السبت، 7 مايو 2022

آخر كتاب : 44.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

 كتاب : 44.فتح الباري  أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 = لقوله تعالى { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} قال ابن بطال: غرض البخاري الفرق بين وصف كلام الله تعالى بأنه مخلوق وبين وصفه بأنه محدث، فأحال وصفه بالخلق وأجاز وصفه بالحدث اعتمادا على الآية، وهذا قول بعض المعتزلة وأهل الظاهر وهو خطأ لأن الذكر الموصوف في الآية بالأحداث ليس هو نفس كلامه تعالى لقيام الدليل على أن محدثا ومنشأ ومخترعا ومخلوقا ألفاظ مترادفة على معنى واحد فإذا لم يجز وصف كلامه القائم بذاته تعالى بأنه مخلوق لم يجز وصفه بأنه محدث، وإذا كان كذلك فالذكر الموصوف في الآية بأنه محدث هو الرسول لأن الله تعالى قد سماه في قوله تعالى :{قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولا} فيكون المعنى: ما يأتيهم من رسول محدث، ويحتمل أن يكون المراد بالذكر هنا وعظ الرسول إياهم وتحذيره من المعاصي فسماه ذكرا وأضافه إليه إذ هو فاعله ومقدر رسوله على اكتسابه. وقال بعضهم: في هذه الآية أن مرجع الأحداث إلى الإتيان لا إلى الذكر القديم، لأن نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شيئا بعد شيء فكان نزوله يحدث حينا بعد حين كما أن العالم يعلم ما لا يعلمه الجاهل فإذا علمه الجاهل حدث عنده العلم ولم يكن إحداثه عند التعلم إحداث عين المعلم. قلت: والاحتمال الأخير أقرب إلى مراد البخاري لما قدمت قبل أن مبنى هذه التراجم عنده على إثبات أن أفعال العباد مخلوقة ومراده هنا الحدث بالنسبة للإنزال، وبذلك جزم ابن المنير ومن تبعه. وقال الكرماني صفات الله تعالى سلبية ووجودية وإضافية، فالأولى: هي التنزيهات، والثانية: هي القديمة، والثالثة: الخلق والرزق، وهي حادثة ولا يلزم من حدوثها تغير في ذات الله ولا في صفاته الوجودية، كما أن تعلق العلم وتعلق القدرة بالمعلومات والمقدورات حادث وكذا جميع الصفات الفعلية، فإذا تقرر ذلك فالإنزال حادث والمنزل قديم وتعلق القدرة حادث ونفس القدرة قديمة فالمذكورة وهو القرآن قديم والذكر حادث، وأما ما نقله ابن بطال عن المهلب ففيه نظر لأن البخاري لا يقصد ذلك ولا يرضى بما نسب إليه إذ لا فرق بين مخلوق وحادث لا عقلا ولا نقلا ولا عرفا. وقال ابن المنير قيل ويحتمل أن يكون مراده حمل لفظ محدث على الحديث فمعنى ذكر محدث أي متحدث به. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق هشام بن عبيد الله الرازي أن رجلا من الجهمية احتج لزعمه أن القرآن مخلوق بهذه الآية، فقال له هشام محدث إلينا محدث إلى العباد، وعن أحمد بن إبراهيم الدورقي نحوه، ومن طريق نعيم بن حماد قال محدث عند الخلق لا عند الله، قال وإنما المراد أنه محدث عند النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه بعد أن كان لا يعلمه، وأما الله سبحانه فلم يزل عالما وقال في موضع آخر: كلام الله ليس بمحدث لأنه لم يزل متكلما لا أنه كان لا يتكلم حتى أحدث كلاما لنفسه فمن زعم ذلك فقد شبه الله بخلقه لأن الخلق كانوا لا يتكلمون حتى أحدث لهم كلاما فتكلموا به. وقال الراغب: المحدث ما أوجد بعد أن لم يكن وذلك إما في ذاته أو إحداثه عند من حصل عنده، ويقال لكل ما قرب عهده حدث فعالا كان أو مقالا. وقال غيره في قوله تعالى :{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} وفي قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} المعنى يحدث عندهم ما لم يكن يعلمونه، فهو نظير الآية الأول، وقد نقل الهروي في الفاروق بسنده إلى حرب الكرماني: سألت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يعني ابن راهويه عن قوله تعالى :{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} قال: قديم من رب العزة محدث إلى الأرض فهذا هو سلف البخاري في ذلك. وقال ابن التين احتج من قال بخلق القرآن بهذه الآية، قالوا: والمحدث هو المخلوق والجواب أن لفظ الذكر في القرآن يتصرف على وجوه الذكر بمعنى العلم، ومنه {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} والذكر بمعنى العظة، ومنه {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} والذكر بمعنى الصلاة، ومنه {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} والذكر بمعنى الشرف،

(13/497)


ومنه {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال فإذا كان الذكر يتصرف إلى هذه الأوجه وهي كلها محدثة كان حمله على إحداها أولى ولأنه لم يقل {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} ونحن لا ننكر أن يكون من الذكر ما هو محدث كما قلنا وقيل محدث عندهم ومن زائدة للتوكيد. وقال الداودي الذكر في هذه الآية هو القرآن وهو محدث عندنا وهو من صفاته تعالى، ولم يزل سبحانه وتعالى بجميع صفاته، قال ابن التين: وهذا منه - أي من الداودي - عظيم، واستدلاله يرد عليه فإنه إذا كان لم يزل بجميع صفاته وهو قديم فكيف تكون صفته محدثة وهو لم يزل بها إلا أن يزيد أن المحدث غير المخلوق كما يقول البلخي ومن تبعه، وهو ظاهر كلام البخاري حيث قال: وإن حدثه لا يشبه حديث المخلوقين فأثبت أنه محدث انتهى، وما استعظمه من كلام الداودي هو بحسب ما تخيله، وإلا فالذي يظهر أن مراد الداودي أن القرآن هو الكلام القديم الذي هو من صفات الله تعالى وهو غير محدث وإنما يطلق الحدث بالنسبة إلى إنزاله إلى المكلفين وبالنسبة إلى قراءتهم له وإقرائهم غيرهم ونحو ذلك، وقد أعاد الداودي نحو هذا في شرح قول عائشة " ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى " قال الداودي: فيه أن الله تكلم ببراءة عائشة حين أنزل براءتها بخلاف قول بعض الناس أنه لم يتكلم، فقال ابن التين أيضا هذا من الداودي عظيم لأنه يلزم منه أن يكون الله تعالى متكلما بكلام حادث فتحل فيه الحوادث تعالى الله عن ذلك، وإنما المراد بأنزل أن الإنزال هو المحدث ليس أن الكلام القديم نزل الآن انتهى، وهذا مراد البخاري، وقد قال في كتاب خلق أفعال العباد قال أبو عبيد، يعني القاسم بن سلام: احتج هؤلاء الجهمية بآيات وليس فيما احتجوا به أشد بأسا من ثلاث آيات قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} و {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} ، و {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} قالوا إن قلتم إن القرآن لا شيء كفرتم وإن قلتم إن المسيح كلمة الله فقد أقررتم أنه خلق وإن قلتم ليس بمحدث رددتم القرآن، قال أبو عبيد أما قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فقد قال في آية أخرى {ِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فأخبر أن خلقه بقوله وأول خلقه هو من أول الشيء الذي قال وخلق كل شيء، وقد أخبر أنه خلقه بقوله فدل على أن كلامه قبل خلقه، وأما المسيح فالمراد أن الله خلقه بكلمته لا أنه هو الكلمة لقوله: {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} ولم يقل ألقاه ويدل عليه قوله تعالى :{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} وأما الآية الثالثة فإنما حدث القرآن عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما علمه ما لم يعلم، قال البخاري والقرآن كلام الله غير مخلوق، ثم ساق الكلام على ذلك إلى أن قال: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول سمعت يحيى بن سعيد يعني القطان يقول ما زلت أسمع أصحابنا يقولون إن أفعال العباد مخلوقة، قال البخاري حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب فهو كلام الله ليس بخلق قال: وقال: "إسحاق بن إبراهيم " يعني ابن راهويه فأما الأوعية فمن يشك في خلقها، قال البخاري فالمداد والورق ونحوه خلق، وأنت تكتب الله فالله في ذاته هو الخالق وخطك من فعلك وهو خلق لأن كل شيء دون الله هو بصنعه، ثم ساق حديث حذيفة رفعه: إن الله يصنع كل صانع وصنعته، وهو حديث صحيح. قوله: "وقال ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يحدث من أمره ما يشاء وأن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة" هذا طرف من حديث أخرجه أبو داود واللفظ له وأحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي

(13/498)


وائل عن عبد الله قال: كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي السلام فأخذني ما قدم وما حدث فلما قضى صلاته قال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة. وفي رواية النسائي: "وإن مما أحدث " وأصل هذه القصة في الصحيحين من رواية علقمة عن ابن مسعود لكن قال فيها " إن في الصلاة لشغلا " وقد مضى في أواخر الصلاة وفي هجرة الحبشة، وتقدم شرحه في الصلاة وليس فيه مقصود الباب. قوله: "كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم" هذه رواية عكرمة عنه ورواية عبيد الله بن عبد الله وهو ابن عتبة عنه " يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء". قوله: "وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدا بالله" هذه رواية عكرمة ورواية عبيد الله " وكتابكم الذي أنزل الله عليكم أحدث الأخبار بالله أي أقربها نزولا إليكم وأخبارا من الله سبحانه وتعالى وقد جرى البخاري على عادته في الإشارة إلى اللفظ الذي يريده وإيراده لفظا آخر غيره فإنه أورد أثر ابن عباس بلفظ: "أقرب " وهو عنده في الموضع الآخر بلفظ: "أحدث " وهو أليق بمراده هنا وقد جاء نظير هذا الوصف من كلام كعب الأحبار منسوبا إلى الله سبحانه وتعالى فأخرج ابن أبي حاتم بسند حسن عن عاصم بن بهدلة عن مغيث بن سمي قال قال كعب عليكم بالقرآن فإنه أحدث الكتب عهدا بالرحمن، زاد في رواية أخرى عن كعب: وأن الله تعالى قال في التوراة: يا موسى إني منزل عليك توراة حديثة أفتح بها أعينا عميا وآذنا صما وقلوبا غلفا. قوله: "تقرءونه محضا لم يشب" هذا آخر حديث عكرمة وقوله: "لم يشب " بضم أوله وفتح الشين المعجمة وسكون الموحدة، أي لم يخالطه غيره، وزاد عبيد الله في روايته: "وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا إلخ " يشير إلى قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ - إلى – يَكْسِبُونَ} وقوله: "ليشتروا بذلك " في رواية المستملي: "ليشتروا به " وقوله: "عن الذي أنزل عليكم " في رواية المستملي: "إليكم " وقوله: "جاءكم من العلم " إسناد المجيء إلى العلم كإسناد النهي إليه. قوله: "فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم" فيه تأكيد الخبر بالقسم " وكأنه يقول: لا يسألونكم عن شيء مع علمهم بأن كتابكم لا تحريف فيه، فكيف تسألونهم وقد علمتم أن كتابهم محرف".

(13/499)


43 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ}, َفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اللَّهُ تَعَالَى {انا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بى شفتاه}
7524 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا فَقَالَ سَعِيدٌ أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ جَمْعُهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَؤُهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قَالَ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ قَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَقْرَأَهُ
قوله: "باب قوله تعالى :{لا تحرك به لسانك} يعني إلى آخر الآية. قوله: "وفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه

(13/499)


الوحي" قد بينه في حديث الباب بأنه كان يعالج شدة من أجل تحفظه فلما نزلت صار يستمع فإذا ذهب الملك قرأه كما سمعه. قوله: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: أنا مع عبدي إذا ذكرني" في رواية الكشميهني: "ما ذكرني " "وتحركت بي شفتاه" هذا طرف من حديث أخرجه أحمد والبخاري في خلق أفعال العباد والطبراني من رواية عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر عن كريمة بنت الحسحاس بمهملات عن أبي هريرة فذكره بلفظ: "إذا ذكرني " وفي رواية لأحمد " حدثنا أبو هريرة ونحن في بيت هذه - يعني أم الدرداء - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأخرجه البيهقي في الدلائل من طريق ربيعة بن يزيد الدمشقي عن إسماعيل بن عبيد الله قال دخلت على أم الدرداء فلما سلمت جلست فسمعت كريمة بنت الحسحاس وكانت من صواحب أبي الدرداء قالت سمعت أبا هريرة رضي الله عنه وهو في بيت هذه تشير إلى أم الدرداء سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره بلفظ: "ما ذكرني " وأخرجه أحمد أيضا وابن ماجه والحاكم من رواية الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله عن أم الدرداء عن أبي هريرة، ورواه ابن حبان في صحيحه من رواية الأوزاعي عن إسماعيل عن كريمة عن أبي هريرة، ورجح الحفاظ طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وربيعة بن يزيد، ويحتمل أن يكون عند إسماعيل عن كريمة وعن أم الدرداء معا وهذا من الأحاديث التي علقها البخاري ولم يصلها في موضع آخر من كتابه وبالله التوفيق، قال ابن بطال: معنى الحديث أنا مع عبدي زمان ذكره لي، أي أنا معه بالحفظ والكلاءة لا أنه معه بذاته حيث حل العبد، ومعنى قوله: "تحركت بي شفتاه " أي تحركت باسمي لا أن شفتيه ولسانه تتحرك بذاته تعالى لاستحالة ذلك انتهى ملخصا. وقال الكرماني المعية هنا معية الرحمة، وأما في قوله تعالى :{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فهي معية العلم يعني فهذه أخص من المعية التي في الآية. ثم ذكر حديث ابن عباس في قوله تعالى :{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، الحديث وهو من أوضح الأدلة على أن القرآن يطلق ويراد به القراءة، فإن المراد بقوله قرآنا في الآيتين القراءة لا نفس القرآن، وقد تقدم شرحه في بدء الوحي، قال ابن بطال: غرضه في هذا الباب أن تحريك اللسان والشفتين بقراءة القرآن عمل له يؤجر عليه، و قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فيه إضافة الفعل إلى الله تعالى والفاعل له من يأمره بفعله، فإن القارئ لكلامه تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، ففيه بيان لكل ما أشكل من كل فعل ينسب إلى الله تعالى مما لا يليق به فعله من المجيء والنزول ونحو ذلك انتهى، والذي يظهر أن مراد البخاري بهذين الحديثين الموصول والمعلق، الرد على من زعم أن قراءة القارئ قديمة فأبان أن حركة لسان القارئ بالقرآن من فعل القارئ بخلاف المقروء فإنه كلام الله القديم كما أن حركة لسان ذاكر الله حادثة من فعله، والمذكور وهو الله سبحانه وتعالى قديم وإلى ذلك أشار بالتراجم التي تأتي بعد هذا.

(13/500)


44 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} يَتَخَافَتُونَ يَتَسَارُّونَ
7525 - حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ عَنْ هُشَيْمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } قَالَ نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ

(13/500)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ أَيْ بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا عَنْ أَصْحَابِكَ فَلاَ تُسْمِعُهُمْ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا
7526 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا فِي الدُّعَاءِ
7527 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَزَادَ غَيْرُهُ يَجْهَرُ بِهِ
قوله: "باب قول الله تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} أشار بهذه الآية إلى أن القول أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره فإن كان بالقرآن فالقرآن كلام الله وهو من صفات ذاته فليس بمخلوق لقيام الدليل القاطع بذلك، وإن كان بغيره فهو مخلوق، بدليل قوله تعالى :{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} بعد قوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قال ابن بطال: مراده بهذا الباب إثبات العلم لله صفة ذاتية لاستواء علمه بالجهر من القول والسر، وقد بينه بقوله في آية أخرى {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} وأن اكتساب العبد من القول والفعل لله تعالى لقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ثم قال عقب ذلك "ألا يعلم من خلق" فدل على أنه عالم بما أسروه وما جهروا به وأنه خالق لذلك فيهم، فإن قيل قوله: "من خلق " راجع إلى القائلين قيل له إن هذا الكلام خرج مخرج التمدح منه بعلمه بما أسر العبد وجهر وأنه خلقه فإنه جعل خلقه دليلا على كونه عالما بقولهم فيتعين رجوع قوله: خلق إلى قولهم ليتم تمدحه بالأمرين المذكورين، وليكون أحدهما دليلا على الآخر، ولم يفرق أحد بين القول والفعل، وقد دلت الآية على أن الأقوال خلق الله تعالى فوجب أن تكون الأفعال خلقا له سبحانه وتعالى. وقال ابن المنير: ظن الشارح أنه قصد بالترجمة إثبات العلم وليس كما ظن وإلا لتقاطعت المقاصد مما اشتملت عليه الترجمة لأنه لا مناسبة بين العلم وبين حديث: ليس منا من لم يتغن بالقرآن وإنما قصد البخاري الإشارة إلى النكتة التي سبب محنته بمسألة اللفظ فأشار بالترجمة إلى أن تلاوة الخلق تتصف بالسر والجهر ويستلزم أن تكون مخلوقة، وساق الكلام على ذلك وقد قال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد بعد أن ذكر عدة أحاديث دالة على ذلك فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أصوات الخلق وقراءتهم ودراستهم وتعليمهم وألسنتهم مختلفة بعضها أحسن وأزين وأحلى وأصوت وأرتل وألحن وأعلى وأخفض وأغص وأخشع وأجهر وأخفى وأقصر وأمد وألين من بعض. قوله: "يتخافتون يتسارون" بتشديد الراء والسين مهملة وفي بعضها بشين معجمة وزيادة واو بغير تثقيل، أي يتراجعون فيما بينهم سرا. ثم ذكر حديث ابن عباس في نزول قوله تعالى :{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} وفي آخره: فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك. وحديث عائشة أنها نزلت في الدعاء، وقد تقدم شرحهما في تفسير سبحان. وحديث أبي هريرة: ليس منا من لم يتغن بالقرآن، وزاد غيره، يجهر به، أورده من طريق ابن جريج حدثنا ابن شهاب وقد مضى في فضائل القرآن، وفي باب قول الله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} من طريق عقيل عن ابن شهاب بلفظ: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن"

(13/501)


وقال صاحب له " يجهر به " وسيأتي قريبا من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بلفظ: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به فيستفاد منه أن الغير المبهم في حديث الباب وهو الصاحب المبهم في رواية: "عقيل " هو محمد بن إبراهيم التيمي، والحديث واحد إلا أن بعضهم رواه بلفظ: "ما أذن الله " وبعضهم رواه بلفظ: "ليس منا " و " إسحاق " لا شيخه فيه هو ابن منصور. وقال الحاكم بن نصر ورجح الأول أبو علي الجياني و " أبو عاصم " هو النبيل وهو من شيوخ البخاري قد أكثر عنه بلا واسطة وأقرب ذلك في أول حديث من كتاب التوحيد.

(13/502)


45 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ يَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ فَبَيَّنَ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْكِتَابِ هُوَ فِعْلُهُ وَقَالَ {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
7528 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَحَاسُدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ فَيَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ
7529 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ سَمِعْتُ سُفْيَانَ مِرَارًا لَمْ أَسْمَعْهُ يَذْكُرُ الْخَبَرَ وَهُوَ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار" في رواية الكشميهني: "والنهار " بحذف " وآناء " الثانية.
قوله: "ورجل يقول لو أوتيت مثل ما أوتى هذا فعلت كما يفعل" قال الكرماني: كذا أورد الترجمة مخرومة إذ ذكر من صاحب القرآن حال المحسود فقط ومن صاحب المال حال الحاسد فقط ولكن لا لبس في ذلك لأنه اقتصر على ذكر حالي حامل القرآن حاسدا ومحسودا وترك حال ذي المال. قوله: "فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله" في رواية الكشميهني: "أن قراءته الكتاب هو فعله". قوله: "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم. وقال: وافعلوا الخير لعلكم تفلحون" أما الآية الأولى فالمراد منها اختلاف ألسنتكم لأنها تشمل الكلام كله فتدخل القراءة، وأما الآية الثانية فعموم فعل الخير يتناول قراءة القرآن والذكر والدعاء وغير ذلك، فدل على أن القراءة فعل القارئ. ثم ذكر حديث أبي هريرة لا تحاسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه. وحديث سالم عن " أبيه " وهو عبد الله بن عمر: لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به، وقد مضى شرح المتن في فضائل القرآن، وقوله: "سمعت من سفيان مرارا " هو كلام " علي بن عبد الله " وهو ابن المديني شيخ البخاري، وقوله: "لم أسمعه يذكر الخبر " أي ما سمعه منه إلا بالعنعنة. قوله:

(13/502)


"وهو من صحيح حديثه" قلت قد أخرجه الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي خيثمة قال حدثنا " سفيان " هو ابن عيينة قال حدثنا الزهري عن سالم به قال ابن المنير دلت أحاديث الباب الذي قبله على أن القراءة فعل القارئ وأنها تسمى تغنيا، وهذا هو الحق اعتقادا لا إطلاقا حذرا من الإيهام وفرارا من الابتداع بمخالفة السلف في الإطلاق وقد ثبت عن البخاري أنه قال: من نقل عني أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب، وإنما قلت إن أفعال العباد مخلوقة، قال: وقد قارب الإفصاح في هذه الترجمة بما رمز إليه في التي قبلها.

(13/503)


46 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالاَتِهِ} وَقَالَ الزُّهْرِيُّ مِنْ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى {أُبْلِغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَقَالَتْ عَائِشَةُ إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ فَقُلْ { اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ} وَقَالَ مَعْمَرٌ ذَلِكَ الْكِتَابُ هَذَا الْقُرْآنُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ بَيَانٌ وَدِلاَلَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى{ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ لاَ رَيْبَ لاَ شَكَّ تِلْكَ آيَاتُ يَعْنِي هَذِهِ أَعْلاَمُ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ يَعْنِي بِكُمْ وَقَالَ أَنَسٌ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ أَتُؤْمِنُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ
7530 - حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ الْمُغِيرَةُ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ
7531 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا وَقَالَ مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ فَلاَ تُصَدِّقْهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}
7532 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قَالَ ثُمَّ أَيْ قَالَ ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قَالَ ثُمَّ أَيْ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} الْآيَةَ

(13/503)


قوله: "باب قول الله عز وجل {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته} كذا للجميع وظاهره اتحاد الشرط والجزاء لأن معنى " إن لم تفعل: لم تبلغ " لكن المراد من الجزاء لازمه فهو كحديث: "ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه " واختلف في المراد بهذا الأمر، فقيل المراد بلغ كما أنزل، وهو على ما فهمت عائشة وغيرها، وقيل المراد بلغه ظاهرا ولا تخش من أحد فإن الله يعصمك من الناس، والثاني أخص من الأول وعلى هذا لا يتحد الشرط والجزاء لكن الأولى قول الأكثر لظهور العموم في قوله تعالى :{مَا أَنْزَلَ} والأمر للوجوب فيجب عليه تبليغ كل ما أنزل إليه والله أعلم، ورجح الأخير ابن التين ونسبه لأكثر أهل اللغة، وقد احتج أحمد بن حنبل بهذه الآية على أن القرآن غير مخلوق لأنه لم يرد في شيء من القرآن ولا من الأحاديث أنه مخلوق ولا ما يدل على أنه مخلوق، ثم ذكر عن الحسن البصري أنه قال: لو كان ما يقول الجعد حقا لبلغه النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال الزهري من الله الرسالة وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ وعلينا التسليم" هذا وقع في قصة أخرجها الحميدي في النوادر ومن طريقه الخطيب، قال الحميدي: حدثنا سفيان قال: قال رجل للزهري يا أبا بكر قول النبي صلى الله عليه وسلم ليس منا من شق الجيوب، ما معناه فقال الزهري: من الله العلم وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم، وهذا الرجل هو الأوزاعي أخرجه ابن أبي عاصم في " كتاب الأدب " وذكر ابن أبي الدنيا عن دحيم عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال: "قلت للزهري " فذكره. قوله: "وقال الله تعالى ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم. وقال أبلغكم رسالات ربي" قال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد بعد أن ساق قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} الآية، قال: فذكر تبليغ ما أنزل إليه ثم وصف فعل تبليغ الرسالة فقال: وإن لم تفعل فما بلغت، قال: فسمى تبليغه الرسالة وتركه فعلا ولا يمكن أحدا أن يقول إن الرسول لم يفعل ما أمر به من تبليغ الرسالة، يعني: فإذا بلغ فقد فعل ما أمر به وتلاوته ما أنزل إليه هو التبليغ وهو فعله، وذكر حديث أبي الأحوص عوف بن مالك الجشمي عن أبيه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر القصة وفيها قال: أتتني رسالة من ربي فضقت بها ذرعا ورأيت أن الناس سيكذبونني فقيل لي: لتفعلن أو ليفعلن بك، وأصله في السنن وصححه ابن حبان والحاكم وحديث سمرة بن جندب في قصة الكسوف، وفيه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "في خطبته إنما أنا بشر رسول فأذكركم بالله إن كنتم تعلمون أني قصرت عن تبليغ شيء من رسالات ربي " يعني فقولوا، فقالوا نشهد أنك بلغت رسالات ربك وقضيت الذي عليك، وأصله في السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وقال في الكتاب المذكور أيضا قوله تعالى :{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} هو مما أمر به، وكذلك أقيموا الصلاة، والصلاة بجملتها طاعة الله وقراءة القرآن من جملة الصلاة، فالصلاة طاعة والأمر بها قرآن، وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء على الألسنة فالقراءة والحفظ والكتابة مخلوقة والمقروء والمحفوظ والمكتوب ليس بمخلوق، ومن الدليل عليه أنك تكتب الله وتحفظه وتدعوه فدعاؤك وحفظك وكتابتك وفعلك مخلوق والله هو الخالق. قوله: "وقال كعب بن مالك حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" قد تقدم هذا مسندا في تفسير براءة في حديثه الطويل وفي آخره قال الله تعالى :{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} الآية قال الكرماني ومناسبته للترجمة من جهة التفريض والانقياد والتسليم، ولا ينبغي لأحد أن يزكى عمله بل يفوض إلى الله سبحانه وتعالى. قلت: ومراد البخاري تسمية ذلك عملا كما تقدم من كلامه في الذي قبله. قوله:

(13/504)


"وقالت عائشة إذا أعجبك حسن عمل امرئ فقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ولا يستخفنك أحد" قلت: زعم مغلطاي أن عبد الله بن المبارك أخرج هذا الأثر في كتاب البر والصلة عن سفيان عن معاوية بن إسحاق عن عروة عن عائشة وقد وهم في ذلك، وإنما وقع هذا في قصة ذكرها البخاري في كتاب خلق أفعال العباد من رواية عقيل عن ابن شهاب عن عروة " عن عائشة قالت: وذكرت الذي كان من شأن عثمان، وددت أني كنت نسيا منسيا فوالله ما أحببت أن ينتهك من عثمان أمر قط إلا انتهك مني مثله حتى والله لو أحببت قتله لقتلت، يا عبيد الله بن عدي لا يغرنك أحد بعد الذين تعلم فوالله ما احتقرت من أعمال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نجم النفر الذين طعنوا في عثمان فقالوا قولا لا يحسن مثله وقرءوا قراءة لا يحسن مثلها وصلوا صلاة لا يصلى مثلها فلما تدبرت الصنيع إذا هم والله ما يقاربون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أعجبك حسن قول امرئ فقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ولا يستخفنك أحد " وأخرجه ابن أبي حاتم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري أخبرني عروة أن عائشة كانت تقول: احتقرت أعمال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نجم القراء الذين طعنوا على عثمان فذكر نحوه وفيه: "فوالله ما يقاربون عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أعجبك حسن عمل امرئ منهم فقل اعملوا إلخ " والمراد بالقراء المذكورين الذين قاموا على عثمان وأنكروا عليه أشياء اعتذر عن فعلها، ثم كانوا مع علي ثم خرجوا بعد ذلك على علي، وقد تقدمت أخبارهم مفصلة في " كتاب الفتن " ودل سياق القصة على أن المراد بالعمل ما أشارت إليه من القراءة والصلاة وغيرهما فسمت كل ذلك عملا، وقولها في آخره: "ولا يستخفنك أحد " بالخاء المعجمة المكسورة والفاء المفتوحة والنون الثقيلة للتأكيد، قال ابن التين عن الداودي معناه: لا تغتر بمدح أحد وحاسب نفسك، والصواب ما قاله غيره أن المعنى لا يغرنك أحد بعمله فتظن به الخير إلا أن رأيته واقفا عند حدود الشريعة. قوله: "قال معمر ذلك الكتاب، هذا القرآن: هدى للمتقين: بيان ودلالة كقوله: ذلكم حكم الله هذا حكم الله، لا ريب فيه: لا شك، تلك آيات الله، يعني هده أعلام القرآن ومثله حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم، يعني بكم"، " معمر " هذا هو ابن المثنى اللغوي أبو عبيدة وهذا المنقول عنه ذكره في كتاب مجاز القرآن ووهم من قال إنه معمر بن راشد شيخ عبد الرزاق، وقد اغتر مغلطاي بذلك فزعم أن عبد الرزاق أخرج ذلك في تفسره عن معمر، وليس ذلك في شيء من نسخ تفسير عبد الرزاق ولفظ أبي عبيدة " ذلك الكتاب " معناه هذا القرآن، قال وقد تخاطب العرب الشاهد بمخاطبة الغائب، وقد أنكر ثعلب هذه المقالة وقال استعمال أحد اللفظين موضع الآخر يقلب المعنى، وإنما المراد هذا القرآن هو ذلك الذي كانوا يستفتحون به عليكم. وقال الكسائي: لما كان القول والرسالة من السماء والكتاب والرسول في الأرض قيل ذلك يا محمد. وقال الفراء هو كقولك للرجل وهو يحدثك: وذلك والله الحق، فهو في اللفظ بمنزلة الغائب وليس بغائب وإنما المعنى ذلك الذي سمعت به، واستشهد أبو عبيدة بقوله تعالى حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة" فلما جاز أن يخبر بضميرين مختلفين ضمير المخاطب للحاضر وضمير الغيبة عن الغائب في قصة واحدة فكذلك يجوز أن يخبر عن ضمير القريب بضمير البعيد وهو صنيع مشهور في كلام العرب يسميه أصحاب المعاني الالتفات، وقيل الحكمة في هذا هنا أن كل من خوطب يجوز أن يركب الفلك لكن لما كان في العادة أن لا يركبها إلا الأقل وقع الخطاب أولا للجميع ثم عدل إلى الإخبار عن البعض الذين من شأنهم الركوب. وقال أيضا لا ريب فيه: لا شك فيه، هدى للمتقين: أي بيان للمتقين،

(13/505)


ومناسبة هذه الآية لما تقدم من جهة أن الهداية نوع من التبليغ. وقال في تفسير سورة أخرى تلك آيات: هذه آيات وقال في تفسير سورة أخرى؛ الآيات: الأعلام وهذا قد تقدم في تفسير سورة يونس التنبيه عليه، وأما قوله: "ومثله حتى إذا كنتم " فمراده أنه نظير استعمال ذلك موضع هذا، فلما ساغ استعمال ما هو للبعيد للقريب جاز استعمال ما هو للغائب للحاضر، ولفظ: "مثله " بكسر الميم وسكون المثلثة، وضبطه بعضهم بضم الميم والمثلثة واللام وهو بعيد، والأول هو الموجود في كتاب أبي عبيدة قاله في مقدمة كتابه المذكور، فإنه قال: ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد ثم حول إلى مخاطبة الغائب، قوله تعالى :{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} أي بكم، ثم ذكر فيه أربعة أحاديث. الحديث الأول: قوله: "وقال أنس بعث النبي صلى الله عليه وسلم خاله حراما إلى قوم وقال أتؤمنوني حتى أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يحدثهم" هذا طرف من حديث وصله المؤلف في الجهاد من طريق همام عن إسحاق بن عبيد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين راكبا فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا كنتم قريبا مني، فتقدم فأمنوه فبينما هو يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر القصة ولفظه في المغازي عن أنس فانطلق حرام أخو أم سليم فذكره، وفيه: "وإن قتلوني أتيتم أصحابكم فقال أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يحدثهم وأومؤوا إلى رجل منهم فأتاه فطعنه من خلفه " الحديث، وسياقه في المغازي أقرب إلى اللفظ المعلق هنا، وفي السياق حذف تقديره بعد قوله أتيتم أصحابكم، فأتى المشركين فقال أتؤمنوني. قول "حدثنا سعيد بن عبيد الله الثقفي" كذا للأكثر، ووقع في رواية القابسي " عن أبي زيد سعيد بن عبد الله " بفتح العين وسكون الموحدة قال أبو علي الجياني وكذا كان في نسخة أبي محمد الأصيلي إلا أنه أصلحه " عبيد الله " بالتصغير وقال هو سعيد بن عبيد الله بن جبير بن حية. قوله: "عن جبير بن حية" بمهملة وتحتانية ثقيلة و " جبير " هو والد زياد بن جبير الراوي عنه. قوله: "قال المغيرة" هو ابن شعبة. قوله: "أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة" هذا القدر هو المرفوع من الحديث، وقد مضى بطوله وشواهده في " كتاب الجزية " وبيان الاختلاف في ضبط المعتمر بن سليمان المذكور في سنده بما أغنى عن إعادته. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا. وقال ممد حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا عن شعبة إسماعيل بن أبي خالد" أما " محمد بن يوسف " فهو الفريابي كما جزم به أبو نعيم في المستخرج وأما " سفيان " فهو الثوري، وأما " إسماعيل " فهو ابن أبي خالد المذكور في الرواية الثانية، وأما " محمد " المذكور أول الرواية الثانية فيحتمل أن يكون هو محمد بن يوسف الفريابي المذكور في الرواية الأولى فيكون موصولا، ويحتمل أن يكون غيره فيكون معلقا وهو مقتضى صنيع المزي، وأما أبو نعيم فقال في المستخرج " رواه عن محمد عن أبي عامر " ومقتضاه أن يكون وقع عنده حدثنا محمد أو قال لي محمد لأن عادته إذا وقع بصيغة قال مجردة أن يقول أخرجه بلا رواية يعني صيغة صريحة، و " أبو عامر العقدي " هو عبد الملك بن عمرو، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق أحمد بن ثابت عن أبي عامر العقدي مثل ما ساقه البخاري وزاد: "من حدثك أن الله رآه أحد من خلقه فلا تصدقه، إن الله يقول لا تدركه الأبصار " وقد تقدم هذا القدر مفردا في باب قول الله تعالى :{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} في " كتاب التوحيد " هذا عن محمد بن يوسف بهذا السند وزاد: "من

(13/506)


حدثك أنه يعلم الغيب " الحديث وأخرجه أحمد عن غندر عن شعبة كذلك، وقد تقدم الكلام على قصة الرؤية والغيب هناك وكل ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فله بالنسبة إليه طرفان طرف الأخذ من جبريل عليه السلام وقد مضى في الباب السابق، وطرف الأداء للأمة وهو المسمى بالتبليغ وهو المقصود هنا. حديث: "عبد الله " هو ابن مسعود " أي الذنب أكبر " تقدم قريبا في باب قوله تعالى :{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} وزاد في آخره هنا فأنزل الله تصديقها {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى آخر الآية ومناسبته للترجمة أن التبليغ على نوعين: أحدهما: وهو الأصل أن يبلغه بعينه وهو خاص بما يتعبد بتلاوته وهو القرآن، وثانيهما: أن يبلغ ما يستنبط من أصول ما تقدم إنزاله فينزل عليه موافقته فيما استنبطه إما بنصه وإما بما يدل على موافقته بطريق الأولى كهذه الآية فإنها اشتملت على الوعيد الشديد في حق من أشرك وهي مطابقة للنص، وفي حق من قتل النفس بغير حق وهي مطابقة للحديث بطريق الأولى، لأن القتل بغير حق وإن كان عظيما لكن قتل الولد أشد قبحا في قتل من ليس بولد، وكذا القول في الزناة فإن الزنا بحليلة الجار أعظم قبحا من مطلق الزنا، ويحتمل أن يكون إنزال هذه الآية سابقا على إخباره صلى الله عليه وسلم بما أخبر به لكن لم يسمعها الصحابي إلا بعد ذلك، ويحتمل أن يكون كل من الأمور الثلاثة نزل تعظيم الإثم فيه سابقا ولكن اختصت هذه الآية بمجموع الثلاثة في سياق واحد مع الاقتصار عليها فيكون المراد بالتصديق الموافقة في الاقتصار عليها، فعلى هذا فمطابقة الحديث للترجمة ظاهرة جدا والله أعلم، واستدل أبو المظفر بن السمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجوهر وعرض، قالوا: فالجسم ما اجتمع من الافتراق، والجوهر: ما حمل العرض، والعرض: ما لا يقوم بنفسه، وجعلوا الروح من الأعراض، وردوا الأخبار في خلق الروح قبل الجسد والعقل قبل الخلق، واعتمدوا على حدسهم وما يؤدي إليه نظرهم ثم يعرضون عليه النصوص فما وافقه قبلوه وما خالفه ردوه، ثم ساق هذه الآيات ونظائرها من الأمر بالتبليغ، قال وكان مما أمر بتبليغه التوحيد بل هو أصل ما أمر به فلم يترك شيئا من أمور الدين أصوله وقواعده وشرائعه إلا بلغه ثم لم يدع إلا الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد في أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه، فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم وسلكوا غير سبيلهم بطريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم، ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن والقدح ونسبتهم إلى قلة المعرفة واشتباه الطرق فالحذر من الاشتغال بكلامهم والاكتراث بمقالاتهم فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا وتجد لخصومهم عليه كلاما يوازنه أو يقاربه، فكل بكل مقابل وبعض ببعض معارض وحسبك من قبيح ما يلزم من طريقتهم أنا إذا جرينا على ما قالوه وألزمنا الناس بما ذكروه لزم من ذلك تكفير العوام جميعا لأنهم لا يعرفون إلا الاتباع المجرد ولو عرض عليهم هذا الطريق ما فهمه أكثرهم فضلا عن أن يصير منهم صاحب نظر، وإنما غاية توحيدهم التزام ما وجدوا عليه أئمتهم في عقائد الدين والعض عليها بالنواجذ والمواظبة على وظائف العبادات وملازمة الأذكار بقلوب سليمة طاهرة عن الشبه والشكوك فتراهم لا يحيدون عما اعتقدوه ولو قطعوا إربا إربا، فهنيئا لهم هذا اليقين وطوبى لهم هذه السلامة فإذا كفر هؤلاء وهم السواد الأعظم وجمهور الأمة فما هذا إلا طي بساط الإسلام وهدم منار الدين والله المستعان.

(13/507)


47 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ

(13/507)


التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا وَأُعْطِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ وَأُعْطِيتُمْ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ يُقَالُ يُتْلَى يُقْرَأُ حَسَنُ التِّلاَوَةِ حَسَنُ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ لاَ يَمَسُّهُ لاَ يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلاَّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ وَلاَ يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلاَّ الْمُوقِنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسْلاَمَ وَالإِيمَانَ وَالصَّلاَةَ عَمَلًا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِبِلاَلٍ أَخْبِرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ قَالَ مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ إِلاَّ صَلَّيْتُ وَسُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ الْجِهَادُ ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ
7533 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنْ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صُلِّيَتْ الْعَصْرُ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِيتُمْ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ هَؤُلاَءِ أَقَلُّ مِنَّا عَمَلًا وَأَكْثَرُ أَجْرًا قَالَ اللَّهُ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا قَالُوا لاَ قَالَ فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ
قوله: "باب قول الله تعالى قل فأتوا بالتوراة فاتلوها" مراده بهذه الترجمة أن يبين أن المراد بالتلاوة القراءة وقد فسرت التلاوة بالعمل والعمل من فعل العامل وقال في كتاب خلق أفعال العباد ذكر صلى الله عليه وسلم أن بعضهم يزيد على بعض في القراءة وبعضهم ينقص فهم يتفاضلون في التلاوة بالكثرة والقلة وأما المتلو وهو القرآن فإنه ليس فيه زيادة ولا نقصان، ويقال فلان حسن القراءة ورديء القراءة ولا يقال حسن القرآن ولا رديء القرآن، وإنما يسند إلى العباد القراءة لا القرآن لأن القرآن كلام الرب سبحانه وتعالى والقراءة فعل العبد، ولا يخفى هذا إلا على من لم يوفق ثم قال تقول قرأت بقراءة عاصم وقراءتك على قراءة عاصم، ولو أن عاصما حلف أن لا يقرأ اليوم ثم قرأت أنت على قراءته لم يحنث هو قال وقال أحمد لا تعجبني قراءة حمزة، قال البخاري ولا يقال لا يعجبني القرآن فظهر افتراقهما. قوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أهل التوراة التوراة إلخ" وصله في آخر هذا الباب بلفظ: "أوتي " في الموضعين و " أوتيتم " وقد مضى في اللفظ المعلق أعطى وأعطيتم في باب المشيئة والإرادة في أول " كتاب التوحيد". قوله: "وقال أبو رزين" براء ثم زاي بوزن عظيم هو مسعود بن مالك الأسدي الكوفي من كبار التابعين. قوله: "يتلونه حق تلاوته يعملون به حق عمله" كذا لأبي ذر ولغيره يتلونه: يتبعونه ويعملون به حق عمله، وهذا وصله سفيان الثوري في تفسيره من رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عنه عن منصور بن المعتمر عن أبي رزين في قوله تعالى :{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال يتبعونه حق اتباعه ويعملون به حق عمله، قال ابن التين وافق أبا رزين عكرمة واستشهد بقوله تعالى

(13/508)


{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} أي تبعها. وقال الشاعر " قد جعلت دلوي تستتليني " وقال قتادة هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا بكتاب الله وعملوا بما فيه. قوله: "يقال يتلى: يقرأ" هو كلام أبي عبيدة في كتاب المجاز في قوله تعالى :{إنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } يقرأ عليهم. وفي قوله تعالى :{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} ما كنت تقرأ كتابا قبل القرآن. قوله: "حسن التلاوة: حسن القراءة للقرآن" قال الراغب التلاوة الاتباع وهي تقع بالجسم تارة وتارة بالاقتداء في الحكم وتارة بالقراءة وتدبر المعنى والتلاوة في عرف الشرع تختص باتباع كتب الله تعالى المنزلة تارة بالقراءة وتارة بامتثال ما فيه من أمر ونهى وهي أعم من القراءة فكل قراءة تلاوة من غير عكس. قوله: "لا يمسه: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن ولا يحمله بحقه إلا الموقن" وفي رواية المستملي: "المؤمن". "لقوله تعالى {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} وحاصل هذا التفسير أن معنى لا يمس القرآن لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به وأيقن بأنه من عند الله فهو المطهر من الكفر ولا يحمله بحقه إلا المطهر من الجهل والشك لا الغافل عنه الذي لا يعمل فيكون كالحمار الذي يحمل ما لا يدريه. قوله: "وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والصلاة عملا" أما تسميته صلى الله عليه وسلم الإسلام عملا فاستنبطه المصنف من حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لجبريل حين سأله عن الإيمان: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ثم قال ما الإسلام؟ قال تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، ثم ساقه من حديث ابن عمر عن عمر بلفظ فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال أن تسلم وجهك لله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت الحديث، وساقه من حديث أنس بنحوه قال فسمى الإيمان والإسلام والإحسان والصلاة بقراءتها وما فيها من حركات الركوع والسجود فعلا انتهى، والحديث الأول أسنده في " كتاب الإيمان " عن أبي هريرة، والثاني أخرجه مسلم، وأما تسمية الإيمان عملا فهو في الحديث المعلق في الباب: أي العمل أفضل؟ قال إيمان بالله الحديث، وقد أعاده في باب: والله خلقكم وما تعملون، وأما تسمية الصلاة عملا فهو في الباب الذي يليه كما سيأتي بيانه. قوله: "وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لبلال إلخ" تقدم موصولا مشروحا في مناقب بلال من مناقب الصحابة رضي الله عنهم، ودخوله فيه ظاهر من حيث إن الصلاة لا بد فيها من القراءة. قوله: "وسئل أي العمل أفضل؟ قال إيمان بالله ورسوله ثم الجهاد ثم حج مبرور" وهو حديث وصله في " كتاب الإيمان " وفي الحج من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وأورده في كتاب خلق أفعال العباد من وجهين آخرين عن الزهري ومن وجهين آخرين عن إبراهيم بن سعد، وأورده فيه من طريق أبي جعفر عن أبي هريرة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول أفضل الأعمال عند الله إيمان لا شك فيه الحديث، وهو أصرح في مراده لكن ليس سنده على شرطه في الصحيح، وقد أخرجه أحمد والدارمي وصححه ابن حبان وأخرج البخاري فيه أيضا من حديث عبد الله بن حبشي بضم المهملة وسكون الموحدة بعدها معجمة وياء كياء النسب مثل حديث أبي جعفر عن أبي هريرة وهو عند أحمد والدارمي، وأورد فيه حديث أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال خير قال: إيمان بالله وجهاد في سبيله ، وقد تقدم في العتق، وحديث عائشة نحو حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وهو عند أحمد بمعناه، وحديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال إيمان بالله وتصديق بكتابه ، قال فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان والتصديق والجهاد والحج عملا، ثم أورد حديث معاذ قلت: يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله، قال فبين أن ذكر الله تعالى هو

(13/509)


العمل، ثم ذكر حديث: إنما بقاؤكم فيمن سلف من الأم، أي زمن بقائكم بالنسبة إلى زمن الأمم السالفة، وقد تقدم في مواقيت الصلاة مشروحا وأحد طرفي التشبيه محذوف والمراد باقي النهار. و " عبدان " شيخه هو عبد الله بن عثمان " وعبد الله " هو ابن المبارك و " يونس " هو ابن يزيد و " سالم " هو ابن عبد الله بن عمر، وقوله فيه: "حتى غربت الشمس " في رواية الكشميهني: "حتى غروب الشمس " وقوله: "هل ظلمتكم من حقكم من شيء " في رواية الكشميهني: "شيئا " قال ابن بطال معنى هذا الباب كالذي قبله أن كل ما ينشئه الإنسان مما يؤمر به من صلاة أو حج أو جهاد وسائر الشرائع عمل يجازي على فعله ويعاقب على تركه إن أنفذ الوعيد انتهى، وليس غرض البخاري هنا بيان ما يتعلق بالوعيد بل ما أشرت إليه قبل، وتشاغل ابن التين ببعض ما يتعلق بلفظ حديث ابن عمر فنقل عن الداودي أنه أنكر قوله في الحديث أنهم أعطوا قيراطا وتمسك بما في حديث أبي موسى أنهم قالوا لا حاجة لنا في أجرك، ثم قال لعل هذا في طائفة أخرى وهم من آمن بنبيه قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا الأخير هو المعتمد وقد أوضحته بشواهده في كتاب المواقيت وفي تشاغل من شرح هذا الكتاب بمثل هذا هنا إعراض عن مقصود المصنف هنا، وحق الشارح بيان مقاصد المصنف تقريرا وإنكارا وبالله المستعان

(13/510)


48 - باب وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاَةَ عَمَلًا وَقَالَ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
7534 - حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْوَلِيدِ ح و حَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَسَدِيُّ أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
قول "باب" كذا لهم بغير ترجمة وهو كالفصل من الباب الذي قبله وهو ظاهر. قوله: "وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملا وقال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" أما التعليق الأول فمذكور في حديث ابن مسعود في الباب، وأما الثاني فمضى في كتاب الصلاة من حديث عبادة بن الصامت. قوله: "حدثني سليمان" هو ابن حرب. قوله: "عن الوليد وحدثني عباد" أما " الوليد " فهو ابن العيزار المذكور في السند الثاني، والقائل " وحدثني عباد " هو البخاري وعباد شيخه هذا مذكور بالرفض ولكنه موصوف بالصدق وليس له عند البخاري إلا هذا الحديث الواحد وساقه على لفظه، وقد تقدم لفظ شعبة في باب فضل الصلاة لوقتها في أبواب المواقيت من " كتاب الصلاة " وفيه: "ثم أي ثم أي " في الموضعين وأوله سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله وعرف منه تسمية المبهم في هذه الرواية حيث قال فيها إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فيحتمل أن يكون الراوي حدث به بالمعنى فأبهم السائل ذهولا عن أنه الراوي كما حذف من صورة السؤال الترتيب في قوله قلت: ثم أي ويحتمل أن يكون ابن مسعود حدث به على الوجهين والأول أقرب و " أبو عمرو الشيباني " شيخ الوليد بن العيزار هو سعد بن إياس أحد كبار التابعين و " الشيباني " الراوي عن العيزار هو أبو إسحاق الكوفي واسمه سليمان وهو تابعي صغير، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق ورجال سنده كلهم كوفيون، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أحمد بن إبراهيم الموصلي عن عباد بن العوام فقال في روايته عن أبي إسحاق يعني الشيباني. وقال فيه سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أو قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم

(13/510)


عن الأعمال أيها أفضل؟ فهذا مما يؤيد الاحتمال الأول وأن الراوي لم يضبط اللفظ، وشعبة أتقن من الشيباني وأضبط لألفاظ الحديث فروايته هي المعتمدة والله أعلم.

(13/511)


49 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} هَلُوعًا ضَجُورًا
قوله: "باب قول الله تعالى :{إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا} سقط لأبي ذر لفظ: "قول الله تعالى " وزاد في روايته: "هلوعا: ضجورا " وهو تفسير أبي عبيدة، قال خلق هلوعا: أي ضجورا، والهلاع مصدر وهو أشد الجزع.
7535 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالٌ فَأَعْطَى قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَتَبُوا فَقَالَ إِنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ فَقَالَ عَمْرٌو مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ
قوله: "عن الحسن" هو البصري والسند كله بصريون، و " عمرو بن تغلب، بالمثناة المفتوحة والمعجمة الساكنة واللام المكسورة بعدها موحدة هو النمري بفتح الميم والنون والتخفيف، وقد تقدم شرح حديثه هذا في فرض الخمس، والغرض منه قوله فيه: "لما في قلوبهم من الجزع والهلع " قال ابن بطال مراده في هذا الباب إثبات خلق الله تعالى للإنسان بأخلاقه من الهلع والصبر والمنع والإعطاء، وقد استثنى الله المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون لا يضجرون بتكررها عليهم ولا يمنعون حق الله في أموالهم لأنهم يحتسبون بها الثواب ويكسبون بها التجارة الرابحة في الآخرة، وهذا يفهم منه أن من ادعى لنفسه قدرة وحولا بالإمساك والشح والضجر من الفقر وقلة الصبر لقدر الله تعالى ليس بعالم ولا عابد، لأن من ادعى أن له قدرة على نفع نفسه أو دفع الضر عنها فقد افترى انتهى ملخصا، وأوله كاف في المراد فإن قصد البخاري أن الصفات المذكورة بخلق الله تعالى في الإنسان لا أن الإنسان يخلقها بفعله، وفيه أن الرزق في الدنيا ليس على قدر المرزوق في الآخرة، وأما في الدنيا فإنما تقع العطية والمنع بحسب السياسة الدنيوية، فكان صلى الله عليه وسلم يعطي من يخشى عليه الجزع والهلع لو منع، ويمنع من يثق بصبره واحتماله وقناعته بثواب الآخرة، وفيه أن البشر جبلوا على حب العطاء وبغض المنع والإسراع إلى إنكار ذلك قبل الفكرة في عاقبته إلا من شاء الله، وفيه أن المنع قد يكون خيرا للممنوع كما قال تعالى :{وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} ومن ثم قال الصحابي " ما أحب أن لي بتلك الكلمة حمر النعم " والباء في قوله: "بتلك " للبدلية أي ما أحب أن لي بدل كلمته النعم الحمر لأن الصفة المذكورة تدل على قوة إيمانه المفضي به لدخول الجنة وثواب الآخرة خير وأبقى، وفيه استئلاف من يخشى جزعه أو يرجى بسبب إعطائه طاعة من يتبعه والاعتذار إلى من ظن ظنا والأمر بخلافه

(13/511)


50 - باب ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ
7536 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْهَرَوِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ

(13/511)


51 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا تَرْجُمَانَهُ ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ وَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْآيَةَ
7542 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ الْآيَةَ
7543 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ الْيَهُودِ قَدْ زَنَيَا فَقَالَ لِلْيَهُودِ مَا تَصْنَعُونَ بِهِمَا قَالُوا نُسَخِّمُ وُجُوهَهُمَا وَنُخْزِيهِمَا قَالَ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَجَاءُوا فَقَالُوا لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَرْضَوْنَ يَا أَعْوَرُ اقْرَأْ فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ قَالَ ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهِ آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ عَلَيْهِمَا الرَّجْمَ وَلَكِنَّا نُكَاتِمُهُ بَيْنَنَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا فَرَأَيْتُهُ يُجَانِئُ عَلَيْهَا الْحِجَارَةَ
قوله: "باب ما يجوز من تفسير التوراة وكتب الله" كذا لأبي ذر ولغيره: "من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله تعالى " وكل منهما من عطف العام على الخاص لأن التوراة من كتب الله. قوله: "بالعربية وغيرها" أي من اللغات، في رواية الكشميهني: "بالعبرانية وغيرها " ولكل وجه، والحاصل أن الذي بالعربية مثلا يجوز التعبير عنه بالعبرانية وبالعكس، وهل يتقيد الجواز بمن لا يفقه ذلك اللسان أو لا الأول قول الأكثر. قوله: {لقول الله تعالى قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} وجه الدلالة أن التوراة بالعبرانية، وقد أمر الله تعالى أن تتلى على العرب وهم لا يعرفون العبرانية فقضية ذلك الإذن في التعبير عنها بالعربية ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث. الحديث الأول: قوله: "وقال ابن عباس أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه" في رواية الكشميهني: "بترجمانه " "ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" هذا طرف من الحديث الطويل الذي تقدم موصولا في بدء الوحي وفي عدة مواضع، وتقدم شرحه في أول الكتاب وفي تفسير سورة آل عمران ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل باللسان العربي، ولسان هرقل رومي، ففيه إشعار بأنه اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب على من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه، والمترجم المذكور هو الترجمان وكذا وقع، واستدل البخاري في كتاب خلف أفعال العباد بقصة هرقل لمطلوبه أن القراءة فعل القارئ فقال قد كتب النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى قيصر: بسم الله الرحمن الرحيم وقرأه ترجمان قيصر على قيصر وأصحابه، ولا يشك في قراءة الكفار أنها أعمالهم، وأما المقروء فهو كلام الله تعالى

(13/516)


ليس بمخلوق ومن حلف بأصوات الكفار ونداء المشركين لم يكن عليه يمين، بخلاف ما لو حلف بالقرآن. حديث أبي هريرة " حدثنا محمد بن بشار " ذكره بهذا الإسناد في تفسير البقرة، وفي باب لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء من " كتاب الاعتصام " وهنا وهو من نوادر ما وقع له فإنه لا يكاد يخرج الحديث في مكانين فضلا عن ثلاثة بسياق واحد بل يتصرف في المتن بالاختصار والاقتصار وبالتمام، وفي السند بالوصل والتعليق من جميع أوجهه، وفي الرواة بسياقه عن راو غير الآخر فبحسب ذلك لا يكون مكررا على الإطلاق ويندر له ما وقع هنا وإنما وقع ذلك غالبا حيث يكون المتن قصيرا والسند فردا، وقد سبق الكلام على بعضه في تفسير سورة البقرة قال ابن بطال: استدل بهذا الحديث من قال تجوز قراءة القرآن بالفارسية، وأيد ذلك بأن الله تعالى حكى قول الأنبياء عليهم السلام كنوح عليه السلام وغيره ممن ليس عربيا بلسان القرآن وهو عربي مبين وبقوله تعالى :{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} والإنذار إنما يكون بما يفهمونه من لسانهم، فقراءة أهل كل لغة بلسانهم حتى يقع لهم الإنذار به، قال: وأجاب من منع بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما نطقوا إلا بما حكى الله عنهم في القرآن سلمنا، ولكن يجوز أن يحكى الله قولهم بلسان العرب ثم يتعبدنا بتلاوته على ما أنزله، ثم نقل الاختلاف في إجزاء صلاة من قرأ فيها بالفارسي ومن أجاز ذلك عند العجز دون الإمكان وعمم وأطال في ذلك، والذي يظهر التفصيل فإن كان القارئ قادرا على التلاوة باللسان العربي فلا يجوز له العدول عنه ولا تجزئ صلاته وإن كان عاجزا وإن كان خارج الصلاة فلا يمتنع عليه القراءة بلسانه لأنه معذور وبه حاجة إلى حفظ ما يجب عليه فعلا وتركا وإن كان داخل الصلاة فقد جعل الشارع له بدلا وهو الذكر وكل كلمة من الذكر لا يعجز عن النطق بها من ليس بعربي فيقولها ويكررها فتجزئ عن الذي يجب عليه قراءته في الصلاة حتى يتعلم، وعلى هذا فمن دخل في الإسلام أو أراد الدخول فيه فقرئ عليه القرآن فلم يفهمه فلا بأس أن يعرب له لتعريف أحكامه أو لتقوم عليه الحجة فيدخل فيه، وأما الاستدلال لهذه المسألة بهذا الحديث وهو قوله: "إذا حدثكم أهل الكتاب " فهو وإن كان ظاهره أن ذلك بلسانهم فيحتمل أن يكون بلسان العرب فلا يكون نصا في الدلالة، ثم المراد بإيراد هذا الحديث في هذا الباب ليس ما تشاغل به ابن بطال وإنما المراد منه كما قال البيهقي فيه دليل على أن أهل الكتاب إن صدقوا فيما فسروا من كتابهم بالعربية كان ذلك مما أنزل إليهم على طريق التعبير عما أنزل وكلام الله واحد لا يختلف باختلاف اللغات، فبأي لسان قرئ فهو كلام الله، ثم أسند عن مجاهد في قوله تعالى :{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} يعني ومن أسلم من العجم وغيرهم، قال البيهقي وقد يكون لا يعرف العربية فإذا بلغه معناه بلسانه فهو له نذير، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في أول الباب الذي قبل هذا بثلاثة أبواب. حديث ابن عمر في رجم اليهوديين وقد تقدم شرحه في " كتاب الحدود " و " إسماعيل " في السند هو ابن إبراهيم بن مقسم المعروف بابن علية و " أيوب " هو السختياني، وقوله فيه: "فقالوا لرجل ممن يرضون أعور اقرأ:. كذا للكشميهني وهو مجرور بالفتحة صفة رجل. وفي رواية غيره: "يا أعور " وهو بالرفع وقوله: "فوضع يده عليها " أي على آية الرجم، وعند الكشميهني: "عليه " أي على الموضع. قوله: "قال ارفع يدك" كذا أبهم القائل وتقدم أنه عبد الله بن سلام، والواضع هو عبد الله بن صوريا، وقوله: "نتكاتمه " أي الرجم، وعند الكشميهني: "نتكاتمها " أي الآية.

(13/517)


52 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ
7544 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ
7545 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ قَالَتْ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يُبَرِّئُنِي وَلَكِنِّي وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا
7546 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ أُرَاهُ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ
7547 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَارِيًا بِمَكَّةَ وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَإِذَا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}
7548 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ لِلصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7549 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم الماهر" أي الحاذق والمراد به هنا جودة التلاوة مع حسن الحفظ. قوله: "مع سفرة الكرام البررة" كذا لأبي ذر إلا عن الكشميهني فقال: "مع السفرة " وهو كذلك للأكثر، والأول من إضافة الموصوف إلى صفته والمراد بالسفرة الكتبة جمع سافر مثل كاتب وزنه ومعناه، وهم هنا الذين ينقلون من اللوح المحفوظ فوصفوا بالكرام أي المكرمين عند الله تعالى، والبررة أي المطيعين المطهرين من الذنوب وأصل الحديث تقدم مسندا في التفسير لكن بلفظ: مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ، وأخرجه

(13/518)


مسلم بلفظه من طريق زرارة بن أبي أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة مرفوعا: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة " قال القرطبي الماهر: الحاذق وأصله الحذق بالسباحة، قاله الهروي والمراد بالمهارة بالقرآن جودة الحفظ وجودة التلاوة من غير تردد فيه لكونه يسره الله تعالى عليه كما يسره على الملائكة فكان مثلها في الحفظ والدرجة. قوله: "وزينوا القرآن بأصواتكم" هذا الحديث من الأحاديث التي علقها البخاري ولم يصلها في موضع آخر من كتابه، وقد أخرجه في كتاب خلق أفعال العباد من رواية عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بهذا، وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه ابن حبان في صحيحه، وعن ابن عباس أخرجه الدار قطني في الإفراد بسند حسن وعن عبد الرحمن بن عوف أخرجه البزار بسند ضعيف، وعن ابن مسعود وقع لنا في الأول من فوائد عثمان بن السماك ولكنه موقوف، قال ابن بطال: المراد بقوله: "زينوا القرآن بأصواتكم " المد والترتيل والمهارة في القرآن جودة التلاوة بجودة الحفظ فلا يتلعثم ولا يتشكك وتكون قراءته سهلة بتيسير الله تعالى كما يسره على الكرام البررة قال: ولعل البخاري أشار بأحاديث هذا الباب إلى أن الماهر بالقرآن هو الحافظ له مع حسن الصوت به والجهر به بصوت مطرب بحيث يلتذ سامعه انتهى، والذي قصده البخاري إثبات كون التلاوة فعل العبد فإنها يدخلها التزيين والتحسين والتطريب، وقد يقع بأضداد ذلك وكل ذلك دال على المراد، وقد أشار إلى ذلك ابن المنير فقال ظن الشارح أن غرض البخاري جواز قراءة القرآن بتحسين الصوت وليس كذلك، وإنما غرضه الإشارة إلى ما تقدم من وصف التلاوة بالتحسين والترجيع والخفض والرفع ومقارنة الأحوال البشرية كقول عائشة " يقرأ القرآن في حجري وأنا حائض " فكل ذلك يحقق أن التلاوة فعل القارئ وتتصف بما تتصف به الأفعال ويتعلق بالظروف الزمانية والمكانية انتهى، ويؤيده ما قال في كتاب خلق أفعال العباد بعد أن أخرج حديث: "زينوا القرآن بأصواتكم " من حديث البراء وعلقه من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما، وذكر حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا موسى لقد أوتيت من مزامير آل داود، وأخرجه من حديث البراء بلفظ سمع أبا موسى يقرأ فقال كأن هذا من أصوات آل داود، ثم قال: ولا ريب في تخليق مزامير آل داود وندائهم لقوله تعالى :{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ثم ذكر حديث عائشة " الماهر بالقرآن مع السفرة " الحديث، وحديث أنس أنه سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كان يمد مدا، وحديث قطبة بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الفجر {والنخل باسقات لها طلع نضيد} يمد بها صوته ثم قال فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أصوات الخلق وقراءتهم مختلفة بعضها أحسن من بعض وأزين وأحلى وأرتل وأمهر وأمد وغير ذلك، ثم ذكر فيه ستة أحاديث. قوله: "ابن أبي حازم" هو عبد العزيز بن سلمة بن دينار و " يزيد " شيخه هو ابن الهاد، و " محمد بن إبراهيم " هو التيمي، وقد تقدمت الإشارة إليه في باب: وأسروا قولكم أو اجهروا به من " كتاب التوحيد". حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك، ذكر منه طرفا من رواية يحيى بن بكير عن الليث عن " يونس " هو ابن يزيد عن ابن شهاب عن مشايخه وفيه: "ولكن والله " وفي رواية الكشميهني: "ولكني والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى " فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} العشر الآيات كلها، هكذا اقتصر على هذا القدر منه وتقدم بطوله في تفسير سورة النور مع شرحه، وقد أورد هذا القدر من هذا الحديث في باب قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا

(13/519)


كَلامَ اللَّهِ} من وجه آخر عن يونس، وذكره في خلق أفعال العباد من طرق أخرى عن ابن شهاب، ثم قال فبينت رضي الله عنها أن الإنذار من الله وأن الناس يتلونه، ثم ذكر عدة آيات فيها ذكر التلاوة، ثم قال فبين سبحانه وتعالى أن التلاوة من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وأن الوحي من الله سبحانه وتعالى. قوله: "يقرأ في العشاء والتين" في رواية الكشميهني: "بالتين فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه " وقد تقدم شرحه في " كتاب الصلاة " ومراده منه هنا بيان اختلاف الأصوات بالقراءة من جهة النغم. حديث ابن عباس في نزول قوله تعالى :{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} وقد تقدم في تفسير سبحان، وتقدم قريبا في باب قوله تعالى :{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} ومراده منه هنا بيان اختلاف الأصوات بالجهر والإسرار. حديث أبي سعيد : لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له الحديث، وقد تقدم شرحه في " كتاب الأذان " ومراده منه هنا بيان اختلاف الأصوات بالرفع والخفض وقال الكرماني وجه مناسبته أن رفع الأصوات بالقرآن أحق بالشهادة له وأولى. قوله: "سفيان" هو الثوري و " منصور " هو ابن عبد الرحمن الشيبي، وأمه هي صفية بنت شيبة من صغار الصحابة. قوله: "يقرأ القرآن ورأسه في حجري وأنا حائض" تقدم شرحه في " كتاب الحيض " وتقدم بيان المراد به من كلام ابن المنير ومنه يظهر وجه مناسبة ذكره في هذا الباب.

(13/520)


53 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ}
7550 - حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب حدثني عروة أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القاري حدثاه أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ قال أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت كذبت أقرأنيها ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال أرسله اقرأ يا هشام فقرأ القراءة التي سمعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أنزلت ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ يا عمر فقرأت التي أقرأني فقال كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه
قوله: "باب قول الله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر منه} كذا للكشميهني وللباقين " من القرآن " وكل من اللفظين في السورة والمراد بالقراءة الصلاة لأن القراءة بعض أركانها ذكر فيه حديث عمر في قصته مع هشام بن حكيم في قراءة سورة الفرقان، وقد تقدم شرحه مستوفى في فضائل القرآن. وقوله في آخره: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه " الضمير للقرآن والمراد بالمتيسر منه في الحديث غير المراد به في الآية، لأن المراد بالمتيسر في الآية بالنسبة للقلة والكثرة، والمراد به في الحديث بالنسبة إلى ما يستحضره القارئ من القرآن، فالأول

(13/520)


من الكمية، والثاني من الكيفية، ومناسبة هذه الترجمة وحديثها للأبواب التي قبلها من جهة التفاوت في الكيفية ومن جهة جواز نسبة القراءة للقارئ.

(13/521)


54 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ يُقَالُ مُيَسَّرٌ مُهَيَّأٌ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ بِلِسَانِكَ هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ عَلَيْكَ
وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قَالَ هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانَ عَلَيْهِ
7551 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ يَزِيدُ حَدَّثَنِي مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِمْرَانَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ قَالَ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ
7552 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ سَمِعَا سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ قَالُوا أَلاَ نَتَّكِلُ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ
قوله: "باب قول الله تعالى ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" قيل المراد بالذكر الأذكار والاتعاظ وقيل الحفظ وهو مقتضى قول مجاهد. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل ميسر لما خلق له" فذكره موصولا في الباب من حديث علي.
قوله: "وقال مجاهد يسرنا القرآن بلسانك هوناه عليك" في رواية غير أبي ذر " هونا قراءته عليك " وهو بفتح الهاء والواو وتشديد النون من التهوين، وقد وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قال هوناه، قال ابن بطال تيسير القرآن: تسهيله على لسان القارئ حتى يسارع إلى قراءته فربما سبق لسانه في القراءة فيجاوز الحرف إلى ما بعده ويحذف الكلمة حرصا على ما بعدها انتهى، وفي دخول هذا في المراد نظر كبير. قوله: "وقال مطر الوراق {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} قال هل من طالب علم فيعان عليه وقع هذا التعليق عند أبي ذر عن الكشميهني وحده وثبت أيضا للجرجاني عن الفربري ووصله الفريابي عن ضمرة بن زمعة عن عبد الله بن شوذب عن مطر، وأخرجه أبو بكر بن أبي عاصم في " كتاب العلم " من طريق ضمرة حديث عمران بن حصين " قلت يا رسول الله فيم يعمل العاملون؟ قال كل ميسر لما خلق له " وهو مختصر من حديث سبق في كتاب القدر فيه: "عن عمران قال قال: رجل يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار قال نعم. قال: فلم يعمل العاملون " وقد تقدم شرحه هناك و " يزيد " شيخ عبد الوارث فيه هو المعروف بالرشك، وتقدم هناك من رواية شعبة قال حدثنا يزيد الرشك فذكره. وحديث علي رضي الله عنه وفيه: "وما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار أو من الجنة " وتقدم شرحه هناك أيضا وفيه: "وفي حديث عمران الذي قبله كل ميسر " قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة في شرح حديث أبي سعيد المذكور في باب كلام الله مع أهل

(13/521)


الجنة فيه نداء الله تعالى لأهل الجنة بقرينة جوابهم " بلبيك وسعديك " والمراجعة بقوله: "هل رضيتم " وقولهم " وما لنا لا نرضى " وقوله: "ألا أعطيكم أفضل " وقولهم " يا ربنا وأي شيء أفضل " وقوله: "أحل عليكم رضواني " فإن ذلك كله يدل على أنه سبحانه وتعالى هو الذي كلمهم وكلامه قديم أزلي ميسر بلغة العرب، والنظر في كيفيته ممنوع ولا نقول بالحلول في المحدث وهي الحروف ولا أنه دل عليه وليس بموجود، بل الإيمان بأنه منزل حق ميسر باللغة العربية صدق وبالله التوفيق. قال الكرماني حاصل الكلام أنهم قالوا إذا كان الأمر مقدرا فلنترك المشقة في العمل الذي من أجلها سمي بالتكليف، وحاصل الجواب أن كل من خلق لشيء يسر لعمله فلا مشقة مع التيسير. وقال الخطابي أرادوا أن يتخذوا ما سبق حجة في ترك العمل فأخبرهم أن هنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر: باطن وهو ما اقتضاه حكم الربوبية، وظاهر وهو السمة اللازمة بحق العبودية وهو أمارة للعاقبة فبين لهم أن العمل في العاجل يظهر أثره في الآجل وأن الظاهر لا يترك للباطن. قلت: وكأن مناسبة هذا الباب لما قبله من جهة الاشتراك في لفظ التيسير والله أعلم.

(13/522)


55 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}
قَالَ قَتَادَةُ مَكْتُوبٌ يَسْطُرُونَ يَخُطُّونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ جُمْلَةِ الْكِتَابِ وَأَصْلِهِ مَا يَلْفِظُ مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ كُتِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُكْتَبُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ يُحَرِّفُونَ يُزِيلُونَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ دِرَاسَتُهُمْ تِلاَوَتُهُمْ وَاعِيَةٌ حَافِظَةٌ وَتَعِيَهَا تَحْفَظُهَا وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ بَلَغَ هَذَا الْقُرْآنُ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ
7553 - و قَالَ لِي خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ غَلَبَتْ أَوْ قَالَ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ
7554 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَبَا رَافِعٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ
قوله: "باب قول الله تعالى {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} قال البخاري في خلق أفعال العباد بعد أن ذكر هذه الآية والذي بعدها: قد ذكر الله أن القرآن يحفظ ويسطر، والقرآن الموعي في القلوب المسطور في المصاحف المتلو بالألسنة كلام الله ليس بمخلوق، وأما المداد والورق والجلد فإنه مخلوق. قوله: {والطور وكتاب مسطور} قال قتادة مكتوب" وصله البخاري في خلق أفعال العباد من طريق يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: {والطور وكتاب مسطور } قال المسطور: المكتوب، في {رق منشور}: هو الكتاب، وصله عبيد بن حميد من رواية شيبان بن عبد الرحمن وعبد الرزاق عن معمر كلاهما عن قتادة نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن ابن أبي

(13/522)


نجيح عن مجاهد في قوله: "وكتاب مسطور " قال صحف مكتوبة " في رق منشور " قال في صحف. قوله: "يسطرون: يخطون" أي يكتبون، أورده عبد بن حميد من طريق شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة في قوله: "والقلم وما يسطرون " قال وما يكتبون. قوله: "في أم الكتاب جملة الكتاب وأصله" وصله أبو داود في كتاب الناسخ والمنسوخ من طريق معمر عن قتادة في قوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} قال جملة الكتاب وأصله، وكذا أخرجه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة وعند ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} يقول جملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ وما يكتب وما يبدل. قوله: "ما يلفظ من قول" ما يتكلم من شيء إلا كتب عليه، وصله ابن أبي حاتم من طريق شعيب بن إسحاق عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة والحسن في قوله: "ما يلفظ من قول " قال ما يتكلم به من شيء إلا كتب عليه ومن طريق زائدة بن قدامة عن الأعمش عن مجمع قال: الملك مداده ريقه، وقلمه لسانه. قوله: "وقال ابن عباس يكتب الخير والشر" وصله الطبري وابن أبي حاتم من طريق هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى " ما يلفظ من قول " قال إنما يكتب الخير والشر. وأخرج أيضا من طريق على بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} قال يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله: أكلت شربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر ما كان من خير أو شر وألقى سائره، فذلك قوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وأخرج الطبري هذا من طرق الكلبي عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب بكسر الراء ثم ياء مهموزة وآخره موحدة، والكلبي متروك وأبو صالح لم يدرك جابرا هذا. وأخرج الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة والحسن " ما يلفظ من قول " ما يتكلم به من شيء إلا كتب عليه وكان عكرمة يقول إنما ذلك في الخير والشر. قلت: ويجمع بينهما برواية على بن أبي طلحة المذكورة. قوله: "يحرفون: يزيلون" لم أر هذا موصولا من كلام ابن عباس من وجه ثابت مع أن الذي قبله من كلامه وكذا الذي بعده، وهو قوله: "دراستهم: تلاوتهم " وما بعده. وأخرج جميع ذلك ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقد تقدم في باب قوله: "كل يوم هو في شأن " عن ابن عباس ما يخالف ما ذكر هنا وهو تفسير يحرفون بقوله يزيلون، نعم أخرجه ابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه. وقال أبو عبيدة في كتاب المجاز في قوله يحرفون الكلم عن مواضعه، قال يقلبون ويغيرون. وقال الراغب التحريف الإمالة وتحريف الكلام أن يجعله على حرف من الاحتمال بحيث يمكن حمله على وجهين فأكثر. قوله: "وليس أحد يزيل لفظ كتاب الله من كتب الله عز وجل ولكنهم يحرفونه: يتأولونه عن غير تأويله" في رواية الكشميهني: "يتأولونه على غير تأويله " قال شيخنا ابن الملقن في شرحه هذا الذي قاله أحد القولين في تفسير هذه الآية وهو مختاره - أي البخاري - وقد صرح كثير من أصحابنا بأن اليهود والنصارى بدلوا التوراة والإنجيل وفرعوا على ذلك جواز امتهان أوراقهما وهو يخالف ما قاله البخاري هنا انتهى، وهو كالصريح في أن قوله: "وليس أحد " إلى آخره من كلام البخاري ذيل به تفسير ابن عباس وهو يحتمل أن يكون بقية كلام ابن عباس في تفسير الآية. وقال بعض الشراح المتأخرين اختلف في هذه المسألة على أقوال، أحدها: أنها بدلت كلها وهو مقتضى القول المحكي بجواز الامتهان وهو إفراط، وينبغي حمل إطلاق من أطلقه على الأكثر وإلا فهي مكابرة، والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل، من ذلك قوله

(13/523)


تعالى :{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} الآية، ومن ذلك قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم، ويؤيده قوله تعالى :{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثانيها: أن التبديل وقع ولكن في معظمها وأدلته كثيرة وينبغي حمل الأول عليه، ثالثها: وقع في اليسير منها ومعظمها باق على حاله، ونصره الشيخ تقي الدين بن تيمية في كتابه الرد الصحيح على من بدل دين المسيح، رابعها: إنما وقع التبديل والتغيير في المعاني لا في الألفاظ وهو المذكور هنا، وقد سئل ابن تيمية عن هذه المسألة مجردا فأجاب في فتاويه أن للعلماء في ذلك قولين، واحتج للثاني من أوجه كثيرة منها قوله تعالى :{لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} وهو معارض بقوله تعالى :{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} ولا يتعين الجمع بما ذكر من الحمل على اللفظ في النفي وعلى المعنى في الإثبات لجواز الحمل في النفي على الحكم وفي الإثبات على ما هو أعم من اللفظ والمعنى، ومنها أن نسخ التوراة في الشرق والغرب والجنوب والشمال لا يختلف ومن المحال أن يقع التبديل فيتوارد النسخ بذلك على منهاج واحد، وهذا استدلال عجيب لأنه إذا جاز وقوع التبديل جاز إعدام المبدل والنسخ الموجودة الآن هي التي استقر عليها الأمر عندهم عند التبديل والأخبار بذلك طافحة، أما فيما يتعلق بالتوراة فلأن بختنصر لما غزا بيت المقدس وأهلك بني إسرائيل ومزقهم بين قتيل وأسير وأعدم كتبهم حتى جاء عزيزا فأملاها عليهم، وأما فيما يتعلق بالإنجيل فإن الروم لما دخلوا في النصرانية جمع ملكهم أكابرهم على ما في الإنجيل الذي بأيديهم وتحريفهم المعاني لا ينكر بل هو موجود عندهم بكثرة وإنما النزاع هل حرفت الألفاظ أو لا، وقد وجد في الكتابين ما لا يجوز أن يكون بهذه الألفاظ من عند الله عز وجل أصلا، وقد سرد أبو محمد بن حزم في كتابه الفصل في الملل والنحل أشياء كثيرة من هذا الجنس، من ذلك أنه ذكر أن في أول فصل في أول ورقة من توراة اليهود التي عند رهبانهم وقرائهم وعاناتهم وعيسويهم حيث كانوا في المشارق والمغارب لا يختلفون فيها على صفة واحدة لو رام أحد أن يزيد فيها لفظة أو ينقص منها لفظة لافتضح عندهم متفقا عليها عندهم إلى الأحبار الهارونية الذين كانوا قبل الخراب الثاني يذكرون أنها مبلغة من أولئك إلى عزرا الهاروني، وأن الله تعالى قال لما أكل آدم من الشجرة هذا آدم قد صار كواحد منا في معرفة الخير والشر وأن السحرة عملوا لفرعون نظير ما أرسل عليهم من الدم والضفادع وأنهم عجزوا عن البعوض وأن ابنتي لوط بعد هلاك قومه ضاجعت كل منهما أباها بعد أن سقته الخمر فوطئ كلا منهما فحملتا منه إلى غير ذلك من الأمور المنكرة المستبشعة، وذكر في مواضع أخرى أن التبديل وقع فيها إلى أن أعدمت فأملاها عزرا المذكور على ما هي عليه الآن ثم ساق أشياء من نص التوراة التي بأيديهم الآن الكذب فيها ظاهر جدا ثم قال: وبلغنا عن قوم من المسلمين ينكرون أن التوراة والإنجيل اللتين بأيدي اليهود والنصارى محرفان والحامل لهم على ذلك قلة مبالاتهم بنصوص القرآن والسنة وقد اشتملا على أنهم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} و "يقولون على الله الكذب وهم يعلمون، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون"، ويقال لهؤلاء المنكرين قد قال الله تعالى في صفة الصحابة {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} إلى آخر السورة، وليس بأيدي اليهود والنصارى شيء من هذا ويقال لمن ادعى أن نقلهم نقل متواتر قد اتفقوا على أن لا ذكر لمحمد صلى الله عليه وسلم في الكتابين، فإن صدقتموهم فيما بأيديهم لكونه نقل المتواتر فصدقوهم فيما زعموه أن لا ذكر لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وإلا فلا يجوز تصديق

(13/524)


بعض وتكذيب بعض مع مجيئهما مجيئا واحد انتهى كلامه وفيه فوائد. وقال الشيخ بدر الدين الزركشي: اغتر بعض المتأخرين بهذا - يعني بما قال البخاري - فقال إن في تحريف التوراة خلافا هل هو في اللفظ والمعنى أو في المعنى فقط، ومال إلى الثاني ورأى جواز مطالعتها وهو قول باطل، ولا خلاف أنهم حرفوا وبدلوا، والاشتغال بنظرها وكتابتها لا يجوز بالإجماع، وقد غضب صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة. وقال: لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ولولا أنه معصية ما غضب فيه. قلت: إن ثبت الإجماع فلا كلام فيه وقد قيده بالاشتغال بكتابتها ونظرها فإن أراد من يتشاغل بذلك دون غيره فلا يحصل المطلوب لأنه يفهم أنه لو تشاغل بذلك مع تشاغله بغيره جاز وإن أراد مطلق التشاغل فهو محل النظر، وفي وصفه القول المذكور بالبطلان مع ما تقدم نظر أيضا، فقد نسب لوهب بن منبه وهو من أعلم الناس بالتوراة، ونسب أيضا لابن عباس ترجمان القرآن وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر والتشاغل برد أدلة المخالف التي حكيتها، وفي استدلاله على عدم الجواز الذي ادعى الإجماع فيه بقصة عمر نظر أيضا سأذكره بعد تخريج الحديث المذكور، وقد أخرجه أحمد والبزار واللفظ له من حديث جابر قال: نسخ عمر كتابا من التوراة بالعربية فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير. فقال له رجل من الأنصار: ويحك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني " وفي سنده جابر الجعفي وهو ضعيف، ولأحمد أيضا وأبي يعلى من وجه آخر عن جابر أن عمر أتى بكتاب أصابه من بعض كتب أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فذكر نحوه دون قول الأنصاري وفيه: "والذي نفسي بيده لو أن موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " وفي سنده مجالد بن سعيد وهو لين، وأخرجه الطبراني بسند فيه مجهول ومختلف فيه عن أبي الدرداء " جاء عمر بجوامع من التوراة فذكر بنحوه " وسمي الأنصاري الذي خاطب عمر عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان، وفيه: "لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموه لضللتم ضلالا بعيدا " وأخرجه أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن ثابت قال: "جاء عمر فقال يا رسول الله إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحديث وفيه: "والذي نفس محمد بيده لو أصبح موسى فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم " وأخرج أبو يعلى من طريق خالد بن عرفطة قال كنت عند عمر فجاءه رجل من عبد القيس فضربه بعصا معه فقال ما لي يا أمير المؤمنين؟ قال أنت الذي نسخت كتاب دانيال قال مرني بأمرك قال انطلق فامحه فلئن بلغني أنك قرأته أو أقرأته لأنهكنك عقوبة، ثم قال انطلقت فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ثم جئت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا قلت كتاب انتسخته لنزداد به علما إلى علمنا فغصب حتى احمرت وجنتاه فذكر قصة فيها: يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي الكلام اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا، وفي سنده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف، وهذه جميع طرق هذا الحديث وهي وإن لم يكن فيها ما يحتج به لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلا، والذي يظهر أن كراهية ذلك للتنزيه لا للتحريم والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصر من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيجوز له ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف، ويدل على ذلك نقل الأئمة قديما وحديثا من التوراة وإلزامهم اليهود

(13/525)


بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم بما يستخرجونه من كتابهم، ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه وتواردوا عليه وأما استدلاله للتحريم بما ورد من الغضب ودعواه أنه لو لم يكن معصية ما غضب منه فهو معترض بأنه قد يغضب من فعل المكروه ومن فعل ما هو خلاف الأولى إذا صدر ممن لا يليق منه ذلك، كغضبه من تطويل معاذ صلاة الصبح بالقراءة، وقد يغضب ممن يقع منه تقصير في فهم الأمر الواضح مثل الذي سأل عن لقطة الإبل، وقد تقدم في " كتاب العلم " الغضب في الموعظة، ومضى في " كتاب الأدب " ما يجوز من الغضب. قوله: "يتأولونه" قال أبو عبيدة وطائفة في قوله تعالى :{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} التأويل التفسير وفرق بينهما آخرون فقال أبو عبيد الهروي التأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر، والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل وحكى صاحب النهاية أن التأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما لا يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، وقيل التأويل إبداء احتمال لفظ معتضد بدليل خارج عنه، ومثل بعضهم بقوله تعالى :{لا رَيْبَ فِيهِ} قال من قال لا شك فيه فهو التفسير، ومن قال لأنه حق في نفسه لا يقبل الشك فهو التأويل، ومراد البخاري بقوله: "يتأولونه " أنهم يحرفون المراد بضرب من التأويل كما لو كانت الكلمة بالعبرانية تحتمل معنيين قريب وبعيد وكان المراد القريب فإنهم يحملونها على البعيد ونحو ذلك. قوله: "دراستهم: تلاوتهم" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وكذا قوله تعالى :{وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قال حافظة، قيل النكتة في إفراد الأذن الإشارة بقلة من يعي من الناس، وورد في خبر ضعيف أن المراد بالأذن في هذه الآية خاص وهي أذن علي، أخرجه الثعلبي من مرسل عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، وفي سنده أبو حمزة الثمالي بضم المثلثة وتخفيف الميم. وأخرج سعيد بن منصور والطبري من مرسل مكحول نحوه. قوله: {وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به} يعني أهل مكة " ومن بلغ هذا القرآن فهو له نذير " وصله ابن أبي حاتم بالسند المذكور إلى ابن عباس. وقال ابن التين قوله: "ومن بلغ " أي بلغه فحذف الهاء، وقيل المعنى: ومن بلغ الحلم، والأول هو المشهور. وأخرج ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الله بن داود الخريبي بخاء معجمة ثم راء ثم موحدة مصغر قال ما في القرآن آية أشد على أصحاب جهم من هذه الآية {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فمن بلغه القرآن فكأنما سمعه من الله تعالى. قوله: "سمعت أبي" هو سليمان بن طرخان التيمي. قوله: "عن قتادة عن أبي رافع" كذا وقع بالعنعنة وفي السند الذي بعده التصريح بالتحديث من قتادة وأبي رافع عند مسلم وكذا بالسماع لأبي رافع وأبي هريرة. قوله: "لما قضى الله الخلق" في رواية الكشميهني: "لما خلق". قوله: "غلبت أو قال سبقت" كذا بالشك وفي التي بعدها بالجزم سبقت. قوله: "فهو عنده فوق العرش" تقدم الكلام على قوله: "عنده " في باب ويحذركم الله نفسه، وعلى قوله: "فوق العرش " في باب وكان عرشه على الماء، وتقدم شرح الحديث أيضا والغرض منه الإشارة إلى أن اللوح المحفوظ فوق العرش. قوله: "حدثني محمد بن أبي غالب" في رواية أبي ذر " حدثنا " وهو قومسي نزل بغداد، ويقال له الطيالسي وكان حافظا من أقران البخاري كما تقدم ذكره في باب الأخذ باليد من " كتاب الاستئذان " وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجة بالنسبة لحديث معتمر فإنه أخرج عنه الكثير بواسطة واحد فعنده في العلم والجهاد والدعوات والأشربة والصلح واللباس عدة أحاديث أخرجها مسدد عن معتمر، ودرجتين بالنسبة لحديث قتادة فإنه عنده الكثير من رواية شعبة عنه بواسطة واحد عن شعبة وقد سمع من محمد بن عبد الله الأنصاري والأنصاري سمع من

(13/526)


سليمان التيمي ولكن لم يخرج البخاري هذه الترجمة في الجامع، و " محمد بن إسماعيل " شيخ محمد بن أبي غالب بصري يقال له ابن أبي سمينة بمهملة ونون وزن عظيمة من الطبقة الثالثة من شيوخ البخاري، وقد أخرج عنه في التاريخ بلا واسطة ولم أر عنه في الجامع شيئا إلا هذا الموضع، وقد سمع منه من حدث عن البخاري مثل صالح بن محمد الحافظ الملقب جزرة بفتح الجيم والزاي وموسى بن هارون وغيرهما.

(13/527)


56 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ {أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بَيَّنَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنْ الأَمْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِيمَانَ عَمَلًا قَالَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ وَقَالَ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْنَا بِجُمَلٍ مِنْ الأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ فَأَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ وَالشَّهَادَةِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَمَلًا
7555 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ كَانَ بَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جُرْمٍ وَبَيْنَ الأَشْعَرِيِّينَ وُدٌّ وَإِخَاءٌ فَكُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ كَأَنَّهُ مِنْ الْمَوَالِي فَدَعَاهُ إِلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ لاَ آكُلُهُ فَقَالَ هَلُمَّ فَلْأُحَدِّثْكَ عَنْ ذَاكَ إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ قَالَ وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْبِ إِبِلٍ فَسَأَلَ عَنَّا فَقَالَ أَيْنَ النَّفَرُ الأَشْعَرِيُّونَ فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى ثُمَّ انْطَلَقْنَا قُلْنَا مَا صَنَعْنَا حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا وَمَا عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا ثُمَّ حَمَلَنَا تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ وَاللَّهِ لاَ نُفْلِحُ أَبَدًا فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا لَهُ فَقَالَ لَسْتُ أَنَا أَحْمِلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَتَحَلَّلْتُهَا
7556 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُضَرَ وَإِنَّا لاَ نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي أَشْهُرٍ حُرُمٍ فَمُرْنَا بِجُمَلٍ مِنْ الأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهِ دَخَلْنَا الْجَنَّةَ وَنَدْعُو إِلَيْهَا مَنْ وَرَاءَنَا قَالَ آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ آمُرُكُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَإِقَامُ

(13/527)


الصَّلاَةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَتُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ لاَ تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالظُّرُوفِ الْمُزَفَّتَةِ وَالْحَنْتَمَةِ
7557 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ؟
7558 - حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم"
7559 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً
قوله: "باب قول الله تعالى والله خلقكم وما تعملون" ذكر ابن بطال عن المهلب أن غرض البخاري بهذه الترجمة إثبات أن أفعال العباد وأقوالهم مخلوقة لله تعالى، وفرق بين الأمر بقوله: {كُنْ} وبين الخلق ب قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} فجعل الأمر غير الخلق وتسخيرها الذي يدل على خلقها إنما هو عن أمره، ثم بين أن نطق الإنسان بالإيمان عمل من أعماله كما ذكر في قصة عبد القيس حيث سألوا عن عمل يدخلهم الجنة فأمرهم بالإيمان وفسره بالشهادة وما ذكر معها، وفي حديث أبي موسى المذكور " وإنما الله الذي حملكم " الرد على القدرية الذين يزعمون أنهم يخلقون أعمالهم. قوله: "إنا كل شيء خلقناه بقدر" كذا لهم ولعله سقط منه، وقوله تعالى وقد تقدم الكلام على هذه الآية في باب قوله تعالى :{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي} قال الكرماني: التقدير خلقنا كل شيء بقدر فيستفاد منه أن يكون الله خالق كل شيء كما صرح به في الآية الأخرى، وأما قوله: {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فهو ظاهر في إثبات نسبة العمل إلى العباد فقد يشكل على الأول والجواب أن العمل هنا غير الخلق وهو الكسب الذي يكون مسندا إلى العبد حيث أثبت له فيه صنعا، ويسند إلى الله تعالى من حيث إن وجوده إنما هو بتأثير قدرته وله وجهتان، جهة تنفي القدر، وجهة تنفي الجبر، فهو مسند إلى الله حقيقة وإلى العبد عادة، وهي صفة يترتب عليها الأمر والنهي والفعل والترك، فكل ما أسند من أفعال العباد إلى الله تعالى فهو بالنظر إلى تأثير القدرة ويقال له الخلق، وما أسند إلى العبد إنما يحصل بتقدير الله تعالى ويقال له الكسب وعليه يقع المدح والذم كما يذم المشوه الوجه ويمدح الجميل الصورة، وأما الثواب والعقاب فهو علامة والعبد إنما هو ملك الله تعالى يفعل فيه ما يشاء، وقد تقدم تقرير هذا بأتم منه في باب قوله تعالى :{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} وهذه طريقة سلكها في تأويل الآية ولم يتعرض لإعراب ما هل هي مصدرية أو موصولة، وقد قال الطبري: فيها وجهان فمن قال مصدرية قال المعنى: والله خلقكم وخلق عملكم، ومن قال موصولة قال خلقكم وخلق الذي تعملون، أي تعملون منه الأصنام وهو الخشب والنحاس وغيرهما، ثم أسند عن قتادة ما يرجح القول الثاني وهو قوله تعالى

(13/528)


{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أي بأيديكم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة أيضا قال تعبدون ما تنحتون أي من الأصنام والله خلقكم وما تعملون أي بأيديكم، وتمسك المعتزلة بهذا التأويل قال السهيلي في نتائج الفكر له: اتفق العقلاء على أن أفعال العباد لا تتعلق بالجواهر والأجسام فلا تقول عملت حبلا ولا صنعت جملا ولا شجرا فإذا كان كذلك فمن قال أعجبني ما عملت فمعناه الحدث فعلى هذا لا يصح في تأويل {والله خلقكم وما تعملون } إلا أنها مصدرية وهو قول أهل السنة، ولا يصح قول المعتزلة أنها موصولة فإنهم زعموا أنها واقعة على الأصنام التي كانوا ينحتونها فقالوا التقدير: خلقكم وخلق الأصنام وزعموا أن نظم الكلام يقتضي ما قالوه لتقدم قوله ما تنحتون لأنها واقعة على الحجارة المنحوتة فكذلك ما الثانية، والتقدير عندهم: أتعبدون حجارة تنحتونها والله خلقكم وخلق تلك الحجارة التي تعملونها، هذه شبهتهم ولا يصح ذلك من جهة النحو إذ ما لا تكون مع الفعل الخاص إلا مصدرية، فعلى هذا فالآية ترد مذهبهم وتفسد قولهم والنظم على قول أهل السنة أبدع، فإن قيل قد تقول عملت الصحفة وصنعت الجفنة وكذا يصح عملت الصنم قلنا لا يتعلق ذلك إلا بالصورة التي هي التأليف والتركيب وهي الفعل الذي هو الإحداث دون الجواهر بالاتفاق، ولأن الآية وردت في بيان استحقاق الخالق العبادة لانفراده بالخلق وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يخلق وهم يخلقون فقال أتعبدون من لا يخلق وتدعون عبادة من خلقكم وخلق أعمالكم التي تعملون، ولو كانوا كما زعموا لما قامت الحجة من نفس هذا الكلام لأنه لو جعلهم خالقين لأعمالهم وهو خالق للأجناس لشركهم معهم في الخلق، تعالى الله عن إفكهم، قال البيهقي في " كتاب الاعتقاد " قال الله تعالى :{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فدخل فيه الأعيان والأفعال من الخير والشر وقال تعالى :{مْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فنفى أن يكون خالق غيره، ونفى أن يكون شيء سواه غير مخلوق، فلو كانت الأفعال غير مخلوقة له لكان خالق بعض الأشياء لا خالق كل شيء، وهو بخلاف الآية، ومن المعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان فلو كان الله خالق الأعيان، والناس خالق الأفعال لكان مخلوقات الناس أكثر من مخلوقات الله، تعالى الله عن ذلك. وقال الله تعالى :{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وقال مكي بن أبي طالب في إعراب القرآن له قالت المعتزلة ما في قوله تعالى :{وما تعملون} موصولة فرارا من أن يقروا بعموم الخلق لله تعالى، يريدون أنه خلق الأشياء التي تنحت منها الأصنام، وأما الأعمال والحركات فإنها غير داخلة في خلق الله، وزعموا أنهم أرادوا بذلك تنزيه الله تعالى عن خلق الشر، ورد عليهم أهل السنة بأن الله تعالى خلق إبليس وهو الشر كله. وقال تعالى :{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} فأثبت أنه خلق الشر، وأطبق القراء حتى أهل الشذوذ على إضافة شر إلى " ما " إلا عمرو بن عبيد رأس الاعتزال فقرأها بتنوين شر ليصحح مذهبه، وهو محجوج بإجماع من قبله على قراءتها بالإضافة، قال: وإذا تقرر أن الله خالق كل شيء من خير وشر وجب أن تكون " ما " مصدرية، والمعنى خلقكم وخلق عملكم انتهى، وقوى صاحب الكشاف مذهبه بأن قوله: {وَمَا تَعْمَلُونَ} ترجمة عن قوله قبلها " ما تنحتون " و " ما " في قوله: "ما تنحتون " موصولة اتفاقا، فلا يعدل ب " ما " التي بعدها عن أختها، وأطال في تقرير ذلك، ومن جملته فإن قلت ما أنكرت أن تكون ما مصدرية والمعنى: خلقكم وخلق

(13/529)


عملكم كما تقول المجبرة يعني أهل السنة. قلت: أقرب ما يبطل به أن معنى الآية يأباه إباء جليا، لأن الله احتج عليهم بأن العابد والمعبود جميعا خلق الله فكيف يعبد المخلوق مع أن العابد هو الذي عمل صورة المعبود ولولاه لما قدر أن يشكل نفسه، فلو كان التقدير خلقكم وخلق عملكم لم يكن فيه حجة عليهم، ثم قال فإن قلت هي موصولة لكن التقدير: والله خلقكم وما تعملونه من أعمالكم قلت: ولو كان كذلك لم يكن فيها حجة على المشركين، وتعقبه ابن خليل السكوني فقال: في كلامه صرف للآية عن دلالتها الحقيقية إلى ضرب من التأويل لغير ضرورة بل لنصرة مذهبه أن العباد يخلقون أكسابهم، فإذا حملها على الأصنام لم تتناول الحركات، وأما أهل السنة فيقولون: القرآن نزل بلسان العرب وأئمة العربية على أن الفعل الوارد بعد " ما " يتأول بالمصدر، نحو: أعجبني ما صنعت: أي صنعك، وعلى هذا فمعنى الآية خلقكم وخلق أعمالكم، والأعمال ليست هي جواهر الأصنام اتفاقا، فمعنى الآية عندهم إذا كان الله خالق أعمالكم التي تتوهم القدرية أنهم خالقون لها فأولى أن يكون خالقا لما لم يدع فيه أحد الخلقية وهي الأصنام، قال: ومدار هذه المسألة على أن الحقيقة مقدمة على المجاز ولا أثر للمرجوح مع الراجح وذلك أن الخشب التي منها الأصنام والصور التي للأصنام ليست بعمل لنا وإنما عملنا ما أقدرنا الله عليه من المعاني المكسوبة التي عليها ثواب العباد وعقابهم، فإذا قلت عمل النجار السرير فالمعنى عمل حركات في محل أظهر الله لنا عندها التشكل في السرير، فلما قال تعالى :{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وجب حمله على الحقيقة وهي معمولكم، وأما ما يطالب به المعتزلي من الرد على المشركين من الآية فهو من أبين شيء لأنه تعالى إذا أخبر أنه خلقنا وخلق أعمالنا التي يظهر بها التأثير بين أشكال الأصنام وغيرها فأولى أن يكون خالقا للمتأثر الذي لم يدع فيه أحد لا سني ولا معتزلي، ودلالة الموافقة أقوى في لسان العرب وأبلغ من غيرها وقد وافق الزمخشري على ذلك في قوله تعالى :{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فإنه أدل على نفي الضرب من أن لو قال: ولا تضربهما. وقال إنها من نكت علم البيان ثم غفل عنها اتباعا لهواه، وأما ادعاؤه فك النظم فلا يلزم منه بطلان الحجة لأن فكه لما هو أبلغ سائغ بل أكمل لمراعاة البلاغة، ثم قال: ولم لا تكون الآية مخبرة عن أن كل عمل للعبد فهو خلق للرب فيندرج فيه الرد على المشركين مع مراعاة النظم، ومن قيد الآية بعمل العبد دون عمل فعليه الدليل والأصل عدمه وبالله التوفيق، وأجاب البيضاوي بأن دعوى أنها مصدرية أبلغ لأن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى فالمتوقف على فعلهم أولى بذلك، ويترجح أيضا بأن غيره لا يخلو من حذف أو مجاز وهو سالم من ذلك والأصل عدمه. وقال الطيبي وتكملة ذلك أن يقال تقرر عند علماء البيان أن الكناية أولى من التصريح فإذا نفى الحكم العام لينتفي الخاص كان أقوى في الحجة، وقد سلك صاحب الكشاف هذا بعينه في تفسير قوله تعالى :{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} الآية. وقال ابن المنير يتعين حمل " ما " على المصدرية لأنهم لم يعبدوا الأصنام من حيث هي حجارة أو خشب عارية عن الصورة بل عبدوها لأشكالها وهي أثر عملهم ولو عملوا نفس الجواهر لما طابق توبيخهم بأن المعبود من صنعة العابد قال والمخالفون موافقون أن جواهر الأصنام ليست عملا لهم فلو كان كما ادعوه لاحتاج إلى حذف أي والله خلقكم وما تعملون شكله وصورته، والأصل عدم التقدير وقد جاء التصريح في الحديث الصحيح بمعنى الذي تقدمت الإشارة إليه في باب قوله كل يوم هو في شأن عن حذيفة رفعه أن الله خلق صانع وصنعته وقال غيره قول من ادعى أن المراد بقوله وما تعملون نفس العيدان والمعادن التي تعمل منها الأوثان باطل لأن أهل اللغة لا يقولون إن الإنسان يعمل العود أو الحجر بل يقيدون ذلك بالصنعة فيقولون عمل العود صنما والحجر وثنا، فمعنى الآية أن الله خلق الإنسان وخلق شكل الصنم وأما الذي نحت أو صاغ فإنما هو عمل النحت والصياغة وقد صرحت الآية بذلك، والذي عمله هو الذي وقع التصريح بأن الله تعالى هو الذي خلقه وقال التونسي في مختصر تفسير الفخر الرازي: احتج

(13/530)


الأصحاب بهذه الآية على أن عمل العبيد مخلوق لله على إعراب ما مصدرية وأجاب المعتزلة بأن إضافة العبادة والنحت لهم إضافة الفعل للفاعل ولأنه وبخهم ولو لم تكن الأفعال لخلقهم لما وبخهم، قالوا: ولا نسلم أنها مصدرية لأن الأخفش يمنع أعجبني ما قمت أي قيامك وقال إنه خاص بالمتعدى سلمنا جوازه لكن لا يمنع ذلك من تقدير ما مفعولا للنحاتين ولموافقة ما ينحتون ولأن العرب تسمى محل العمل عملا فتقول في الباب هو عمل فلان ولأن القصد هو تزييف عبادتهم لا بيان أنهم لا يوجدون أعمال أنفسهم قال وهذه شبهة قوية فالأولى أن لا يستدل بهذه الآية لهذا المراد كذا قال، وجرى على عادته في إيراد شبه المخالفين وترك بذل الوسع في أجوبتها وقد أجاب الشمس الأصبهاني في تفسيره وهو ملخص من تفسير الفخر فقال وما تعملون: أي عملكم وفيها دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله وعلى أنها مكتسبة للعباد حيث أثبت لهم عملا فأبطلت مذهب القدرية والجبرية معا وقد رجح بعض العلماء كونها مصدرية لأنهم لم يعبدوا الأصنام إلا لعملهم لا لجرم الصنم وإلا لكانوا يعبدونها قبل العمل فكأنهم عبدوا العمل فأنكر عليهم عبادة المنحوت الذي لم ينفك عن العمل المخلوق وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية في الرد على الرافضي لا نسلم أنها موصولة ولكن لا حجة فيها للمعتزلة لأن قوله تعالى :{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} يدخل فيه ذاتهم وصفاتهم وعلى هذا إذا كان التقدير والله خلقكم وخلق الذي تعملونه إن كان المراد خلقه لها قبل النحت لزم أن يكون المعمول غير مخلوق وهو باطل فثبت أن المراد خلقه لها قبل النحت وبعده وأن الله خلقها بما فيها من التصوير والنحت فثبت أنه خالق ما تولد عن فعلهم ففي الآية دلالة على أنه تعالى خلق أفعالهم القائمة بهم وخلق ما تولد عنها ووافق على ترجيح أنها موصولة من جهة أن السياق يقتضي أنه أنكر عليهم عبادة المنحوت فناسب أن ينكر ما يتعلق بالمنحوت وأنه مخلوق له فيكون التقدير الله خالق العابد والمعبود وتقدير: خلقكم وخلق أعمالكم، يعني إذا أعربت مصدرية ليس فيه ما يقتضي ذمهم على ترك عبادته والعلم عند الله تعالى وقد ارتضى الشيخ سعد الدين التفتازاني هذه الطريق وأوضحها ونقحها فقال في شرح العقائد له بعد أن ذكر أصل المسألة وأدلة الفريقين ومنها استدلال أهل السنة بالآية المذكورة والله خلقكم وما تعملون، قالوا: معناه وخلق عملكم على إعراب ما مصدرية ورجحوا ذلك لعدم احتياجه إلى حذف الضمير قال فيجوز أن يكون المعنى وخلق معمولكم على إعرابها موصولة ويشمل أعمال العباد لأنا إذا قلنا إنها مخلوقة لله أو للعبد لم يرد بالفعل المعنى المصدري الذي هو الإيجاد بل الحاصل بالمصدر الذي هو متعلق الإيجاد وهو ما يشاهده من الحركات والسكنات: قال وللذهول عن هذه النكتة توهم من توهم أن الاستدلال بالآية موقوف على كون ما مصدرة وليس الأمر كذلك. "تكملة": جوز من صنف في إعراب القرآن في إعراب " ما تعملون " زيادة على ما تقدم قالوا واللفظ للمنتخب في " ما " أوجه أحدها: أن تكون مصدرية منصوبة المحل عطف على الكاف والميم في " خلقكم " الثاني أن تكون موصولة في موضع نصب أيضا عطفا على المذكور آنفا، والتقدير: خلقكم والذي تعملون أي تعملون منه الأصنام يعني الخشب والحجارة وغيرها، الثالث: أن تكون استفهامية منصوبة المحل بقوله: "تعملون " توبيخا لهم وتحقيرا لعملهم، الرابع: أن تكون نكرة موصوفة وحكمها حكم الموصولة، الخامس: أن تكون نافية على معنى " وما تعملون ذلك " لكن الله هو خلقه، ثم قال البيهقي وقد قال الله تعالى :{خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فامتدح بأنه خلق كل شيء وبأنه يعلم كل شيء فكما لا يخرج عن علمه شيء وكذا لا يخرج عن خلقه شيء. وقال تعالى :{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، َلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} فأخبر أن قولهم سرا وجهرا خلقه

(13/531)


لأنه بجميع ذلك عليم. وقال تعالى :{خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وقال: "وأنه هو أمات وأحيا" فأخبر أنه المحيي المميت وأنه خلق الموت والحياة فثبت أن الأفعال كلها خيرها وشرها صادرة عن خلقه وإحداثه إياها وقال تعالى :{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وقال تعالى :{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} فسلب عنهم هذه الأفعال وأثبتها لنفسه ليدل بذلك على أن المؤثر فيها حتى صارت موجودة بعد العدم هو خلقه، وأن الذي يقع من الناس إنما هو مباشرة تلك الأفعال بقدرة حادثة أحدثها على ما أراد، فهي من الله تعالى خلق بمعنى الاختراع بقدرته القديمة، ومن العباد كسب على معنى تعلق قدرة حادثة بمباشرتهم التي هي كسبهم ووقوع هذه الأفعال على وجوده بخلاف فعل مكتسبها أحيانا من أعظم الدلالة على موقع أوقعها على ما أراد، ثم ساق حديث حذيفة المشار إليه ثم قال وأما ما ورد في حديث دعاء الافتتاح في أول الصلاة والشر ليس إليك، فمعناه كما قال النضر بن شميل: والشر لا يتقرب به إليك. وقال غيره أرشد إلى استعمال الأدب في الثناء على الله تعالى بأن يضاف إليه محاسن الأمور دون مساويها، وقد وقع في نفس هذا الحديث: والمهدى من هديت فأخبر أنه يهدي من شاء كما وقع التصريح به في القرآن. وقال في حديث أبي سعيد الماضي في الأحكام الذي في أوله: أن كل وال له بطانتان والمعصوم من عصم الله، فدل على أنه يعصم قوما دون قوم. وقال غيره يستحيل أن يصلح قدرة العباد للإبراز من العدم إلى الوجود وهو المعبر عنه بالاختراع وثبوته لله سبحانه وتعالى قطعي لأن قدرة الإبراز من العدم إلى الوجود تتوجه إلى تحصيل ما ليس بحاصل فحال توجيهها لا بد من وجودها لاستحالة أن يحصل العدم شيئا، فقدرته ثابتة وقدرة المخلوقين عرض لا بقاء له فيستحيل تقدمها، وقد تواردت النقول السمعية والقرآن والأحاديث الصحيحة بانفراد الرب سبحانه وتعالى بالاختراع كقوله تعالى :{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} ومن الدليل على أن الله تعالى يحكم في خلقه بما يشاء ولا تتوقف أحكامه في ثوابهم وعقابهم على أن يكونوا خالقين لأفعالهم أنه نصب الثواب والعقاب على ما يقع مباينا لمحال قدرتهم، وأما اكتساب العباد فلا يقع إلا في محل الكسب، ومثال ذلك السهم الذي يرميه العبد لا تصرف له فيه بالرفع، وكذلك لا تصرف له فيه بالوضع، وأيضا فإن إرادة الله سبحانه وتعالى تتعلق بما لا نهاية له على وجه النفوذ وعدم التعذر، وإرادة العبد لا تتعلق بذلك مع تسميتها إرادة، وكذلك علمه تعالى لا نهاية له على سبيل التفصيل، وعلم العبد لا يتعلق بذلك مع تسميته علما. فصل: احتج بعض المبتدعة بقوله تعالى :{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} على أن القرآن مخلوق لأنه شيء، وتعقب ذلك نعيم بن حماد وغيره من أهل الحديث بأن القرآن كلام الله وهو صفته فكما أن الله لم يدخل في عموم قوله: "كل شيء" اتفاقا فكذلك صفاته، ونظير ذلك قوله تعالى :{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} مع قوله تعالى :{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فكما لم تدخل نفس الله في هذا العموم اتفاقا فكذا لا يدخل القرآن. قوله: "ويقال للمصورين أحيوا ما خلقتم" كذا للأكثر وهو المحفوظ، ووقع في رواية الكشميهني: "ويقول: "أي الله سبحانه أو الملك بأمره. وقال الكرماني لفظ الحديث الموصول في الباب: "ويقال لهم " فأظهر البخاري مرجع الضمير انتهى، وسيأتي الكلام على نسبة الخلق إليهم في آخر الباب. قوله: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض - إلى - تبارك الله رب العالمين} ساق في رواية كريمة الآية كلها، والمناسب منها لما تقدم قوله تعالى :{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} فيصح به قول الله {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ولذلك عقبه بقوله قال ابن عيينة بين الله الخلق من الأمر بقوله تعالى :{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وهذا الأثر وصله ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية من طريق بشار بن موسى قال: كنا عند سفيان بن

(13/532)


عيينة فقال ألا له الخلق والأمر، فالخلق هو المخلوقات والأمر هو الكلام، ومن طريق حماد بن نعيم سمعت سفيان بن عيينة، وسئل عن القرآن أمخلوق هو؟ فقال: يقول الله تعالى ألا له الخلق والأمر ألا ترى كيف فرق بين الخلق والأمر، فالأمر كلامه فلو كان كلامه مخلوقا لم يفرق. قلت: وسبق ابن عيينة إلى ذلك محمد بن كعب القرظي وتبعه الإمام أحمد بن حنبل وعبد السلام بن عاصم وطائفة أخرج كل ذلك ابن أبي حاتم عنهم. وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد " خلق الله الخلق بأمره " لقوله تعالى :{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ولقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ولقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} قال: وتواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القرآن كلام الله وأن أمر الله قبل مخلوقاته، قال: ولم يذكر عن أحد من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان خلاف ذلك وهم الذين أدوا إلينا الكتاب والسنة قرنا بعد قرن، ولم يكن بين أحد من أهل العلم في ذلك خلاف إلى زمان مالك والثوري وحماد وفقهاء الأمصار ومضى على ذلك من أدركنا من علماء الحرمين والعراقين والشام ومصر وخراسان. وقال عبد العزيز بن يحيى المكي في مناظرته لبشر المريسي بعد أن تلا الآية المذكورة أخبر الله تعالى عن الخلق أنه مسخر بأمره، فالأمر هو الذي كان الخلق مسخرا به فكيف يكون الأمر مخلوقا. وقال تعالى :{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فأخبر أن الأمر متقدم على الشيء المكون. وقال: "لله الأمر من قبل ومن بعد" أي من قبل خلق الخلق ومن بعد خلقهم وموتهم بدأهم بأمره ويعيدهم بأمره. وقال غيره لفظ الأمر يرد لمعان، منها الطلب ومنها الحكم ومنها الحال والشأن ومنها المأمور كقوله تعالى :{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ} أي مأموره وهو إهلاكهم، واستعمال المأمور بلفظ الأمر كاستعمال المخلوق بمعنى الخلق. وقال الراغب: الأمر لفظ عام للأفعال والأقوال كلها، ومنه قوله تعالى :{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} ويقال للإبداع أمر، نحو قوله تعالى :{ألا له الخلق والأمر} وعلى ذلك حمل بعضهم قوله تعالى :{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي هو من إبداعه، ويختص ذلك بالله تعالى دون الخلائق وقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} إشارة إلى إبداعه وعبر عنه بأقصر لفظ وأبلغ ما نتقدم به فيما بيننا بفعل الشيء، ومنه {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} فعبر عن سرعة إيجاده بأسرع ما يدركه وهمنا، والأمر التقدم بالشيء سواء كان ذلك بقول افعل أو لتفعل أو بلفظ خبر نحو {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} أو بإشارة أو غير ذلك كتسميته ما رأى إبراهيم أمرا حيث قال ابنه {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وأما قوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} فعام في أقواله وأفعاله، وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} إشارة إلى يوم القيامة فذكره بأعم الألفاظ، وقوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} أي ما تأمر به النفس الأمارة انتهى، وفي بعض ما ذكره نظر لا سيما في تفسير الأمر في آية الباب بالإبداع، والمعروف فيه ما نقل عن ابن عيينة وعلى ما قال الراغب " يكون الأمر في الآية من عطف الخاص على العام " وقد قال بعض المفسرين: المراد بالأمر بعد الخلق تصريف الأمور. وقال بعضهم المراد بالخلق في الآية: الدنيا وما فيها، وبالأمر: الآخرة وما فيها، فهو كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} قوله: "وسمي النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عملا" تقدم بيان هذا في باب من قال الإيمان هو العمل من " كتاب الإيمان " أول الجامع. قوله: "وقال أبو ذر وأبو هريرة سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال إيمان بالله وجهاد في سبيله" تقدم الكلام عليهما وبيان من وصلهما وشواهدهما في باب: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها} قبل أبواب. قوله: {وقال جزاء بما كانوا يعملون} أي من الإيمان والصلاة وسائر الطاعات،

(13/533)


فسمي الإيمان عملا حيث أدخله في جملة الأعمال. قوله: "وقال وفد عبد القيس إلى أن قال فجعل ذلك كله عملا" سيأتي ذلك موصولا بعد حديث، ثم ذكر في الباب خمسة أحاديث مسندة. حديث أبي موسى الأشعري في قصة الذين طلبوا الحملان فقال صلى الله عليه وسلم لست أنا أحملكم ولكن الله حملكم، وقد تقدم شرحه في " كتاب الإيمان " و " عبد الوهاب " في السند هو ابن عبد المجيد الثقفي وليس هو والد عبد الله بن عبد الوهاب العبدري الحجبي الراوي عنه هنا، و " القاسم التميمي " هو ابن عاصم و " زهدم " هو ابن مضرب بتشديد الراء، وقوله: "يأكل فقذرته " زاد الكشميهني: "يأكل شيئا " وقوله: "فحلفت لا آكله " في رواية الكشميهني: "أن لا آكله " وقوله: "فلأحدثك " وقع لغير الكشميهني: "فلأحدثنك " بالنون المؤكدة، والمراد منه نسبة الحمل إلى الله تعالى وإن كان الذي باشر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فهو كقوله تعالى :{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وقد تقدم توجيهه قريبا. حديث وفد عبد القيس. قوله: "أبو عاصم" هو الضحاك بن مخلد البصري المعروف بالنبيل بنون وموحدة وزن عظيم، وهو من شيوخ البخاري أخرج عنه بغير واسطة في " كتاب الزكاة " وغيره وهنا بواسطة وكذلك في عدة مواضع. قوله: "حدثنا قرة بن خالد" قال عياض سقط من رواية أبي زيد المروزي وثبت لغيره وألحقه عبدوس في روايته يعني " عن المروزي " ونقل أبو علي الجياني أن أبا زيد قال لما حدث به " أظن بينهما قرة بن خالد " قال أبو علي وما هو بالظن ولكنه يقين وبه يتصل الإسناد. قوله: "قلت لابن عباس فقال قدم وفد عبد القيس" كذا في هذه الرواية لم يذكر مقول قلت وبينه الإسماعيلي من طريق أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي بفتح المهملة والقاف عن قرة بن خالد فقال في روايته: حدثنا أبو حمزة قال قلت لابن عباس إن لي حرة أنتبذ فيها فأشربه حلوا لو أكثرت منه فجالست القوم لخشيت أن أفتضح فقال قدم وفد عبد القيس، وقد أخرج مسلم طريق أبي عامر لكن لم يسق لفظه ولم يقف الكرماني على هذا فقال التقدير قلت لابن عباس حدثنا إما مطلقا وإما عن قصة وفد عبد القيس فجعل مقول قلت طلب التحديث، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في " كتاب الإيمان " وما يتعلق منه بالأشربة في " كتاب الأشربة " وتقدم جواب الإشكال عن تفسير الإيمان بالأعمال البدنية مع أنه فعل القلب، وعن الحكمة في قوله: "وأن تعطوا الخمس " ولم يقل وإعطاء الخمس على نسق ما تقدم، وعن سقوط ذكر الصوم في هذه الرواية مع كونه ثابتا في غيرها، والتنبيه على أنه وقع ذكر الحج في بعض طرق هذا الحديث من هذا الوجه من رواية قرة بن خالد. قال ابن بطال قوله في حديث عائشة وغيره: "يقال لهم أحيوا ما خلقتم " إنما نسب خلقها إليهم تقريعا لهم بمضاهاتهم الله تعالى في خلقه فبكتهم بأن قال إذا شابهتم بما صورتم مخلوقات الله تعالى فأحيوها كما أحيا هو ما خلق. وقال الكرماني أسند الخلق إليهم صريحا وهو خلاف الترجمة لكن المراد كسبهم، فأطلق لفظ الخلق عليهم استهزاء أو ضمن " خلقتم " معنى صورتم تشبيها بالخلق، أو أطلق بناء على زعمهم فيه. قلت: والذي يظهر أن مناسبة ذكر حديث المصورين لترجمة هذا الباب من جهة أن من زعم أنه يخلق فعل نفسه لو صحت دعواه لما وقع الإنكار على هؤلاء المصورين فلما كان أمرهم بنفخ الروح فيما صوروه أمر تعجيز ونسبة الخلق إليهم إنما هي على سبيل التهكم والاستهزاء دل على فساد قول من نسب خلق فعله إليه استقلالا والعلم عند الله تعالى، ثم قال الكرماني هذه الأحاديث تدل على أن العمل منسوب إلى العبد لأن معنى الكسب اعتبار الجهتين فيستفاد المطلوب منها ولعل غرض البخاري في تكثير هذا النوع في الباب وغيره بيان جواز ما نقل عنه أنه قال: "لفظي بالقرآن مخلوق " إن صح عنه. قلت: قد صح عنه أنه تبرأ من هذا الإطلاق فقال: "كل من نقل عني أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب علي، وإنما قلت أفعال العباد مخلوقة " أخرج ذلك غنجار في ترجمة البخاري من تاريخ بخارا بسند صحيح إلى محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور أنه سمع البخاري يقول ذلك، ومن طريق أبي عمر وأحمد بن نصر النيسابوري الخفاف أنه سمع البخاري يقول ذلك. و " محمد بن العلاء " في أول سند حديث أبي هريرة هو أبو كريب وهو بكنيته أشهر، وابن فضيل: هو محمد و " عمارة " هو ابن القعقاع بن شبرمة، وقد مضى في " كتاب اللباس " من وجه آخر عن عمارة وفيه قصة لأبي هريرة ومضى شرحه هناك، وقوله: "ومن ذهب " أي قصد، وقوله: "يخلق كخلقي " نسب الخلق إليهم على سبيل الاستهزاء أو التشبيه في الصورة فقط، وقوله: "فليخلقوا ذرة أو شعيرة " أمر بمعنى التعجيز وهو على سبيل الترقي في الحقارة أو التنزل في الإلزام، والمراد بالذرة إن كان النملة فهو من تعذيبهم وتعجيزهم بخلق الحيوان تارة وبخلق الجماد أخرى، وإن كان بمعنى الهباء فهو بخلق ما ليس له جرم محسوس تارة وبما له جرم أخرى، ويحتمل أن يكون " أو " شكا من الراوي.

(13/534)


قال بن بطال قوله في حديث عائشة وغيره يقال لهم احيوا ما خلقتم انما نسب خلقها إليهم تقريعا لهم بمضاهاتهم الله تعالى في خلقه فبكتهم بان قال إذا شابهتم بما صورتم مخلوقات الله تعالى فأحيوها كما احيا هو من خلق وقال الكرماني أسند الخلق إليهم صريحا وهو خلاف الترجمة لكن المراد كسبهم فاطلق لفظ الخلق عليهم استهزاء أو ضمن خلقتم معنى صورتم تشبيها بالخلق أو أطلق بناء على زعمهم فيه قلت والذي يظهر ان مناسبة ذكر حديث المصورين لترجمة هذا الباب من جهة ان من زعم انه أصحهما فعل نفسه لو صحت دعواه لما وقع الإنكار على هؤلاء المصورين فلما كان أمرهم بنفخ الروح فيما صوروه أمر تعجيز ونسبة الخلق إليهم انما هي على سبيل التهكم والاستهزاء دل على فساد قول من نسب خلق فعله اليه استقلالا والعلم ثم الله تعالى ثم قال الكرماني هذه الأحاديث تدل على ان العمل منسوب الى العبد لأن معنى الكسب اعتبار الجهتين فيستفاد المطلوب منها ولعل غرض البخاري في تكثير هذا النوع في الباب وغيره بيان جواز ما نقل عنه انه قال لفظي بالقرآن مخلوق ان صح عنه قلت قد صح عنه انه تبرأ من هذا الإطلاق فقال كل من نقل عني اني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب علي وانما قلت أفعال العباد مخلوقة أخرج ذلك غنجار في ترجمة البخاري من تاريخ بخارا بسند صحيح الى محمد بن نصر المروزي الامام المشهور انه سمع البخاري يقول ذلك ومن طريق أبي عمر وأحمد بن نصر النيسابوري الخفاف انه سمع البخاري يقول ذلك

(13/535)


57 - باب قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلاَوَتُهُمْ لاَ تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ
7560 - حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلاَ رِيحَ لَهَا
7561 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا قَالَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ
7592 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يُحَدِّثُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ

(13/535)


تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ قِيلَ مَا سِيمَاهُمْ قَالَ سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ أَوْ قَالَ التَّسْبِيدُ
قوله: "باب قراءة الفاجر والمنافق وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم" قال الكرماني المراد بالفاجر المنافق بقرينة جعله قسيما للمؤمن في الحديث - يعني الأول - ومقابلا له، فعطف المنافق عليه في الترجمة من باب العطف التفسيري، قال وقوله: "وتلاوتهم " مبتدأ وخبره لا يجاوز حناجرهم، وإنما جمع الضمير لأنه حكاية عن لفظ الحديث قال: وزيد في بعضها " وأصواتهم". قلت: هي ثابتة في جميع ما وقفنا عليه من نسخ البخاري، ووقع في رواية أبي ذر قراءة الفاجر أو المنافق بالشك وهو يؤيد تأويل الكرماني ويحتمل أن يكون للتنويع، والفاجر أعم من المنافق فيكون من عطف الخاص على العام وذكر فيه ثلاثة أحاديث. حديث: "أبي موسى " وهو الأشعري مثل المؤمن، وقد تقدم شرحه في فضائل القرآن والسند كله بصريون ومطابقته للترجمة ظاهرة ومناسبتها لما قبلها من الأبواب أن التلاوة متفاوتة بتفاوت التالي فيدل على أنها من عمله. وقال ابن بطال معنى هذا الباب أن قراءة الفاجر والمنافق لا ترتفع إلى الله ولا تزكو عنده وإنما يزكو عنده ما أريد به وجهه وكان عن نية التقرب إليه، وشبهه بالريحانة حين لم ينتفع ببركة القرآن ولم يفز بحلاوة أجره فلم يجاوز الطيب موضع الصوت وهو الحلق ولا اتصل بالقلب وهؤلاء هم الذين يمرقون من الدين. قوله: "علي" هو ابن عبد الله بن المديني و " هشام " هو ابن يوسف الصنعاني و " يونس " في السند الثاني هو ابن زيد، و " ابن شهاب " فيه هو الزهري المذكور في الأول، وقد تقدمت طريق علي بن عبد الله المديني في أواخر " كتاب الطب " في باب الكهانة، ونسبه فيها ونسب شيخه كما ذكرت وساق المتن على لفظه هناك، ووقع عنده أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير أنه سمع عروة بن الزبير. قوله: "سأل أناس" في رواية معمر " ناس " وهما بمعنى؛ وقوله هنا " يحدثون بالشيء يكون حقا " في رواية معمر " إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا". قوله: "يخطفها" في رواية الكشميهني: "يحفظها " بحاء مهملة وظاء مشالة والفاء قبلها من الحفظ. قوله: "فيقرقرها" في رواية معمر " فيقرها " بتشديد الراء. قوله: "كقرقرة الدجاجة" في رواية المستملي: "الزجاجة " بضم الزاي، وتقدم شرحه مستوفى في الباب المذكور ومناسبته للترجمة تعرض له ابن بطال ولخصه الكرماني فقال لمشابهة الكاهن بالمنافق من جهة أنه لا ينتفع بالكلمة الصادقة لغلبة الكذب عليه ولفساد حاله، كما أن المنافق لا ينتفع بقراءته لفساد عقيدته، والذي يظهر لي من مراد البخاري أن تلفظ المنافق بالقرآن كما يتلفظ به المؤمن فتختلف تلاوتهما والمتلو واحد، فلو كان المتلو عين التلاوة لم يقع فيه تخالف وكذلك الكاهن في تلفظه بالكلمة من الوحي التي يخبره بها الجني مما يختطفه من الملك تلفظه بها، وتلفظ الجني مغاير لتلفظ الملك فتفاوتا. قوله: "عن معبد بن سيرين" هو أخو محمد وهو أكبر منه والسند كله بصريون إلا الصحابي وقد دخل البصرة. قوله: "يخرج ناس من قبل المشرق" تقدم في " كتاب الفتن " أنهم الخوارج وبيان مبدأ أمرهم وما ورد فيهم، وكان ابتداء خروجهم في العراق وهي من جهة المشرق بالنسبة إلى مكة المشرفة. قوله: "لا يجاوز تراقيهم" جمع ترقوة بفتح أوله وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو وهي العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق، وذكره في الترجمة بلفظ: "حناجرهم " جمع حنجرة وهي الحلقوم، وتقدم بيان الحلقوم في أواخر " كتاب العلم " وقد رواه عبد الرحمن

(13/536)


حلق الرأس، والثالث كالثاني والله أعلم. "تنبيه": وقع لابن بطال في وصف الخوارج خبط أردت التنبيه عليه لئلا يغتر به، وذلك أنه قال: يمكن أن يكون هذا الحديث في قوم عرفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي أنهم خرجوا ببدعتهم عن الإسلام إلى الكفر وهم الذين قتلهم علي بالنهروان حين قالوا إنك ربنا فاغتاظ عليهم وأمر بهم فحرقوا بالنار فزادهم ذلك فتنة وقالوا الآن تيقنا أنك ربنا إذ لا يعذب بالنار إلا الله انتهى، وقد تقدمت هذه القصة لعلي في الفتن وليست للخوارج وإنما هي للزنادقة كما وقع مصرحا به في بعض طرقه، ووقع في شرح الوجيز للرافعي عند ذكر الخوارج قال هم فرقة من المبتدعة خرجوا على علي حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله ومواطأته إياهم، ويعتقدون أن من أتى كبيرة فقد كفر واستحق الخلود في النار ويطعنون لذلك في الأئمة انتهى، وليس الوصف الأول في كلامه وصف الخوارج المبتدعة وإنما هو وصف النواصب أتباع معاوية بصفين، وأما الخوارج فمن معتقدهم تكفير عثمان وأنه قتل بحق، ولم يزالوا مع علي حتى وقع التحكيم بصفين فأنكروا التحكيم وخرجوا على علي وكفروه، وقد تقدم القول فيهم مبسوطا في " كتاب الفتن".

(13/537)


58 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ يُوزَنُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْقُسْطَاسُ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ وَيُقَالُ الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ وَهُوَ الْعَادِلُ وَأَمَّا الْقَاسِطُ فَهُوَ الْجَائِرُ
7563حدثنا أحمد بن إشكاب حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
قوله: "باب قول الله تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة" كذا لأبي ذر وسقط لأكثرهم " ليوم القيامة " والموازين جمع ميزان وأصله موزان فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، واختلف في ذكره هنا بلفظ الجمع هل المراد أن لكل شخص ميزانا أو لكل عمل ميزان فيكون الجمع حقيقة أو ليس هناك إلا ميزان واحد والجمع باعتبار تعدد الأعمال أو الأشخاص، ويدل على تعدد الأعمال قوله تعالى :{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} ويحتمل أن يكون الجمع

(13/537)


للتفخيم، كما في قوله تعالى :{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} مع أنه لم يرسل إليهم إلا واحد، والذي يترجح أنه ميزان واحد ولا يشكل بكثرة من يوزن عمله لأن أحوال القيامة لا تكيف بأحوال الدنيا، والقسط العدل وهو نعت الموازين وإن كان مفردا وهي جمع لأنه مصدر، قال الطبري القسط العدل وجعل وهو مفرد من نعت الموازين وهي جمع لأنه كقولك عدل ورضا وقال أبو إسحاق الزجاج: المعنى ونضع الموازين ذوات القسط، والقسط العدل وهو مصدر يوصف به، يقال ميزان قسط وميزانان قسط وموازين قسط، وقيل هو مفعول من أجله أي لأجل القسط واللام في قوله: "ليوم القيامة " للتعليل مع حذف مضاف أي لحساب يوم القيامة وقيل هي بمعنى في كذا جزم به ابن قتيبة واختاره ابن مالك، وقيل للتوقيت كقول النابغة
توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
وحكى حنبل بن إسحاق في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال ردا على من أنكر الميزان ما معناه: قال الله تعالى :{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الميزان يوم القيامة فمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد على الله عز وجل. قوله: "وإن أعمال بني آدم وقولهم يوزن" كذا للأكثر وللقابسي وطائفة، " وأقوالهم " بصيغة الجمع وهو المناسب للأعمال وظاهره التعميم لكن خص منه طائفتان فمن الكفار من لا ذنب له إلا الكفر، ولم يعمل حسنة فإنه يقع في النار من غير حساب ولا ميزان، ومن المؤمنين من لا سيئة له وله حسنات كثيرة زائدة على محض الإيمان فهذا يدخل الجنة بغير حساب كما في قصة السبعين ألفا، ومن شاء الله أن يلحقه بهم وهم الذين يمرون على الصراط كالبرق الخاطف وكالريح وكأجاويد الخيل، ومن عدا هذين من الكفار والمؤمنين يحاسبون وتعرض أعمالهم على الموازين، ويدل على محاسبة الكفار ووزن أعمالهم قوله تعالى في سورة المؤمنين {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم - إلى قوله – لَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} ونقل القرطبي عن بعض العلماء أنه قال: الكافر لا ثواب له وعمله مقابل بالعذاب فلا حسنة له توزن في موازين القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار واستدل بقوله تعالى :{فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} وبحديث أبي هريرة وهو في الصحيح في الكافر: لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وتعقب أنه مجاز عن حقارة قدره ولا يلزم منه عدم الوزن، وحكى القرطبي في صفة وزن عمل الكافر وجهين أحدهما أن كفره يوضع في الكفة ولا يجد له حسنة يضعها في الأخرى فتطيش التي لا شيء فيها، قال وهذا ظاهر الآية لأنه وصف الميزان بالخفة لا الموزون ثانيهما: قد يقع منه العتق والبر والصلة وسائر أنواع الخير المالية مما لو فعلها المسلم لكانت حسنات فمن كانت له حسنات جمعت ووضعت، غير أن الكفر إذا قابلها رجح بها. قلت: ويحتمل أن يجازى بها عما يقع منه من ظلم العباد مثلا، فإن استوت عذب بكفره مثلا فقط، وإلا زيد عذابه بكفره أو خفف عنه كما في قصة أبي طالب، قال أبو إسحاق الزجاج أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال، وأنكرت المعتزلة الميزان وقالوا هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين. وقال ابن فورك أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها، قال وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس أن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها انتهى، وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل

(13/538)


والقضاء فأسند الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال إنما هو مثل كما يجوز وزن الأعمال كذلك يجوز الحط، ومن طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال الموازين العدل، والراجح ما ذهب إليه الجمهور. وأخرج أبو القاسم اللالكائي في السنة عن سلمان قال: يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السماوات والأرض ومن فيهن لوسعته، ومن طريق عبد الملك بن أبي سليمان ذكر الميزان عند الحسن فقال له لسان وكفتان. وقال الطيبي قيل إنما توزن الصحف، وأما الأعمال فإنها أعراض فلا توصف بثقل ولا خفة، والحق عند أهل السنة أن الأعمال حينئذ تجسد أو تجعل في أجسام فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة وأعمال المسيئين في صورة قبيحة ثم توزن، ورجح القرطبي أن الذي يوزن الصحائف التي تكتب فيها الأعمال، ونقل عن ابن عمر قال توزن صحائف الأعمال، قال فإذا ثبت هذا فالصحف أجسام فيرتفع الإشكال ويقويه حديث البطاقة الذي أخرجه الترمذي وحسنة والحاكم وصححه، وفيه فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة انتهى، والصحيح أن الأعمال هي التي توزن، وقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن، وفي حديث جابر رفعه توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار، قيل فمن استوت حسناته وسيئاته قال أولئك أصحاب الأعراف ، أخرجه خيثمة في فوائده، وعند ابن المبارك في الزهد عن ابن مسعود نحوه موقوفا. وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن حذيفة موقوفا أن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام. قوله: "وقال مجاهد القسطاس: العدل بالرومية" وصله الفريابي في تفسيره عن سفيان الثوري عن رجل عن مجاهد وعن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} قال هو العدل بالرومية. وقال الطبري معنى قوله: "وزنوا بالقسطاس " بالميزان. وقال ابن دريد مثله وزاد: "وهو رومي عرب " ويقال قسطار بالراء آخره بدل السين. وقال صاحب المشارق القسطاس أعدل الموازين وهو بكسر القاف وبضمها وقرئ بهما في المشهور. قوله: "ويقال القسط مصدر المقسط وهو العادل وأما القاسط فهو الجائر" قال الفراء القاسطون الجائرون والمقسطون العادلون. وقال الراغب القسط النصيب بالعدل كالنصف والنصفة والقسط بفتح القاف أن يأخذ قسط غيره وذلك جور والإقساط أن يعطى غيره قسطه وذلك إنصاف، ولذلك قيل قسط إذا جار وأقسط إذا عدل. وقال صاحب المحكم القسط النصيب إذا تقاسموه بالسوية. وقال الإسماعيلي متعقبا على قول البخاري القسط مصدر المقسط ما نصه القسط العدل ومصدر المقسط الإقساط، يقال أقسط إذا عدل وقسط إذا جار ويرجعان إلى معنى متقارب لأنه يقال عدل عن كذا إذا مال عنه وكذلك قسط إذ عدل عن الحق وأقسط كأنه لزم القسط وهو العدل، قال الله تعالى :{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المقسطون على منابر من نور انتهى وكان من حقه أن يستشهد للمعنى بالآية الأخرى وهي قوله تعالى :{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وهي في المائدة وفي الحجرات، والحديث الذي ذكره صحيح أخرجه مسلم، وفي الصحيح عن أبي هريرة رفعه في ذكر عيسى بن مريم ينزل حكما مقسطا وفي الأسماء الحسنى المقسط، قال الحليمي هو المعطي عباده القسط وهو العدل من نفسه وقد يكون معناه المعطى لكل منهم قسطا من خيره، وقوله: كأنه لزم القسط يشير إلى أن الهمزة فيه للسلب، وبذلك جزم صاحب النهاية، وذكر ابن القطاع أن قسط من الأضداد، وقد أجاب ابن بطال

(13/539)


عن اعتراض من اعترض على قول البخاري مصدر المقسط فقال: أراد بالمصدر ما حذفت زوائده كقول الشاعر " وإن أهلك فذلك حين قدري " أي تقديري فرده إلى أصله، وإنما تحذف العرب الزوائد لترد الكلمة إلى أصلها، وأما المصدر المقسط الجاري على فعله فهو الإقساط. وقال الكرماني المراد بالمصدر المحذوف الزوائد نظرا إلى أصله، فهو مصدر مصدره إذ لا خفاء أن المصدر الجاري على فعله هو الإقساط فإن قيل المزيد لا بد أن يكون من جنس المزيد عليه. قلت: إما أن يكون من القسط بالكسر وإما أن يكون من القسط بالفتح الذي هو بمعنى الجور والهمزة للسلب والإزالة. قوله: "حدثنا أحمد بن إشكاب" بكسر الهمزة وسكون المعجمة وآخره موحدة غير منصرف لأنه أعجمي وقيل بل عربي فينصرف وهو لقب، واسمه مجمع وقيل معمر وقيل عبيد الله وكنية أحمد أبو عبد الله وهو الصفار الحضرمي نزيل مصر، قال البخاري: آخر ما لقيته بمصر سنة سبع عشرة وأرخ ابن حبان وفاته فيها. وقال ابن يونس مات سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة. قلت: وليس بينه وبين علي بن إشكاب ولا محمد بن إشكاب قرابة. قوله: "حدثنا محمد بن فضيل" أي ابن غزوان بفتح المعجمة وسكون الزاي ولم أر هذا الحديث إلا من طريقه بهذا الإسناد، وقد تقدم في الدعوات وفي الأيمان والنذور وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان كلهم من طريقه قال الترمذي حسن صحيح غريب. قلت: وجه الغرابة فيه ما ذكرته من تفرد محمد ابن فضيل وشيخه وشيخ شيخه وصحابيه. قوله: "عن عمارة" في رواية قتيبة " عن ابن فضيل حدثنا عمارة " وقد تقدمت في الأيمان والنذور. قوله: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن" كذا في هذه الرواية بتقديم " حبيبتان " وتأخير " ثقيلتان " وقد تقدم في الدعوات وفي الأيمان والنذور بتقديم " خفيفتان " وتأخير " حبيبتان " وهي رواية مسلم عن زهير بن حرب ومحمد ابن عبد الله بن نمير وأبي كريب ومحمد بن طريف وكذا عند الباقين ممن تقدم ذكره ومن سيأتي عن شيوخهم. وفي قوله: "كلمتان " إطلاق كلمة على الكلام وهو مثل كلمة الإخلاص وكلمة الشهادة، وقوله: "كلمتان " هو الخبر و " حبيبتان " وما بعدها صفة والمبتدأ سبحان الله إلى آخره والنكتة في تقديم الخبر تشويق السامع إلى المبتدأ وكلما طال الكلام في وصف الخبر حسن تقديمه لأن كثرة الأوصاف الجميلة تزيد السامع شوقا، وقوله: "حبيبتان " أي محبوبتان، والمعنى: محبوب قائلهما، ومحبة الله للعبد تقدم معناها في " كتاب الرقاق " وقوله: "ثقيلتان في الميزان " هو موضع الترجمة لأنه مطابق لقوله: وأن أعمال بني آدم توزن. قال الكرماني فإن قيل فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ولا سيما إذا كان موصوفه معه، فلم عدل عن التذكر إلى التأنيث؟ فالجواب أن ذلك جائز لا واجب وأيضا فهو في المفرد لا المثنى سلمنا لكن أنث لمناسبة الثقيلتين والخفيفتين أو لأنها بمعنى الفاعل لا المفعول والتاء لنقل اللفظة من الوصفية إلى الاسمية وقد يطلق على ما لم يقع لكنه متوقع كمن يقول خذ ذبيحتك للشاة التي لم تذبح فإذا وقع عليها الفعل فهي ذبيح حقيقة، وخص لفظ الرحمن بالذكر لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى على عباده حيث يجازى على العمل القليل بالثواب الكثير. قوله: "خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان" وصفهما بالخفة والثقل لبيان قلة العمل وكثرة الثواب وفي هذه الألفاظ الثلاثة سجع مستعذب وقد تقدم في الدعوات بيان الجائز منه والمنهي عنه وكذا في الحدود في حديث سجع كسجع الكهان، والحاصل أن المنهي عنه ما كان متكلفا أو متضمنا لباطل لا ما جاء عفوا عن غير قصد إليه، وقوله: "خفيفتان " فيه إشارة إلى قلة كلامهما وأحرفهما ورشاقتهما، قال الطيبي: الخفة مستعارة للسهولة وشبه سهولة جريانها على اللسان بما خف على الحامل من

(13/540)


بعض الأمتعة فلا تتعبه كالشيء الثقيل، وفيه إشارة إلى أن سائر التكاليف صعبة شاقة على النفس ثقيلة وهذه سهلة عليها مع أنها تثقل الميزان كثقل الشاق من التكاليف، وقد سئل بعض السلف عن سبب ثقل الحسنة وخفة السيئة، فقال: لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفت فلا يحملنك خفتها على ارتكابها. قوله: "سبحان الله" تقدم معناه في باب فضل التسبيح من " كتاب الدعوات". قوله: "وبحمده" قيل الواو للحال والتقدير: أسبح الله متلبسا بحمدي له من أجل توفيقه وقيل عاطفة والتقدير أسبح الله وأتلبس بحمده، ويحتمل أن يكون الحمد مضافا للفاعل والمراد من الحمد لازمه أو ما يوجب الحمد من التوفيق ونحوه، ويحتمل أن تكون الباء متعلقة بمحذوف متقدم والتقدير وأثنى عليه بحمده فيكون " سبحان الله " جملة مستقلة و " بحمده " جملة أخرى. وقال الخطابي في حديث: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك أي بقوتك التي هي نعمة توجب علي حمدك سبحتك لا بحولي وبقوتي كأنه يريد أن ذلك مما أقيم فيه السبب مقام المسبب، واتفقت الروايات عن محمد بن فضيل على ثبوت وبحمده إلا أن الإسماعيلي قال بعد أن أخرجه من رواية زهير بن حرب وأحمد بن عبدة وأبي بكر بن أبي شيبة والحسين بن علي بن الأسود عنه لم يقل أكثرهم " وبحمده". قلت: وقد ثبت من رواية زهير بن حرب عند الشيخين وعند مسلم عن بقية من سميت من شيوخه والترمذي عن يوسف بن عيسى والنسائي عن محمد بن آدم وأحمد بن حرب وابن ماجه عن علي بن محمد وعلي بن المنذر وأبو عوانة عن محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي وابن حبان أيضا من رواية محمد بن عبد الله بن نمير كلهم عن محمد ابن فضيل كأنها سقطت من رواية أبي بكر وأحمد بن عبدة والحسين. قوله: "سبحان الله العظيم" هكذا عند الأكثر بتقديم " سبحان الله وبحمده " على " سبحان الله العظيم " وتقدم في الدعوات عن زهير بن حرب بتقديم " سبحان الله العظيم " على " سبحان الله وبحمده " وكذا هو عند أحمد بن حنبل عن محمد بن فضيل وكذا عند جميع من سميته قبل، وقد وقع لي بعلو في " كتاب الدعاء " لمحمد ابن فضيل من رواية علي بن المنذر عنه بثبوت " وبحمده " وتقديم " سبحان الله وبحمده " قال ابن بطال هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال كالطهارة من الحرام والمعاصي العظام فلا تظن أن من أدمن الذكر وأصر على ما شاءه من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه ليس معه تقوى ولا عمل صالح. قال الكرماني صفات الله وجودية كالعلم والقدرة وهي صفات الإكرام وعدمية كلا شريك له ولا مثل له وهي صفات الجلال فالتسبيح إشارة إلى صفات الجلال والتحميد إشارة إلى صفات الإكرام وترك التقييد مشعر بالتعميم، والمعنى أنزهه عن جميع النقائص وأحمده بجميع الكمالات، قال: والنظم الطبيعي يقتضي تقديم التحلية على التخلية فقدم التسبيح الدال على التخلي على التحميد الدال على التحلي وقدم لفظ الله لأنه اسم الذات المقدسة الجامع لجميع الصفات والأسماء الحسنى، ووصفه بالعظيم لأنه الشامل لسلب ما لا يليق به وإثبات ما يليق به إذ العظمة الكاملة مستلزمة لعدم النظير والمثيل ونحو ذلك، وكذا العلم بجميع المعلومات والقدرة على جميع المقدورات ونحو ذلك، وذكر التسبيح متلبسا بالحمد ليعلم ثبوت الكمال له نفيا وإثباتا وكرره تأكيدا ولأن الاعتناء بشأن التنزيه أكثر من جهة كثرة المخالفين ولهذا جاء في القرآن بعبارات مختلفة نحو سبحان وسبح بلفظ الأمر وسبح بلفظ الماضي ويسبح بلفظ المضارع، ولأن التنزيهات تدرك بالعقل بخلاف الكمالات فإنها تقصر عن إدراك حقائقها كما قال بعض المحققين: الحقائق الإلهية لا تعرف إلا بطريق

(13/541)


السلب كما في العلم لا يدرك منه إلا أنه ليس بجاهل، وأما معرفة حقيقة علمه فلا سبيل إليه. وقال شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني في كلامه على مناسبة أبواب صحيح البخاري الذي نقلته عنه في أواخر المقدمة: لما كان أصل العصمة أولا وآخرا هو توحيد الله فختم بكتاب التوحيد، وكان آخر الأمور التي يظهر بها المفلح من الخاسر ثقل الموازين وخفتها فجعله آخر تراجم الكتاب، فبدأ بحديث: "الأعمال بالنيات " وذلك في الدنيا، وختم بأن الأعمال توزن يوم القيامة، وأشار إلى أنه إنما يثقل منها ما كان بالنية الخالصة لله تعالى، وفي الحديث الذي ذكره ترغيب وتخفيف، وحث على الذكر المذكور لمحبة الرحمن له والخفة بالنسبة لما يتعلق بالعمل والثقل بالنسبة لإظهار الثواب، وجاء ترتيب هذا الحديث على أسلوب عظيم وهو أن حب الرب سابق وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال ثم بين ما فيهما من الثواب العظيم النافع يوم القيامة انتهى ملخصا. وقال الكرماني تقدم في أول " كتاب التوحيد " بيان ترتيب أبواب الكتاب وأن الختم بمباحث كلام الله لأنه مدار الوحي، وبه تثبت الشرائع ولهذا افتتح ببدء الوحي والانتهاء إلى ما منه الابتداء ونعم الختم بها، ولكن ذكر هذا الباب ليس مقصودا بالذات بل هو لإرادة أن يكون آخر الكلام التسبيح والتحميد، كما أنه ذكر حديث الأعمال بالنيات في أول الكتاب لإرادة بيان إخلاصه فيه كذا قال، والذي يظهر أنه قصد ختم كتابه بما دل على وزن الأعمال لأنه آخر آثار التكليف فإنه ليس بعد الوزن إلا الاستقرار في أحد الدارين إلى أن يريد الله إخراج من قضى بتعذيبه من الموحدين فيخرجون من النار بالشفاعة كما تقدم بيانه. قال الكرماني وأشار أيضا إلى أنه وضع كتابه قسطاسا وميزانا يرجع إليه، وأنه سهل على من يسره الله تعالى عليه وفيه إشعار بما كان عليه المؤلف في حالتيه أولا وآخرا، تقبل الله تعالى منه وجزاه أفضل الجزاء. قلت: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم الحث على إدامة هذا الذكر، وقد تقدم في باب فضل التسبيح من وجه آخر عن أبي هريرة حديث آخر لفظه: من قال: "سبحان الله وبحمده " قي يومه مائة مرة حطت خطاياه، وإن كانت مثل زيد البحر ، وإذا ثبت هذا في قول " سبحان الله وبحمده " وحدها فإذا انضمت إليها الكلمة الأخرى فالذي يظهر أنها تفيد تحصيل الثواب الجزيل المناسب لها، كما أن من قال الكلمة الأولى وليست له خطايا مثلا فإنه يحصل له من الثواب ما يوازن ذلك، وفيه إيراد الحكم المرغب في فعله بلفظ الخبر لأن المقصود من سياق هذا الحديث الأمر بملازمة الذكر المذكور، وفيه تقديم المبتدأ على الخبر كما مضى في قوله: "كلمتان " وفيه من البديع: المقابلة والمناسبة والموازنة في السجع لأنه قال: "حبيبتان إلى الرحمن " ولم يقل للرحمن لموازنة قوله: "على اللسان " وعدى كلا من الثلاثة بما يليق به وفيه إشارة امتثال قوله تعالى :{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وقد أخبر الله تعالى عن الملائكة في عدة آيات أنهم يسبحون بحمد ربهم، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر. قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أي الكلام أحب إلى الله قال ما اصطفى الله لملائكته سبحان ربي وبحمده سبحان ربي وبحمده ، وفي لفظ له أن أحب الكلام إلى الله سبحانه: سبحان الله وبحمده. وفي لفظ له ان احب الكلام الى الله سبحانه سبحان الله وبحمده خاتمة اشتمل كتاب التوحيد من الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث وخمسة وأربعين حديثا المعلق منها وما في معناه من المتابعة خمسة وخمسون طريقا والباقي موصول المكرر منها فيه وفيما مضى معظمها والخالص منها أحد عشر حديثا انفرد عن مسلم بأكثرها وأخرج مسلم منها حديث عائشة في أمر السرية في ذكر قل هو الله أحد وحديث أبي هريرة اذنب عبد من عبادي ذنبا وحديثه إذا تقرب العبد مني شبرا وحديثه يقول الله عز وجل انا ثم ظن عبدي بي وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ستة وثلاثون أثرا فجميع

(13/542)


ما في الجامع من الأحاديث بالمكرر موصولا ومعلقا وما في معناه من المتابعة تسعة آلاف واثنان وثمانون ما فيه موصولا ومعلقا بغير تكرار الفا حديث وخمسمائة حديث وثلاثة عشر حديثا فمن ذلك المعلق وما في معناه من المتابعة مائة وستون حديثا والباقي موصول وافقه مسلم على تخريجها سوى ثمانمئة وعشرين حديثا وقد بينت ذلك مفصلا في آخر كل كتاب من كتب هذا الجامع وجمعت ذلك هنا تنبيها على وهم من زعم ان عدده بالمكرر سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا وان عدده بغير المكرر أربعة آلاف أو نحو أربعة آلاف وقد أوضحت ذلك مفصلا في أواخر المقدمة وذلك كله خارج عما أودعه في تراجم الأبواب من ألفاظ الحديث لبعض بما يدل على انه حديث تزوجها كما نبهت على كل موضع من ذلك في بابه كقوله باب اثنان فما فوقهما جماعة فإنه لفظ حديث أخرجه بن ماجة وفيه من الآثار الموقوفة على أصحابه فمن بعدهم ألف وستمائة وثمانية آثار وقد ذكرت تفاصيلها أيضا عقب كل كتاب ولله الحمد في الكتاب آثار كثيرة لم يصرح بنسبتها لقائل مسمى ولا مبهم خصوصا في التفسير وفي التراجم فلم يدخل في هذه العدة وقد نبهت عليها أيضا في اماكنها ومما اتفق له من المناسبات التي لم أر من نبه عليها انه يعتني غالبا بأن يكون في الحديث الأخير من كل كتاب من كتب هذا الجامع مناسبة لختمه ولو كانت الكلمة في أثناء الحديث الأخير أو من الكلام عليه كقوله في آخر حديث بدء الوحي فكان ذلك آخر شأن هرقل وقوله في آخر كتاب الإيمان ثم استغفر ونزل وفي آخر كتاب العلم وليقطعهما حتى يكون تحت الكعبين وفي آخر كتاب الوضوء واجعلهن آخر ما تكلم به وفي آخر كتاب الغسل وذلك الأخير انما بيناه لاختلافهم وفي آخر كتاب التيمم عليك بالصعيد فإنه يكفيك وفي آخر كتاب الصلاة استئذان المرأة زوجها في الخروج وفي آخر كتاب الجمعة ثم تكون القائلة وفي آخر كتاب العيدين لم يصل قبلها ولا بعدها وفي آخر الاستسقاء بأي أرض تموت وفي آخر تقصير الصلاة وان كنت نائمة اضطجعي وفي آخر التهجد والتطوع وبعد العصر حتى تغرب وفي آخر العمل في الصلاة فأشار إليهم ان اجلسوا فلما انصرف وفي آخر كتاب الجنائز فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وهو من التباب ومعناه الهلاك وفي آخر الزكاة صدقة الفطر ولها دخول في الآخرية من جهة كونها تقع في آخر رمضان مكفرة لما مضى وفي آخر الحج واجعل موتي في بلد رسولك وفي آخر الصيام ومن لم يكن أكل فليصم وفي آخر الاعتكاف ما انا بمعتكف فرجع وفي آخر البيع والاجارة حتى أجلاهم عمر وفي آخر الحوالة فصلى عليه وفي آخر الكفالة من ترك مالا فلورثته وفي آخر المزارعة ما نسيت من مقالتي تلك الى يومي هذا شيئا وفي آخر الملازمة حتى أموت ثم ابعث وفي آخر الشرب فشرب حتى رضيت وفي آخر المظالم فكسروا صومعته وأنزلوه وفي آخر الشركة أفنذبح بالقصب وفي آخر الرهن أولئك لا خلاق لهم في الآخرة وفي آخر العتق الولاء لمن اعتق وفي آخر الهبة ولا تعد في صدقتك وفي آخر الشهادات لأتوهما ولو حبوا وفي آخر الصلح قم فاقضه وفي آخر الشروط لا تباع ولا توهب ولا تورث وفي آخر الجهاد قدمت فقال صل ركعتين وفي آخر فرض الخمس حرمها البتة وفي آخر الجزية والموادعة فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة وفي آخر بدء الخلق وأحاديث الأنبياء قدم معاوية المدينة آخر قدمة قدمها وفي آخر المناقب توفيت خديجة رضي الله عنها قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخر الهجرة فترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وفي آخر

(13/543)


المغازي الوفاة النبوية وما يتعلق بها وفي آخر التفسير تفسير المعوذتين وفي آخر فضائل القرآن اختلفوا فأهلكوا وفي آخر النكاح فلا يمنعني من التحرك وفي آخر الطلاق وتعفو أثرة وفي آخر اللعان أبعد لك منها وفي آخر النفقات أعتقها أبو لهب وفي آخر الأطعمة وانزل الحجاب وفي آخر الذبائح والأضاحي حتى تنفر من منى وفي آخر الأشربة وتابعه سعيد بن المسيب عن جابر وفي آخر المرضى وانقل حماها وفي آخر رآه ثم ليطرحه وفي آخر اللباس إحدى رجليه على الأخرى وفي آخر الأدب فليرده ما استطاع وفي آخر الاستئذان منذ قبض النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخر الدعوات كراهية السآمة علينا وفي آخر الرقاق أن نرجع على أعقابنا وفي آخر القدر إذا أرادوا فتنة أبينا وفي آخر الإيمان والنذور إذا سهم غابر فقتله وفي آخر الكفارة وكفر عن يمينك وفي آخر الحدود ان شاء عذبه وان شاء غفر له وفي آخر المحاربين اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة وفي آخر الإكراه يحجزه عن الظلم وفي آخر تعبير الرؤيا تجاوز الله عنهم وفي آخر الفتن أنهلك وفينا الصالحون وفي آخر الاحكام فاعتمرت بعد أيام الحج وفي آخر الاعتصام سبحانك هذا بهتان عظيم والتسبيح مشروع في الختام فلذلك ختم به كتاب التوحيد والحمد لله بعد التسبيح آخر دعوى أهل الجنة قال الله تعالى {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقد ورد في حديث أبي هريرة في ختم المجلس ما أخرجه الترمذي في الجامع والنسائي في اليوم والليلة وابن حبان في صحيحه والطبراني في الدعاء والحاكم في المستدرك كلهم من رواية حجاج بن محمد عن بن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال أقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس في مجلس وكثر فيه لغطه فقال قبل ان يقوم من مجلسه ذلك سبحانك اللهم وبحمدك اشهد ان لا اله الا أنت أستغفرك وأتوب إليك الا غفر له ما كان في مجلسه ذلك هذا لفظ الترمذي وقال حسن صحيح غريب لا نعرفه من حديث سهيل الا من هذا الوجه وفي الباب عن أبي برزة وعائشة وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم الا ان البخاري أعله برواية وهيب عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن كعب الأحبار كذا قال في المستدرك ووهم في ذلك فليس في هذا السند ذكر لوالد سهيل ولا كعب والصواب عن سهيل عن عون وكذا ذكره على الصواب في علوم الحديث فإنه ساقه فيه من طريق البخاري عن محمد بن سلام عن مخلد بن يزيد عن بن جريج بسنده ثم قال قال البخاري هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا هذا الحديث الا انه معلول حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة عن عون بن عبد الله قوله قال البخاري هذا أولى فانا لا نذكر لموسى بن عقبة سماعا من سهيل انتهى وأخرجه البيهقي في المدخل عن الحاكم بسنده المذكور في علوم الحديث عن البخاري فقال عن احمد بن حنبل ويحيى بن معين كلاهما عن حجاج بن محمد وساق كلام البخاري لكن قال لا أعلم بهذا الإسناد في هذا الحديث الا انه معلول وقوله لا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا هو المنقول عن البخاري لا قوله لا أعلم في الدنيا في هذا الباب فان في الباب عدة أحاديث لا تخفى على البخاري وقد ساق الخليل في الإرشاد هذه القصة الحاكم وذكر فيها ان مسلما قال العالمين أتعرف بهذا الإسناد في الدنيا هذا فقال لا الا انه معلول ثم ذكره عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن موسى بن عقبة عن عون بن عبد الله قوله وهو موافق لما في علوم الحديث في سند التعليل لا في قوله في هذا الباب فهو موافق لرواية البيهقي في قوله بهذا الإسناد وكأن الحاكم وهم في هذه اللفظة وهي قوله في هذا الباب وانما هي بهذا الإسناد

(13/544)


وهو كما قال لأن هذا الإسناد وهو بن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل لا يوجد الا في هذا المتن ولهذا قال البخاري لا أعلم لموسى سماعا من سهيل يعني انه إذا لم يكن معروفا بالأخذ عنه وجاءت عنه رواية خالف راويها وهو بن جريج من هو أكثر ملازمة لموسى بن عقبة منه رجحت رواية الملازم فهذا يوجبه تعليل البخاري واما من صححه فإنه لا يرى هذا الاختلاف علة قادحه بل يجوز انه ثم موسى بن عقبة على الوجهين وقد سبق البخاري الى تعليل هذه الرواية احمد بن حنبل فذكر الدارقطني في العلل عنه انه قال حديث بن جريج وهم والصحيح قول وهيب عن سهيل عن عون بن عبد الله قال الدارقطني والقول قول احمد وعلى ذلك جرى أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان قال بن أبي حاتم في العلل سألت أبي وأبا زرعة عن هذا الحديث فقالا هذا خطأ رواه وهيب عن سهيل عن عون بن عبد الله موقوفا وهذا أصح قال أبو حاتم يحتمل ان يكون الوهم من بن جريج ويحتمل ان يكون من سهيل انتهى وقد وجدناه من رواية أربعة عن موسى بن عقبة ففي الافراد للدارقطني من طريق عاصم بن عمرو وسليمان بن بلال وفي الذكر لجعفر الفريابي من طريق إسماعيل بن عياش وفي الدعاء للطبراني من طريق محمد بن أبي حميد أربعتهم عن سهيل والراوي عن عاصم وسليمان هو الواقدي وهو ضعيف وكذا محمد بن أبي حميد واما إسماعيل فان روايته الشاميين كمال وهذا منها وقد قال أبو حاتم هذه الرواية ما أدري ما هي ولا أعلم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من طريق أبي هريرة الا من رواية موسى عن سهيل انتهى وقد أخرجه أبو داود في السنن وابن حبان في صحيحه والطبراني في الدعاء من طريق بن وهب عن عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن أبي عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا وعن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد المقبري عن عبد الله بن عمرو موقوفا وذكر شيخنا شيخ الإسلام أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي الحافظ في النكت التي جمعها على علوم الحديث لابن الصلاح ان هذا الحديث ورد من رواية جماعة من الصحابة عدتهم سبعة زائدة على من ذكر الترمذي وأحال ببيان ذلك على تخريجه لأحاديث الاحياء وقد تتبعت الإشارة فوجدته من رواية خمسة آخرين فكملوا خمسة عشر نفسا ومعهم صحابي لم يسم فلم أضفه الى العدد لاحتمال ان يكون أحدهم وقد خرجت الإشارة فيما كتبته على علوم الحديث وأذكره هنا ملخصا وهم عبد الله بن عمرو بن العاص وحديثه ثم الطبراني في المعجم الكبير أخرجه موقوفا وعند أبي داود أخرجه موقوفا كما تقدم التنبيه عليه وأبو برزة الأسلمي وحديثه ثم أبي داود والنسائي والدارمي وسنده قوي وجبير بن مطعم وحديثه ثم النسائي وابن أبي عاصم ورجاله ثقات والزبير بن العوام وحديثه ثم الطبراني في المعجم الصغير وسنده ضعيف وعبد الله بن مسعود وحديثه ثم بن عدي في الكامل وسنده ضعيف والسائب بن يزيد وحديثه ثم الطحاوي في مشكل الآثار والطبراني في الكبير وسنده صحيح وأنس بن مالك وحديثه ثم الطحاوي والطبراني وسنده ضعيف وعائشة وحديثها ثم النسائي وسنده قوي وأبو سعيد الخدري وحديثه في كتاب الذكر لجعفر الفريابي وسنده صحيح الا انه لم يصرح برفعه وأبو امامة وحديثه ثم أبي يعلى وابن السني وسنده ضعيف ورافع بن خديج وحديثه ثم الحاكم والطبراني في الصغير ورجاله موثوقون الا انه اختلف على راوية في سنده وأبي بن كعب ذكره أبو موسى المديني ولم صليت على سنده ومعاوية ذكره أبو موسى أيضا وأشار الى انه وقع في بعض رواته تصحيف وأبو أيوب الأنصاري وحديثه في الذكر للفريابي أيضا وفي سنده ضعف يسير وعلي بن أبي طالب وحديثه ثم أبي علي بن الأشعث في السنن المروية عن أهل البيت وسنده

(13/545)


واه وعبد الله بن عمر وحديثه في الدعوات من مستدرك الحاكم وحديث رجل من الصحابة لم يسم أخرجه بن أبي شيبة في مصنفه من طريق أبي معشر زياد بن كليب قال حدثنا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ورجاله ثقات ووقع لي مع ذلك من مراسيل جماعة من التابعين منهم الشعبي وروايته ثم جعفر الفريابي في الذكر ويزيد الفقير وروايته في الكنى لأبي بشر الدولابي وجعفر أبو سلمة وروايته في الكنى للنسائي ومجاهد وعطاء ويحيى بن جعدة ورواياتهم في زيادات البر والصلة للحسين بن الحسن المروزي وحسان بن عطية وحديثه في ترجمته في الحلية لأبي نعيم وأسانيد هذه المراسيل جياد وفي بعض هذا ما يدل على ان للحديث أصلا وقد استوعبت طرقها وبينت اختلاف أسانيدها وألفاظ متونها فيما علقته على علوم الحديث لابن الصلاح في الكلام على الحديث المعلول ورأيت ختم هذا الفتح بطريق من طرق هذا الحديث مناسبة للختم أسوقها بالسند المتصل العالي بالسماع والاجازة الى منتهاه قرأت على الشيخ الامام العدل المسند المكثر الفقيه شهاب الدين أبي العباس احمد بن الحسن بن محمد بن محمد بن زكريا القدسي الزينبي بمنزله ظاهر القاهرة أخبرنا محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عيسى بن أبي بكر الأيوبي أنبأنا إسماعيل بن عبد المنعم بن الخيمي أنبأنا أبو بكر بن عبد العزيز بن احمد بن باقا أنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر أنبأنا عبد الرحمن بن حمد ح وقرأته عاليا على الشيخ الامام المقرىء المفتي العلامة أبي إسحاق إبراهيم بن احمد بن عبد الواحد بن عبد المؤمن بن كامل عن أيوب بن نعمة النابلسي سماعا عليه أنبأنا إسماعيل بن احمد العراقي عن عبد الرزاق بن إسماعيل القومسي أنبأنا عبد الرحمن بن حمد الدو أنبأنا أبو نصر احمد بن الحيسن الكسار أنبأنا أبو بكر احمد بن محمد بن إسحاق الحافظ المعروف بأن السني أنبأنا أبو عبد الرحمن احمد بن شعيب النسائي أنبأنا محمد بن إسحاق هو الصغاني حدثنا أبو مسلم منصور بن سلمة الخزاعي حدثنا خلاد بن سليمان هو الحضرمي عن خالد بن أبي عمران عن عروة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا أو صلى تكلم بكلمات فينبغي عن ذلك فقال ان تكلم بكلام خير كان طابعا عليه يعني خاتما عليه الى يوم القيامة وان تكلم بغير ذلك كانت كفارة له سبحانك اللهم وبحمدك لا اله الا أنت أستغفرك وأتوب إليك والله أعلم
والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وذريته والتابعين لم بإحسان وسلم تسلميا كثيرا (13/546) والحمد لله رب العالمين

=

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............