي، هذه رواية ابن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة. وقال أبو عوانة عن عبد الملك عن ربعي عن الطفيل بن سخيرة أخي عائشة بنحوه أخرجه ابن ماجه أيضا، وهكذا قال حماد بن سلمة عند أحمد وشعبة وعبد الله بن إدريس عن عبد الملك، وهو الذي رجحه الحفاظ وقالوا: إن ابن عيينة وهم في قوله عن حذيفة والله أعلم. وحكى ابن التين عن أبي جعفر الداودي قال: ليس في الحديث الذي ذكره نهى عن القول المذكور في الترجمة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} وقال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} وغير ذلك، وتعقبه بأن الذي قاله أبو جعفر ليس بظاهر لأن قوله: "ما شاء الله وشئت" تشريك في مشيئة الله تعالى، وأما الآية فإنما أخبر الله تعالى أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم وهو من الله حقيقة لأنه الذي قدر ذلك ومن الرسول حقيقة باعتبار تعاطي الفعل، وكذا الإنعام أنعم الله على زيد بالإسلام وأنعم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق، وهذا بخلاف المشاركة في المشيئة فإنها منصرفة لله تعالى في الحقيقة وإذا نسبت لغيره فبطريق المجاز وقال المهلب: إنما أراد البخاري أن قوله: "ما شاء الله ثم شئت" جائز مستدلا بقوله: "أنا بالله ثم بك" وقد جاء هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاز بدخول "ثم" لأن مشيئة الله سابقة على مشيئة خلقه، ولما لم يكن الحديث المذكور على شرطه استنبط من الحديث الصحيح الذي على شرطه ما يوافقه. وأخرج عبد الرزاق عن إبراهيم

(11/540)


النخعي أنه كان لا يرى بأسا أن يقول: "ما شاء الله ثم شئت" وكان يكره "أعوذ بالله وبك" ويجيز "أعوذ بالله ثم بك" وهو مطابق لحديث ابن عباس وغيره مما أشرت إليه. "تنبيه": مناسبة إدخال هذه الترجمة في كتاب الأيمان من جهة ذكر الحلف في بعض طرق حديث ابن عباس كما ذكرت، ومن جهة أنه قد يتخيل جواز اليمين بالله ثم بغيره على وزان ما وقع في قوله: "أنا بالله ثم بك" فأشار إلى أن النهي ثبت عن التشريك وورد بصورة الترتيب على لسان الملك وذلك فيما عدا الأيمان، أما اليمين بغير ذلك فثبت النهي عنها صريحا فلا يلحق بها ما ورد في غيرها والله أعلم.

(11/541)


9 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ "فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ فِي الرُّؤْيَا قَالَ لاَ تُقْسِمْ"
6654- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ "عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ"
6655- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ يُحَدِّثُ "عَنْ أُسَامَةَ أَنَّ بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسَعْدٌ وَأُبَيٌّ أَنَّ ابْنِي قَدْ احْتُضِرَ فَاشْهَدْنَا فَأَرْسَلَ يَقْرَأُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ "إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَتَحْتَسِبْ" فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ فَلَمَّا قَعَدَ رُفِعَ إِلَيْهِ فَأَقْعَدَهُ فِي حَجْرِهِ وَنَفْسُ الصَّبِيِّ جُئِّثُ فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "هَذِهِ رَحْمَةٌ يَضَعُهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"
6656- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ"
6657- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ "سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ وَأَهْلِ النَّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ عُتُلٍّ مُسْتَكْبِرٍ"
قوله: "باب قول الله تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} قال الراغب وغيره: القسم بفتحتين الحلف، وأصله من القسامة وهي الأيمان التي على أولياء المقتول، ثم استعمل في كل حلف. قال الراغب ومعنى {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أنهم اجتهدوا في حلفهم فأتوا به على أبلغ ما في وسعهم انتهى، وهذا يدفع ما فهمه المهلب فيما حكاه ابن بطال عنه

(11/541)


من هذه الآية أنها تدل على أن الحلف بالله أكبر الأيمان لأن الجهد أكبر المشقة ففهم من قوله جهد أيمانهم أن اليمين بالله غاية الجهد، والذي قاله الراغب أظهر، وقد قال أهل اللغة: إن القسامة مأخوذة من القسمة لأن الأيمان تقسم على أولياء القتيل، وسيأتي مزيد لذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال ابن عباس قال أبو بكر: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت في الرؤيا، قال: لا تقسم" هذا طرف مختصر من الحديث الطويل الآتي في كتاب التعبير من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف من السمن والعسل" الحديث وفيه تعبير أبي بكر لها وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: "فأخبرني يا رسول الله أصبت أم أخطأت؟ قال: "أصبت بعضا أو أخطأت بعضا، قال فوالله إلخ" فقوله هنا: "في الرؤيا" من كلام المصنف إشارة إلى ما اختصره من الحديث؛ وتقديره في قصة الرؤيا التي رآها الرجل وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فعبرها أبو بكر إلخ؛ وسيأتي شرحه هناك، والغرض منه هنا قوله: "لا تقسم" موضع قوله لا تحلف فأشار إلى الرد على من قال إن من قال أقسمت انعقدت يمينا ولأنه لو قال بدل أقسمت حلفت لم تنعقد اتفاقا إلا إن نوى اليمين أو قصد الإخبار بأنه سبق منه حلف، وأيضا فقد أمر صلى الله عليه وسلم بإبرار القسم، فلو كان أقسمت يمينا لأبر أبا بكر حين قالها، ومن ثم أورد حديث البراء عقبه، ولهذا أورد حديث حارثة آخر الباب: "لو أقسم على الله لأبره" إشارة إلى أنها لو كانت يمينا لكان أبو بكر أحق بأن يبر قسمه لأنه رأس أهل الجنة من هذه الأمة، وأما حديث أسامة في قصة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أنها أقسمت حقيقة، فقد تقدم في الجنائز بلفظ: "تقسم عليه ليأتينها" والله أعلم. قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال أقسمت بالله أو أقسمت مجردة فقال قوم هي يمين وإن لم يقصد، وممن روى ذلك عنه ابن عمر وابن عباس وبه قال النخعي والثوري والكوفيون. وقال الأكثرون لا تكون يمينا إلا أن ينوي. وقال مالك: أقسمت بالله يمينا وأقسمت مجردة لا تكون يمينا إلا إن نوى. وقال الإمام الشافعي: المجردة لا تكون يمينا أصلا ولو نوى، وأقسمت بالله إن نوى تكون يمينا. وقال إسحاق: لا تكون يمينا أصلا. وعن أحمد كالأول وعنه كالثاني وعنه إن قال قسما بالله فيمين جزما لان التقدير أقسمت بالله قسما، وكذا لو قال إلية بالله، قال ابن المنير في الحاشية: مقصود البخاري الرد على من لم يجعل القسم بصيغة أقسمت يمينا: قال: فذكر الآية وقد قرن فيها القسم بالله ثم بين أن هذا الاقتران ليس شرطا بالأحاديث فإن فيها أن هذه الصيغة بمجردها تكون يمينا تتصف بالبر وبالندب إلى إبرارها من غير الخلف، ثم ذكر من فروع هذه المسألة: لو قال أقسم بالله عليك لتفعلن فقال نعم هل يلزمه يمين بقوله نعم وتجب الكفارة إن لم يفعل انتهى، وفيما قال نظر، والذي يظهر أن مراد البخاري أن يقيد ما أطلق في الأحاديث بما قيد به في الآية والعلم عند الله تعالى. قوله: "بإبرار المقسم" أي بفعل ما أراده الحالف ليصير بذلك بارا، وهذا أيضا طرف من حديث أورده المصنف مطولا ومختصرا في مواضع بينتها وذكرت كيفية ما أخرجها في كتاب اللباس وفي أول كتاب الاستئذان، واختلف في ضبط السين فالمشهور أنها بالكسر وضم أوله على أنه اسم فاعل، وقيل بفتحها أي الأقسام، والمصدر قد يأتي للمفعول مثل أدخلته مدخلا بمعنى الإدخال وكذا أخرجته. وأشعث المذكور في السند هو ابن أبي الشعثاء وسفيان في الطريق الأولى هو الثوري. حديث أسامة وهو ابن زيد بن حارثة الصحابي ابن الصحابي مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو عثمان

(11/542)


الراوي عنه هو عبد الرحمن بن مل النهدي. قوله: "إن ابنة" في رواية الكشميهني: "إن بنتا" وقد تقدم اسمها في كتاب الجنائز. قوله: "ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة" فيه تجريد لأن الظاهر أن يقول وأنا معه، وقد تقدم في الطب بلفظ: "أرسلت إليه وهو معه". قوله: "وسعد" هو معطوف على أسامة، ومضى في الجنائز بلفظ: "ومعه سعد بن عبادة" قوله: "وأبي أو أبي" قال الكرماني أحدهما بلفظ المضاف إلى المتكلم والآخر بضم أوله وفتح الموحدة وتشديد الياء يريد ابن كعب، قال ويحتمل أن يكون بلفظ المضاف مكررا كأنه قال ومعه سعد وأبي أو أبي فقط. قلت: والأول هو المعتمد، والثاني وإن احتمل لكنه خلاف الواقع. فقد تقدم في الجنائز بلفظ ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال. والذي تحرر لي أن الشك في هذا من شعبة، فإنه لم يقع في رواية غيره ممن رواه عن عاصم. قوله: "تقعقع" أي تضطرب وتتحرك، وقيل معناه كلما صار إلى حال لم يلبث أن يصير إلى غيرها وتلك حالة المحتضر. قوله: "ما هذا" قيل هو استفهام عن الحكم لا للإنكار، وقد تقدمت سائر مباحث هذا الحديث في كتاب الجنائز. حديث أبي هريرة "إلا تحلة القسم" بفتح التاء وكسر المهملة وتشديد اللام أي تحليلها، والمعنى أن النار لا تمس من مات له ثلاثة من الولد فصبر إلا بقدر الورود، قال ابن التين وغيره: والإشارة بذلك إلى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وقد قيل إن القسم فيه مقدر، وقيل بل هو مذكور عطفا على ما بعد قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ} وقد تقدم شرح الحديث أيضا مستوفي في كتاب الجنائز. حديث حارثة بن وهب وهو بالحاء المهملة وبالمثلثة. قوله: "ألا أدلكم على أهل الجنة إلخ" قال الداودي: المراد أن كلا من الصنفين في محله المذكور لا أن كلا من الدارين لا يدخلها إلا من كان من الصنفين فكأنه قيل كل ضعيف في الجنة وكل جواظ في النار، ولا يلزم أن لا يدخلها غيرهما. قوله: "كل ضعيف" قال أبو البقاء: كل بالرفع لا غير، والتقدير هم كل ضعيف إلخ، والمراد بالضعيف الفقير والمستضعف بفتح العين المهملة، وغلط من كسرها لأن المراد أن الناس يستضعفونه ويقهرونه ويحقرونه، وذكر الحاكم في "علوم الحديث" أن ابن خزيمة سئل من المراد بالضعيف هنا؟ فقال: هو الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة في اليوم عشرين مرة إلى خمسين مرة. وقال الكرماني: يجوز الكسر ويراد به المتواضع المتذلل، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفي في تفسير سورة ن، ونقل ابن التين عن الداودي أن الجواظ هو الكثير اللحم الغليظ الرقبة. وقوله: "لو أقسم على الله لأبره" أي لو حلف بمينا على شيء أن يقع طمعا في كرم الله بإبراره لأبره وأوقعه لأجله، وقيل هو كناية عن إجابة دعائه.

(11/543)


باب إذا قال : أشهد بالله ، أوشهدت بالله
...
10 - باب إِذَا قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَوْ شَهِدْتُ بِاللَّهِ
6658- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ " قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ" قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ"
قوله: "باب إذا قال أشهد بالله أو شهدت بالله" أي هل يكون حالفا؟ وقد اختلف في ذلك فقال الحنفية والحنابلة نعم وهو قول النخعي والثوري، والراجح عند الحنابلة ولو لم يقل بالله أنه يمين، وهو قول ربيعة

(11/543)


والأوزاعي، وعند الشافعية لا يكون يمينا إلا إن أضاف إليه بالله، ومع ذلك فالراجح أنه كناية فيحتاج إلى القصد وهو نص الشافعي في المختصر لأنها تحتمل أشهد بأمر الله أو بوحدانية الله، وهذا قول الجمهور، وعن مالك كالروايات الثلاث، واحتج من أطلق بأنه ثبت في العرف والشرع في الأيمان، قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ} ثم قال: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} فدل على أنهما استعملوا ذلك في اليمين، وكذا ثبت في اللعان، والجواب أن هذا خاص باللعان فلا يقاس عليه والأول ليس صريحا لاحتمال أن يكون حلفوا مع ذلك، واحتج بعضهم بما أخرجه ابن ماجه من حديث رفاعة بن عوانة "كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يحلف بها أشهد عند الله والذي نفسي بيده" وأجيب بأن في سنده ضعيفا وهو عبد الملك بن محمد الصنعاني، وعلى تقدير ثبوته فسياقه يقتضي أن مجموع ذلك يمين لا يمينان والله أعلم. وقال أبو عبيد: الشاهد يمين الحالف، فمن قال أشهد فليس بيمين ومن قال أشهد بالله فهو يمين، وقد قرأ الضحاك {اتَّخَذُوْا إيْمَانَهٌمْ} بكسر الهمزة وهي تدفع قول من حمل الشهادة على اليمين، وإلى ذلك أشار البخاري حيث أورد حديث الباب: "تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" فإنه ظاهر في المغايرة بين الشهادة والحلف. حديث الباب: "تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الشهادات، وشيبان في السند هو ابن عبد الرحمن ومنصور هو ابن المعتمر وإبراهيم هو النخعي وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: "تسبق شهادة أحدهم يمينه" قال الطحاوي أي يكثرون الأيمان في كل شيء حتى يصير لهم عادة فيحلف أحدهم حيث لا يراد منه اليمين ومن قبل أن يستحلف. وقال غيره: المراد يحلف على تصديق شهادته قبل أدائها أو بعده، وهذا إذا صدر من الشاهد قبل الحكم سقطت شهادته. وقيل المراد التسرع إلى الشهادة واليمين والحرص على ذلك حتى لا يدري بأيهما يبدأ لقلة مبالاته. قوله: "قال إبراهيم" هو النخعي، وهو موصول بالسند المتقدم. قوله: "وكان أصحابنا" يعني مشايخه ومن يصلح منه اتباع قوله، وتقدم في الشهادات بلفظ: "يضربوننا" بدل "ينهونا". قوله: "أن نحلف بالشهادة والعهد" أي أن يقول أحدنا أشهد بالله أو على عهد الله، قاله ابن عبد البر وتقدم البحث فيه في كتاب الشهادات.

(11/544)


باب عهد الله عزوجل
...
11 - باب عَهْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
6659- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ يَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَوْ قَالَ أَخِيهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهُ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ…}
6660- قَالَ سُلَيْمَانُ فِي حَدِيثِهِ فَمَرَّ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ قَالُوا لَهُ فَقَالَ الأَشْعَثُ نَزَلَتْ فِيَّ وَفِي صَاحِبٍ لِي فِي بِئْرٍ كَانَتْ بَيْنَنَا"
قوله: "باب عهد الله عز وجل" أي قول القائل: على عهد الله لأفعلن كذا. قال الراغب: العهد حفظ الشيء ومراعاته، ومن ثم قيل للوثيقة عهدة. ويطلق عهد الله على ما فطر عليه عباده من الإيمان به عند أخذ الميثاق، ويراد به أيضا ما أمر به في الكتاب والسنة مؤكدا وما التزمه المرء من قبل نفسه كالنذر. قلت: وللعهد معان

(11/544)


أخرى غير هذه كالأمان والوفاء والوصية واليمين ورعاية الحرمة والمعرفة واللقاء عن قرب والزمان والذمة وبعضها قد يتداخل والله أعلم. وقال ابن المنذر: من حلف بالعهد فحنث لزمه الكفارة سواء نوى أم لا عند مالك والأوزاعي والكوفيين، وبه قال الحسن والشعبي وطاوس وغيرهم. قلت: وبه قال أحمد. وقال عطاء والشافعي وإسحاق وأبو عبيد: لا تكون يمينا إلا إذ نوى، وقد تقدم في أوائل كتاب الإيمان النقل عن الشافعي فيمن قال أمانة الله مثله، وأغرب إمام الحرمين فادعى اتفاق العلماء على ذلك، ولعله أراد من الشافعية ومع ذلك فالخلاف ثابت عندهم كما حكاه الماوردي وغيره عن أبي إسحاق المروزي واحتج للمذهب بأن عهد الله يستعمل في وصيته لعباده باتباع أوامره وغير ذلك كما ذكر فلا يحمل على اليمين إلا بالقصد. وقال الشافعي: إذا قال على عهد الله احتمل أن يريد معهوده وهو وصيته فيصير كقوله على فرض الله أي مفروضة فلا يكون يمينا، لأن اليمين لا تنعقد بمحدث، فإن نوى بقوله عهد الله اليمين انعقدت. وقال ابن المنذر: قد قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} فمن قال على عهد الله صدق لأن الله أخبر أنه أخذ علينا العهد فلا يكون ذلك يمينا إلا إن نواه، واحتج الأولون بأن العرف قد صار جاريا به فحمل على اليمين. وقال ابن التين: هذا لفظ يستعمل على خمسة أوجه: الأول على عهد الله، والثاني وعهد الله، الثالث عهد الله، الرابع أعاهد الله، الخامس على العهد. وقد طرد بعضهم ذلك في الجميع وفصل بعضهم فقال: لا شيء في ذلك إلا إن قال على عهد الله ونحوها وإلا فليست بيمين نوى أو لم ينو. حديث عبد الله وهو ابن مسعود والأشعث بن قيس في نزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} وسليمان في السند هو الأعمش ومنصور هو ابن المعتمر، وسيأتي شرحه مستوفى بعد خمسة أبواب، والله أعلم.

(11/545)


12 - باب الْحَلِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ وَقَالَ أَيُّوبُ وَعِزَّتِكَ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ"
6661- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ" رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ.
قوله: "باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلامه" كذا لأبي ذر، ولغيره: "وكلماته" وفي هذه الترجمة عطف العام على الخاص والخاص على العام لأن الصفات أعم من العزة والكلام، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر "باب لا تحلفوا بآبائكم" إلى أن الأيمان تنقسم إلى صريح وكناية ومتردد بينهما وهو الصفات وأنه اختلف هل يلتحق بالصريح فلا يحتاج إلى قصد أو لا فيحتاج، والراجح أن صفات الذات منها يلتحق بالصريح فلا تنفع معها التورية

(11/545)


إذا تعلق به حق آدمي، وصفات الفعل تلتحق بالكناية، فعزة الله من صفات الذات وكذا جلاله وعظمته. قال الشافعي فيما أخرجه البيهقي في المعرفة: من قال وحق الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله يريد اليمين أو لا يريده فهي يمين انتهى. وقال غيره: والقدرة تحتمل صفة الذات فتكون اليمين صريحة وتحتمل إرادة المقدور فتكون كناية كقول من يتعجب من الشيء: انظر إلى قدرة الله، وكذا العلم كقوله: اللهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك. قوله: "وقال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أعوذ بعزتك" هذا طرف من حديث وصله المؤلف في التوحيد من طريق يحيى بن يعمر عن ابن عباس وسيأتي شرحه هناك، ووجه الاستدلال به على الحلف بعزة الله أنه وإن كان بلفظ الدعاء لكنه لا يستعاذ إلا بالله أو بصفة من صفات ذاته، وخفي هذا على ابن التين فقاله: ليس فيه جواز الحلف بالصفة كما بوب عليه. ثم وجدت في حاشية ابن المنير ما نصه، قوله أعوذ بعزتك دعاء وليس بقسم، ولكنه لما كان المقرر أنه لا يستعاذ إلا بالقديم ثبت بهذا أن العزة من الصفات القديمة لا من صفة الفعل فتنعقد اليمين بها. قوله: "وقال أبو هريرة إلخ" وفيه: "وقال أبو سعيد قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله: لك ذلك وعشرة أمثاله" وهو مختصر من الحديث الطويل في صفة الحشر وقد تقدم شرحه مستوفي في أواخر الرقاق، والغرض منها قول الرجل لا وعزتك لا أسألك غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك مقررا له فيكون حجة في ذلك. قوله: "وقال أيوب عليه السلام: وعزتك لا غنى لي عن بركتك" كذا للأكثر، ووقع لأبي ذر عن غير الكشميهني: "لا غناء" بفتح أوله والمد، والأول أولى فإن معنى الغناء بالمد الكفاية يقال ما عند فلان غناء أي لا يغتنى به، وهو أيضا طرف من حديث تقدم في كتاب الطهارة من رواية أبي هريرة وأوله "أن أيوب كان يغتسل فخر عليه جراد من ذهب" الحديث، ووجه الدلالة منه أن أيوب عليه السلام لا يحلف إلا بالله وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عنه وأقره. قوله: "شيبان" هو ابن عبد الرحمن. قوله: "فتقول قط قط وعزتك" تقدم شرحه مستوفي في تفسير سورة ق والقول فيه ما تقدم، وحكى الداودي عن بعض المفسرين أنه قال في قول جهنم "هل من مزيد" معناه ليس في مزيد قال ابن التين وحديث الباب يرد عليه. قوله: "رواه شعبة عن قتادة" وصل روايته في تفسير ق وأشار بذلك إلى أن الرواية الموصولة عن أنس بالعنعنة، لكن شعبة ما كان يأخذ عن شيوخه الذين ذكر عنهم التدليس إلا ما صرحوا فيه بالتحديث. "تنبيه": لمح المصنف بهذه الترجمة إلى رد ما جاء عن ابن مسعود من الزجر عن الحلف بعزة الله، ففي ترجمة عون بن عبد الله بن عتبة من "الحلية لأبي نعيم" من طريق عبد الله بن رجاء عن المسعودي عن عون قال: "قال عبد الله: لا تحلفوا بحلف الشيطان أن يقول أحدكم وعزة الله ولكن قولوا كما قال الله تعالى رب العزة" انتهى. وفي المسعودي ضعف، وعون عن عبد الله منقطع، وسيأتي الكلام على العزة في باب مفرد من كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(11/546)


13 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لَعَمْرُ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَعَمْرُكَ لَعَيْشُكَ
6662- حَدَّثَنَا الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ "عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ

(11/546)


وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ وَفِيهِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ"
قوله: "باب قول الرجل لعمر الله" أي هل يكون يمينا، وهو مبني على تفسير "لعمر" ولذلك ذكر أثر ابن عباس، وقد تقدم في تفسير سورة الحجر وأن ابن أبي حاتم وصله. وأخرج أيضا عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ} أي حياتك، قال الراغب: العمر بالضم وبالفتح واحد ولكن خص الحلف بالثاني قال الشاعر "عمرك الله كيف يلتقيان" أي سألت الله أن يطيل عمرك. وقال أبو القاسم الزجاج: العمر الحياة، فمن قال لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله، واللام للتوكيد والخبر محذوف أي ما أقسم به، ومن ثم قال المالكية والحنفية: تنعقد بها اليمين لأن بقاء الله من صفة ذاته. وعن مالك لا يعجبني الحلف بذلك. وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مصنفه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: كانت يمين عثمان بن أبي العاص لعمري. وقال الشافعي وإسحاق: لا تكون يمينا إلا بالنية لأنه يطلق على العلم وعلى الحق، وقد يراد بالعلم المعلوم وبالحق ما أوجبه الله. وعن أحمد كالمذهبين، والراجح عنه كالشافعي وأجابوا عن الآية بأن لله أن يقسم من خلقه بما شاء وليس ذلك لهم لثبوت النهي عن الحلف بغير الله. وقد عد الأئمة ذلك في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا فإن اللام ليست من أدوات القسم لأنها محصورة في الواو والباء والتاء كما تقدم بيانه في "باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم". الحديث طرف من حديث الإفك والغرض منه قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة "لعمر الله لنقتلنه" وقد مضى شرح الحديث مستوفى في تفسير النور، وتقدم في أواخر الرقاق في الحديث الطويل من رواية لقيط بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعمر إلهك" وكررها، وهو عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند وعند غيره.

(11/547)


باب { لا يؤخذكم الله باللغو في أيمانكم ،ولكن يؤخذكم...} الخ
...
14 - باب {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
6663- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَ قَالَتْ أُنْزِلَتْ فِي قَوْلِهِ لاَ وَاللَّهِ بَلَى وَاللَّهِ"
قوله: "باب {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، ولغيره بدل قوله الآية {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ويستفاد منه أن المراد في هذه الترجمة آية البقرة، فإن آية المائدة ذكرها في أول كتاب الأيمان كما تقدم، ومضى هناك تفسير اللغو، وتمسك الشافعي فيه بحديث عائشة المذكور في الباب لكونها شهدت التنزيل فهي أعلم من غيرها بالمراد، وقد جزمت بأنها نزلت في قوله: "لا والله وبلى والله" ويؤيده ما أخرجه الطبري من طريق الحسن البصري مرفوعا في قصة الرماة وكان أحدهم إذا رمى حلف أنه أصاب فيظهر أنه أخطأ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيمان الرماة لغو لا كفارة لها ولا عقوبة" وهذا لا يثبت لأنهم كانوا لا يعتمدون مراسيل الحسن لأنه كان يأخذ عن كل أحد، وعن أبي حنيفة وأصحابه وجماعة: لغو اليمين أن يحلف على الشيء يظنه ثم يظهر خلافه فيختص بالماضي، وقيل يدخل أيضا في المستقبل بأن يحلف على شيء ظنا منه ثم يظهر بخلاف ما حلف، وبه قال

(11/547)


ربيعة ومالك ومكحول والأوزاعي والليث، وعن أحمد روايتان ونقل ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وعن القاسم وعطاء والشعبي وطاوس والحسن نحو ما دل عليه حديث عائشة، وعن أبي قلابة لا والله وبلى والله لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين وهي من صلة الكلام، ونقل إسماعيل القاضي، عن طاوس لغو اليمين أن يحلف وهو غضبان، وذكر أقوالا أخرى عن بعض التابعين، وجملة ما يتحصل من ذلك ثمانية أقوال من جملتها قول إبراهيم النخعي أنه يحلف على الشيء لا يفعله ثم ينسى فيفعله أخرجه الطبري، وأخرجه عبد الرزاق عن الحسن مثله، وعنه هو كقول الرجل والله إنه لكذا وهو يظن أنه صادق ولا يكون كذلك. وأخرج الطبري من طريق طاوس عن ابن عباس أن يحلف وهو غضبان، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يحرم ما أحل الله له، وهذا يعارضه الخبر الثابت عن ابن عباس كما تقدم في موضعه أنه تجب فيه كفارة يمين، وقيل هو أن يدعو على نفسه إن فعل كذا ثم يفعله وهذا هو يمين المعصية وسيأتي البحث فيه بعد ثلاثة أبواب. قال ابن العربي: القول بأن لغو اليمين هو المعصية باطل لأن الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة والحالف على فعل، المعصية تنعقد يمينه ويقال له لا تفعل وكفر عن يمينك فإن خالف وأقدم على الفعل أثم وبر في يمينه. قلت: الذي قال ذلك قال إنها في الثانية لا تنعقد أصلا فلذلك قال إنها لغو، قال ابن العربي ومن قال إنها يمين الغضب يرده ما ثبت في الأحاديث يعني مما ذكر في الباب وغيرها، ومن قال دعاء الإنسان على نفسه إن فعل كذا أو لم يفعل فاللغو إنما هو في طريق الكفارة وهي تنعقد وقد يؤاخذ بها لثبوت النهي عن دعاء الإنسان على نفسه ومن قال إنها اليمين التي تكفر فلا يتعلق به فإن الله رفع المؤاخذة عن اللغو مطلقا فلا إثم فيه ولا كفارة فكيف يفسر اللغو بما فيه الكفارة وثبوت الكفارة يقتضي وجود المؤاخذة حتى أن من وجب عليه الكفارة فخالف عوقب. قوله: "يحيى" هو القطان، قال ابن عبد البر تفرد يحيى القطان عن هشام بذكر السبب في نزول الآية قلت: قد صرح بعضهم برفعه عن عائشة أخرجه أبو داود من رواية إبراهيم الصائغ عن عطاء عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لغو اليمين هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله" وأشار أبو داود إلى أنه اختلف على عطاء وعلى إبراهيم في رفعه ووقفه، وقد أخرج ابن أبي عاصم من طريق الزبيدي وابن وهب في جامعه عن يونس وعبد الرزاق في مصنفه عن معمر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة: لغو اليمين ما كان في المراء والهزل والمراجعة في الحديث الذي كان يعقد عليه القلب، وهذا موقوف ورواية يونس تقارب الزبيدي، ولفظ معمر أنه القوم يتدارؤن يقول أحدهم لا والله وبلى والله وكلا والله ولا يقصد الحلف وليس مخالفا للأول وهو المعتمد. وأخرج ابن وهب عن الثقة عن الزهري بهذا السند هو الذي يحلف على الشيء لا يريد به إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه، وهذا يوافق القول الثاني، لكنه ضعيف من أجل هذا المبهم شاذ لمخالفة من هو أوثق منه وأكثر عددا.

(11/548)


15 - باب إِذَا حَنِثَ نَاسِيًا فِي الأَيْمَانِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وَقَالَ {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}
6664- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ

(11/548)


قَالَ "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ"
6665- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا لِهَؤُلاَءِ الثَّلاَثِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ يَوْمَئِذٍ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ"
6666- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ "لاَ حَرَجَ" قَالَ آخَرُ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ "لاَ حَرَجَ" قَالَ آخَرُ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ " لاَ حَرَجَ"
6667- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ سَلَّمَ فَقَالَ وَعَلَيْكَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ فَأَعْلِمْنِي قَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا"
6668- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ فَصَرَخَ إِبْلِيسُ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ فَقَالَ أَبِي أَبِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا انْحَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ عُرْوَةُ فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ"
6669- حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَوْفٌ عَنْ خِلاَسٍ وَمُحَمَّدٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ"
6670- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ فَمَضَى فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ انْتَظَرَ النَّاسُ

(11/549)


تَسْلِيمَهُ فَكَبَّرَ وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَسَلَّمَ"
6671- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ "عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ صَلاَةَ الظُّهْرِ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا قَالَ مَنْصُورٌ لاَ أَدْرِي إِبْرَاهِيمُ وَهِمَ أَمْ عَلْقَمَةُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَصُرَتْ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ قَالَ "وَمَا ذَاكَ" قَالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ "هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ لِمَنْ لاَ يَدْرِي زَادَ فِي صَلاَتِهِ أَمْ نَقَصَ فَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ فَيُتِمُّ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ"
6672- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ "حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا قَالَ كَانَتْ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا"
6673- قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ "قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَكَانَ عِنْدَهُمْ ضَيْفٌ لَهُمْ فَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ لِيَأْكُلَ ضَيْفُهُمْ فَذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الذَّبْحَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي عَنَاقٌ جَذَعٌ عَنَاقُ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَكَانَ ابْنُ عَوْنٍ يَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ وَيُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَيَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَيَقُولُ لاَ أَدْرِي أَبَلَغَتْ الرُّخْصَةُ غَيْرَهُ أَمْ لاَ رَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6674- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ "سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ عِيدٍ ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ قَالَ "مَنْ ذَبَحَ فَلْيُبَدِّلْ مَكَانَهَا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ"
قوله: "باب إذا حنث ناسيا في الأيمان" أي هل تجب عليه الكفارة أو لا؟ قوله: "وقول الله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به" كذا لأبي ذر ولغيره: "وليس" بثبوت الواو في أوله، وقد تمسك بهذه الآية من قال بعدم حنث من لم يتعمد وفعل المحلوف عليه ناسيا أو مكرها، ووجه بأنه لا ينسب فعله إليه شرعا لرفع حكمه عنه بهذه الآية فكأنه لم يفعله. قوله: "لا تؤاخذني بما نسيت" قال المهلب: حاول البخاري في إثبات العذر بالجهل والنسيان ليسقط الكفارة، والذي يلائم مقصوده من أحاديث الباب الأول وحديث: "من أكل ناسيا" وحديث نسيان التشهد الأول وقصة موسى فإن الخضر عذره بالنسيان وهو عبد من عباد الله فالله أحق بالمسامحة، قال وأما

(11/550)


بقية الأحاديث ففي مساعدتها على مراده نظر. قلت: ويساعده أيضا حديث عبد الله بن عمرو وحديث ابن عباس في تقديم بعض النسك على بعض فإنه لم يأمر فيه بالإعادة بل عذر فاعله بجهل الحكم. وقال غيره: بل أورد البخاري أحاديث الباب على الاختلاف إشارة إلى أنها أصول أدلة الفريقين ليستنبط كل أحد منها ما يوافق مذهبه كما صنع في حديث جابر في قصة جمله فإنه أورد الطرق على اختلافها وان كان قد بين في الآخر أن إسناد الاشتراط أصح، وكذا قول الشعبي في قدر الثمن؛ وبهذا جزم ابن المنير في الحاشية فقال: أورد الأحاديث المتجاذبة ليفيد الناظر مظان النظر، ومن ثم لم يذكر الحكم في الترجمة بل أفاد مراد الحكم والأصول التي تصلح أن يقاس عليها، وهو أكثر إفادة من قول المجتهد في المسألة قولان وإن كان لذلك فائدة أيضا انتهى ملخصا. والذي يظهر لي أن البخاري يقول بعدم الكفارة مطلقا، وتوجيه الدلالة من الأحاديث التي ساقها ممكن. وأما ما يخالف ظاهر ذلك فالجواب عنه ممكن: فمنها الدية في قتل الخطأ ولولا أن حذيفة أسقطها لكانت له المطالبة بها، والجواب أنها من خطاب الوضع وليس الكلام فيه. ومنها إبدال الأضحية التي ذبحت قبل الوقت، والجواب أنها من جنس الذي قبله. ومنها حديث المسيء صلاته فإنه لو لم يعذره بالجهل لما أقره على إتمام الصلاة المختلة، لكنه لما رجا أنه يتفطن لما عابه عليه أمره بالإعادة فلما علم أنه فعل ذلك عن جهل بالحكم علمه، وليس في ذلك متمسك لمن قال بوجوب الكفارة في صورة النسيان، وأيضا فالصلاة إنما تتقوم بالأركان فكل ركن اختل منها اختلت به ما لم يتدارك، وإنما الذي يناسب ما لو فعل ما يبطل الصلاة بعده أو تكلم به فإنها لا تبطل عند الجمهور كما دل عليه حديث أبي هريرة في الباب: "من أكل أو شرب ناسيا" قال ابن التين: أجرى البخاري قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} في كل شيء. وقال غيره: هي في قصة مخصوصة وهي ما إذا قال الرجل يا بني وليس هو ابنه، وقيل إذا أتى امرأته حائضا وهو لا يعلم، قال: والدليل على عدم التعميم أن الرجل إذا قتل خطأ تلزمه الدية وإذا أتلف مال غيره خطأ فإنه يلزمه انتهى. وانفصل غيره بأن المتلفات من خطاب الوضع والذي يتعلق بالآية ما يدخل في خطاب التكليف، ولو سلم أن الآية نزلت فيما ذكر لم يمنع ذلك من الاستدلال بعمومها، وقد أجمعوا على العمل بعمومها في سقوط الإثم، وقد اختلف السلف في ذلك على مذاهب ثالثها التفرقة بين الطلاق والعتاق فتجب فيه الكفارة مع الجهل والنسيان بخلاف غيرهما من الأيمان فلا تجب، وهذا قول عن الإمام الشافعي ورواية عن أحمد، والراجح عند الشافعية التسوية بين الجميع في عدم الوجوب، وعن الحنابلة عكسه وهو قول المالكية والحنفية. وقال ابن المنذر: كان أحمد يوقع الحنث في النسيان في الطلاق حسب ويقف عما سوى ذلك. قوله: "زرارة بن أوفى" هو قاضي البصرة مات وهو ساجد أورده الترمذي وكان ذلك سنة ثلاث وتسعين. قوله: "عن أبي هريرة يرفعه" سبق في العتق من رواية سفيان عن مسعر بلفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بدل قوله هنا يرفعه، وكذا لمسلم من طريق وكيع. وللنسائي والإسماعيلي من طريق عبد الله بن إدريس كلاهما عن مسعر بلفظ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال الكرماني: إنما قال يرفعه ليكون أعم من أن يكون سمعه منه أو من صحابي آخر سمعه منه. قلت: ولا اختصاص لذلك بهذه الصيغة بل مثله في قوله قال وعن، وإنما يرتفع الاحتمال إذا قال سمعت ونحوها، وذكر الإسماعيلي أن وكيعا رواه عن مسعر فلم يرفعه قال والذي رفعه ثقة فيجب المصير إليه. قوله: "عن أبي هريرة" لم أقف على التصريح بسماع زرارة لهذا الحديث من أبي هريرة، لكنه لم

(11/551)


يوصف بالتدليس فيحمل على السماع. وذكر الإسماعيلي أن الفرات بن خالد أدخل بين زرارة وبين أبي هريرة في هذا الإسناد رجلا من بني عامر، وهو خطأ فإن زرارة من بني عامر فكأنه كان فيه عن زرارة رجل من بني عامر فظنه آخر أبهم وليس كذلك. قوله: "لأمتي" في رواية هشام عن قتادة "تجاوز عن أمتي". قوله: "عما وسوست أو حدثت به أنفسها" في رواية هشام "ما حدثت به أنفسها" ولم يتردد، وكذا في رواية سعيد وأبي عوانة عند مسلم. وفي رواية ابن عيينة "ما وسوست بها صدورها" ولم يتردد أيضا، وضبط أنفسها بالنصب للأكثر ولبعضهم بالرفع. وقال الطحاوي بالثاني وبه جزم أهل اللغة يريدون بغير اختيارها كقوله تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}. قوله: "ما لم تعمل به أو تكلم" في رواية عبد الله بن إدريس أو تتكلم به، قال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث ذكر النسيان، وإنما فيه ذكر ما خطر على قلب الإنسان. قلت: مراد البخاري إلحاق ما يترتب على النسيان بالتجاوز لأن النسيان من متعلقات عمل القلب. وقال الكرماني: قاس الخطأ والنسيان على الوسوسة، فكما أنها لا اعتبار لها عند عدم التوطن فكذا الناسي والمخطئ لا توطين لهما. وقد وقع في رواية هشام بن عمار عن ابن عيينة عن مسعر في هذا الحديث بعد قوله أو تكلم به "وما استكرهوا عليه" وهذه الزيادة منكرة من هذا الوجه وإنما تعرف من رواية الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس بلفظ: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقد أخرجه ابن ماجه عقب حديث أبي هريرة من رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، والحديث عند هشام بن عمار عن الوليد فلعله دخل له بعض حديث في حديث، وقد رواه عن ابن عيينة الحميدي وهو أعرف أصحاب ابن عيينة بحديثه، وتقدم في العتق عنه بدون هذه الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية زياد بن أيوب وابن المقري وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي كلهم عن سفيان بدون هذه الزيادة. قال الكرماني: فيه أن الوجود الذهني لا أثر له وإنما الاعتبار بالوجود القولي في القوليات والعملي في العمليات، وقد احتج به من لا يرى المؤاخذة بما وقع في النفس ولو عزم عليه، وانفصل من قال يؤاخذ بالعزم بأنه نوع من العمل يعني عمل القلب. قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالعمل عمل الجوارح لأن المفهوم من لفظ: "ما لم يعمل" يشعر بأن كل شيء في الصدر لا يؤاخذ به سواء توطن به أم لم يتوطن، وقد تقدم البحث في ذلك في أواخر الرقاق في الكلام على حديث: "من هم بسيئة لا تكتب عليه". وفي الحديث إشارة إلى عظيم قدر الأمة المحمدية لأجل نبيها صلى الله عليه وسلم لقوله: "تجاوز لي" وفيه إشعار باختصاصها بذلك، بل صرح بعضهم بأنه كان حكم الناسي كالعامد في الإثم وإن ذلك من الإصر الذي كان على من قبلنا، ويؤيده ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: "لما نزلت: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشتد ذلك على الصحابة" فذكر الحديث في شكواهم ذلك وقوله صلى الله عليه وسلم لهم "تريدون أن تقولوا مثل ما قال أهل الكتاب سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا، فقالوها فنزلت: {آمَنَ الرَّسُولُ} إلى آخر السورة" وفيه قوله: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال نعم. وأخرجه من حديث ابن عباس بنحوه وفيه قال قد فعلت. قوله: "حدثنا عثمان بن الهيثم أو محمد عنه" وقع مثل هذا في "باب الذريرة" في أواخر كتاب اللباس، وتقدم الكلام عليه هناك. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن يحيى عن عثمان بن الهيثم به. قوله: "كنت احسب يا رسول الله كذا وكذا قبل كذا وكذا" في رواية الإسماعيلي: "إني كنت أحسب أن كذا قبل كذا". قوله: "هؤلاء الثلاث" قد كنت أظن ذلك خاصا بهذه الرواية، وأن

(11/552)


البخاري أشار بذلك إلى ما في الحديث الذي يليه فإنه فيه الحلق والنحر والرمي، لكن وجدته في رواية الإسماعيلي بالإبهام كما أشرت إليه، وكذا أخرجه مسلم من رواية عيسى بن يونس ومحمد بن بكر كلاهما عن ابن جريج مثل رواية عثمان بن الهيثم سواء، إلا إن ابن بكر لم يقل "لهؤلاء الثلاث" ومن رواية يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج بلفظ: "حلقت قبل أن أنحر ونحرت قبل أن أرمي" فالظاهر أن الإشارة المذكورة من ابن جريج، وقد أخرجه الشيخان من رواية مالك عن ابن شهاب شيخ ابن جريج فيه مفسرا كما تقدم في كتاب الحج مع شرحه. حديث ابن عباس في ذلك. وقد تقدم بسنده ومتنه مشروحا في كتاب الحج. حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته، وقد تقدم شرحه في كتاب الصلاة. قوله: "حدثني إسحاق بن منصور حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله بن عمر" هو العمرى، وسعيد هو المقبري، وقد تقدم في كتاب الاستئذان بهذا السند سواء لكن فيه عبد الله بن نمير بدل أبي أسامة، وفي بعض سياقهما اختلاف بينته هناك، فكأن لإسحاق بن منصور فيه شيخين. وقد أخرجه الترمذي عن إسحاق بن منصور عن عبد الله بن نمير وحده، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة وعبد الله بن نمير جميعا، وله طرق عن هذين عند مسلم وغيره. حديث حذيفة في قصة قتل أبي اليمان يوم أحد، وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر المناقب وفي غزوة أحد، وقوله في آخره: "بقية خير" بالإضافة للأكثر أي استمر الخير فيه، ووقع في: رواية الكشميهني: "بقية" بالتنوين وسقط عنده لفظ: "خير" وعليها شرح الكرماني فقال: أي بقية حزن وتحسر من قتل أبيه بذلك الوجه، وهو وهم سبقه غيره إليه، والصواب أن المراد أنه حصل له خير بقوله للمسلمين. الذين قتلوا أباه خطأ "عفا الله عنكم" واستمر ذلك الخير فيه إلى أن مات. حديث أبي هريرة "من أكل ناسيا وهو صائم فليتم صومه" الحديث؛ وقد تقدم شرحه في "باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا" من كتاب الصيام، وعوف في السند هو الأعرابي، وخلاس بكسر المعجمة وتخفيف اللام بعدها مهملة وهو ابن عمرو، ومحمد هو ابن سيرين، والبخاري لا يخرج لخلاس إلا مقرونا. ومما ينبه عليه هنا أن المزي في "الأطراف" ذكر هذا الحديث في ترجمة خلاس عن أبي هريرة فقال: "خلاس في الصيام عن يوسف بن موسى" فوهم في ذلك وإنما هو في الأيمان والنذور، ولم يورده في الصيام من طريق خلاس أصلا. وقال ابن المنير في الحاشية: أوجب مالك الحنث على الناسي ولم يخالف ذلك في ظاهر الأمر إلا في مسألة واحدة وهي من حلف بالطلاق ليصومن غدا فأكل ناسيا بعد أن بيت الصيام من الليل، فقال مالك: لا شيء عليه، فاختلف عنه فقيل لا قضاء عليه وقيل لا حنث ولا قضاء وهو الراجح، أما عدم القضاء فلأنه لم يتعمد إبطال العبادة، وأما عدم الحنث فهو على تقدير صحة الصوم لأنه المحلوف: عليه، وقد صحح الشارع صومه، فإذا صح صومه لم يقع عليه حنث. حديث عبد الله بن بحينة في سجود السهو قبل السلام لترك التشهد الأول، وقد تقدم في أبواب سجود السهو من أواخر كتاب الصلاة مع شرحه. حديث ابن مسعود في سجود السهو بعد السلام لزيادة ركعة في الصلاة، وقد تقدم شرحه أيضا هناك عقب حديث ابن بحينة، وقوله هنا "حدثنا إسحاق بن إبراهيم" هو المعروف بابن راهويه، وقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من مسنده، وقوله سمع عبد العزيز أي إنه سمع ولفظة "إنه" يسقطونها في الخط أحيانا، وعبد العزيز المذكور هو العمى بفتح المهملة والتثقيل، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعلقمة هو ابن

(11/553)


قيس. وقوله فيه: "فزاد أو نقص" قال منصور لا أدري إبراهيم وهم أم علقمة كذا أطلق "وهم" موضع "شك" وتوجيهه أن الشك ينشأ عن النسيان إذ لو كان ذكرا لأحد الأمرين لما وقع له التردد، يقال وهم في كذا إذا غلط فيه ووهم إلى كذا إذا ذهب وهمه إليه، وقد تقدم في أبواب القبلة من رواية جرير عن منصور قال: "قال إبراهيم لا أدري زاد أو نقص" فجزم بأن إبراهيم هو الذي تردد، وهذا يدل على أن منصورا حين حدث عبد العزيز كان مترددا هل علقمة قال ذلك أم إبراهيم، وحين حدث جريرا كان جازما بإبراهيم. وقال الكرماني لفظ: "أقصرت" صريح في أنه نقص ولكنه وهم من الراوي والصواب ما تقدم في الصلاة بلفظ: "أحدث في الصلاة شيء" وقد تقدمت مباحا هذا الحديث هناك أيضا ولله الحمد. الحديث ذكر فيه طرفا يسيرا من حديث أبي بن كعب في قصة موسى والخضر وقوله قلت لابن عباس فقال حدثنا أبي بن كعب هكذا حذف مقول سعيد بن جبير، وقد ذكره في تفسير الكهف بلفظ: "قلت لابن عباس إن نوفا البكالي" فذكر قصة، فقال ابن عباس رادا عليه "حدثنا أبي بن كعب إلخ" فحذفها البخاري هنا كما حذف أكثر الحديث، إلى أن قال: "لا تؤاخذني". قوله: "إنه سمع رسول الله يقول قال لا تؤاخذني بما نسيت" فيه حذف تقديره: يقول في تفسير قوله تعالى: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي} إلخ. قوله: "كانت الأولى من موسى نسيانا" يعني أنه كان عند إنكاره خرق السفينة كان ناسيا لما شرط عليه الخضر في قوله: "فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا" فإن قيل ترك مؤاخذته بالنسيان متجه وكيف وأخذه؟ قلنا عملا بعموم شرطه الذي التزمه، فلما اعتذر له بالنسيان علم أنه خارج بحكم الشرع من عموم الشرط، وبهذا التقرير يتجه إيراد هذا الحديث في هذه الترجمة. فإن قيل فالقصة الثانية لم تكن إلا عمدا فما الحامل له على خلف الشرط؟ قلنا: لأنه في الأولى كان يتوقع هلاك أهل السفينة فبادر للإنكار فكان ما كان واعتذر بالنسيان وقدر الله سلامتهم، وفي الثانية كان قتل الغلام فيها محققا فلم يصبر على الإنكار فأنكر ذاكرا للشرط عامدا لإخلافه تقديما لحكم الشرع، ولذلك لم يعتذر بالنسيان وإنما أراد أن يجرب نفسه في الثالثة لأنها الحد المبين غالبا لما يخفى من الأمور. فإن قيل: فهل كانت الثالثة عمدا أو نسيانا؟ قلنا: يظهر أنها كانت نسيانا وإنما وأخذه صاحبه بشرطه الذي شرطه على نفسه من المفارقة في الثالثة، وبذلك جزم ابن التين، وإنما لم يقل إنها كانت عمدا استبعادا لأن يقع من موسى عليه السلام إنكار أمر مشروع وهو الإحسان لمن أساء والله أعلم. حديث البراء وحديث أنس في تقديم صلاة العيد على الذبح، وقد سبق شرحهما مستوفى في كتاب الأضاحي. قوله: "كتب إلي محمد بن بشار" لم تقع هذه الصيغة للبخاري في صحيحه عن أحد من مشايخه إلا في هذا الموضع، وقد أخرج بصيغة المكاتبة فيه أشياء كثيرة لكن من رواية التابعي عن الصحابي أو من رواية غير التابعي عن التابعي ونحو ذلك، ومحمد بن بشار هذا هو المعروف ببندار، وقد أكثر عنه البخاري، وكأنه لم يسمع منه هذا الحديث فرواه عنه بالمكاتبة. وقد أخرج أصل الحديث من عدة طرق أخرى موصولة كما تقدم في العيدين وغيره، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عبد الله بن محمد بن سنان قال: قرأت على بندار فذكره، وأخرجه أبو نعيم من رواية حسين بن محمد بن حماد قال حدثنا محمد بن بشار بندار. قوله: "قال قال البراء بن عازب وكان عندهم ضيف" في رواية الإسماعيلي: "كان عندهم ضيف" بغير واو، وظاهر السياق أن القصة وقعت للبراء، لكن المشهور أنها وقعت لخاله أبي بردة بن نيار كما تقدم في كتاب الأضاحي من طريق

(11/554)


زبيد عن الشعبي عن البراء فذكر الحديث وفيه: "فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال إن عندي جذعة" الحديث، ومن طريق مطرف عن الشعبي عن البراء "ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة". قوله: "قبل أن يرجع" في رواية السرخسي والمستملي: "قبل أن يرجعهم" والمراد قبل أن يرجع إليهم. قوله: "فأمره أن يعيد الذبح" قال ابن التين: رويناه بكسر الذال وهو ما يذبح وبالفتح وهو مصدر ذبحت. قوله: "فقال يا رسول الله" في رواية الإسماعيلي: "قال البراء يا رسول الله" وهذا صريح في أن القصة وقعت للبراء، فلولا اتحاد المخرج لأمكن التعدد، لكن القصة متحدة والسند متحد من رواية الشعبي عن البراء والاختلاف من الرواة عن الشعبي، فكأنه وقع في هذه الرواية اختصار وحذف، ويحتمل أن يكون البراء شارك خاله في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن القصة فنسبت كلها إليه تجوزا. قال الكرماني: كان البراء وخاله أبو بردة أهل بيت واحد فنسب القصة تارة لخاله وتارة لنفسه انتهى، والمتكلم في القصة الواحدة أحدهما فتكون نسبة القول للآخر مجازية والله أعلم. قوله: "خير من شاتى لحم" تقدم البحث فيه هناك أيضا. قوله: "وكان ابن عون" هو عبد الله راوي الحديث عن الشعبي، وهو موصول بالسند المذكور. قوله: "يقف في هذا المكان عن حديث الشعبي" أي يترك تكملته. قوله: "ويحدث عن محمد بن سيرين" أي عن أنس. قوله: "بمثل هذا الحديث" أي حديث الشعبي عن البراء. قوله: "ويقف في هذا المكان" أي في حديث ابن سيرين أيضا. قوله: "ويقول لا أدري إلخ" يأتي بيانه في الذي بعده. قوله: "رواه أيوب عن ابن سيرين عن أنس" وصله المصنف في أوائل الأضاحي من رواية إسماعيل وهو المعروف بابن علية عن أيوب بهذا السند ولفظه: "من ذبح قبل الصلاة فليعد، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن هذا يوم يشتهي فيه اللحم -وذكر جيرانه- وعندي جذعة خير من شاتى لحم، فرخص له في ذلك فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا" وهذا ظاهره في أن الكل من رواية ابن سرين عن أنس، وقد أوضحت ذلك أيضا في كتاب الأضاحي. حديث جندب وهو ابن عبد الله البجلي. فوله "خطب ثم قال من ذبح فليبدل مكانها" تقدم في الأضاحي عن آدم عن شعبة بهذا السند بلفظ: "من ذبح قبل أن يصلي فليعد" الحديث وتقدم شرحه هناك أيضا. قال الكرماني: ومناسبة حديثي البراء وجندب للترجمة الإشارة إلى التسوية بين الجاهل بالحكم والناسي.

(11/555)


16 - باب الْيَمِينِ الْغَمُوسِ
{وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} دَخَلًا مَكْرًا وَخِيَانَةً
6675- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا فِرَاسٌ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ"
[الحديث 6675- طرفاه في 6870، 6920]
قوله: "باب اليمين الغموس" بفتح المعجمة وضم الميم الخفيفة وآخره مهملة، قيل سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، فهي فعول بمعنى فاعل، وقيل الأصل في ذلك أنهم كانوا إذا أرادوا أن يتعاهدوا

(11/555)


أحضروا جفنة فجعلوا فيها طيبا أو دما أو رمادا ثم يحلفون عندما يدخلون أيديهم فيها ليتم لهم بذلك المراد من تأكيد ما أرادوا. فسميت تلك اليمين إذا غدر صاحبها غموسا لكونه بالغ في نقض العهد وكأنها على هذا مأخوذة من اليد المغموسة فيكون فعول بمعنى مفعولة. وقال ابن التين: اليمين الغموس التي ينغمس صاحبها في الإثم، ولذلك قال مالك لا كفارة فيها، واحتج أيضا بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وهذه يمين غير منعقدة لأن المنعقد ما يمكن حله ولا يتأتى في اليمين الغموس البر أصلا. قوله: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} الآية" كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى "عظيم". قوله: "دخلا مكرا وخيانة" هو من تفسير قتادة وسعيد بن جبير أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: خيانة وغدرا، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير قال: يعني مكرا وخديعة. وقال الفراء: يعني خيانة. وقال أبو عبيدة: الدخل كل أمر كان على فساد؛ وقال الطبري: معنى الآية لا تجعلوا أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم توفون بالعهد لمن عاهدتموه دخلا أي خديعة وغدرا ليطمئنوا إليكم وأنتم تضمرون لهم الغدر انتهى. ومناسبة ذكر هذه الآية لليمين الغموس ورود الوعيد على من حلف كاذبا متعمدا. قوله: "النضر" بفتح النون وسكون المعجمة هو ابن شميل بالمعجمة مصغر، ووقع منسوبا في رواية النسائي، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من رواية جعفر بن إسماعيل عن محمد بن مقاتل شيخ البخاري فيه فقال: "عن عبد الله بن المبارك عن شعبة" وكأن لابن مقاتل فيه شيخين إن كان حفظه، وفراس بكسر الفاء وتخفيف الراء وآخره سين مهملة. قوله: "عن عبد الله بن عمرو" أي ابن العاص. قوله: "الكبائر الإشراك بالله" في رواية شيبان عن فواس في أوله "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر" فذكره، ولم أقف على اسم هذا الأعرابي. قوله: "الكبائر الإشراك بالله إلخ" ذكر هنا ثلاثة أشياء بعد الشرك وهو العقوق وقتل النفس واليمين الغموس، ورواه غندر عن شعبة بلفظ: "الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين أو قال اليمين الغموس شك شعبة" أخرجه أحمد عنه هكذا، وكذا أخرجه المصنف في أوائل الديات والترمذي جميعا عن بندار عن غندر وعلقه البخاري هناك، ووصله الإسماعيلي من رواية معاذ بن معاذ عن شعبة بلفظ: "الكبائر الإشراك بالله واليمين الغموس وعقوق الوالدين أو قال قتل النفس" ووقع في رواية شيبان التي أشرت إليها "الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين، قال ثم ماذا؟ قال اليمين الغموس" ولم يذكر قتل النفس، وزاد في رواية شيبان "قلت وما اليمين الغموس؟ قال: التي تقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كذب" والقائل قلت هو عبد الله بن عمرو راوي الخبر والمجيب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون السائل من دون عبد الله بن عمرو والمجيب هو عبد الله أو من دونه، ويؤيد كونه مرفوعا حديث ابن مسعود والأشعث المذكور في الباب الذي بعده، ثم وقفت على تعيين القائل "قلت وما اليمين الغموس" وعلى تعيين المسئول فوجدت الحديث في النوع الثالث من القسم الثاني من صحيح ابن حبان وهو قسم النواهي، وأخرجه عن النضر بن محمد عن محمد بن عثمان العجلي عن عبيد الله بن موسى بالسند الذي أخرجه به البخاري فقال في آخره بعد قوله ثم اليمين الغموس "قلت لعامر ما اليمين الغموس إلخ" فظهر أن السائل عن ذلك فراس والمسئول الشعبي وهو عامر فلله الحمد على ما أنعم ثم لله الحمد ثم لله الحمد، فإني لم أر من تحرر له ذلك من الشراح، حتى أن الإسماعيلي وأبا نعيم لم يخرجاه في هذا الباب من رواية شيبان بل اقتصر على رواية شعبة، وسيأتي عد الكبائر وبيان الاختلاف في ذلك في كتاب

(11/556)


الحدود في شرح حديث أبي هريرة "اجتنبوا السبع الموبقات" إن شاء الله تعالى، وقد بينت ضابط الكبيرة والخلاف في ذلك، وأن في الذنوب صغيرا وكبيرا وأكبر، في أوائل كتاب الأدب، وذكرت ما يدل على أن المراد بالكبائر في حديث الباب أكبر الكبائر، وأنه ورد من وجه آخر عند أحمد عن عبد الله بن عمرو بلفظ: "من أكبر الكبائر" وأن له شاهدا عند الترمذي عن عبد الله بن أنيس وذكر فيه اليمين الغموس أيضا، واستدل به الجمهور على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها للاتفاق على أن الشرك والعقوق والقتل لا كفارة فيه وإنما كفارتها التوبة منها والتمكين من القصاص في القتل العمد، فكذلك اليمين الغموس حكمها حكم ما ذكرت معه، وأجيب بأن الاستدلال بذلك ضعيف لأن الجمع بين مختلف الأحكام جائز كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} والإيتاء واجب والأكل غير واجب، وقد أخرج ابن الجوزي في "التحقيق" من طريق ابن شاهين بسنده إلى خالد بن معدان عن أبي المتوكل عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليس فيها كفارة يمين صبر يقتطع بها مالا بغير حق، وظاهر سنده الصحة، لكنه معلول لأن فيه عنعنة بقية فقد أخرجه أحمد من هذا الوجه فقال في هذا السند عن المتوكل أو أبي المتوكل، فظهر أنه ليس هو الناجي الثقة بل آخر مجهول، وأيضا فالمتن مختصر ولفظه عند أحمد "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة" الحديث، وفيه: "وخمس ليس لها كفارة الشرك بالله" وذكر في آخرها "ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق" ونقل محمد بن نصر في اختلاف العلماء ثم ابن المنذر ثم ابن عبد البر اتفاق الصحابة على أن لا كفارة في اليمين الغموس، وروى آدم بن أبي إياس في مسند شعبة وإسماعيل القاضي في الأحكام عن ابن مسعود "كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذبا ليقتطعه" قال ولا مخالف له من الصحابة، واحتجوا بأنها أعظم من أن تكفر، وأجاب من قال بالكفارة كالحكم وعطاء والأوزاعي ومعمر والشافعي بأنه أحوج للكفارة من غيره وبأن الكفارة لا تزيده إلا خيرا، والذي يجب عليه الرجوع إلى الحق ورد المظلمة، فإن لم يفعل كفر فالكفارة لا ترفع عنه حكم التعدي بل تنفعه في الجملة. وقد طعن ابن حزم في صحة الأثر عن ابن مسعود واحتج بإيجاب الكفارة فيمن تعمد الجماع في صوم رمضان وفيمن أفسد حجه، قال: ولعلهما أعظم إثما من بعض من حلف اليمين الغموس، ثم قال: وقد أوجب المالكية الكفارة على من حلف أن لا يزني ثم زنى ونحو ذلك، ومن حجة الشافعي قوله في الحديث الماضي في أول كتاب الأيمان "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" فأمر من تعمد الحنث أن يكفر فيؤخذ منه مشروعية الكفارة لمن حلف حانثا.

(11/557)


باب قول الله تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ...} الخ
...
17 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}

(11/557)


6676- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ"
6677- "فَدَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالُوا كَذَا وَكَذَا قَالَ فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ قُلْتُ إِذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ "لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"
قوله: "باب قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} الآية" كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة إلى قوله: "عذاب أليم" وقد سبق تفسير العهد قبل خمسة أبواب، ويستفاد من الآية أن العهد غير اليمين لعطف اليمين عليه، ففيه حجة على من احتج بها بأن العهد يمين، واحتج بعض المالكية بأن العرف جرى على أن العهد والميثاق والكفالة والأمانة أيمان لأنها من صفات الذات، ولا يخفي ما فيه. قال ابن بطال: وجه الدلالة أن الله خص العهد بالتقدمة على سائر الأيمان فدل على تأكد الحلف به لأن عهد الله ما أخذه على عباده وما أعطاه عباده كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية لأنه قدم على ترك الوفاء به. قوله: "وقول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} كذا لأبي ذر. وفي رواية غيره: "وقوله جل ذكره": قال ابن التين وغيره: اختلف في معناه فعن زيد بن أسلم: لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بررة، وفائدة ذلك إثبات الهيبة في القلوب، ويشير إليه قوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} وعن سعيد بن جبير: هو أن يحلف أن لا يصل رحمه مثلا فيقال له صل، فيقول قد حلفت وعلى هذا فمعنى قوله أن تبروا كراهة أن تبروا فينبغي أن يأتي الذي هو خير ويكفر انتهى. وقد أخرجه الطبري من طريق على بن أبي طلحة عن ابن عباس ولفظه: "لا تجعل الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر واصنع الخير" وقيل هو أن يحلف أن يفعل نوعا من الخير تأكيدا له بيمينه فنهى عن ذلك حكاه الماوردي، وهو شبيه النهي عن النذر كما سيأتي نظيره، وعلى هذا فلا يحتاج إلى تقدير لا، قال الراغب وغيره: العرضة ما يجعل معرضا لشيء آخر كما قالوا بعير عرضة للسفر، ومنه قول الشاعر "ولا يجعلني عرضة للوائم" ويقولون فلان عرضة للناس أي يقعون فيه، وفلانة عرضة للنكاح إذا صلحت له وقويت عليه، وجعلت فلانا عرضة في كذا أي أقمته فيه، وتطلق العرضة أيضا على الهمة كقول حسان "هي الأنصار عرضتها اللقاء". قوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً - إلى قوله:- وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} هكذا وقع في رواية أبي ذر، وسقط ذلك لجميعهم، ووقع فيه تقديم وتأخير، والصواب قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً -إلى قوله- وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وقد وقع في رواية النسفي بعد قوله عرضة لأيمانكم ما نصه "وقوله {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية وقوله {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} الآية "وقد مشى شرح ابن بطال على ما وقع عند أبي ذر فقال: في هذا دليل على تأكيد لوفاء بالعهد لأن الله تعالى قال ولا تنقضوا الأيمان

(11/558)


بعد توكيدها، ولم يتقدم غير ذلك العهد فعلم أنه يمين. ثم ظهر لي أنه أراد ما وقع قبل قوله: "ولا تنقضوا" وهو قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} لكن لا يلزم من عطف الأيمان على العهد أن يكون العهد يمينا بل هو كالآية السابقة {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} فالآيات كلها دالات على تأكيد الوفاء بالعهد، وأما كونه يمينا فشيء آخر، ولعل البخاري أشار إلى ذلك، وقد تقدم كلام الشافعي "من حلف بعهد الله" قبل خمسة أبواب، وقوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} أي شهيدا في العهد أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. وأخرج عن مجاهد قال: يعني وكيلا، واستدل بقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها لأن ابن عباس فسرها بأن الرجل يحلف أن لا يصل قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير وأمره أن يصل قرابته ويكفر عن يمينه ولم يجعل لحالف الغموس مخرجا كذا قال، وتعقبه الخطابي بأنه لا يدل على ترك الكفارة في اليمين الغموس بل قد يدل لمشروعيتها. قوله: "حدثنا موسى بن إسماعيل" هو التبوذكي. قوله: "حدثنا أبو عوانة" هو الوضاح، وقد تقدم عن موسى هذا بعض هذا الحديث بدون قصة الأشعث في الشهادات لكن عن عبد الواحد وهو ابن زياد بدل أبي عوانة فالحديث عند موسى المذكور عنهما جميعا. قوله: "عن أبي وائل" هو شقيق بن سلمة، وقد تقدم في الشرب من رواية أبي حمزة وهو السكري، وفي الأشخاص من رواية أبي معاوية كلاهما عن الأعمش عن شقيق، وقد تقدم قريبا من رواية شعبة عن سليمان وهو الأعمش، ويستفاد منه أنه مما لم يدلس فيه الأعمش فلا يضر مجيئه عنه بالعنعنة. قوله: "عن عبد الله" في تفسير آل عمران عن حجاج بن منهال عن أبي عوانة بهذا السند عن عبد الله بن مسعود. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا وقع التصريح بالرفع في رواية الأعمش، ولم يقع ذلك في رواية منصور الماضية في الشهادات وفي الرهن، ووقع مرفوعا في رواية شعبة الماضية قريبا عن منصور والأعمش جميعا. قوله: "من حلف على يمين صبر" بفتح الصاد وسكون الموحدة، ويمين الصبر هي التي تلزم ويجبر عليها حالفها يقال أصبره اليمين أحلفه بها في مقاطع الحق، زاد أبو حمزة عن الأعمش "هو بها فاجر" وكذا للأكثر. وفي رواية أبي معاوية "هو عليها فاجر ليقتطع" وكأن فيها حذفا تقديره هو في الإقدام عليها، والمراد بالفجور لازمه وهو الكذب، وقد وقع في رواية شعبة "على يمين كاذبة". قوله: "يقتطع بها مال امرئ مسلم" في رواية حجاج بن منهال "ليقتطع بها" بزيادة لام تعليل ويقتطع يفتعل من القطع كأنه قطعه عن صاحبه أو أخذ قطعة من ماله بالحلف المذكور. قوله: "لقي الله وهو عليه غضبان" في حديث وائل بن حجر عند مسلم: "وهو عنه معرض" وفي رواية كردوس عن الأشعث عند أبي داود "إلا لقي الله وهو أجذم" وفي حديث أبي أمامة بن ثعلبة عند مسلم والنسائي نحوه في هذا الحديث: "فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة" وفي حديث عمران عند أبي داود "فليتبوأ مقعده من النار". قوله: "فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} كذا في رواية الأعمش ومنصور، ووقع في رواية جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين عند مسلم والترمذي وغيرهما جميعا عن أبي وائل عن عبد الله "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه" الحديث ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} فذكر هذه الآية، ولولا التصريح في رواية الباب بأنها نزلت في ذلك لكان ظاهر هذه الرواية أنها نزلت قبل ذلك، وقد تقدم في تفسير آل عمران أنها نزلت فيمن أقام سلعته بعد العصر فحلف كاذبا، وتقدم أنه يجوز

(11/559)


أنها نزلت في الأمرين معا. وقال الكرماني: لعل الآية لم تبلغ ابن أبي أوفى إلا عند إقامته السلعة فظن أنها نزلت في ذلك، أو أن القصتين وقعتا في وقت واحد فنزلت الآية، واللفظ عام متناول لهما ولغيرهما.
قوله: "فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن"؟ كذا وقع عند مسلم من رواية وكيع عن الأعمش، وأبو عبد الرحمن هي كنية ابن مسعود. وفي رواية جرير في الرهن "ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن" والجمع بينهما أنه خرج عليهم من مكان كان فيه فدخل المكان الذي كانوا فيه. وفي رواية الثوري عن الأعمش ومنصور جميعا -كما سيأتي في الأحكام- فجاء الأشعث وعبد الله يحدثهم، ويجمع بأن خروجه من مكانه الذي كان فيه إلى المكان الذي كان فيه عبد الله وقع وعبد الله يحدثهم فلعل الأشعث تشاغل بشيء فلم يدرك تحديث عبد الله فسأل أصحابه عما حدثهم به. قوله: "فقالوا كذا وكذا" في رواية جرير "فحدثناه" وبين شعبة في روايته أن الذي حدثه بما حدثهم به ابن مسعود هو أبو وائل الراوي ولفظه في الأشخاص "قال فلقيني الأشعث فقال: ما حدثكم عبد الله اليوم؟ قلت كذا وكذا" وليس بين قوله فلقيني وبين قوله في الرواية خرج إلينا فقال ما يحدثكم منافاة، وإنما انفرد في هذه الرواية لكونه المجيب. قوله: "قال في أنزلت" رواية جرير "قال فقال صدق، لفي والله أنزلت" واللام لتأكيد القسم دخلت على في، ومراده أن الآية ليست بسب خصومته التي يذكرها. وفي رواية أبي معاوية "في والله كان ذلك" وزاد جرير عن منصور "صدق" قال ابن مالك "لفي والله نزلت": شاهد على جواز توسط القسم بين جزءي الجواب، وعلى أن اللام يجب وصلها بمعمولي الفعل الجوابي المتقدم لا بالفعل. قوله: "كان لي" في رواية الكشميهني: "كانت". قوله: "بئر" في رواية أبي معاوية "أرض" وادعى الإسماعيلي في الشرب أن أبا حمزة تفرد بقوله: "في بئر" وليس كما قال فقد وافقه أبو عوانة كما ترى، وكذا يأتي في الأحكام من رواية الثوري عن الأعمش ومنصور جميعا، ومثله في رواية شعبة الماضية قريبا عنهم لكن بين أن ذلك في حديث الأعمش وحده، ووقع في رواية جرير عن منصور "في شيء" ولبعضهم "في بئر" ووقع عند أحمد من طريق عاصم عن شقيق أيضا: "في بئر". قوله: "في أرض ابن عم لي" كذا للأكثر أن الخصومة كانت في بئر يدعيها الأشعث في أرض لخصمه. وفي رواية أبي معاوية "كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني" ويجمع بأن المراد أرض البئر لا جميع الأرض التي هي أرض البئر والبئر من جملتها، ولا منافاة بين قوله ابن عم لي وبين قوله من اليهود لأن جماعة من اليمن كانوا تهودوا لما غلب يوسف ذو نواس على اليمن فطرد عنها الحبشة فجاء الإسلام وهم على ذلك، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في أوائل السيرة النبوية مبسوطا، وقد تقدم في الشرب أن اسم ابن عمه المذكور الخفشيش بن معدان بن معد يكرب، وبينت الخلاف في ضبط الخفشيش وأنه لقب واسمه جرير وقيل معدان حكاه ابن طاهر، والمعروف أنه اسم كنيته أبو الخير. وأخرج الطبراني من طريق الشعبي عن الأشعث قال: "خاصم رجل من الحضرميين رجلا منا يقال له الخفشيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: للحضرمي جيء بشهودك على حقك وإلا حلف لك" الحديث. قلت: وهذا يخالف السياق الذي في الصحيح، فإن كان ثابتا حمل على تعدد القصة، وقد أخرج أحمد والنسائي من حديث عدي بن عميرة الكندي قال: "خاصم رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عابس الكندي رجلا من حضر موت في أرض" فذكر نحو قصة الأشعث وفيه: "إن مكنته من اليمين ذهبت أرضي. وقال من حلف" فذكر الحديث وتلا الآية، ومعد يكرب جد الخفشيش وهو جد

(11/560)


الأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية، فهو ابن عمه حقيقة. ووقع في رواية لأبي داود من طريق كردوس عن الأشعث "أن رجلا من كندة ورجلا من حضر موت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرص من اليمن" فذكر قصة تشبه قصة الباب إلا أن بينهما اختلافا في السياق، وأظنها قصة أخرى فإن مسلما أخرج من طريق علقمة بن وائل عن أبيه قال: "جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي" وإنما جوزت التعدد لأن الحضرمي يغاير الكندي لأن المدعي في حديث الباب هو الأشعث وهو الكندي جزما والمدعي في حديث وائل هو الحضرمي فافترقا، ويجوز أن يكون الحضرمي: نسب إلى البلد لا إلى القبيلة فإن أصل نسبة القبيلة كانت إلى البلد ثم اشتهرت النسبة إلى القبيلة، فلعل الكندي في هذه القصة كان يسكن حضر موت فنسب إليها والكندي لم يسكنها فاستمر على نسبته. وقد ذكروا الخفشيش في الصحابة، واستشكله بعض مشايخنا لقوله في الطريق المذكورة قريبا إنه يهودي ثم قال يحتمل أنه أسلم. قلت: وتمامه أن يقال إنما وصفه الأشعث بذلك باعتبار ما كان عليه أولا، ويؤيد إسلامه أنه وقع في رواية كردوس عن الأشعث في آخر القصة أنه لما سمع الوعيد المذكور قال: هي أرضه، فترك اليمين تورعا، ففيه إشعار بإسلامه. ويؤيده أنه لو كان يهوديا ما بالى بذلك لأنهم يستحلون أموال المسلمين، وإلى ذنك وقعت الإشارة بقوله تعالى حكاية عنهم "ليس علينا في الأميين سبيل" أي حرج، ويؤيد كونه مسلما أرضا رواية الشعبي الآتية قريبا. قوله: "فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الثوري "خاصمته" وفي رواية جرير عن منصور "فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أبي معاوية "فجحدني فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقال: بينتك أو يمينه" في رواية أبي معاوية "فقال: ألك بينة؟ فقلت: لا. فقال لليهودي: احلف" وفي رواية أبي حمزة "فقال لي: شهودك. قلت: ما لي شهود. قال: فيمينه" وفي رواية وكيع عند مسلم: "ألك عليه بينة" وفي رواية جرير عن منصور "شاهداك أو يمينه" وتقدم في الشهادات توجيه الرفع وأنه يجوز النصب، ويأتي نظيره في لفظ رواية الباب، ويجوز أن يكون توجيه الرفع: لك إقامة شاهديك أو طلب يمينه، فحذف فيهما المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فرفع، والأصل في هذا التقدير قول سيبويه المثبت لك ما تدعيه شاهداك، وتأويله المثبت لك هو شهادة شاهديك إلخ. قوله: "قلت إذا يحلف عليها يا رسول الله" لم يقع في رواية أبي حمزة ما بعد قوله: "يحلف" وتقدم في الشرب "أن يحلف" بالنص لوجود شرائطه من الاستقبال وغيره وأنه يجوز الرفع وذكر فيه توجيه ذلك، وزاد في رواية أبي معاوية "إذا يحلف ويذهب بمالي" ووقع في حديث وائل من الزيادة بعد قوله ألك بينة "قال لا قال فلك يمينه، قال إنه فاجر ليس يبالي ما حلف عليه وليس يتورع من شيء، قال ليس لك منه إلا ذلك" ووقع في رواية

(11/561)


الشعبي عن الأشعث قال: "أرضي أعظم شأنا أن يحلف عليها، فقال: إن يمين المسلم يدرا بها أعظم من ذلك". قوله: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف" فذكر مثل حديث ابن مسعود سواء وزاد: "وهو فيها فاجر" وقد بينت أن هذه الزيادة وقعت في حديث ابن مسعود عند أبي حمزة وغيره، وزاد أبو حمزة "فأنزل الله ذلك تصديقا له" أي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقع في رواية منصور حديث: "من حلف" من رواية الأشعث بل اقتصر على قوله: "فأنزل الله" وساق الآية. ووقع في رواية كردوس عن الأشعث "فتهيأ الكندي لليمين" وفي حديث وائل "فانطلق ليحلف، فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث. ووقع في رواية الشعبي عن الأشعث "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هو حلف كاذبا أدخله الله النار. فذهب الأشعث فأخبره القصة فقال: أصلح بيني وبينه، قال فأصلح بينهما" وفي حديث عدي بن عميرة "فقال له أمرؤ القيس: ما لمن تركها يا رسول الله؟ قال: الجنة. قال أشهد أني قد تركتها له كلها" وهذا يؤيد ما أشرت إليه من تعدد القصة. وفي الحديث سماع الحاكم الدعوى فيما لم يره إذا وصف وحدد وعرفه المتداعيان، لكن لم يقع في الحديث تصريح بوصف ولا تحديد، فاستدل به القرطبي على أن الوصف والتحديد ليس بلازم لذاته بل يكفي في صحة الدعوى تمييز المدعي به تمييزا ينضبط به. قلت: ولا يلزم من ترك ذكر التحديد والوصف في الحديث أن لا يكون ذلك وقع، ولا يستدل بسكوت الراوي عنه بأنه لم يقع بل يطالب من جعل ذلك شرطا بدليله فإذا ثبت حمل على أنه ذكر في الحديث ولم ينقله الراوي. وفيه أن الحاكم يسأل المدعي هل له بينة؟ وقد ترجم بذلك في الشهادات "وأن البينة على المدعي في الأموال كلها" واستدل به لمالك في قوله إن من رضى بيمين غريمه ثم أراد إقامة البينة بعد حلفه أنها لا تسمع إلا إن أتي بعذر يتوجه له في ترك إقامتها قبل استحلافه، قال ابن دقيق العيد: ووجهه أن "أو" تقتضي أحد الشيئين. فلو جاز إقامة البينة بعد الاستحلاف لكان له الأمران معا والحديث يقتضي أنه ليس له إلا أحدهما، قال: وقد يجاب بأن المقصود من هذا الكلام نفي طريق أخرى لإثبات الحق فيعود المعنى إلى حصر الحجة في البينة واليمين. ثم أشار إلى أن النظر إلى اعتبار مقاصد الكلام وفهمه يضعف هذا الجواب، قال وقد يستدل الحنفية به في ترك العمل بالشاهد واليمين في الأموال. قلت: والجواب عنه بعد ثبوت دليل العمل بالشاهد واليمين أنها زيادة صحيحة يجب المصير إليها لثبوت ذلك بالمنطوق وإنما يستفاد نفيه من حديث الباب بالمفهوم، واستدل به على توجيه اليمين في الدعاوي كلها على من ليست له بينة. وفيه بناء الأحكام على الظاهر وإن كان المحكوم له في نفس الأمر مبطلا. وفيه دليل للجمهور أن حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لم يكن حلالا له خلافا لأبي حنيفة كذا أطلقه النووي، وتعقب بأن ابن عبد البر نقل الإجماع على أن الحكم لا يحل حراما في الباطن في الأموال. قال: واختلفوا في حل عصمة نكاح من عقد عليها بظاهر الحكم وهي في الباطن بخلافه فقال الجمهور: الفروج كالأموال. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وبعض المالكية: إن ذلك إنما هو في الأموال دون الفروج، وحجتهم في ذلك اللعان انتهى. وقد طرد ذلك بعض الحنفية في بعض المسائل في الأموال والله أعلم. وفيه التشديد على من حلف باطلا ليأخذ حق مسلم، وهو عند الجميع محمول على من مات على غير توبة صحيحة، وعند أهل السنة محمول على من شاء الله أن يعذبه كما تقدم تقريره مرارا وآخرها في الكلام على حديث أبي ذر في كتاب الرقاق، وقوله: "ولا ينظر الله إليه" قال في الكشاف: هو كناية عن عدم الإحسان إليه عند من يجوز عليه النظر، مجاز عند من لا يجوزه، والمراد بترك التزكية ترك الثناء عليه وبالغضب إيصال الشر إليه وقال المازري: ذكر بعض أصحابنا أن فيه دلالة على أن صاحب اليد أولى بالمدعي فيه. وفيه التنبيه على صورة الحكم في هذه الأشياء لأنه بدأ بالطالب فقال ليس لك إلا يمين الآخر، ولم يحكم بها للمدعى عليه إذا حلف بل إنما جعل اليمين تصرف دعوى المدعي لا غير، ولذلك ينبغي للحاكم إذا حلف المدعى عليه أن لا يحكم له بملك المدعى فيه ولا بحيازته بل يقره على حكم يمينه، واستدل به على أنه لا يشترط في المتداعيين أن يكون بينهما اختلاط أو يكونا ممن يتهم بذلك ويليق به لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المدعى عليه هنا بالحلف بعد أن سمع الدعوى ولم يسأل عن حالهما، وتعقب بأنه ليس فيه التصريح بخلاف ما ذهب إليه من قال به من المالكية

(11/562)


لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم من حاله ما أغناه عن السؤال فيه وقد قال خصمه عنه إنه فاجر لا يبالي ولا يتورع عن شيء ولم ينكر عليه ذلك ولو كان بريئا مما قال لبادر للإنكار عليه، بل في بعض طرق الحديث ما يدل على أن الغصب المدعى به وقع في الجاهلية ومثل ذلك تسمع الدعوى بيمينه فيه عندهم. وفي الحديث أيضا أن يمين الفاجر تسقط عنه الدعوى، وأن فجوره في دينه لا يوجب الحجر عليه ولا إبطال إقراره ولولا ذلك لم يكن لليمين معنى، وأن المدعى عليه إن أقر أن أصل المدعي لغيره لا يكلف لبيان وجه مصيره إليه ما لم يعلم إنكاره لذلك يعني تسليم المطلوب له ما قال، قال: وفيه أن من جاء بالبينة قضى له بحقه من غير يمين لأنه محال أن يسأله عن البينة دون ما يجب له الحكم به، ولو كانت اليمين من تمام الحكم له لقال له بينتك ويمينك على صدقها، وتعقب بأنه لا يلزم من كونه لا يحلف مع بينته على صدقها فيما شهدت أن الحكم له لا يتوقف بعد البينة على حلفه بأنه ما خرج عن ملكه ولا وهبه مثلا وأنه يستحق قبضه، فهذا وإن كان لم يذكر في الحديث فليس في الحديث ما ينفيه، بل فيه ما يشعر بالاستغناء عن ذكر ذلك لأن في بعض طرقه أن الخصم اعترف وسلم المدعى به للمدعي فأغنى ذلك عن طلبه يمينه، والغرض أن المدعي ذكر أنه لا بينة له فلم تكن اليمين إلا في جانب المدعى عليه فقط. وقال القاضي عياض: وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا البداءة بالسماع من الطالب ثم من المطلوب هل يقر أو ينكر، ثم طلب البينة من الطالب إن أنكر المطلوب، ثم توجيه اليمين على المطلوب إذا لم يجد الطالب البينة، وأن الطالب إذا ادعى أن المدعى به في يد المطلوب فاعترف استغنى عن إقامة البينة بأن يد المطلوب عليه، قال: وذهب بعض العلماء إلى أن كل ما يجرى بين المتداعيين من تساب بخيانة وفجور هدر لهذا الحديث، وفيه نظر لأنه إنما نسبه إلى الغصب في الجاهلية وإلى الفجور وعدم التوقي في الأيمان في حال اليهودية فلا يطرد ذلك في حق كل أحد. وفيه موعظة الحاكم المطلوب إذا أراد أن يحلف خوفا من أن يحلف باطلا فيرجع إلى الحق بالموعظة. واستدل به القاضي أبو بكر بن الطيب في سؤال أحد المتناظرين صاحبه عن مذهبه فيقول له ألك دليل على ذلك؟ فإن قال نعم سأله عنه ولا يقول له ابتداء ما دليلك على ذلك؟ ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم قال للطالب: ألك بينة. ولم يقل له قرب بينتك. وفيه إشارة إلى أن لليمين مكانا يختص به لقوله في بعض طرقه: "فانطلق ليحلف" وقد عهد في عهده صلى الله عليه وسلم الحلف عند منبره، وبذلك احتج الخطابي فقال: كانت المحاكمة والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فانطلق المطلوب ليحلف فلم يكن انطلاقه إلا إلى المنبر لأنه كان في المسجد فلا بد أن يكون انطلاقه إلى موضع أخص منه. وفيه أن الحالف يحلف قائما لقوله: "فلما قام ليحلف" وفيه نظر لأن المراد بقوله قام ما تقدم من قوله انطلق ليحلف، واستدل به الشافعي أن من أسلم وبيده مال لغيره أنه يرجع إلى مالكه إذا أثبته، وعن المالكية اختصاصه بما إذا كان المال لكافر، وأما إذا كان لمسلم وأسلم عليه الذي هو بيده فإنه يقر بيده والحديث حجة عليهم. ومال ابن المنير في الحاشية: يستفاد منه أن الآية المذكورة في هذا الحديث نزلت في نقض العهد، وأن اليمين الغموس لا كفارة فيها لأن نقض العهد لا كفارة فيه، كذا قال، وغايته أنها دلالة اقتران. وقال النووي يدخل في قوله: "من اقتطع حق امرئ مسلم" من حلف على غير مال كجلد الميتة والسرجين وغيرهما مما ينتفع به، وكذا سائر الحقوق كنصيب الزوجة بالقسم، وأما التقييد بالمسلم فلا يدل على عدم تحريم حق الذمي بل هو حرام أيضا، لكن لا يلزم أن يكون فيه هذه العقوبة العظيمة، وهو تأويل حسن لكن ليس في الحديث المذكور دلالة على تحريم حق الذمي بل ثبت بدليل آخر. والحاصل أن المسلم والذمي

(11/563)


لا يفترق الحكم في الأمر فيهما في اليمين الغموس والوعيد عليها، وفي أخذ حقهما باطلا وإنما يفترق قدر العقوبة بالنسبة إليهما، قال: وفيه غلظ تحريم حقوق المسلمين، وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره في ذلك، وكأن مراده عدم الفرق في غلط التحريم لا في مراتب الغلظ، وقد صرح ابن عبد السلام في "القواعد" بالفرق بين القليل والكثير وكذا بين ما يترتب عليه كثير المفسدة وحقيرها، وقد ورد الوعيد في الحالف الكاذب في حق الغير مطلقا في حديث أبي ذر "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم" الحديث، وفيه: "والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" أخرجه مسلم، وله شاهد عند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: "ورجل حلف على سلعته بعد العصر كاذبا".

(11/564)


باب اليمين فيما لا يمللك ، وفي المعصية ، وفي الغضب
...
18 - باب الْيَمِينِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ وَفِي الْمَعْصِيَةِ وَفِي الْغَضَبِ
6678- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ الْحُمْلاَنَ فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ قَالَ انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ فَقُلْ إِنَّ اللَّهَ أَوْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُكُمْ"
6679- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي بَرَاءَتِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { وَلاَ يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لاَحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا"
6680- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ "كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا"
قوله: "باب اليمين فيما لا يملك وفي المعصية والغضب" ذكر فيه ثلاثة أحاديث يؤخذ منها حكم ما في الترجمة على الترتيب، وقد تؤخذ الأحكام الثلاثة من كل منها ولو بضرب من التأويل، وقد ورد في الأمور الثلاثة على غير

(11/564)


شرطه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم" أخرجه أبو داود والنسائي ورواته لا بأس بهم، لكن اختلف في سنده على عمرو، وفي بعض طرقه عند أبي داود "ولا في معصية" وللطبراني في الأوسط عن ابن عباس رفعه: "لا يمين في غضب" الحديث وسنده ضعيف. حديث أبي موسى في قصة طلبهم الحملان في غزوة تبوك، اقتصر منه على بعضه، وفيه: "فقال لا أحملكم" وقد ساقه تاما غزوة تبوك بالسند المذكور هنا وفيه: "فقال والله لا أحملكم" وهو الموافق للترجمة، وأشار بقوله: "فيما لا يملك" إلى ما وقع في بعض طرقه كما سيأتي في "باب الكفارة قبل الحنث" فقال: "والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم" وقد أحلت بشرح الحديث على الباب المذكور، قال ابن المنير: فهم ابن بطال عن البخاري أنه نحا بهذه الترجمة لجهة تعليق الطلاق قبل ملك العصمة أو الحرية قبل ملك الرقبة، فنقل الاختلاف في ذلك وبسط القول فيه والحجج، والذي يظهر أن البخاري قصد غير هذا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يحملهم فلما حملهم راجعوه في يمينه فقال ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم، فبين أن يمينه إنما انعقدت فيما يملك فلو حملهم على ما يملك لحنث كفر، ولكنه حملهم على ما لا يملكه ملكا خاصا وهو مال الله وبهذا لا يكون قد حنث في يمينه. وأما قوله عقب ذلك "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها" فهو تأسيس قاعدة مبتدأة كأنه يقول ولو كنت حلفت ثم رأيت ترك ما حلفت عليه خيرا منه لأحنثت نفسي وكفرت عن يميني، قال وهم إنما سألوه أن يحملهم ظنا أنه يملك حملانا فحلف لا يحملهم على شيء يملكه لكونه كان حينئذ لا يملك شيئا من ذلك، قال: ولا خلاف أن من حلف على شيء وليس في ملكه أنه لا يفعل فعلا معلقا بذلك الشيء مثل قوله والله لئن ركبت مثلا هذا البعير لأفعلن كذا لبعير لا يملكه أنه لو ملكه وركبه حنث وليس هذا من تعليق اليمين على الملك، قلت: وما قاله محتمل، وليس ما قاله ابن بطال أيضا ببعيد بل هو أظهر، وذلك أن الصحابة الذين سألوا الحملان فهموا أنه حلف وأنه فعل خلاف ما حلف أنه لا يفعله، فلذلك لما أمر لهم بالحملان بعد قالوا "تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه" وظنوا أنه نسى حلفه الماضي، فأجابهم أنه لم ينس ولكن الذي فعله خير مما حلف عليه، وأنه إذا حلف فرأى خيرا من يمينه فعل الذي حلف أن لا يفعله وكفر عن يمينه، وسيأتي واضحا في "باب الكفارة قبل الحنث" ويأتي مزيد لمسألة اليمين فيما لا يملك في "باب النذر فيها لا يملك" إن شاء الله تعالى. ذكر طرفا من حديث الإفك، وعبد العزيز شيخه هو ابن عبد الله الأويسي، وإبراهيم هو ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان، وحجاج شيخه في السند الثاني هو ابن المنهال، وقد أورده عن عبد العزيز بطوله في المغازي، وأورد عن حجاج بهذا السند أيضا منه قطعة في الشهادات تتعلق بقول بريرة "ما علمت إلا خيرا" وقطعة في الجهاد فيمن أراد سفرا فأقرع بين نسائه، وقطعة في تفسير سورة يوسف مقررنا أيضا برواية عبد العزيز في قول يعقوب "فصبر جميل"، وقطعة في غزوة بدر في قصة أم مسطح وقول عائشة لها "تسبين رجلا شهد بدرا" وقطعة في التوحيد في قول عائشة "ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى" ومجموع ما أورده عنه لا يجيء قدر عشر الحديث، والغرض منه قوله فيه: "قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح والله لا أنفق على مسطح" وهو موافق لترك اليمين في المعصية لأنه حلف أن لا ينفع مسطحا لكلامه في عائشة فكان حالفا على ترك طاعة فنهى الاستمرار على ما حلف عليه فيكون النهي عن الحلف على فعل المعصية بطريق الأولى، والظاهر من حاله عند الحلف أن يكون قد غضب على مسطح من أجل قوله الذي قاله.

(11/565)


وقال الكرماني: لا مناسبة لهذا الحديث بالجزءين الأولين إلا أن يكون قاسهما على الغضب، أو المراد بقوله وفي المعصية وفي شأن المعصية لأن الصديق حلف بسبب إفك مسطح والإفك من المعصية؛ وكذا كل ما لا يملك الشخص فالحلف عليه موجب للتصرف فيما لا يملكه قبل ذلك أي ليس له أن يفعله شرعا انتهى، ولا يخفى تكلفه، والأولى أنه لا يلزم أن يكون كل خبر في الباب يطابق جميع ما في الترجمة. ثم قال الكرماني: الظاهر أنه من تصرفات النقلة من أصل البخاري فإنه مات وفيه مواضع مبيضة من تراجم بلا حديث وأحاديث بلا ترجمة فأضافوا بعضا إلى بعض. قلت: وهذا إنما يصار إليه إذا لم تتجه المناسبة وقد بينا توجيهها والله أعلم. قوله: "حدثنا أبو معمر" هو عبد الله بن عمرو، وعبد الوارث هو ابن سعيد، وأيوب وهو السختياني، والقاسم هو ابن عاصم، وزهدم هو ابن مضرب الجرمي والجميع بصريون، وقوله: "فوافقته وهو غضبان" مطابق لبعض الترجمة، وفي القصة نحو ما في قصة أبي بكر من الحلف على ترك طاعة، لكن بينهما فرق، وهو أن حلف النبي صلى الله عليه وسلم وافق أن لا شيء عنده مما حلف عليه، بخلاف حلف أبي بكر فإنه حلف وهو قادر على فعل ما حلف على تركه. قال ابن المنير: لم يذكر البخاري في الباب ما يناسب ترجمة اليمين على المعصية إلا أن يريد بيمين أبي بكر على قطيعة مسطح وليست بقطيعة بل هي عقوبة له على ما ارتكب من المعصية بالقذف، ولكن يمكن أن يكون أبو بكر حلف على خلاف الأولى، فإذا نهى عن ذلك حتى أحنث نفسه فعل ما حلف على تركه، فمن حلف على فعل المعصية يكون أولى. قال: وكذلك قوله: "فأرى خيرا منها" يقتضي أن الحنث لفعل ما هو الأولى يقتضي الحنث لترك ما هو معصية بطريق الأولى، قال: ولهذا يقضي بحنث من حلف على معصية من قبل أن يفعلها انتهى. والقضاء المذكور عند المالكية كما سيأتي بسطه في "باب النذر في المعصية" قال ابن بطال: في حديث أبي موسى الرد على من قال إن يمين الغضبان لغو

(11/566)


باب إذا قال والله لا أتكلم فصلى أو قرأ أوسبح أو كبر أو حمد أو هلل فهو على نيته
...
19 - باب إِذَا قَالَ وَاللَّهِ لاَ أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ فَصَلَّى أَوْ قَرَأَ أَوْ سَبَّحَ أَوْ كَبَّرَ أَوْ حَمِدَ أَوْ هَلَّلَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الْكَلاَمِ أَرْبَعٌ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ" قَالَ أَبُو سُفْيَانَ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَلِمَةُ التَّقْوَى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
6681- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"
6682- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ"
6683- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

(11/566)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى "مَنْ مَاتَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ النَّارَ" وَقُلْتُ أُخْرَى "مَنْ مَاتَ لاَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ"
قوله: "باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصلى أو قرأ أو سبح -إلى أن قال- فهو على نيته" أي إن أراد إدخال القراءة والذكر حنث إذا قرأ أو ذكر وإن أراد أن لا يدخلهما لم يحنث، ولم يتعرض إذا أطلق، والجمهور على أنه لا يحنث. وعن الحنفية يحنث، وفرق بعض الشافعية بين القرآن فلا يحنث به ويحنث بالذكر، وحجة الجمهور أن الكلام في العرف ينصرف إلى كلام الآدميين وأنه لا يحنث بالقراءة والذكر داخل الصلاة فليكن كذلك خارجها، ومن الحجة في ذلك الحديث الذي عند مسلم: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءه القرآن" فحكم للذكر والقراءة بغير حكم كلام الناس. وقال ابن المنير: معنى قول البخاري "هو على نيته" أى العرفية، قال: ويحتمل أن يكون مراده أنه لا يحنث بذلك إلا إن لغوى إدخاله في نيته فيؤخذ منه حكم الإطلاق؛ قال: ومن فروع المسألة لو حلف لا كلمت زيدا ولا سلمت عليه فصلى خلفه فسلم الإمام وسلم المأموم التسليمة التي يخرج بها من الصلاة فلا يحنث بها جزما بخلاف التسليمة التي يرد بها على الإمام فلا يحنث أيضا لأنها ليست مما ينويه الناس عرفا، وفيه الخلاف انتهى. وهو على مذهبهم، ويأتي نظيره عندنا في التسليمة الثانية إذا كان من حلف لا يكلمه عن يساره فلا يحنث إلا إن قصد الرد عليه. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفضل الكلام أربع سبحان الله إلخ" هذا من الأحاديث التي لم يصلها البخاري في موضع آخر، وقد وصله النسائي من طريق ضرار بن مرة عن أبي صالح عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا بلفظه، وأخرجه مسلم من حديث سمرة بن جندب لكن بلفظ: "أحب" بدل "أفضل" وأخرجه ابن حبان من هذا الطريق بلفظ: "أفضل" ولحديث أبي هريرة طريق أخرى أخرجها النسائي وصححها ابن حبان من طريق أبي حمزة السكري عن الأعمش عن أبي صالح عنه بلفظ: "خير الكلام أربع لا يضرك بأيهن بدأت" فذكره، وأخرجه أحمد عن وكيع عن الأعمش فأبهم الصحابي، وأخرجه النسائي من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن السلولي عن كعب الأحبار من قوله، وقد بينت معاني هذه الألفاظ الأربعة في "باب فضل التسبيح" من كتاب الدعوات. قوله: "وقال أبو سفيان: كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل "تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" هذا طرف ذكره بالمعنى من الحديث الطويل وقد شرحته بطوله في أول الصحيح وفي تفسير آل عمران، والغرض منه ومن جميع ما ذكر في الباب أن ذكر الله من جملة الكلام وإطلاق "كلمة" على مثل سبحان الله وبحمده من إطلاق البعض على الكل. قوله: "وقال مجاهد: كلمة التقوى لا إله إلا الله" وصله عبد بن حميد من طريق منصور بن المعتمر عن مجاهد بهذا موقوفا على مجاهد، وقد جاء مرفوعا من أحاديث جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وأبو هريرة وابن عباس وسلمة بن الأكوع وابن عمر أخرجها كلها أبو بكر بن مردويه في تفسيره، وحديث أبي عند الترمذي وذكر أنه سأل أبا زرعة عنه فلم يعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وأخرجه أبو العباس البريقي في جزئه المشهور موقوفا على جماعة من الصحابة والتابعين. حديث سعيد بن المسيب عن أبيه لما حضرت أبا طالب الوفاة الحديث مختصر، وقد تقدم بتمامه وشرحه في السيرة النبوية، والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم: "قل لا إله إلا الله كلمة أحاج" بضم أوله وتشديد أخره وأصله

(11/567)


أحاجج والمراد أظهر لك بها الحجة. وحديث أبي هريرة "كلمتان خفيفتان على اللسان" الحديث وقد تقدم في الدعوات ويأتي شرحه مستوفى في آخر الكتاب. وحديث عبد الله وهو ابن مسعود قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلمة وقلت أخرى" الحديث وقد مضى، الكلام عليه في أوائل كتاب الجنائز، وذكرت ما وقع للنووي فيه، ووقع في تفسير البقرة بيان الكلمة المرفوعة من الكلمة الموقوفة؛ قال الكرماني: المتجه أن يقول من مات لا يجعل لله ندا لا يدخل النار، لكن لما كان دخول الجنة محققا للموحد جزم به ولو كان آخرا.

(11/568)


20 - باب مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ شَهْرًا وَكَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ
6684- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان بن بلال عن حميد "عن أنس رضي الله عنه قال آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وكانت انفكت رجله فأقام في مشربة تسعا وعشرين ليلة ثم نزل فقال يا رسول الله آليت شهرا فقال "إن الشهر يكون تسعا وعشرين"
قوله: "باب من حلف أن لا يدخل على أهله شهرا وكان الشهر تسعا وعشرين" أي ثم دخل فإنه لا يحنث، هذا يتصور إذا وقع الحلف أول جزء من الشهر اتفاقا، فإن وقع في أثناء الشهر ونقص هل يتعين أن يلفق ثلاثين أو يكتفي بتسع وعشرين؟ فالأول قول الجمهور. وقالت طائفة منهم ابن عبد الحكم من المالكية بالثاني، وقد تقدم بيان ذلك في آخر شرح حديث عمر الطويل في آخر النكاح، ومضى الكلام على تفسير الإيلاء وعلى حديث أنس المذكور في هذا الباب في باب الإيلاء، واحتج الطحاوي للجمهور بالحديث الصحيح الماضي في الصيام بلفظ: "الشهر تسع وعشرون فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإذا غم عليكم فأكملوا ثلاثين" قال فأوجب عليهم إذا أغمى ثلاثين وجعله على الكمال حتى يروا الهلال قبل ذلك. قلت: وهذا إنما يحتج به على من زعم أنه إذا وقعت يمينه في أثناء الشهر أن يكتفي بتسع وعشرين سواء كان ذلك الشهر الذي حلف فيه تسعا وعشرين أو ثلاثين، وقد نقل هو هذا المذهب عن قوم، وأما قول ابن عبد الحكم فإنما يصلح تعقبه بحديث عائشة قالت: "لا والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشهر تسع وعشرون، وإنما والله أعلم بما قال في ذلك أنه قال حين هجرنا لأهجرنكن شهرا ثم جاء لتسع وعشرين فسألته فقال إن شهرنا هذا كان تسعا وعشرين" قال الطحاوي بعد تخريجه: يعرف بذلك أن يمينه كانت مع رؤية الهلال، كذا قال وليس ذلك صريحا في الحديث، والله أعلم.

(11/568)


باب إذا حلف أن لا يشرب نبيذا فشرب طلاء أوسكرا أوعصيرا لم يحنث في قول بعض الناس وليست بأنبذة عنده
...
21 - باب إِنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ نَبِيذًا فَشَرِبَ طِلاَءً أَوْ سَكَرًا أَوْ عَصِيرًا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَنْبِذَةٍ عِنْدَهُ
6685- حَدَّثَنِي عَلِيٌّ سَمِعَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي حَازِمٍ أَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَسَ فَدَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُرْسِهِ فَكَانَتْ الْعَرُوسُ خَادِمَهُمْ فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ هَلْ تَدْرُونَ مَا سَقَتْهُ قَالَ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمْرًا فِي تَوْرٍ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَيْهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ"

(11/568)


باب إذا حلف أن لا يأتدم فأكل تمرا بخبز ، ومايكون منه الأدم.
...
22 - باب إِذَا حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْتَدِمَ فَأَكَلَ تَمْرًا بِخُبْزٍ وَمَا يَكُونُ مِنْ الأُدْمِ
6687- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ بِهَذَا"
6688- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ "سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَتْ نَعَمْ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبْتُ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أأَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ" فَقُلْتُ نَعَمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِمَنْ مَعَهُ "قُومُوا فَانْطَلَقُوا" وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو طَلْحَةَ حَتَّى دَخَلاَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ" فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ قَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ قَالَ "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا"
قوله: "باب إذا حلف أن لا يأتدم فأكل تمرا بخبز" أي هل يكون مؤتدما فيحنث أم لا؟ قوله: "وما يكون منه الأدم" هي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء، أي وباب بيان ما يحصل به الائتدام. حديث عائشة "ما شبع آل محمد من خبز بر مأدوم" وهو طرف من حديث مضى في الأطعمة بتمامه، وكذا التعليق المذكور بعده عن محمد بن كثير مضى ذكر من وصله عنه. وعابس بمهملة وبعد الألف موحدة ثم مهملة، وقوله

(11/570)


في آخره: "قال لعائشة بهذا" قال الكرماني أي روى عنها أو قال لها مستفهما ما شبع آل محمد؟ فقالت: نعم. قلت: والواقع خلاف هذا التقدير؛ وهو بين فيما أخرجه الطبراني والبيهقي من وجهين آخرين وهو أن عابسا قال لعائشة: أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الأضاحي؟ فذكر الحديث في آخره: "ما شبع إلخ" والنكتة في إيراده طريق محمد بن كثير الإشارة إلى أن عابسا لقي عائشة وسألها لرفع ما يتوهم في العنعنة في الطريق التي قبلها من الانقطاع، وقد تقدم شرح الحديث في كتاب الرقاق. حديث أنس في قصة أقراص الشعير وأكل القوم وهم سبعون أو ثمانون رجلا حتى شبعوا، وقد مضى شرحه في علامات النبوة، والقصد منه قوله: "فأمر بالخبز ففت وعصرت أم سليم عكة لها فأدمته" أي خلطت ما حصل من السمن بالخبز المفتوت: قال ابن المنير وغيره: مقصود البخاري الرد على من زعم أنه لا يقال ائتدم إلا إذا أكل بما اصطبغ به، قال: ومناسبته لحديث عائشة أن المعلوم أنها أرادت نفي الإدام مطلقا بقرينة ما هو معروف من شظف عيشهم فدخل فيه التمر وغيره. وقال الكرماني: وجه المناسبة أن التمر لما كان موجودا عندهم وهو غالب أقواتهم وكانوا شباعى منه علم أن أكل الخبز به ليس ائتداما، قال: ويحتمل أن يكون ذكر هذا الحديث في هذا الباب لأدنى ملابسة وهو لفظ المأدوم لكونه لم يجد شيئا على شرطه، قال: ويحتمل أن يكون إيراد هذا الحديث في هذه الترجمة من تصرف النقلة. قلت: والأول مباين لمراد البخاري، والثاني هو المراد، لكن بأن ينضم إليه ما ذكره ابن المنير، والثالث بعيدا جدا. قال ابن المنير، وأما قصة أم سليم فظاهرة المناسبة لأن السمن اليسير الذي فضل في قعر العكة لا يصطبغ به الأقراص التي فتتها، وإنما غابته أن يصير في الخبز من طعم السمن فأشبه ما إذا خالط التمر عند الأكل، ويؤخذ منه أن كل شيء يسمى عند الإطلاق إداما، فإن الحالف أن لا يأتدم يحنث إذا أكله مع الخبز، وهذا قول الجمهور سواء كان يصطبغ به أم لا. وقال، أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يحنث إذا ائتدم بالجبن، والبيض، وحالفهما محمد بن الحسن فقال: كل شيء يؤكل مع الخبز مما الغالب عليه ذلك كاللحم المشوي والجبن أدم، وعن المالكية يحنث بكل ما هو عند الحالف أدم ولكل قوم عادة، ومنهم من استثنى الملح جريشا كان أو مطيبا. "تنبيه": من حجة الجمهور حديث عائشة في قصة بريدة "فدعا بالغداء فأتى بخبز وإدام من أدم البيت" الحديث، وقد مضى شرحه مستوفى في مكانه، وترجم له المصنف في الأطعمة "باب الأدم" قال ابن بطال: دل هذا الحديث عن أن كل شيء في البيت مما جرت العادة بالائتدام به يسمى أدما مائعا كان أو جامدا. وكذا حديث: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة وإدامهم زائدة كبد الحوت" وقد تقدم شرحه في كتاب الرقاق، وفي خصوص اليمين المذكورة في الترجمة حديث يوسف بن عبد الله بن سلام "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة وقال: هذه إدام هذه" أخرجه أبو داود والترمذي بسند حسن، قال ابن القصار: لا خلاف بين أهل اللسان أن من أكل خبزا بلحم مشوي أنه ائتدم به، فلو قال أكلت خبزا بلا إدام كذا وإن قال أكلت خبزا بإدام صدق، وأما قول الكوفيين: الإدام اسم للجمع بين الشيئين فدل على أن المراد أن يستهلك الخبز فيه بحيث يكون تابعا له بأن تتداخل أجزاؤه في أجزائه وهذا لا يحصل إلا بما يصطبغ به، فقد أجاب من خالفهم بأن الكلام الأول مسلم لكن دعوى التداخل لا دليل عليه قبل التناول، وإنما المراد الجمع ثم الاستهلاك بالأكل فيتداخلان حينئذ.

(11/571)


23 - باب النِّيَّةِ فِي الأَيْمَانِ

(11/571)


6689- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب قال سمعت يحيى بن سعيد يقول أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول "سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"
قوله: "باب النية في الأيمان" بفتح الهمزة للجميع وحكى الكرماني أن في بعض النسخ بكسر الهمزة ووجهه بأن مذهب البخاري أن الأعمال داخلة في الإيمان. قلت: وقرينة ترجمة كتاب الأيمان والنذور كافية في نوهين الكسر. وعبد الوهاب المذكور في السند هو ابن عبد المجيد الثقفي، ومحمد بن إبراهيم هو التيمي، وقد تقدم شرح حديث الأعمال في أول بدء الوحي، ومناسبته للترجمة أن اليمين من جملة الأعمال فيستدل به على تخصيص الألفاظ بالنية زمانا ومكانا وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي ذلك، كمن حلف أن لا يدخل دار زيد وأراد في شهر أو سنة مثلا أو حلف أن لا يكلم زيدا مثلا وأراد في منزله دون غيره فلا يحنث إذا دخل بعد شهر أو سنة في الأولى ولا إذا كلمه في دار أخرى في الثانية، واستدل به الشافعي ومن تبعه فيمن قال: إن فعلت كذا فأنت طالق ونوى عددا أنه يعتبر العدد المذكور وإن لم يلفظ به، وكذا من قال إن فعلت كذا فأنت بائن إن نوى ثلاثا بانت وإن نوى ما دونها وقع ما نوى رجعيا، وخالف الحنفية في الصورتين، واستدل به على أن اليمين على نية الحالف لكن فيما عدا حقوق الآدميين فهي على نية المستحلف، ولا ينتفع بالتورية في ذلك إذا اقتطع بها حقا لغيره وهذا إذا تحاكما وما في غير المحاكمة فقال الأكثر نية الحالف. وقال مالك وطائفة نية المحلوف له. وقال النووي من ادعى حقا على رجل فأحلفه الحاكم انعقدت يمينه على ما نواه الحاكم ولا تنفعه التورية اتفاقا، فإن حلف بغير استحلاف الحاكم نفعت التورية إلا أنه إن أبطل بها حقا أثم وإن لم يحنث، وهذا كله إذا حلف بالله فإن حلف بالطلاق أو العتاق نفعته التورية ولو حلفه الحاكم لأن الحاكم ليس له أن يحلفه بذلك كذا أطلق، وينبغي فيما إذا كان الحاكم يرى جواز التحليف بذلك أن لا تنفعه التورية.

(11/572)


24 - باب إِذَا أَهْدَى مَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ وَالتَّوْبَةِ
6690- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ "سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} فَقَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"
قوله: "باب إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة" كذا الجميع إلا للكشميهني فعنده "القربة" بدل "التوبة" وكذا رأيته في مستخرج الإسماعيلي قال الكرماني: وقوله أهدى أي تصدق بماله أو جعله هدية للمسلمين. وهذا الباب هو أول أبواب النذور، والنذر في اللغة التزام خير أو شر، وفي الشرع التزام المكلف شيئا لم يكن عليه

(11/572)


منجزا أو معلقا وهو قسمان: نذر تبرر ونذر لجاج، ونذر التبرر قسمان: أحدهما ما يتقرب به ابتداء كلله على أن أصوم كذا، ويلتحق به ما إذا قال لله على أن أصوم كذا شكرا على ما أنعم به على من شفاء مريضي مثلا. وقد نقل بعضهم الاتفاق على صحته واستحبابه، وفي وجه شاذ لبعض الشافعية أنه لا ينعقد. والثاني ما يتقرب به معلقا بشيء ينتفع به إذا حصل له كأن قدم غائبي أو كفاني شر عدوي فعلى صوم كذا مثلا. والمعلق لازم اتفاقا وكذا المنجز في الراجح. ونذر اللجاج قسمان: أحدهما ما يعلقه على فعل حرام أو ترك واجب فلا ينعقد في الراجح إلا إن كان فرض كفاية أو كان في فعله مشقة فيلزمه، ويلتحق به ما يعلقه على فعل مكروه. والثاني ما يعلقه على فعل خلاف الأولى أو مباح أو ترك مستحب وفيه ثلاث أقوال للعلماء: الوفاء أو كفارة يمين أو التخير بينهما، واختلف الترجيح عند الشافعية وكذا عند الحنابلة، وجزم الحنفية بكفارة اليمين في الجميع والمالكية بأنه لا ينعقد أصلا. قوله: "أخبرني يونس" هو ابن يزيد الأيلي. قوله: "عن عبد الله بن كعب" هو والد عبد الرحمن الراوي عنه، وقد مضى تفسير سورة براءة عن أحمد ابن صالح "حدثني ابن وهب أخبرني يونس "قال أحمد" وحدثنا عنبسة حدثنا يونس عن ابن شهاب، أخبرني عبد الرحمن بن كعب أخبرني عبد الله بن كعب "ثم أخرجه من طريق إسحاق بن راشد عن ابن شهاب "أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه". قوله: "سمعت كعب بن مالك يقول في حديثه {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} " أي الحديث الطويل في قصة تخلفه في غزوة تبوك ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامه وكلام رفيقيه، وقد تقدم بطوله مع شرحه في المغازي لكن بوجه آخر عن ابن شهاب. قوله: "فقال في آخر حديثه إن من توبتي أن أنخلع" بنون وخاء معجمة أي أعرى من مالي كما يعرى الإنسان إذا خلع ثوبه. قوله: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" زاد أبو داود عن أحمد بن صالح بهذا السند "فقلت إني أمسك سهمي الذي بخيبر" وهو عند المصنف من وجه آخر عن ابن شهاب، وقع في رواية ابن إسحاق عن الزهري بهذا السند عند أبي داود بلفظ: "إن من توبتي أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة، قال لا، قلت فنصفه، قال لا، قلت فثلثه. قال نعم، قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر" وأخرج من طريق ابن عيينة عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه: "وإني أنخلع من مالي كله صدقة، قال "يجزي عنك الثلث" وفي حديث أبي لبابة عند أحمد وأبي داود نحوه. وقد اختلف السلف فيمن نذر أن يتصدق بجميع ماله على عشرة مذاهب فقال مالك: يلزمه الثلث بهذا الحديث، ونوزع في أن كعب بن مالك لم يصرح بلفظ النذر ولا بمعناه، بل يحتمل أنه نجز النذر، ويحتمل أن يكون أراده فاستأذن، والانخلاع الذي ذكره ليس بظاهر في صدور النذر منه، وإنما الظاهر أنه أراد أن يؤكد أمر توبته بالتصدق بجميع ماله شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليه وقال الفاكهاني في شرح العمدة: كان الأولى بكعب أن يستشير ولا يستبد برأيه، لكن كأنه قامت عنده حال لفرحه بتوبته ظهر له فيها أن التصدق بجميع ماله مستحق عليه في الشكر فأورد الاستشارة بصيغة الجزم انتهى وكأنه أراد أنه استبد برأيه في كونه جزم بأن من توبته أن ينخلع من جميع ماله إلا أنه نجز ذلك. وقال ابن المنير: لم يبت كعب الانخلاع بل استشار هل يفعل أو لا؟ قلت: ويحتمل أن يكون استفهم وحذفت أداة الاستفهام، ومن ثم كان الراجح عند الكثير من العلماء وجوب الوفاء لمن التزم أن يتصدق بجميع ماله إلا إذا كان على سبيل القرية، وقيل إن كان مليا لزمه وإن كان فقيرا فعليه كفارة يمين، وهذا قول الليث ووافقه ابن وهب

(11/573)


وزاد. وإن كان متوسطا يخرج قدر زكاة ماله، والأخير عن أبي حنيفة بغير تفصيل وهو قول ربيعة، وعن الشعبي وابن أبي لبابة لا يلزم شيء أصلا، وعن قتادة يلزم الغني العشر والمتوسط السبع والمملق الخمس، وقيل يلزم الكل إلا في نذر اللجاج فكفارته يمين، وعن سحنون يلزمه أن يخرج ما لا يضر به، وعن الثوري والأوزاعي وجماعة يلزمه كفارة يمين بغير تفصيل، وعن النخعي يلزمه الكل بغير تفصيل. وإذا تقرر ذلك فمناسبة حديث كعب للترجمة أن معنى الترجمة أن من أهدى أو تصدق بجميع ماله إذا تاب من ذنب أو إذا نذر هل ينفذ ذلك إذا نجزه أو علقه؟ وقصة كعب منطبقة على الأول وهو التنجيز، لكن لم يصدر منه تنجيز كما تقرر وإنما استشار فأشير عليه بإمساك البعض فيكون الأولى لمن أراد أن ينجز التصدق بجميع ماله أو يعلقه أن يمسك بعضه، ولا يلزم من ذلك أنه لو نجزه لم ينفذ. وقد تقدمت الإشارة في كتاب الزكاة إلى أن التصدق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال، فمن كان قويا على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يمنع وعليه يتنزل فعل أبي بكر الصديق وإيثار الأنصار على أنفسهم المهاجرين ولو كان بهم خصاصة، ومن لم يكن كذلك فلا وعليه يتنزل "لا صدقة إلا عن ظهر غني" وفي لفظ: "أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غني" قال ابن دقيق العيد: في حديث كعب أن للصدقة أثرا في محو الذنوب ومن ثم شرعت الكفارة المالية، ونازعه الفاكهاني فقال: التوبة تجب ما قبلها، وظاهر حال كعب أنه أراد فعل ذلك على جهة الشكر. قلت: مراد الشيخ أنه يؤخذ من قول كعب "إن من توبتي إلخ" أن للصدقة أثرا في قبول التوبة التي يتحقق بحصولها محو الذنوب، والحجة فيه تقرير النبي صلى الله عليه وسلم له على القول المذكور.

(11/574)


25 - باب إِذَا حَرَّمَ طَعَامَهُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَقَوْلُهُ {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}
6691- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ "سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ "لاَ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ" فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا لِقَوْلِهِ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا و قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ فَلاَ تُخْبِرِي بِذَلِكِ أَحَدًا"
قوله: "باب إذا حرم طعاما" في رواية غير أبي ذر "طعامه" وهذا من أمثلة نذر اللجاج وهو أن يقول مثلا طعام كذا أو شراب كذا علي حرام أو نذرت أو لله علي أن لا أكل كذا أو لا أشرب كذا، والراجح من أقوال العلماء أن ذلك لا ينعقد إلا إن قرنه بحلف فيلزمه كفارة يمين. قوله: "وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ

(11/574)


اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} " وزاد غير أبي ذر" إلى قوله: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك في كتاب الطلاق. وهل نزلت الآية في تحريم مارية أو في تحريم شرب العسل، وإلى الثاني أشار المصنف حيث ساقه في الباب. ويؤخذ حكم الطعام من حكم الشراب، قال ابن المنذر: اختلف فيمن حرم على نفسه طعاما أو شرابا يحل فقالت طائفة: لا يحرم عليه وتلزمه كفارة يمين، وبهذا قال أهل العراق. وقالت طائفة: لا تلزمه الكفارة إلا إن حلف، وإلى ترجيح هذا القول أشار المصنف بإيراد الحديث لقوله وقد حلفت وهو قول مسروق والشافعي ومالك، لكن استثنى مالك المرأة فقال تطلق قال إسماعيل القاضي: الفرق بين المرأة والأمة أنه لو قال امرأتي علي حرام فهو فراق التزمه فتطلق، ولو قال لأمته من غير أن يحلف فإنه ألزم نفسه ما لم يلزمه فلا تحرم عليه أمته، قال الشافعي: لا يقع عليه شيء إذا لم يحلف إلا إذا نوى الطلاق فتطلق أو العتق فتعتق، وعنه يلزمه كفارة يمين. قوله: "وقوله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} كأنه يشير إلى ما أخرجه الثوري في جامعه وابن المنذر من طريقه بسند صحيح عن ابن مسعود أنه جيء عنده بطعام فتنحى رجل فقال إني حرمته أن لا آكله فقال: إذن فكل وكفر عن يمينك، ثم تلا هذه الآية إلى قوله: {لا تَعْتَدُوا} قال ابن المنذر: وقد تمسك بعض من أوجب الكفارة ولو لم يحلف بما وقع في حديث أبي موسى في قصة الرجل الجرمي والدجاج، وتلك رواية مختصرة، وقد ثبت في بعض طرقه الصحيحة أن الرجل قال: حلفت أن لا آكله. قلت وقد أخرجه الشيخان في الصحيحين كذلك. قوله: "حدثنا الحسن بن محمد" هو الزعفراني، والحجاج بن محمد هو المصيصي. قوله: "زعم عطاء" وقع في رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن حجاج قال قال ابن جريج عن عطاء، وكذا في رواية هشام بن يوسف المذكورة في آخر الباب. قوله في آخر الباب "فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} – {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لعائشة وحفصة. {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} لقوله بل شربت عسلا" قلت: أشكل هذا السياق على بعض من لم يمارس طريقة البخاري في الاختصار، وذلك أن الحديث في الأصل عنده بتمامه كما تقدم [في التفسير والنكاح والطلاق] فلما أراد اختصاره هنا اقتصر منه على الكلمات التي تتعلق باليمين من الآيات مضيفا لها تسمية من أبهم فيها من آدمي وغيره، فلما ذكر "إن تتوبا" فسرهما بعائشة وحفصة، ولما ذكر "أسر حديثا" فسره بقوله: "لا بل شربت عسلا" . قوله: "وقال إبراهيم بن موسى" كذا لأبي ذر ولغيره: "قال لي إبراهيم بن موسى" وقد تقدم في التفسير بلفظ: "حدثنا إبراهيم بن موسى". قوله: "عن هشام" هو ابن يوسف وصرح به في التفسير، وقد اختصر هنا بعض السند ومراده أن هشاما رواه عن ابن جريج بالسند المذكور والمتن إلى قوله: "ولن أعود" فزاد له "وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا"

(11/575)


26 - باب الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَقَوْلِ الله تعالى { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}
6692- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ أَنَّهُ "سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنْ النَّذْرِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنَّ النَّذْرَ لاَ يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلاَ يُؤَخِّرُ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْبَخِيلِ"

(11/575)


6693- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُرَّةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ "إِنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ"
6694- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ"
قوله: "باب الوفاء بالنذر" أي حكمه أو فضله. قوله: "وقول الله تعالى يوفون بالنذر" يؤخذ منه أن الوفاء به قربة للثناء على فاعله، لكن ذلك مخصوص بنذر الطاعة، وقد أخرج الطبري من طريق مجاهد في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال: إذا نذروا في طاعة الله، قال القرطبي: النذر من العقود المأمور بالوفاء بها المثنى على فاعلها، وأعلى أنواعه ما كان غير معلق على شيء كمن يعافى من مرض فقال: "لله علي أن أصوم كذا أو أتصدق بكذا شكرا لله تعالى" ويليه المعلق على فعل طاعة كأن شفى الله مريضي صمت كذا أو صليت كذا، وما عدا هذا من أنواعه كنذر اللجاج كمن يستثقل عبده فينذر أن يعتقه ليتخلص من صحبته فلا يقصد القربة بذلك، أو يحمل على نفسه فينذر صلاة كثيرة أو صوما مما يشق عليه فعله ويتضرر بفعله فإن ذلك يكره وقد يبلغ بعضه التحريم. قوله: "حدثنا يحيى بن صالح" هو الوحاظي بضم الواو وتخفيف الحاء المهملة وبعد الألف ظاء معجمة. قوله: "سعيد بن الحارث" هو الأنصاري. قوله: "سمعت ابن عمر يقول: أو لم ينهوا عن النذر" كذا فيه، وكأنه اختصر السؤال فاقتصر على الجواب، وقد بينه الحاكم في "المستدرك" من طريق المعافى بن سليمان والإسماعيلي من طريق أبي عامر العقدي ومن طريق أبي داود واللفظ له قالا "حدثنا فليح عن سعيد بن الحارث قال: كنت عند ابن عمر فأتاه مسعود بن عمرو أحد بني عمرو بن كعب فقال: يا أبا عبد الرحمن إن ابني كان مع عمر بن عبيد الله بن معمر بأرض فارس فوقع فيها وباء وطاعون شديد فجعلت على نفسي لئن سلم الله ابني ليمشين إلى بيت الله تعالى، فقدم علينا وهو مريض ثم مات فما تقول؟ فقال ابن عمر: أولم تنهوا عن النذر؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث المرفوع وزاد: "أوف بنذرك" وقال أبو عامر "فقلت يا أبا عبد الرحمن إنما نذرت أن يمشي ابني. فقال: أوف بنذرك قال سعيد بن الحارث فقلت له: أتعرف سعيد بن المسيب؟ قال: نعم. قلت له: اذهب إليه ثم أخبرني ما قال لك، قال فأخبرني أنه قال له "امش عن ابنك" قلت يا أبا محمد وترى ذلك مقبولا؟ قال: نعم، أرأيت لو كان على ابنك دين لا قضاء له فقضيته أكان ذلك مقبولا؟ قال: نعم. قال فهذا مثل هذا انتهى. وأبو عبد الرحمن كنية عبد الله بن عمر وأبو محمد كنية سعيد بن المسيب، وأخرجه ابن حبان في النوع السادس والستين من القسم الثالث من طريق زيد بن أبي أنيسة متابعا لفليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث فذكر نحوه بتمامه ولكن لم يسم الرجل، وفيه أن ابن عمر لما قال له أوف بنذرك قال له الرجل: إنما نذرت أن يمشي ابني وإن ابني قد مات. فقال له: أوف بنذرك، كرر ذلك عليه ثلاثا، فغضب عبد الله فقال: أولم تنهوا عن النذر؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث المرفوع، قال سعيد: فلما رأيت ذلك قلت له انطلق إلى سعيد بن المسيب، وسياق الحاكم نحوه وأخصر منه

(11/576)


وقد وهم الحاكم في المستدرك فإن البخاري أخرجه كما ترى لكن اختصر القصة لكونها موقوفة. وهذا الفرع غريب وهو أن ينذر عن غيره فيلزم الغير الوفاء بذلك ثم إذا تعذر لزم الناذر. وقد كنت أستشكل ذلك، ثم ظهر لي أن الابن أقر بذلك والتزم به، ثم لما مات أمره ابن عمر وسعيد أن يفعل ذلك عن ابنه كما يفعل سائر القرب عنه كالصوم والحج والصدقة. ويحتمل أن يكون مختصا عندهما بما يقع من الوالد في حق ولده فيعقد لوجوب بر الوالدين على الولد بخلاف الأجنبي. وفي قول ابن عمر في هذه الرواية: "أولم تنهوا عن النذر" نظر، لأن المرفوع الذي ذكره ليس فيه تصريح بالنهي، لكن جاء عن ابن عمر التصريح، ففي الرواية التي بعدها من طريق عبد الله بن مرة وهو الهمداني بسكون الميم عن ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر" وفي لفظ لمسلم من هذا الوجه "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن النذر" وجاء بصيغة النهي الصريحة في رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "لا تنذروا". قوله: "لا يقدم شيئا ولا يؤخر" في رواية عبد الله بن مرة "لا يرد شيئا" وهي أعم، ونحوها في حديث أبي هريرة "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدر له" وفي رواية العلاء المشار إليها "فإن النذر لا يغني من القدر شيئا" وفي لفظ عنه "لا يرد القدر" وفي حديث أبي هريرة عنده "لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له" ومعاني هذه الألفاظ المختلفة متقاربة، وفيها إشارة إلى تعليل النهي عن النذر. وقد اختلف العلماء في هذا النهي: فمنهم من حمله على ظاهره، ومنهم من تأوله. قال ابن الأثير في النهاية: تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضرا ولا يغير قضاء فقال: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم أو تصرفوا به عنكم ما قدره عليكم، فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم، انتهى كلامه. ونسبه بعض شراح المصابيح للخطابي وأصله من كلام أبي عبيد فيما نقله ابن المنذر في كتابه الكبير فقال: كان أبو عبيد يقول وجه النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما، ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفى به ولا حمد فاعله، ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يتهاون به فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به. ثم استدل بما ورد من الحث على الوفاء به في الكتاب والسنة، وإلى ذلك أشار المازري بقوله: ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر والحض على الوفاء به. قال: وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث. ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب، وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار، ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم ينذر القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب. قال: ويشير إلى هذا التأويل قوله: "إنه لا يأتي بخير" وقوله: "إنه لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له" وهذا كالنص على هذا التعليل ا هـ. والاحتمال الأول يعم أنواع النذر والثاني يخص نوع المجازات، وزاد القاضي عياض: ويقال إن الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه، والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة. قال: ومحصل مذهب مالك أنه مباح إلا إذا كان مؤبدا لتكرره عليه في أوقات فقد يثقل عليه فعله فيفعله بالتكلف من غير طيب نفس

(11/577)


وغير خالص النية فحينئذ يكره. قال: وهذا أحد محتملات قوله: "لا يأتي بخير" أي إن عقباه لا تحمد وقد يتعذر الوفاء به، وقد يكون معناه لا يكون سببا لخير لم يقدر كما في الحديث، وبهذا الاحتمال الأخير صدر ابن دقيق العيد كلامه فقال: يحتمل أن تكون الباء للسببية كأنه قال لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القربة والطاعة من غير عوض يحصل له، وإن كان يترتب عليه خير وهو فعل الطاعة التي نذرها، لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه،. وقال النووي: معنى قوله: "لا يأتي بخير" أنه لا يرد شيئا من القدر كما بينته الروايات الأخرى. "تنبيه": قوله: "لا يأتي" كذا للأكثر، ووقع في بعض النسخ "لا يأت" بغير ياء وليس بلحن لأنه قد سمع نظيره من كلام العرب. وقال الخطابي في الأعلام: هذا باب من العلم غريب، وهو أن ينهي عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبا، وقد ذكر أكثر الشافعية -ونقله أبو علي السنجي عن نص الشافعي- أن النذر مكروه لثبوت النهي عنه وكذا نقل عن المالكية وجزم به عنهم ابن دقيق العيد، وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم والجزم عن الشافعية بالكراهة، قال: واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة لأنه لم يقصد به خالص القربة وإنما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررا بما التزمه. وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم وتوقف بعضهم في صحتها. وقال الترمذي بعد أن ترجم كراهة النذر وأورد حديث أبي هريرة ثم قال: وفي الباب عن ابن عمر العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا النذر. وقال ابن المبارك: معنى الكراهة في النذر في الطاعة وفي المعصية، فإن نذر الرجل في الطاعة فوفى به فله فيه أجر ويكره له النذر. قال ابن دقيق العيد: وفيه إشكال على القواعد فإنها تقتضي أن الوسيلة إلى الطاعة طاعة كما أن الوسيلة إلى المعصية معصية، والنذر وسيلة إلى التزام القربة فيلزم أن يكون قربة إلا أن الحديث دل على الكراهة. ثم أشار إلى التفرقة بين نذر المجازاة فحمل النهي عليه وبين نذر الابتداء فهو قربة محضة. وقال ابن أبي الدم في شرح الوسيط: القياس استحبابه، والمختار أنه خلاف الأولى وليس بمكروه، كذا قال، ونوزع بأن خلاف الأولى ما اندرج في عموم نهي والمكروه ما نهي عنه بخصوصه، وقد ثبت النهي عن النذر بخصوصه فيكون مكروها، وإني لأتعجب ممن انطلق لسانه بأنه ليس بمكروه مع ثبوت الصريح عنه فأقل درجاته أن يكون مكروها كراهة تنزيه، وممن بنى على استحبابه النووي في شرح المهذب فقال: إن الأصح أن التلفظ بالنذر في الصلاة لا يبطلها لأنها مناجاة لله فأشبه الدعاء ا هـ. وإذا ثبت النهي عن الشيء مطلقا فترك فعله داخل الصلاة أولى فكيف يكون مستحبا، وأحسن ما يحمل عليه كلام هؤلاء نذر التبرر المحض بأن يقول لله علي أن أفعل كذا أو لأفعلنه على المجازاة، وقد حمل بعضهم النهي على من علم من حاله عدم القيام بما التزمه حكاه شيخنا في شرح الترمذي، ولما نقل ابن الرفعة عن أكثر الشافعية كراهة النذر وعن القاضي حسين المتولي بعده والغزالي أنه مستحب لأن الله أثنى على من وفى به ولأنه وسيلة إلى القربة فيكون قربة قال: يمكن أن يتوسط فيقال: الذي دل الخبر على كراهته نذر المجازاة وأما نذر التبرر فهو قربة محضة لأن للناذر فيه غرضا صحيحا وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب وهو فوق ثواب التطوع ا هـ. وجزم القرطبي في "المفهم" بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال: هذا النهي محله أن يقول مثلا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا، ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكور على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعارضة، ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه

(11/578)


على شفائه، وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبا. وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث لقوله: "إنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه" قال وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة بقوله في الحديث أيضا: "فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا" والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح. قلت: بل تقرب من الكفر أيضا. ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة وقال: الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرما والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك ا هـ. وهو تفصيل حسن، ويؤيده قصة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر فإنها في نذر المجازاة. وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا، وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة، وكأن البخاري رمز في الترجمة إلى الجمع بين الآية والحديث بذلك وقد يشعر التعبير بالبخيل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة كما في الحديث المشهور "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه النسائي وصححه ابن حبان، أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي. ثم نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه" ولم يفرق بين المعلق وغيره انتهى، والاتفاق الذي ذكره مسلم، لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلق نظر وسيأتي شرحه بعد باب. قوله: "وإنما يستخرج بالنذر من البخيل" يأتي في حديث أبي هريرة الذي بعد بيان المراد بالاستخراج المذكور. قوله: "من البخيل" كذا في أكثر الروايات، ووقع في رواية مسلم في حديث ابن عمر، "من الشحيح" وكذا للنسائي. وفي رواية ابن ماجه: "من اللئيم" ومدار الجميع على منصور بن المعتمر عن عبد الله بن مرة فالاختلاف في اللفظ المذكور من الرواة عن منصور، والمعاني متقاربة لأن الشح أخص واللؤم أعم، قال الراغب: البخل إمساك ما يقتضي عمن يستحق، والشح بخل مع حرص، واللؤم فعل ما يلام عليه. قوله في حديث أبي هريرة "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء" ابن آدم بالنصب مفعول مقدم والنذر بالرفع هو الفاعل. قوله: "لم أكن قدرته" هذا من الأحاديث القدسية لكن سقط منه التصريح بنسبته إلى الله عز وجل، وقد أخرجه أبو داود في رواية ابن العبد عنه من رواية مالك، والنسائي وابن ماجه من رواية سفيان الثوري كلاهما عن أبي الزناد، وأخرجه مسلم من رواية عمرو بن أبي وعمر عن الأعرج، وتقدم في أواخر كتاب القدر من طريق همام عن أبي هريرة ولفظه: "لم يكن قدرته" وفي رواية للنسائي: "لم أقدره عليه" وفي رواية ابن ماجه: "إلا ما قدر له ولكن يغلبه النذر فأقدر له" وفي رواية مالك "بشيء لم يكن قدر له ولكن يلقيه النذر إلى القدر قدرته" وفي رواية مسلم: "لم يكن الله قدره له" وكذا وقع الاختلاف في قوله: "فيستخرج الله به من البخيل" ففي رواية مالك "فيستخرج به" على البناء لما لم يسم فاعله وكذا في رواية ابن ماجه والنسائي وعبدة "ولكنه شيء يستخرج به من البخيل" وفي رواية همام "ولكن يلقيه النذر وقد قدرته له أستخرج به من البخيل" وفي رواية مسلم: "ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج". قوله: "ولكن يلقيه النذر إلى القدر" تقدم البحث فيه في "باب إلقاء العبد النذر إلى القدر" وأن هذه الرواية

(11/579)


مطابقة للترجمة المشار إليها. قال الكرماني: فإن قيل القدر هو الذي يلقيه إلى النذر قلنا تقدير النذر غير تقدير الإلقاء فالأول يلجئه إلى النذر والنذر يلجئه إلى الإعطاء. قوله: "فيستخرج الله" فيه التفات ونسق الكلام أن يقال فأستخرج ليوافق قوله أولا "قدرته" وثانيا "فيؤتيني". قوله: "فيؤتيني عليه ما لم يكن يؤتيني عليه من قبل" كذا للأكثر أي يعطيني، ووقع في رواية الكشميهني: "يؤتني" بالجزم ووجهت بأنها بدل من قوله: "يكن" فجزمت بلم، ووقع في رواية مالك "يؤتي" في الموضعين. وفي رواية ابن ماجه: "فييسر عليه ما لم يكن ييسر عليه من قبل ذلك" وفي رواية مسلم: "فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج" وهذه أوضح الروايات: قال البيضاوي: عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرة، فنهي عنه لأنه فعل البخلاء إذ السخي إذا أراد أن يتقرب بادر إليه والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض يستوفيه أولا فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له، وذلك لا يغني من القدر شيئا فلا يسوق إليه خيرا، لم يقدر له ولا يرد عنه شرا قضى عليه، لكن النذر قد يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليخرجه، قال ابن العربي: فيه حجة على وجوب الوفاء بما التزمه الناذر، لأن الحديث نص على ذلك بقوله: "يستخرج به" فإنه لو لم يلزمه إخراجه لما تم المراد من وصفه بالبخل من صدور النذر عنه، إذ لو كان مخيرا في الوفاء لاستمر لبخله على عدم الإخراج. وفي الحديث الرد على القدرية كما تقدم تقريره في الباب المشار إليه، وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أنس "إن الصدقة تدفع ميتة السوء" فظاهره يعارض قوله: "إن النذر لا يرد القدر" ويجمع بينهما بأن الصدقة تكون سببا لدفع ميتة السوء، والأسباب مقدرة كالمسببات، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الرقي هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: "هي من قدر الله" أخرجه أبو داود والحاكم، ونحوه قول عمر "نفر من قدر الله إلى قدر الله" كما تقدم تقريره في كتاب الطب، ومثل ذلك مشروعية الطب والتداوي. وقال ابن العربي: النذر شبيه بالدعاء فإنه لا يرد القدر ولكنه من القدر أيضا، ومع ذلك فقد نهي عن النذر وندب إلى الدعاء، والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله والتضرع له والخضوع، وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة والله أعلم. وفي الحديث أن كل شيء يبتدئه المكلف من وجوه البر أفضل مما يلتزمه بالنذر قاله الماوردي، وفيه الحث على الإخلاص في عمل الخير وذم البخل، وأن من اتبع المأمورات واجتنب المنهيات لا يعد بخيلا. "تنبيه": قال ابن المنير: مناسبة أحاديث الباب لترجمة الوفاء بالنذر قوله: "يستخرج به من البخيل" وإنما يخرج البخيل ما تعين عليه إذ لو أخرج ما يتبرع به لكان جوادا. وقال الكرماني: يؤخذ معنى الترجمة من لفظ: "يستخرج" قلت: ويحتمل أن يكون البخاري أشار إلى تخصيص النذر المنهي عنه بنذر المعاوضة واللجاج بدليل الآية، فإن الثناء الذي تضمنته محمول على نذر القربة كما تقدم أول الباب، فيجمع بين الآية والحديث بتخصيص كل منهما بصورة من صور النذر والله أعلم.

(11/580)


27 - باب إِثْمِ مَنْ لاَ يَفِي بِالنَّذْرِ
6695- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ حَدَّثَنَا زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ قَالَ "سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" قَالَ عِمْرَانُ

(11/580)


لاَ أَدْرِي ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا بَعْدَ قَرْنِهِ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ"
قوله: "باب إثم من لا يفي بالنذر" كذا لأبي ذر، وسقط لغيره لفظ إثم، ذكر فيه حديث عمران بن حصين في "خير القرون" حديث عمران بن حصين في "خير القرون" وفي سنده أبو جمرة وهو بالجيم والراء واسمه نصر بن عمران، وزهدم بمعجمة أوله وزن جعفر ابن مضرب بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها موحدة، وقد تقدم شرحه مستوفى في الشهادات وفي فصائل الصحابة، والغرض منه هنا قوله: "ينذرون" بكسر الذال وبضمها لغتان. قوله: "ولا يفون" في رواية الكشميهني: "ولا يوفون" وهي رواية مسلم، وفي أخرى له كالأولى وهما لغتان أيضا. قوله: "ولا يؤتمنون" أي إنها خيانة ظاهرة بحيث لا يأمنهم أحد بعد ذلك. قال ابن بطال ما ملخصه: سوى بين من يخون أمانته ومن لا يفي بنذره، والخيانة مذمومة فيكون ترك الوفاء بالنذر مذموما، وبهذا تظهر المناسبة للترجمة. وقال الباجي: ساق ما وصفهم به مساق العيب، والجائز لا يعاب فدل على أنه غير جائز

(11/581)


28 - باب النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
6696- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ الْقَاسِمِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ"
[الحديث 6696- ظرفه في 6700]
قوله: "باب النذر في الطاعة" أي حكمه. ويحتمل أن يكون باب بالتنوين ويريد بقوله النذر في الطاعة حصر المبتدأ في الخبر فلا يكون نذر المعصية نذرا شرعا. قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} ساق غير أبي ذر إلى قوله: {مِنْ أَنْصَارٍ} . وذكر هذه الآية مشيرا إلى أن الذي وقع الثناء على فاعله نذر الطاعة، وهو يؤيد ما تقدم قريبا. قوله: "عن طلحة بن عبد الملك" هو الأيلي بفتح الهمزة وسكون المثناة من تحت نزيل المدينة، ثقة عندهم من طبقة ابن جريج، والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. ذكر ابن عبد البر عن قوم من أهل الحديث أن طلحة تفرد برواية هذا الحديث عن القاسم، وليس كذلك، فقد تابعه أيوب ويحيى بن أبي كثير عند ابن حبان، وأشار الترمذي إلى رواية يحيى ومحمد بن أبان عند ابن عبد البر وعبيد الله بن عمر عند الطحاوي، ولكن أخرجه الترمذي من رواية عبيد الله بن عمر عن طلحة عن القاسم، وأخرجه البزار من رواية يحيى بن أبي كثير عن محمد بن أبان فرجعت رواية عبيد الله إلى طلحة ورواية يحيى إلى محمد بن أبان وسلمت رواية أيوب من الاختلاف وهي كافية في رد دعوى انفراد طلحة به، وقد رواه أيضا عبد الرحمن بن المجبر بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الموحدة عن القاسم أخرجه الطحاوي. قوله: "من نذر أن يطيع الله فليطعه إلخ" الطاعة أعم من أن تكون في واجب أو مستحب، ويتصور النذر في فعل الواجب بأن يؤقته، كمن ينذر أن يصلي الصلاة في أول وقتها فيجب عليه ذلك بقدر ما أقته، وأما المستحب من جميع العبادات المالية والبدنية فينقلب بالنذر واجبا ويتقيد بما قيده به

(11/581)


الناذر والخبر صريح في الأمر بوفاء النذر إذا كان في طاعة وفي النهي عن ترك الوفاء به إذا كان في معصية، وهل يجب في الثاني كفارة يمين أو لا؟ قولان للعلماء سيأتي بيانهما بعد بابين، ويأتي أيضا بيان الحكم فيما سكت عنه الحديث وهو نذر المباح. وقد قسم بعض الشافعية الطاعة إلى قسمين: واجب عينا فلا ينعقد به النذر كصلاة الظهر مثلا وصفة فيه فينعقد كإيقاعها أول الوقت، وواجب على الكفاية كالجهاد فينعقد ومندوب عبادة عينا كان أو كفاية فينعقد ومندوب لا يسمى عبادة كعيادة المريض وزيارة القادم ففي انعقاده وجهان والأرجح انعقاده وهو قول الجمهور والحديث يتناوله فلا يخص من عموم الخبر إلا القسم الأول لأنه تحصيل الحاصل.

(11/582)


29 - باب إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ
6697- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ "أَوْفِ بِنَذْرِكَ"
قوله: "باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنسانا في الجاهلية ثم أسلم" أي هل يجب عليه الوفاء أو لا؟ والمراد بالجاهلية جاهلية المذكور وهو حاله قبل إسلامه، وأصل الجاهلية ما قبل البعثة، وقد ترجم الطحاوي لهذه المسألة من نذر وهو مشرك ثم أسلم فأوضح المراد، وذكر فيه حديث ابن عمر في نذر عمر في الجاهلية أنه يعتكف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" حديث ابن عمر في نذر عمر في الجاهلية أنه يعتكف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" قال ابن بطال قاس البخاري اليمين على النذر وترك الكلام على الاعتكاف فمن نذر أو حلف قبل أن يسلم على شيء يجب الوفاء به لو كان مسلما فإنه إذا أسلم يجب عليه على ظاهر قصة عمر، قال وبه يقول الشافعي وأبو ثور، كذا قال وكذا نقله ابن حزم عن الإمام الشافعي، والمشهور عند الشافعية أنه وجه لبعضهم وأن الشافعي وجل أصحابه على أنه لا يجب بل يستحب وكذا قال المالكية والحنفية، وعن أحمد في رواية يجب وبه جزم الطبري والمغيرة بن عبد الرحمن من المالكية والبخاري وداود وأتباعه. قلت: إن وجد عن البخاري التصريح بالوجوب قبل وإلا فمجرد ترجمته لا يدل على أنه يقول بوجوبه لأنه محتمل لأن يقول بالندب فيكون تقدير جواب الاستفهام يندب له ذلك، قال القابسي: لم يأمر عمر على جهة الإيجاب بل على جهة المشورة كذا قال، وقيل أراد أن يعلمهم أن الوفاء بالنذر من آكد الأمور فغلظ أمره بأن أمر عمر بالوفاء، واحتج الطحاوي بأن الذي يجب الوفاء به ما يتقرب به إلى الله والكافر لا يصح منه التقرب بالعبادة، وأجاب عن قصة عمر باحتمال أنه صلى الله عليه وسلم فهم من عمر أنه سمح بأن يفعل ما كان نذره فأمره به لأن فعله حينئذ طاعة لله تعالى فكان ذلك خلاف ما أوجبه على نفسه لأن الإسلام يهدم أمر الجاهلية. قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث يخالف هذا، فإن دل دليل أقوى منه على أنه لا يصح من الكافر قوي هذا التأويل وإلا فلا. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "عبيد الله بن عمر" هو العمري، ولعبد الله بن المبارك فيه شيخ آخر تقدم في غزوة حنين فأخرجه عن محمد بن مقاتل عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن أيوب عن نافع وأول حديثه "لما قفلنا من حنين سأل عمر" فذكر الحديث فأفاد تعيين زمان السؤال المذكور، وقد بينت الاختلاف على نافع ثم على أيوب في وصله وإرساله هناك وكذا ذكرت فيه فوائد زوائد تتعلق بسياقه وكذلك في فرض الخمس، وتقدم في أبواب الاعتكاف ما يتعلق به

(11/582)


وذكرت هناك ما يرد على من زعم أن عمر إنما نذر بعد أن أسلم وعلى من زعم أن اعتكاف عمر كان قبل النهي عن الصيام في الليل، وبقي هنا ما يتعلق بالنذر إذا صدر من شخص قبل أن يسلم ثم أسلم هل يلزمه؟ وقد ذكرت ما فيه. وقوله: "أوف بنذرك" لم يذكر في هذه الرواية متى اعتكف، وقد تقدم في غزوة حنين التصريح بأن سؤاله كان بعد قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالطائف، وتقدم في فرض الخمس أن في رواية سفيان بن عيينة عن أيوب من الزيادة "قال عمر فلم أعتكف حتى كان بعد حنين وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني جارية من السبي، فبينا أنا معتكف إذ سمعت تكبيرا" فذكر الحديث في من النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن بإطلاق سبيهم، وفي الحديث لزوم النذر للقربة من كل أحد حتى قبل الإسلام وقد تقدمت الإشارة إليه، أجاب ابن العربي بأن عمر لما نذر في الجاهلية ثم أسلم أراد أن يكفر ذلك بمثله في الإسلام فلما أراده ونواه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعلمه أنه لزمه، قال: وكل عبادة ينفرد بها العبد عن غيره تنعقد بمجرد النية العازمة الدائمة كالنذر في العبادة والطلاق في الأحكام وإن لم يتلفظ بشيء من ذلك، كذا قال، ولم يوافق على ذلك بل نقل بعض المالكية الاتفاق على أن العبادة لا تلزم إلا بالنية مع القول أو الشروع، وعلى التنزل فظاهر كلام عمر مجرد الإخبار بما وقع مع الاستخبار عن حكمه هل لزم أو لا؟ وليس فيه ما يدل على ما ادعاه من تجديد نية منه في الإسلام. وقال الباجي: قصة عمر هي كمن نذر أن يتصدق بكذا إن قدم فلان بعد شهر فمات فلان قبل قدومه فإنه لا يلزم الناذر قضاؤه فإن فعله فحسن، فلما نذر عمر قبل أن يسلم وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بوفائه استحبابا وإن كان لا يلزمه لأنه التزمه في حالة لا ينعقد فيها. ونقل شيخنا في شرح الترمذي أنه استدل به على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وإن كان لا يصح منهم إلا بعد أن يسلموا لأمر عمر بوفاء ما التزمه في الشرك، ونقل أنه لا يصح الاستدلال به لأن الواجب بأصل الشرع كالصلاة لا يجب عليهم قضاؤها فكيف يكلفون بقضاء ما ليس واجبا بأصل الشرع؟ قال: ويمكن أن يجاب بأن الواجب بأصل الشرع مؤقت بوقت وقد خرج قبل أن يسلم الكافر ففات وقت أدائه فلم يؤمر بقضائه لأن الإسلام يجب ما قبله، فأما إذا لم يؤقت نذره فلم يتعين له وقت حتى أسلم فإيقاعه له بعد الإسلام يكون أداء لاتساع ذلك باتساع العمر. قلت: وهذا البحث يقوي ما ذهب إليه أبو ثور ومن قال بقوله، وإن ثبت النقل عن الشافعي بذلك فلعله كان يقوله أولا فأخذه عنه أبو ثور، ويمكن أن يؤخذ من الفرق المذكور وجوب الحج على من أسلم لاتساع وقته بخلاف ما فات وقته، والله أعلم. "تنبيه": المراد بقول عمر في الجاهلية قبل إسلامه لأن جاهلية كل أحد بحسبه، ووهم من قال: الجاهلية في كلامه زمن فترة النبوة والمراد بها هنا ما قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم فإن هذا يتوقف على نقل، وقد تقدم أنه نذر قيل أن يسلم وبين البعثة وإسلامه مدة.

(11/583)


30 - باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ
وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلاَةً بِقُبَاءٍ فَقَالَ صَلِّي عَنْهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ
6698- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ"

(11/583)


6699- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ إِنَّ أُخْتِي قَدْ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ"
قوله: "باب من مات وعليه نذر" أي هل يقضى عنه أو لا؟ والذي ذكره في الباب يقتضي الأول، لكن هل هو على سبيل الوجوب أو الندب؟ خلاف يأتي بيانه. قوله: "وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء" يعني فماتت "فقال صلى عنها. وقال ابن عباس نحوه" وصله مالك عن عبد الله بن أبي بكر أي ابن محمد بن عمرو بن حزم عن عمته أنها حدثته عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها، وأخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال مرة عن ابن عباس قال: إذا مات وعليه نذر قضى عنه وليه. ومن طريق عون بن عبد الله بن عتبة أن امرأة نذرت أن تعتكف عشرة أيام فماتت ولم تعتكف فقال ابن عباس اعتكف عن أمك. وجاء عن ابن عمر وابن عباس خلاف ذلك فقال مالك في الموطأ: إنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد. وأخرج النسائي من طريق أيوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد أورده ابن عبد البر من طريقه موقوفا ثم قال: والنقل في هذا عن ابن عباس مضطرب. قلت: ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حق من مات والنفي في حق الحي، ثم وجدت عنه ما يدل على تخصيصه في حق الميت بما إذا مات وعليه شيء واجب فعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: سئل ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر فقال: يصام عنه النذر. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله: "صلى عنها" العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" فعد منها الولد لأن الولد من كسبه فأعماله الصالحة مكتوبة للوالد من غير أن ينقص من أجره، فمعنى صلى عنها أن صلاتك مكتتبة لها ولو كنت إنما تنوي عن نفسك، كذا قال ولا يخفى تكلفه. وحاصل كلامه تخصيص الجواز بالولد، وإلى ذلك جنح ابن وهب وأبو مصعب من أصحاب الإمام مالك، وفيه تعقب على ابن بطال حيث نقل الإجماع أنه لا يصلي أحد عن أحد لا فرضا ولا سنة لا عن حي ولا عن ميت، ونقل عن المهلب أن ذلك لو جاز لجاز في جميع العبادات البدنية ولكان الشارع أحق بذلك أن يفعله عن أبويه، ولما نهي عن الاستغفار لعمه، ولبطل معنى قوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} انتهى. وجميع ما قال لا يخفى وجه تعقبه خصوصا ما ذكره في حق الشارع، وأما الآية فعمومها مخصوص اتفاقا والله أعلم. "تنبيه": ذكر الكرماني أنه وقع في بعض النسخ "قال صلى عليها" وجه بأن "على" بمعنى "عن" على رأي قال: أو الضمير راجع إلى قباء. حديث ابن عباس أن سعد بن عبادة استفتى في نذر كان على أمه، وقد تقدم شرحه في كتاب الوصايا وذكرت من قال فيه عن سعد بن عبادة فجعله من مسنده. قوله في آخر الحديث في قصة سعد بن عبادة "فكانت سنة بعد" أي صار قضاء الوارث ما على المورث طريقة شرعية أعم من أن يكون وجوبا أو ندبا، ولم أر هذه الزيادة في غير رواية شعيب عن الزهري، فقد أخرج الحديث الشيخان من رواية مالك والليث وأخرجه مسلم أيضا من رواية ابن عيينة ويونس ومعمر وبكر بن وائل والنسائي من رواية الأوزاعي والإسماعيلي من

(11/584)


رواية موسى بن عقبة وابن أبي عتيق وصالح بن كيسان كلهم عن الزهري بدونها، وأظنها من كلام الزهري ويحتمل من شيخه، وفيها تعقب على ما نقل عن مالك لا يحج أحد عن أحد، واحتج بأنه لم يبلغه عن أحد من أهل دار الهجرة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج عن أحد ولا أمر به ولا أذن فيه، فيقال لمن قلد، قد بلغ ذلك غيره؛ وهذا الزهري معدود في فقهاء أهل المدينة وكان شيخه في هذا الحديث، وقد استدل بهذه الزيادة ابن حزم للظاهرية ومن وافقهم في أن الوارث يلزمه قضاء النذر عن مورثه في جميع الحالات، قال: وقد وقع نظير ذلك في حديث الزهري عن سهيل في اللعان لما فارقها الرجل قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراقها قال: فكانت سنة. واختلف في تعيين نذر أم سعد فقيل كان صوما لما رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "جاء رجل فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: نعم" الحديث، وتعقب بأنه لم يتعين أن الرجل المذكور هو سعد بن عبادة، وقيل كان عتقا قاله ابن عبد البر، واستدل بما أخرجه من طريق القاسم بن محمد "أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: نعم" وتعقب بأنه مع إرساله ليس فيه التصريح بأنها كانت نذرت ذلك، وقيل كان نذرها صدقة وقد ذكرت دليله من الموطأ وغيره من وجه آخر عن سعد بن عبادة "أن سعدا خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لأمه: أوص، قالت: المال مال سعد؛ فتوفيت قبل أن يقدم فقال: يا رسول الله هل ينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم" وعند أبي داود من وجه آخر نحوه وزاد: "فأي الصدقة أفضل؟ قال: الماء" الحديث. وليس في شيء من ذلك التصريح بأنها نذرت ذلك. قال عياض: والذي يظهر أنه كان نذرها في المال أو مبهما. قلت: بل ظاهر حديث الباب أنه كان معينا عند سعد والله أعلم. وفي الحديث قضاء الحقوق الواجبة عن الميت، وقد ذهب الجمهور إلى أن من مات وعليه نذر مالي أنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوص إلا إن وقع النذر في مرض الموت فيكون من الثلث، وشرط المالكية والحنفية أن يوصي بذلك مطلقا، واستدل للجمهور بقصة أم سعد هذه، وقول الزهري إنها صارت سنة بعد، ولكن يمكن أن يكون سعد قضاه من تركتها أو تبرع به. وفيه استفتاء الأعلم، وفيه فضل بر الوالدين بعد الوفاة والتوصل إلى براءة ما في ذمتهم. وقد اختلف أهل الأصول في الأمر بعد الاستئذان هل يكون كالأمر بعد الحظر أو لا؟ فرجح صاحب" المحصول" أنه مثله، والراجح عند غيره أنه للإباحة كما رجح جماعة في الأمر بعد الحظر أنه للاستحباب. حديث ابن عباس "أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت" الحديث وفيه: "فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء" وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب الحج، وذكر الاختلاف في السائل أهو رجل كما وقع هنا أو امرأة كما وقع هناك؟ وأنه الراجح، وذكرت ما قيل في اسمها وأنها حمنة، وبينت أنها هي السائلة عن الصيام أيضا، وبالله التوفيق.

(11/585)


باب النذر فيما لايملك وفي معصية
...
31 - باب النَّذْرِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ وَفِي مَعْصِيَةٍ
6700- حدثنا أبو عاصم عن مالك عن طلحة بن عبد الملك عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه"
6701- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ

(11/585)


تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ وَرَآهُ يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ"
وَقَالَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ
6702- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ"
6703- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِي أَنْفِهِ فَقَطَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ"
6704- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ وَلاَ يَسْتَظِلَّ وَلاَ يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ" قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب النذر فيما لا يملك وفي معصية" وقع في شرح ابن بطال "ولا نذر في معصية" وقال: ذكر فيه حديث عائشة "من نذر أن يطيع الله فليطعه" الحديث، وحديث أنس في الذي رآه يمشي بين ابنيه فنهاه، وحديث ابن عباس في الذي طاف وفي أنفه خزامة فنهاه، وحديثه في الذي نذر أن يقوم ولا يستظل فنهاه، قال ولا مدخل لهذه الأحاديث في النذر فيما لا يملك وإنما تدخل في نذر المعصية، وأجاب ابن المنير بأن الصواب مع البخاري فإنه تلقى عدم لزوم النذر فيما لا يملك من عدم لزومه في المعصية لأن نذره في ملك غيره تصرف في ملك الغير بغير إذنه وهي معصية ثم قال: ولهذا لم يقل باب النذر فيما لا يملك وفي المعصية بل قال النذر فيما لا يملك ولا نذر في معصية. فأشار إلى اندراج نذر مال الغير في نذر المعصية فتأمله انتهى. وما نفاه ثابت في معظم الروايات عن البخاري لكن بغير لام وهو لا يخرج عن التقرير الذي قرره لأن التقدير باب النذر فيما لا يملك وحكم النذر في معصية، فإذا ثبت نفي النذر في المعصية التحق به النذر فيما لا يملك لأنه يستلزم المعصية لكونه تصرفا في ملك الغير. وقال الكرماني: الدلالة على الترجمة من جهة أن الشخص لا يملك تعذيب نفسه ولا التزام المشقة التي لا تلزمه حيث لا قربة فيها، ثم استشكله بأن الجمهور فسروا ما لا يملك بمثل النذر بإعتاق عبد فلان انتهى. وما وجهه به ابن المنير أقرب، لكن يلزم عليه تخصيص ما لا يملك بما إذا نذر شيئا معينا كعتق عبد فلان إذا ملكه مع أن اللفظ عام فيدخل فيه ما إذا نذر عتق عبد غير معين فإنه يصح، ويجاب بأن دليل التخصيص الاتفاق على انعقاد النذر في المبهم وإنما وقع الاختلاف في المعين، وقد تقدم التنبيه في "باب من حلف بملة سوى الإسلام" على الموضع الذي أخرج البخاري فيه التصريح بما يطابق الترجمة وهو في حديث ثابت بن الضحاك بلفظ: "وليس على

(11/586)


ابن آدم نذر فيما لا يملك" وقد أخرجه الترمذي مقتصرا على هذا القدر من وأخرج أبو داود سبب هذا الحديث مقتصرا عليه أيضا ولفظه: نذر رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحر ببوانة -يعني موضعا وهو بفتح الموحدة وتخفيف الواو وبنون- فذكر الحديث، وأخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي كانت أسيرة فهربت على ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن الذين أسروا المرأة انتهبوها فنذرت إن سلمت أن تنحرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" وأخرج ابن أبي شيبة من حديث أبي ثعلبة الحديث دون القصة بنحوه، ووقعت مطابقة جميع الترجمة في حديث عمران بن حصين المذكور، وأخرجه النسائي من حديث عبد الرحمن بن سلمة مثله وأخرجه أبو داود من حديث عمر بلفظ: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك" وأخرجه أبو داود والنسائي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، واختلف فيمن وقع منه النذر في ذلك هل تجب فيه كفارة؟ فقال الجمهور: لا، وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم، ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين، واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة، واحتج من أوجبها بحديث عائشة "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" أخرجه أصحاب السنن ورواته ثقات، لكنه معلول فإن الزهري رواه عن أبي سلمة ثم بين أنه حمله عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة فدلسه بإسقاط اثنين، وحسن الظن بسليمان وهو عند غيره ضعيف باتفاقهم، وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال: لا يصح، ولكن له شاهد من حديث عمران بن حصين أخرجه النسائي وضعفه وشواهد أخرى ذكرتها آنفا. وأخرج الدار قطني من حديث عدي بن حاتم نحوه. وفي الباب أيضا عموم حديث عقبة بن عامر" كفارة النذر كفارة اليمين" أخرجه مسلم، وقد حمله الجمهور على نذر اللجاج والغضب وبعضهم على النذر المطلق، لكن أخرج الترمذي وابن ماجه حديث عقبة بلفظ: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين" ولفظ ابن ماجه: "من نذر نذرا لم يسمه" الحديث، وفي الباب حديث ابن عباس رفعه: "من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين" أخرجه أبو داود، وفيه: "ومن نذر في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين" ورواته ثقات، لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا وهو أشبه، وأخرجه الدار قطني من حديث عائشة، وحمله أكثر فقهاء أصحاب الحديث على عمومه لكن قالوا: إن الناذر مخير بين الوفاء بما التزمه وكفارة اليمين، وقد تقدم حديث عائشة المذكور أول الباب قريبا وهو بمعنى حديث: "لا نذر في معصية" ولو ثبتت الزيادة لكانت مبينة لما أجمل فيه، واحتج بعض الحنابلة بأنه ثبت عن جماعة من الصحابة ولا يحفظ عن صحابي خلافه قال والقياس يقتضيه، لأن النذر يمين كما وقع في حديث عقبة لما نذرت أخته أن تحج ماشية لتكفر عن يمينها فسمي النذر يمينا، ومن حيث النظر هو عقدة لله تعالى بالتزام شيء، والحالف عقد يمينه بالله ملتزما بشيء ثم بين أن النذر آكد من اليمين ورتب عليه أنه لو نذر معصية ففعلها لم تسقط عنه الكفارة بخلاف الحالف، وهو وجه للحنابلة، واحتج له بأن الشارع نهى عن المعصية وأمر بالكفارة فتعينت، واستدل بحديث: "لا نذر في معصية" لصحة النذر في المباح لأن فيه نفي النذر في المعصية فبقي ما عداه ثابتا، واحتج من قال إنه يشرع في المباح بما أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه أحمد والترمذي من حديث بريدة "أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال:

(11/587)


"أوف بنذرك" وزاد في حديث بريدة أن ذلك وقت خروجه في غزوة فنذرت إن رده الله تعالى سالما. قال البيهقي: يشبه أن يكون أذن لها في ذلك لما فيه من إظهار الفرح بالسلامة، ولا يلزم من ذلك القول بانعقاد النذر به، ويدل على أن النذر لا ينعقد في المباح حديث ابن عباس ثالث أحاديث الباب فإنه أمر الناذر بأن يقوم ولا يقعد ولا يتكلم ولا يستظل ويصوم ولا يفطر بأن يتم صومه ويتكلم ويستظل ويقعد، فأمره بفعل الطاعة وأسقط عنه المباح. وأصرح من ذلك ما أخرجه أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أيضا: "إنما النذر ما يبتغى به وجه الله" والجواب عن قصة التي نذرت الضرب بالدف ما أشار إليه البيهقي، ويمكن أن يقال: إن من قسم المباح ما قد يصير بالفصد مندوبا كالنوم في القائلة للتقوى على قيام الليل وأكلة السحر للتقوى على صيام النهار، فيمكن أن يقال إن إظهار الفرح بعود النبي صلى الله عليه وسلم سالما معنى مقصود يحصل به الثواب، وقد اختلف في جواز الضرب بالدف في غير النكاح والختان، ورجح الرافعي في "المحرر" وتبعه في "المنهاج" الإباحة، والحديث حجة في ذلك، وقد حمل بعضهم إذنه لها في الضرب بالدف على أصل الإباحة لا على خصوص الوفاء بالنذر كما تقدم، ويشكل عليه أن في رواية أحمد في حديث بريدة "إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا" وزعم بعضهم أن معنى قولها "نذرت" حلفت، والإذن فيه للبر بفعل المباح، ويؤيد ذلك أن في آخر الحديث: "أن عمر دخل فتركت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليخاف منك يا عمر" فلو كان ذلك مما يتقرب به ما قال ذلك، لكن هذا بعينه يشكل على أنه مباح لكونه نسبه إلى الشيطان، ويجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أن الشيطان حضر لمحبته في سماع ذلك لما يرجوه من تمكنه من الفتنة به فلما حضر عمر فر منه لعلمه بمبادرته إلى إنكار مثل ذلك، أو أن الشيطان لم يحضر أصلا وإنما ذكر مثالا لصورة ما صدر من المرأة المذكورة وهي إنما شرعت في شيء أصله من اللهو فلما دخل عمر خشيت من مبادرته لكونه لم يعلم بخصوص النذر أو اليمين الذي صدر منها فشبه النبي صلى الله عليه وسلم حالها بحالة الشيطان الذي يخاف من حضور عمر والشيء بالشيء يذكر، وقرب من قصتها قصة القينتين اللتين كانتا تغنيان عند النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد فأنكر أبو بكر عليهما وقال: "أبمزمور الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم" فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة مثل ذلك في يوم العيد. فهذا ما يتعلق بحديث عائشة. حديث أنس وهو الثاني من أحاديث الباب فذكره هنا مختصرا وتقدم في أواخر الحج قبيل فضائل المدينة بتمامه وأوله "رأى شيخا يهادي بين ابنيه قال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي" فذكر الحديث وفيه: "وأمره أن يركب" وقوله: "قال الفزاري" يعني مروان بن معاوية "عن حميد حدثني ثابت عن أنس" كأنه أراد بهذا التعليق تصريح حميد بالتحديث، وقد وصله في الباب المشار إليه في الحج عن محمد بن سلام عن الفزاري، وبينت هناك من رواه عن حميد موافقا للفزاري ومن رواه عن حميد بدون ذكر ثابت فيه، وذكر المصنف هناك حديث عقبة بن عامر قال: "ندرت أختي أن تمشي إلى بيت الله" الحديث وفيه: "لتمشي ولتركب" وتقدم بعض الكلام عليه ثم. ووقع للمزي في "الأطراف" فيه وهم فإنه ذكر أن البخاري أخرجه في الحج عن إبراهيم بن موسى وفي النذور عن أبي عاصم، والموجود في نسخ البخاري أن الطريقين معا في الباب المذكور من الحج، وليس لحديث عقبة في النذور ذكر أصلا، وإنما أمر الناذر في حديث أنس أن يركب جزما وأمر أخت عقبة أن تمشي وأن تركب، لأن الناذر في حديث أنس كان شيخا ظاهر العجز وأخت عقبة لم توصف بالعجز فكأنه أمرها أن تمشي إن قدرت وتركب إن عجزت، وبهذا ترجم البيهقي للحديث، وأورد في

(11/588)


بعض طرقه من رواية عكرمة عن ابن عباس "أن أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية فقال: إن الله غني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة" وأصله عند أبي داود بلفظ: "ولتهد هديا" ووهم من نسب إليه أنه أخرج هذا الحديث بلفظ ولتهد بدنة، وأورده من طريق أخرى عن عكرمة بغير ذكر الهدي، وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ: "جاء رجل فقال إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت وأنه يشق عليها المشي، فقال: مرها فلتركب إذا لم تستطع أن تمشي فما أغنى الله أن يشق على أختك" ومن طريق كريب عن ابن عباس "جاء رجل فقال: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية، فقال: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا، لتحج راكبة ثم لتكفر يمينها" وأخرجه أصحاب السنن من طريق عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر قال: "نذرت أختي أن تحج ماشية غير مختمرة فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مر أختك فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام" ونقل الترمذي عن البخاري أنه لا يصح فيه الهدي، وقد أخرج الطبراني من طريق أبي تميم الجيشاني عن عقبة بن عامر في هذه القصة "نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة" وفيه: "لتركب ولتلبس ولتصم" وللطحاوي من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن عقبة بن عامر نحوه. وأخرج البيهقي بسند ضعيف عن أبي هريرة "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في جوف الليل إذ بصر بخيال نفرت منه الإبل، فإذا امرأة عريانة نافضة شعرها، فقالت: نذرت أن أحج ماشية عريانة نافضة شعري، فقال: "مرها فلتلبس ثيابها ولتهرق دما" وأورد من طريق الحسن عن عمران رفعه: "إذا نذر أحدكم أن يحج ماشيا فليهد هديا وليركب" وفي سنده انقطاع، وفي الحديث صحة النذر بإتيان البيت الحرام، وعن أبي حنيفة إذا لم ينو حجا ولا عمرة لا ينعقد، ثم إن نذره راكبا لزمه فلو مشى لزمه دم لترفهه بتوفر مؤنة الركوب، وإن نذره ماشيا لزمه من حيث أحرم إلى أن تنتهي العمرة أو الحج، وهو قول صاحبي أبي حنيفة، فإن ركب بعذر أجزأه ولزمه دم في أحد القولين عن الشافعي، واختلف هل يلزمه بدنة أو شاة؟ وإن ركب بلا عذر لزمه الدم، وعن المالكية في العاجز يرجع من قابل فيمشي ما ركب إلا إن عجز مطلقا فيلزمه الهدي، وليس في طرق حديث عقبة ما يقتضي الرجوع، فهو حجة للشافعي ومن تبعه، وعن عبد الله بن الزبير لا يلزمه شيء مطلقا، قال القرطبي زيادة الأمر بالهدي رواتها ثقات ولا ترد، وليس سكوت من سكت عنها بحجة على من حفظها وذكرها، قال: والتمسك بالحديث في عدم إيجاب الرجوع ظاهر، ولكن عمدة مالك عمل أهل المدينة. "تنبيه": يقال إن الرجل المذكور في حديث أنس هو أبو إسرائيل المذكور في حديث ابن عباس الذي بعد الباب، كذا نقله مغلطاي عن الخطيب، وهو تركيب منه، وإنما ذكر الخطيب ذلك في الرجل المذكور في حديث ابن عباس آخر الباب، وتغاير القصتين أوضح من أن يتكلف لبيانه. حديث ابن عباس في الذي طاف بزمام وهو الحديث الثالث فأورده بعلو عن أبي عاصم عن ابن جريج ولفظه: "رأى رجلا يطوف بالكعبة بزمام أو غيره فقطعه" ثم أورده بنزول عن إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج بلفظ: "مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان يقود إنسانا بخزامة في أنفه فقطعها ثم أمره أن يقوده بيده "والخزامة بكسر المعجمة وتخفيف الزاي حلقة من شعر أو وبر تجعل في الحاجز الذي بين منخري البعير يشد فيها الزمام ليسهل انقياده إذا كان صعبا، وقد تقدم في "باب الكلام في الطواف" من كتاب الحج من هذين الوجهين عن ابن جريج وذكرت ما قيل في اسم القائد والمقود، ووجه إدخاله في أبواب النذر، وأنه عند النسائي من وجه آخر عن ابن جريج، وفيه التصريح بأنه نذر ذلك

(11/589)


بزمام أو غيره فقطعه" ثم أورده بنزول عن إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج بلفظ: "مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان يقود إنسانا بخزامة في أنفه فقطعها ثم أمره أن يقوده بيده" والخزامة بكسر المعجمة وتخفيف الزاي حلقة من شعر أو وبر تجعل في الحاجز الذي بين منخري البعير يشد فيها الزمام ليسهل انقياده إذا كان صعبا، وقد تقدم في "باب الكلام في الطواف" من كتاب الحج من هذين الوجهين عن ابن جريج وذكرت ما قيل في اسم القائد والمقود، ووجه إدخاله في أبواب النذر، وأنه عند النسائي من وجه آخر عن ابن جريج، وفيه التصريح بأنه نذر ذلك وأن الداودي استدل به على أن من نذر ما لا طاعة لله فيه لا ينعقد نذره، وتعقب ابن التين له والجواب عن الداودي وتصويبه في ذلك. وهيب في سنده هو ابن خالد، وعبد الوهاب الذي علق عنه البخاري آخر الباب هو ابن عبد المجيد الثقفي، وقد يتمسك بهذا من يرى أن الثقات إذا اختلفوا في الوصل والإرسال يرجح قول من وصل لما معه من زيادة العلم، لأن وهيبا وعبد الوهاب ثقتان، وقد وصله وهيب وأرسله عبد الوهاب وصححه البخاري مع ذلك، والذي عرفناه بالاستقراء من صنيع البخاري أنه لا يعمل في هذه الصورة بقاعدة مطردة بل يدور مع الترجيح إلا إن استووا فيقدم الوصل، والواقع هنا أن من وصله أكثر ممن أرسله، قال الإسماعيلي: وصله مع وهيب عاصم بن هلال والحسن بن أبي جعفر وأرسله مع عبد الوهاب خالد الواسطي. قلت وخالد متقن وفي عاصم والحسن مقال فيستوي الطرفان فيترجح الوصل، وقد جاء الحديث المذكور من وجه آخر فازداد قوة أخرجه عبد الرزاق عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي إسرائيل. قوله: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب" زاد الخطيب في "المبهمات" من وجه آخر "يوم الجمعة". قوله: "إذا هو برجل" في رواية أبي يعلى عن إبراهيم بن الحجاج عن وهيب "إذ التفت فإذا هو برجل". قوله: "قائم" زاد أبو داود عن موسى بن إسماعيل شيخ البخاري فيه: "في الشمس" وكذا في رواية أبي يعلى. وفي رواية طاوس "وأبو إسرائيل يصلي". قوله: "فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل" في رواية أبي داود "فقالوا هو أبو إسرائيل" زاد الخطيب "رجل من قريش". قوله: "نذر أن يقوم" قال البيضاوي: ظاهر اللفظ السؤال عن اسمه فلذلك ذكروه وزادوا فعله، قال: ويحتمل أن يكون سأل عن حاله فذكروه وزادوا التعريف به ثم قال: ولعله لما كان السؤال محتملا ذكروا الأمرين جميعا. قوله: "ولا يستظل" في رواية الخطيب "ويقوم في الشمس". قوله: "مره" في رواية أبي داود "مروه" بصيغة الجمع. وفي رواية طاوس "ليقعد وليتكلم" وأبو إسرائيل المذكور لا يشاركه أحد في كنيته من الصحابة واختلف في اسمه فقيل قشير بقاف وشين معجمة مصغر، وقيل يسير بتحتانية ثم مهملة مصغر أيضا، وقيل قيصر باسم ملك الروم، وقيل بالسين المهملة بدل الصاد، وقيل بغير راء في آخره، وهو قرشي ثم عامري، وترجم له ابن الأثير في الصحابة تبعا لغيره فقال: أبو إسرائيل الأنصاري. واغتر بذلك الكرماني فجزم بأنه من الأنصار، والأول أولى. وفي حديثه أن السكوت عن المباح ليس من طاعة الله، وقد أخرج أبو داود من حديث علي "ولا صمت يوما إلى الليل" وتقدم في السيرة النبوية قول أبي بكر الصديق للمرأة إن هذا -يعني الصمت- من فعل الجاهلية" وفيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلا مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة كالمشي حافيا والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله فلا ينعقد به النذر، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه، وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل، قال القرطبي: في قصة أبي إسرائيل هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية أو ما لا طاعة فيه فقد قال مالك لما ذكره: ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالكفارة.

(11/590)


32 - باب مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامًا فَوَافَقَ النَّحْرَ أَوْ الْفِطْرَ
6705- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ

(11/590)


أَبِي حُرَّةَ الأَسْلَمِيُّ أَنَّهُ "سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ لاَ يَأْتِيَ عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلاَّ صَامَ فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ فَقَالَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الأَضْحَى وَالْفِطْرِ وَلاَ يَرَى صِيَامَهُمَا"
6706- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ "كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ كُلَّ يَوْمِ ثَلاَثَاءَ أَوْ أَرْبِعَاءَ مَا عِشْتُ فَوَافَقْتُ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ وَنُهِينَا أَنْ نَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ مِثْلَهُ لاَ يَزِيدُ عَلَيْهِ"
قوله: "باب من نذر أن يصوم أياما" أي معينة "فوافق النحر أو الفطر" أي هل يجوز له الصيام أو البدل أو الكفارة؟ انعقد الإجماع على أنه لا يجوز له أن يصوم يوم الفطر ولا يوم النحر لا تطوعا ولا عن نذر سواء عينهما أو أحدهما بالنذر أو وقعا معا أو أحدهما اتفاقا، فلو نذر لم ينعقد نذره عند الجمهور، وعند الحنابلة روايتان في وجوب القضاء، وخالف أبو حنيفة فقال لو أقدم فصام وقع ذلك عن نذره، وقد تقدم بسط ذلك في أواخر الصيام، وذكرت هناك الاختلاف في تعيين اليوم الذي نذره الرجل وهل وافق يوم عيد الفطر أو النحر، وإني لم أقف على اسمه مع بيان الكثير من طرقه، ثم وجدت في ثقات ابن حبان من طريق كريمة بنت سيرين أنها "سألت ابن عمر فقالت: جعلت على نفسي أن أصوم كل أربعاء واليوم يوم أربعاء وهو يوم النحر فقال أمر الله بوفاء النذر ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم النحر" ورواته ثقات، فلولا توارد الرواة بأن السائل رجل لفسرت المبهم بكريمة، ولا سيما في السند الأول فإن قوله سئل بضم أوله يشمل ما إذا كان السائل رجلا أو امرأة، وقد ظهر من رواية ابن حبان أنها امرأة فيفسر بها المبهم في رواية حكيم، بخلاف رواية زياد ابن جبير حيث قال فسأله رجل" ثم وجدت الخبر في كتاب الصيام ليوسف بن يعقوب القاضي أخرجه عن محمد بن أبي بكر المقدمي شيخ البخاري فيه وأخرجه أبو نعيم من طريقه وكذا أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن محمد بن أبي بكر المقدمي ولفظه أنه "سمع رجلا يسأل عبد الله بن عمر عن رجل نذر" فذكر الحديث، وفضيل في السند الأول بالتصغير وحكيم بفتح أوله وأبو حرة أبوه بضم المهملة والتشديد لا يعرف اسمه وليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد، وقد أورده متابعا لرواية زيادة بن جبير عن ابن عمر، وفي سياق الرواية الأولى إشعار برجحان المنع عند ابن عمر فإن لفظه فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لم يكن يصوم يوم الأضحى والفطر ولا يرى صيامهما" ووقع عند الإسماعيلي من الزيادة في آخره: قال يونس بن عبيد فذكرت ذلك للحسن فقال: يصوم يوما مكانه، أخرجه من طريق محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع الذي أخرجه البخاري من طريقه. قال الكرماني: قوله: "لم يكن" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: "ولا نرى" بلفظ المتكلم فيكون من جملة مقول عبد الله بن عمر، وفي بعضها بلفظ الغائب وفاعله عبد الله وقائله حكيم. قلت: وقع في رواية يوسف بن يعقوب المذكورة بلفظ: "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الأضحى ولا يوم الفطر ولا يأمر بصيامهما" ومثله في رواية الإسماعيلي، وجوز الكرماني -بناء على تعدد القصة- أن ابن عمر تغير اجتهاده فجزم بالمنع بعد أن كان يتردد ا هـ.

(11/591)


وليس فيما أجاب به ابن عمر أولا وآخرا ما يصرح بالمنع في خصوص هذه القصة، وقد بسطت القول في ذلك في "باب صوم يوم النحر" وبالله التوفيق. انظر شرح الحديث في شرح الباب قوله: "يونس" هو ابن عبيد وصرح به الإسماعيلي من طريق محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع. قوله: "فأعاد عليه" زاد ابن المنهال في روايته: "فخيل إلى الرجل أنه لم يفهم فأعاد عليه الكلام ثانية"

(11/592)


باب هل يدخل في الأيمان والنذور والأرض والغنم والزرع والأمتعة؟
...
33 - باب هَلْ يَدْخُلُ فِي الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ الأَرْضُ وَالْغَنَمُ وَالزُّرُوعُ وَالأَمْتِعَةُ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ قَالَ إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ لِحَائِطٍ لَهُ مُسْتَقْبِلَةِ الْمَسْجِدِ
6707- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً إِلاَّ الأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلاَمًا يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ فَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي الْقُرَى حَتَّى إِذَا كَانَ بِوَادِي الْقُرَى بَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَلاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ"
قوله: "باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض والغنم والزرع والأمتعة" قال ابن عبد البر وتبعه جماعة: المال في لغة دوس قبيلة أبي هريرة غير العين كالعروض والثياب، وعند جماعة المال هو العين كالذهب والفضة، والمعروف من كلام العرب أن كل ما يتمول ويملك فهو مال، فأشار البخاري في الترجمة إلى رجحان ذلك بما ذكره من الأحاديث كقول عمر "أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منه" وقول أبي طلحة "أحب أموالي إلي بيرحاء" وقول أبي هريرة "لم نغنم ذهبا ولا ورقا" ويؤيده قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} فإنه يتناول كل ما يملكه الإنسان، وأما قول أهل اللغة: العرب لا توقع اسم المال عند الإطلاق إلا على الإبل لشرفها عندهم فلا يدفع إطلاقهم المال على غير الإبل، فقد أطلقوه أيضا على غير الإبل من المواشي، ووقع في السيرة "فسلك في الأموال" يعني الحوائط "ونهي عن إضاعة المال" وهو يتناول كل ما يتمول، وقيل المراد به هنا الأرقاء وقيل الحيوان كله وفي الحديث أيضا: "ما جاءك من الرزق وأنت غير مشرف فخذه وتموله" وهو يتناول كل ما يتمول، والأحاديث الثلاثة مخرجة في الصحيحين والموطأ، وحكي عن ثعلب: المال كل ما تجب فيه الزكاة قل أو كثر فما نقص عن ذلك فليس بمال، وبه جزم ابن الأنباري. وقال غيره: المال في الأصل العين، ثم أطلق على كل ما يتملك، واختلف السلف فيمن حلف أو نذر أنه يتصدق بماله على مذاهب تقدم نقلها في "باب إذا أهدى ماله" ومن قال كأبي حنيفة لا يقع نذره إلا على ما فيه الزكاة، ومن قال كمالك يتناول جميع ما يقع عليه اسم مال، قال ابن

(11/592)


بطال: وأحاديث هذا الباب تشهد لقول مالك ومن تابعه. وقال الكرماني معنى قول البخاري "هل يدخل" أي هل يصح اليمين أو النذر على الأعيان مثل: والذي نفسي بيده إن هذه الشملة لتشتعل عليه نارا، ومثل أن يقول هذه الأرض لله ونحوه. قلت: والذي فهمه ابن بطال أولى فإنه أشار إلى أن مراد البخاري الرد على من قال إذا حلف أو نذر أن يتصدق بماله كله اختص ذلك بما فيه الزكاة دون ما يملكه مما سوى ذلك، ونقل محمد بن نصر المروزي في "كتاب الاختلاف" عن أبي حنيفة وأصحابه فيمن نذر أن يتصدق بماله كله: يتصدق بما تجب فيه الزكاة من الذهب والفضة والمواشي لا فيما ملكه مما لا زكاة فيه من الأرضين والدور ومتاع البيت والرقيق والحمير ونحو ذلك فلا يجب عليه فيها شيء، ثم نقل بقية المذاهب على نحو ما قدمته في "باب من أهدى ماله" فعلى هذا فمراد البخاري موافقة الجمهور وأن المال يطلق على كل ما يتمول، ونص أحمد على أن من قال مالي في المساكين إنما يحمل ذلك على ما نوى أو على ما غلب على عرفه كما لو قال ذلك أعرابي فإنه لا يحمل ذلك إلا على الإبل، وحديث ابن عمر في قول عمر تقدم موصولا مشروحا في كتاب الوصايا، وقوله: "وقال أبو طلحة" هو زيد بن سهل الأنصاري وقد تقدم موصولا أيضا هناك من حديث أنس في أبواب الوقف، وتقدم شيء من شرحه في كتاب الزكاة. حديث أبي هريرة تقدم شرحه في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وقوله فيه: "فلم نغنم ذهبا ولا فضة إلا الأموال والمتاع والثياب" كذا للأكثر ولابن القاسم والقعنبي والمتاع بالعطف قال بعضهم وفي تنزيل ذلك على لغة دوس نظر لأنه استثنى الأموال من الذهب والفضة فدل على أنه منها إلا أن يكون ذلك منقطعا فتكون "إلا" بمعنى لكن، كذا قال، والذي يظهر أن الاستثناء من الغنيمة التي في قوله: "فلم نغنم" فنفى أن يكونوا غنموا العين وأثبت أنهم غنموا المال فدل على أن المال عنده غير العين وهو المطلوب. وقوله: "الضبيب" بضاد معجمة وموحدة مكررة بصيغة التصغير، ومدعم بكسر الميم وسكون الدال وفتح العين المهملتين، وقوله: "سهم عائر" بعين مهملة وبعد الألف تحتانية لا يدري من رمى به و "الشراك" بكسر المعجمة وتخفيف الراء وآخره كاف من سيور النعل، وقد تقدم جميع ذلك بإعانة الله تعالى، وله الحمد على كل حال.

(11/593)


كتاب كفارات الأيمان
باب قول الله تعالى: { فكفارته إطعام عشرة مساكين }
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
84 - كِتَاب كَفَّارَاتِ الأَيْمَانِ
1- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}
وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَوْ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ وَقَدْ خَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبًا فِي الْفِدْيَةِ
6708- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى "عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ أَتَيْتُهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ادْنُ فَدَنَوْتُ فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟

(11/593)


قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ"
وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَوْنٍ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَالنُّسُكُ شَاةٌ وَالْمَسَاكِينُ سِتَّةٌ"
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم كتاب كفارات الأيمان" في رواية غير أبي ذر "باب" وله عن المستملي: "كتاب الكفارات" وسميت كفارة لأنها تكفر الذنب أي تستره، ومنه قيل للزارع كافر لأنه يغطي البذر. وقال الراغب: الكفارة ما يعطي الحانث في اليمين، واستعمل في كفارة القتل والظهار، وهو من التكفير وهو ستر الفعل وتغطيته فيصير بمنزلة ما لم يعمل، قال ويصح أن يكون أصله إزالة الكفر نحو التمريض في إزالة المرض، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي أزلناها، وأصل الكفر الستر يقال كفرت الشمس النجوم سترتها، ويسمى السحاب الذي يستر الشمس كافرا، ويسمى الليل كافرا لأنه يستر الأشياء عن العيون، وتكفر الرجل بالسلاح إذا تستر به. قوله: "وقول الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} يريد إلى آخر الآية، وقد تمسك به من قال بتعين العدد المذكور وهو قول الجمهور خلافا لمن قال لو أعطى ما يجب للعشرة واحدا كفى، وهو مروي عن الحسن أخرجه ابن أبي شيبة، ولمن قال كذلك لكن قال عشرة أيام متوالية، وهو مروي عن الأوزاعي حكاه ابن المنذر، وعن الثوري مثله لكن قال: إن لم يجد العشرة. قوله: "وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت: ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" يشير إلى حديث كعب بن عجرة الموصول في الباب.قوله: "وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبا في الفدية" يعني كعب بن عجرة كما ذكره في الباب. قوله: "ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة: ما كان في القرآن "أو أو" فصاحبه بالخيار" أما أثر ابن عباس فوصله سفيان الثوري في تفسيره عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن أو نحو قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فهو فيه مخير، وما كان "فمن لم يجد" فهو على الولاء أي على الترتيب. وليث ضعيف ولذلك لم يجزم به المصنف، وقد جاء عن مجاهد من قوله بسند صحيح عند الطبري وغيره، وأما أثر عطاء فوصله الطبري من طريق ابن جريج قال قال عطاء: ما كان في القرآن "أو أو" فلصاحبه أن يختار أيه شاء. قال ابن جريج وقال لي عمرو بن دينار نحوه وسنده صحيح. وقد أخرجه ابن عيينة في تفسيره عن ابن جريج عن عطاء بلفظ الأصل وسنده صحيح أيضا. وأما أثر عكرمة فوصله الطبري من طريق داود بن أبي هند عنه قال: كل شيء في القرآن "أو أو" فليتخير أي الكفارات شاء، فإذا كان "فمن لم يجد" فالأول الأول قال ابن بطال: هذا متفق عليه بين العلماء، وإنما اختلفوا في قدر الإطعام فقال الجمهور لكل إنسان مد من طعام بمد الشارع صلى الله عليه وسلم وفرق مالك في جنس الطعام بين أهل المدينة فاعتبر ذلك في حقهم لأنه وسط من عيشهم بخلاف سائر الأمصار فالمعتبر في حق كل منهم ما هو وسط من عيشه وخالفه ابن القاسم فوافق الجمهور. وذهب الكوفيون إلى أن الواجب إطعام نصف صاع، والحجة للأول أنه صلى الله عليه وسلم أمر في كفارة المواقع في رمضان بإطعام مد لكل مسكين، قال وإنما ذكر البخاري حديث كعب هنا من أجل آية التخيير فإنها وردت في كفارة اليمين كما وردت في كفارة الأذى. وتعقبه ابن المنير فقال يحتمل أن يكون البخاري وافق الكوفيين في هذه المسألة فأورد حديث كعب بن عجرة لأنه وقع التنصيص في خبر كعب على نصف صاع ولم يثبت في قدر طعام الكفارة فحمل المطلق على المقيد. قلت:

(11/594)


ويؤيده أن كفارة المواقع ككفارة الظهار وكفارة الظهار ورد النص فيها بالترتيب بخلاف كفارة الأذى فإن النص ورد فيها بالتخيير، وأيضا فإنهما متفقان في قدر الصيام بخلاف الظهار فكان حمل كفارة اليمين عليها لموافقتها لها في التخيير أولى من حملها على كفارة المواقع مع مخالفتها، وإلى هذا أشار ابن المنير. وقد يستدل لذلك بما أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس قال: "كفر النبي صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك، فمن لم يجد فنصف صاع من بر" وهذا لو ثبت لم يكن حجة لأنه لا قائل به، وهو من رواية عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة وهو ضعيف جدا. والذي يظهر لي أن البخاري أراد الرد على من أجاز في كفارة اليمين أن تبعض الخصلة من الثلاثة المخير فيها كمن أطعم خمسة وكساهم أو كسا خمسة غيرهم أو أعتق نصف رقبة وأطعم خمسة أو كساهم، وقد نقل ذلك عن بعض الحنفية والمالكية، وقد احتج من ألحقها بكفارة الظهار بأن شرط حمل المطلق على المقيد أن لا يعارضه مقيد آخر، فلما عارضه هنا والأصل براءة الذمة أخذ بالأقل، وأيده الماوردي من حيث النظر بأنه في كفارة اليمين وصف بالأوسط وهو محمول على الجنس وأوسط ما يشبع الشخص رطلان من الخبز والمد رطل وثلث من الحب فإذا خبز كان قدر رطلين. وأيضا فكفارة اليمين وإن وافقت كفارة الأذى في التخيير لكنها زادت عليها بأن فيها ترتيبا، لأن التخيير وقع بين الإطعام والكسوة والعتق، والترتيب وقع بين الثلاثة وصيام ثلاثة أيام وكفارة الأذى وقع التخيير فيها بين الصيام والإطعام والذبح حسب، قال ابن الصباغ: ليس في الكفارات ما فيه تخيير وترتيب إلا كفارة اليمين وما ألحق بها. قوله: "أحمد بن يونس" هو ابن عبد الله بن يونس نسب لجده، وأبو شهاب هو الأصغر واسمه عبد ربه ابن نافع، وابن عون هو عبد الله. قوله: "أتيته يعني النبي صلى الله عليه وسلم" كذا في الأصل، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق بشر بن المفضل عن ابن عون بهذا السند عن كعب بن عجرة قال: "في نزلت هذه الآية، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم" فذكره. وفي رواية معتمر بن سليمان عن ابن عون عند الإسماعيلي: "نزلت في هذه الآية {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال فرآني النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادن". قوله: "قال وأخبرني ابن عون" هو مقول أبي شهاب وهو موصول بالأول، وقد أخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق أزهر بن سعد عن ابن عون به وقال في آخره: فسره لي مجاهد فلم أحفظه، فسألت أيوب فقال: الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين والنسك ما استيسر من الهدي. قلت: وقد تقدم في الحج وفي التفسير من طرق أخرى عن مجاهد وفي الطب والمغازي من طريق أيوب عن مجاهد به وسياقها أتم، وتقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج.

(11/595)


2 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
مَتَى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؟
6709- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُهُ مِنْ فِيهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلَكْتُ قَالَ "وَمَا شَأْنُكَ" قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ "قَالَ تَسْتَطِيعُ تُعْتِقُ رَقَبَةً" قَالَ لاَ قَالَ "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" قَالَ لاَ قَالَ "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا" قَالَ لاَ قَالَ اجْلِسْ فَجَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَالْعَرَقُ

(11/595)


الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ قَالَ "خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ" قَالَ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ "أَطْعِمْهُ عِيَالَكَ"
قوله: "باب متى تجب الكفارة على الغني والفقير؟ وقول الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} إلى قوله: الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} كذا لأبي ذر، ولغيره: "باب قول الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} وساقوا الآية وبعدها "متى تجب الكفارة على الغني والفقير"؟ وسقط لبعضهم ذكر الآية؛ وأشار الكرماني إلى تصويبه فقال: قوله تحلة أيمانكم أي تحليلها بالكفارة، والمناسب أن يذكر هذه الآية في الباب الذي قبله. حديث أبي هريرة في قصة المجامع في نهار رمضان، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصيام، وقوله فيه: "سفيان عن الزهري" وقع في رواية الحميدي "عن سفيان حدثنا الزهري" وتقدم أيضا بيان الاختلاف فيمن لا يجد ما يكفر به ولا يقدر على الصيام هل يسقط عنه أو يبقى في ذمته؟ قال ابن المنير: مقصوده أن ينبه على أن الكفارة إنما تجب بالحنث كما أن كفارة المواقع إنما تجب باقتحام الذنب، وأشار إلى أن الفقير لا يسقط عنه إيجاب الكفارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم فقره وأعطاه مع ذلك ما يكفر به كما لو أعطى الفقير ما يقضي به دينه، قال: ولعله كما نبه على احتجاج الكوفيين بالفدية نبه هنا على ما احتج به من خالفهم من إلحاقها بكفارة المواقع وأنه مد لكل مسكين.

(11/596)


3 - باب مَنْ أَعَانَ الْمُعْسِرَ فِي الْكَفَّارَةِ
6710- حدثنا محمد بن محبوب حدثنا عبد الواحد حدثنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت فقال: " وما ذاك؟" قال: وقعت بأهلي في رمضان قال: "تجد رقبة" قال: لا قال: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين" قال لا قال "فتستطيع أن تطعم ستين مسكينا" قال لا قال: فجاء رجل من الأنصار بعرق والعرق المكتل فيه تمر فقال اذهب بهذا فتصدق به قال: أعلى أحوج منا يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا ثم قال: "اذهب فأطعمه أهلك"
قوله: "باب من أعان المعسر في الكفارة" ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور قبل وهو ظاهر فيما ترجم له، فكما جاز إعانة المعسر بالكفارة عن وقاعه في رمضان كذلك تجوز إعانة المعسر بالكفارة عن يمينه إذا حنث فيه.

(11/596)


4 - باب يُعْطِي فِي الْكَفَّارَةِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا
6711- حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سفيان عن الزهري عن حميد "عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ثم هلكت قال وما شأنك قال وقعت على امرأتي في رمضان فقال " هل تجد ما قوما رقبة" قال لا قال " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين" قال لا قال "فهل تستطيع أن

(11/596)


5 - باب صَاعِ الْمَدِينَةِ وَمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرَكَتِهِ وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ
6712- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيُّ حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمْ الْيَوْمَ فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ"
6713- حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجَارُودِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ وَهْوَ سَلْمٌ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي زَكَاةَ رَمَضَانَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُدِّ الأَوَّلِ وَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ لَنَا مَالِكٌ مُدُّنَا أَعْظَمُ مِنْ مُدِّكُمْ وَلاَ نَرَى الْفَضْلَ إِلاَّ فِي مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لِي مَالِكٌ لَوْ جَاءَكُمْ أَمِيرٌ فَضَرَبَ مُدًّا أَصْغَرَ مِنْ مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ قُلْتُ كُنَّا نُعْطِي بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَفَلاَ تَرَى أَنَّ الأَمْرَ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6714- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَصَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ"
قوله: "باب صاع المدينة ومد النبي صلى الله عليه وسلم وبركته" أشار في الترجمة إلى وجوب الإخراج في الواجبات بصاع

(11/597)


أهل المدينة لأن التشريع وقع على ذلك أولا وأكد ذلك بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالبركة في ذلك. قوله: "وما توارث أهل المدينة من ذلك قرنا بعد قرن" أشار بذلك إلى أن مقدار المد والصاع في المدينة لم يتغير لتواتره عندهم إلى زمنه، وبهذا احتج مالك على أبي يوسف في القصة المشهورة بينهما فرجع أبو يوسف عن قول الكوفيين في قدر الصاع إلى قول أهل المدينة. قوله: "كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مدا وثلثا بمدكم اليوم، فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز" قال ابن بطال: هذا يدل على أن مدهم حين حدث به السائب كان أربعة أرطال فإذا زيد عليه ثلثه وهو رطل وثلث قام منه خمسة أرطال وثلث وهو الصاع بدليل أن مده صلى الله عليه وسلم رطل وثلث وصاعه أربعة أمداد، ثم قال مقدار ما زيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز لا نعلمه، وإنما الحديث يدل على أن مدهم ثلاثة أمداد بمده انتهى، ومن لازم ما قال أن يكون صاعهم ستة عشر رطلا لكن لعله لم يعلم مقدار الرطل عندهم إذ ذاك، وقد تقدم في "باب الوضوء بالمد" من كتاب الطهارة بيان الاختلاف في مقدار المد والصاع، ومن فرق بين الماء وغيره من المكيلات فخص صاع الماء بكونه ثمانية أرطال ومده برطلين فقصر الخلاف على غير الماء من المكيلات. قوله: "حدثنا أبو قتيبة وهو سلم" بفتح المهملة وسكون اللام. وفي رواية الدار قطني من وجه آخر عن المنذر "حدثنا أبو قتيبة سلم بن قتيبة". قلت: وهو الشعيري بفتح الشين المعجمة وكسر المهملة بصري أصله من خراسان أدركه البخاري بالسن ومات قبل أن يلقاه، وهو غير سلم بن قتيبة الباهلي ولد أمير خراسان قتيبة بن مسلم وقد ولي هو إمرة البصرة وهو أكبر من الشعيري ومات قبله بأكثر من خمسين سنة. قوله: "المد الأول" هو نعت مد النبي صلى الله عليه وسلم وهي صفة لازمة له، وأراد نافع بذلك أنه كان لا يعطي بالمد الذي أحدثه هشام، قال ابن بطال: وهو أكبر من مد النبي صلى الله عليه وسلم بثلثي رطل وهو كما قال فإن المد الهشامي رطلان والصاع منه ثمانية أرطال. قوله: "قال لنا مالك" هو مقول أبي قتيبة وهو موصول. قوله: "مدنا أعظم من مدكم" يعني في البركة أي مد المدينة وإن كان دون مد هشام في القدر لكن مد المدينة مخصوص بالبركة الحاصلة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها فهو أعظم من مد هشام، ثم فسر مالك مراده بقوله: ولا ترى الفضل إلا في مد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال لي مالك لو جاءكم أمير إلخ" أراد مالك بذلك إلزام مخالفه إذ لا فرق بين الزيادة والنقصان في مطلق المخالفة، فلو احتج الذي تمسك بالمد الهشامي في إخراج زكاة الفطر وغيرها مما شرع إخراجه بالمد كإطعام المساكين في كفارة اليمين بأن الأخذ بالزائد أولى، قيل: كفى باتباع ما قدره الشارع بركة، فلو جازت المخالفة بالزيادة لجازت مخالفته بالنقص، فلما امتنع المخالف من الأخذ بالناقص قال له أفلا ترى أن الأمر إنما يرجع إلى مد النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا تعارضت الأمداد الثلاثة الأول والحادث وهو الهشامي وهو زائد عليه والثالث المفروض وقوعه وإن لم يقع وهو دون الأول كان الرجوع إلى الأول أولى لأنه الذي تحققت شرعيته. قال ابن بطال: والحجة فيه نقل أهل المدينة له قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، قال: وقد رجع أبو يوسف بمثل هذا في تقدير المد والصاع إلى مالك وأخذ بقوله. "تنبيه": هذا الحديث غريب لم يروه عن مالك إلا أبو قتيبة ولا عنه إلا المنذر، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي وعلى أبي نعيم فلم يستخرجاه بل ذكراه من طريق البخاري، وقد أخرجه الدار قطني في "غرائب مالك" من طريق البخاري وأخرجه أيضا عن ابن عقدة عن الحسين بن القاسم البجلي عن المنذر به دون كلام مالك وقال: صحيح أخرجه البخاري عن المنذر به. حديث أنس في

(11/598)


دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لهم في مكيالهم وصاعهم ومدهم" وقد تقدم في البيوع عن القعنبي عن مالك وزاد في آخره: "يعني أهل المدينة" وكذا عند رواة الموطأ عن - مالك قال ابن المنير: يحتمل أن تختص هذه الدعوة بالمد الذي كان حينئذ حتى لا يدخل المد الحادث بعده ويحتمل أن تعم كل مكيال لأهل المدينة إلى الأبد، قال والظاهر الثاني، كذا قال، وكلام مالك المذكور في الذي قبله يجنح إلى الأول وهو المعتمد. وقد تغيرت المكاييل في المدينة بعد عصر مالك وإلى هذا الزمان، وقد وجد مصداق الدعوة بأن بورك في مدهم وصاعهم بحيث اعتبر قدرهما أكثر فقهاء الأمصار ومقلدوهم إلى اليوم في غالب الكفارات، وإلى هذا أشار المهلب والله أعلم.

(11/599)


باب قول الله تعالى: { أو تحرير } وأي الرقاب أزكى؟
...
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَأَيُّ الرِّقَابِ أَزْكَى؟
6715- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يشير إلى أن الرقبة في آية كفارة اليمين مطلقة بخلاف آية كفارة القتل فإنها قيدت بالإيمان، قال ابن بطال: حمل الجمهور ومنهم الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق المطلق على المقيد كما حملوا المطلق في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} على المقيد في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وخالف الكوفيون فقالوا: يجوز إعتاق الكافر، ووافقهم أبو ثور وابن المنذر، واحتج له في كتابه الكبير بأن كفارة القتل مغلظة بخلاف كفارة اليمين، ومن ثم اشترط التتابع في صيام القتل دون اليمين. قوله: "وأي الرقاب أزكى"؟ يشير إلى الحديث الماضي في أوائل العتق عن أبي ذر وفيه: "قلت فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" وقد تقدم شرحه مستوفى هناك، وكأن البخاري رمز بذلك إلى موافقة الكوفيين لأن أفعل التفضيل يقتضي الاشتراك في أصل الحكم. وقال ابن المنير: لم يبت البخاري الحكم في ذلك ولكنه ذكر الفضل في عتق المؤمنة لينبه على مجال النظر، فلقائل أن يقول: إذا وجب عتق الرقبة في كفارة اليمين كان الأخذ بالأفضل أحوط، وإلا كان المكفر بغير المؤمنة على شك في براءة الذمة. قال: وهذا أقوى من الاستشهاد بحمل المطلق على المقيد لظهور الفرق بينهما. حديث أبي هريرة "من أعتق رقبة مسلمة" وقد تقدم أيضا في أوائل العتق من وجه آخر عن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة، وذكر فيه قصة لسعيد ابن مرجانة مع علي بن حسين أي ابن علي بن أبي طالب الملقب زين العابدين وهو المذكور هنا أيضا، وكأنه بعد أن سمعه من سعيد بن مرجانة وعمل به حدث به عن سعيد فسمعه منه زيد بن أسلم. وفي رواية الباب زيادة في آخره وهي قوله: "حتى فرجه بفرجه" وحتى هنا عاطفة لوجود شرائط العطف فيها فيكون فرجه بالنصب، وقد تقدمت فوائد هذا الحديث وبيان ما ورد فيه من الزيادة هناك. وأخرج مسلم حديث الباب عن داود بن رشيد شيخ شيخ البخاري فيه، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجتين فإن بينه وبين أبي غسان محمد بن مطرف في عدة أحاديث في كتابه راويا واحدا كسعيد بن أبي مريم في الصيام والنكاح والأشربة وغيرها وكعلي بن عياش في البيوع

(11/599)


والأدب، ومحمد بن عبد الرحيم شيخه فيه هو المعروف بصاعقة وهو من أقرانه، وداود بن رشيد بشين ومعجمة مصغر من طبقة شيوخه الوسطى، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق زيد وعلي وسعيد والثلاثة مدنيون وزيد وعلي قرينان.

(11/600)


7 - باب عِتْقِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ فِي الْكَفَّارَةِ وَعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا
وَقَالَ طَاوُسٌ يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ
6716- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو "عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي" فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ"
قوله: "باب عتق المدبر وأم الولد والمكاتب في الكفارة وعتق ولد الزنا" ذكر فيه حديث جابر في عتق المدبر، وعمرو في السند هو ابن دينار، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب العتق وبيان الاختلاف فيه والاحتجاج لمن قال بصحة بيعه، وقضية ذلك صحة عتقه في الكفارة لأن صحة بيعه فرع بقاء الملك فيه فيصح تنجيز عتقه، وأما أم الولد فحكمها حكم الرقيق في أكثر الأحكام كالجناية والحدود واستمتاع السيد، وذهب كثير من العلماء إلى جواز بيعها، ولكن استقر الأمر على عدم صحته، وأجمعوا على جواز تنجيز عتقها فتجزئ في الكفارة، وأما عتق المكاتب فأجازه مالك والشافعي والثوري كذا حكاه ابن المنذر، وعن مالك أيضا لا يجزئ أصلا. وقال أصحاب الرأي إن كان أدى بعض الكتابة لم يجزئ لأنه يكون أعتق بعض الرقبة وبه قال الأوزاعي والليث، وعن أحمد وإسحاق إن أدى الثلث فصاعدا لم يجزئ. قوله: "وقال طاوس يجزئ المدبر وأم الولد" وصله ابن أبي شيبة من طريقه بلفظ يجزئ عتق المدبر في الكفارة وأم الولد في الظهار، وقد اختلف السلف فوافق طاوسا الحسن في المدبر والنخعي في أم الولد وخالفه فيهما الزهري والشعبي. وقال مالك والأوزاعي لا يجزئ في الكفارة مدبر ولا أم ولد ولا معلق عتقه وهو قول الكوفيين. وقال الشافعي يجزئ عتق المدبر. وقال أبو ثور يجزئ عتق المكاتب ما دام عليه شيء من كتابته، واحتج لمالك بأن هؤلاء ثبت لهم عقد الحرية لا سبيل إلى رفعها والواجب في الكفارة تحرير رقبة، وأجاب الشافعي بأنه لو كانت في المدبر شعبة من حرية ما جاز بيعه، وأما عتق ولد الزنا فقال ابن المنير لا أعلم مناسبة بين عتق ولد الزنا وبين ما أدخله في الباب إلا أن يكون المخالف في عتقه خالف في عتق ما تقدم ذكره، فاستدل عليه بأنه لا قائل بالفرق ثم قال: ويظهر أنه لما جوز عتق المدبر استدل له ولم يأت في أم الولد إلا بقول طاوس ولا في ولد الزنا بشيء أشار إلى أنه قد تقدم الحث على عتق الرقبة المؤمنة فيدخل ما ذكر بعده في العموم بل في الخصوص لأن ولد الزنا مع إيمانه أفضل من الكافر. قلت: جاء المنع من ذلك في الحديث الذي أخرجه البيهقي بسند صحيح عن الزهري أخبرني أبو حسن مولى عبد الله بن الحارث وكان من أهل العلم والصلاح أنه سمع امرأة تقول لعبد الله بن نوفل تستفتيه في غلام لها ابن زنية تعتقه في رقبة كانت عليها فقال: لا أراه يجزئك، سمعت عمر يقول لأن أحمل على نعلين في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ابن زنية، وصح عن

(11/600)


أبي هريرة قال: لأن أتبع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد زنية، أخرجه ابن أبي شيبة. نعم في الموطأ عن أبي هريرة أنه أفتى بعتق ولد الزنا، وعن ابن عمر أنه أعتق ابن زنا، وأخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي بسند صحيح عنه وزاد: قد أمرنا الله أن نمن على من هو شر منه، قال الله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وقال الجمهور: يجزئ عتقه، وكرهه علي وابن عباس وابن عمرو بن العاص أخرجه ابن أبي شيبة عنهم بأسانيد لينة، ومنع الشعبي والنخعي والأوزاعي. وأخرج ابن أبي شيبة ذلك بسند صحيح عن الأولين، والحجة للجمهور قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقد صح ملك الحالف له فيصح إعتاقه له، وقد أخرج ابن المنذر بسند صحيح عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أنه سئل عن ذلك فمنع، قال أبو الخير: فسألنا فضالة بن عبيد فقال: يغفر الله لعقبة، وهل هو إلا نسمة من النسم؟ وذكر المصنف حديث جابر في بيع المدبر فأشار في الترجمة إلى أنه إذا جاز بيعه جاز ما ذكر معه بطريق الأولى.

(11/601)


باب إذا أعتق عبداً بينه وبين آخر
قوله "باب إذا أعتق عبدا بينه وبين آخر" أي في الكفارة، ثبتت هذه الترجمة المستملي وحده بغير حديث فكأن المصنف أراد أن يثبت فيها حديث الباب الذي بعده من وجه آخر فلم يتفق، أو تردد في الترجمتين فاقتصر الأكثر على الترجمة التي تلي هذه وكتب المستملي الترجمتين احتيطا، والحديث في الباب الذي يليه صالح لهما بضرب من التأويل، وجمع أبو نعيم الترجمتين في باب واحد

(11/601)


8 - باب إِذَا أَعْتَقَ فِي الْكَفَّارَةِ لِمَنْ يَكُونُ وَلاَؤُهُ
6717- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا الْوَلاَءَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " اشْتَرِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
قوله: "باب إذا أعتق في الكفارة لمن يكون ولاؤه" أي العتيق. حديث عائشة في قصة بريرة مختصرا وفي آخره: "فإنما الولاء لمن أعتق" وقضيته أن كل من أعتق فصح عتقه كان الولاء له، فيدخل في ذلك ما لو أعتق العبد المشترك فإنه إن كان موسرا صح وضمن لشريكه حصته، ولا فرق بين أن يعتقه مجانا أو عن الكفارة وهذا قول الجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة، وعن أبي حنيفة لا يجزئه عتق العبد المشترك عن الكفارة لأنه يكون أعتق بعض عبد لا جميعه، لأن الشريك عنده يخير بين أن يقوم عليه نصيبه وبين أن يعتقه هو وبين أن يستسعي العبد في نصيب الشريك.

(11/601)


9 - باب الِاسْتِثْنَاءِ فِي الأَيْمَانِ
6718- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى "عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ فَأُتِيَ بِإِبِلٍ فَأَمَرَ لَنَا بِثَلاَثَةِ ذَوْدٍ فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ لاَ يُبَارِكُ اللَّهُ لَنَا أَتَيْنَا رَسُولَ

(11/601)


10 - باب الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ
6721- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ الْقَاسِمِ الْتَّمِيمِيِّ عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ "كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ وَمَعْرُوفٌ قَالَ فَقُدِّمَ طَعَامٌ قَالَ وَقُدِّمَ فِي طَعَامِهِ لَحْمُ دَجَاجٍ قَالَ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مَوْلًى قَالَ فَلَمْ يَدْنُ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى ادْنُ فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهُ قَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا قَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ أَنْ لاَ أَطْعَمَهُ أَبَدًا فَقَالَ ادْنُ أُخْبِرْكَ عَنْ ذَلِكَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ وَهُوَ يَقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ قَالَ أَيُّوبُ أَحْسِبُهُ قَالَ وَهُوَ غَضْبَانُ قَالَ "وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ" قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْبِ إِبِلٍ فَقِيلَ أَيْنَ هَؤُلاَءِ الأَشْعَرِيُّونَ فَأَتَيْنَا فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى قَالَ فَانْدَفَعْنَا فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْنَا فَحَمَلَنَا نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ وَاللَّهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ لاَ نُفْلِحُ أَبَدًا ارْجِعُوا بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْنُذَكِّرْهُ يَمِينَهُ فَرَجَعْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْنَاكَ نَسْتَحْمِلُكَ فَحَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا ثُمَّ حَمَلْتَنَا فَظَنَنَّا أَوْ فَعَرَفْنَا أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ قَالَ "انْطَلِقُوا فَإِنَّمَا حَمَلَكُمْ اللَّهُ إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا".
تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ الْكُلَيْبِيِّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ عَنْ زَهْدَمٍ بِهَذَا حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَهْدَمٍ بِهَذَا.
6722- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الْحَسَنِ "عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَسْأَلْ الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ"
تَابَعَهُ أَشْهَلُ بْنُ حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ.
وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَسِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَحُمَيْدٌ وَقَتَادَةُ وَمَنْصُورٌ وَهِشَامٌ وَالرَّبِيعُ.

(11/608)


قوله: "باب الكفارة قبل الحنث وبعده" ذكر فيه حديث أبي موسى في قصة سؤالهم الحملان وفيه: "إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" وقد مضى في الباب الذي قبله بلفظ: "إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير" وحديث عبد الرحمن بن سمرة في النهي عن سؤال الإمارة وفيه: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" قال ابن المنذر رأى ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي أن الكفارة تجزئ قبل الحنث. إلا أن الشافعية استثنى الصيام فقال لا يجزئ إلا بعد الحنث وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث. قلت: ونقل الباجي عن مالك وغيره روايتين، واستثنى بعضهم عن مالك الصدقة والعتق، ووافق الحنفية أشهب من المالكية وداود الظاهري وخالفه ابن حزم، واحتج لهم الطحاوي بقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فإذا المراد إذا حلفتم فحنثتم، ورده مخالفوه فقالوا: بل التقدير فأردتم الحنث، وأولى من ذلك أن يقال: التقدير أعم من ذلك، فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر. واحتجوا أيضا بأن ظاهر الآية أن الكفارة وجبت بنفس اليمين، ورده من أجاز بأنها لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث اتفاقا. واحتجوا أيضا بأن الكفارة بعد الحنث فرض وإخراجها قبله تطوع، فلا يقوم التطوع مقام الفرض. وانفصل عنه من أجاز بأنه يشترط إرادة الحنث وإلا فلا يجزئ كما في تقديم الزكاة. وقال عياض: اتفقوا على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث، واستحب مالك والشافعي والأوزاعي والثوري تأخيرها بعد الحنث، قال عياض: ومنع بعض المالكية تقديم كفارة حنث المعصية لأن فيه إعانة على المعصية، ورده الجمهور. قال ابن المنذر: واحتج للجمهور بأن اختلاف ألفاظ حديثي أبو موسى وعبد الرحمن لا يدل على تعيين أحد الأمرين، وإنما أمر الحالف بأمرين فإذا أتى بهما جميعا فقد فعل ما أمر به وإذا لم يدل الخبر على المنع فلم يبق إلا طريق النظر، فاحتج للجمهور بأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء وهو كلام فلأن تحله الكفارة وهو فعل مالي أو بدني أولي، ويرجح قولهم أيضا بالكثرة، وذكر أبو الحسن بن القصار وتبعه عياض وجماعة أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة أربعة عشر صحابيا وتبعهم فقهاء الأمصار إلا أبا حنيفة، مع أنه قال فيمن أخرج ظبية من الحرم إلى الحل فولدت أولادا ثم ماتت في يده هي وأولادها أن عليه جزاءها وجزاء أولادها، لكن إن كان حين إخراجها أدى جزاءها لم يكن عليه في أولادها شيء مع أن الجزاء الذي أخرجه عنها كان قبل أن تلد أولادها فيحتاج إلى الفرق، بل الجواز في كفارة اليمين أولى. وقال ابن حزم: أجاز الحنفية تعجيل الزكاة قبل الحول وتقديم زكاة الزرع، وأجازوا تقديم كفارة القتل قبل موت المجني عليه، واحتج للشافعي بأن الصيام من حقوق الأبدان ولا يجوز تقديمها قبل وقتها كالصلاة والصيام، بخلاف العتق والكسوة والإطعام فإنها من حقوق الأموال فيجوز تقديمها كالزكاة، ولفظ الشافعي في "الأم" إن كفر بالإطعام قبل الحنث رجوت أن يجزئ عنه، وأما الصوم فلا لأن حقوق المال يجوز تقديمها بخلاف العبادات فإنها لا تقدم على وقتها كالصلاة والصوم، وكذا لو حج الصغير والعبد لا يجزئ عنهما إذا بلغ أو عتق. وقال في موضع آخر: من حلف فأراد أن يحنث فأحب إلي أن لا يكفر حتى يحنث فإن كفر قبل الحنث أجزأ، وساق نحوه مبسوطا. وادعى الطحاوي أن إلحاق الكفارة بالكفارة أولى من إلحاق الإطعام بالزكاة وأجيب بالمنع. وأيضا فالفرق الذي أشار إليه الشافعي بين حق المال وحق البدن ظاهر جدا، وإنما خص منه الشافعي الصيام بالدليل المذكور

(11/609)


ويؤخذ من نص الشافعي أن الأولى تقديم الحنث على الكفارة، وفي مذهبه وجه اختلف فيه الترجيح أن كفارة المعصية يستحب تقديمها. قال القاضي عياض: الخلاف في جواز تقديم الكفارة مبني على أن الكفارة رخصة لحل اليمين أو لتكفير مأثمها بالحنث، فعند الجمهور أنها رخصة شرعها الله لحل ما عقد من اليمين فلذلك تجزئ قبل وبعد. قال المازري: للكفارة ثلاث حالات أحدها قبل الحلف فلا تجزئ اتفاقا. ثانيها بعد الحلف والحنث فتجزئ اتفاقا. ثالثها بعد الحلف وقبل الحنث ففيها الخلاف. وقد اختلف لفظ الحديث فقدم الكفارة مرة وأخرها أخرى لكن بحرف الواو الذي لا يوجب رتبة، ومن منع رأى أنها لم تجز فصارت كالتطوع والتطوع لا يجزئ عن الواجب. وقال الباجي وابن التين وجماعة: الروايتان دالتان على الجواز لأن الواو لا ترتب. قال ابن التين: فلو كان تقديم الكفارة لا يجزئ لأبانه ولقال: فليأت ثم ليكفر، لأن تأخير البيان عن الحاجة لا يجوز، فلما تركهم على مقتضى اللسان دل على الجواز. قال: وأما الفاء في قوله: "فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" فهي كالفاء الذي في قوله: "فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير" ولو لم تأت الثانية لما دلت الفاء على الترتيب لأنها أبانت ما يفعله بعد الحلف وهما شيئان كفارة وحنث ولا ترتيب فيهما، وهو كمن قال: إذا دخلت الدار فكل واشرب. قلت: قد ورد في بعض الطرق بلفظ: "ثم" التي تقتضي الترتيب عند أبي داود والنسائي في حديث الباب، ولفظ أبي داود من طريق سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن به "كفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير" وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه لكن أحال بلفظ المتن على ما قبله، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق سعيد كأبي داود، وأخرجه النسائي من رواية جرير بن حازم عن الحسن مثله، لكن أخرجه البخاري ومسلم من رواية جرير بالواو، وهو في حديث عائشة عند الحاكم أيضا بلفظ: "ثم" وفي حديث أم سلمة عند الطبراني نحوه ولفظه: "فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير". قوله: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم" هو المعروف بابن علية، وأيوب هو السختياني، والقاسم التميمي هو ابن عاصم، وقد تقدم في "باب اليمين فيما لا يملك" من طريق عبد الوارث عن أيوب عن القاسم وحده أيضا، واقتصر على بعضه، ومضى في "باب لا تحلفوا بآبائكم" من طريق عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم التميمي جميعا عن زهدم، وتقدم في المغازي من طريق عبد السلام بن حرب عن أيوب عن أبي قلابة وحده، وقد تقدم في فرض الخمس عن عبد الله بن عبد الوهاب عن حماد وهو ابن زيد، وكذا أخرجه مسلم عن أبي الربيع العتكي عن حماد قال: "وحدثني القاسم بن عاصم الكليبي" بموحدة مصغر نسبة إلى بني كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهو القاسم التميمي المذكور قبل، قال وأنا لحديث القاسم أحفظ عن زهدم. وفي رواية العتكي وعن القاسم بن عاصم كلاهما عن زهدم، قال أيوب: وأنا لحديث القاسم أحفظ. قوله: "كنا عند أبي موسى" أي الأشعري، ونسب كذلك في رواية عبد الوارث. قوله: "وكان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء ومعروف" في رواية الكشميهني: "وكان بيننا وبينهم هذا الحي إلخ" وهو كالأول لكن زاد الضمير وقدمه على ما يعود عليه. قال الكرماني: كان حق العبارة أن يقول بيننا وبينه أي أبي موسى يعني لأن زهدما من جرم فلو كان من الأشعريين لاستقام الكلام، قال: وقد تقدم على الصواب في "باب لا تحلفوا بآبائكم" حيث قال: "كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين" ثم حمل ما وقع هنا على أنه جعل نفسه من قوم أبي موسى لكونه من أتباعه فصار كواحد من الأشعريين فأراد

(11/610)


بقوله بيننا أبا موسى وأتباعه وأن بينهم وبين الجرميين ما ذكر من الإخاء وغيره، وتقدم بيان ذلك أيضا في كتاب الذبائح. قلت: وقد تقدم في رواية عبد الوارث في الذبائح بلفظ هذا الباب إلى قوله: "إخاء" وقد أخرجه أحمد وإسحاق في مسنديهما عن إسماعيل بن علية الذي أخرجه البخاري من طريقه ولم يذكر هذا الكلام بل اقتصر على قوله: "كنا عند أبي موسى فقدم طعامه" نعم أخرجه النسائي عن علي بن حجر شيخ البخاري فيه بقصة الدجاج وقول الرجل ولم يسق بقيته، وقوله: "إخاء" بكسر أوله وبالخاء المعجمة والمد أي صداقة، وقوله: "ومعروف" أي إحسان. ووقع في رواية عبد الوهاب الثقفي الماضية قريبا "ود وإخاء" وقد ذكر بيان سبب ذلك في "باب قدوم الأشعريين" من أواخر المغازي من طريق، عبد السلام بن حرب عن أيوب، وأول الحديث عنده "لما قدم أبو موسى الكوفة أكرم هذا الحي من جرم" وذكرت هناك نسب جرم إلى قضاعة. قوله: "فقدم طعامه" أي وضع بين يديه، في رواية الكشميهني: "طعام" بغير ضمير، ومضى في "باب قدوم الأشعريين" بلفظ: "وهو يتغذى لحم دجاج" ويستفاد من الحديث جواز أكل الطيبات على الموائد واستخدام الكبير من يباشر له نقل طعامه ووضعه بين يديه، قال القرطبي: ولا يناقض ذلك الزهد ولا ينقصه خلافا لبعض المتقشفة. قلت: والجواز ظاهر، وأما كونه لا ينقص الزهد ففيه وقفة. قوله: "وقدم في طعامه لحم دجاج" ذكر ضبطه في "باب لحم الدجاج" من كتاب الذبائح وأنه اسم جنس، وكلام الحربي في ذلك، ووقع في فرض الخمس بلفظ: "دجاجة" وزعم الداودي أنه يقال للذكر والأنثى واستغربه ابن التين. قوله: "وفي القوم رجل من بني تيم الله" هو اسم قبيلة يقال لهم أيضا تيم اللات وهم من قضاعة، وقد تقدم الكلام على ما قيل في تسمية هذا الرجل مستوفى في كتاب الذبائح. قوله: "أحمر كأنه مولى" تقدم في فرض الخمس "كأنه من الموالي" قال الداودي: يعني أنه من سبي الروم، كذا قال فإن كان اطلع على نقل في ذلك وإلا فلا اختصاص لذلك بالروم دون الفرس أو النبط أو الديلم. قوله: "فلم يدن" أي لم يقرب من الطعام فيأكل منه، زاد عبد الوارث في روايته في الذبائح "فلم يدن من طعامه". قوله: "ادن" بصيغة فعل الأمر. وفي رواية عبد السلام "هلم" في الموضعين، وهو يرجع إلى معنى ادن، كذا في رواية حماد عن أيوب، ولمسلم من هذا الوجه "فقال له هلم فتلكأ" بمثناة ولام مفتوحتين وتشديد أي تمنع وتوقف وزنه ومعناه. قوله: "يأكل شيئا قذرته" بكسر الذال المعجمة وقد تقدم بيان ذلك وحكم أكل لحم الجلالة والخلاف فيه في كتاب الذبائح مستوفى. قوله: "أخبرك عن ذلك" أي عن الطريق في حل اليمين، فقص قصة طلبهم الحملان والمراد منه ما في آخره من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" ومعنى تحللتها فعلت ما ينقل المنع الذي يقتضيه إلى الإذن فيصير حلالا، وإنما يحصل ذلك بالكفارة، وأما ما زعم بعضهم أن اليمين تتحلل بأحد أمرين إما الاستثناء وإما الكفارة فهو بالنسبة إلى مطلق اليمين لكن الاستثناء إنما يعتبر في أثناء اليمين قبل كمالها وانعقادها والكفارة تحصل بعد ذلك، ويؤيد أن المراد بقوله تحللتها كفرت عن يميني وقوع التصريح به في رواية حماد بن زيد وعبد السلام وعبد الوارث وغيرهم. قوله: "أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين" ووقع في رواية عبد السلام بن حرب عن أيوب بلفظ: "إنا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الأشعريين" فاستدل به ابن مالك لصحة قول الأخفش يجوز أن يبدل من ضمير الحاضر بدل كل من كل وحمل عليه قوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} قال ابن مالك: واحترزت بقولي بدل كل من كل عن البعض والاشتمال فذلك جائز

(11/611)


اتفاقا، ولما حكاه الطيبي أقره وقال: هو عند علماء البديع يسمى التجريد. قلت: وهذا لا يحسن الاستشهاد به إلا لو اتفقت الرواة، والواقع أنه بهذا اللفظ انفرد به عبد السلام، وقد أخرجه البخاري في مواضع أخرى بإثبات "في" فقال في معظمها "في رهط" كما هي رواية ابن علية عن أيوب هنا، وفي بعضها "في نفر" كما هي رواية حماد عن أيوب في فرض الخمس. قوله: "يستحمله" أي يطلب منه ما يركبه، ووقع عند مسلم من طريق أبي السليل بفتح المهملة ولامين الأولى مكسورة عن زهدم عن أبي موسى "كنا مشاة فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله" وكان ذلك في غزوة تبوك كما تقدم في أواخر المغازي. قوله: "وهو يقسم نعما" بفتح النون والمهملة. قوله: "قال أيوب أحسبه قال وهو غضبان" هو موصول بالسند المذكور، ووقع في رواية عبد الوارث عن أيوب "فوافقته وهو غضبان وهو يقسم نعما من نعم الصدقة" وفي رواية وهيب عن أيوب عن أبي عوانة في صحيحه "وهو يقسم ذودا من إبل الصدقة" وفي رواية بريد بن أبي بردة الماضية قريبا في "باب اليمين فيما لا يملك" عن أبي موسى "أرسلني أصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان فقال: لا أحملكم على شيء فوافقته وهو غضبان" ويجمع بأن أبا موسى حضر هو والرهط فباشر الكلام بنفسه عنهم. قوله: "والله لا أحملكم" قال القرطبي: فيه جواز اليمين عند المنع ورد السائل الملحف عند تعذر الإسعاف وتأديبه بنوع من الإغلاظ بالقول. قوله: "فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل" بفتح النون وسكون الهاء بعدها موحدة أي غنيمة، وأصله ما يؤخذ اختطافا بحسب السبق إليه على غير تسوية بين الآخذين، وتقدم في الباب الذي قبله من طريق غيلان بن جرير عن أبي بردة عن موسى بلفظ: "فأتى بإبل" وفي رواية: "شائل" وتقدم الكلام عليها. وفي رواية بريد عن أبي بردة أنه صلى الله عليه وسلم ابتاع الإبل التي حمل عليها الأشعريين من سعد، وفي الجمع بينها وبين رواية الباب عسر، لكن يحتمل أن تكون الغنيمة لما حصلت حصل لسعد منها القدر المذكور فابتاع النبي صلى الله عليه وسلم منه نصيبه فحملهم عليه. قوله: "فقيل: أين هؤلاء الأشعريون؟ فأتينا فأمر لنا" في رواية عبد السلام عن أيوب "ثم لم نلبث أن أتى النبي صلى الله عليه وسلم بنهب إبل فأمر لنا" وفي رواية حماد "وأتى بنهب إبل فسأل عنا فقال: أين النفر الأشعريون؟ فأمر لنا" ومثله في رواية عبد الوهاب الثقفي. وفي رواية غيلان بن جرير عن أبي بردة "ثم لبثنا ما شاء الله فأتى" وفي رواية يزيد "فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي: أين عبد الله بن قيس؟ فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته قال خذ". قوله: "فأمر لنا بخمس ذود" تقدم بيان الاختلاف في الباب الذي قبله وطريق الجمع بين مختلف الروايات في ذلك. قوله: "فاندفعنا" أي سرنا مسرعين والدفع السير بسرعة. وفي رواية عبد الوارث "فلبثنا غير بعيد" وفي رواية عبد الوهاب "ثم انطلقنا". قوله: "فقلت لأصحابي" في رواية حماد وعبد الوهاب "قلنا ما صنعنا" وفي رواية غيلان عن أبي بردة "فلما انطلقنا قال بعضنا لبعض" وقد عرف من رواية الباب البادئ بالمقالة المذكورة. قوله: "نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، والله لئن تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح أبدا" في رواية عبد السلام "فلما قبضناها قلنا تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح أبدا" ونحوه في رواية عبد الوهاب ومعنى "تغفلنا" أخذنا منه ما أعطانا في حال غفلته عن يمينه من غير أن نذكره بها ولذلك خشوا. وفي رواية حماد "فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ لا يبارك لنا" ولم يذكر النسيان أيضا. وفي رواية غيلان "لا يبارك الله لنا" وخلت رواية يزيد عن هذه الزيادة كما خلت عما بعدها إلى آخر الحديث، ووقع في روايته من الزيادة قول أبي موسى لأصحابه "لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم

(11/612)


إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني في منعهم أولا وإعطائهم ثانيا إلى آخر القصة المذكورة ولم يذكر حديث: "لا أحلف على يمين إلخ"، قال القرطبي: فيه استدراك جبر خاطر السائل الذي يؤدب على الحاجة بمطلوبه إذا تيسر، وأن من أخذ شيئا يعلم أن المعطى لم يكن راضيا بإعطائه لا يبارك له فيه. قوله: "فظننا أو فعرفنا أنك نسيت يمينك، قال: "انطلقوا فإنما حملكم الله" في رواية حماد "فنسيت. قال لست أنا أحملكم ولكن الله حملكم" وفي رواية عبد السلام "فأتيته فقلت: يا رسول الله إنك حلفت أن لا تحملنا وقد حملتنا، قال: أجل" ولم يذكر "ما أنا حملتكم" إلخ. وفي رواية غيلان "ما أنا حملتكم بل الله حملكم" ولأبي يعلى من طريق فطر عن زهدم "فكرهنا أن نمسكها، فقال: إني والله ما نسيتها" وأخرجه مسلم عن الشيخ الذي أخرجه عنه أبو يعلى ولم يسق منه إلا قوله: "قال والله ما نسيتها". قوله: "إني والله إن شاء الله إلخ" تقدم بيانه في الباب الذي قبله. قوله: "لا أحلف على يمين" أي محلوف يمين، فأطلق عليه لفظ يمين للملابسة والمراد ما شأنه أن يكون محلوفا عليه؛ فهو من مجاز الاستعارة، ويجوز أن يكون فيه تضمين فقد وقع في رواية لمسلم: "على أمر"، ويحتمل أن يكون "على" بمعنى الباء، فقد وقع في رواية النسائي: "إذا حلفت بيمين" ورجح الأول بقوله: "فرأيت غيرها خيرا منها" لأن الضمير في غيرها لا يصح عوده على اليمين، وأجيب بأنه يعود على معناها المجازي للملابسة أيضا. وقال ابن الأثير في النهاية: الحلف هو اليمين فقوله أحلف أي أعقد شيئا بالعزم والنية، وقوله: "على يمين" تأكيد لعقده وإعلام بأنه ليست لغوا. قال الطيبي: ويؤيده رواية النسائي بلفظ: "ما على الأرض يمين أحلف عليها" الحديث، قال: فقوله أحلف عليها صفة مؤكدة لليمين، قال: والمعنى لا أحلف يمينا جزما لا لغو فيها ثم يظهر لي أمر آخر يكون فعله أفضل من المضي في اليمين المذكورة إلا فعلته وكفرت عن يميني، قال: فعلى هذا يكون قوله: "على يمين" مصدرا مؤكدا لقوله أحلف. تكملة: اختلف هل كفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه المذكور كما اختلف هل كفر في قصة حلفه على شرب العسل أو على غشيان مارية، فروي عن الحسن البصري أنه قال: لم يكفر أصلا لأنه مغفور له، وإنما نزلت كفارة اليمين تعليما للأمة، وتعقب بما أخرجه الترمذي من حديث عمر في قصة حلفه على العسل أو مارية، فعاتبه الله وجعل له كفارة يمين، وهذا ظاهر في أنه كفر وإن كان ليس نصا في رد ما ادعاه الحسن، وظاهر أيضا في حديث الباب: "وكفرت عن يميني" أنه لا يترك ذلك، ودعوى أن ذلك كله للتشريع بعيد. قوله: "وتحللتها" كذا في رواية حماد وعبد الوارث وعبد الوهاب كلهم عن أيوب، ولم يذكر في رواية عبد السلام "وتحللتها" وكذا لم يذكرها أبو السليل عن زهدم عند مسلم، ووقع في رواية غيلان عن أبي بردة "إلا كفرت عن يميني" بدل "وتحللتها" وهو يرجح أحد احتمالين أبداهما ابن دقيق العيد ثانيهما إتيان ما يقتضي الحنث فإن التحلل يقتضي سبق العقد والعقد هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها، فيكون التحلل الإتيان بخلاف مقتضاها، لكن يلزم على هذا أن يكون فيه تكرار لوجود قوله: "أتيت الذي هو خير" فإن إتيان الذي هو خير تحصل به مخالفة اليمين والتحلل منها، لكن يمكن أن تكون فائدته التصريح بالتحلل، وذكره بلفظ يناسب الجواز صريحا ليكون أبلغ مما لو ذكره بالاستلزام، وقد يقال إن الثاني أقوى لأن التأسيس أولى من التأكيد، وقيل معنى "تحللتها" خرجت من حرمتها إلى ما يحل منها وذلك يكون بالكفارة، وقد يكون بالاستثناء بشرطه السابق، لكن لا يتجه في هذه القصة إلا إن كان وقع منه استثناء لم يشعروا به كأن يكون قال إن شاء الله مثلا أو قال والله لا أحملكم إلا إن حصل

(11/613)


شيء ولذلك قال: "وما عندي ما أحملكم" قال العلماء في قوله: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم" المعنى بذلك إزالة المنة عنهم وإضافة النعمة لمالكها الأصلي، ولم يرد أنه لا صنع له أصلا في حملهم لأنه لو أراد ذلك ما قال بعد ذلك "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت" وقال المازري: معنى قوله: "إن الله حملكم" إن الله أعطاني ما حملتكم عليه ولولا ذلك لم يكن عندي ما حملتكم عليه، وقيل يحتمل أنه كان نسي يمينه والناسي لا يضاف إليه الفعل، ويرده التصريح بقوله: "والله ما نسيتها" وهي عند مسلم كما بينته، وقيل المراد بالنفي عنه والإثبات لله الإشارة إلى ما تفضل الله به من الغنيمة المذكورة لأنها لم تكن بتسبب من النبي صلى الله عليه وسلم ولا كان متطلعا إليها ولا منتظرا لها، فكان المعنى ما أنا حملتكم لعدم ذلك أولا ولكن الله حملكم بما ساقه إلينا من هذه الغنيمة. قوله: "تابعه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم بن عاصم الكليبي" قال الكرماني: إنما أتى بلفظ تابعه أولا وبحدثنا ثانيا وثالثا إشارة إلى أن الأخيرين حدثاه بالاستقلال والأول مع غيره، قال: والأول يحتمل التعليق بخلافهما. قلت: لم يظهر لي معنى قوله: "مع غيره" وقوله: "يحتمل التعليق" يستلزم أنه يحتمل عدم التعليق، وليس كذلك بل هو في حكم التعليق لأن البخاري لم يدرك حمادا، وقد وصل المصنف متابعة حماد بن زيد في فرض الخمس، ثم إن هذه المتابعة وقعت في الرواية عن القاسم فقط ولكن زاد حماد ذكر أبي قلابة مضموما إلى القاسم. قوله: "حدثنا قتيبة حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي. قوله: "بهذا" أي بجميع الحديث، وقد أشرت إلى أن رواية حماد وعبد الوهاب متفقتان في السياق، وقد ساق رواية قتيبة هذه في "باب لا تحلفوا بآبائكم" تامة، وقد ساقها أيضا في أواخر كتاب التوحيد عن عبد الله ابن عبد الوهاب الحجبي عن الثقفي وليس بعد الباب الذي ساقها فيه من البخاري سوى بابين فقط. قوله: "حدثنا أبو معمر" تقدم سياق روايته في كتاب الذبائح، وقد بينت ما في هذه الروايات من التخالف مفصلا. وفي الحديث غير ما تقدم ترجيح الحنث في اليمين إذا كان خيرا من التمادي، وأن تعمد الحنث في مثل ذلك يكون طاعة لا معصية، وجواز الحلف من غير استحلاف لتأكيد الخبر ولو كان مستقبلا وهو يقتضي المبالغة في ترجيح الحنث بشرطه المذكور، وفيه تطييب قلوب الأتباع، وفيه الاستثناء بإن شاء الله تبركا، فإن قصد بها حل اليمين صح بشرطه المتقدم. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله" هو محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذهلي الحافظ المشهور فيما جزم به المزي وقال: نسبه إلى جده. وقال أبو علي الجياني: لم أره منسوبا في شيء من الروايات. قلت: وقد روى البخاري في بدء الخلق عن محمد بن عبد الله المخرمي عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج وهما من هذه الطبقة، وروى أيضا في عدة مواضع عن محمد بن عبد الله بن حوشب ومحمد بن عبد الله بن نمير ومحمد بن عبد الله الرقاشي وهم أعلى من طبقة المخرمي ومن معه، وروي أيضا بواسطة تارة وبغير واسطة أخرى عن محمد بن عبد الله الأنصاري وهو أعلى من طبقة ابن نمير ومن ذكر معه، فقد ثبت هذا الحديث بعينه من روايته عن ابن عون شيخ عثمان بن عمر شيخ محمد بن عبد الله المذكور في هذا الباب، فعلى هذا لم يتعين من هو شيخ البخاري في هذا الحديث، وابن عون هو عبد الله البصري المشهور، وقوله في آخر الحديث: "تابعه أشهل" بالمعجمة وزن أحمر "عن ابن عون" وقعت روايته موصولة عند أبي عوانة والحاكم والبيهقي من طريق أبي قلابة الرقاشي "حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري وأشهل بن حاتم قالا أنبأنا ابن عون به". قوله: "وتابعه يونس وسماك بن عطية وسماك بن حرب وحميد

(11/614)


وقتادة ومنصور وهشام والربيع" يريد أن الثمانية تابعوا ابن عون فرووه عن الحسن، فالضمير في قوله أولا "تابعه أشهل" لعثمان بن عمر، والضمير في قوله ثانيا "وتابعه يونس" وما بعده لعبد الله بن عون شيخ عثمان بن عمر، ووقع في نسخة من رواية أبي ذر "وحميد عن قتادة" وهو خطأ والصواب "وحميد وقتادة" بالواو وكذا وقع في رواية النسفي عن البخاري وكذا في رواية من وصل هذه المتابعات، فأما رواية يونس وهو ابن عبيد فستأتي موصولة في كتاب الأحكام، وأما متابعة سماك بن عطية فوصلها مسلم من طريق حماد بن زيد عنه وعن يونس جميعا عن الحسن. وقال البزار: ما رواه عن سماك بن عطية إلا حماد، ولا روى سماك هذا عن الحسن إلا هذا. وأما متابعة سماك بن حرب فوصلها عبد الله بن أحمد في زياداته والطبراني في الكبير من طريق حماد بن زيد عنه عن الحسن، وأما متابعة حميد وهو الطويل ومنصور هو ابن زاذان فوصلها مسلم من طريق هشيم عنهما، قال البزار وتبعه الطبراني في الأوسط: لم يروه عن منصور بن زاذان إلا هشيم، ولا روى منصور هذا عن الحسن إلا هذا الحديث. قلت: ويحتمل أن يكون مراد البخاري بمنصور منصور بن المعتمر، وقد أخرجه النسائي من طريقه من رواية جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن الحسن، قال البزار أيضا: لم يرو منصور بن المعتمر عن الحسن إلا هذا. وأما متابعة قتادة فوصلها مسلم وأبو داود والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه. وأما رواية هشام وهو ابن حسان فأخرجها أبو نعيم في "المستخرج على مسلم" من طريق حماد بن زيد عن هشام عن الحسن ووقع لنا في "الغيلانيات" من وجه آخر عن هشام ومطر الوراق جميعا عن الحسن وهو عند أبي عوانة في صحيحه من هذا الوجه. وأما حديث الربيع فقد جزم الدمياطي في حاشيته بأنه ابن مسلم، والذي يغلب على ظني أنه ابن صبيح، فقد وقع لنا في "الشرانيات" من رواية شبابة عن الربيع بن صبيح بوزن عظيم عن الحسن، وأخرجه أبو عوانة من طريق الأسود بن عامر عن الربيع بن صبيح، وأخرجه الطبراني من رواية مسلم بن إبراهيم حدثنا قرة بن خالد والمبارك بن فضالة والربيع بن صبيح قالوا حدثنا الحسن به، ووقع لنا من رواية الربيع غير منسوب عن الحسن أخرجه الحافظ يوسف بن خليل في الجزء الذي جمع فيه طرق هذا الحديث من طريق وكيع عن الربيع عن الحسن. وهذا يحتمل أن يكون هو الربيع ابن صبيح المذكور ويحتمل أن يكون الربيع بن مسلم. وقد روي هذا الحديث عن الحسن غير من ذكر جرير بن حازم وتقدمت روايته في أول كتاب الأيمان والنذور، وأخرجه مسلم من رواية معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن الحسن. ولما أخرج طريق سماك بن عطية قرنها بيونس بن عبيد وهشام بن حسان وقال: في آخرين. وأخرجه أبو عوانة من طريق علي بن زيد بن جدعان ومن طريق إسماعيل بن مسلم ومن طريق إسماعيل بن أبي خالد كلهم عن الحسن، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن نحو الأربعين من أصحاب الحسن منهم من لم يتقدم ذكره يزيد بن إبراهيم وأبو الأشهب واسمه جعفر بن حيان وثابت البناني وحبيب بن الشهيد وخليد بن دعلج وأبو عمرو ابن العلاء ومحمد بن نوح وعبد الرحمن السراج وعرفطة والمعلى بن زياد وصفوان بن سليم ومعاوية بن عبد الكريم وزياد مولى مصعب وسهل السراج وشبيب بن شيبة وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ومحمد بن عقبة والأشعث ابن سوار والأشعث بن عبد الملك والحسن بن دينار والحسن بن ذكوان وسفيان بن حسين والسري بن يحيى وأبو عقيل الدورقي وعباد بن راشد وعباد بن كثير، فهؤلاء الأربعة وأربعون نفسا. وقد خرج طرقه الحافظ عبد القادر الرهاوي في الأربعين

(11/615)


البلدانية له عن سبعة وعشرين نفسا من الرواة عن الحسن، فيهم ممن لم يتقدم ذكره يحيى بن أبي كثير وجرير بن حازم وإسرائيل أبو موسى ووائل بن داود وعبد الله بن عون وقرة بن خالد وأبو خالد الجزار وأبو عبيدة الباجي وخالد الحذاء وعوف الأعرابي وحماد بن نجيح ويونس بن يزيد ومطر الوراق وعلي بن رفاعة ومسلم بن أبي الذيال والعوام بن جويرية وعقيل بن صبيح وكثير بن زياد وسودة بن أبي العالية ثم قال: رواه عن الحسن العدد الكثير من أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام ولعلهم يزيدون على الخمسين، ثم خرج طرقه الحافظ يوسف ابن خليل عن أكثر من ستين نفسا عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة، وسرد الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله بن منده في تذكرته أسماء من رواه عن الحسن فبلغوا مائة وثمانين نفسا وزيادة ثم قال: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن سمرة عبد الله بن عمرو وأبو موسى وأبو الدرداء وأبو هريرة وأنس وعدي بن حاتم وعائشة وأم سلمة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وعمران بن حصين انتهى. ولما أخرج الترمذي حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: "وفي الباب" فذكر الثمانية المذكورين أولا وأهمل خمسة، واستدركهم شيخنا في شرح الترمذي إلا ابن مسعود وابن عمر وزاد معاوية بن الحكم وعوف بن مالك الجشمي والد أبي الأحوص وأذينة والد عبد الرحمن فكملوا ستة عشر نفسا. قلت: أحاديث المذكورين كلها فيما يتعلق باليمين، وليس في حديث أحد منهم "لا تسأل الإمارة" لكن سأذكر من روى معنى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. ولم يذكر ابن منده أن أحدا رواه عن عبد الرحمن بن سمرة غير الحسين، لكن ذكر عبد القادر أن محمد بن سيرين رواه عن عبد الرحمن، ثم أسند من طريق أبي عامر الخراز عن الحسن وابن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة" الحديث. وقال: غريب ما كتبته إلا من هذا الوجه، والمحفوظ رواية الحسن عن عبد الرحمن انتهى. وهذا مع ما في سنده من ضعف ليس فيه التصريح برواية ابن سيرين عن عبد الرحمن، وأخرجه يوسف بن خليل الحافظ من رواية عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الرحمن بن سمرة أورده من المعجم الأوسط للطبراني وهو في ترجمة محمد بن علي المروزي بسنده إلى عكرمة قال: كان اسم عبد الرحمن بن سمرة عبد كلوب فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن فمر به وهو يتوضأ فقال: "تعال يا عبد الرحمن لا تطلب الإمارة" الحديث، وهذا لم يصرح فيه عكرمة بأنه حمله عن عبد الرحمن لكنه محتمل، قال الطبراني: لم يروه عن عكرمة إلا عبد الرحمن بن كيسان ولا عنه إلا ابنه إسحاق تفرد به أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب. قلت: عبد الله بن كيسان ضعفه أبو حاتم الرازي، وابنه إسحاق لينه أبو أحمد الحاكم. قوله: "عن عبد الرحمن بن سمرة" في رواية إبراهيم بن صدقة عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عبد الرحمن ابن سمرة وكان غزا معه كإبل شنؤة أو شنؤتين أخرجه أبو عوانة في صحيحه، وكذا للطبراني من طريق أبي حمزة إسحاق بن الربيع عن الحسن لكن بلفظ: "غزونا مع عبد الرحمن بن سمرة" وأخرجه أيضا من طريق علي بن زيد عن الحسن "حدثني عبد الرحمن بن سمرة" ومن طريق المبارك بن فضالة عن الحسن "حدثنا عبد الرحمن". قوله: "لا تسأل الإمارة" سيأتي شرحه في الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله: "وإذا حلفت على يمين" تقدم توجيهه في الكلام على حديث أبي موسى قريبا في قوله: "لا أحلف على يمين" وقد اختلف فيما تضمنه حديث عبد الرحمن بن سمرة هل لأحد الحكمين تعلق بالآخر أو لا؟ فقيل: له به تعلق، وذلك أن أحد الشقين

(11/616)


أن يعطى الإمارة من غير مسألة فقد لا يكون له فيها أرب فيمتنع فيلزم فيحلف فأمر أن ينظر ثم يفعل الذي هو أولى فإن كان في الجانب الذي حلف على تركه فيحنث ويكفر، ويأتي مثله في الشق الآخر. قوله: "فرأيت غيرها" أي غير المحلوف عليه، وظاهر الكلام عود الضمير على اليمين، ولا يصح عوده على اليمين بمعناها الحقيقي بل بمعناها المجازي كما تقدم، والمراد بالرؤية هنا الاعتقادية لا البصرية، قال عياض: معناه إذا ظهر له أن الفعل أو الترك خير له في دنياه أو آخرته أو أوفق لمراده وشهوته ما لم يكن إثما. قلت: وقد وقع عند مسلم في حديث عدي بن حاتم "فرأى غيرها أتقى لله فليأت التقوى" وهو يشعر بقصر ذلك على ما فيه طاعة. وينقسم المأمور به أربعة أقسام إن كان المحلوف عليه فعلا فكان الترك أولى، أو كان محلوف عليه تركا فكان الفعل أولى، أو كان كل منهما فعلا وتركا لكن يدخل القسمان الأخيران في القسمين الأولين لأن من لازم فعل أحد الشيئين أو تركه ترك الآخر أو فعله. قوله: "فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" هكذا وقع للأكثر، وللكثير منهم "فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير" وقد ذكر قبل من رواه بلفظ: "ثم ائت الذي هو خير" ووقع في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود "فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن كفارتها تركها" فأشار أبو داود إلى ضعفه وقال: الأحاديث كلها "فليكفر عن يمينه" إلا شيئا لا يعبأ به كأنه يشير إلى حديث يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "من حلف فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير فهو كفارته" ويحيى ضعيف جدا، وقد وقع في حديث عدي بن حاتم عند مسلم ما يوهم ذلك وأنه أخرجه بلفظ: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليترك يمينه" هكذا أخرجه من وجهين ولم يذكر الكفارة، ولكن أخرجه من وجه آخر بلفظ: "فرأى خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير" ومداره في الطرق كلها على عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طريفة عن عدي، والذي زاد ذلك حافظ فهو المعتمد، قال الشافعي: في الأمر بالكفارة مع تعمد الحنث دلالة على مشروعية الكفارة في اليمين الغموس لأنها يمين حانثة. واستدل به على أن الحالف يجب عليه فعل أي الأمرين كان أولى من المضي في حلفه أو الحنث والكفارة، وانفصل عنه من قال إن الأمر فيه للندب بما مضى في قصة الأعرابي الذي قال: "والله لا أزيد على هذا ولا أنقص" فقال: "أفلح إن صدق" فلم يأمره بالحنث والكفارة مع أن حلفه على ترك الزيادة مرجوح بالنسبة إلى فعلها.
"خاتمة": اشتمل كتاب الأيمان والنذور والكفارة والملحقة به من الأحاديث المرفوعة على مائة وسبعة وعشرين حديثا، المعلق منها فيه وفيما مضى ستة وعشرون والبقية موصولة، والمكرر منها فيه وفيما مضى مائة وخمسة عشر والخالص اثنا عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عائشة عن أبي بكر، وحديثها "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، وحديث ابن عباس في قصة أبي إسرائيل، وحديثه "أعوذ بعزتك" وحديث عبد الله بن عمرو في اليمين الغموس، وحديث ابن عمر في نذر وافق يوم عيد. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم عشرة آثار. والله المستعان.

(11/617)


المجلد الثاني عشر
كتاب الفرائض
باب قول الله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ...} الآية
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
85- كِتَاب الْفَرَائِضِ
1- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}
6723- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَبَّ عَلَيَّ وَضُوءَهُ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ"
قوله: "كتاب الفرائض" جمع فريضة كحديقة وحدائق، والفريضة فعيلة بمعنى مفروضة مأخوذة من الفرض. وهو القطع، يقال فرضت لفلان كذا أي قطعت له شيئا من المال قاله الخطابي، وقيل هو من فرض القوس وهو الحز الذي في طرفيه حيث يوضع الوتر ليثبت فيه ويلزمه ولا يزول، وقيل الثاني خاص بفرائض الله وهي ما ألزم به عباده. وقال الراغب: الفرض قطع الشيء الصلب والتأثير فيه وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى :{نَصِيباً مَفْرُوضاً} أي مقدرا أو معلوما أو مقطوعا عن غيرهم. قوله: "وقول الله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أفاد السهيلي أن الحكمة في التعبير بلفظ الفعل المضارع لا بلفظ الفعل الماضي كما في قوله تعالى:{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}و{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} الإشارة إلى أن هذه الآية ناسخة للوصية المكتوبة عليهم كما سيأتي بيانه قريبا في " باب ميراث الزوج: قال: وأضاف الفعل إلى اسم المظهر تنويها بالحكم وتعظيما له وقال: {فِي أَوْلادِكُمْ} ولم يقل بأولادكم إشارة إلى الأمر بالعدل فيهم، ولذلك لم يخص الوصية بالميراث بل أتى باللفظ عاما وهو كقوله:

(12/3)


"لا أشهد على جور" وأضاف الأولاد إليهم مع أنه الذي أوصى بهم إشارة إلى أنه أرحم بهم من آبائهم. قوله: "إلى قوله: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}" كذا لأبي ذر، وأما غيره فساق الآية الأولى وقال بعد قوله عليما حكيما إلى قوله :{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} وذكر فيه حديث جابر "مرضت فعادني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي "فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث" هكذا وقع في رواية قتيبة، وقد تقدم في تفسير سورة النساء أن مسلما أخرجه عن عمرو الناقد عن سفيان وهو ابن عيينة شيخ قتيبة فيه وزاد في آخره {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وبينت هناك أن هذه الزيادة مدرجة وأن الصواب ما أخرجه الترمذي من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة "حتى نزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ" وأما قول البخاري في الترجمة "إلى والله عليم حليم" فأشار به إلى أن مراد جابر من آية الميراث قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} وقد سبق في آخر تفسير النساء ما أخرجه النسائي من وجه آخر عن جابر أن "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" نزلت فيه، وقد أشكل ذلك قديما قال ابن العربي بعد أن ذكر الروايتين في إحداهما فنزلت يستفتونك وفي أخرى آية المواريث: هذا تعارض لم يتفق بيانه إلى الآن ثم أشار إلى ترجيح آية المواريث وتوهيم يستفتونك، ويظهر أن يقال أن كلا من الآيتين لما كان فيها ذكر الكلالة نزلت في ذلك، لكن الآية الأولى لما كانت الكلالة فيها خاصة بميراث الإخوة من الأم كما كان ابن مسعود يقرأ: "وله أخ أو أخت من أم" وكذا قرأ سعد بن أبي وقاص أخرجه البيهقي بسند صحيح استفتوا عن ميراث غيرهم من الإخوة فنزلت الأخيرة، فيصح أن كلا من الآيتين نزل في قصة جابر، لكن المتعلق به من الآية الأولى ما يتعلق بالكلالة، وأما سبب نزول أولها فورد من حديث جابر أيضا في قصة ابنتي سعد بن الربيع ومنع عمهما أن يرثا من أبيهما فنزلت يوصيكم الله الآية فقال للعم أعط ابنتي سعد الثلثين، وقد بينت سياقه من وجه آخر هناك وبالله التوفيق. قد وقع في بعض طرق حديث جابر المذكور في الصحيحين "فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة" وقوله: "فلم يجبني بشيء" استدل به على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجتهد، ورد بأنه لا يلزم من انتظاره الوحي في هذه القصة الخاصة عموم ذلك في كل قصة ولا سيما وهي في مسألة المواريث التي غالبها لا مجال للرأي فيه، سلمنا أنه كان يمكنه أن يجتهد فيها لكن لعله كان ينتظر الوحي أولا فإن لم ينزل اجتهد، فلا يدل على نفي الاجتهاد مطلقا.

(12/4)


2- باب تَعْلِيمِ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ تَعَلَّمُوا قَبْلَ الظَّانِّينَ يَعْنِي الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ
6724- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا"
قوله: "باب تعليم الفرائض، وقال عقبة بن عامر: تعلموا قبل الظانين، يعني الذين يتكلمون بالظن" هذا الأثر لم أظفر به موصولا، وقوله: "قبل الظانين" فيه إشعار بأن أهل ذلك العصر كانوا يقفون عند النصوص ولا يتجاوزونها، وإن نقل عن بعضهم الفتوى بالرأي فهو قليل بالنسبة، وفيه إنذار بوقوع ما حصل من كثرة القائلين بالرأي. وقيل مراده قبل اندراس العلم وحدوث من يتكلم بمقتضى ظنه غير مستند إلى علم. قال ابن المنير: وإنما خص البخاري قول عقبة بالفرائض لأنها أدخل فيه من غيرها، لأن الفرائض الغالب عليها التعبد

(12/4)


وانحسام وجوه الرأي والخوض فيها بالظن لا انضباط له، بخلاف غيرها من أبواب العلم فإن للرأي فيها مجالا والانضباط فيها ممكن غالبا. ويؤخذ من هذا التقرير مناسبة الحديث المرفوع للترجمة. وقيل وجه المناسبة أن فيه إشارة إلى أن النهي عن العمل بالظن يتضمن الحث على العمل بالعلم وذلك فرع تعلمه، وعلم الفرائض يؤخذ غالبا بطريق العلم كما تقدم تقريره. وقال الكرماني: يحتمل أن يقال لما كان في الحديث: "وكونوا عباد الله إخوانا " يؤخذ منه تعلم الفرائض ليعلم الأخ الوارث من غيره، وقد ورد في الحث على تعلم الفرائض حديث ليس على شرط المصنف أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " ورواته موثقون، إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافا كثيرا، فقال الترمذي: إنه مضطرب والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق أبي مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة، وفي أسانيدها عنه أيضا اختلاف، ولفظه عند الترمذي من حديث أبي هريرة " تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم، وإنه أول ما ينزع من أمتي " وفي الباب عن أبي بكرة أخرجه الطبراني في " الأوسط " من طريق راشد الحماني عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رفعه: "تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس، أوشك أن يأتي على الناس زمان يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " وراشد مقبول لكن الراوي عنه مجهول. وعن أبي سعيد الخدري بلفظ "تعلموا الفرائض وعلموها الناس " أخرجه الدار قطني من طريق عطية وهو ضعيف، وأخرج الدارمي عن عمر موقوفا " تعلموا الفرائض كما تعلمون القرآن " وفي لفظ عنه " تعلموا الفرائض فإنها من دينكم " وعن ابن مسعود موقوفا أيضا: "من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض " ورجالها ثقات إلا أن في أسانيدها انقطاعا، قال ابن الصلاح: لفظ النصف في هذا الحديث بمعنى أحد القسمين وإن لم يتساويا، وقد قال ابن عيينة إذ سئل عن ذلك: إنه يبتلى به كل الناس. وقال غيره: لأن لهم حالتين حالة حياة وحالة موت والفرائض تتعلق بأحكام الموت، وقيل لأن الأحكام تتلقى من النصوص ومن القياس والفرائض لا تتلقى إلا من النصوص كما تقدم. ثم ذكر حديث أبي هريرة "إياكم والظن" الحديث وقد تقدم من وجه آخر عن أبي هريرة في " باب ما ينهي عن التحاسد " في أوائل كتاب الأدب، وتقدم شرحه مستوفى وفيه بيان المراد بالظن هنا وأنه الذي لا يستند إلى أصل، ويدخل فيه ظن السوء بالمسلم، وابن طاوس المذكور في السند هو عبد الله.
وانحسام وجوه الرأي والخوض فيها بالظن لا انضباط له، بخلاف غيرها من أبواب العلم فإن للرأي فيها مجالا والانضباط فيها ممكن غالبا. ويؤخذ من هذا التقرير مناسبة الحديث المرفوع للترجمة. وقيل وجه المناسبة أن فيه إشارة إلى أن النهي عن العمل بالظن يتضمن الحث على العمل بالعلم وذلك فرع تعلمه، وعلم الفرائض يؤخذ غالبا بطريق العلم كما تقدم تقريره. وقال الكرماني: يحتمل أن يقال لما كان في الحديث: "وكونوا عباد الله إخوانا " يؤخذ منه تعلم الفرائض ليعلم الأخ الوارث من غيره، وقد ورد في الحث على تعلم الفرائض حديث ليس على شرط المصنف أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " ورواته موثقون، إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافا كثيرا، فقال الترمذي: إنه مضطرب والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق أبي مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة، وفي أسانيدها عنه أيضا اختلاف، ولفظه عند الترمذي من حديث أبي هريرة " تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم، وإنه أول ما ينزع من أمتي " وفي الباب عن أبي بكرة أخرجه الطبراني في " الأوسط " من طريق راشد الحماني عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رفعه: "تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس، أوشك أن يأتي على الناس زمان يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما " وراشد مقبول لكن الراوي عنه مجهول. وعن أبي سعيد الخدري بلفظ "تعلموا الفرائض وعلموها الناس " أخرجه الدار قطني من طريق عطية وهو ضعيف، وأخرج الدارمي عن عمر موقوفا " تعلموا الفرائض كما تعلمون القرآن " وفي لفظ عنه " تعلموا الفرائض فإنها من دينكم " وعن ابن مسعود موقوفا أيضا: "من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض " ورجالها ثقات إلا أن في أسانيدها انقطاعا، قال ابن الصلاح: لفظ النصف في هذا الحديث بمعنى أحد القسمين وإن لم يتساويا، وقد قال ابن عيينة إذ سئل عن ذلك: إنه يبتلى به كل الناس. وقال غيره: لأن لهم حالتين حالة حياة وحالة موت والفرائض تتعلق بأحكام الموت، وقيل لأن الأحكام تتلقى من النصوص ومن القياس والفرائض لا تتلقى إلا من النصوص كما تقدم. ثم ذكر حديث أبي هريرة "إياكم والظن" الحديث وقد تقدم من وجه آخر عن أبي هريرة في " باب ما ينهي عن التحاسد " في أوائل كتاب الأدب، وتقدم شرحه مستوفى وفيه بيان المراد بالظن هنا وأنه الذي لا يستند إلى أصل، ويدخل فيه ظن السوء بالمسلم، وابن طاوس المذكور في السند هو عبد الله.

(12/5)


باب قول النبي صلى الله عليه و سلم لا نورث ، ما تركنا صدقة
...
3 -باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ
6725- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ وَالْعَبَّاسَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَيْهِمَا مِنْ فَدَكَ وَسَهْمَهُمَا مِنْ خَيْبَرَ
6726- فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لاَ أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهِ إِلاَّ صَنَعْتُهُ، قَالَ فَهَجَرَتْهُ

(12/5)


فَاطِمَةُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ
6727- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ".
6728- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ فَأَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَأُ فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ قَالَ نَعَمْ فَأَذِنَ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ عَبَّاسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا قَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ فَقَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ذَلِكَ قَالاَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ قَدِيرٌ فَكَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ فَعَمِلَ بِذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ قَالُوا نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ قَالاَ نَعَمْ فَتَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضَهَا فَعَمِلَ بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ أَنَا وَلِيُّ وَلِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا مَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا فَقُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِنْ عَجَزْتُمَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا.
6729- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ".

(12/6)


6730- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَلَيْسَ قَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" ؟
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نورث ما تركنا صدقة" هو بالرفع أي المتروك عنا صدقة وادعى الشيعة أنه بالنصب على أن ما نافية ورد عليهم بأن الرواية ثابتة بالرفع، وعلى التنزل فيجوز النصب على تقدير حذف تقديره ما تركنا مبذول صدقة قاله ابن مالك، وينبغي الإضراب عنه والوقوف مع ما ثبتت به الرواية. وذكر فيه أربعة أحاديث: أحدها حديث أبي بكر في ذلك وقصته مع فاطمة، قد مضى في فرض الخمس مشروحا وسياقه أتم مما هنا، وقوله فيه: "إنما يأكل آل محمد من هذا المال " كذا وقع وظاهره الحصر وأيهم لا يأكلون إلا من هذا المال، وليس ذلك مرادا وإنما المراد العكس وتوجيهه أن من للتبعيض والتقدير إنما يأكل آل محمد بعض هذا المال يعني بقدر حاجتهم وبقيته للمصالح. ثانيها حديث عائشة بلفظ الترجمة، وأورده آخر الباب بزيادة فيه. ثالثها حديث عمر في قصة علي والعباس مع عمر في منازعتهما في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قول عمر لعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بي أبي وقاص والزبير بن العوام: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة " يريد نفسه؟ فقالوا: قد قال ذلك. وفيه أنه قال مثله لعلي وللعباس فقالا كذلك الحديث بطوله، وقد مضى مطولا في فرض الخمس وذكر شرحه هناك. "تنبيهات": الراء من قوله: "لا نورث " بالفتح في الرواية، ولو روي بالكسر لصح المعنى أيضا، وقوله: فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا للأكثر، وفي رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني خاصة، وقوله: لقد أعطاكموه " أي المال في رواية الكشميهني: أعطاكموها أي الخالصة له، وقوله: "فوالله الذي بإذنه" في رواية الكشميهني بحذف الجلالة. رابعها حديث أبي هريرة وإسماعيل شيخه هو ابن أبي أويس المدني ابن أخت مالك وقد أكثر عنه، وأما إسماعيل بن أبان شيخه في الحديث الذي قبله بحديث فلا رواية له عن مالك. قوله: "لا يقتسم" كذا لأبي ذر عن غير الكشميهني وللباقين "لا يقسم" بحذف التاء الثانية، قال ابن التين: الرواية في الموطأ وكذا قرأته في البخاري برفع الميم على أنه خبر والمعنى ليس يقسم، ورواه بعضهم بالجزم كأنه نهاهم إن خلف شيئا لا يقسم بعده، فلا تعارض بين هذا وما تقدم في الوصايا من حديث عمرو بن الحارث الخزاعي "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما" ويحتمل أن يكون الخبر بمعنى النهي فيتحد معنى الروايتين، ويستفاد من رواية الرفع أنه أخبر أنه لا يخلف شيئا مما جرت العادة بقسمته كالذهب والفضة وأن الذي يخلفه من غيرهما لا يقسم أيضا بطريق الإرث بل تقسم منافعه لمن ذكر. قوله: "ورثتي" أي بالقوة لو كنت ممن يورث، أو المراد لا يقسم مال تركه لجهة الإرث فأتى بلفظ: "ورثتي " ليكون الحكم معللا بما به الاشتقاق وهو الإرث، فالمنفي اقتسامهم بالإرث عنه قاله السبكي الكبير. قوله: "ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" تقدم الكلام على المراد بقوله: "عاملي" في أوائل فرض الخمس مع شرح الحديث وحكيت فيه ثلاثة أقوال، ثم وجدت في "الخصائص لابن دحية " حكاية قول رابع أن المراد خادمه وعبر عن العامل على الصدقة بالعامل على النخل وزاد أيضا وقيل الأجير،

(12/7)


ويتحصل من المجموع خمسة أقوال: الخليفة والصانع والناظر والخادم وحافر قبره عليه الصلاة والسلام، وهذا إن كان المراد بالخادم الجنس، وإلا فإن كان الضمير للنخل فيتحد مع الصانع أو الناظر، وقد ترجم المصنف عليه في أواخر الوصايا " باب نفقة قيم الوقف " وفيه إشارة إلى ترجيح حمل العامل على الناظر. ومما يسأل عنه تخصيص النساء بالنفقة والمؤنة بالعامل وهل بينهما مغايرة؟ وقد أجاب عنه السبكي الكبير بأن المؤنة في اللغة القيام بالكفاية والإنفاق بذل القوت، قال: وهذا يقتضي أن النفقة دون المؤنة، والسر في التخصيص المذكور الإشارة إلى أن أزواجه صلى الله عليه وسلم لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة كان لا بد لهن من القوت فاقتصر على ما يدل عليه، والعامل لما كان في صورة الأجير فيحتاج إلى ما يكفيه اقتصر على ما يدل عليه انتهى ملخصا، ويؤيده قول أبي بكر الصديق " إن حرفتي كانت تكفي عائلتي فاشتغلت عن ذلك بأمر المسلمين " فجعلوا له قدر كفايته. ثم قال السبكي: لا يعترض بأن عمر كان فضل عائشة في العطاء لأنه علل ذلك بمزيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها. قلت: وهذا ليس مما بدأ به لأن قسمة عمر كانت من الفتوح، وأما ما يتعلق بحديث الباب ففيما يتعلق بما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يبدأ منه بما ذكر، وأفاد رحمه الله أنه يدخل في لفظ: "نفقة نسائي " كسوتهن وسائر اللوازم وهو كما قال، ومن ثم استمرت المساكن التي كن فيها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم كل واحدة باسم التي كانت فيه، وقد تقدم تقرير ذلك في أول فرض الخمس، وإذا انضم قوله: "إن الذي تخلفه صدقة" إلى أن آله تحرم عليهم الصدقة تحقق قوله: "لا نورث" وفي قول عمر "يريد نفسه" إشارة إلى أن النون في قوله: "نورث" للمتكلم خاصة لا للجمع، وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ: "نحن " لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" الحديث أخرجه عن محمد ابن منصور عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه. وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" بنحو اللفظ المذكور، وأخرجه الدار قطني في "العلل" من رواية أم هانئ عن فاطمة عليها السلام عن أبي بكر الصديق بلفظ: "إن الأنبياء لا يورثون" قال ابن بطال وغيره: ووجه ذلك والله أعلم أن الله بعثهم مبلغين رسالته وأمرهم أن لا يأخذوا على ذلك أجرا كما قال: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} وقال نوح وهود وغيرهما نحو ذلك، فكانت الحكمة في أن لا يورثوا لئلا يظن أنهم جمعوا المال لوارثهم، قال: وقوله تعالى :{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} حمله أهل العلم بالتأويل على العلم والحكمة، وكذا قول زكريا {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} وقد حكى ابن عبد البر أن للعلماء في ذلك قولين وأن الأكثر على أن الأنبياء لا يورثون، وذكر أن ممن قال بذلك من الفقهاء إبراهيم بن إسماعيل بن علية، ونقله عن الحسن البصري عياض في" شرح مسلم: "وأخرج الطبري من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله تعالى حكاية عن زكريا {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} قال: العصبة. ومن قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} قال: يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة، ومن طريق قتادة عن الحسن نحوه لكن لم يذكر المال، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن رفعه مرسلا " رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من يرث ماله". قلت: وعلى تقدير تسليم القود المذكور فلا معارض من القرآن لقول نبينا عليه الصلاة والسلام "لا نورث ما تركنا صدقة" فيكون ذلك من

(12/8)


خصائصه التي أكرم بها، بل قول عمر "يريد نفسه" يؤيد اختصاصه بذلك، وأما عموم قوله تعالى :{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} إلخ فأجيب عنها بأنها عامة فيمن ترك شيئا كان يملكه، وإذا ثبت أنه وقفه قبل موته فلم يخلف ما يورث عنه فلم يورث، وعلى تقدير أنه خلف شيئا مما كان يملكه فدخوله في الخطاب قابل للتخصيص لما عرف من كثرة خصائصه، وقد اشتهر عنه أنه لا يورث فظهر تخصيصه بذلك دون الناس. وقيل الحكمة في كونه لا يورث حسم المادة في تمني الوارث موت المورث من أجل المال، وقيل لكون النبي كالأب لأمته فيكون ميراثه للجميع، وهذا معنى الصدقة العامة. وقال ابن المنير في الحاشية: يستفاد من الحديث أن من قال داري صدقة لا تورث أنها تكون حبسا ولا يحتاج إلى التصريح بالوقف أو الحبس، وهو حسن لكن هل يكون ذلك صريحا أو كناية؟ يحتاج إلى نية، وفي حديث أبي هريرة دلالة على صحة وقف المنقولات وأن الوقف لا يختص بالعقار لعموم قوله: "ما تركت بعد نفقة نسائي " إلخ. ذكر حديث عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" أورده من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة، وهذا الحديث في الموطأ ووقع في رواية ابن وهب عن مالك حدثني ابن شهاب، وفي الموطأ للدار قطني من طريق القعنبي "يسألنه ثمنهن" وكذا أخرجه من طريق جويرية بن أسماء عن مالك. وفي الموطأ أيضا أرسلن عثمان بن عفان إلى أبي بكر الصديق، وفيه فقالت لهن عائشة وفيه: "ما تركنا فهو صدقة" وظاهر سياقه أنه من مسند عائشة، وقد رواه إسحاق بن محمد الفروي عن مالك بهذا السند عن عائشة عن أبي بكر الصديق أورده الدار قطني في الغرائب وأشار إلى أنه تفرد بزيادة أبي بكر في مسنده، وهذا يوافق رواية معمر عن ابن شهاب المذكورة في أول هذا الباب فإن فيه عن عائشة أن أبا بكر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فذكره، فيحتمل أن تكون عائشة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه أبوها ويحتمل أن تكون إنما سمعته من أبيها عن النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلته عن النبي صلى الله عليه وسلم لما طالب الأزواج ذلك والله أعلم.

(12/9)


باب قول النبي صلى الله عليه و سلم (( من ترك مالا فلأهله ))
...
4 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ"
6731- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَلَيْنَا قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ".
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك مالا فلأهله" هذه الترجمة لفظ الحديث المذكور في الباب من طريق أخرى عن أبي سلمة، وأخرجه الترمذي في أول كتاب الفرائض من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وبعده "ومن ترك ضياعا فإلي" وقال بعده: رواه الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أطول من هذا. قوله في السند "عبد الله" هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد، وقد بينت في الكفالة الاختلاف على الزهري في صحابية وأن معمرا انفرد عنه بقوله: "عن جابر" بدل "أبي هريرة". قوله: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" هكذا أورد، مختصرا، وتقدم في الكفالة من طريق عقيل عن ابن شهاب بذكر سببه في أوله ولفظه:

(12/9)


إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بالرجل المتوفى عليه الدين فيقول: "هل ترك لدينه قضاء؟ فإن قيل نعم صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" الحديث، وتقدم في الفرض وفي تفسير الأحزاب من رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة بلفظ: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} " الحديث وفي حديث جابر عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه" وقوله هنا "فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه" يخص ما أطلق في رواية عقيل بلفظ: "فمن توفي من المؤمنين وترك دينا فعلي قضاؤه " وكذا قوله في الرواية الأخرى في تفسير الأحزاب " فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه أو وليه " فعرف أنه مخصوص بمن لم يترك وفاء، وقوله: "فليأتني " أي من يقوم مقامه في السعي في وفاء دينه، أو المراد صاحب الدين، وأما الضمير في قوله: "مولاه " فهو للميت المذكور، وسيأتي بعد قليل من رواية أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "فأنا وليه فلا دعي له " وقد تقدم شرح ما يتعلق بهذا الشق في الكفالة وبيان الحكمة في ترك الصلاة على من مات وعليه دين بلا وفاء وأنه كان إذا وجد من يتكفل بوفائه صلى عليه وأن ذلك كان قبل أن يفتح الفتوح كما في رواية عقيل، وهل كان ذلك من خصائصه أو يجب على ولاة الأمر بعده؟ والراجح الاستمرار، لكن وجوب الوفاء. إنما هو من مال المصالح. ونقل ابن بطال وغيره أنه كان صلى الله عليه وسلم يتبرع بذلك، وعلى هذا لا يجب على من بعده، وعلى الأول قال ابن بطال: فإن لم يعط الإمام عنه من بيت المال لم يحبس عن دخول الجنة لأنه يستحق القدر الذي عليه في بيت المال ما لم يكن دينه أكثر من القدر الذي له في بيت المال مثلا. قلت: والذي يظهر أن ذلك يدخل في المقاصة، وهو كمن له حق وعليه حق، وقد مضى أنهم إذا خلصوا من الصراط حبسوا عند قنطرة بين الجنة والنار يتقاصون المظالم حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فيحمل قوله لا يحبس أي معذبا مثلا والله أعلم. قوله: "ومن ترك مالا فلورثته" أي فهو لورثته وثبتت كذلك هنا في رواية الكشميهني وكذا لمسلم. وفي رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة " فليرثه عصبته من كانوا " ولمسلم من طريق الأعرج عن أبي هريرة " فإلى العصبة من كان " وسيأتي بعد قليل من رواية عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "فما له لموالي العصبة " أي أولياء العصبة، قال الداودي: المراد بالعصبة هنا الورثة لا من يرث بالتعصيب، لأن العاصب في الاصطلاح من له سهم مقدر من المجمع على توريثهم ويرث كل المال إذا انفرد ويرث ما فضل بعد الفروض بالتعصيب، وقيل المراد بالعصبة هنا قرابة الرجل وهم من يلتقي مع الميت في أب ولو علا، سموا بذلك لأنهم يحيطون به يقال عصب الرجل بفلان أحاط به ومن ثم قيل تعصب لفلان أي أحاط به. وقال الكرماني: المراد العصبة بعد أصحاب الفروض، قال: ويؤخذ حكم أصحاب الفروض من ذكر العصبة بطريق الأولى، ويشير إلى ذلك قوله: "من كانوا " فإنه يتناول أنواع المنتسبين إليه بالنفس أو بالغير، قال ويحتمل أن تكون من شرطية.

(12/10)


باب ميراث الولد من أبيه و أمه
...
5- باب مِيرَاثِ الْوَلَدِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِذَا تَرَكَ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ بِنْتًا فَلَهَا النِّصْفُ وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ بُدِئَ بِمَنْ شَرِكَهُمْ فَيُؤْتَى فَرِيضَتَهُ فَمَا بَقِيَ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ

(12/10)


6732- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"
[الحديث 6732- أطرافه في: 6735 ، 6737 ، 6746]
قوله: "باب ميراث الولد من أبيه وأمه" لفظ الولد أعم من الذكر والأنثى ويطلق على الولد للصلب وعلى ولد الولد وإن سفل، قال ابن عبد البر: أصل ما بنى عليه مالك والشافعي وأهل الحجاز ومن وافقهم في الفرائض قول زيد بن ثابت، وأصل ما بنى عليه أهل العراق ومن وافقهم فيها قول علي بن أبي طالب، وكل من الفريقين لا يخالف قول صاحبه إلا في اليسير النادر إذا ظهر له مما يجب عليه الانقياد إليه. قوله: "وقال زيد بن ثابت إلخ" وصله سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة ابن زيد بن ثابت عن أبيه فذكر مثله سواء إلا أنه قال بعد قوله وإن كان معهن ذكر فلا فريضة لأحد منهن ويبدأ بمن شركهم فيعطى فريضته فما بقي بعد ذلك فللذكر مثل حظ الأنثيين، قال ابن بطال: قوله: "وإن كان معهن قال شركهم ولم يقل شركهن فيعطى الأب مثلا فرضه ويقسم ما بقي بين الابن والبنات للذكر مثل حظ الأنثيين، قال: وهذا تأويل حديث الباب وهو قوله ألحقوا الفرائض بأهلها. قوله: "ابن طاوس" هو عبد الله. قوله: "عن ابن عباس" قيل تفرد وهيب بوصله، ورواه الثوري عن ابن طاوس لم يذكر ابن عباس بل أرسله أخرجه النسائي والطحاوي وأشار النسائي إلى ترجيح الإرسال ورجح عند صاحبي " صحيح الموصول " لمتابعة روح بن القاسم وهيبا عندهما ويحيى بن أيوب عند مسلم وزياد بن سعد وصالح عند الدار قطني، واختلف على معمر فرواه عبد الرزاق عنه موصولا أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه ورواه عبد الله بن المبارك عن معمر والثوري جميعا مرسلا أخرجه الطحاوي، ويحتمل أن يكون حمل رواية معمر على رواية الثوري وإنما صححاه لأن الثوري وإن كان أحفظ منهم لكن العدد الكثير يقاومه، وإذا تعارض الوصل والإرسال ولم يرجح أحد الطريقين قدم الوصل والله أعلم. قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها" المراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى وهي النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما والمراد بأهلها من يستحقها بنص القرآن، ووقع في رواية روح ابن القاسم عن ابن طاوس " اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله " أي على وفق ما أنزل في كتابه. قوله: "فما بقي" في رواية روح بن القاسم فما تركت أي أبقت. قوله: "فهو لأولى" في رواية الكشميهني: "فلأولى " بفتح الهمزة واللام بينهما واو ساكنة أفعل تفضيل من الولي بسكون اللام وهو القرب، أي لمن يكون أقرب في النسب إلى المورث، وليس المراد هنا الأحق، وقد حكى عياض أن في رواية ابن الحذاء عن ابن ماهان في مسلم: "فهو لأدنى " بدال ونون وهي بمعنى الأقرب، قال الخطابي: المعنى أقرب رجل من العصبة. وقال ابن بطال: المراد بأولى رجل أن الرجال من العصبة بعد أهل الفروض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد فإن استووا اشتركوا، قال: ولم يقصد في هذا الحديث من يدلي بالآباء والأمهات مثلا لأنه ليس فيهم من هو أولى من غيره إذا استووا في المنزلة، كذا قال ابن المنير. وقال ابن التين إنما المراد به العمة مع العم وبنت الأخ مع ابن الأخ وبنت العم مع

(12/11)


ابن العم وخرج من ذلك الأخ والأخت لأبوين أو لأب فإنهم يرثون بنص قوله تعالى :{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ويستثنى من ذلك من يحجب كالأخ للأب مع البنت والأخت الشقيقة وكذا يخرج الأخ والأخت لأم لقوله تعالى :{فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} وقد نقل الإجماع على أن المراد بها الأخوة من الأم، وسيأتي مزيد في هذا في. "باب ابني عم أحدهما أخ لأم والآخر زوج". قوله: "رجل ذكر" هكذا في جميع الروايات، ووقع في كتب الفقهاء كصاحب النهاية وتلميذه الغزالي " فلأولى عصبة ذكر " قال ابن الجوزي والمنذري: هذه اللفظة ليست محفوظة، وقال ابن الصلاح: فيها بعد عن الصحة من حيث اللغة فضلا عن الرواية فإن العصبة في اللغة اسم للجمع لا للواحد، كذا قال والذي يظهر أنه اسم جنس، ويدل عليه ما وقع في بعض طرق حديث أبي هريرة الذي في الباب قبله " فليرثه عصبته من كانوا " قال ابن دقيق العيد: قد استشكل بأن الأخوات عصبات البنات والحديث يقتضي اشتراط الذكورة في العصبة المستحق للباقي بعد الفروض، والجواب أنه من طريق المفهوم، وقد اختلف هل له عموم؟ وعلى التنزل فيخص بالخبر الدال على أن الأخوات عصبات البنات، وقد استشكل التعبير بذكر بعد التعبير برجل فقال الخطابي: إنما كرر للبيان في نعته بالذكورة ليعلم أن العصبة إذا كان عما أو ابن عم مثلا وكان معه أخت له أن الأخت لا ترث ولا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، وتعقب بأن هذا ظاهر من التعبير بقوله: "رجل " والإشكال باق إلا أن كلامه ينحل إلى أنه للتأكيد، وبه جزم غيره كابن التين قال: ومثله ابن لبون ذكر، وزيفه القرطبي فقال: قيل إنه للتأكيد اللفظي، ورد بأن العرب إنما تؤكد حيث يفيد فائدة إما تعين المعنى في النفس وإما رفع توهم المجاز وليس ذلك موجوداً هنا. وقال غيره: هذا التوكيد لمتعلق الحكم وهو الذكورة، لأن الرجل قد يراد به معنى النجدة والقوة في الأمر، فقد حكى سيبويه مررت برجل رجل أبوه فلهذا احتاج الكلام إلى زيادة التوكيد بذكر حتى لا يظن أن المراد به خصوص البالغ، وقيل خشية أن يظن بلفظ رجل الشخص وهو أعم من الذكر والأنثى. وقال ابن العربي: في قوله ذكر الإحاطة بالميراث إنما تكون للذكر دون الأنثى، ولا: يرد قول من قال إن البنت تأخذ جميع المال لأنها إنما تأخذه بسببين متغايرين والإحاطة مختصة بالسبب الواحد وليس إلا الذكر فلهذا نبه عليه بذكر الذكورية، قال: وهذا لا يتفطن له كل مدع. وقيل إنه احتراز عن الخنثى في الموضعين فلا تؤخذ الخنثى في الزكاة ولا يحرز الخنثى المال إذا انفرد، وقيل للاعتناء بالجنس، وقيل للإشارة إلى الكمال في ذلك كما يقال امرأة أنثى، وقيل لنفي توهم اشتراك الأنثى معه لئلا يحمل على التغليب، وقيل ذكر تنبيها على سبب الاستحقاق بالعصوبة وسبب الترجيح في الإرث ولهذا جعل للذكر مثل حظ الأنثيين وحكمته أن الرجال تلحقهم المؤن كالقيام بالعيال والضيفان وإرفاد القاصدين ومواساة السائلين وتحمل الغرامات وغير ذلك، هكذا قال النووي، وسبقه القاضي عياض فقال: قيل هو على معنى اختصاص الرجال بالتعصيب بالذكورية التي بها القيام على الإناث، وأصله للمازري فإنه قال بعد أن ذكر استشكال ما ورد في هذا وهو رجل ذكر وفي الزكاة ابن لبون ذكر قال والذي يظهر لي أن قاعدة الشرع في الزكاة الانتقال من سن إلى أعلى منها ومن عدد إلى أكثر منه وقد جعل في خمسة وعشرين بنت مخاض وسنا أعلى منها وهو ابن لبون فقد يتخيل أنه على خلاف القاعدة وأن السنين كالسن الواحد لأن ابن اللبون أعلى سنا لكنه أدنى قدرا فنبه بقوله ذكر على أن الذكورية تبخسه حتى يصير مساويا لبنت مخاض مع كونها أصغر سنا منه، وأما في الفرائض

(12/12)


فلما علم أن الرجال هم القائمون بالأمور وفيهم معنى التعصيب وترى لهم العرب ما لا ترى للنساء فعبر بلفظ ذكر إشارة إلى العلة التي لأجلها اختص بذلك، فهما وإن اشتركا في أن السبب في وصف كل منهما بذكر التنبيه على ذلك لكن متعلق التنبيه فيهما مختلف، فإنه في ابن اللبون إشارة إلى النقص وفي الرجل إشارة إلى الفضل، وهذا قد لخصه القرطبي وارتضاه. وقيل إنه وصف لأولى لا لرجل قاله السهيلي وأطال في تقريره وتبجح به فقال: هذا الحديث أصل في الفرائض وفيه إشكال وقد تلقاه الناس أو أكثرهم على وجه لا تصح إضافته إلى من أوتى جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا فقالوا: هو نعت لرجل، وهذا لا يصح لعدم الفائدة لأنه لا يتصور أن يكون الرجل إلا ذكرا وكلامه أجل من أن يشتمل على حشو لا فائدة فيه ولا يتعلق به حكم، ولو كان كما زعموا لنقص فقه الحديث لأنه لا يكون فيه بيان حكم الطفل الذي لم يبلغ سن الرجولية، وقد اتفقوا على أن الميراث يجب له ولو كان ابن ساعة فلا فائدة في تخصيصه بالبالغ دون الصغير، قال: والحديث إنما سبق لبيان من يستحق الميراث من القرابة بعد أصحاب السهام، ولو كان كما زعموا لم يكن فيه تفرقة بين قرابة الأب وقرابة الأم، قال فإذا ثبت هذا فقوله: "أولى رجل ذكر " يريد القريب في النسب الذي قرابته من قبل رجل وصلب لا من قبل بطن ورحم، فالأولى هنا هو ولي الميت فهو مضاف إليه في المعنى دون اللفظ وهو في اللفظ مضاف إلى النسب وهو الصلب فعبر عن الصلب بقوله: "أولى رجل" لأن الصلب لا يكون إلا رجلا فأفاد بقوله: "لأولى رجل" نفي الميراث عن الأولى الذي هو من قبل الأم كالخال، وأفاد بقوله: "ذكر" نفي الميراث عن النساء وإن كن من المدلين إلى الميت من قبل صلب لأنهن إناث، قال: وسبب الإشكال من وجهين أحدهما أنه لما كان مخفوضا ظن نعتا لرجل ولو كان مرفوعا لم يشكل كأن يقال فوارثه أولى رجل ذكر، والثاني أنه جاء بلفظ أفعل وهذا الوزن إذا أريد به التفضيل كان بعض ما يضاف إليه كفلان أعلم إنسان فمعناه أعلم الناس فتوهم أن المراد بقوله: "أولى رجل" أولى الرجال وليس كذلك وإنما هو أولى الميت بإضافته النسب وأولى صلب بإضافته كما تقول هو أخوك أخو الرخاء لا أخو البلاء، قال: فالأولى في الحديث كالولي. فإن قيل كيف يضاف للواحد وليس بجزء منه؟ فالجواب إذا كان معناه الأقرب في النسب جازت إضافته وإن لم يكن جزءا منه كقوله صلى الله عليه وسلم في البر "بر أمك ثم أباك ثم أدناك " قال وعلى هذا فيكون في هذا الكلام الموجز من المتانة وكثرة المعاني ما ليس في غيره، فالحمد لله الذي وفق وأعان انتهى كلامه. ولا يخلو من استغلاق. وقد لخصه الكرماني فقال: ذكر صفة لأولى لا لرجل، والأولى بمعنى القريب الأقرب فكأنه قال: فهو لقريب الميت ذكر من جهة رجل وصلب لا من جهة بطن ورحم، فالأولى من حيث المعنى مضاف إلى الميت، وأشير بذكر الرجل إلى الأولوية فأفاد بذلك نفي الميراث عن الأولى الذي من جهة الأم كالخال، وبقوله ذكر نفيه عن النساء بالعصوبة وإن كن من المدلين للميت من جهة الصلب انتهى. وقد أوردته كما وجدته ولم أحذف منه إلا أمثلة أطال بها وكلمات طويلة تبجح بها بسبب ما ظهر له من ذلك، والعلم عند الله تعالى. قال النووي: أجمعوا على أن الذي يبقى بعد الفروض للعصبة يقدم الأقرب فالأقرب فلا يرث عاصب بعيد مع عاصب قريب، والعصبة كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى، فمتى انفرد أخذ جميع المال، وإن كان مع ذوي فروض غير مستغرقين أخذ ما بقي وإن كان مع مستغرقين فلا شيء له. قال القرطبي: وأما تسمية الفقهاء الأخت مع البنت عصبة فعلى سبيل التجوز لأنها لما كانت في هذه المسألة تأخذ ما فضل عن البنت أشبهت

(12/13)


العاصب، قلت: وقد ترجم البخاري بذلك كما سيأتي قريبا. قال الطحاوي: استدل قوم - يعني ابن عباس ومن تبعه - بحديث ابن عباس على أن من خلف بنتا وأخا شقيقا وأختا شقيقة كان لابنته النصف وما بقي لأخيه ولا شيء لأخته ولو كانت شقيقة، وطردوا ذلك فيما لو كان مع الأخت الشقيقة عصبة فقالوا لا شيء لها مع البنت بل الذي يبقى بعد البنت للعصبة ولو بعدوا، واحتجوا أيضا بقوله تعالى:{ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} قالوا: فمن أعطى الأخت مع البنت خالف ظاهر القرآن. قال: واستدل عليهم بالاتفاق على أن من ترك بنتا وابن ابن وبنت ابن متساويين أن للبنت النصف وما بقي بين ابن الابن وبنت الابن ولم يخصوا ابن الابن بما بقي لكونه ذكرا بل ورثوا معه شقيقته وهي أنثى، قال فعلم بذلك أن حديث ابن عباس ليس على عمومه بل هو في شيء خاص وهو ما إذا ترك بنتا وعما وعمة فإن للبنت النصف وما بقي للعم دون العمة إجماعا قال: فاقتضى النظر ترجيح إلحاق الأخت مع الأخ بالابن والبنت لا بالعم والعمة، لأن الميت لو لم يترك إلا أخا وأختا شقيقتين فالمال بينهما، فكذلك لو ترك ابن ابن وبنت ابن، بخلاف ما لو ترك عما وعمة فإن المال كله للعم دون العمة باتفاقهم، قال: وأما الجواب عما احتجوا به من الآية فهو أنهم أجمعوا على أن الميت لو ترك بنتا وأخا لأب كان للبنت النصف وما بقي للأخ، وأن معنى قوله تعالى :{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} إنما هو ولد يحوز المال كله لا الولد الذي لا يحوز، وأقرب العصبات البنون ثم بنوهم وإن سفلوا ثم الأب ثم الجد والأخ إذا انفرد واحد منهما، فإن اجتمعا فسيأتي حكمه، ثم بنو الإخوة ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأعمام ثم بنوهم وإن سفلوا ومن أدلى بأبوين يقدم على من أدلى بأب لكن يقدم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأبوين ويقدم ابن أخ لأب على عم لأبوين ويقدم عم لأب على ابن عم لأبوين، واستدل به البخاري على أن ابن الابن يحوز المال إذا لم يكن دونه ابن وعلى أن الجد يرث جميع المال. إذا لم يكن دونه أب وعلى أن الأخ من الأم إذا كان ابن عم يرث بالفرض والتعصيب، وسيأتي جميع ذلك والبحث فيه.

(12/14)


6- باب مِيرَاثِ الْبَنَاتِ
6733- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرِضْتُ بِمَكَّةَ مَرَضًا فَأَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَتِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ "قَالَ: لاَ"، قَالَ: قُلْتُ فَالشَّطْرُ، "قَالَ: لاَ" قُلْتُ: الثُّلُثُ قَالَ: "الثُّلُثُ كَبِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَ وَلَدَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آأُخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي فَقَالَ: "لَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلًا تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ رِفْعَةً وَدَرَجَةً وَلَعَلَّ أَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ" قَالَ سُفْيَانُ: وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ

(12/14)


6734- حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ شَيْبَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "أَتَانَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ مُعَلِّمًا وَأَمِيرًا فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَأُخْتَهُ فَأَعْطَى الِابْنَةَ النِّصْفَ وَالأُخْتَ النِّصْفَ"
[الحديث 6734- طرفه في: 6741]
قوله: "باب ميراث البنات" الأصل فيه كما تقدم في أول كتاب الفرائض قوله تعالى :{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقد تقدمت الإشارة إليه وإلى سبب نزولها وأن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون البنات كما حكاه أبو جعفر بن حبيب في "كتاب المحبر" وحكى أن بعض عقلاء الجاهلية ورث البنت لكن سوى بينها وبين الذكر وهو عامر بن جشم بضم الجيم وفتح المعجمة، وقد تمسك بالسبب المذكور من أجاب عن السؤال المشهور في قوله تعالى :{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} حيث قيل ذكر في الآية حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن دون الانفراد وذكر حكم البنت الواحدة في الحالين وكذا حكم ما زاد على البنتين، وقد انفرد ابن عباس بان حكمهما حكم الواحدة وأبى ذلك الجمهور، واختلف في مأخذهم فقيل حكمهما حكم الثلاث فما زاد، ودليله بيان السنة فإن الآية لما كانت محتملة بينت السنة أن حكمهما حكم ما زاد عليهما، وذلك واضح في سبب النزول فإن العم لما منع البنتين من الإرث وشكت ذلك أمهما قال صلى الله عليه وسلم لها " يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل إلى العم فقال: "أعط بنتي سعد الثلثين " فلا يرد على ذلك أنه يلزم منه نسخ الكتاب بالسنة فإنه بيان لا نسخ، وقيل بالقياس على الأختين وهما أولى لما يختص بهما من أنهما أمس رحما بالميت من أختيه فلا يقصر بهما عنهما، وقيل إن لفظ: "فوق" في الآية مقحم وهو غلط، وقال المبرد: يؤخذ من جهة أن أقل عدد يجتمع فيه الصنفان ذكر وأنثى فإن كان للواحدة الثلث كان للبنتين الثلثان، وقال إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن": يؤخذ ذلك من قوله تعالى :{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} لأنه يقتضي أنه إذا كان ذكر وأنثى فللذكر الثلثان وللأنثى الثلث، فإذا استحقت الثلث مع الذكر فاستحقاقها الثلث مع أنثى مثلها بطريق الأولى. وقال السهيلي: يؤخذ ذلك من المجيء بلام التعريف التي للجنس في قوله: "حظ الأنثيين، فإنه يدل على أنهما استحقا الثلثين وأن الواحدة لها مع الذكر الثلث، وكان ظاهر ذلك أنهن لو كن ثلاثا لاستوعبن المال فلذلك ذكر حكم الثلاث فما زاد واستغنى عن إعادة حكم الأنثيين لأنه قد تقدم بدلالة اللفظ. وقال صاحب "الكشاف": وجهه أن الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة فالثنتان كذلك يحوزان الثلثين، فلما ذكر ما دل على حكم الثنتين ذكر بعده حكم ما فوق الثنتين وهو منتزع من كلام القاضي، وقرر الطيبي فقال: اعتبر القاضي الفاء في قوله تعالى :{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} لأن مفهوم ترتيب الفاء ومفهوم الوصف في قوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} مشعران بذلك، فكأنه لما قال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} علم بحسب الظاهر من عبارة النص حكم الذكر مع الأنثى إذا اجتمعا، وفهم منه بحسب إشارة النص حكم الثنتين لأن الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة فالثنتان يحوزان الثلثين، ثم أراد أن يعلم حكم ما زاد على الثنتين فقال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} فمن نظر إلى عبارة النص قال أريد حالة الاجتماع دون الانفراد، ومن نظر إلى إشارة النص قال إن حكم الثنتين حكم الذكر مطلقا. واعترض على هذا التقرير بأنه ثبت بما ذكر أن لهما الثلثين في صورة

(12/15)


ما، وليست هي صورة الاجتماع دائما إذ ليس للبنتين مع الابن الثلثان، والجواب عنه عسر إلا إن انضم إليه أن الحديث بين ذلك، ويعتذر عن ابن عباس بأنه لم يبلغه فوقف مع ظاهر الآية وفهم أن قوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} لانتفاء الزيادة على الثلثين لا لإثبات ذلك للثنتين، وكذا يرد على جواب السهيلي أن الاثنتين لا يستمر الثلثان حظهما في كل صورة والله أعلم. ذكر المصنف في الباب حديث سعد بن أبي وقاص في الوصية بالثلث، وقد مضى شرحه مستوفى في الوصايا، والغرض منه قوله: "وليس يرثني إلا ابنتي " وقد تقدم أن الذي نفاه سعد أولاده وإلا فقد كان له من العصبات من يرثه، وحديث معاذ في توريث البنت والأخت سيأتي شرحه قريبا في " باب ميراث الأخوات مع البنات " من وجه آخر عن الأسود، وأبو النضر المذكور في سنده هو هشام بن هارون في القاسم وشيبان هو ابن عبد الرحمن والأشعث هو ابن أبي الشعثاء سليم المحاربي، وقد أخرجه يزيد بن هارون في "كتاب الفرائض" له عن سفيان الثوري عن أشعث بن أبي الشعثاء عن الأسود بن يزيد قال قضى ابن الزبير في ابنة وأخت فأعطى الابنة النصف وأعطى العصبة بقية المال، فقلت له إن معاذا قضى فيها باليمن فذكره قال فقال له أنت رسولي إلى عبد الله بن عتبة وكان قاضي الكوفة فحدثه بهذا الحديث، وأخرجه الدارمي والطحاوي من طريق الثوري نحوه.

(12/16)


7-باب مِيرَاثِ ابْنِ الِابْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ابْنٌ، وَقَالَ زَيْدٌ وَلَدُ الأَبْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهُمْ وَلَدٌ ذَكَرُهُمْ كَذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ كَأُنْثَاهُمْ يَرِثُونَ كَمَا يَرِثُونَ وَيَحْجُبُونَ كَمَا يَحْجُبُونَ وَلاَ يَرِثُ وَلَدُ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ
6735- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"
قوله: "ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن" أي للميت لصلبه سواء كان أباه أو عمه. قوله: "وقال زيد بن ثابت إلخ" وصله سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة ابن زيد عن أبيه، وقوله: "بمنزلة الولد" أي للصلب وقوله: "إذا لم يكن دونهم" أي بينهم وبين الميت، وقوله: "ولد ذكر" احترز به عن الأنثى، وسقط لفظ ذكر من رواية الأكثر وثبت للكشميهني وهي في رواية سعيد بن منصور المذكورة، وقوله: "يرثون كما يرثون ويحجبون كما يحجبون " أي يرثون جميع المال إذا انفردوا ويحجبون من دونهم في الطبقة ممن بينه وبين الميت مثلا اثنان فصاعدا ولم يرد تشبيههم بهم من كل جهة، وقوله في آخره: "ولا يرث ولد الابن مع الابن" تأكيد لما تقدم، فإن حجب أولاد الابن بالابن إنما يؤخذ من قوله إذا لم يكن دونهم إلى آخره بطريق المفهوم. ثم ذكر حديث ابن عباس "ألحقوا الفرائض بأهلها" قد مضى شرحه قريبا، قال ابن بطال قال أكثر الفقهاء فيمن خلفت زوجا وأبا وبنتا وابن ابن وبنت ابن: تقدم الفروض فللزوج الربع وللأب السدس وللبنت النصف وما بقي بين ولدي الابن للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كانت البنت أسفل من الابن فالباقي له دونها، وقيل الباقي له مطلقا لقوله فما بقي فلأولى رجل ذكر، وتمسك زيد بن ثابت والجمهور بقوله تعالى :{فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقد أجمعوا أن بني البنين ذكورا وإناثا كالبنين عند فقد البنين إذا استووا في التعدد، فعلى هذا تخص هذه الصورة من عموم "فلأولى رجل ذكر".

(12/16)


8- باب مِيرَاثِ ابْنَةِ ابْنِ مَعَ ابنة
6736- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو قَيْسٍ "سَمِعْتُ هُزَيْلَ بْنَ شُرَحْبِيلَ قَالَ: "سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ بِنْتٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْابْنَةِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ، فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ: ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ لاَ تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ"
[الحديث 6736- طرفه في: 6742]
قوله: "باب ميراث ابنة ابن مع ابنة" في رواية الكشميهني: "مع بنت". قوله: "حدثنا أبو قيس" هو عبد الرحمن بن ثروان بفتح المثلثة وسكون الراء، وهزيل بالزاي مصغر ووقع في كتب كثير من الفقهاء هذيل بالذال المعجمة وهو تحريف هو ابن شرحبيل وهو والراوي عنه كوفيان أوديان، ووقع في رواية النسائي من طريق وكيع عن سفيان "عن أبي قيس واسمه عبد الرحمن". قوله: "سئل أبو موسى" في رواية غندر عن شعبة عند النسائي: "جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وهو الأمير وإلى سلمان بن ربيعة الباهلي فسألهما " وكذا أخرجه أبو داود من طريق الأعمش عن أبي قيس لكن لم يقل وهو الأمير، وكذا للترمذي وابن ماجه والطحاوي والدارمي من طرق عن سفيان الثوري بزيادة سلمان بن ربيعة مع أبي موسى، وقد ذكروا أن سلمان المذكور كان على قضاء الكوفة. قوله: "وائت ابن مسعود فسيتابعني" في رواية الأعمش والثوري المشار إليهما "فقال له أبو موسى وسلمان ابن ربيعة" وفيها أيضا: "فسيتابعنا" وهذا قاله أبو موسى على سبيل الظن لأنه اجتهد في المسألة ووافقه سلمان فظن أن ابن مسعود يوافقهما، ويحتمل أن يكون سبب قوله: "ائت ابن مسعود" الاستثبات. قوله: "فقال لقد ضللت إذا" قاله جوابا عن قول أبي موسى أنه سيتابعه، وأشار إلى أنه لو تابعه لخالف صريح السنة عنده وأنه لو خالفها عامدا لضل. قوله: "أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية الدار قطني من طريق حجاج بن أرطاة عن عبد الرحمن بن مروان " فقال ابن مسعود كيف أقول " يعني مثل قول أبي موسى، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره. "فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود" فيه إشارة إلى أن هزيلا الراوي توجه مع السائل إلى ابن مسعود فسمع جوابه فعاد إلى أبي موسى معهم فأخبروه. قوله: "لا تسألوني ما دام هذا الحبر" بفتح المهملة وبكسرها أيضا وسكون الموحدة حكاه الجوهري ورجح الكسر وجزم الفراء بأنه بالكسر وقال سمي باسم الحبر الذي يكتب به، وقال أبو عبيد الهروي هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه وهو بالفتح في رواية جميع المحدثين وأنكر أبو الهيثم الكسر، وقال الراغب سمي العالم حبرا لما يبقى من أثر علومه، وكانت هذه القصة في زمن عثمان هو الذي أمر أبا موسى على الكوفة وكان ابن مسعود قبل ذلك أميرها ثم عزل قبل ولاية أبي موسى عليها بمدة، قال ابن بطال: فيه أن العالم يجتهد إذا ظن أن لا نص في المسألة ولا يتولى الجواب إلى أن يبحث عن ذلك، وفيه أن الحجة عند التنازع سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الرجوع إليها، وفيه ما كانوا عليه من الإنصاف

(12/17)


والاعتراف بالحق والرجوع إليه، وشهادة بعضهم لبعض بالعلم والفضل، وكثرة اطلاع ابن مسعود على السنة، وتثبت أبي موسى في الفتيا حيث دل على من ظن أنه أعلم منه، قال: ولا خلاف بين الفقهاء فيما رواه ابن مسعود، وفي جواب أبي موسى إشعار بأنه رجع عما قاله. وقال ابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أبو موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة الباهلي وقد رجع أبو موسى عن ذلك، ولعل سلمان أيضا رجع كأبي موسى، وسلمان المذكور مختلف في صحبته وله أثر في فتوح العراق أيام عمر وعثمان واستشهد في زمن عثمان وكان يقال له سلمان الخيل لمعرفته بها، واستدل الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا على أن المراد بحديث ابن عباس "فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" من يكون أقرب العصبات إلى الميت، فلو كان هناك عصبة أقرب إلى الميت ولو كانت أنثى كان المال الباقي لها، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأخوات من قبل الأب مع البنت عصبة فصرن مع البنات في حكم الذكور من قبل الإرث، وقال غيره: وجه كون الولد المذكور في قوله تعالى :{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ذكرا أنه الذي يسبق إلى الوهم من قول القائل قال ولد فلان كذا، فأول ما يقع في نفس السامع أن المراد الذكر وإن كان الإناث أيضا أولادا بالحقيقة ولكن هو أمر شائع وقد قال الله تعالى :{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وقال: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ} وقال حكاية عن الكافر الذي قال: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} والمراد بالأولاد والولد في هذه الآي الذكور دون الإناث لأن العرب ما كانت تتكاثر بالبنات فإذا حمل قوله تعالى :{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} على الولد الذكر لم يمنع الأخت الميراث مع البنت، وعلى تقدير أن يكون الولد في الآية أعم فإنه محتمل لأن يراد به العموم على ظاهره وأن يراد به خصوص الذكر فبينت السنة الصحيحة أن المراد به الذكور دون الإناث، قال ابن العربي: يؤخذ من قصة أبي موسى وابن مسعود جواز العمل بالقياس قبل معرفة الخبر، والرجوع إلى الخبر بعد معرفته، ونقض الحكم إذا خالف النص. قلت: ويؤخذ من صنيع أبي موسى أنه كان يرى العمل بالاجتهاد قبل البحث عن النص وهو لائق بمن يعمل بالعام قبل البحث عن المخصص، وقد نقل ابن الحاجب الإجماع على منع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص، وتعقب بأن أبوي إسحاق الإسفرايني والشيرازي حكيا الخلاف، وقال أبو بكر الصيرفي وطائفة: وهو المشهور؛ وعن الحنفية يجب الانقياد للعموم في الحال، وقال ابن شريح وابن خيران والقفال: يجب البحث، قال أبو حامد: وكذا الخلاف في الأمر والنهي المطلق.

(12/18)


باب ميراث الجد مع الأب و الإخوة
...
9- باب مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الأَبِ وَالإِخْوَةِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ الْجَدُّ أَبٌ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {يَا بَنِي آدَمَ - وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ فِي زَمَانِهِ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرِثُنِي ابْنُ ابْنِي دُونَ إِخْوَتِي وَلاَ أَرِثُ أَنَا ابْنَ ابْنِي وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ
6737- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"

(12/18)


6738- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَمَّا الَّذِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ خَلِيلًا لاَتَّخَذْتُهُ وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ" - أَوْ قَالَ - خَيْرٌ فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا أَوْ قَالَ قَضَاهُ – أَبًا
قوله: "باب ميراث الجد مع الأب والإخوة" المراد بالجد هنا من يكون من قبل الأب والمراد بالإخوة الأشقاء ومن الأب، وقد انعقد الإجماع على أن الجد لا يرث مع وجود الأب. قوله: "وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير الجد أب" أي هو أب حقيقة لكن تتفاوت مراتبه بحسب القرب والبعد، وقيل المعنى أنه ينزل منزلة الأب في الحرمة ووجوه البر، والمعروف عن المذكورين الأول، قال يزيد بن هارون في كتاب الفرائض له أخبرنا محمد بن سالم عن الشعبي أن أبا بكر وابن عباس وابن الزبير كانوا يجعلون الجد أبا يرث ما يرث ويحجب ما يحجب، ومحمد بن سالم ضعيف والشعبي عن أبي بكر منقطع، وقد جاء من طريق أخرى، وإذا حمل ما نقله الشعبي على العموم لزم منه خلاف ما أجمعوا عليه في صورة وهي أم الأب إذا علت تسقط بالأب ولا تسقط بالجد، واختلف في صورتين إحداهما أن بني العلات والأعيان يسقطون بالأب ولا يسقطون بالجد إلا عند أبي حنيفة ومن تابعه، والأم مع الأب وأحد الزوجين تأخذ ثلث ما بقي ومع الجد تأخذ ثلث الجميع إلا عند أبي يوسف فقال هو كالأب، وفي الإرث بالولاء صورة ثالثة فيها اختلاف أيضا، فأما قول أبي بكر وهو الصديق فوصله الدارمي بسند على شرط مسلم عن أبي سعيد الخدري أن أبا بكر الصديق جعل الجد أبا، وبسند صحيح إلى أبي موسى أن أبا بكر مثله، وبسند صحيح أيضا إلى عثمان بن عفان أن أبا بكر كان يجعل الجد أبا، وفي لفظ له أنه جعل الجد أبا إذا لم يكن دونه أب وبسند صحيح عن ابن عباس أن أبا بكر كان يجعل الجد أبا، وقد أسند المصنف في آخر الباب عن ابن عباس أن أبا بكر أنزله أبا، وكذا مضى في المناقب موصولا عن ابن الزبير أن أبا بكر أنزله أبا، وأما قول ابن عباس فأخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الفرائض من طريق عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال: الجد أب، وأخرج الدارمي بسند صحيح عن طاوس عنه أنه جعل الجد أبا. وأخرج يزيد بن هارون من طريق ليث عن طاوس أن عثمان وابن عباس كانا يجعلان الجد أبا. وأما قول ابن الزبير فتقدم في المناقب موصولا من طريق ابن أبي مليكة قال: كتب أهل الكوفة إلى ابن الزبير في الجد فقال: إن أبا بكر أنزله أبا، وفيه دلالة على أنه أفتاهم بمثل قول أبي بكر وأخرج يزيد بن هارون من طريق سعيد بن جبير قال: كنت كاتبا لعبد الله بن عتبة فأتاه كتب ابن الزبير أن أبا بكر جعل الجد أبا. قوله: "وقرأ ابن عباس: {يَا بَنِي آدَمَ - وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أما احتجاج ابن عباس بقوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ} فوصله محمد بن نصر من طريق عبد الرحمن بن معقل قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له كيف تقول في الجد؟ قال: أي أب لك أكبر؟ فسكت، وكأنه عيي عن جوابه، فقلت أنا: آدم، فقال أفلا تسمع إلى قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ} أخرجه الدارمي من هذا الوجه. وأما احتجاجه بقوله تعالى :{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي} فوصله سعيد بن منصور من طريق عطاء عن ابن عباس قال: الجد أب وقرأ: { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي} الآية، واحتج بعض من قال بذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب " وإنما هو ابن ابنه. قوله: "ولم يذكر" هو بضم أوله على البناء للمجهول

(12/19)


قوله: "إن أحدا خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون" كأنه يريد بذلك تقوية حجة القول المذكور فإن الإجماع السكوتي حجة وهو حاصل في هذا، وممن جاء عنه التصريح بأن الجد يرث ما كان يرث الأب عند عدم الأب غير من سماه المصنف معاذ وأبو الدرداء وأبو موسى وأبي بن كعب وعائشة وأبو هريرة، ونقل ذلك أيضا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود على اختلاف عنهم كما سيأتي، ومن التابعين عطاء وطاوس وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبو الشعثاء وشريح والشعبي، ومن فقهاء الأنصار عثمان التيمي وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه وداود وأبو ثور والمزني وابن سريح، وذهب عمر وعلي وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الإخوة مع الجد لكن اختلفوا في كيفية ذلك كما سيأتي بيانه. قوله: "وقال ابن عباس يرثني ابن ابني دون أخوتي ولا أرث أنا ابن ابني" وصله سعيد بن منصور من طريق عطاء عنه قال فذكره. قال ابن عبد البر: وجه قياس ابن عباس أن ابن الابن لما كان كالابن عند عدم الابن كان أبو الأب عند عدم الأب كالأب، وقد ذكر من وافق ابن عباس في هذا توجيه قياسه المذكور من جهة أنهم أجمعوا على أنه كالأب في الشهادة له وفي العتق عليه وأنه لا يقتص منه وأنه ذو فرض أو عاصب وعلى أن من ترك ابنا وأبا أن للأب السدس والباقي للابن وكذا لو ترك جدة لأبيه وابنا وعلى أن الجد يضرب مع أصحاب الفروض بالسدس كما يضرب الأب سواء قيل بالعول أم لا، واتفقوا على أن ابن الابن بمنزلة الابن في حجب الزوج عن النصف والمرأة عن الربع والأم عن الثلث كالابن سواء، فلو أن رجلا ترك أبويه وابن ابنه كان لكل من أبويه السدس وأن من ترك أبا جده وعمه أن المال لأبي جده دون عمه فينبغي أن يكون لوالد أبيه دون إخوته فيكون الجد أولى من أولاد أبيه كما أن أباه أولى من أولاد أبيه، وعلى أن الإخوة من الأم لا يرثون مع الجد كما لا يرثون مع الأب فحجبهم الجد كما حجبهم الأب فينبغي أن يكون الجد كالأب في حجب الإخوة وكذا القول في بني الإخوة ولو كانوا أشقاء؛ وقال السهيلي: لم ير زيد بن ثابت لاحتجاج ابن عباس بقوله تعالى :{يَا بَنِي آدَمَ} ونحوها مما ذكر عنه حجة لأن ذلك ذكر في مقام النسبة والتعريف فعبر بالبنوة ولو عبر بالولادة لكان فيه متعلق، ولكن بين التعبير بالولد والابن فرق، ولذلك قال تعالى :{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} ولم يقل في أبنائكم، ولفظ الولد يقع على الذكر والأنثى والواحد والجمع بخلاف الابن، وأيضا فلفظ الولد يليق بالميراث بخلاف الابن تقول ابن فلان من الرضاعة ولا تقول ولده، وكذا كان من يتبنى ولد غيره قال له ابني وتبناه ولا يقول ولدي ولا ولده ومن ثم قال في آية التحريم {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} إذ لو قال وحلائل أولادكم لم يحتج إلى أن يقول من أصلابكم لأن الولد لا يكون إلا من صلب أو بطن. قوله: "ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة" سقط ذكر زيد من شرح ابن بطال فلعله من النسخة، وقد أخذ بقوله جمهور العلماء وتمسكوا بحديث: "أفرضكم زيد" وهو حديث حسن أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من رواية أبي قلابة عن أنس وأعله بالإرسال، ورجحه الدار قطني والخطيب وغيرهما، وله متابعات وشواهد ذكرتها في تخريج أحاديث الرافعي، فأما عمر فأخرج الدارمي بسند صحيح عن الشعبي قال: "أول جد ورث في الإسلام عمر فأخذ ماله، فأتاه علي وزيد - يعني ابن ثابت - فقالا ليس لك ذلك إنما أنت كأحد الأخوين" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن غنم مثله دون قوله: "فأتاه إلخ" لكن قال: "فأراد عمر أن يحتاز المال فقلت له: يا أمير المؤمنين إنهم شجرة دونك، يعني بني أبيه، وأخرج الدار قطني

(12/20)


بسند قوي عن زيد بن ثابت أن عمر أتاه فذكر قصة فيها "أن مثل الجد كمثل شجرة نبتت على ساق واحد فخرج منها غصن ثم خرج من الغصن غصن فإن قطعت الغصن رجع الماء إلى الساق وإن قطعت الثاني رجع الماء إلى الأول، فخطب عمر الناس فقال إن زيدا قال في الجد قولا وقد أمضيته" وأخرج الدارمي من طريق إسماعيل بن أبي خالد قال: "قال عمر خذ من الجد ما اجتمع عليه الناس" وهذا منقطع، وأخرج الدارمي من طريق عيسى الخياط عن الشعبي قال: "كان عمر يقاسم الجد مع الأخ والأخوين فإذا زادوا أعطاه الثلث وكان يعطيه مع الولد السدس" وأخرج البيهقي بسند صحيح عن يونس بن يزيد عن الزهري " حدثني سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وقبيصة بن ذؤيب أن عمر قضى أن الجد يقاسم الإخوة للأب والأم والإخوة للأب ما كانت المقاسمة خيرا له من الثلث، فإن كثر الإخوة أعطى الجد الثلث " وأخرج يزيد ابن هارون في كتاب الفرائض عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة بن عمرو قال: "إني لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضا " وروينا في الجزء الحادي عشر من "فوائد أبي جعفر الرازي" بسند صحيح إلى ابن عون عن محمد بن سيرين " سألت عبيدة عن الجد فقال: قد حفظت عن عمر في الجد مائة قضية مختلفة " وقد استبعد بعضهم هذا عن عمر، وتأول البزار صاحب المسند قوله: "قضايا مختلفة" على اختلاف حال من يرث مع الجد كأن يكون أخ واحد أو أكثر أو أخت واحدة أو أكثر، ويدفع هذا التأويل ما تقدم من قول عبيدة بن عمرو " ينقض بعضها بعضا " وسيأتي عن عمر أقوال أخرى. وأما علي فأخرج ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر بسند صحيح عن الشعبي " كتب ابن عباس إلى علي يسأله عن ستة إخوة وجد، فكتب إليه أن اجعله كأحدهم وامح كتابي " وأخرج الدارمي بسند قوي عن الشعبي قال: "كتب ابن عباس إلى علي - وابن عباس بالبصرة - إني أتيت بجد وستة إخوة، فكتب إليه على أن أعط الجد سبعا ولا تعطه أحدا بعده " وبسند صحيح إلى عبد الله بن سلمة أن عليا كان يجعل الجد أخا حتى يكون سادسا، ومن طريق الحسن البصري أن عليا كان يشرك الجد مع الإخوة إلى السدس، ومن طريق إبراهيم النخعي عن علي نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن الشعبي عن علي أنه أتى في جد وستة إخوة فأعطى الجد السدس، وأخرج يزيد بن هارون في الفرائض له عن محمد بن سالم عن الشعبي عن علي نحوه، ومحمد بن سالم هذا فيه ضعف، وسيأتي عن علي أقوال أخرى، وأخرج الطحاوي من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: حدثت أن عليا كان ينزل بني الإخوة مع الجد منزلة آبائهم ولم يكن أحد من الصحابة يفعله غيره، ومن طريق السري بن يحيى عن الشعبي عن علي كقول الجماعة، وأما عبد الله بن مسعود فأخرج الدارمي بسند صحيح إلى أبي إسحاق السبيعي قال: دخلت على شريح وعنده عامر - يعني الشعبي - وعبد الرحمن بن عبد الله - أي ابن مسعود - في فريضة امرأة منا تسمى العالية تركت زوجها وأمها وأخاها لأبيها وجدها، فذكر قصة فيها فأتيت عبيدة بن عمرو - وكان يقال ليس بالكوفة أعلم بفريضة من عبيدة والحارث الأعور - فسألته فقال: إن شئتم نبأتكم بفريضة عبد الله بن مسعود في هذا فجعل للزوج ثلاثة أسهم النصف وللأم ثلث ما بقي وهو السدس من رأس المال وللأخ سهم وللجد سهم، وروينا في كتاب الفرائض لسفيان الثوري من طريق النخعي قال: كان عمر وعبد الله يكرهان أن يفضلا أما على جد، وأخرج سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة بسند واحد صحيح إلى عبيد بن نضلة قال: كان عمر وابن مسعود يقاسمان الجد مع

(12/21)


الإخوة ما بينه وبين أن يكون السدس خيرا له من مقاسمة الإخوة، وأخرجه محمد بن نصر مثله سواء وزاد: ثم إن عمر كتب إلى عبد الله ما أرانا إلا قد أجحفنا بالجد، فإذا جاءك كتابي هذا فقاسم به مع الإخوة ما بينه وبين أن يكون الثلث خيرا له من مقاسمتهم، فأخذ بذلك عبد الله. وأخرج محمد بن نصر بسند صحيح إلى عبيدة بن عمرو قال: كان يعطى الجد مع الإخوة الثلث، وكان عمر يعطيه السدس، ثم كتب عمر إلى عبد الله: إنا نخاف أن نكون قد أجحفنا بالجد فأعطه الثلث، ثم قدم علي هاهنا - يعني الكوفة - فأعطاه السدس، قال عبيدة فرأيهما في الجماعة أحب إلي من رأى أحدهما في الفرقة. ومن طريق عبيد بن نضلة أن عليا كان يعطي الجد الثلث ثم تحول إلى السدس وأن عبد الله كان يعطيه السدس ثم تحول إلى الثلث. وأما زيد بن ثابت فأخرج الدارمي من طريق الحسن البصري قال: كان زيد يشرك الجد مع الإخوة إلى الثلث، وأخرج البيهقي من طريق ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: أخذ أبو الزناد هذه الرسالة من خارجة بن زيد بن ثابت ومن كبراء آل زيد بن ثابت فذكر قصة فيها: قال زيد بن ثابت وكان رأيي أن الإخوة أولى بميراث أخيهم من الجد، وكان عمر يرى أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته، وأخرجه ابن حزم من طريق إسماعيل القاضي عن إسماعيل بن أبي أويس عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه قال: كان رأيي أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد وكان أمير المؤمنين - يعني عمر - يعطيهم بالوجه الذي يراه على قدر كثرة الإخوة وقلتهم. قلت: فاختلف النقل عن زيد. وأخرج عبد الرزاق من طريق إبراهيم قال: كان زيد بن ثابت يشرك الجد مع الإخوة إلى الثلث فإذا بلغ الثلث أعطاه إياه والإخوة ما بقي ويقاسم الأخ للأب ثم يرد على أخيه ويقاسم بالإخوة من الأب مع الإخوة الأشقاء ولا يورث الإخوة للأب شيئا ولا يعطي أخا لأم مع الجد شيئا. قال ابن عبد البر: تفرد زيد من بين الصحابة في معادلته الجد بالإخوة بالأب مع الإخوة الأشقاء وخالفه كثير من الفقهاء القائلين بقوله في الفرائض في ذلك لأن الإخوة من الأب لا يرثون مع الأشقاء فلا معنى لإدخالهم معهم لأنه حيف على الجد في المقاسمة، وقد سأل ابن عباس زيدا عن ذلك فقال: إنما أقول في ذلك برأيي كما تقول أنت برأيك. وقال الطحاوي: ذهب مالك والشافعي وأبو يوسف إلى قول زيد بن ثابت في الجد إن كان معه إخوة أشقاء قاسمهم ما دامت المقاسمة خيرا له من الثلث وإن كان الثلث خيرا له أعطاه إياه ولا ترث الإخوة من الأب مع الجد شيئا ولا بنو الإخوة ولو كانوا أشقاء، وإذا كان مع الجد والإخوة أحد من أصحاب الفروض بدأ بهم ثم أعطى الجد خير الثلاثة من المقاسمة ومن ثلث ما بقي ومن السدس ولا ينقصه من السدس إلا في الأكدرية. قال: وروى هشام عن محمد بن الحسن أنه وقف في الجد، قال أبو يوسف وكان ابن أبي ليلى يأخذ في الجد بقول علي، ومذهب أحمد أنه كواحد الإخوة فإن كان الثلث أحظ له أخذه وله مع ذي فرض بعده الأحظ من مقاسمة كأخ أو ثلث الباقي أو سدس الجميع. والأكدرية المشار إليها تسمى مربعة الجماعة لأنهم أجمعوا على أنها أربعة ولكن اختلفوا في قسمها وهي زوج وأم وأخت وجد فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس وللأخت النصف، وتصح من سبعة وعشرين للزوج تسعة وللأم ستة وللأخت أربعة وللجد ثمانية، وقد نظمها بعضهم:
ما فرض أربعة يوزع بينهم ... ميراث ميتهم بفرض واقع
فلواحد ثلث الجميع وثلث ما ... يبقى لثانيهم بحكم جامع

(12/22)


ولثالث من بعد ذا ثلث الذي ... يبقى وما يبقى نصيب الرابع
ذكر المصنف حديث ابن عباس "ألحقوا الفرائض" وقد تقدم شرحه، ووجه تعلقه بالمسألة أنه دل على أن الذي يبقى بعد الفرض يصرف لأقرب الناس للميت فكان الجد أقرب فيقدم، قال ابن بطال: وقد احتج به من شرك بين الجد والأخ فإنه أقرب إلى الميت بدليل أنه ينفرد بالولاء ولأنه يقوم مقام الولد في حجب الأم من الثلث إلى السدس ولأن الجد إنما يدلي بالميت وهو ولد ابنه والأخ يدلي بالميت وهو ولد أبيه والابن أقوى من الأب لأن الابن ينفرد بالمال ويرد الأب إلى السدس ولا كذلك الأب فتعصيب الأخ تعصيب بنوة وتعصيب الجد تعصيب أبوة والبنوة أقوى من الأبوة في الإرث، ولأن الأخت فرضها النصف إذا انفردت فلم يسقطها الجد كالبنت، ولأن الأخ يعصب أخته بخلاف الجد فامتنع من قوة تعصيبه عليه أن يسقط به. وقال السهيلي: الجد أصل ولكن الأخ في الميراث أقوى سببا منه لأنه يدلي بولاية الأب فالولادة أقوى الأسباب في الميراث فإن قال الجد وأنا أيضا ولدت الميت قيل له إنما ولدت والده وأبوه ولد الإخوة فصار سببهم قويا وولد الولد ليس ولدا إلا بواسطة وإن شاركه في مطلق الولدية. ثم ذكر حديث ابن عباس أيضا في فضل أبي بكر وقد تقدم شرحه مستوفى في المناقب، وقوله: "أفضل أو قال خير" شك من الراوي وكذا قوله: "أنزله أبا أو قال قضاه أبا".

(12/23)


باب ميراث الزوج مع الولد و غيره
...
10- باب مِيرَاثِ الزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ
6739- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ"
قوله: "باب ميراث الزوج مع الولد وغيره" أي من الوارثين فلا يسقط الزوج بحال وإنما يحطه الولد عن النصف إلى الربع. ذكر فيه حديث ابن عباس "كان المال - أي المخلف عن الميت - للولد والوصية للوالدين" الحديث، قد تقدم في الوصايا وذكرت شرحه هناك مستوفى سندا ومتنا ولله الحمد. قال ابن المنير: استشهاد البخاري بحديث ابن عباس هذا مع أن الدليل من الآية واضح إشارة منه إلى تقرير سبب نزول الآية وأنها على ظاهرها غير مؤولة ولا منسوخة، وأفاد السهيلي أن في الآية التي نسختها وهي {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى استمرارها؛ فلذلك عبر بالفعل الدال على الدوام بخلاف غيرها من الآيات حيث قال في الآية المنسوخة الحكم {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً} الآية. قوله: وجعل للأبوين {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} أفاد السهيلي أن الحكمة في إعطاء الوالدين ذلك والتسوية بينهما ليستمرا فيه فلا يجحف بهما إن كثرت الأولاد مثلا، وسوى بينهما في ذلك مع وجود الولد أو الإخوة لما يستحقه كل منهما على الميت من التربية ونحوها، وفضل الأب على الأم عند عدم الولد والإخوة لما للأب من الامتياز بالإنفاق والنصرة ونحو ذلك، وعوضت الأم عن ذلك بأمر الولد بتفضيلها على الأب في البر في حال حياة الولد. انتهى ملخصا. وأخرج عبد بن حميد من طريق قتادة عن بعض أهل العلم أن الأب حجب الإخوة وأخذ سهامهم لأنه يتولى إنكاحهم والإنفاق عليهم دون الأم.

(12/23)


باب ميراث المرأة و الزوج مع الولد و غيره
...
11- باب مِيرَاثِ الْمَرْأَةِ وَالزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ
6740- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى لَهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا"
قوله: "باب ميراث المرأة والزوج مع الوالد وغيره" أي من الوارثين فلا يسقط إرث واحد منهما بحال، بل يحط الولد الزوج من النصف إلى الربع، ويحط المرأة من الربع إلى الثمن. ذكر فيه حديث أبي هريرة في قصة المرأة التي ضربت الأخرى فأسقطت جنينا ثم ماتت الضاربة فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة وأن العقل على عصبة القاتلة وأن ميراث الضاربة لبنيها وزوجها، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الديات إن شاء الله تعالى. ووجه الدلالة منه على الترجمة ظاهرة، لأن ميراث الضاربة لبنيها وزوجها لا لعصبتها الذين عقلوا عنها فورث الزوج مع ولده، وكذا لو كان الأب هو الميت لورثت الأم مع الأولاد، أشار إلى ذلك ابن التين. وكذا لو كان هناك عصبة بغير ولد.

(12/24)


12- باب مِيرَاثُ الأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ
6741- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ "قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :النِّصْفُ لِلْابْنَةِ، وَالنِّصْفُ لِلْأُخْتِ، ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ: قَضَى فِينَا وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6742- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلٍ قَالَ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لاَقْضِيَنَّ فِيهَا بِقَضَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "للْابْنَةِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ"
قوله: "باب ميراث الأخوات مع البنات عصبة" قال ابن بطال: أجمعوا على أن الأخوات عصبة البنات فيرثن ما فضل عن البنات، فمن لم يخلف إلا بنتا وأختا فللبنت النصف وللأخت النصف الباقي على ما في حديث معاذ وإن خلف بنتين وأختا فلهما الثلثان وللأخت ما بقي، وإن خلف بنتا وأختا وبنت ابن فللبنت النصف ولبنت الابن تكملة الثلثين وللأخت ما بقي على ما في حديث ابن مسعود، لأن البنات لا يرثن أكثر من الثلثين، ولم يخالف في شيء من ذلك إلا ابن عباس فإنه كان يقول: للبنت النصف وما بقي للعصبة وليس للأخت شيء، وكذا للبنتين الثلثان وللبنت وبنت الابن كما مضى والباقي للعصبة، فإذا لم تكن عصبة رد الفضل على البنت أو البنات. وقد تقدم البحث في ذلك. قال: ولم يوافق ابن عباس على ذلك أحد إلا أهل الظاهر. قال: وحجة الجماعة من جهة النظر أن عدم الولد في قوله تعالى :{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} إنما جعل شرطا في فرضها الذي تقاسم به الورثة لا في توريثها مطلقا، فإذا عدم الشرط سقط الفرض، ولم يمنع ذلك أن ترث بمعنى

(12/24)


آخر كما شرط في ميراث الأخ من أخته عند عدم الولد، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد وقد أجمعوا على أنه يرثها مع البنت، وهو كما جعل النصف في ميراث الزوج شرطا إذا لم يكن ولد ولم يمنع ذلك أن يأخذ النصف مع البنت فبأخذ نصف النصف بالفرض والنصف الآخر بالتعصيب إن كان ابن عم مثلا، فكذلك الأخت والله أعلم. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش وإبراهيم هو النخعي والأسود هو ابن يزيد وهو خال إبراهيم الراوي عنه. قوله: "ثم قال سليمان قضى فينا ولم يذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" القائل ذلك هو شعبة وسليمان هو الأعمش وهو موصول بالسند المذكور، وحاصله أن الأعمش روى الحديث أولا بإثبات قوله: "على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيكون مرفوعا على الراجح في المسألة ومرة بدونها فيكون موقوفا، وقد أخرجه الإسماعيلي عن القاسم بن زكريا عن بشر بن خالد شيخ البخاري فيه مثله لكن قال: قال سليمان بعد قال القاسم وحدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا خالد بسنده بلفظ: "قضى بذلك معاذ فينا". قلت وقد مضى في "باب ميراث البنات" من وجه آخر عن الأسود بن يزيد قال: "أتانا معاذ بن جبل باليمن معلما وأميرا، فسألناه عن رجل فذكره" وسياقه مشعر بأن ذلك كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره على اليمن كما مضى صريحا في كتاب الزكاة وغيره، وأخرجه أبو داود والدار قطني من وجه ثالث عن الأسود "أن معاذا ورث فذكره" وزاد: "هو باليمن ونبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حي" وللدار قطني من وجه آخر عن الأسود "قدم علينا معاذ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فذكره باختصار. وهذا أصرح ما وجدت في ذلك. قوله: "عبد الرحمن" هو ابن مهدي وسفيان هو الثوري وأبو قيس هو عبد الرحمن، وقد مضى ذكره وشرح حديثه قبل هذا بأربعة أبواب من طريق شعبة عن أبي قيس وفيه قصة أبي موسى وجزم فيه بقوله: "لأقضين فيها بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم: "وأما قوله هنا " أو قال قال النبي صلى الله عليه وسلم" فهو شك من بعض رواته، وأكثر الرواة أثبتوا الزيادة، ففي رواية وكيع وغيره عن سفيان عند النسائي وغيره: "سأقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومراده بالقضاء بالنسبة إليه الفتيا فإن ابن مسعود يومئذ لم يكن قاضيا ولا أميرا.

(12/25)


باب ميراث الأخوات و الإخوة
...
13- باب مِيرَاثِ الأَخَوَاتِ وَالإِخْوَةِ
6743- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ "سَمِعْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ نَضَحَ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا لِي أَخَوَاتٌ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ"
قوله: "باب ميراث الأخوات والإخوة" ذكر فيه حديث جابر المذكور في أول كتاب الفرائض، والغرض منه قوله: "إنما لي أخوات" فإنه يقتضي أنه لم يكن له ولد، واستنبط المصنف الإخوة بطريق الأولى، وقدم الأخوات في الذكر للتصريح بهن في الحديث، وعبد الله المذكور في السند هو بن المبارك قال بن بطال: أجمعوا على أن الإخوة الأشقاء أو من الأب لا يرثون مع الابن وان سفل ولا مع الأب، وأختلفوا فيهم مع الجد على ما مضت الإشارة اليه، وما عدا ذلك فللواحدة من الأخوات النصف وللبنتين فصاعدا الثلثان وللأخ الجميع فما زاد فبالقسمة السوية وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين كما نص عليه القرآن ولم يقع

(12/25)


في كل ذلك اختلاف إلا في زوج وأم وأختين لأم وأخ شقيق فقال الجمهور: يشرك بينهم، وكان علي وأبي وأبو موسى لايشركون الإخوة ولو كانوا أشقاء مع الإخوة للأم لأنهم عصبة وقد استغرقت الفرائض المال وبذلك قال جمع من الكوفيين

(12/26)


باب { يستفتونك ، قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد و له أخت فلها نصف ما ترك ، و هو يرثها إن لم يكن لها ولد ، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } الآية
...
14- باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
6744- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}
قوله: باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ذكر فيه حديث البراء من طريق أبي إسحاق عنه "آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" وأراد بذلك ما فيها من التنصيص على ميراث الإخوة، وقد أخرج أبو داود في "المراسيل" من وجه آخر عن أبي إسحاق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن " جاء رجل، فقال: يا رسول الله ما الكلالة؟ قال: من لم يترك ولدا ولا والدا فورثته كلالة". ووقع في صحيح مسلم عن عمر أنه خطب ثم قال: "إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة، وما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما راجعته في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري فقال: ألا يكفيك آية النصف التي في آخر سورة النساء". وقد اختلف في تفسير الكلالة، والجمهور على أنه من لا ولد له ولا والد، واختلف في بنت وأخت هل ترث الأخت مع البنت؟ وكذا في الجد هل يتنزل منزلة الأب فلا ترث معه الإخوة؟ قال السهيلي: الكلالة من الإكليل المحيط بالرأس لأن الكلالة وراثة تكللت العصبة أي أحاطت بالميت من الطرفين، وهي مصدر كالقرابة، وسمي أقرباء الميت كلالة بالمصدر كما يقال هم قرابة أي ذوو قرابة، وإن عنيت المصدر قلت ورثوه عن كلالة، وتطلق الكلالة على الورثة مجازا. قال: ولا يصح قول من قال الكلالة المال ولا الميت إلا على إرادة تفسيره معنى من غير نظر إلى حقيقة اللفظ. ثم قال: ومن العجب أن الكلالة في الآية الأولى من النساء لا يرث فيها الإخوة مع البنت مع أنه لم يقع فيها التقييد بقوله ليس له ولد، وقيد به في الآية الثانية مع أن الأخت فيها ورثت مع البنت، والحكمة فيها أن الأولى عبر فيها بقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ} فإن مقتضاه الإحاطة بجميع المال فأغنى لفظ يورث عن القيد، ومثله قوله تعالى:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أي يحيط بميراثها. وأما الآية الثانية: فالمراد بالولد فيها الذكر كما تقدم تقريره، ولم يعبر فيها بلفظ يورث فلذلك ورثت الأخت مع البنت. وقال ابن المنير: الاستدلال بآية الكلالة على أن الأخوات عصبة لطيف جدا، وهو أن العرف في آيات الفرائض قد اطرد على أن الشرط المذكور فيما هو لمقدار الفرض لا لأصل الميراث، فيفهم أنه إذا لم يوجد الشرط أن يتغير قدر الميراث، فمن ذلك قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فتغير القدر ولم يتغير أصل الميراث، وكذا في الزوج وفي الزوجة، فقياس ذلك أن يطرد في الأخت فلها النصف إن لم

(12/26)


يكن ولد، فإن كان ولد تغير القدر ولم يتغير أصل الإرث، وليس هناك قدر يتغير إليه إلا التعصيب، ولا يلزم من ذلك أن ترث الأخت مع الابن لأنه خرج بالإجماع فيبقى ما عداه على الأصل والله أعلم. وقد تقدم الكلام في آخر ما نزل من القرآن في آخر تفسير سورة البقرة، وقال الكرماني: اختلف في تعيين آخر ما نزل فقال البراء هنا: خاتمة سورة النساء. وقال ابن عباس كما تقدم في آخر سورة البقرة: آية الربا، وهذا اختلاف بين الصحابيين ولم ينقل واحد منهما ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحمل على أن كلا منهما قال يظنه، وتعقب بأن الجمع أولى كما تقدم بيانه هناك.

(12/27)


باب ابني عم أحدهما أخ للأم و الآخر زوج
...
15- باب ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِلْأُمِّ وَالْآخَرُ زَوْجٌ وَقَالَ عَلِيٌّ: "لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأَخِ مِنْ الأُمِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ"
6745- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِمَوَالِي الْعَصَبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا وَلِيُّهُ، فَلِأُدْعَى لَهُ". الْكَلُّ: الْعِيَالُ
6746- حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا تَرَكَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"
قوله: "باب ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج" صورتها أن رجلا تزوج امرأة فأتت منه بابن ثم تزوج أخرى فأتت منه بآخر ثم فارق الثانية فتزوجها أخوه فأتت منه ببنت فهي أخت الثاني لأمه وابنة عمه، فتزوجت هذه البنت الابن الأول وهو ابن عمها ثم ماتت عن ابني عمها. قوله: "وقال علي للزوج النصف وللأخ من الأم السدس وما بقي بينهما نصفان" وحاصله أن الزوج يعطى النصف لكونه زوجا ويعطى الآخر السدس لكونه أخا من أم فيبقى الثلث فيقسم بينهما بطريق العصوبة فيصح للأول الثلثان بالفرض والتعصيب وللآخر الثلث بالفرض والتعصيب، وهذا الأثر وصله عن علي رضي الله عنه سعيد بن منصور من طريق حكيم بن غفال قال: أتى شريح في امرأة تركت ابني عمها أحدهما زوجها والآخر أخوها لأمها فجعل للزوج النصف والباقي للأخ من الأم، فأتوا عليا فذكروا له ذلك فأرسل إلى شريح فقال: ما قضيت أبكتاب الله أو بسنة من رسول الله؟ فقال: بكتاب الله قال: أين؟ قال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} قال: فهل قال للزوج النصف وللأخ ما بقي ثم أعطى الزوج النصف وللأخ من الأم السدس ثم قسم ما بقي بينهما. وأخرج يزيد بن هارون والدارمي من طريق الحارث قال: أتى علي في ابني عم أحدهما أخ لأم فقيل له إن عبد الله كان يعطي الأخ للأم المال كله، فقال: يرحمه الله إن كان لفقيها ولو كنت أنا لأعطيت الأخ من الأم السدس ثم قسمت ما بقي بينهما. قال ابن بطال: وافق عليا زيد بن ثابت والجمهور. وقال عمر وابن مسعود: جميع المال - يعني الذي يبقى بعد نصيب الزوج - الذي جمع القرابتين فله السدس بالفرض والثلث الباقي بالتعصيب، وهو قول الحسن وأبي ثور وأهل الظاهر، واحتجوا

(12/27)


بالإجماع في أخوين أحدهما شقيق والآخر لأب أن الشقيق يستوعب المال لكونه أقرب بأم، وحجة الجمهور ما أشار إليه البخاري في حديث أبي هريرة الذي أورده في الباب بلفظ: "فمن مات وترك مالا فماله لموالي العصبة" والمراد بموالي العصبة بنو العم، فسوى بينهم ولم يفضل أحدا على أحد، وكذا قال أهل التفسير في قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} أي بني العم. فإن احتجوا بالحديث الآخر المذكور في الباب أيضا من حديث ابن عباس " فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر " فالجواب أنهما من جهة التعصيب سواء، والتقدير ألحقوا الفرائض بأهلها أي أعطوا أصحاب الفروض حقهم فإن بقي شيء فهو للأقرب، فلما أخذ الزوج فرضه والأخ من الأم فرضه صار ما بقي موروثا بالتعصيب وهما في ذلك سواء، وقد أجمعوا في ثلاثة إخوة للأم أحدهم ابن عم أن للثلاثة الثلث والباقي لابن العم. قال المازري: مراتب التعصيب البنوة ثم الأبوة ثم الجدودة، فالابن أولى من الأب وإن فرض له معه السدس، وهو أولى من الإخوة وبنيهم لأنهم ينتسبون بالمشاركة في الأبوة والجدودة، والأب أولى من الإخوة ومن الجد لأنهم به ينتسبون فيسقطون مع وجوده، والجد أولى من بني الإخوة لأنه كالأب معهم، ومن العمومة لأنهم به ينتسبون، والإخوة وبنوهم أولى من العمومة وبنيهم لأن تعصيب الإخوة بالأبوة والعمومة بالجدودة، هذا ترتيبهم وهم يختلفون في القرب، فالأقرب أولى كالإخوة مع بنيهم والعمومة مع بنيهم فإن تساووا في الطبقة والقرب ولأحدهما زيادة كالشقيق مع الأخ لأب قدم، وكذا الحال في بنيهم وفي العمومة وبنيهم، فإن كانت زيادة الترجيح بمعنى غير ما هما فيه كابني عم أحدهما أخ لأم فقيل يستمر الترجيح فيأخذ ابن العم الذي هو أخ لأم جميع ما بقي بعد فرض الزوج وهو قول عمر وابن مسعود وشريح والحسن وابن سيرين والنخعي وأبي ثور والطبري وداود ونقل عن أشهب، وأبى ذلك الجمهور فقالوا: بل يأخذ الأخ من الأم فرضه ويقسم الباقي بينهما، والفرق بين هذه الصورة وبين تقدم الشقيق على الأخ لأب طريق الترجيح لأن الشرط فيها أن يكون فيه معنى مناسب لجهة التعصيب لأن الشقيق شارك شقيقه في جهة القرب المتعلقة بالتعصيب بخلاف الصورة المذكورة والله أعلم. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان وعبيد الله شيخه هو ابن موسى وقد حدث البخاري عنه كثيرا بغير واسطة وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق وأبو حصين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم وأبو صالح هو ذكوان السمان. قوله: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" زاد في رواية الأصيلي هنا "أزواجه أمهاتهم" قال عياض: وهي زيادة في الحديث لا معنى لها هنا. قول "فلأدعى له" قال ابن بطال: هي لام الأمر أصلها الكسر وقد تسكن مع الفاء والواو غالبا فيهما وإثبات الألف بعد العين جائز كقوله: "ألم يأتيك والأخبار تنمى" والأصل عدم الإشباع للجزم، والمعنى فادعوني له أقوم بكله وضياعه. قوله: "والكل العيال" ثبت هذا التفسير في آخر الحديث في رواية المستملي والكشميهني، وأصل الكل الثقل ثم استعمل في كل أمر يصعب والعيال فرد من أفراده، وقال صاحب الأساس: كل بصره فهو كليل وكل عن الأمر لم تنبعث نفسه له وكل كلالة أي قصر عن بلوغ القرابة، قد مضى شرح حديث ابن عباس في أوائل الفرائض، وروح شيخ يزيد بن زريع فيه هو ابن القاسم المنبري.

(12/28)


16- باب ذَوِي الأَرْحَامِ

(12/28)


6747- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ حَدَّثَكُمْ إِدْرِيسُ حَدَّثَنَا طَلْحَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ - وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الأَنْصَارِيُّ الْمُهَاجِرِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قَالَ نَسَخَتْهَا {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}
قوله: "باب ذوي الأرحام" أي بيان حكمهم هل يرثون أو لا؟ وهم عشرة أصناف: الخال والخالة والجد للأم وولد البنت وولد الأخت وبنت الأخ وبنت العم والعمة والعم للأم وابن الأخ للأم ومن أدلى بأحد منهم، فمن ورثهم، قال أولاهم أولاد البنت ثم أولاد الأخت وبنات الأخ ثم العم والعمة والخال والخالة، وإذا استوى اثنان قدم الأقرب إلى صاحب فرض أو عصبة. قوله: "إسحاق بن إبراهيم" هو الإمام المعروف بابن راهويه. قوله: "قلت لأبي أسامة حدثكم إدريس" أي ابن يزيد بن عبد الرحمن الأودي والد عبد الله، وطلحة شيخه هو ابن مصرف، وقد نسبه المصنف في التفسير من رواية الصلت بن محمد عن أبي أسامة وقال في آخره: "سمع إدريس من طلحة وأبو أسامة من إدريس " وقد صرح هنا بالثاني. ووقع في رواية أبي داود عن هارون ابن عبد الله عن أبي أسامة " حدثني إدريس بن يزيد حدثنا طلحة بن مصرف " وكذا أخرجه الإسماعيلي عن الهنجاني عن أبي كريب عن أبي أسامة، وكذا عند الطبري عن أبي كريب. قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ - وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}. قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: نسختها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال ابن بطال: كذا وقع في جميع النسخ نسختها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} والصواب أن المنسوخة {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} والناسخة {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال ووقع في رواية الطبري بيان ذلك ولفظه: "فلما نزلت هذه الآية {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت". قلت: وقد تقدم في الكفالة التفسير من رواية الصلت بن محمد عن أبي أسامة مثل ما عزاه للطبري فكان عزوه إلى ما في البخاري أولى، مع أن في سياقه فائدة أخرى وهو أنه قال: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} ورثة، فأفاد تفسير الموالي بالورثة، وأشار إلى أن قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} ابتداء شيء يريد أن يفسره أيضا، ويؤيده أنه وقع في رواية الصلت " ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} وبقي قوله نسختها مشكلا كما قال ابن بطال " وقد أجاب ابن المنير في الحاشية فقال: الضمير في نسختها عائد على المؤاخاة لا على الآية والضمير في نسختها وهو الفاعل المستتر يعود على قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} بدل من الضمير، وأصل الكلام لما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقال الكرماني: فاعل نسختها آية جعلنا والذين عاقدت منصوب بإضمار أعني. قلت: ووقع في سياقه هنا أيضا موضع آخر وهو أنه عبر بقوله: "يرث الأنصاري المهاجري " وتقدم في رواية الصلت بالعكس، وأجاب عنه الكرماني بأن المقصود إثبات الوراثة بينهما في الجملة. قلت: والأولى أن يقرأ الأنصاري بالنصب على أنه مفعول مقدم فتتحد الروايتان، ووقع في رواية الصلت موضع ثالث مشكل وهو قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} من النصر إلخ، وظاهر الكلام أن قوله من النصر يتعلق بعاقدت أيمانكم وليس كذلك وإنما يتعلق بقوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وقد بين ذلك أبو كريب في روايته،

(12/29)


وكذلك أخرجه أبو داود عن هارون بن عبد الله عن أبي أسامة، وقد تقدم في تفسير النساء عدة طرق لذلك مع إعراب الآية، والكلام على حكم المعاقدة المذكورة ونسخها بما يغني عن إعادته، والمراد بإيراد الحديث هنا أن قوله تعالى :{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخ حكم الميراث الذي دل عليه {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال ابن بطال: أكثر المفسرين على أن الناسخ لقوله تعالى :{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قوله تعالى في الأنفال: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وبذلك جزم أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ". قلت: كذا أخرجه أبو داود بسند حسن عن ابن عباس " قال ابن الجوزي: كان جماعة من المحدثين يرون الحديث من حفظهم فتقصر عباراتهم خصوصا العجم فلا يبين للكلام رونق مثل هذه الألفاظ في هذا الحديث، وبيان ذلك أن مراد الحديث المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بين المهاجرين والأنصار فكانوا يتوارثون بتلك الأخوة ويرونها داخلة في قوله تعالى :{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} فلما نزل قوله تعالى :{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} نسخ الميراث بين المتعاقدين وبقي النصر والرفادة وجواز الوصية لهم، وقد وقع في رواية العوفي عن ابن عباس بيان السبب في إرثهم قال: كان الرجل في الجاهلية يلحق به الرجل فيكون تابعه، فإذا مات الرجل صار لأقاربه الميراث وبقي تابعه ليس له شيء، فنزلت: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فكانوا يعطونه من ميراثه، ثم نزلت: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} فنسخ ذلك. قلت: والعوفي ضعيف، والذي في البخاري هو الصحيح المعتمد، وتصحيح السياق قد ظهر من نفس الرواية وأن بعض الرواة قدم بعض الألفاظ على بعض وحذف منها شيئا وأن بعضهم ساقها على الاستقامة وذلك هو المعتمد. قال ابن بطال: اختلف الفقهاء في توريث ذوي الأرحام وهم من لا سهم له وليس بعصبة، فذهب أهل الحجاز والشام إلى منعهم الميراث، وذهب الكوفيون وأحمد وإسحاق إلى توريثهم، واحتجوا بقوله تعالى :{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} واحتج الآخرون بأن المراد بها من له سهم في كتاب الله لأن آية الأنفال مجملة وآية المواريث مفسرة وبقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالا فلعصبته " وأنهم أجمعوا على ترك القول بظاهرها فجعلوا ما يخلفه المعتوق إرثا لعصبته دون مواليه فإن فقدوا فلمواليه دون ذوي رحمه، واختلفوا في توريثهم فقال أبو عبيد: رأى أهل العراق رد ما بقي من ذوي الفروض إذا لم تكن عصبة على ذوي الفروض وإلا فعليهم وعلى العصبة، فإن فقدوا أعطوا ذوي الأرحام، وكان ابن مسعود ينزل كل ذي رحم منزلة من يجر إليه، وأخرج بسند صحيح عن ابن مسعود أنه جعل العمة كالأب والخالة كالأم فقسم المال بينهما أثلاثا، وعن علي أنه كان لا يرد على البنت دون الأم، ومن أدلتهم حديث: "الخال وارث من لا وارث له" وهو حديث حسن أخرجه الترمذي وغيره، وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يراد به إذا كان عصبة ويحتمل أن يريد بالحديث المذكور السلب كقولهم "الصبر حيلة من لا حيلة له" ويحتمل أن يكون المراد به السلطان لأنه خال المسلمين، حكى هذه الاحتمالات ابن العربي.

(12/30)


17- باب مِيرَاثِ الْمُلاَعَنَةِ
6748- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا لاَعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ"

(12/30)


قوله: "باب ميراث الملاعنة" بفتح العين المهملة ويجوز كسرها والمراد بيان ما ترثه من ولدها الذي لاعنت عليه، ذكر فيه حديث ابن عمر المختصر في الملاعنة وقد مضى شرحه في كتاب اللعان ومن وجه آخر مطول عن ابن عمر ومن حديث سهل بن سعد، والغرض منه هنا قوله: "وألحق الولد بالمرأة" وقد اختلف السلف في معنى إلحاقه بأمه مع اتفاقهم على أنه لا ميراث بينه وبين الذي نفاه، فجاء عن علي وابن مسعود أنهما قالا في ابن الملاعنة: "عصبته عصبة أمه يرثهم ويرثونه " أخرجه ابن أبي شيبة وبه قال النخعي والشعبي، وجاء عن علي وابن مسعود أنهما كانا يجعلان أمه عصبة وحدها فتعطى المال كله، فإن ماتت أمه قبله فماله لعصبتها، وبه قال جماعة منهم الحسن وابن سيرين ومكحول والثوري وأحمد في رواية، وجاء عن علي أن ابن الملاعنة ترثه أمه وإخوته منها فإن فضل شيء فهو لبيت المال، وهذا قول زيد بن ثابت وجمهور العلماء وأكثر فقهاء الأمصار، قال مالك: وعلى هذا أدركت أهل العلم. وأخرج عن الشعبي قال: بعث أهل الكوفة إلى الحجاز في زمن عثمان يسألوني عن ميراث ابن الملاعنة فأخبروهم أنه لأمه وعصبتها، وجاء عن ابن عباس عن علي أنه أعطى الملاعنة الميراث وجعلها عصبة، قال ابن عبد البر: الرواية الأولى أشهر عند أهل الفرائض، قال ابن بطال: هذا الخلاف إنما نشأ من حديث الباب حيث جاء فيه: "وألحق الولد بالمرأة " لأنه لما ألحق بها قطع نسب أبيه فصار كمن لا أب له من أولاد البغي، وتمسك الآخرون بأن معناه إقامتها مقام أبيه فجعلوا عصبة أمه عصبة أبيه. قلت: وقد جاء في المرفوع ما يقوي القول الأول، فأخرج أبو داود من رواية مكحول مرسلا ومن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها " ولأصحاب السنن الأربعة عن واثلة رفعه: "تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه " قال البيهقي: ليس بثابت. قلت: وحسنه الترمذي وصححه الحاكم وليس فيه سوى عمر بن رؤية بضم الراء وسكون الواو بعدها موحدة مختلف فيه، قال البخاري: فيه نظر، ووثقه جماعة، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن المنذر ومن طريق داود بن أبي هند عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن رجل من أهل الشام " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى به لأمة هي بمنزلة أبيه وأمه " وفي رواية أن عبد الله بن عبيد كتب إلى صديق له من أهل المدينة يسأله عن ولد الملاعنة فكتب إليه " إني سألت فأخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى به لأمه " وهذه طرق يقوى بعضها ببعض، قال ابن بطال: تمسك بعضهم بالحديث الذي جاء أن الملاعنة بمنزلة أبيه وأمه، وليس فيه حجة لأن المراد أنها بمنزلة أبيه وأمه في تربيته وتأديبه وغير ذلك مما يتولاه أبوه، فأما الميراث فقد أجمعوا أن ابن الملاعنة لو لم تلاعن أمه وترك أمه وأباه كان لأمه السدس، فلو كانت بمنزلة أبيه وأمه لورثت سدسين فقط سدس بالأمومة وسدس بالأبوة، كذا قال وفيه نظر تصويرا واستدلالا وحجة الجمهور ما تقدم في اللعان أن في رواية فليح عن الزهري عن سهل في آخره: "فكانت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض لها " أخرجه أبو داود، وحديث ابن عباس " فهو لأولى رجل ذكر " فإنه جعل ما فضل عن أهل الفرائض لعصبة الميت دون عصبة أمه، وإذا لم يكن لولد الملاعنة عصبة من قبل أبيه فالمسلمون عصبته، وقد تقدم من حديث أبي هريرة "ومن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا".

(12/31)


18- باب الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً

(12/31)


6749- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ عُتْبَةُ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ فَقَالَ ابْنُ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ . ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِي مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ"
6750- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ" سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ"
[الحديث 6750- طرفه في: 6818]
قوله: "باب الولد للفراش حرة كانت" أي المستفرشة "أو أمة". قوله: "عن عروة" في رواية شعيب عن الزهري في العتق " حدثني عروة " وكذا وقع في رواية عبد الله ابن مسلمة عن مالك في المغازي لكن أخرجه في الوصايا بلفظ عن عروة. قوله: "كان عتبة عهد إلى أخيه" في رواية يحيى بن قزعة عن مالك في أوائل البيوع ابن أبي وقاص في الموضوعين وكذا في رواية شعيب والليث وغيرهما عن الزهري وفي رواية ابن عيينة عن الزهري الماضية في الأشخاص: أوصاني أخي إذا قدمت يعني مكة أن أقبض إليك ابن أمة زمعة فإنه ابني. قوله: "أن ابن وليدة زمعة" في رواية ابن عيينة عن ابن شهاب الماضية في المظالم ابن أمة زمعة، والوليدة في الأصل المولودة وتطلق على الأمة وهذه الوليدة لم أقف على اسمها لكن ذكر مصعب الزبيري وابن أخيه الزبير في "نسب قريش" أنها كانت أمة يمانية، والوليدة فعيلة من الولادة بمعنى مفعولة، قال الجوهري: هي الصبية والأمة والجمع ولائد، وقيل إنها اسم لغير أم الولد. وزمعة بفتح الزاي وسكون الميم وقد تحرك، قال النووي: التسكين أشهر. وقال أبو الوليد الوقشي: التحريك هو الصواب. قلت: والجاري على ألسنة المحدثين التسكين في الاسم والتحريك في النسبة، وهو ابن قيس بن عبد شمس القرشي العامري والد سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد بن زمعة بغير إضافة، ووقع في "مختصر ابن الحاجب" عبد الله وهو غلط، نعم عبد الله بن زمعة آخر، وفي بعض الطرق من غير رواية عائشة عند الطحاوي في هذا الحديث عبد الله بن زمعة ونبه على أنه غلط وأن عبد الله بن زمعة هو ابن الأسود ابن المطلب بن أسد بن عبد العزي آخر. قلت: وهو الذي مضى حديثه في تفسير {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وقد وقع لابن منده خبط في ترجمة عبد الرحمن بن زمعة فإنه زعم أن عبد الرحمن وعبد الله وعبدا إخوة ثلاثة أولاد زمعة بن الأسود، وليس كذلك بل عبد بغير إضافة وعبد الرحمن أخوان عامريان من قريش، وعبد الله ابن زمعة قرشي أسدي من قريش أيضا، وقد أوضحت ذلك في "الإصابة في تمييز الصحابة" والابن المذكور اسمه عبد الرحمن وذكره ابن عبد البر في الصحابة وغيره، وقد أعقب بالمدينة. وعتبة بن أبي وقاص أخو سعد مختلف

(12/32)


في صحبته فذكره في الصحابة العسكري وذكر ما نقله الزبير بن بكار في النسب أنه كان أصاب دما بمكة في قريش فانتقل إلى المدينة ولما مات أوصى إلى سعد، وذكره ابن منده في الصحابة ولم يذكر مستندا إلا قول سعد "عهد إلى أخي أنه ولده" واستنكر أبو نعيم ذلك وذكر أنه الذي شج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، قال وما علمت له إسلاما، بل قد روى عبد الرزاق من طريق عثمان الجزري عن مقسم " أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بأن لا يحول على عتبة الحول حتى يموت كافرا فمات قبل الحول " وهذا مرسل، وأخرجه من وجه آخر عن سعيد بن المسيب بنحوه، وأخرج الحاكم في "المستدرك" من طريق صفوان بن سليم عن أنس أنه سمع حاطب بن أبي بلتعة يقول: "إن عتبة لما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم ما فعل تبعته فقتلته"، كذا قال وجزم ابن التين والدمياطي بأنه مات كافرا. قلت: وأم عتبة هند بنت وهب بن الحارث بن زهرة، وأم أخيه سعد حمنة بنت سفيان بن أمية. قوله: "فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال ابن أخي" في رواية يونس عن الزهري في المغازي " فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح". وفي رواية معمر عن الزهري عند أحمد وهي لمسلم لكن لم يسق لفظها " فلما كان يوم الفتح رأى سعد الغلام فعرفه بالشبه فاحتضنه وقال ابن أخي ورب الكعبة " وفي رواية الليث " فقال سعد يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أنه ابنه " وعتبة بالجر بدل من لفظ أخي أو عطف بيان، والضمير في أخي لسعد لا لعتبة. قوله: "فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه" في رواية معمر "فجاء عبد بن زمعة فقال بل هو أخي ولد على فراش أبي من جاريته" وفي رواية يونس "يا رسول الله هذا أخي هذا ابن زمعة ولد على فراشه" زاد في رواية الليث " انظر إلى شبهه يا رسول الله " وفي رواية يونس " فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص " وفي رواية الليث " فرأى شبها بينا بعتبة " وكذا لابن عيينة عند أبي داود وغيره، قال الخطابي وتبعه عياض والقرطبي وغيرهما: كان أهل الجاهلية يقتنون الولائد ويقررون عليهن الضرائب فيكتسبن بالفجور، وكانوا يلحقون النسب بالزناة إذا ادعوا الولد كما في النكاح، وكانت لزمعة أمة وكان يلم بها فظهر بها حمل زعم عتبة بن أبي وقاص أنه منه وعهد إلى أخيه سعد أن يستلحقه، فخاصم فيه عبد بن زمعة، فقال لي سعد: هو ابن أخي على ما كان عليه الأمر في الجاهلية. وقال عبد: هو أخي على ما استقر عليه الأمر في الإسلام، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم حكم الجاهلية وألحقه بزمعة، وأبدل عياض قوله إذا ادعوا الولد بقوله إذا اعترفت به الأم، وبنى عليهما القرطبي فقال: ولم يكن حصل إلحاقه بعتبة في الجاهلية إما لعدم الدعوى وإما لكون الأم لم تعترف به لعتبة. قلت: وقد مضى في النكاح من حديث عائشة ما يؤيد أنهم كانوا يعتبرون استلحاق الأم في صورة وإلحاق القائف في صورة ولفظها "إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء" الحديث وفيه: "يجتمع الرهط ما دون العشر فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومضت ليال أرسلت إليهم فاجتمعوا عندها فقالت: قد ولدت فهو ابنك يا فلان، فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع " إلى أن قالت: "ونكاح البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن فوضعت جمعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرى القائف لا يمتنع من ذلك" انتهي. واللائق بقصة أمة زمعة الأخير، فلعل جمع القافة لهذا الولد تعذر بوجه من الوجوه، أو أنها لم تكن بصفة البغايا بل أصابها عتبة سرا من زنا وهما كافران فحملت وولدت ولدا يشبهه فغلب على ظنه أنه منه فبغته الموت قبل استلحاقه فأوصى أخاه أن يستلحقه، فعمل سعد بعد ذلك تمسكا بالبراءة الأصلية

(12/33)


قال القرطبي: وكان عبد بن زمعة سمع أن الشرع ورد بأن الولد للفراش وإلا فلم يكن عادتهم الإلحاق به، كذا قاله، وما أدري من أين له هذا الجزم بالنفي، وكأنه بناه على ما قال الخطابي أمة زمعة كانت من البغايا اللاتي عليهن من الضرائب، فكان الإلحاق مختصا باستلحاقها على ما ذكر، أو بإلحاق القائف على ما في حديث عائشة، لكن لم يذكر الخطابي مستندا لذلك، والذي يظهر من سياق القصة ما قدمته أنها كانت أمة مستفرشة لزمعة فاتفق أن عتبة زنى بها كما تقدم، وكانت طريقة الجاهلية في مثل ذلك أن السيد إن استلحقه لحقه وإن نفاه انتفى عنه وإذا ادعاه غيره كان مرد ذلك إلى السيد أو القافة، وقد وقع في حديث ابن الزبير الذي أسوقه بعد هذا ما يؤيد ما قلته، وأما قوله: إن عبد بن زمعة سمع أن الشرع إلخ ففيه نظر، لأنه يبعد أن يسمع ذلك عبد بن زمعة وهو بمكة لم يسلم بعد ولا يسمعه سعد بن أبي وقاص وهو من السابقين الأولين الملازمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حين إسلامه إلى حين فتح مكة نحو العشرين سنة، حتى ولو قلنا إن الشرع لم يرد بذلك إلا في زمن الفتح فبلوغه لعبد قبل سعد بعيد أيضا، والذي يظهر لي أن شرعية ذلك إنما عرفت من قوله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة " الولد للفراش " وإلا فما كان سعد لو سبق علمه بذلك ليدعيه، بل الذي يظهر أن كلا من سعد وعتبة بني على البراءة الأصلية، وأن مثل هذا الولد يقبل النزاع، وقد أخرج أبو داود تلو حديث الباب بسند حسن إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قام رجل فقال: يا رسول الله إن فلانا ابني عاهرت بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الحجر " وقد وقع في بعض طرقه أن ذلك وقع في زمن الفتح وهو يؤيد ما قلته، واستدل بهذه القصة على أن الاستلحاق لا يختص بالأب بل للأخ أن يستلحق وهو قول الشافعية وجماعة بشرط أن يكون الأخ حائزا أو يوافقه باقي الورثة وإمكان كونه من المذكور وأن يوافق على ذلك إن كان بالغا عاقلا وأن لا يكون معروف الأب، وتعقب بأن زمعة كان له ورثة غير عبد، وأجيب بأنه لم يخلف وارثا غيره إلا سودة، فإن كان زمعة مات كافرا فلم يرثه إلا عبد وحده، وعلى تقدير أن يكون أسلم وورثته سودة فيحتمل أن تكون وكلت أخاها في ذلك أو ادعت أيضا، وخص مالك وطائفة الاستلحاق بالأب، وأجابوا بأن الإلحاق لم ينحصر في استلحاق عبد لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك بوجه من الوجوه كاعتراف زمعة بالوطء، ولأنه إنما حكم بالفراش لأنه قال بعد قوله هو لك "الولد للفراش" لأنه لما أبطل الشرع إلحاق هذا الولد بالزاني لم يبق صاحب الفراش. وجرى المزني على القول بأن الإلحاق يختص بالأب فقال: أجمعوا على أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره، والذي عندي في قصة عبد بن زمعة أنه صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة فأعلمهم أن الحكم كذا بشرط أن يدعي صاحب الفراش لا أنه قبل دعوى سعد عن أخيه عتبة ولا دعوى عبد بن زمعة عن زمعة بل عرفهم أن الحكم في مثلها يكون كذلك. قال ولذلك قال: "احتجبي منه يا سودة" وتعقب بأن قوله لعبد بن زمعة " هو أخوك " يدفع هذا التأويل، واستدل به على أن الوصي يجوز له أن يستلحق ولد موصيه إذا أوصى إليه بأن يستلحقه ويكون كالوكيل عنه في ذلك، وقد مضى التبويب بذلك في كتاب الأشخاص وعلى أن الأمة تصير فراشا بالوطء، فإذا اعترف السيد بوطء أمته أو ثبت ذلك بأي طريق كان ثم أتت بولد لمدة الإمكان بعد الوطء لحقه من غير استلحاق كما في الزوجة، لكن الزوجة تصير فراشا بمجرد العقد فلا يشترط في الاستلحاق إلا الإمكان لأنها تراد الموطء فجعل العقد عليها كالوطء. بخلاف الأمة فإنها تراد لمنافع أخرى فاشترط في حقها الوطء

(12/34)


ومن ثم يجوز الجمع بين الأختين بالملك دون الوطء وهذا قول الجمهور، وعن الحنفية لا تصير الأمة فراشا إلا إذا ولدت من السيد ولدا ولحق به فمهما ولدت بعد ذلك لحقه إلا أن ينفيه، وعن الحنابلة من اعترف بالوطء فأتت منه لمدة الإمكان لحقه وإن ولدت منه أولا فاستلحقه لم يلحقه ما بعده إلا بإقرار مستأنف على الراجح عندهم، وترجيح المذهب الأول ظاهر لأنه لم ينقل أنه كان لزمعة من هذه الأمة ولد آخر، والكل متفقون على أنها لا تصير فراشا إلا بالوطء، قال النووي: وطء زمعة أمته المذكورة علم إما ببينة وإما باطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. قلت: وفي حديث ابن الزبير ما يشعر بأن ذلك كان أمرا مشهورا وسأذكر لفظه قريبا، واستدل به على أن السبب لا يخرج ولو قلنا إن العبرة بعموم اللفظ. ونقل الغزالي تبعا لشيخه والآمدي ومن تبعه عن الشافعي قولا بخصوص السبب تمسكا بما نقل عن الشافعي أنه ناظر بعض الحنفية لما قال إن أبا حنيفة خص الفراش بالزوجة وأخرج الأمة من عموم " الولد للفراش " فرد عليه الشافعي بأن هذا ورد على سبب خاص، ورد ذلك الفخر الرازي على من قاله بأن مراد الشافعي أن خصوص السبب لا يخرج، والخبر إنما ورد في حق الأمة فلا يجوز إخراجه، ثم رفع الاتفاق على تعميمه في الزوجات لكن شرط الشافعي والجمهور الإمكان زمانا ومكانا، وعن الحنفية يكفي مجرد العقد فتصير فراشا ويلحق الزوج الولد، وحجتهم عموم قوله: "الولد للفراش" لأنه لا يحتاج إلى تقدير وهو الولد لصاحب الفراش لأن المراد بالفراش الموطوءة، ورده القرطبي بأن الفراش كناية عن الموطوءة لكون الواطئ يستفرشها أي يصيرها بوطئه لها فراشا له يعني فلا بد من اعتبار الوطء حتى تسمى فراشا وألحق به إمكان الوطء فمع عدم إمكان الوطء لا تسمى فراشا. وفهم بعض الشراح عن القرطبي خلاف مراده فقال: كلامه يقتضي حصول مقصود الجمهور بمجرد كون الفراش هو الموطوءة وليس هو المراد فعلم أنه لا بد من تقدير محذوف لأنه قال إن الفراش هو الموطوءة والمراد به أن الولد لا يلحق بالواطئ، قال المعترض: وهذا لا يستقيم إلا مع تقدير الحذف. قلت: وقد بينت وجه استقامته بحمد الله، ويؤيد ذلك أيضا أن ابن الأعرابي اللغوي نقل أن الفراش عند العرب يعبر به عن الزوج وعن المرأة والأكثر إطلاقه على المرأة، ومما ورد في التعبير به عن الرجل قول جرير فيمن تزوجت بعد قتل زوجها أو سيدها:
باتت تعانقه وبات فراشها ... خلق العباءة بالبلاء ثقيلا
وقد يعبر به عن حالة الافتراش ويمكن حمل الخبر عليها فلا يتعين الحذف، نعم لا يمكن حمل الخبر على كل واطئ بل المراد من له الاختصاص بالوطء كالزوج والسيد، ومن ثم قال ابن دقيق العيد: معنى "الولد للفراش" تابع للفراش أو محكوم به للفراش أو ما يقارب هذا، وقد شنع بعضهم على الحنفية بأن من لازم مذهبهم إخراج السبب مع المبالغة في العمل بالعموم في الأحوال، وأجاب بعضهم بأنه خصص الظاهر القوي بالقياس، وقد عرف من قاعدته تقديم القياس في مواضع على خبر الواحد وهذا منها، واستدل به على أن القائف إنما يعتمد في الشبه إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه لأن الشارع لم يلتفت هنا إلى الشبه والتفت إليه في قصة زيد بن حارثة، وكذا لم يحكم بالشبه في قصة الملاعنة لأنه عارضه حكم أقوى منه وهو مشروعية اللعان، وفيه تخصيص عموم "الولد للفراش" وقد تمسك بالعموم الشعبي وبعض المالكية وهو شاذ، ونقل عن الشافعي أنه قال: لقوله: "الولد للفراش" معنيان أحدهما هو له ما لم ينفه فإذا نفاه بما شرع له كاللعان انتفى عنه، والثاني إذا تنازع رب الفراش

(12/35)


والعاهر فالولد لرب الفراش. قلت: والثاني منطبق على خصوص الواقعة والأول أعم. قوله: "فتساوقا" أي تلازما في الذهاب بحيث أن كلا منهما كان كالذي يسوق الآخر. قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" كذا للأكثر، وقد تقدم ضبط عبد وأنه يجوز فيه الضم والفتح، وأما ابن فهو منصوب على الحالين، ووقع في رواية للنسائي: "هو لك عبد بن زمعة" بحذف حرف النداء، وقرأه بعض المخالفين بالتنوين وهو مردود فقد وقع في رواية يونس المعلقة في المغازي "هو لك، هو أخوك يا عبد" ووقع لمسدد عن ابن عيينة عند أبي داود "هو أخوك يا عبد" قال ابن عبد البر: تثبت الأمة فراشا عند أهل الحجاز إن أقر سيدها أنه كان يلم بها، وعند أهل العراق إن أقر سيدها بالولد، وقال المازري: يتعلق بهذا الحديث استلحاق الأخ لأخيه، وهو صحيح عند الشافعي إذا لم يكن له وارث سواه، وقد تعلق أصحابه بهذا الحديث لأنه لم يرد أن زمعة ادعاه ولدا ولا اعترف بوطء أمه فكان المعول في هذه القصة على استلحاق عبد بن زمعة، قال: وعندنا لا يصح استلحاق الأخ، ولا حجة في هذا الحديث لأنه يمكن أن يكون ثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم أن زمعة كان يطأ أمته فألحق الولد به لأن من ثبت وطؤه لا يحتاج إلى الاعتراف بالوطء، وإنما يصعب هذا على العراقيين ويعسر عليهم الانفصال عما قاله الشافعي لما قررناه أنه لم يكن لزمعة ولد من الأمة المذكورة سابق، ومجرد الوطء لا عبرة به عندهم فيلزمهم تسليم ما قال الشافعي، قال: ولما ضاق عليهم الأمر قالوا الرواية في هذا الحديث: "هو لك عبد بن زمعة" وحذف حرف النداء بين عبد وابن زمعة والأصل يا ابن زمعة، قالوا والمراد أن الولد لا يلحق بزمعة بل هو عبد لولده لأنه وارثه ولذلك أمر سودة بالاحتجاب منه لأنها لم ترث زمعة لأنه مات كافرا وهي مسلمة، قال وهذه الرواية التي ذكروها غير صحيحة ولو وردت لرددناها إلى الرواية المشهورة وقلنا بل المحذوف حرف النداء بين لك وعبد كقوله تعالى حكاية عن صاحب يوسف حيث قال: "يوسف أعرض عن هذا" انتهى. وقد سلك الطحاوي فيه مسلكا آخر فقال: معنى قوله: "هو لك" أي يدك عليه لا أنك تملكه ولكن تمنع غيرك منه إلى أن يتبين أمره كما قال لصاحب اللقطة "هي لك" وقال له "إذا جاء صاحبها فأدها إليه" قال ولما كانت سودة شريكة لعبد في ذلك لكن لم يعلم منها تصديق ذلك ولا الدعوى به ألزم عبدا بما أقر به على نفسه ولم يجعل ذلك حجة عليها فأمرها بالاحتجاب، وكلامه كله متعقب بالرواية الثانية المصرح فيها بقوله: "هو أخوك " فإنها رفعت الإشكال وكأنه لم يقف عليها ولا على حديث ابن الزبير وسودة الدال على أن سودة وافقت أخاها عبدا في الدعوى بذلك. قوله: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" تقدم في غزوة الفتح تعليقا من رواية يونس عن ابن شهاب " قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد إلخ " وهذا منقطع، وقد وصله غيره عن ابن شهاب، ووقع في رواية يونس أيضا، قال ابن شهاب: وكان أبو هريرة يصيح بذلك، وقد قدمت هناك أن مسلما أخرجه موصولا من رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة وأبي هريرة، وقوله: "وللعاهر الحجر" أي للزاني الخيبة والحرمان، والعهر بفتحتين الزنا، وقيل يختص بالليل، ومعنى الخيبة هنا حرمان الولد الذي يدعيه، وجرت عادة العرب أن تقول لمن خاب "له الحجر وبفيه الحجر والتراب" ونحو ذلك، وقيل المراد بالحجر هنا أنه يرجم، قال النووي: وهو ضعيف لأن الرجم مختص بالمحصن، ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد، والخبر إنما سيق لنفي الولد. وقال السبكي: والأول أشبه بمساق الحديث لتعم الخيبة كل زان، ودليل الرجم، مأخوذ من موضع آخر فلا حاجة للتخصيص من غير دليل. قلت: ويؤيد

(12/36)


الأول أيضا ما أخرجه أبو أحمد الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه " الولد للفراش وفي فم العاهر الحجر " وفي حديث ابن عمر عند ابن حبان: "الولد للفراش وبفي العاهر الأثلب " بمثلثة ثم موحدة بينهما لام وبفتح أوله وثالثه ويكسران قيل هو الحجر وقيل دقاقه وقيل التراب. قوله: "ثم قال لسودة احتجبي منه" في رواية الليث " واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة". قوله: "فما رآها حتى لقي الله" في رواية معمر " قالت عائشة فوالله ما رآها حتى ماتت " وفي رواية الليث " فلم تره سودة قط " يعني في المدة التي بين هذا القول وبين موت أحدهما، وكذا لمسلم من طريقه. وفي رواية ابن جريج في صحيح أبي عوانة مثله، وفي رواية الكشميهني الآتية في حديث الليث أيضا: "فلم تره سودة بعد " وهذه إذا ضمت إلى رواية مالك ومعمر استفيد منها أنها امتثلت الأمر وبالغت في الاحتجاب منه حتى إنها لم تره فضلا عن أن يراها، لأنه ليس في الأمر المذكور دلالة على منعها من رؤيته. وقد استدل به الحنفية على أنه لم يلحقه بزمعة لأنه لو ألحقه به لكان أخا سودة والأخ لا يؤمر بالاحتجاب منه، وأجاب الجمهور بأن الأمر بذلك كان للاحتياط لأنه وإن حكم بأنه أخوها لقوله في الطرق الصحيحة "هو أخوك يا عبد" وإذا ثبت أنه أخو عبد لأبيه فهو أخو سودة لأبيها، لكن لما رأى الشبه بينا بعتبة أمرها بالاحتجاب منه احتياطا، وأشار الخطابي إلى أن في ذلك مزية لأمهات المؤمنين لأن لهن في ذلك ما ليس لغيرهن، قال: والشبه يعتبر في بعض المواطن لكن لا يقضي به إذا وجد ما هو أقوى منه، وهو كما يحكم في الحادثة بالقياس ثم يوجد فيها نص فيترك القياس، قال: وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث وليس بالثابت " احتجبي منه يا سودة فإنه ليس لك بأخ " وتبعه النووي فقال: هذه الزيادة باطلة مردودة، وتعقب بأنها وقعت في حديث عبد الله بن الزبير عند النسائي بسند حسن ولفظه: كانت لزمعة جارية يطؤها وكان يظن بآخر أنه يقع عليها فجاءت بولد يشبه الذي كان يظن به فمات زمعة، فذكرت ذلك سودة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ " ورجال سنده رجال الصحيح إلا شيخ مجاهد وهو يوسف مولى آل الزبير. وقد طعن البيهقي في سنده فقال: فيه جرير وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيه يوسف وهو غير معروف، وعلى تقدير ثبوته فلا يعارض حديث عائشة المتفق على صحته، وتعقب بأن جريرا هذا لم ينسب إلى سوء حفظ وكأنه اشتبه عليه بجرير بن حازم، وبأن الجمع بينهما ممكن فلا ترجيح، وبأن يوسف معروف في موالي آل الزبير، وعلى هذا فيتعين تأويله، وإذا ثبتت هذه الزيادة تعين تأويل نفي الأخوة عن سودة على نحو ما تقدم من أمرها بالاحتجاب منه، ونقل ابن العربي في "القوانين" عن الشافعي نحو ما تقدم وزاد، ولو كان أخاها بنسب محقق لما منعها كما أمر عائشة أن لا تحتجب من عمها من الرضاعة. وقال البيهقي: معنى قوله: "ليس لك بأخ " إن ثبت ليس لك بأخ شبها فلا يخالف قوله لعبد "هو أخوك". قلت: أو معنى قوله: "ليس لك بأخ" بالنسبة للميراث من زمعة لأن زمعة مات كافرا وخلف عبد بن زمعة والولد المذكور وسودة فلا حق لسودة في إرثه بل حازه عبد قبل الاستلحاق فإذا استلحق الابن المذكور شاركه في الإرث دون سودة فلهذا قال لعبد "هو أخوك" وقل لسودة "ليس لك بأخ" وقال القرطبي بعد أن قرر أن أمر سودة بالاحتجاب للاحتياط وتوقي الشبهات: ويحتمل أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حق أمهات المؤمنين كما قال: "أفعمياوان أنتما " فنهاهما عن رؤية الأعمى مع قوله لفاطمة بنت قيس "اعتدى عند ابن أم مكتوم فإنه أعمى" فغلظ الحجاب في حقهن دون غيرهن، وقد

(12/37)


تقدم في تفسير الحجاب قول من قال: إنه كان يحرم عليهن بعد الحجاب إبراز أشخاصهن ولو كن مستترات إلا لضرورة بخلاف غيرهن فلا يشترط، وأيضا فإن للزوج أن يمنع زوجته من الاجتماع بمحارمها فلعل المراد بالاحتجاب عدم الاجتماع به في الخلوة، وقال ابن حزم: لا يجب على المرأة أن يراها أخوها بل الواجب عليها صلة رحمها، ورد على من زعم أن معنى قوله: "هو لك" أي عبد، بأنه لو قضى بأنه عبد لما أمر سودة بالاحتجاب منه إما لأن لها فيه حصة وإما لأن من في الرق لا يحتجب منه على القول بذلك، وقد تقدم جواب المزني عن ذلك قريبا، واستدل به بعض المالكية على مشروعية الحكم بين حكمين وهو أن يأخذ الفرع شبها من أكثر من أصل فيعطى أحكاما بعدد ذلك، وذلك أن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النسب والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة فأعطى الفرع حكما بين حكمين فروعي الفراش في النسب والشبه البين في الاحتجاب، قال: وإلحاقه بهما ولو كان من وجه أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه. قال ابن دقيق العيد: ويعترض على هذا بأن صورة المسألة ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين وهنا الإلحاق شرعي للتصريح بقوله: "الولد للفراش" فبقي الأمر بالاحتجاب مشكلا لأنه يناقض الإلحاق فتعين أنه للاحتياط لا لوجوب حكم شرعي وليس فيه إلا ترك مباح مع ثبوت المحرمية. واستدل به على أن حكم الحاكم لا يحل الأمر في الباطن كما لو حكم بشهادة فظهر أنها زور لأنه حكم بأنه أخو عبد وأمر سودة بالاحتجاب بسبب الشبه بعتبة، فلو كان الحكم يحل الأمر في الباطن لما أمرها بالاحتجاب، واستدل به على أن لوطء الزنا حكم وطء الحلال في حرمة المصاهرة وهو قول الجمهور، ووجه الدلالة أمر سودة بالاحتجاب بعد الحكم بأنه أخوها لأجل الشبه بالزاني. وقال مالك في المشهور عنه والشافعي: لا أثر لوطء الزنا بل للزاني أن يتزوج أم التي زنى بها وبنتها، وزاد الشافعي ووافقه ابن الماجشون: والبنت التي تلدها المزني بها ولو عرفت أنها منه، قال النووي: وهذا احتجاج باطل لأنه على تقدير أن يكون من الزنا فهو أجنبي من سودة لا يحل لها أن تظهر له سواء ألحق بالزاني أم لا فلا تعلق له بمسألة البنت المخلوقة من الزنا، كذا قال وهو رد للفرع برد الأصل، وإلا فالبناء الذي بنوه صحيح، وقد أجاب الشافعية عنه بما تقدم أن الأمر بالاحتجاب للاحتياط ويحمل الأمر في ذلك إما على الندب وإما على تخصيص أمهات المؤمنين بذلك، فعلى تقدير الندب فالشافعي قا