السبت، 7 مايو 2022

كتاب : فتح الباري .40- و41- أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

    كتاب : فتح الباري .40- أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 ==وهو جار على العرف السائغ في ذلك، وإنما خصت أم سلمة العبيد بذلك لأن العرف جرى برضا السادة باستخدام عبيدهم في الأمر اليسير الذي لا مشقة فيه، بخلاف الأحرار فلم تجر العادة بالتصرف فيهم بالخدمة كما يتصرف في العبيد، وأما قصة أنس فإنه كان في كفالة أمه فرأت له من المصلحة أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من تحصيل النفع العاجل والآجل، فأحضرته وكان زوجها معها فنسب الإحضار إليها تارة وإليه أخرى، وهذا صدر من أم سليم أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كما سبق في " باب حسن الخلق " من كتاب الأدب واضحا، وكانت لأبي طلحة في إحضار أنس قصة أخرى وذلك عند إرادة النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر كما أوضحت ذلك هناك أيضا، وتقدم في كتاب المغازي قوله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة لما أراد الخروج إلى خيبر " التمس لي غلاما يخرج معي فأحضر له أنسا " وقد بينت وجه الجمع المذكور في كتاب الأدب أيضا، قال الكرماني: مناسبة الحديث للترجمة أن الخدمة مستلزمة للإعانة، وقوله في آخر الحديث: "فما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا هكذا " كذا وقع بصيغة واحدة في الإثبات والنفي، وهو في الإثبات واضح وأما النفي فقال ابن التين مراده أنه لم يلمه في الشق الأول على شيء فعله ناقصا عن إرادته تجوزا عنه وحلما ولا لامه في الشق الثاني على ترك شيء لم يفعله خشية من أنس أن يخطئ فيه لو فعله، وإلى ذلك أشار بقوله: "هذا هكذا " لأنه كما صفح عنه فيما فعله ناقصا عن إرادته صفح عنه فيما لم يفعله خشية وقوع الخطأ منه، ولو فعله ناقصا عن إرادته لصفح عنه. انتهى ملخصا، ولا يخفى تكلفه. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل وهو ابن إبراهيم المعروف بابن علية راويه في هذا الباب بلفظ: "ولا لشيء لم أفعله لم لم تفعله " وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر فإن ابن علية مشهور بالرواية عن ابن جريج فروى ابن جريج هنا عن تلميذه.

(12/254)


باب المعدن جبار و البئر جبار
...
28- باب: الْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ
6912- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ
قوله: "باب المعدن جبار والبئر جبار" كذا ترجم ببعض الخبر، وأفرد بعضه بعده، وترجم في الزكاة لبقيته وقد تقدم في كتاب الشرب من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بتمامه وبدأ فيه بالمعدن وثنى بالبئر، وأورده هنا من طريق الليث قال: "حدثني ابن شهاب" وهذا مما سمعه الليث عن الزهري وهو كثير الرواية عنه بواسطة وبغير واسطة. قوله: "عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة" كذا جمعهما الليث ووافقه الأكثر، واقتصر بعضهم على أبي سلمة، وتقدم في الزكاة من رواية مالك عن ابن شهاب فقال: "عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن " وهذا قد يظن أنه عن سعيد مرسل وعن أبي سلمة موصول، وقد أخرجه مسلم والنسائي من رواية يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة قال الدار قطني: المحفوظ عن ابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة، وليس قول يونس بمدفوع. قلت: قد تابعه الأوزاعي عن الزهري في قوله: "عن عبيد الله" لكن قال: "عن ابن عباس" بدل أبي هريرة، وهو وهم من الراوي عنه يوسف بن خالد كما نبه عليه ابن عدي، وقد روى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد وحده عن أبي هريرة شيئا منه، وروى بعض الضعفاء عن

(12/254)


عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس بعضه ذكره ابن عدي وهو غلط، وأخرج مسلم الحديث بتمامه من رواية الأسود بن العلاء عن أبي سلمة، وقد رواه عن أبي هريرة جماعة غير من ذكر منهم محمد بن زياد كما في الباب الذي بعد وهمام بن منبه أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. قوله: "العجماء" بفتح المهملة وسكون الجيم وبالمد تأنيث أعجم وهي البهيمة، ويقال أيضا لكل حيوان غير الإنسان، ويقال لمن لا يفصح والمراد هنا الأول. قوله: "جبار" بضم الجيم وتخفيف الموحدة هو الهدر الذي لا شيء فيه، كذا أسنده ابن وهب عن ابن شهاب، وعن مالك ما لا دية فيه أخرجه الترمذي، وأصله أن العرب تسمي السيل جبارا أي لا شيء فيه، وقال الترمذي فسر بعض أهل العلم قالوا: العجماء الدابة المنفلتة من صاحبها فما أصابت من انفلاتها فلا غرم على صاحبها، وقال أبو داود بعد تخرجه: العجماء التي تكون منفلتة لا يكون معها أحد، وقد تكون بالنهار ولا تكون بالليل ووقع عند ابن ماجه في آخر حديث عبادة بن الصامت " والعجماء البهيمة من الأنعام وغيرها، والجبار هو الهدر الذي لا يغرم " كذا وقع التفسير مدرجا وكأنه من رواية موسى بن عقبة. وذكر ابن العربي أن بناء ج ب ر للرفع والإهدار من باب السلب وهو كثير يأتي اسم الفعل والفاعل لسلب معناه كما يأتي لإثبات معناه، وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأنه للرفع على بابه لأن إتلافات الآدمي مضمونة مقهور متلفها على ضمانها، وهذا إتلاف قد ارتفع عن أن يؤخذ به أحد، وسيأتي بقية ما يتعلق بالعجماء في الباب الذي يليه. قوله: "والبئر جبار" في رواية الأسود بن العلاء عند مسلم: "والبئر جرحها جبار " أما البئر فهي بكسر الموحدة ثم ياء ساكنة مهموزة ويجوز تسهيلها وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب والطوى والجمع أبؤر وآبار بالمد والتخفيف وبهمزتين بينهما موحدة ساكنة، قال أبو عبيد: المراد بالبئر هنا العادية القديمة التي لا يعلم لها مالك تكون في البادية فيقع فيها إنسان أو دابة فلا شيء في ذلك على أحد، وكذلك لو حفر بئرا في ملكه أو في موات فوقع فيها إنسان أو غيره فتلف فلا ضمان إذا لم يكن منه تسبب إلى ذلك ولا تغرير، وكذا لو استأجر إنسانا ليحفر له البئر فانهارت عليه فلا ضمان، وأما من حفر بئرا في طريق المسلمين وكذا في ملك غيره بغير إذن فتلف بها إنسان فإنه يجب ضمانه على عاقلة الحافر والكفارة في ماله، وإن تلف بها غير آدمي وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كل حفرة على التفصيل المذكور، والمراد بجرحها وهي بفتح الجيم لا غير كما نقله في النهاية عن الأزهري ما يحصل بالواقع فيها من الجراحة وليست الجراحة مخصوصة بذلك بل كل الإتلافات ملحقة بها قال عياض وجماعة إنما عبر بالجرح لأنه الأغلب أو هو مثال نبه به على ما عداه والحكم في جميع الإتلافات بها سواء كان على نفس أو مال، ورواية الأكثر تتناول ذلك على بعض الآراء، ولكن الراجح الذي يحتاج لتقدير لا عموم فيه، قال ابن بطال: وخالف الحنفية في ذلك فضمنوا حافر البئر مطلقا قياسا على راكب الدابة، ولا قياس مع النص، قال ابن العربي اتفقت الروايات المشهورة على التلفظ بالبئر، وجاءت رواية شاذة بلفظ: "النار جبار" بنون وألف ساكنة قبل الراء ومعناه عندهم أن من استوقد نارا مما يجوز له فتعدت حتى أتلفت شيئا فلا ضمان عليه، قال وقال بعضهم: صحفها بعضهم لأن أهل اليمن يكتبون النار بالياء لا بالألف فظن بعضهم البئر الموحدة النار بالنون فرواها كذلك، قلت هذا التأويل نقله ابن عبد البر وغيره عن يحيى بن معين وجزم بأن معمرا صحفه حيث رواه عن همام عن أبي هريرة، قال ابن عبد البر: ولم يأت ابن معين على قوله بدليل، وليس بهذا ترد أحاديث الثقات. قلت: ولا يعترض على الحفاظ الثقات بالاحتمالات. ويؤيده

(12/255)


ما قال ابن معين اتفاق الحفاظ من أصحاب أبي هريرة على ذكر البئر دون النار، وقد ذكر مسلم أن علامة المنكر في حديث المحدث أن يعمد إلى مشهور بكثرة الحديث والأصحاب فيأتي عنه بما ليس عندهم وهذا من ذاك، ويؤيده أيضا أنه وقع عند أحمد من حديث جابر بلفظ: "والجب جبار" بجيم مضمومة وموحدة ثقيلة وهي البئر، وقد اتفق الحفاظ على تغليط سفيان بن حسين حيث روى عن الزهري في حديث الباب: "الرجل جبار" بكسر الراء وسكون الجيم، وما ذاك إلا أن الزهري مكثر من الحديث والأصحاب فتفرد سفيان عنه بهذا اللفظ فعد منكرا، وقال الشافعي: لا يصح هذا. وقال الدار قطني: رواه عن أبي هريرة سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعبيد الله بن عبد الله والأعرج وأبو صالح ومحمد بن زياد ومحمد ابن سيرين فلم يذكروها، وكذلك رواه أصحاب الزهري وهو المعروف: نعم الحكم الذي نقله ابن العربي صحيح ويمكن أن يتلقى من حيث المعنى من الإلحاق بالعجماء ويلتحق به كل جماد، فلو أن شخصا عثر فوقع رأسه في جدار فمات أو انكسر لم يجب على صاحب الجدار شيء. قوله: "والمعدن جبار" وقع في رواية الأسود بن العلاء عند مسلم: "والمعدن جرحها جبار" والحكم فيه ما تقدم في البئر لكن البئر مؤنثة والمعدن مذكر فكأنه ذكره بالتأنيث للمؤاخاة أو لملاحظة أرض المعدن، فلو حفر معدنا في ملكه أو في موات فوقع فيه شخص فمات فدمه هدر، وكذا لو استأجر أجيرا يعمل له فانهار عليه فمات، ويلتحق بالبئر والمعدن في ذلك كل أجير على عمل كمن استؤجر على صعود نخلة فسقط منها فمات. قوله: "وفي الركاز الخمس" تقدم شرحه مستوفى في كتاب الزكاة

(12/256)


29- باب: الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا لاَ يُضَمِّنُونَ مِنْ النَّفْحَةِ، وَيُضَمِّنُونَ مِنْ رَدِّ الْعِنَانِ. وَقَالَ حَمَّادٌ: لاَ تُضْمَنُ النَّفْحَةُ إِلاَّ أَنْ يَنْخُسَ إِنْسَانٌ الدَّابَّةَ وَقَالَ شُرَيْحٌ لاَ تُضْمَنُ مَا عَاقَبَتْ أَنْ يَضْرِبَهَا فَتَضْرِبَ بِرِجْلِهَا وَقَالَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ إِذَا سَاقَ الْمُكَارِي حِمَارًا عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَتَخِرُّ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ إِذَا سَاقَ دَابَّةً فَأَتْعَبَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ، وَإِنْ كَانَ خَلْفَهَا مُتَرَسِّلًا لَمْ يَضْمَنْ
6913- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْعَجْمَاءُ عَقْلُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ"
قوله: "باب العجماء جبار" أفردها بترجمة لما فيها من التفاريع الزائدة عن البئر والمعدن، وتقدمت الإشارة إلى ذلك. قوله: "وقال ابن سيرين كانوا لا يضمنون" بالتشديد "من النفحة" بفتح النون وسكون الفاء ثم حاء مهملة أي الضربة بالرجل، يقال نفحت الدابة إذا ضربت برجلها ونفح بالمال رمى به ونفح عن فلان ونافح دفع ودافع. قوله: "ويضمنون من رد العنان" بكسر المهملة ثم نون خفيفة هو ما يوضع في فم الدابة ليصرفها الراكب كما يختار والمعنى أن الدابة إذا كانت مركوبة فلفت الراكب عنانها فأصابت برجلها شيئا ضمنه الراكب، وإذا ضربت برجلها من غير أن يكون له في ذلك تسبب لم يضمن، وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور عن هشيم حدثنا ابن عون عن محمد بن سيرين، وهذا سند صحيح، وأسنده ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن سيرين نحوه. قوله: "وقال حماد لا تضمن النفحة إلا أن ينخس" بنون ومعجمة ثم مهملة أي يطعن. قوله: "إنسان الدابة" هو

(12/256)


أعم من أن يكون صاحبها أو أجنبيا، وهذا الأثر وصل بعضه ابن أبي شيبة من طريق شعبة سألت الحكم عن رجل واقف على دابته فضربت برجلها فقال: يضمن، وقال حماد: لا يضمن. قوله: "وقال شريح" هو ابن الحارث القاضي المشهور. قوله: "لا يضمن ما عاقبت" أي الدابة "أن يضربها فتضرب برجلها" وصله ابن أبي شيبة من طريق محمد بن سيرين عن شريح قال: يضمن السائق والراكب ولا يضمن الدابة إذا عاقبت قلت: وما عاقبت قال إذا ضربها رجل فأصابته. وأخرجه سعيد بن منصور من هذا الوجه وزاد: "أو رأسها إلا أن يضربها رجل فتعاقبه فلا ضمان". قوله: "وقال الحكم" أي ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغر هو الكوفي أحد فقهائهم "وحماد" هو ابن أبي سليمان أحد فقهاء الكوفة أيضا. قوله: "إذا ساق المكاري" بكسر الراء وبفتحها أيضا. قوله: "حمارا عليه امرأة فتخر" بالخاء المعجمة أي تسقط. قوله: "لا شيء عليه" أي لا ضمان. قوله: "وقال الشعبي إذا ساق دابة فأتعبها فهو ضامن لما أصابت وإن كان خلفها مترسلا لم يضمن" وصلها سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من طريق إسماعيل بن سالم عن عامر وهو الشعبي قال: إذا ساق الرجل الدابة وأتعبها فأصابت إنسانا فهو ضامن، فإن كان خلفها مترسلا أي يمشي على هينته فليس عليه ضمان فيما أصابت. قال ابن بطال: فرق الحنفية فيما أصابت الدابة بيدها أو رجلها فقالوا لا يضمن ما أصابت برجلها وذنبها ولو كانت بسبب، ويضمن ما أصابت بيدها وفمها، فأشار البخاري إلى الرد بما نقله عن أئمة أهل الكوفة مما يخالف ذلك. وقد احتج لهم الطحاوي بأنه لا يمكن التحفظ من الرجل والذنب بخلاف اليد والفم واحتج برواية سفيان بن حسين " الرجل جبار " وقد غلطه الحفاظ، ولو صح فاليد أيضا جبار بالقياس على الرجل. وكل منهما مقيد بما إذا لم يكن لمن هي معه مباشرة ولا تسبب، ويحتمل أن يقال حديث: "الرجل جبار" مختصر من حديث: "العجماء جبار " لأنها فرد من أفراد العجماء، وهم لا يقولون بتخصيص العموم بالمفهوم فلا حجة لهم فيه، وقد وقع في حديث الباب زيادة " والرجل جبار " أخرجه الدار قطني من طريق آدم عن شعبة. وقال تفرد آدم عن شعبة بهذه الزيادة وهي وهم، وعند الحنفية خلاف فقال أكثرهم لا يضمن الراكب والقائد في الرجل والذنب إلا إن أوقفها في الطريق، وأما السائق فقيل ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها لأن النفحة بمرأى عينه فيمكنه الاحتراز عنها، والراجح عندهم لا يضمن النفحة وإن كان يراها إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه، بخلاف الفم فإنه يمنعها باللجام وكذا قال الحنابلة. قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم ومحمد بن زيادة هو الجمحي والسند بصريون. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية الإسماعيلي من طريق علي بن الجعد عن شعبة عن محمد بن زيادة "سمعت أبا هريرة". قوله: "العجماء عقلها جبار" في رواية حامد البلخي عن أبي زيد عن شعبة "جرح العجماء جبار" أخرجه الإسماعيلي، ووقع في رواية الأسود بن العلاء عند مسلم: "العجماء جرحها جبار " وكذا في حديث كثير بن عبد الله المزني عند ابن ماجه، وفي حديث عبادة بن الصامت عنده، وقال شيخنا في شرح الترمذي: وليس ذكر الجرح قيدا وإنما المراد به إتلافها بأي وجه كان سواء كان بجرح أو غيره، والمراد بالعقل الدية أي لا دية فيما تتلفه. وقد استدل بهذا الإطلاق من قال: لا ضمان فيما أتلفت البهيمة سواء كانت منفردة أو معها أحد سواء كان راكبها أو سائقها أو قائدها، وهو قول الظاهرية، واستثنوا ما إذا كان الفعل منسوبا إليه بأن حملها على ذلك الفعل إذا كان راكبا كأن يلوي عنانها فتتلف

(12/257)


شيئا برجلها مثلا أو يطعنها أو يزجرها حين يسوقها أو يقودها حتى تتلف ما مرت عليه، وأما ما لا ينسب إليه فلا ضمان فيه. وقال الشافعية إذا كان مع البهيمة إنسان فإنه يضمن ما أتلفته من نفس أو عضو أو مال سواء كان سائقا أو راكبا أو قائدا سواء كان مالكا أو أجيرا أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو ذنبها أو رأسها، وسواء كان ذلك ليلا أو نهارا، والحجة في ذلك أن الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره، ومن هو مع البهيمة حاكم عليها فهي كالآلة بيده ففعلها منسوب إليه سواء حملها عليه أم لا، سواء علم به أم لا وعن مالك كذلك إلا إن رمحت بغير أن يفعل بها أحد شيئا ترمح بسببه، وحكاه ابن عبد البر عن الجمهور. وقد وقع في رواية جابر عند أحمد والبزار بلفظ: "السائمة جبار" وفيه إشعار بأن المراد بالعجماء البهيمة التي ترعى لا كل بهيمة، لكن المراد بالسائمة هنا التي ليس معها أحد لأنه الغالب على السائمة، وليس المراد بها التي لا تعلف كما في الزكاة فإنه ليس مقصودا هنا، واستدل به على أنه لا فرق في إتلاف البهيمة للزروع وغيرها في الليل والنهار وهو قول الحنفية والظاهرية، وقال الجمهور: إنما يسقط الضمان إذا كان ذلك نهارا، وأما بالليل فإن عليه حفظها، فإذا أتلفت بتقصير منه وجب عليه ضمان ما أتلفت، ودليل هذا التخصيص ما أخرجه الشافعي رضي الله عنه وأبو داود والنسائي وابن ماجه كلهم من رواية الأوزاعي والنسائي أيضا وابن ماجه من رواية عبد الله بن عيسى والنسائي أيضا من رواية محمد بن ميسرة وإسماعيل بن أمية كلهم عن الزهري عن حرام ابن محيصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل " وأخرج ابن ماجه أيضا من رواية الليث عن الزهري عن ابن محيصة أن ناقة للبراء ولم يسم حراما، وأخرج أبو داود من رواية معمر عن الزهري فزاد فيه رجلا قال: "عن حرام بن محيصة عن أبيه " وكذا أخرجه مالك والشافعي عنه عن الزهري "عن حرام بن سعيد بن محيصة أن ناقة " وأخرجه الشافعي في رواية المزني في المختصر عنه عن سفيان عن الزهري فزاد مع حرام سعيد بن المسيب قالا " إن ناقة للبراء " وفيه اختلاف آخر أخرجه البيهقي من رواية ابن جريج عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل فاختلف فيه على الزهري على ألوان والمسند منها طريق حرام عن البراء. وحرام بمهملتين اختلف هل هو ابن محيصة نفسه أو ابن سعد بن محيصة، قال ابن حزم: وهو مع ذلك مجهول لم يرو عنه إلا الزهري ولم يوثقه. قلت: وقد وثقه ابن سعد وابن حبان لكن قال إنه لم يسمع من البراء انتهى وعلى هذا فيحتمل أن يكون قول من قال فيه عن البراء أي عن قصة ناقة البراء فتجتمع الروايات، ولا يمتنع أن يكون للزهري فيه ثلاثة أشياخ، وقد قال ابن عبد البر: هذا الحديث وإن كان مرسلا فهو مشهور حدث به الثقات وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول، وأما إشارة الطحاوي إلى أنه منسوخ بحديث الباب فقد تعقبوه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال مع الجهل بالتاريخ، وأقوى من ذلك قول الشافعي: أخذنا بحديث البراء لثبوته ومعرفة رجاله ولا يخالفه حديث: "العجماء جبار " لأنه من العام المراد به الخاص، فلما قال: "العجماء جبار" وقضى فيما أفسدت العجماء بشيء في حال دون حال دل ذلك على أن ما أصابت العجماء من جرح وغيره في حال جبار وفي حال غير جبار ثم نقض على الحنفية أنهم لم يستمروا على الأخذ بعمومه في تضمين الراكب متمسكين بحديث: "الرجل جبار " مع ضعف راويه كما تقدم، وتعقب بعضهم على الشافعية قولهم إنه لو جرت عادة قوم إرسال المواشي ليلا وحبسها

(12/258)


نهارا انعكس الحكم على الأصح، وأجابوا بأنهم اتبعوا المعنى في ذلك، ونظيره القسم الواجب للمرأة لو كان يكتسب ليلا ويأوي إلى أهله نهارا لانعكس الحكم في حقه مع أن عماد القسم الليل، نعم لو اضطربت العادة في بعض البلاد فكان بعضهم يرسلها ليلا وبعضهم يرسلها نهارا فالظاهر أنه يقضى بما دل عليه الحديث.

(12/259)


30- باب: إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ
6914- حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا"
قوله: "باب إثم من قتل ذميا بغير جرم" بضم الجيم وسكون الراء، وقد بينت في الجزية حكمة هذا القيد وأنه وإن لم يذكر في الخبر فقد عرف من قاعدة الشرع، ووقع نصا في رواية أبي معاوية عن الحسن بن عمرو عند الإسماعيلي بلفظ: "حق " وللبيهقي من رواية صفوان بن سليم عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ: "من قتل معاهدا له ذمة الله ورسوله " ولأبي داود والنسائي من حديث أبي بكرة " من قتل معاهدا في غير كنهه " والذمي منسوب إلى الذمة وهي العهد ومنه "ذمة المسلمين واحدة". قوله: "عبد الواحد" هو ابن زياد. قوله: "حدثنا الحسن" هو ابن عمرو الفقيمي بفاء ثم قاف مصغر وقد بينت حاله في كتاب الجزية. قوله: "مجاهد عن عبد الله بن عمرو" هكذا في جميع الطرق بالعنعنة وقد وقع في رواية مروان بن معاوية عن الحسن بن عمرو عن مجاهد عن جنادة بن أبي أمية عن عبد الله بن عمرو فزاد فيه رجلا بين مجاهد وعبد الله أخرجه النسائي وابن أبي عاصم من طريقه، وجزم أبو بكر البردنجي في كتابه في بيان المرسل أن مجاهدا لم يسمع من عبد الله بن عمرو. قوله: "من قتل نفسا معاهدا" كذا ترجم بالذمي، وأورد الخبر في المعاهد وترجم في الجزية بلفظ: "من قتل معاهدا" كما هو ظاهر الخبر، والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم، وكأنه أشار بالترجمة هنا إلى رواية مروان بن معاوية المذكورة فإن لفظه: "من قتل قتيلا من أهل الذمة " وللترمذي من حديث أبي هريرة " من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله " الحديث وقد ذكرت في الجزية من تابع عبد الواحد على إسقاط جنادة ونقلت ترجيح الدار قطني لرواية مروان لأجل الزيادة وبينت أن مجاهدا ليس مدلسا وسماعه من عبد الله بن عمرو ثابت فترجح رواية عبد الواحد لأنه توبع وانفرد مروان بالزيادة، وقوله: "لم يرح" تقدم شرحه في الجزية، والمراد بهذا النفي وإن كان عاما التخصيص بزمان ما لما تعاضدت الأدلة العقلية والنقلية أن من مات مسلما ولو كان من أهل الكبائر فهو محكوم بإسلامه غير مخلد في النار ومآله إلى الجنة ولو عذب قبل ذلك، قوله: "ليوجد" كذا للأكثر هنا وفي رواية الكشميهني بحذف اللام. قوله: "أربعين عاما" كذا وقع للجميع وخالفهم عمرو بن عبد الغفار عن الحسن بن عمرو عند الإسماعيلي فقال: "سبعين عاما " ومثله في حديث أبي هريرة عند الترمذي من طريق محمد بن عجلان عن أبيه عنه ولفظه: "وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا" ومثله في رواية صفوان بن سليم المشار إليها، ونحوه

(12/259)


لأحمد من طريق هلال بن يساف عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: "سيكون قوم لهم عهد فمن قتل منهم رجلا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما " وعبد الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ: "من مسيرة مائة عام" وفي الطبراني عن أبي بكرة " خمسمائة عام " ووقع في الموطأ في حديث آخر " إن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام " وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير من حديث أبي هريرة، وفي حديث لجابر ذكره صاحب الفردوس " إن ريح الجنة يدرك من مسيرة ألف عام " وهذا اختلاف شديد، وقد تكلم ابن بطال على ذلك فقال: الأربعون هي الأشد فمن بلغها زاد عمله ويقينه وندمه، فكأنه وجد ريح الجنة التي تبعثه على الطاعة، قال: والسبعون آخر المعترك ويعرض عندها الندم وخشية هجوم الأجل فتزداد الطاعة بتوفيق الله فيجد ريحها من المدة المذكورة، وذكر في الخمسمائة كلاما متكلفا حاصله أنها مدة الفترة التي بين كل نبي ونبي فمن جاء في آخرها وآمن بالنبيين يكون أفضل في غيره فيجد ريح الجنة، وقال الكرماني: يحتمل أن لا يكون العدد بخصوصه مقصودا بل المقصود المبالغة في التكثير، ولهذا خص الأربعين والسبعين لأن الأربعين يشتمل على جميع أنواع العدد لأن فيه الآحاد وآحاده عشرة والمائة عشرات والألف مئات والسبع عدد فوق العدد الكامل وهو ستة إذ أجزاؤه بقدره وهي النصف والثلث والسدس بغير زيادة ولا نقصان، وأما الخمسمائة فهي ما بين السماء والأرض. قلت: والذي يظهر لي في الجمع أن يقال إن الأربعين أقل زمن يدرك به ريح الجنة من في الموقف والسبعين فوق ذلك أو ذكرت للمبالغة، والخمسمائة ثم الألف أكثر من ذلك، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأعمال، فمن أدركه من المسافة البعدى أفضل ممن أدركه من المسافة القربى وبين ذلك، وقد أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي فقال: الجمع بين هذه الروايات أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص بتفاوت منازلهم ودرجاتهم. ثم رأيت نحوه في كلام ابن العربي فقال: ريح الجنة لا يدرك بطبيعة ولا عادة وإنما يدرك بما يخلق الله من إدراكه فتارة يدركه من شاء الله من مسيرة سبعين وتارة من مسيرة خمسمائة. ونقل ابن بطال أن المهلب احتج بهذا الحديث على أن المسلم إذا قتل الذمي أو المعاهد لا يقتل به للاقتصار في أمره على الوعيد الأخروي دون الدنيوي، وسيأتي البحث في هذا الحكم في الباب الذي بعده.

(12/260)


31- باب: لاَ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ
6915- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ أَنَّ عَامِرًا حَدَّثَهُمْ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ "قُلْتُ لِعَلِيٍّ ح حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ قَالَ: "سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ - وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَرَّةً: مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ – فَقَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلاَّ مَا فِي الْقُرْآنِ، إِلاَّ فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ، وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ"
قوله: "باب لا يقتل المسلم بالكافر" عقب هذه الترجمة بالتي قبلها للإشارة إلى أنه لا يلزم من الوعيد الشديد على قتل الذمي أن يقتص من المسلم إذا قتله عمدا، وللإشارة إلى أن المسلم إذا كان لا يقتل بالكافر فليس له قتل كل

(12/260)


كافر، بل يحرم عليه قتل الذمي والمعاهد بغير استحقاق. قوله: "حدثنا صدقة بن الفضل" ثبت في بعض النسخ هنا " حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا مطرف أن عامرا حدثهم عن أبي جحيفة ح وحدثنا صدقة بن الفضل إلخ " والصواب ما عند الأكثر، وطريق أحمد بن يونس تقدمت في الجزية. قوله: "مطرف" بمهملة وتشديد الراء هو ابن طريف بوزن عظيم كوفي مشهور. قوله: "سألت عليا" تقدم في كتاب العلم بيان سبب هذا السؤال، وهذا السياق أخصر من سياقه في كتاب العلم من وجه آخر عن مطرف، قال أحمد عن سفيان بن عيينة بهذا السند " هل عندكم شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن؟ ولم يتردد فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهم يؤتيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة " فذكره، وقد تقدم من وجه آخر عن مطرف في العلم وغيره مع شرح الحديث وبيان اختلاف ألفاظ نقلته عن علي وبيان المراد بالعقل وفكاك الأسير، وأما ترك قتل المسلم بالكافر فأخذ به الجمهور، إلا أنه يلزم من قول مالك في قاطع الطريق ومن في معناه إذا قتل غيلة أن يقتل ولو كان المقتول ذميا استثناء هذه الصورة من منع قتل المسلم بالكافر، وهي لا تستثنى في الحقيقة لأن فيه معنى آخر وهو الفساد في الأرض، وخالف الحنفية فقالوا: يقتل المسلم بالذمي إذا قتله بغير استحقاق ولا يقتل بالمستأمن، وعن الشعبي والنخعي يقتل باليهودي والنصراني دون المجوسي، واحتجوا بما وقع عند أبي داود من طريق الحسن عن قيس بن عباد عن علي بلفظ: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده " وأخرجه أيضا من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس والبيهقي عن عائشة ومعقل بن يسار، وطرقه كلها ضعيفة إلا الطريق الأولى والثانية فإن سند كل منهما حسن، وعلى تقدير قبوله فقالوا: وجه الاستدلال منه أن تقديره ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر، قالوا: وهو من عطف الخاص على العام فيقتضي تخصيصه، لأن الكافر الذي يقتل به ذو العهد هو الحربي دون المساوي له والأعلى، فلا يبقى من يقتل بالمعاهد إلا الحربي فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه، قال الطحاوي: ولو كانت فيه دلالة على نفي قتل المسلم بالذمي لكان وجه الكلام أن يقول ولا ذي عهد في عهده وإلا لكان لحنا والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلحن، فلما لم يكن كذلك علمنا أن ذا العهد هو المعنى بالقصاص فصار التقدير لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، قال: ومثله في القرآن {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فإن التقدير واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن، وتعقب بأن الأصل عدم التقدير، والكلام مستقيم بغيره إذا جعلنا الجملة مستأنفة، ويؤيده اقتصار الحديث الصحيح على الجملة الأولى. ولو سلم أنها للعطف فالمشاركة في أصل النفي لا من كل وجه، وهو كقول القائل مررت بزيد منطلقا وعمرو فإنه لا يوجب أن يكون بعمرو منطلقا أيضا بل المشاركة في أصل المرور، وقال الطحاوي أيضاً: لا يصح حمله على الجملة المستأنفة لأن سياق الحديث فيما يتعلق بالدماء التي يسقط بعضها ببعض، لأن في بعض طرقه: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وتعقب بأن هذا الحصر مردود، فإن في الحديث أحكاما كثيرة غير هذه، وقد أبدى الشافعي له مناسبة فقال: يشبه أن يكون لما أعلمهم أن لا قود بينهم وبين الكفار أعلمهم أن دماء أهل الذمة والعهد محرمة عليهم بغير حق فقال: "لا يقتل مسلم بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهده" ومعنى الحديث لا يقتل مسلم بكافر قصاصا ولا يقتل من له عهد ما دام عهده باقيا. وقال ابن السمعاني: وأما حملهم الحديث على المستأمن فلا يصح لأن العبرة بعموم اللفظ حتى يقوم دليل على التخصيص، ومن حيث

(12/261)


المعنى أن الحكم الذي يبنى في الشرع على الإسلام والكفر إنما هو لشرف الإسلام أو لنقص الكفر أو لهما جميعا فإن الإسلام ينبوع الكرامة والكفر ينبوع الهوان، وأيضا إباحة دم الذمي شبهة قائمة لوجود الكفر المبيح للدم والذمة إنما هي عهد عارض منع القتل مع بقاء العلة فمن الوفاء بالعهد أن لا يقتل المسلم ذميا فإن اتفق القتل لم يتجه القول بالقود لأن الشبهة المبيحة لقتله موجودة ومع قيام الشبهة لا يتجه القود. قلت: وذكر أبو عبيد بسند صحيح عن زفر أنه رجع عن قول أصحابه فأسند عن عبد الواحد بن زياد قال: قلت لزفر إنكم تقولون تدرأ الحدود بالشبهات فجئتم إلى أعظم الشبهات فأقدمتم عليها المسلم يقتل بالكافر، قال: فاشهد على أني رجعت عن هذا وذكر ابن العربي أن بعض الحنفية سأل الشاشي عن دليل ترك قتل المسلم بالكافر قال وأراد أن يستدل بالعموم فيقول أخصه بالحربي، فعدل الشاشي عن ذلك فقال: وجه دليلي السنة والتعليل، لأن ذكر الصفة في الحكم يقتضي التعليل فمعنى لا يقتل المسلم بالكافر تفضيل المسلم بالإسلام. فأسكته. ومما احتج به الحنفية ما أخرجه الدار قطني من طريق عمار بن مطر عن إبراهيم بن أبي يحيى عن ربيعة عن ابن البيلماني عن ابن عمر قال: "قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما بكافر وقال: أنا أولى من وفى بذمته " قال الدار قطني: إبراهيم ضعيف ولم يروه موصولا غيره، والمشهور عن ابن البيلماني مرسلا. وقال البيهقي: أخطأ راويه عمار بن مطر على إبراهيم في سنده، وإنما يرويه إبراهيم عن محمد بن المنكدر عن عبد الرحمن بن البيلماني، هذا هو الأصل في هذا الباب، وهو منقطع وراويه غير ثقة، كذلك أخرجه الشافعي وأبو عبيد جميعا عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى. قلت: لم ينفرد به إبراهيم كما يوهمه كلامه، فقد أخرجه أبو داود في المراسيل والطحاوي من طريق سليمان بن بلال عن ربيعة عن ابن البيلماني، وابن البيلماني ضعفه جماعة ووثق فلا يحتج بما ينفرد به إذا وصل، فكيف إذا أرسل، فكيف إذا خالف؟ قاله الدار قطني. وقد ذكر أبو عبيد بعد أن حدث به عن إبراهيم، بلغني أن إبراهيم قال: أنا حدثت به ربيعة عن ابن المنكدر عن ابن البيلماني، فرجع الحديث على هذا إلى إبراهيم، وإبراهيم ضعيف أيضا، قال أبو عبيدة: وبمثل هذا السند لا تسفك دماء المسلمين. قلت: وتبين أن عمار بن مطر خبط في سنده، وذكر الشافعي في "الأم" كلاما حاصله أن في حديث ابن البيلماني أن ذلك كان في قصة المستأمن الذي قتله عمرو بن أمية، قال فعلى هذا لو ثبت لكان منسوخا لأن حديث: "لا يقتل مسلم بكافر " خطب به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح كما في رواية عمرو بن شعيب، وقصة عمرو بن أمية متقدمة على ذلك بزمان. قلت: ومن هنا يتجه صحة التأويل الذي تقدم عن الشافعي، فإن خطبة يوم الفتح كانت بسبب القتيل الذي قتلت خزاعة وكان له عهد، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو قتلت مؤمنا بكافر لقتلته به " وقال: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهد " فأشار بحكم الأول إلى ترك اقتصاصه من الخزاعي بالمعاهد الذي قتله. وبالحكم الثاني إلى النهي عن الإقدام على ما فعله القاتل المذكور، والله أعلم. ومن حججهم قطع المسلم بسرقة مال الذمي، قالوا والنفس أعظم حرمة، وأجاب ابن بطال بأنه قياس حسن لولا النص، وأجاب غيره بأن القطع حق لله، ومن ثم لو أعيدت السرقة بعينها لم يسقط الحد ولو عفا، والقتل بخلاف ذلك. وأيضا القصاص يشعر بالمساواة ولا مساواة للكافر والمسلم، والقطع لا تشترط فيه المساواة.

(12/262)


باب إذا لطم المسلم يهوديا عيد الغضب
...
32- باب إِذَا لَطَمَ الْمُسْلِمُ يَهُودِيًّا عِنْدَ الْغَضَبِ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(12/262)


6916- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ"
6917- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ مِنْ الأَنْصَارِ قَدْ لَطَمَ وَجْهِي. فقَالَ: ادْعُوهُ، فَدَعَوْهُ، فقَالَ: ألَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي مَرَرْتُ بِالْيَهُودِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، قَالَ فقُلْتُ: أعَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! قَالَ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ. قَالَ: لاَ تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلاَ أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ"
قوله: "باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب" أي لم يجب عليه قصاص كما لم كان من أهل الذمة، وكأنه رمز بذلك إلى أن المخالف يرى القصاص في اللطمة، فلما لم يقتص النبي صلى الله عليه وسلم للذمي من المسلم دل على أنه لا يجري القصاص، لكن ليس كل الكوفيين يرى القصاص في اللطمة فيختص الإيراد بمن يقول منهم بذلك. قوله: "رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" تقدم موصولا مع شرحه في قصة موسى من أحاديث الأنبياء وفي بعض طرقه كما بينته هناك " فقال اليهودي إن لي ذمة وعهدا". قوله: "حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تخيروا بين الأنبياء وحدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه الحديث" كذا اقتصر في السند الأول على بعض المتن وساقه تاما بالسند الثاني، وكان سفيان وهو الثوري يحدث به تاما ومختصرا، فقد أخرجه الإسماعيلي من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بلفظ: "لا تخيروا بين الأنبياء " وزاد: "فإن الله بعثهم كما بعثني " قال الإسماعيلي: لم يزد على ذلك، ورواه يحيى القطان عن سفيان تاما. قلت: وليس فيه: "فإن الله بعثهم كما بعثني". قوله: "جاء رجل" تقدم القول في اسمه وفي اسم الذي لطمه في قصة موسى. قوله: "لطم وجهي" في رواية السرخسي " قد لطم وجهي". قوله: "فقال ألطمت وجهه" كذا للأكثر بهمزة الاستفهام وفي رواية الكشميهني: "لم لطمت". قوله: "أم جوزي" في رواية الكشميهني: "جزي" بغير واو والأول أولى، وفي الحديث استعداء الذمي على المسلم، ورفعه إلى الحاكم، وسماع الحاكم دعواه، وتعلم من لم يعرف الحكم ما خفي عليه منه والاكتفاء بذلك في حق المسلم، وأن الذمي إذا أقدم من القول على ما لا علم له به جاز للمسلم المعروف بالعلم تعزيره على ذلك، وتقدمت سائر فوائده في قصة موسى عليه السلام.
"خاتمة": اشتمل كتاب الديات والقصاص من الأحاديث المرفوعة على أربعة وخمسين حديثا، المعلق منها وما في معناها من المتابعات سبعة أحاديث والباقي موصول، المكرر منها فيه وفيما مضى أربعون والخالص منها أربعة عشر حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر "إن من ورطات الأمور" وحديث ابن عباس

(12/263)


"أبغض الناس إلى الله ثلاث: ملحد في الحرم" الحديث، وحديث أنس "لو اطلع عليك" وحديث ابن عباس "هذه وهذه سواء" وحديث أبي قلابة المرسل "ما قتل أحد قط إلا في إحدى ثلاث" وحديثه المرسل "دخل على نفر من الأنصار" الحديث في القسامة. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ثمانية وعشرون أثرا بعضها موصول وسائرها معلق، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(12/264)


كتاب استتابة المرتدين
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
88- كِتَاب اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُعَانِدِينَ وَقِتَالِهِمْ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم" كذا في رواية الفربري، وسقط لفظ: "كتاب" من رواية المستملي، وأما النسفي فقال: "كتاب المرتدين" ثم بسمل ثم قال: "باب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم وإثم من أشرك إلخ" وقوله: "والمعاندين" كذا للأكثر بالنون، وفي رواية الجرجاني بالهاء بدل النون والأول الصواب.

(12/264)


باب إثم من أشرك بالله و عقوبته
...
1- باب: إِثْمِ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
6918- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ لَيْسَ بِذَلكَ، أَلاَ تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}"
6919- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ ح وحَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ "عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ "ثَلاَثًا" أَوْ قَوْلُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ"
6920- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ. قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ"

(12/264)


باب حكم المرتد و المرتدة و استتابتهم
...
2- باب: حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ وَاسْتِتَابَتِهِمْ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} وَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} وَقَالَ {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وَقَالَ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ} يَقُولُ حَقًّا أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ - إِلَى قوله - {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
6922- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ "أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"

(12/267)


6923- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي رَجُلاَنِ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ، فَكِلاَهُمَا سَأَلَ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى - أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ - قَالَ قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَطْلَعَانِي عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ. فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ تَحْتَ شَفَتِهِ قَلَصَتْ، فَقَالَ: لَنْ - أَوْلاَ - نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى - أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ - إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً قَالَ: انْزِلْ، فإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ. قَالَ: اجْلِسْ. قَالَ: لاَ أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ "ثَلاَثَ مَرَّاتٍ"، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. ثُمَّ تَذَاكَرَا قِيَامَ اللَّيْلِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَرْجُو فِي نَوْمَتِي مَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي"
قوله: "باب حكم المرتد والمرتدة" أي هل هما سواء أم لا. قوله: "واستتابتهم" كذا لأبي ذر، وفي رواية القابسي " واستتابتهما " وحذف للباقين لكنهم ذكروها كأبي ذر بعد ذكر الآثار عن ابن عمر وغيره. وتوجيه الأولى أنه جمع على إرادة الجنس، قال ابن المنذر: قال الجمهور تقتل المرتدة. وقال علي تسترق وقال عمر بن عبد العزيز تباع بأرض أخرى، وقال الثوري تحبس ولا تقتل وأسنده عن ابن عباس قال وهو قول عطاء. وقال أبو حنيفة: تحبس الحرة ويؤمر مولى الأمة أن يجبرها. قوله: "وقال ابن عمر والزهري وإبراهيم" يعني النخعي: تقتل المرتدة، أما قول ابن عمر فنسبه مغلطاي إلى تخريج ابن أبي شيبة، وأما قول الزهري وإبراهيم فوصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في المرأة تكفر بعد إسلامها قال: تستتاب فإن تابت وإلا قتلت، وعن معمر عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم مثله، وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم. وأخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبيدة بن مغيث عن إبراهيم قال: إذا ارتد الرجل أو المرأة عن الإسلام استتيبا فإن تابا تركا وإن أبيا قتلا. وأخرج ابن أبي شيبة عن حفص عن عبيدة عن إبراهيم "لا يقتل" والأول أقوى فإن عبيدة ضعيف، وقد اختلف نقله عن إبراهيم، ومقابل قول هؤلاء حديث ابن عباس " لا تقتل النساء إذا هن ارتددن " رواه أبو حنيفة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة والدار قطني، وخالفه جماعة من الحفاظ في لفظ المتن، وأخرج الدار قطني عن ابن المنكدر عن جابر " أن امرأة ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها " وهو يعكر على ما نقله ابن الطلاع في الأحكام أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل مرتدة. قوله: "وقال الله تعالى :{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ - إلى قوله - غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخرها كذا لأبي ذر وساق الآية إلى {الظَّالِمُونَ} وفي رواية القابسي بعد قوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} وفي رواية النسفي {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ - الآيتين إلى قوله – كَافِرِينَ} كذا عنده، وكأنه وقع عنده خلط هذه بالتي بعدها وساق وفي رواية كريمة والأصيلي ما حذف من الآية لأبي ذر، وقد أخرج النسائي وصححه ابن حبان عن ابن عباس "كان رجل من

(12/268)


الأنصار أسلم ثم ندم وأرسل إلى قومه فقالوا يا رسول الله هل له من توبة؟ فنزلت: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً - إلى قوله - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فأسلم". قوله: "وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} قال عكرمة نزلت في شاس بن قيس اليهودي، دس على الأنصار من ذكرهم بالحروب التي كانت بينهم فتمادوا يقتتلون، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فذكرهم فعرفوا أنها من الشيطان فعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا سامعين مطيعين فنزلت، أخرجه إسحاق في تفسيره مطولا. وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس موصولا وفي هذه الآية الإشارة إلى التحذير عن مصادقة أهل الكتاب إذ لا يؤمنون أن يفتنوا من صادقهم عن دينه. قوله: "وقال إن الذين آمنوا ثم كفروا" إلى "سبيلا" كذا لأبي ذر، وللنسفي {ثم كفروا ثم آمنوا ثم ازدادوا كفرا} الآية وساقها كلها في رواية كريمة. وقد استدل بها من قال لا تقبل توبة الزنديق كما سيأتي تقريره. قوله: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وساق في رواية كريمة إلى الكافرين، ووقع في رواية أبي ذر {مَنْ يَرْتَدَّ} بدالين وهي قراءة ابن عامر ونافع، وللباقين من القراء ورواة الصحيح {مَنْ يَرْتَدَّ} بتشديد الدال، ويقال إن الإدغام لغة تميم والإظهار لغة الحجاز، ولهذا قيل إنه وجد في مصحف عثمان بدالين، وقيل بل وافق كل قارئ مصحف بلده، فعلى هذا فهي في مصحفي المدينة والشام بدالين وفي البقية بدال واحدة. قوله: "ولكن من شرح بالكفر صدرا" إلى "وأولئك هم الغافلون" كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة الآيات كلها، وهي حجة لعدم المؤاخذة بما وقع حالة الإكراه كما سيأتي تقريره بعد هذا. قوله: {لا جَرَمَ} يقول حقا {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ - إلى - لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} والمراد أن معنى لا جرم حقا وهو كلام أبي عبيدة وحذف من رواية النسفي ففيها بعد قوله صدرا الآيتين إلى قوله :{غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وفي الآية وعيد شديد لمن ارتد مختارا لقوله تعالى:{ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} إلى آخره. قوله: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا - إلى قوله - وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة أيضا الآيات كلها، والغرض منها قوله: {إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} إلى آخرها فإنه يقيد مطلق ما في الآية السابقة {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} إلى آخرها قال ابن بطال: اختلف في استتابة المرتد فقيل يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهو قول الجمهور، وقيل يجب قتله في الحال جاء ذلك عن الحسن وطاوس وبه قال أهل الظاهر. قلت: ونقله ابن المنذر عن معاذ وعبيد بن عمير وعليه يدل تصرف البخاري فإنه استظهر بالآيات التي لا ذكر فيها للاستتابة والتي فيها أن التوبة لا تنفع، وبعموم قوله: "من بدل دينه فاقتلوه " وبقصة معاذ التي بعدها ولم يذكر غير ذلك، قال الطحاوي: ذهب هؤلاء إلى أن حكم من ارتد عن الإسلام حكم الحربي الذي بلغته الدعوة فإنه يقاتل من قبل أن يدعى، قالوا: وإنما تشرع الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة، فأما من خرج عن بصيرة فلا. ثم نقل عن أبي يوسف موافقتهم لكن قال: إن جاء مبادرا بالتوبة خليت سبيله ووكلت أمره إلى الله تعالى وعن ابن عباس وعطاء: إن كان أصله مسلما لم يستتب وإلا استتيب، واستدل ابن القصار لقول الجمهور بالإجماع يعني السكوتي لأن عمر كتب في أمر المرتد: هلا حبستموه ثلاثة أيام وأطعمتموه في كل يوم رغيفا لعله يتوب فيتوب الله عليه؟ قال: ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة كأنهم فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" أي إن لم يرجع، وقد قال تعالى :{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} واختلف القائلون

(12/269)


بالاستتابة هل يكتفى بالمرة أو لا بد من ثلاث؟ وهل الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام؟ وعن علي يستتاب شهرا، وعن النخعي يستتاب أبدا كذا نقل عنه مطلقا، والتحقيق أنه في من تكررت منه الردة وسيأتي مزيد لذلك في الحديث الأول عند ذكر الزنادقة. ثم ذكر حديثين الأول، قوله: "أيوب" هو السختياني وعكرمة هو مولى ابن عباس. قوله: "أتي علي" هو ابن أبي طالب، تقدم في " باب لا يعذب بعذاب الله " من كتاب الجهاد من طريق سفيان بن عيينة عن أيوب بهذا السند أن عليا حرق قوما، وذكرت هناك أن الحميدي رواه عن سفيان بلفظ: "حرق المرتدين " ومن وجه آخر عند ابن أبي شيبة: "كان أناس يعبدون الأصنام في السر " وعند الطبراني في الأوسط من طريق سويد بن غفلة " أن عليا بلغه أن قوما ارتدوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها ثم ألقى عليهم الحطب فاحرقهم ثم قال: صدق الله ورسوله " وزعم أبو المظفر الإسفرايني في " الملل والنحل " أن الذين أحرقهم علي طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية وهم السبائية وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة، وهذا يمكن أن يكون أصله ما رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله ابن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي إن هنا قوما على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا. فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا، فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال أدخلهم فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فقال يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرورهم فخذ لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت أمرا منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا
وهذا سند حسن، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة " أن عليا أتي بناس من الزط يعبدون وثنا فأحرقهم " فسنده منقطع، فإن ثبت حمل على قصة أخرى، فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا من طريق أيوب بن النعمان " شهدت عليا في الرحبة، فجاءه رجل فقال إن هنا أهل بيت لهم وثن في دار يعبدونه فقام يمشي إلى الدار فأخرجوا إليه بمثال رجل قال فألهب عليهم على الدار". قوله: "بزنادقة" بزاي ونون وقاف جمع زنديق بكسر أوله وسكون ثانيه، قال أبو حاتم السجستاني وغيره: الزنديق فارسي معرب أصله " زنده كرداي " يقول بدوام الدهر لأن زنده الحياة وكرد العمل، ويطلق على من يكون دقيق النظر في الأمور. وقال ثعلب: ليس في كلام العرب زنديق وإنما قالوا زندقي لمن يكون شديد التحيل، وإذا أرادوا ما تريد العامة قالوا ملحد ودهري بفتح الدال أي يقول بدوام الدهر، وإذا قالوها بالضم أرادوا كبر السن. وقال الجوهري: الزنديق من الثنوية، كذا قال وفسره بعض الشراح بأنه الذي يدعي أن مع الله إلها آخر، وتعقب بأنه يلزم منه أن يطلق على كل مشرك، والتحقيق ما ذكره من صنف في الملل أن أصل الزنادقة أتباع ديصان ثم ماني ثم مزدك الأول بفتح الدال وسكون المثناة التحتانية بعدها صاد مهملة، والثاني بتشديد النون وقد تخفف والياء خفيفة، والثالث بزاي ساكنة ودال

(12/270)


مهملة مفتوحة ثم كاف، وحاصل مقالتهم أن النور والظلمة قديمان وأنهما امتزجا فحدث العالم كله منهما، فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة ومن كان من أهل الخير فهو من النور. وأنه يجب السعي في تخليص النور من الظلمة فيلزم إزهاق كل نفس. وإلى ذلك أشار المتنبي حيث قال في قصيدته المشهورة:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
وكان بهرام جد كسرى تحيل على ماني حتى حضر عنده وأظهر له أنه قبل مقالته ثم قتله وقتل أصحابه وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك المذكور، وقام الإسلام والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك، وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل ومن ثم أطلق الاسم على كل من أسر الكفر وأظهر الإسلام حتى قال مالك الزندقة ما كان عليه المنافقون وكذا أطلق جماعة من الفقهاء الشافعية وغيرهم أن الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر، فإن أرادوا اشتراكهم في الحكم فهو كذلك وإلا فأصلهم ما ذكرت، وقد قال النووي في لغات الروضة: الزنديق الذي لا ينتحل دينا، وقال محمد بن معن في " التنقيب على المهذب ": الزنادقة من الثنوية يقولون ببقاء الدهر وبالتناسخ، قال ومن الزنادقة الباطنية وهم قوم زعموا أن الله خلق شيئا ثم خلق منه شيئا آخر فدبر العالم بأسره ويسمونهما العقل والنفس وتارة العقل الأول والعقل الثاني، وهو من قول الثنوية في النور والظلمة إلا أنهم غيروا الاسمين، قال ولهم مقالات سخيفة في النبوات وتحريف الآيات وفرائض العبادات، وقد قيل إن سبب تفسير الفقهاء الزنديق بما يفسر به المنافق قول الشافعي في المختصر: وأي كفر ارتد إليه مما يظهر أو يسر من الزندقة وغيرها ثم تاب سقط عنه القتل، وهذا لا يلزم منه اتحاد الزنديق والمنافق بل كل زنديق منافق من غير عكس وكان من أطلق عليه في الكتاب والسنة المنافق يظهر الإسلام ويبطن عبادة الوثن أو اليهودية، وأما الثنوية فلا يحفظ أن أحدا منهم أظهر الإسلام في العهد النبوي والله أعلم. وقد اختلف النقلة في الذين وقع لهم مع علي ما وقع على ما سأبينه، واشتهر في صدر الإسلام الجعد بن درهم فذبحه خالد القسري في يوم عيد الأضحى، ثم كثروا في دولة المنصور وأظهر له بعضهم معتقده فأبادهم بالقتل ثم ابنه المهدي فأكثر في تتبعهم وقتلهم، ثم خرج في أيام المأمون بابك بموحدتين مفتوحتين ثم كاف مخففة الخرمي بضم المعجمة وتشديد الراء فغلب على بلاد الجبل وقتل في المسلمين وهزم الجيوش إلى أن ظفر به المعتصم فصلبه، وله أتباع يقال لهم الخرمية وقصصهم في التواريخ معروفة. قوله: "فبلغ ذلك ابن عباس" لم أقف على اسم من بلغه، وابن عباس كان حينئذ أميرا على البصرة من قبل علي. قوله: "لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعذبوا بعذاب الله" أي لنهيه عن القتل بالنار لقوله لا تعذبوا وهذا يحتمل أن يكون مما سمعه ابن عباس من النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون سمعه من بعض الصحابة، وقد تقدم في " باب لا يعذب بعذاب الله " من كتاب الجهاد من حديث أبي هريرة " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما الحديث وفيه إن النار لا يعذب بها إلا الله " وبينت هناك اسمهما وما يتعلق بشرح الحديث، وعند أبي داود عن ابن مسعود في قصة أخرى " أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار". قوله: "ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية إسماعيل بن علية عند أبي داود في الموضعين " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال". قوله: "من بدل دينه فاقتلوه" زاد إسماعيل بن علية في روايته: "فبلغ ذلك عليا فقال: ويح أم ابن عباس " كذا عند أبي داود وعند الدار قطني بحذف "أم" وهو محتمل أنه لم يرض بما اعترض به ورأى أن النهي للتنزيه كما تقدم بيان الاختلاف فيه، وسيأتي في الحديث الذي

(12/271)


يليه مذهب معاذ في ذلك وأن الإمام إذا رأى التغليظ بذلك فعله، وهذا بناء على تفسير " ويح " بأنها كلمة رحمة فتوجع له لكونه حمل النهي على ظاهره فاعتقد التحريم مطلقا فأنكر؛ ويحتمل أن يكون قالها رضا بما قال، وأنه حفظ ما نسيه بناء على أحد ما قيل في تفسير ويح أنها تقال بمعنى المدح والتعجب كما حكاه في النهاية، وكأنه أخذه من قول الخليل: هي في موضع رأفة واستملاح كقولك للصبي ويحه ما أحسنه حكاه الأزهري، وقوله من هو عام تخص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر فإنه تجري عليه أحكام الظاهر ويستثنى منه من بدل دينه في الظاهر لكن مع الإكراه كما سيأتي في كتاب الإكراه بعد هذا، واستدل به على قتل المرتدة كالمرتد، وخصه الحنفية بالذكر وتمسكوا بحديث النهي عن قتل النساء وحمل الجمهور النهي على الكافرة الأصلية إذا لم تباشر القتال ولا القتل لقوله في بعض طرق حديث النهي عن قتل النساء لما رأى المرأة مقتولة " ما كانت هذه لتقاتل " ثم نهى عن قتل النساء، واحتجوا أيضا بأن من الشرطية لا تعم المؤنث، وتعقب بأن ابن عباس راوي الخبر قد قال تقتل المرتدة، وقتل أبو بكر في خلافته امرأة ارتدت والصحابة متوافرون فلم ينكر ذلك عليه أحد، وقد أخرج ذلك كله ابن المنذر، وأخرج الدار قطني أثر أبي بكر من وجه حسن، وأخرج مثله مرفوعا في قتل المرتدة لكن سنده ضعيف، واحتجوا من حيث النظر بأن الأصلية تسترق فتكون غنيمة للمجاهدين والمرتدة لا تسترق عندهم فلا غنم فيها فلا يترك قتلها. وقد وقع في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له " أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها " وسنده حسن، وهو نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه، ويؤيده اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها الزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف، ومن صور الزنا رجم المحصن حتى يموت فاستثني ذلك من النهي عن قتل النساء، فكذلك يستثنى قتل المرتدة، وتمسك به بعض الشافعية في قتل من انتقل من دين كفر إلى دين كفر سواء كان ممن يقر أهله عليه بالجزية أو لا وأجاب بعض الحنفية بأن العموم في الحديث في المبدل لا في التبديل، فأما التبديل فهو مطلق لا عموم فيه، وعلى تقدير التسليم فهو متروك الظاهر اتفاقا في الكافر ولو أسلم فإنه يدخل في عموم الخبر وليس مرادا، واحتجوا أيضا بأن الكفر ملة واحدة فلو تنصر اليهودي لم يخرج عن دين الكفر، وكذا لو تهود الوثني، فوضح أن المراد من بدل دين الإسلام بدين غيره لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام قال الله تعالى :{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} وما عداه فهو بزعم المدعي، وأما قوله تعالى :{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} فقد احتج به بعض الشافعية فقال: يؤخذ منه أنه لا يقر على ذلك، وأجيب بأنه ظاهر في أن من ارتد عن الإسلام لا يقر على ذلك، سلمنا لكن لا يلزم من كونه لا يقبل منه أنه لا يقر بالجزية بل عدم القبول والخسران إنما هو في الآخرة، سلمنا أن عدم القبول يستفاد منه عدم التقرير في الدنيا لكن المستفاد أنه لا يقر عليه، فلو رجع إلى الدين الذي كان عليه وكان مقرا عليه بالجزية فإنه يقتل إن لم يسلم مع إمكان الإمساك بأنا لا نقبل منه ولا نقتله، ويؤيد تخصيصه بالإسلام ما جاء في بعض طرقه: فقد أخرجه الطبراني من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس رفعه: "من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه " واستدل به على قتل الزنديق من غير استتابة وتعقب بأن في بعض طرقه كما تقدم أن عليا استتابهم وقد نص الشافعي كما تقدم على القبول مطلقا وقال يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد، وعن أحمد وأبي حنيفة روايتان إحداهما لا يستتاب والأخرى إن تكرر منه لم

(12/272)


تقبل توبته، وهو قول الليث وإسحاق، وحكى عن أبي إسحاق المروزي من أئمة الشافعية ولا يثبت عنه بل قيل إنه تحريف من إسحاق بن راهويه والأول هو المشهور عند المالكية، وحكى عن مالك إن جاء تائبا يقبل منه وإلا فلا، وبه قال أبو يوسف، واختاره الأستاذان أبو إسحاق الإسفرايني وأبو منصور البغدادي. وعن بقية الشافعية أوجه كالمذاهب المذكورة، وخامس يفصل بين الداعية فلا يقبل منه وتقبل توبة غير الداعية، وأفتى ابن الصلاح بأن الزنديق إذا تاب تقبل توبته ويعزر فإن عاد بادرناه بضرب عنقه ولم يمهل، واستدل من منع بقوله تعالى :{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} فقال: الزنديق لا يطلع على صلاحه لأن الفساد إنما أتى مما أسره فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع عنه لم يزد على ما كان عليه، ولقوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} الآية، وأجيب بأن المراد من مات منهم على ذلك كما فسره ابن عباس فيما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره، واستدل لمالك بأن توبة الزنديق لا تعرف، قال وإنما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين للتألف ولأنه لو قتلهم لقتلهم بعلمه فلا يؤمن أن يقول قائل إنما قتلهم لمعنى آخر، ومن حجة من استتابهم قوله تعالى :{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} فدل على أن إظهار الإيمان يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة " هلا شققت عن قلبه " وقال للذي ساره في قتل رجل " أليس يصلي؟ قال: نعم قال: أولئك الذين نهيت عن قتلهم" وسيأتي قريبا أن في بعض طرق حديث أبي سعيد أن خالد بن الوليد لما استأذن في قتل الذي أنكر القسمة وقال كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس " أخرجه مسلم، والأحاديث في ذلك كثيرة. الحديث الثاني حديث أبي موسى الأشعري، وهو مشتمل على أربعة أحكام: الأول السواك وقد تقدم في الطهارة أتم مما هنا، الثاني ذم طلب الإمارة ومنع من حرص عليها وسيأتي بسطه في كتاب الأحكام، الثالث بعث أبي موسى على اليمن وإرسال معاذ أيضا، وقد تقدم بيانه في كتاب المغازي بعد غزوة الطائف بثلاثة أبواب، الرابع قصة اليهودي الذي أسلم ثم ارتد وهو المقصود هنا. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان والسند كله بصريون. قوله: "عن أبي موسى" في رواية أحمد عن يحيى القطان بهذا السند " قال أبو موسى الأشعري". قوله: "ومعي رجلان من الأشعريين" هما من قومه ولم أقف على اسمهما، وقد وقع في " الأوسط للطبراني " من طريق عبد الملك عن عمير عن أبي بردة في هذا الحديث أن أحدهما ابن عم أبي موسى، وعند مسلم من طريق يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة رجلان من بني عمي. قوله: "فكلاهما سأل" كذا فيه بحذف المسئول، وبينه أحمد في روايته المذكورة فقال فيها "سأل العمل" وسيأتي بيان ذلك في الأحكام من طريق يزيد بن عبد الله ولفظه: "فقال أحدهما أمرنا يا رسول الله، فقال الآخر مثله " ولمسلم من هذا الوجه " أمرنا على بعض ما ولاك الله " ولأحمد والنسائي من وجه آخر عن أبي بردة " فتشهد أحدهما فقال: جئناك لتستعين بنا على عملك فقال الآخر مثله " وعندهما من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه " أتاني ناس من الأشعريين فقالوا انطلق معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لنا حاجة، فقمت معهم، فقالوا أتستعين بنا في عملك " ويجمع بأنه كان معهما من يتبعهما وأطلق صيغة الجمع على الاثنين. قوله: "فقال يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس" شك من الراوي بأيهما خاطبه، ولم يذكر القول في هذه الرواية، وقد ذكره أبو داود عن أحمد بن حنبل ومسدد كلاهما عن يحيى القطان بسنده فيه فقال: "ما تقول يا أبا موسى" ومثله لمسلم عن محمد بن حاتم عن يحيى. قوله: "قلت والذي بعثك بالحق

(12/273)


ما أطلعاني على ما في أنفسهما" يفسر به رواية أبي العميس " فاعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قالوا وقلت لم أدر ما حاجتهم، فصدقني وعذرني " وفي لفظ: "فقال لم أعلم لماذا جاءا". قوله: "لن أو لا" شك من الراوي، وفي رواية يزيد عند مسلم: "إنا والله". قوله: "لا نستعمل عل عملنا من أراده" في رواية أبي العميس " من سألنا " بفتح اللام وفي رواية يزيد " أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه " وفي أخرى " فقال إن أخونكم عندنا من يطلبه فلم يستعن بهما في شيء حتى مات" أخرجه أحمد من رواية إسماعيل بن أبي خالد عن أخيه عن أبي بردة، وأدخل أبو داود بينه وبين أبي بردة رجلا. قوله: "ثم أتبعه" بهمزة ثم مثناة ساكنة. قوله: "معاذ بن جبل" بالنصب أي بعثه بعده. وظاهره أنه ألحقه به بعد أن توجه، ووقع في بعض النسخ واتبعه بهمزة وصل وتشديد، ومعاذ بالرفع لكن تقدم في المغازي بلفظ: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذا إلى اليمن فقال يسرا ولا تعسرا " الحديث ويحمل على أنه أضاف معاذا إلى أبي موسى بعد سبق ولايته لكن قبل توجهه فوصاهما عند التوجه بذلك، ويمكن أن يكون المراد أنه وصى كلا منهما واحدا بعد آخر. قوله: "فلما قدم عليه" تقدم في المغازي أن كلا منهما كان على عمل مستقل، وأن كلا منهما كان إذا سار في أرضه فقرب من صاحبه أحدث به عهدا، وفي أخرى هناك " فجعلا يتزاوران فزار معاذ أبا موسى " وفي أخرى " فضرب فسطاطا " ومعنى " ألقى له وسادة " فرشها له ليجلس عليها، وقد ذكر الباجي والأصيلي فيما نقله عياض عنهما أن المراد بقول ابن عباس " فاضطجعت في عرض الوسادة " الفراش، ورده النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، وإنما المراد بالوسادة ما يجعل تحت رأس النائم، وهو كما قال، قال وكانت عادتهم أن من أرادوا إكرامه وضعوا الوسادة تحته مبالغة في إكرامه. وقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه فألقى له وسادة " كما تقدم في الصيام، وفي حديث ابن عمر " أنه دخل على عبد الله بن مطيع فطرح له وسادة، فقال له ما جئت لأجلس " أخرجه مسلم ولم أر في شيء من كتب اللغة أن الفراش يسمى وسادة. قوله: "قال انزل" أي فاجلس على الوسادة. قوله: "فإذا رجل إلخ" هي جملة حالية بين الأمر والجواب، ولم أقف على اسم الرجل المذكور، وقوله: "كان يهوديا فأسلم ثم تهود " في رواية مسلم وأبي داود ثم راجع دينه دين السوء. ولأحمد من طريق أيوب عن حميد بن هلال عن أبي بردة قال: "قدم معاذ بن جبل على أبي موسى فإذا رجل عنده فقال: ما هذا - فذكر مثله وزاد - ونحن نريده على الإسلام منذ أحسبه شهرين وأخرج الطبراني من وجه آخر عن معاذ وأبي موسى " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما أن يعلما الناس، فزار معاذ أبا موسى فإذا عنده رجل موثق بالحديد فقال: يا أخي أو بعثت تعذب الناس إنما بعثنا نعلمهم دينهم ونأمرهم بما ينفعهم فقال إنه أسلم ثم كفر، فقال: والذي بعث محمدا بالحق لا أبرح حتى أحرقه بالنار". قوله: "لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله" بالرفع خبر مبتدأ محذوف ويجوز النصب. قوله: "ثلاث مرات" أي كرر هذا الكلام ثلاث مرات وبين أبو داود في روايته أنهما كررا القول أبو موسى يقوك اجلس ومعاذ يقول: لا أجلس، فعلى هذا فقوله ثلاث مرات من كلام الراوي لا تتمة كلام معاذ، ووقع في رواية أيوب بعد قوله قضاء الله ورسوله " إن من رجع عن دينه - أو قال بدل دينه - فاقتلوه". قوله: "فأمر به فقتل" في رواية أيوب " فقال والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه فضرب عنقه " وفي رواية الطبراني التي أشرت إليها " فأتى بحطب فألهب فيه النار فكتفه وطرحه فيها " ويمكن الجمع بأنه ضرب عنقه ثم ألقاه في النار. ويؤخذ منه أن معاذا وأبا موسى كانا يريان جواز التعذيب بالنار

(12/274)


وإحراق الميت بالنار مبالغة في إهانته وترهيبا عن الاقتداء به. وأخرج أبو داود من طريق طلحة بن يحيى ويزيد بن عبد الله كلاهما عن أبي بردة عن أبي موسى قال: "قدم على معاذ" فذكر قصة اليهودي وفيه: "فقال لا أنزل عن دابتي حتى يقتل فقتل " قال أحدهما: وكان قد استتيب قبل ذلك. وله من طريق أبي إسحاق الشيباني عن أبي بردة " أتى أبو موسى برجل قد ارتد عن الإسلام فدعاه فأبى عشرين ليلة أو قريبا منها، وجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه " قال أبو داود: رواه عبد الملك بن عمير عن أبي بردة فلم يذكر الاستتابة، وكذا ابن فضيل عن الشيباني، وقال المسعودي عن القاسم يعني ابن عبد الرحمن في هذه القصة: فلم ينزل حتى ضرب عنقه وما استتابه. وهذا يعارضه الرواية المثبتة لأن معاذا استتابه، وهي أقوى من هذه والروايات الساكتة عنها لا تعارضها، وعلى تقدير ترجيح رواية المسعودي فلا حجة فيه لمن قال يقتل المرتد بلا استتابة، لأن معاذا يكون اكتفى بما تقدم من استتابة أبي موسى، وقد ذكرت قريبا أن معاذا روى الأمر باستتابة المرتد والمرتدة. قوله: "ثم تذاكرا قيام الليل" في رواية سعيد بن أبي بردة " فقال كيف تقرأ القرآن " أي في صلاة الليل. قوله: "فقال أحدهما" هو معاذ، ووقع في رواية سعيد بن أبي بردة " فقال أبو موسى أقرؤه قائما وقاعدا وعلى راحلتي وأتفوقه " بفاء وقاف بينهما واو ثقيلة أي ألازم قراءته في جميع الأحوال، وفي أخرى " فقال أبو موسى كيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت حاجتي فأقرأ ما كتب الله لي". قوله: "وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي" " في رواية سعيد " وأحتسب " في الموضعين كما تقدم بيانه في المغازي، وحاصله أنه يرجو الأجر في ترويح نفسه بالنوم ليكون أنشط عند القيام. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: تولية أميرين على البلد الواحد، وقسمة البلد بين أميرين، وفيه كراهة سؤال الإمارة والحرص عليها ومنع الحريص منها كما سيأتي بسطه في كتاب الأحكام، وفيه تزاور الإخوان والأمراء والعلماء، وإكرام الضيف، والمبادرة إلى إنكار المنكر، وإقامة الحد على من وجب عليه، وأن المباحات يؤجر عليها بالنية إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة أو المندوبة أو تكميلا لشيء منهما.

(12/275)


3- باب: قَتْلِ مَنْ أَبَى قَبُولَ الْفَرَائِضِ وَمَا نُسِبُوا إِلَى الرِّدَّةِ
6924- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُتْبَةَ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ"
6925- قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "وَاللَّهِ لاَقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا". قَالَ عُمَرُ: "فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ"
قوله: "باب: قتل من أبى قبول الفرائض" أي جواز قتل من امتنع من التزام الأحكام الواجبة والعمل بها،

(12/275)


قال المهلب: من امتنع من قبول الفرائض نظر فإن أقر بوجوب الزكاة مثلا أخذت منه قهرا ولا يقتل، فإن أضاف إلى امتناعه نصب القتال قوتل إلى أن يرجع، قال مالك في الموطأ: الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقا عليهم جهاده، قال ابن بطال: مراده إذا أقر بوجوبها لا خلاف في ذلك. قوله: "وما نسبوا إلى الردة" أي أطلق عليهم اسم المرتدين، قال الكرماني "ما" في قوله وما نسبوا نافية كذا قال، والذي يظهر لي أنها مصدرية أي ونسبتهم إلى الردة وأشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي أورده كما سأبينه، قال القاضي عياض وغيره، كان أهل الردة ثلاثة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي وكان كل منهما ادعى النبوة قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم فصدق مسيلمة أهل اليمامة وجماعة غيرهم وصدق الأسود أهل صنعاء وجماعة غيرهم، فقتل الأسود قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بقليل وبقي بعض من آمن به فقاتلهم عمال النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر، وأما مسيلمة فجهز إليه أبو بكر الجيش وعليهم خالد بن الوليد فقتلوه. وصنف ثالث استمروا على الإسلام لكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين ناظر عمر أبا بكر في قتالهم كما وقع في حديث الباب، وقال أبو محمد بن حزم في "الملل والنحل": انقسمت العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقسام: طائفة بقيت على ما كانت عليه في حياته وهم الجمهور، وطائفة بقيت على الإسلام أيضا إلا أنهم قالوا نقيم الشرائع إلا الزكاة وهم كثير لكنهم قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى، والثالثة أعلنت بالكفر والردة كأصحاب طليحة وسجاح وهم قليل بالنسبة لمن قبلهم إلا أنه كان في كل قبيلة من يقاوم من ارتد، وطائفة توقفت فلم تطع أحدا من الطوائف الثلاثة وتربصوا لمن تكون الغلبة فأخرج أبو بكر إليهم البعوث وكان فيروز ومن معه غلبوا على بلاد الأسود وقتلوه وقتل مسيلمة باليمامة وعاد طليحة إلى الإسلام وكذا سجاح ورجع غالب من كان ارتد إلى الإسلام فلم يحل الحول إلا والجميع قد راجعوا دين الإسلام ولله الحمد. قوله: "أن أبا هريرة قال" في رواية مسلم: "عن أبي هريرة " وهكذا رواه الأكثر عن الزهري بهذا السند على أنه من رواية أبي هريرة عن عمر وعن أبي بكر، وقال يونس بن يزيد عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس " الحديث فساقه على أنه من مسند أبي هريرة ولم يذكر أبا بكر ولا عمر أخرجه مسلم، وهو محمول على أن أبا هريرة سمع أصل الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وحضر مناظرة أبي بكر وعمر فقصها كما هي، ويؤيده أنه جاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة من طرق فأخرجه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه، ومن طريق أبي صالح ذكوان كلاهما عن أبي هريرة، وأخرجه ابن خزيمة من طريق أبي العنبس سعيد بن كثير بن عبيد عن أبيه، وأخرجه أحمد من طريق همام بن منبه، ورواه مالك خارج الموطأ عن أبي الزناد عن الأعرج، وذكره ابن منده في كتاب الإيمان من رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة كلهم عن أبي هريرة، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ابن عمر كما تقدم في أوائل الكتاب في كتاب الإيمان وجابر وطارق الأشجعي عند مسلم، وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنس وأصله عند البخاري كما تقدم في أوائل الصلاة وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن أنس، وهو عند ابن خزيمة من وجه آخر عنه لكن قال: "عن أنس عن أبي بكر " وأخرجه البزار من حديث النعمان بن بشير، وأخرجه الطبراني من حديث سهل بن سعد وابن عباس وجرير البجلي وفي الأوسط من حديث سمرة، وسأذكر ما في رواياتهم من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى. قوله: "وكفر من

(12/276)


كفر من العرب" في حديث أنس عند ابن خزيمة: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب". قوله: "يا أبا بكر كيف تقاتل الناس" في حديث أنس " أتريد أن تقاتل العرب". قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" كذا ساقه الأكثر، وفي رواية طارق عند مسلم: "من وحد الله وكفر بما يعبد من دونه حرم دمه وماله " وأخرجه الطبراني من حديثه كرواية الجمهور، وفي حديث ابن عمر " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة " ونحوه في حديث أبي العنبس وفي حديث أنس، عند أبي داود " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلوا صلاتنا " وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويؤمنوا بي وبما جئت به " قال الخطابي: زعم الروافض أن حديث الباب متناقض لأن في أوله أنهم كفروا وفي آخره أنهم ثبتوا على الإسلام إلا أنهم منعوا الزكاة، فإن كانوا مسلمين فكيف استحل قتالهم وسبي ذراريهم، وإن كانوا كفارا فكيف احتج على عمر بالتفرقة بين الصلاة والزكاة، فإن في جوابه إشارة إلى أنهم كانوا مقرين بالصلاة. قال: والجواب عن ذلك أن الذين نسبوا إلى الردة كانوا صنفين، صنف رجعوا إلى عبادة الأوثان، وصنف منعوا الزكاة وتأولوا قوله تعالى:{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} فزعموا أن دفع الزكاة خاص به صلى الله عليه وسلم لأن غيره لا يطهرهم ولا يصلى عليهم فكيف تكون صلاته سكنا لهم، وإنما أراد عمر بقوله: "تقاتل الناس " الصنف الثاني لأنه لا يتردد في جواز قتل الصنف الأول، كما أنه لا يتردد في قتال غيرهم من عباد الأوثان والنيران واليهود والنصارى، قال: وكأنه لم يستحضر من الحديث إلا القدر الذي ذكره، وقد حفظ غيره في الصلاة والزكاة معا، وقد رواه عبد الرحمن بن يعقوب بلفظ يعم جميع الشريعة حيث قال فيها " ويؤمنوا بي وبما جئت به " فإن مقتضى ذلك أن من جحد شيئا مما جاء به صلى الله عليه وسلم ودعي إليه فامتنع ونصب القتال أنه يجب قتاله وقتله إذا أصر، قال: وإنما عرضت الشبهة لما دخله من الاختصار، وكأن راويه لم يقصد سياق الحديث على وجهه وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر واعتمد على معرفة السامعين بأصل الحديث، انتهى ملخصا. قلت وفي هذا الجواب نظر، لأنه لو كان عند عمر في الحديث: "حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " ما استشكل قتالهم للتسوية في كون غاية القتال ترك كل من التلفظ بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال عياض: حديث ابن عمر نص في قتال من لم يصل ولم يزك كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر وجواب أبي بكر دل على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة والزكاة إذ لو سمعه عمر لم يحتج على أبي بكر ولو سمعه أبو بكر لرد به على عمر ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله: "إلا بحقه". قلت: إن كان الضمير في قوله: "بحقه" للإسلام فمهما ثبت أنه من حق الإسلام تناوله، ولذلك اتفق الصحابة على قتال من جحد الزكاة. قوله: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" يجوز تشديد فرق وتخفيفه، والمراد بالفرق من أقر بالصلاة وأنكر الزكاة جاحدا أو مانعا مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصة الكفر ليشمل الصنفين، فهو في حق من جحد حقيقة وفي حق الآخرين مجاز تغليبا، وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع، فلما أصروا قاتلهم. قال المازري: ظاهر السياق أن عمر كان موافقا على قتال من جحد الصلاة فألزمه الصديق بمثله في الزكاة لو رودهما في الكتاب والسنة موردا واجدا. قوله: "فإن الزكاة حق المال" يشير إلى دليل منع

(12/277)


التفرقة التي ذكرها أن حق النفس الصلاة وحق المال الزكاة، فمن صلى عصم نفسه، ومن زكى عصم ماله، فإن لم يصل قوتل على ترك الصلاة، ومن لم يزك أخذت الزكاة من ماله قهرا، وإن نصب الحرب لذلك قوتل. وهذا يوضح أنه لو كان سمع في الحديث: "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" لما احتاج إلى هذا الاستنباط، لكنه يحتمل أن يكون سمعه واستظهر بهذا الدليل النظري. قوله: "والله لو منعوني عناقا" تقدم ضبطها في " باب أخذ العناق " وفي " الصدقة " من كتاب الزكاة، ووقع في رواية قتيبة عن الليث عند مسلم: "عقالا " وأخرجه البخاري في كتاب الاعتصام عن قتيبة فكنى بهذه اللفظة فقال: "لو منعوني كذا " واختلف في هذه اللفظة فقال قوم هي وهم، وإلى ذلك أشار البخاري بقوله في " الاعتصام " عقب إيراده " قال لي ابن بكير " يعني شيخه فيه هنا، وعبد الله يعني ابن صالح عن الليث " عناقا " وهو أصح، ووقع في رواية ذكرها أبو عبيدة " لو منعوني جديا أذوط، وهو يؤيد أن الرواية: "عناقا " والأذوط الصغير الفك والذقن، قال عياض واحتج بذلك من يجيز أخذ العناق في زكاة الغنم إذا كانت كلها سخالا وهو أحد الأقوال، وقيل: إنما ذكر العناق مبالغة في التقليل لا العناق نفسها، قلت: والعناق بفتح المهملة والنون الأنثى من ولد المعز، قال النووي: المراد أنها كانت صغارا فماتت أمهاتها في بعض الحول فيزكين بحول الأمهات ولو لم يبق من الأمهات شيء على الصحيح، ويتصور فيما إذا ماتت معظم الكبار وحدثت الصغار فحال الحول على الكبار على بقيتها وعلى الصغار. وقال بعض المالكية العناق والجذعة تجزئ في زكاة الإبل القليلة التي تزكى بالغنم، وفي الغنم أيضا إذا كانت جذعة، ويؤيده أن في حديث أبي بردة في الأضحية " فإن عندي عناقا جذعة " وقد تقدم البحث في ذلك في كتاب الزكاة. وقال قوم: الرواية محفوظة ولها معنى متجه. وجرى النووي على طريقته فقال: هو محمول على أنه قالها مرتين مرة عناقا ومرة عقالا. قلت: وهو بعيد مع اتحاد المخرج والقصة، وقيل العقال يطلق على صدقة عام يقال أخذ منه عقال هذا العام يعني صدقته حكاه المازري عن الكسائي واستشهد بقول الشاعر:
سعى عقالا فلم يترك لن سندا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
وعمرو المشار إليه هو ابن عتبة بن أبي سفيان، وكان عمه معاوية يبعثه ساعيا على الصدقات فقيل فيه ذلك. ونقل عياض عن ابن وهب أنه الفريضة من الإبل، ونحوه عن النضر بن شميل، وعن أبي سعيد الضرير: العقال ما يؤخذ في الزكاة من نعام وثمار لأنه عقل عن مالكها. وقال المبرد: العقال ما أخذه العامل من صدقة بعينها فإن تعوض عن شيء منها قيل أخذ نقدا، وعلى هذا فلا إشكال فيه. وذهب الأكثر إلى حمل العقال على حقيقته وأن المراد به الحبل الذي يعقل به البعير، نقله عياض عن الواقدي عن مالك بن أبي ذئب قالا العقال عقال الناقة. قال أبو عبيد العقال اسم لما يعقل به البعير، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد ابن مسلمة على الصدقة فكان يأخذ مع كل فريضة عقالا. وقال النووي: ذهب إلى هذا كثير من المحققين. وقال ابن التيمي في "التحرير": قول من فسر العقال بفريضة العام تعسف، وهو نحو تأويل من حمل البيضة والحبل في حديث لعن السارق على بيضة الحديد وحبل السفينة. قلت: وقد تقدم بيان ذلك في "باب حد السرقة" إلى أن قال: وكل ما كان في هذا السياق أحقر كان أبلغ قال: والصحيح أن المراد بالعقال ما يعقل به البعير، قال: والدليل على أن المراد به المبالغة قوله في الرواية الأخرى "عناقا" وفي الأخرى "جديا" قال: فعلى هذا فالمراد بالعقال قدر قيمته، قال الثوري: وهذا هو الصحيح الذي

(12/278)


لا ينبغي غيره. وقال عياض: احتج به بعضهم على جواز أخذ الزكاة في عروض التجارة، وفيه بعد، والراجح أن العقال لا يؤخذ في الزكاة لوجوبه بعينه وإنما يؤخذ تبعا للفريضة التي تعقل به، أو أنه قال ذلك مبالغة على تقدير أن لو كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال النووي: يصح قدر قيمة العقال في زكاة النقد وفي المعدن والركاز والمعشرات وزكاة الفطر، وفيما لو وجبت سن فأخذ الساعي دونه، وفيما إذا كانت الغنم سخالا فمنع واحدة وقيمتها عقال. قال: وقد رأيت كثيرا ممن يتعانى الفقه يظن أنه لا يتصور وإنما هو للمبالغة. وهو غلط منه. وقد قال الخطابي: حمله بعضهم على زكاة العقال إذا كان من عروض التجارة، وعلى الحبل نفسه عند من يجيز أخذ القيم، والشافعي قول إنه يتخير بين العرض والنقد، قال: وأظهر من ذلك كله قول من قال إنه يجب أخذ العقال مع الفريضة كما جاء عن عائشة " كان من عادة المتصدق أن يعمد إلى قرن - بفتح القاف والراء وهو الحبل - فيقرن به بين بعيرين لئلا تشرد الإبل، وهكذا جاء عن الزهري. وقال غيره في قول أبي بكر " لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غنية عن حمله على المبالغة. وحاصله أنهم متى منعوا شيئا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قل فقد منعوا شيئا واجبا إذ لا فرق في منع الواجب وجحده بين القليل الكثير، قال: وهذا يعني عن جميع التقادير والتأويلات التي لا يسبق الفهم إليها، ولا يظن بالصديق أنه يقصد إلى مثلها. قلت: الحامل لمن حمله على المبالغة أن الذي تمثل به في هذا المقام لا بد وأن يكون من جنس ما يدخل في الحكم المذكور، فلذلك حملوه على المبالغة والله أعلم. قوله: "فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق" أي ظهر له من صحة احتجاجه لا أنه قلده في ذلك: وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم في كتاب الإيمان: الاجتهاد في النوازل، وردها إلى الأصول، والمناظرة على ذلك والرجوع إلى الراجح، والأدب في المناظرة بترك التصريح بالتخظئة والعدول إلى التلطف، والأخذ في إقامة الحجة إلى أن يظهر للمناظر، فلو عاند بعد ظهورها فحينئذ يستحق الإغلاظ بحسب حاله. وفيه الحلف على الشيء لتأكيده. وفيه منع قتل من قال لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها، وهو كذلك لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلما؟ الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر، فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حكم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء به بقوله: "إلا بحق الإسلام " قال البغوي: الكافر إذا كان وثنيا أو ثنويا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال لا إله إلا الله حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام، وأما من كان مقرا بالوحدانية منكرا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله، فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة فلا بد أن يقول إلى جميع الخلق، فإن كان كفر بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج أن يرجع عما اعتقده، ومقتضى قوله: "يجبر " أنه إذا لم يلتزم تجري عليه أحكام المرتد، وبه صرح القفال واستدل بحديث الباب فادعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أو أني رسول الله " كذا قال وهي غفلة عظيمة، فالحديث في صحيحي البخاري ومسلم في كتاب الإيمان من كل منهما من رواية ابن عمر بلفظ: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " ويحتمل أن يكون المراد بقوله لا إله إلا الله هنا التلفظ بالشهادتين لكونها سارت علما على ذلك، ويؤيده ورودهما صريحا في الطرق الأخرى، واستدل بها على أن الزكاة لا تسقط عن المرتد، وتعقب بأن المرتد كافر والكافر لا يطالب بالزكاة وإنما يطالب بالإيمان، وليس في فعل

(12/279)


الصديق حجة لما ذكر وإنما فيه قتال من منع الزكاة، والذين تمسكوا بأصل الإسلام ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجة. وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم هل تغنم أموالهم وتسبى ذراريهم كالكفار أو لا كالبغاة؟ فرأى أبو بكر الأول وعمل به وناظره عمر في ذلك كما سيأتي بيانه في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، وذهب إلى الثاني ووافقه غيره في خلافته على ذلك، واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئا من الفرائض بشبهة فيطالب بالرجوع فإن نصب القتال قوتل وأقيمت عليه الحجة، فإن رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ، ويقال إن أصبغ من المالكية استقر على القول الأول فعد من ندرة المخالف. وقال القاضي عياض: يستفاد من هذه القصة أن الحاكم إذا أداه اجتهاده في أمر لا نص فيه إلى شيء تجب طاعته فيه ولو اعتقد بعض المجتهدين خلافه، فإن صار ذلك المجتهد المعتقد خلافه حاكما وجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده وتسوغ له مخالفة الذي قبله في ذلك، لأن عمر أطاع أبا بكر فيما رأى من حق مانعي الزكاة مع اعتقاده خلافه ثم عمل في خلافته بما أداه إليه اجتهاده ووافقه أهل عصره من الصحابة وغيرهم، وهذا مما ينبه عليه في الاحتجاج بالإجماع السكوتي، فيشترط في الاحتجاج به انتفاء موانع الإنكار وهذا منها. وقال الخطابي: في الحديث أن من أظهر الإسلام أجريت عليه أحكامه الظاهرة ولو أسر الكفر في نفس الأمر. ومحل الخلاف إنما هو فيمن اطلع على معتقده الفاسد فأظهر الرجوع هل يقبل منه أو لا؟ وأما من جهل أمره فلا خلاف في إجراء الأحكام الظاهرة عليه.

(12/280)


باب إذا عرض الذمي أو غيره بسب النبي صلى الله عليه و سلم و لم يصرح
...
4- باب: إِذَا عَرَّضَ الذِّمِّيُّ وَغَيْرُهُ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَرِّحْ، نَحْوَ قَوْلِهِ: السَّامُ عَلَيْكَ
6926- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَعَلَيْكَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالَ السَّامُ عَلَيْكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَقْتُلُهُ؟ قَالَ: لاَ، إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ"
6927- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ. قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ"
6928- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالاَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ "قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ سَامٌ عَلَيْكَ، فَقُلْ: عَلَيْكَ"
قوله: "باب: إذا عرض الذمي أو غيره" أي المعاهد ومن يظهر الإسلام. قوله: "بسب النبي صلى الله عليه وسلم" أي

(12/280)


وتنقيصه، وقوله: "ولم يصرح" تأكيد فإن التعريض خلاف التصريح، وقد تقدم بيانه في تفسير قوله تعالى:{ وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}. قوله: "نحو قوله السام عليكم" في رواية الكشميهني: "السام عليكم " بالإفراد، وكذا وقع في حديثي عائشة وابن عمر في الباب، ولم يختلف في حديث أنس في لفظ: "عليك " بالإفراد وتقدمت الأحاديث الثلاثة مع شرحها في كتاب الاستئذان، واعترض بأن هذا اللفظ ليس فيه تعريض بالسب، والجواب أنه أطلق التعريض على ما يخالف التصريح ولم يرد التعريض المصطلح وهو أن يستعمل لفظا في حقيقته يلوح به إلى معنى آخر يقصده. وقال ابن المنير: حديث الباب يطابق الترجمة بطريق الأولى، لأن الجرح أشد من السب، فكأن البخاري يختار مذهب الكوفيين في هذه المسألة انتهى ملخصا، وفيه نظر لأنه لم يبت الحكم ولا يلزم من تركه قتل من قال ذلك لمصلحة التأليف أن لا يجب قتله حيث لا مصلحة في تركه، وقد نقل ابن المنذر الاتفاق علي أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحا وجب قتله، ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة، وخالفه القفال فقال: كفر بالسب فيسقط القتل بالإسلام. وقال الصيدلاني: يزول القتل ويجب حد القذف، وضعفه الإمام، فإن عرض فقال الخطابي: لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما. وقال ابن بطال: اختلف العلماء فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم، فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك: يقتل إلا أن يسلم، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة. ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهودي ونحوه، ومن طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك في المسلم: هي ردة يستتاب منها. وعن الكوفيين إن كان ذميا عزر وإن كان مسلما فهي ردة. وحكى عياض خلافا هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو لمصلحة التأليف؟ ونقل عن بعض المالكية أنه إنما لم يقتل اليهود في هذه القصة لأنهم لم تقم عليهم البينة بذلك ولا أقروا به فلم يقض فيهم بعلمه، وقيل إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك قتلهم. وقيل إنه لم يحمل ذلك منهم على السب بل على الدعاء بالموت الذي لا بد منه، ولذلك قال في الرد عليهم " وعليكم " أي الموت نازل علينا وعليكم فلا معنى للدعاء به، أشار إلى ذلك القاضي عياض وتقدمت الإشارة إليه في الاستئذان، وكذا من قال: "السأم " بالهمز بمعنى السآمة هر دعاء بأن يملوا الدين وليس بصريح في السب والله أعلم، وعلى القول بوجوب قتل من وقع منه ذلك من ذمي أو معاهد فترك لمصلحة التأليف هل ينتقض بذلك عهده؟ محل تأمل. واحتج الطحاوي لأصحابهم بحديث الباب وأيده بأن هذا الكلام لو صدر من مسلم لكان ردة، وأما صدوره من اليهود فالذي هم عليه من الكفر أشد منه فذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم. وتعقب بأن دماءهم لم تحقن إلا بالعهد وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم فمن سبه منهم تعد العهد فينتقض فيصير كافرا بلا عهد فيهدر دمه إلا أن يسلم ويؤيده أنه لو كان كل ما يعتقدونه لا يؤاخذون به لكانوا لو قتلوا مسلما لم يقتلوا لأن من معتقدهم حل دماء المسلمين ومع ذلك لو قتل منهم أحد مسلما قتل، فإن قيل إنما يقتل بالمسلم قصاصا بدليل أنه يقتل به ولو أسلم ولو سب ثم أسلم لم يقتل. قلنا الفرق بينهما أن قتل المسلم يتعلق بحق آدمي فلا يهدر، وأما السب فإن وجوب القتل به يرجع إلى حق الدين فيهدمه الإسلام، والذي يظهر أن ترك قتل اليهود إنما كان لمصلحة التأليف أو لكونهم لم يعلنوا به أولهما جميعا وهو أولى، والله أعلم.

(12/281)


باب احتمال الأذى للأنبياء
...
5- باب : 6929- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ"
قوله: "باب" كذا للأكثر بغير ترجمة، وحذفه ابن بطال فصار حديث ابن مسعود المذكور فيه من جملة الباب الذي قبله، واعترض بأنه إنما ورد في قوم كفار أهل حرب والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالصبر على الأذى منهم فلذلك امتثل أمر ربه. قلت: فهذا يقتضي ترجيح صنيع الأكثر من جعله في ترجمة مستقلة، لكن تقدم التنبيه على أن مثل ذلك وقع كالفصل من الباب الذي قبله فلا بد له من تعلق به في الجملة، والذي يظهر أنه أشار بإيراده إلى ترجيح القول بأن ترك قتل اليهود لمصلحة التأليف، لأنه إذا لم يؤاخذ الذي ضربه حتى جرحه بالدعاء عليه ليهلك بل صبر على أذاه وزاد فدعا له فلأن يصبر على الأذى بالقول أولى، ويؤخذ منه ترك القتل بالتعريض بطريق الأولى، وقد تقدم شرح حديث ابن مسعود المذكور في غزوة أحد من كتاب المغازي، وحفص المذكور في السند هو ابن غياث، وشقيق هو ابن سلمة أبو وائل، والسند كله كوفيون. وقوله: "قال عبد الله" يعني ابن مسعود، ووقع في رواية مسلم من طريق وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله". قوله: "يحكى نبيا من الأنبياء" تقدم في ذكر بني إسرائيل من أحاديث الأنبياء هذا الحديث بهذا السند وذكرت فيه - من طريق مرسلة وفي سندها من لم يسم - من سمي النبي المذكور نوحا عليه السلام، ثم وقع لي من رواية الأعمش بسند له مضموما إلى روايته بسند حديث الباب أخرجه ابن عساكر في ترجمة نوح عليه السلام من "تاريخ دمشق" من رواية يعقوب بن عبد الله الأشعري عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال: "إن كان نوح ليضربه قومه حتى يغمى عليه ثم يفيق فيقول: اهد قومي فإنهم لا يعلمون " وبه عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله فذكر نحو حديث الباب، وتقدم هناك أيضا قول القرطبي: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الحاكي والمحكي عنه، ووجه الرد عليه، وتقدم في غزوة أحد بيان ما وقع له صلى الله عليه وسلم من الجراحة في وجهه يوم أحد وأنه صلى الله عليه وسلم قال أولا " كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم " فإنه قال أيضا: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " وأن عند أحمد من رواية عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال نحو ذلك يوم حنين لما ازدحموا عليه عند قسمة الغنائم". قوله: "فهو يمسح الدم عن وجهه" في رواية عبد الله بن نمير عن الأعمش عند مسلم في هذا الحديث: "عن جبينه" وقد تقدم في غزوة أحد بيان أنه شج صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وشرح ما وقع في ذلك مبسوطا ولله الحمد.

(12/282)


باب قتل الخوارج و الملحدين بعد إقامة الحجة عليهم
...
6- باب: قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنَّهُمْ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ

(12/282)


6930- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا خَيْثَمَةُ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ "قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَوَاللَّهِ لاَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خِدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
6931- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُمَا "أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَسَأَلاَهُ عَنْ الْحَرُورِيَّةِ أَسَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي مَا الْحَرُورِيَّةُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ - وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا - قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ - أَوْ حَنَاجِرَهُمْ - يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنْ الدَّمِ شَيْءٌ"
6932- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَذَكَرَ الْحَرُورِيَّةَ فَقَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلاَمِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ"
قوله: "باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، وقول الله تعالى:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} أما الخوارج فهم جمع خارجة أي طائفة، وهم قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في الشرح الكبير أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله أو مواطأته إياهم، كذا قال، وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان بل كانوا ينكرون عليه أشياء ويتبرءون منه، وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه ويستبدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك، فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليا فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك، فبلغ عليا فخرج إليهم، فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة وانتصر علي وقتل طلحة في المعركة وقتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق، ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك وكان أمير الشام إذ ذاك وكان علي أرسل إليه لأن

(12/283)


يبايع له أهل الشام فاعتل بأن عثمان قتل مظلوما وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك، ويلتمس من علي أن يمكنه منهم، ثم يبايع له بعد ذلك، وعلي يقول ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلى أحكم فيهم بالحق، فلما طال الأمر خرج علي في أهل العراق طالبا قتال أهل الشام فخرج معاوية في أهل الشام قاصدا إلى قتاله، فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهما أشهرا، وكاد أهل الشام أن ينكسروا فرفعوا المصاحف على الرماح ونادوا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممن كان مع علي وخصوصا القراء القتال بسبب ذلك تدينا، واحتجوا بقوله تعالى :{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية، فراسلوا أهل الشام في ذلك فقالوا ابعثوا حكما منكم وحكما منا ويحضر معهما من لم يباشر القتال فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب علي ومن معه إلى ذلك وأنكرت ذلك تلك الطائفة التي صاروا خوارج وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام: هذا ما قضى عليه أمير المؤمنين على معاوية فامتنع أهل الشام من ذلك وقالوا اكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلى ذلك فأنكره عليه الخوارج أيضا. ثم انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان ومن معهما بعد مدة عينوها في مكان وسط بين الشام والعراق، ويرجع العسكران إلى بلادهم إلى أن يقع الحكم، فرجع معاوية إلى الشام، ورجع علي إلى الكوفة، ففارقه الخوارج وهم ثمانية آلاف وقيل كانوا أكثر من عشرة آلاف وقيل ستة آلاف، ونزلوا مكانا يقال له حروراء بفتح المهملة وراءين الأولى مضمومة، ومن ثم قيل لهم الحرورية وكان كبيرهم عبد الله ابن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد اليشكري، وشبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة التميمي فأرسل إليهم علي ابن عباس فناظرهم فرجع كثير منهم معه، ثم خرج إليهم علي، فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة معهم رئيساهم المذكوران، ثم أشاعوا أن عليا تاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك عليا فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقال: كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم: لكم علينا ثلاثة: أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا. وخرجوا شيئا بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم في الرجوع فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب، ثم راسلهم أيضا فأرادوا قتل رسوله، ثم اجتمعوا على أن من لا يعتقد معتقدهم بكفر ويباح دمه وماله وأهله، وانتقلوا إلى الفعل فاستعرضوا الناس فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت وكان واليا لعلي على بعض تلك البلاد ومعه سرية وهي حامل فقتلوه وبقروا في سريته عن ولد، فبلغ عليا فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام. فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينج منهم إلا دون العشرة ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة، فهذا ملخص أول أمرهم، ثم انضم إلى من بقي منهم من مال إلى رأيهم فكانوا مختفين في خلافة علي حتى كان منهم عبد الرحمن ابن ملجم الذي قتل عليا بعد أن دخل علي في صلاة الصبح، ثم لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له النجيلة ثم كانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق طول مدة معاوية وولده يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق وولي الخلافة عبد الله بن الزبير وأطاعه أهل الأمصار إلا بعض أهل الشام ثار مروان فادعى الخلافة وغلب على جميع الشام إلى مصر، فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نجدة بن عامر

(12/284)


وزاد نجدة على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم، وعظم البلاء بهم وتوسعوا في معتقدهم الفاسد فأبطلوا رجم المحصن وقطعوا يد السارق من الإبط وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها وكفروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرا، وإن لم يكن قادرا فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقا وفتكوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنهب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقا بغير دعوة منهم، ومنهم من يدعو أولا ثم يفتك، ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أمر المهلب بن أبي صفرة على قتالهم فطاولهم حتى ظفر بهم وتقلل جمعهم، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة منهم المغرب. وقد صنف في أخبارهم أبو مخنف بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح النون بعدها فاء واسمه لوط بن يحيى كتابا لخصه الطبري في تاريخه وصنف في أخبارهم أيضا الهيثم بن عدي كتابا، ومحمد ابن قدامة الجوهري أحد شيوخ البخاري خارج الصحيح كتابا كبيرا، وجمع أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه "الكامل" لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين قبله، قال القاضي أبو بكر بن العربي: الخوارج صنفان أحدهما يزعم أن عثمان وعليا وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بالتحكيم كفار، والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبدا. وقال غيره: بل الصنف الأول مفرع عن الصنف الثاني لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم. وقال ابن حزم: ذهب نجدة بن عامر من الخوارج إلى أن من أتى صغيرة عذب بغير النار، ومن أدمن على صغيرة فهو كمرتكب الكبيرة في التخليد في النار، وذكر أن منهم من غلا في معتقدهم الفاسد فأنكر الصلوات الخمس وقال: الواجب صلاة بالغداة وصلاة بالعشي، ومنهم من جوز نكاح بنت الابن وبنت الأخ والأخت، ومنهم من أنكر أن تكون سورة يوسف من القرآن، وأن من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه. وقال أبو منصور البغدادي في المقالات: عدة فرق الخوارج عشرون فرقة. وقال ابن حزم أسوءوهم حالا الغلاة المذكورون وأقربهم إلى قول أهل الحق الأباضية، وقد بقيت منهم بقية بالمغرب وقد وردت بما ذكرته من أصل حال الخوارج أخبار جياد: منها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر وأخرجه الطبري من طريق يونس كلاهما عن الزهري قال: لما نشر أهل الشام المصاحف بمشورة عمرو بن العاص حين كاد أهل العراق أن يغلبوهم هاب أهل الشام ذلك إلى أن آل الأمر إلى التحكيم، ورجع كل إلى بلده إلى أن اجتمع الحكمان في العام المقبل بدومة الجندل وافترقا عن غير شيء، فلما رجعوا خالفت الحرورية عليا وقالوا لا حكم إلا لله، وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي رزين قال: لما وقع الرضا بالتحكيم ورجع علي إلى الكوفة اعتزلت الخوارج بحروراء فبعث لهم علي عبد الله بن عباس فناظرهم، فلما رجعوا جاء رجل إلى علي فقال: إنهم يتحدثون أنك أقررت لهم بالكفر لرضاك بالتحكيم، فخطب وأنكر ذلك فتنادوا من جوانب المسجد لا حكم إلا لله. ومن وجه آخر أن رءوسهم حينئذ الذين اجتمعوا بالنهروان عبد الله بن وهب الراسبي وزيد بن حصن الطائي وحرقوص بن زهير السعدي، فاتفقوا على تأمير عبد الله بن وهب، وسيأتي كثر من أسانيد ما أشرت إليه بعد في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. وقال الغزالي في "الوسيط" تبعا لغيره في حكم الخوارج وجهان: أحدهما أنه كحكم أهل الردة، والثاني أنه كحكم أهل البغي، ورجح الرافعي الأول، وليس الذي قاله مطردا في كل خارجي فإنهم على قسمين: أحدهما من تقدم ذكره، والثاني من خرج في طلب الملك

(12/285)


لا للدعاء إلى معتقده، وهم على قسمين أيضا: قسم خرجوا غضبا للدين من أجل جور الولاة وترك عملهم بالسنة النبوية فهؤلاء أهل حق، ومنهم الحسن بن علي وأهل المدينة في الحرة والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وقسم خرجوا لطلب الملك فقط سواء كانت فيهم شبهة أم لا وهم البغاة. وسيأتي بيان حكمهم في كتاب الفتن وبالله التوفيق. قوله: "وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله إلخ" وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج أنه سأل نافعا كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: كان يراهم شرار خلق الله، انطلقوا إلى آيات الكفار فجعلوها في المؤمنين. قلت: وسنده صحيح، وقد ثبت في الحديث الصحيح المرفوع عند مسلم من حديث أبي ذر في وصف الخوارج " هم شرار الخلق والخليقة " وعند أحمد بسند جيد عن أنس مرفوعا مثله، وعند البزار من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج فقال: هم شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي " وسنده حسن وعند الطبراني من هذا الوجه مرفوعا هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وفي حديث أبي سعيد عند أحمد " هم شر البرية " وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع عن علي عند مسلم: "من أبغض خلق الله إليه " وفي حديث عبد الله بن خباب يعني عن أبيه عند الطبراني " شر قتلى أظلتهم السماء وأقلتهم الأرض " وفي حديث أبي أمامة نحوه، وعند أحمد وابن أبي شيبة من حديث أبي برزة مرفوعا في ذكر الخوارج " شر الخلق والخليقة يقولها ثلاثا " وعند ابن أبي شيبة من طريق عمير بن إسحاق عن أبي هريرة " هم شر الخلق " وهذا مما يؤيد قول من قال بكفرهم. ثم ذكر البخاري في الباب ثلاثة أحاديث: الحديث الأول حديث علي قوله: "حدثنا خيثمة" بفتح الخاء المعجمة والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة هو ابن عبد الرحمن بن أبي سبرة بفتح المهملة وسكون الموحدة الجعفي، لأبيه ولجده صحبة، ووقع في رواية سهل ابن بجر عن عمر بن حفص بهذا السند حدثني بالإفراد أخرجه أبو نعيم ولم يصرح بالتحديث فيه إلا حفص بن غياث، فقد أخرجه مسلم من رواية وكيع وعيسى بن يونس والثوري وجرير وأبي معاوية، وتقدم في علامات النبوة وفضائل القرآن من رواية سفيان الثوري، وهو عند أبي داود والنسائي من رواية الثوري أيضا، وعند أبي عوانة من رواية يعلى بن عبيد، وعند الطبري أيضا من رواية يحيى بن عيسى الرملي وعلي بن هشام كلهم عن الأعمش بالعنعنة، وذكر الإسماعيلي أن عيسى بن يونس زاد فيه رجلا فقال عن الأعمش حدثني عمرو بن مرة عن خيثمة. قلت: لم أر في رواية عيسى عند مسلم ذكر عمرو بن مرة وهو من المزيد في متصل الأسانيد، لأن أبا معاوية هو الميزان في حديث الأعمش. قوله: "سويد بن غفلة" بفتح المعجمة والفاء مخضرم من كبار التابعين، وقد قيل إن له صحبة، وتقدم بيان ذلك في أواخر فضائل القرآن. قوله: "قال علي" هو على حذف " قال: "وهو كثير في الخط والأولى أن ينطق به، وقد مضى في آخر فضائل القرآن من رواية الثوري عن الأعمش بهذا السند قال: "قال علي " وعند النسائي من هذا الوجه عن علي، قال الدار قطني: لم يصح لسويد بن غفلة عن علي مرفوع إلا هذا. قلت: وماله في الكتب الستة ولا عند أحمد غيره، وله في المستدرك من طريق الشعبي عنه قال: "خطب علي بنت أبي جهل " أخرجه من طريق أحمد عن يحيى بن أبي زائدة عن زكريا عن الشعبي، وسنده جيد، لكنه مرسل لم يقل فيه: "عن علي". قوله: "إذا حدثتكم" في رواية يحيى بن عيسى سبب لهذا الكلام، فأول الحديث عنده عن سويد بن غفلة قال: "كان علي يمر بالنهر وبالساقية فيقول: صدق الله ورسوله " فقلنا يا أمير المؤمنين ما تزال تقول هذا قال إذا حدثتكم إلخ، وكان علي

(12/286)


في حال المحاربة يقول ذلك، وإذا وقع له أمر يوهم أن عنده في ذلك أثرا، فخشي في هذه الكائنة أن يظنوا أن قصة ذي الثدية من ذلك القبيل فأوضح أن عنده في أمره نصا صريحا، وبين لهم أنه إذا حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكنى ولا يعرض ولا يوري، وإذا لم يحدث عنه فعل ذلك ليخدع بذلك من يحاربه، ولذلك استدل بقوله: "الحرب خدعة". قوله: "فوالله لأن أخر" بكسر الخاء المعجمة أي أسقط. قوله: "من السماء" زاد أبو معاوية والثوري في روايتهما: "إلى الأرض " أخرجه أحمد عنهما، وسقطت للمصنف في علامات النبوة ولم يسق مسلم لفظهما. ووقع في رواية يحيى بن عيسى " أخر من السماء فتخطفني الطير أو تهوى بي الريح في مكان سحيق". قوله: "فيما بيني وبينكم" في رواية يحيى بين عيسى " عن نفسي " وفي رواية الأعمش عن زيد بن وهب عن علي " قام فينا علي عند أصحاب النهر فقال: ما سمعتموني أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثوا به، وما سمعتموني أحدث في غير ذلك " ويستفاد من هذه الرواية معرفة الوقت الذي حدث فيه علي بذلك والسبب أيضا. قوله: "فإن الحرب خدعة" في رواية يحيى بن عيسى " فإنما الحرب خدعة " وقد تقدم في كتاب الجهاد أن هذا أعنى " الحرب خدعة " حديث مرفوع، وتقدم ضبط خدعة هناك ومعناها، قوله: "سيخرج قوم في آخر الزمان" كذا وقع في هذه الرواية وفي حديث أبي برزة عند النسائي: "يخرج في آخر الزمان قوم " وهذا قد يخالف حديث أبي سعيد المذكور في الباب بعده، فإن مقتضاه أنهم خرجوا في خلافة علي، وكذا أكثر الأحاديث الواردة في أمرهم، وأجاب ابن التين بأن المراد زمان الصحابة وفيه نظر، لأن آخر زمان الصحابة كان على رأس المائة وهم قد خرجوا قبل ذلك بأكثر من ستين سنة، ويمكن الجمع بأن المراد بآخر الزمان زمان خلافة النبوة، فإن في حديث سفينة المخرج في السنن وصحيح ابن حبان وغيره مرفوعا: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا " وكانت قصة الخوارج وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة علي سنة ثمان وعشرين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بدون الثلاثين بنحو سنتين. قوله: "أحداث" بمهملة ثم مثلثة جمع حدث بفتحتين والحدث هو الصغير السن هكذا في أكثر الروايات، ووقع هنا للمستملي والسرخسي حداث بضم أوله وتشديد الدال، قال في " المطالع " معناه شباب جمع حديث السن أو جمع حدث، قال ابن التين حداث جمع حديث مثل كرام جمع كريم وكبار جمع كبير، والحديث الجديد من كل شيء ويطلق على الصغير بهذا الاعتبار، وتقدم في التفسير حداث مثل هذا اللفظ لكنه هناك جمع على غير قياس، والمراد سمار يتحدثون قاله في النهاية، وتقدم في علامات النبوة بلفظ حدثاء بوزن سفهاء وهو جمع حديث كما تقدم تقريره، والأسنان جمع سن والمراد به العمر، والمراد أنهم شباب. قوله: "سفهاء الأحلام" جمع حلم بكسر أوله والمراد به العقل، والمعنى أن عقولهم رديئة. وقال النووي: يستفاد منه أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن وكثرة التجارب وقوة العقل. قلت: ولم يظهر لي وجه الأخذ منه فإن هذا معلوم بالعادة لا من خصوص كون هؤلاء كانوا بهذه الصفة. قوله: "يقولون من خير قول البرية" تقدم في علامات النبوة وفي آخر فضائل القرآن قول من قال إنه مقلوب وأن المراد من قول خير البرية وهو القرآن. قلت: ويحتمل أن يكون على ظاهره والمراد القول الحسن في الظاهر وباطنه على خلاف ذلك كقولهم "لا حكم إلا لله" في جواب علي كما سيأتي. وقد وقع في رواية طارق بن زياد عند الطبري قال: "خرجنا مع علي - فذكر الحديث وفيه يخرج قوم يتكلمون كلمة الحق لا تجاوز حلوقهم " وفي حديث أنس عن أبي سعيد عند أبي داود والطبراني " يحسنون القول ويسيئون الفعل " ونحوه في حديث عبد الله بن عمر وعند أحمد وفي

(12/287)


حديث مسلم عن علي يقولون الحق لا يجاوز هذا وأشار إلى حلقه. قوله: "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم" في رواية الكشميهني: "لا يجوز" والحناجر بالحاء المهملة والنون ثم الجيم جمع حنجرة بوزن قسورة وهي الحلقوم والبلعوم وكله يطلق على مجرى النفس وهو طرف المرئ مما يلي الفم، ووقع في رواية مسلم من رواية زيد بن وهب عن علي " لا تجاوز صلاتهم تراقيهم " فكأنه أطلق الإيمان على الصلاة وله في حديث أبي ذر " لا يجاوز إيمانهم حلاقيمهم " والمراد أنهم يؤمنون بالنطق لا بالقلب، وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع عن علي عند مسلم: "يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم وأشار إلى حلقه " وهذه المجاوزة غير المجاوزة الآتية في حديث أبي سعيد. قوله: "يمرقون من الدين" في رواية أبي إسحاق عن سويد بن غفلة عند النسائي والطبري " يمرقون من الإسلام " وكذا في حديث ابن عمر في الباب. وفي رواية زيد بن وهب المشار إليها، وحديث أبي بكرة في الطبري وعند النسائي من رواية طارق بن زياد عن علي " يمرقون من الحق " وفيه تعقب على من فسر الدين هنا بالطاعة كما تقدمت الإشارة إليه في علامات النبوة. قوله: "كما يمرق السهم من الرمية" بفتح الراء وكسر الميم وتشديد التحتانية أي الشيء الذي يرمى به ويطلق على الطريدة من الوحش إذا رماها الرامي، وسيأتي في الباب الذي بعده. قوله: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة" في رواية زيد بن وهب " لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل " ولمسلم في رواية عبيدة بن عمرو عن علي " لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: "قال عبيدة قلت لعلي: أنت سمعته؟ قال: أي ورب الكعبة ثلاثا. وله في رواية زيد بن وهب في قصة قتل الخوارج " أن عليا لما قتلهم قال صدق الله وبلغ رسوله، فقام إليه عبيدة فقال: يا أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أي والله الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثا " قال النووي: إنما استحلفه ليؤكد الأمر عند السامعين ولتظهر معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وأن عليا ومن معه على الحق. قلت: وليطمئن قلب المستحلف لإزالة توهم ما أشار إليه على أن الحرب خدعة فخشي أن يكون لم يسمع في ذلك شيئا منصوصا، وإلى ذلك يشير قول عائشة لعبد الله بن شداد في روايته المشار إليها حيث قالت له " ما قال علي حينئذ؟ قال سمعته يقول: صدق الله ورسوله، قالت: رحم الله عليا إنه كان لا يرى شيئا يعجبه إلا قال صدق الله ورسوله، فيذهب أهل العراق فيكذبون عليه ويزيدونه"، فمن هذا أراد عبيدة بن عمرو والتثبت في هذه القصة بخصوصها وأن فيها نقلا منصوصا مرفوعا. وأخرج أحمد نحو هذا الحديث عن علي وزاد في آخره: "قتالهم حق على كل مسلم: "ووقع سبب تحديث علي بهذا الحديث في رواية عبيد الله بن أبي رافع فيما أخرجه مسلم من رواية بشر بن سعيد عنه قال: "إن الحرورية لما خرجت وهو مع علي قالوا: لا حكم إلا لله تعالى، فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم ولا يجاوز هذا منهم - وأشار بحلقه - من أبغض خلق الله إليه" الحديث. الحديث الثاني حديث أبي سعيد، قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، ومحمد بن إبراهيم هو التيمي، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق. وهذا السياق كأنه لفظ عطاء بن يسار وأما لفظ أبي سلمة فتقدم منفردا في أواخر فضائل القرآن، ورواه الزهري عن أبي سلمة كما في الباب الذي بعده بسياق آخر، فلعل اللفظ المذكور هنا على سياق عطاء بن يسار المقرون به، وقد قرن الزهري مع أبي سلمة في

(12/288)


روايته الماضية في الأدب الضحاك المشرقي لكنه أفرده هنا عن أبي سلمة فامتاز لفظه عن لفظ الضحاك. قوله: "فسألاه عن الحرورية أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم" كذا للجميع بحذف المسموع، وقد بينه في رواية مسلم عن محمد بن المثنى شيخ البخاري فيه فقال يذكرها، وفي رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة " قلت لأبي سعيد هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الحرورية " أخرجه ابن ماجه والطبري، وأخرج الطبري من طريق الأسود بن العلاء عن أبي سلمة قال: "جئنا أبا سعيد فقلنا " فذكر مثله ومن طريق أبي إسحاق مولى بني هاشم " أنه سأل أبا سعيد عن الحرورية". قوله: "قال لا أدري ما الحرورية" هذا يغاير قوله في أول حديث الباب الذي يليه " وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه " فإن مقتضى الأول أنه لا يدري هل ورد الحديث الذي ساقه في الحرورية أو لا، ومقتضى الثاني أنه ورد فيهم، ويمكن الجمع بأن مراده بالنفي هنا أنه لم يحفظ فيهم نصا بلفظ الحرورية وإنما سمع قصتهم التي دل وجود علامتهم في الحرورية بأنهم هم. قوله: "يخرج في هذه الأمة ولم يقل منها" لم تختلف الطرق الصحيحة على أبي سعيد في ذلك فعند مسلم من رواية أبي نضرة عن أبي سعيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته " وله من وجه آخر " تمرق عند فرقة مارقة من المسلمين " وله من رواية الضحاك المشرقي عن أبي سعيد نحوه، وأما ما أخرجه الطبري من وجه آخر عن أبي سعيد بلفظ: "من أمتي " فسنده ضعيف، لكن وقع عند مسلم من حديث أبي ذر بلفظ: "سيكون بعدي من أمتي قوم " وله من طريق زيد بن وهب عن علي " يخرج قوم من أمتي " ويجمع بينه وبين حديث أبي سعيد بأن المراد بالأمة في حديث أبي سعيد أمة الإجابة وفي رواية غيره أمة الدعوة، قال النووي: وفيه دلالة على فقه الصحابة وتحريرهم الألفاظ، وفيه إشارة من أبي سعيد إلى تكفير الخوارج وأنهم من غير هذه الأمة. قوله: "تحقرون" بفتح أوله أي تستقلون. قوله: "صلاتكم مع صلاتهم" زاد في رواية الزهري عن أبي سلمة كما في الباب بعده " وصيامكم مع صيامهم " وفي رواية عاصم بن شميخ عن أبي سعيد " تحقرون أعمالكم مع أعمالهم " ووصف عاصم أصحاب نجدة الحروري بأنهم " يصومون النهار ويقومون الليل ويأخذون الصدقات على السنة " أخرجه الطبري، ومثله عنده من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. وفي رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنده " يتعبدون يحقر أحدكم صلاته وصيامه مع صلاتهم وصيامهم " ومثله من رواية أنس عن أبي سعيد، وزاد في رواية الأسود بن العلاء عن أبي سلمة " وأعمالكم مع أعمالهم " وفي رواية سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب عن علي " ليست قراءتكم إلى قراءتهم شيئا ولا صلاتكم إلى صلاتهم شيئا " أخرجه مسلم والطبري، وعنده من طريق سليمان التيمي عن أنس " ذكر لي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن فيكم قوما يدأبون ويعملون حتى يعجبوا الناس وتعجبهم أنفسهم " ومن طريق حفص بن أخي أنس عن عمه بلفظ: "يتعمقون في الدين " وفي حديث ابن عباس عند الطبراني في قصة مناظرته للخوارج قال: "فأتيتهم فدخلت على قوما لم أر أشد اجتهادا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوهم معلمة من آثار السجود " وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه " ذكر عنده الخوارج واجتهادهم في العبادة فقال: ليبسوا أشد اجتهادا من الرهبان". قوله: "يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية" بكسر الميم وتشديد التحتانية فعيلة بمعنى مفعولة فأدخلت فيها الهاء وإن كان فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث للإشارة لنقلها من الوصفية إلى الاسمية، وقيل إن شرط استواء المذكر والمؤنث أن يكون الموصوف مذكورا معه، وقيل شرطه سقوط الهاء من مؤنث قبل وقوع الوصف، تقول خذ ذبيحتك أي الشاة التي تريد

(12/289)


ذبحها فإذا ذبحتها قيل لها حينئذ ذبيح. قوله: "فلينظر الرامي إلى سهمه" يأتي بيانه في الباب الذي بعده، وقوله: "إلى نصله " هو بدل من قوله سهمه أي ينظر إليه جملة ثم تفصيلا، وقد وقع في رواية أبي ضمرة عن يحيى بن سعيد عند الطبري " ينظر إلى سهمه فلا يرى شيئا ثم ينظر إلى نصله ثم إلى رصافه " وسيأتي بأبسط من هذا في الباب الذي يليه، وقوله: "فيتمارى " أي يتشكك هل بقي فيها شيء من الدم، والفوقة موضع الوتر من السهم، قال ابن الأنباري الفوق يذكر ويؤنث وقد يقال فوقة بالهاء. الحديث الثالث حديث ابن عمر، قوله: "حدثنا عمر" في رواية غير أبي ذر " حدثني " بالإفراد كذا للجميع عمر غير منسوب، لكن ذكر أبو علي الجياني عن الأصيلي قال قرأه علينا أبو زيد في عرضه ببغداد " عمر بن محمد " ونسبه الإسماعيلي في روايته من طريق أحمد بن عيسى عن ابن وهب " أخبرني عمر بن محمد بن زيد العمري". قلت: وزيد هو ابن عبد الله بن عمر، وقد تقدم في التفسير بهذا السند حديث في تفسير لقمان عن يحيى بن سليمان عن ابن وهب " حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر " ووقع في حديث الباب منسوبا هكذا إلى عمر بن الخطاب في رواية الطبري عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب. قوله: "عن عبد الله بن عمر وذكر الحرورية" هي جملة حالية، والمراد أنه حدث بالحديث عند ذكر الحرورية، وفي إيراد البخاري له عقب حديث أبي سعيد إشارة إلى أن توقف أبي سعيد المذكور محمول على ما أشرت إليه من أنه لم ينص في الحديث المرفوع على تسميتهم بخصوص هذا الاسم لا أن الحديث لم يرد فيهم.

(12/290)


7- باب: مَنْ تَرَكَ قِتَالَ الْخَوَارِجِ لِلتَّأَلُّفِ وَأَنْ لاَ يَنْفِرَ النَّاسُ عَنْهُ
6933- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ: دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِي قُذَذِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إلى نَصْلِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى رِصَافِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي نَضِيِّهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ. آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ - أَوْ قَالَ ثَدْيَيْهِ - مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ قَالَ: مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ. يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشْهَدُ سَمِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا قَتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، جِيءَ بِالرَّجُلِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيهِ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}
6934- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ حَدَّثَنَا يُسَيْرُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ "قُلْتُ لِسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْخَوَارِجِ شَيْئًا؟ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَأَهْوَى بِيَدِهِ قِبَلَ الْعِرَاقِ: يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلاَمِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ"
قوله: "باب من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا ينفر الناس منه" أورد فيه حديث أبي سعيد في ذكر الذي

(12/290)


قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "اعدل. فقال عمر ائذن لي فأضرب عنقه، قال دعه " وليس فيه بيان السبب في الأمر بتركه، ولكنه ورد في بعض طرقه، فأخرج أحمد والطبري من طريق بلال بن بقطر عن أبي بكرة قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمويل فقعد يقسمه، فأتاه رجل وهو على تلك الحال " فذكر الحديث وفيه: "فقال أصحابه: ألا تضرب عنقه؟ فقال: لا أريد أن يسمع المشركون أني أقتل أصحابي " ولمسلم من حديث جابر نحو حديث أبي سعيد وفيه: "فقال عمر دعني يا رسول فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه، لكن القصة التي في حديث جابر صرح في حديثه بأنها كانت منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ثمان، وكان الذي قسمه النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ فضة كانت في ثوب بلال وكان يعطي كل من جاء منها، والقصة التي في حديث أبي سعيد صرح في رواية أبي نعيم عنه أنها كانت بعد بعث علي إلى اليمن وكان ذلك في سنة تسع وكان المقسوم فيها ذهبا وخص به أربعة أنفس، فهما قصتان في وقتين اتفق في كل منهما إنكار القائل، وصرح في حديث أبي سعيد أنه ذو الخويصرة التميمي، ولم يسم القائل في حديث جابر، ووهم من سماه ذا الخويصرة ظانا اتحاد القصين. ووجدت لحديث جابر شاهدا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل يوم حنين وهو يقسم شيئا فقال: يا محمد اعدل " ولم يسم الرجل أيضا، وسماه محمد بن إسحاق بسند حسن عن عبد الله بن عمر، وأخرجه أحمد والطبري أيضا ولفظه: "أتى ذو الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم بحنين فقال: يا محمد " فذكر نحو هذا الحديث المذكور فيمكن أن يكون تكرر ذلك منه في الموضعين عند قسمة غنائم حنين وعند قسمة الذهب الذي بعثه علي، قال الإسماعيلي: الترجمة في ترك قتال الخوارج والحديث في ترك القتل للمنفرد والجميع إذا أظهروا رأيهم ونصبوا للناس القتال وجب قتالهم، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المذكور لأنه لم يكن أظهر ما يستدل به على ما وراءه، فلو قتل من ظاهره الصلاح عند الناس قبل استحكام أمر الإسلام ورسوخه في القلوب لنفرهم عن الدخول في الإسلام، وأما بعده صلى الله عليه وسلم فلا يجوز ترك قتالهم إذا هم أظهروا رأيهم وتركوا الجماعة وخالفوا الأئمة مع القدرة على قتالهم. قلت: وليس في الترجمة ما يخالف ذلك، إلا أنه أشار إلى أنه لو اتفقت حالة مثل حالة المذكور فاعتقدت فرقة مذهب الخوارج مثلا ولم ينصبوا حربا أنه يجوز للإمام الإعراض عنهم إذا رأى المصلحة في ذلك كأن يخشى أنه لو تعرض للفرقة المذكورة لأظهر من يخفى مثل اعتقادهم أمره وناضل عنهم فيكون ذلك سببا لخروجهم ونصبهم القتال للمسلمين مع ما عرف من شدة الخوارج في القتال وثباتهم وإقدامهم على الموت. ومن تأمل ما ذكر أهل الأخبار من أمورهم تحقق ذلك، وقد ذكر ابن بطال عن المهلب قال: التألف إنما كان في أول الإسلام إذا كانت الحاجة ماسة لذلك لدفع مضرتهم، فأما إذ أعلى الله الإسلام فلا يجب التألف إلا أن تنزل بالناس حاجة لذلك فلإمام الوقت ذلك. قلت: وأما ترجمة البخاري القتال والخبر في القتل فلأن ترك القتال يؤخذ من ترك القتل من غير عكس، وذكر فيه حديثين: الأول حديث أبي سعيد، قوله: "حدثنا عبد الله" هو الجعفي المسندي بفتح النون، ووهم من زعم أنه أبو بكر بن أبي شيبة لأنه وإن كان أيضا عبد الله بن محمد لكنه لا رواية له عن هشام المذكور هنا وهو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية شعيب الماضية في علامات النبوة عن الزهري " أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن" وتقدم في الأدب من طريق الأوزاعي عن الزهري

(12/291)


عن أبي سلمة والضحاك وهو ابن شراحبيل أو ابن شراحيل المشرقي بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الراء بعدها قاف منسوب إلى مشرق بطن من همدان، وتقدم بيان حاله في فضل سورة الإخلاص. وأن البزار حكى أنه الضحاك بن مزاحم وأن ذلك غلط، ثم وقفت على الرواية التي نسب فيها كذلك أخرجها الطبري من طريقي الوليد بن مرثد عن الأوزاعي في هذا الحديث فقال: "حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن والضحاك بن مزاحم عن أبي سعيد " قال الطبري وهذا خطأ وإنما هو الضحاك المشرقي. قلت: وقد أخرجه أحمد عن محمد بن مصعب وأبو عوانة من طريق بشر بن بكير كلاهما عن الأوزاعي فقال فيه: "عن أبي سلمة والضحاك المشرقي " وفي رواية بشر الهمداني كلاهما عن أبي سعيد، واللفظ الذي ساقه البخاري هو لفظ أبي سلمة، وقد أفرد مسلم لفظ الضحاك المشرقي من طريق حبيب بن أبي ثابت عنه وزاد فيه شيئا سأذكره بعد، وقد شذ أفلح بن عبد الله بن المغيرة عن الزهري فروى هذا الحديث عنه فقال عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي سعيد أخرجه أبو يعلى. قوله: "بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم" بفتح أوله من القسمة كذا هنا بحذف المفعول، ووقع في رواية الأوزاعي بقسم ذات يوم قسما وفي رواية شعيب " بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما " زاد أفلح بن عبد الله في روايته: "يوم حنين " وتقدم في الأدب من طريق عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد أن المقسوم كان تبرا بعثه علي بن أبي طالب من اليمن فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة أنفس، وذكرت أسماءهم هناك. قوله: "جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي" في رواية عبد الرزاق عن معمر بلفظ: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي " وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عبد الرزاق ومحمد بن ثور وأبو سفيان الحميري وعبد الله بن معاذ أربعتهم عن معمر وأخرجه الثعلبي ثم الواحدي في أسباب النزول من طريق محمد بن يحيى الذهلي عن عبد الرزاق فقال ابن ذي الخويصرة التميمي وهو حرقوص بن زهير أصل الخوارج وما أدري من الذي قال وهو حرقوص إلخ وقد اعتمد على ذلك ابن الأثير في الصحابة فترجم لذي الخويصرة التميمي في الصحابة وساق هذا الحديث من طريق أبي إسحاق الثعلبي وقال بعد فراغه: فقد جعل في هذه الرواية اسم ذي الخويصرة حرقوصا والله أعلم، وقد جاء أن حرقوصا اسم ذي الثدية كما سيأتي. قلت: وقد ذكر حرقوص بن زهير في الصحابة أبو جعفر الطبري وذكر أنه كان له في فتوح العراق أثر وأنه الذي افتتح سوق الأهواز ثم كان مع علي في حروبه ثم صار مع الخوارج فقتل معهم، وزعم بعضهم أنه ذو الثدية الآتي ذكره، وليس كذلك، وأكثر ما جاء ذكر هذا القائل في الأحاديث مبهما ووصف في رواية عبد الرحمن بن أبي نعم المشار إليها بأنه مشرف الوجنتين غائر العينين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار، وتقدم تفسير ذلك في " باب بعث علي " من المغازي وفي حديث أبي بكرة عند أحمد والطبري " فأتاه رجل أسود طويل مشمر محلوق الرأس بين عينيه أثر السجود " وفي رواية أبي الوضي عن أبي برزة عند أحمد والطبري والحاكم " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنانير فكان يقسمها ورجل أسود مطموم الشعر بين عينيه أثر السجود " وفي حديث عبد الله بن عمرو عند البزار والطبري " رجل من أهل البادية حديث عهد بأمر الله". قوله: "فقال: اعدل يا رسول الله" في رواية عبد الرحمن بن أبي نعم " فقال اتق الله يا محمد " وفي حديث عبد الله بن عمرو فقال: "اعدل يا محمد " وفي لفظ له عند البزار والحاكم " فقال: يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما أراك تعدل " وفي رواية مقسم التي أشرت إليها " فقال يا محمد قد رأيت الذي صنعت، قال وكيف رأيت؟ قال لم أراك عدلت " وفي حديث أبي بكرة

(12/292)


"فقال يا محمد والله ما تعدل " وفي لفظ: "ما أراك عدلت في القسمة " ونحوه في حديث أبي برزة. قوله: "فقال ويحك" في رواية الكشميهني: "ويلك " وهي رواية شعيب والأوزاعي كما تقدم الكلام عليها في كتاب الأدب. قوله: "ومن يعدل إذا لم أعدل" في رواية عبد الرحمن بن أبي نعم. ومن يطع الله إذا لم أطعه ولمسلم من طريقه " أو لست أحق أهل الأرض أن أطيع الله " وفي حديث عبد الله بن عمرو " عند من يلتمس العدل بعدي " وفي رواية مقسم عنه " فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: العدل إذا لم يكن عندي فعند من يكون " وفي حديث أبي بكرة " فغضب حتى احمرت وجنتاه " ومن حديث أبي برزة " قال فغضب غضبا شديدا وقال: والله لا تجدون بعدي رجلا هو أعدل عليكم مني". قوله: "قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه" في رواية شعيب ويونس " فقال: "بزيادة فاء وقال: "ائذن لي فيه فأضرب عنقه " وفي رواية الأوزاعي " فلأضرب " بزيادة لام، وفي حديث عبد الله بن عمرو من طريق مقسم عنه " فقال عمر: يا رسول الله ألا أقوم عليه فأضرب عنقه " وقد تقدم في المغازي من رواية عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد في هذا الحديث: "فسأله رجل أظنه خالد بن الوليد قتله " وفي رواية مسلم: "فقال خالد بن الوليد " بالجزم، وقد ذكرت وجه الجمع بينهما في أواخر المغازي وأن كلا منهما سأل، ثم رأيت عند مسلم من طريق جرير عن عمارة بن القعقاع بسنده فيه: "فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: لا. ثم أدبر فقام إليه خالد بن الوليد سيف الله فقال: يا رسول الله أضرب عنقه؟ قال: لا " فهذا نص في أن كلا منهما سأل. وقد استشكل سؤال خالد في ذلك لأن بعث علي إلى اليمن كان عقب بعث خالد بن الوليد إليها، والذهب المقسوم أرسله علي من اليمن كما في صدر حديث ابن أبي نعم عن أبي سعيد، ويجاب بأن عليا لما وصل إلى اليمن رجع خالد منها إلى المدينة فأرسل علي الذهب فحضر خالد قسمته، وأما حديث عبد الله بن عمرو فإنه في قصة قسم وقع بالجعرانة من غنائم حنين، والسائل في قتله عمر بن الخطاب جزما، وقد ظهر أن المعترض في الموضعين واحد كما مضى قريبا". قوله: "قال دعه" في رواية شعيب " فقال له دعه " كذا لأبي ذر وفي رواية الأوزاعي " فقال لا " وزاد أفلح بن عبد الله في روايته: "فقال ما أنا بالذي أقتل أصحابي". قوله: "فإن له أصحابا" هذا ظاهره أن ترك الأمر بقتله بسبب أن له أصحابا بالصفة المذكورة، وهذا لا يقتضي ترك قتله مع ما أظهره من مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بما واجهه، فيحتمل أن يكون لمصلحة التأليف كما فهمه البخاري لأنه وصفهم بالمبالغة في العبادة مع إظهار الإسلام، فلو أذن في قتلهم لكان ذلك تنفيرا عن دخول غيرهم في الإسلام، ويؤيده رواية أفلح ولها شواهد، ووقع في رواية أفلح " سيخرج أناس يقولون مثل قوله". قوله: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه" كذا في هذه الرواية بالإفراد، وفي رواية شعيب وغيره: "مع صلاتهم" بصيغة الجمع فيه وفي قوله: "مع صيامهم" وقد تقدم في ثاني أحاديث الباب الذي قبله وزاد في رواية شعيب ويونس " يقرءون القرآن ولا يجاوز تراقيهم " بمثناه وقاف جمع ترقوة بفتح أوله وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو وهي العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق، والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها، وقيل لا يعلمون بالقرآن فلا يثابون على قراءته فلا يحصل لهم إلا سرده. وقال النووي: المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم فضلا عن أن يصل إلى قلوبهم، لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب. قلت: وهو مثل قوله فيهم أيضا: "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم " أي ينطقون بالشهادتين ولا يعرفونها بقلوبهم، ووقع في رواية لمسلم: "يقرءون القرآن رطبا" قيل المراد الحذق في التلاوة أي

(12/293)


يأتون به على أحسن أحواله، وقيل المراد أنهم يواظبون على تلاوته فلا تزال ألسنتهم رطبه به، وقيل هو كناية عن حسن الصوت به حكاها القرطبي، ويرجح الأول ما وقع في رواية أبي الوداك عن أبي سعيد عند مسدد " يقرءون القرآن كأحسن ما يقرؤه الناس " ويؤيد الآخر قوله في رواية مسلم عن أبي بكرة عن أبيه " قوم أشداء أحداء ذلقة ألسنتهم القرآن " أخرجه الطبري وزاد في رواية عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد " يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون " وأرجحها الثالث. قوله: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم" يأتي تفسيره في الحديث الثاني، وفي رواية الأوزاعي كمروق السهم. قوله: "من الرمية" في رواية معبد بن سيرين عن أبي سعيد الآتية في آخر كتاب التوحيد " لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه " والرمية فعلية من الرمي والمراد الغزالة المرمية مثلا. ووقع في حديث عبد الله ابن عمرو من رواية مقسم عنه " فإنه سيكون لهذا شيعة يتعمقون في الدين يمرقون منه " الحديث، أي يخرجون من الإسلام بغتة كخروج السهم إذا رماه رام قوي الساعد فأصاب ما رماه فنفذ منه بسرعة بحيث لا يعلق بالسهم ولا بشيء منه من المرمى شيء، فإذا التمس الرامي سهمه وجده ولم يجد الذي رماه فينظر في السهم ليعرف هل أصاب أو أخطأ فإذا لم يره علق فيه شيء من الدم ولا غيره ظن أنه لم يصبه والفرض أنه أصابه، وإلى ذلك أشار بقوله: "سبق الفرث والدم " أي جاوزهما ولم يتعلق فيه منهما شيء بل خرجا بعده، وقد تقدم شرح القذذ في علامات النبوة، ووقع في رواية أبي نضرة عن أبي سعيد عند مسلم فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهم مثلا الرجل يرمى الرمية الحديث، وفي رواية أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد عند الطبري " مثلهم كمثل رجل رمى رمية فتوخى السهم حيث وقع فأخذه فنظر إلى فوقه فلم ير به دسما ولا دما " لم يتعلق به شيء من السم والدم، كذلك هؤلاء لم يتعلقوا بشيء من الإسلام، وعنده في رواية عاصم بن شمخ المعجبة وسكون الميم بعدها معجمة بعد قوله من الرمية " يذهب السهم فينظر في النصل فلا يرى شيئا من الفرث والدم " الحديث، وفيه: "يتركون الإسلام وراء ظهورهم " وجعل يديه وراء ظهره، وفي رواية أبي إسحاق مولى بني هاشم عن أبي سعيد في آخر الحديث: "لا يتعلقون من الدين بشيء كما لا يتعلق بذلك السهم " أخرجه الطبري، وفي حديث أنس عن أبي سعيد عند أحمد وأبي داود والطبري " لا يرجعون إلى الإسلام حتى يرتد السهم إلى فوقه " وجاء عن ابن عباس عند الطبري وأوله في ابن ماجه بسياق أوضح من هذا ولفظه: "سيخرج قوم من الإسلام خروج السهم من الرمية عرضت للرجال فرموها فانمرق سهم أحدهم منها فخرج فأتاه فنظر إليه فإذا هو لم يتعلق بنصله من الدم شيء، ثم نظر إلى القذذ فلم يره تعلق من الدم بشيء، فقال: إن كنت أصبت فإن بالريش والفوق شيئا من الدم، فنظر فلم ير شيئا تعلق بالريش والفوق. قال: كذلك يخرجون من الإسلام " وفي رواية بلال بن بقطر عن أبي بكرة " يأتيهم الشيطان من قبل دينهم " وللحميدي وابن أبي عمر في مسنديهما من طريق أبي بكر مولى الأنصار عن علي " إن ناسا يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه أبدا". قوله: "آيتهم" أي علامتهم، ووقع في رواية ابن أبي مريم عن علي عند الطبري "علامتهم". قوله: "رجل إحدى يديه أو قال ثدييه" هكذا للأكثر بالتثنية فيهما مع الشك هل هي تثنية يد أو ثدي بالمثلثة، وفي رواية المستملي هنا بالمثلثة فيهما فالشك عنده هل هو الثدي بالإفراد أو بالتثنية، ووقع في رواية الأوزاعي "إحدى يديه" تثنية يد ولم يشك، وهذا هو المعتمد، فقد وقع في رواية شعيب ويونس "إحدى عضديه". قوله: "مثل ثدي المرأة أو قال مثل البضعة" بفتح الموحدة

(12/294)


وسكون المعجمة أي القطعة من اللحم. قوله: "تدردر" بفتح أوله ودالين مهملتين مفتوحتين بينهما راء ساكنة وآخره راء وهو على حذف إحدى التاءين وأصله تتدردر ومعناه تتحرك وتذهب وتجيء، وأصله حكاية صوت الماء في بطن الوادي إذا تدافع، وفي رواية عبيدة بن عمرو عن علي عند مسلم: "فيهم رجل مخرج اليد أو مودن اليد أو مثدون اليد " والمخرج بخاء معجمة وجيم والمودن بوزنه والمثدون بفتح الميم وسكون المثلثة وكلها بمعنى وهو الناقص، وله من رواية زيد بن وهب عن علي " وغاية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض " وعند الطبري من وجه آخر " فيهم رجل مجدع اليد كأنها ثدي حبشية " وفي رواية أفلح بن عبد الله " فيها شعرات كأنها سخلة سبع، وفي رواية أبي بكر مولى الأنصار " كثدي المرأة لها حلمة كحلمة المرأة حولها سبع هلبات " وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع عن علي عند مسلم: "منهم أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي " فأما الطبي فهو بضم الطاء المهملة وسكون الموحدة وهي الثدي، وعند الطبري من طريق طارق بن زياد عن علي " في يده شعرات سود " والأول أقوى، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم للخوارج علامة أخرى ففي رواية معبد بن سيرين عن أبي سعيد " قيل ما سيماهم، قال: سيماهم التحليق " وفي رواية عاصم ابن شمخ عن أبي سعيد " فقام رجل فقال: يا نبي الله هل في هؤلاء القوم علامة؟ قال: يحلقون رءوسهم فيهم ذو ثدية " وفي حديث أنس عن أبي سعيد " هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قيل: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال التحليق " هكذا أخرجه الطبري، وعند أبي داود بعضه. قوله: "يخرجون على خير فرقة من الناس" كذا للأكثر هنا، وفي علامات النبوة وفي الأدب " حين " بكسر المهملة وآخره نون و " فرقة " بضم الفاء. ووقع في رواية عبد الرزاق عند أحمد وغيره: "حين فترة من الناس " بفتح الفاء وسكون المثناة، ووقع للكشميهني في هذه المواضع " على خير " بفتح المعجمة وآخره راء و " فرقة " بكسر الفاء والأول المعتمد وهو الذي عند مسلم وغيره وإن كان الآخر صحيحا ويؤيد الأول أن عند مسلم من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد " تمرق ما رقة عند فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق " وفي لفظ له " يكون في أمتي فرقتان فيخرج من بينهما طائفة مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق " وفي لفظ له " يخرجون في فرقة من الناس يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق " وفيه: "فقال أبو سعيد: وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق " وفي رواية الضحاك المشرقي عن أبي سعيد " يخرجون على فرقة مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق " وفي رواية أنس عن أبي سعيد عند أبي داود " من قاتلهم كان أولى بالله منهم". قوله: "قال أبو سعيد" هو متصل بالسند المذكور. قوله: "أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم" كذا هنا باختصار، وفي رواية شعيب ويونس " قال أبو سعيد فأشهد أني سمعت هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مضى في الباب الذي قبله من وجه آخر عن أبي سعيد " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج في هذه الأمة " وفي رواية أفلح ابن عبد الله " حضرت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "وأشهد أن عليا قتلهم" في رواية شعيب "أن علي بن أبي طالب قاتلهم " وكذا وقع في رواية الأوزاعي ويونس "قاتلهم" ووقع في رواية أفلح بن عبد الله " وحضرت مع علي يوم قتلهم بالنهروان " ونسبة قتلهم لعلي لكونه كان القائم في ذلك، وقد مضى في الباب قبله من رواية سويد بن غفلة عن علي " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم " ولفظه: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم " وقد ذكرت شواهده، ومنها حديث نصر بن عاصم عن أبي بكرة رفعه: "إن في أمتي أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، فإذا لقيتموهم فأنيموهم" أي فاقتلوهم أخرجه الطبري،

(12/295)


وتقدم في أحاديث الأنبياء وغيرها " لئن أدركتهم لأقتلنهم " وأخرج الطبري من رواية مسروق قال: "قالت لي عائشة: من قتل المخرج؟ قلت: علي قالت فأين قتله؟ قلت على نهر يقال لأسفله النهروان. قالت: ائتني على هذا ببينة، فأتيتها بخمسين نفسا شهدوا أن عليا قتله بالنهروان " أخرجه أبو يعلى والطبري، وأخرج الطبراني في " الأوسط " من طريق عامر بن سعد قال: "قال عمار لسعد: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج أقوام من أمتي يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلهم علي بن أبي طالب؟ قال أي والله " وأما صفة قتالهم وقتلهم فوقعت عند مسلم في رواية زيد بن وهب الجهني أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي حين ساروا إلى الخوارج فقال علي بعد أن حدث بصفتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس، قال فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم: ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من جفونها فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، قال فشجرهم الناس برماحهم، قال فقتل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان. وأخرج يعقوب بن سفيان من طريق عمران بن جرير عن أبي مجلز قال: كان أهل النهر أربعة آلاف فقتلهم المسلمون ولم يقتل من المسلمين سوى تسعة، فإن شئت فاذهب إلى أبي برزة فاسأله فإنه شهد ذلك. وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل فقلت: أخبرني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي فيم فارقوه وفيم استحل قتالهم؟ قال: لما كنا بصفين استحر القتل في أهل الشام فرفعوا المصاحف فذكر قصة التحكيم، فقال الخوارج ما قالوا ونزلوا حروراء، فأرسل إليهم علي فرجعوا ثم قالوا نكون في ناحيته فإن قبل القضية قاتلناه وإن نقضها قاتلنا معه، ثم افترقت منهم فرقة يقتلون الناس فحدث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم. وعند أحمد والطبراني والحاكم من طريق عبد الله بن شداد أنه دخل على عائشة مرجعه من العراق ليالي قتل علي فقالت له عائشة تحدثني بأمر هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، قال: إن عليا لما كاتب معاوية وحكما الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة وعتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله ومن اسم سماك الله به، ثم حكمت الرجال في دين الله ولا حكم إلا لله، فبلغ ذلك عليا فجمع الناس فدعا بمصحف عظيم فجعل يضربه بيده ويقول: أيها المصحف حدث الناس، فقالوا ماذا إنسان؟ إنما هو مداد وورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فقال: كتاب الله بيني وبين هؤلاء، يقول الله في امرأة رجل {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الآية، وأمة محمد أعظم من امرأة رجل، ونقموا على أن كاتبت معاوية، وقد كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. ثم بعث إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع منهم أربعة آلاف فيهم عبد الله بن الكواء، فبعث علي إلى الآخرين أن يرجعوا فأبوا. فأرسل إليهم: كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا أحدا، فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب. قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام الحديث. وأخرج النسائي في الخصائص صفة مناظرة ابن عباس لهم بطولها. وفي الأوسط للطبراني من طريق أبي السائغة عن جندب بن عبد الله البجلي قال: لما فارقت الخوارج عليا خرج في طلبهم فانتهينا إلى عسكرهم فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن، وإذا فيهم أصحاب البرانس أي الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة، قال فدخلني من ذلك شدة، فنزلت عن فرسي وقمت أصلي فقلت: اللهم إن كان في

(12/296)


قتال هؤلاء القوم لك طاعة فائذن لي فيه. فمر بي علي فقال لما حاذاني تعوذ بالله من الشك يا جندب، فلما جئته أقبل رجل على برذون يقول إن كان لك بالقوم حاجة فإنهم قد قطعوا النهر، قال ما قطعوه ثم جاء آخر كذلك، ثم جاء آخر كذلك قال: لا ما قطعوه ولا يقطعونه وليقتلن من دونه عهد من الله ورسوله، قلت الله أكبر، ثم ركبنا فسايرته فقال لي: سأبعث إليهم رجلا يقرأ المصحف يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيهم فلا يقبل علينا بوجهه حتى يرشقوه بالنبل ولا يقتل منا عشرة ولا ينجو منهم عشرة، قال فانتهينا إلى القوم فأرسل إليهم رجلا فرماه إنسان فأقبل علينا بوجهه فقعد وقال علي: دونكم القوم فما قتل منا عشرة ولا نجا منهم عشرة. وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح عن حميد بن هلال قال حدثنا رجل من عبد القيس قال: لحقت بأهل النهر فإني مع طائفة منهم أسير إذ أتينا على قرية بيننا نهر، فخرج رجل من القرية مروعا فقالوا له لا روع عليك، وقطعوا إليه النهر فقالوا له أنت ابن خباب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: فحدثنا عن أبيك فحدثهم بحديث يكون فتنة فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فكن، قال فقدموه فضربوا عنقه، ثم دعوا سريته وهي حبلى فبقروا عما في بطنها. ولابن أبي شيبة من طريق أبي مجلز لاحق بن حميد قال قال علي لأصحابه: لا تبدءوهم بقتال حتى يحدثوا حدثا، قال فمر بهم عبد الله بن خباب فذكر قصة قتلهم له وبجاريته وأنهم بقروا بطنها وكانوا مروا على ساقته فأخذ واحد منهم تمرة فوضعها في فيه فقالوا له تمرة معاهد فيم استحللتها؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: أنا أعظم حرمة من هذه التمرة. فأخذوه فذبحوه، فبلغ عليا فأرسل إليهم: أفيدونا بقاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، فأذن حينئذ في قتالهم. وعند الطبري من طريق أبي مريم قال أخبرني أخي أبو عبد الله أن عليا سار إليهم حتى إذا كان حذاءهم على شط النهروان أرسل يناشدهم فلم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسوله، فلما رأى ذلك نهض إليهم فقاتلهم حتى فرغ منهم كلهم. قوله: "جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية شعيب " على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته " وفي رواية أفلح " فالتمسه علي فلم يجده ثم وجده بعد ذلك تحت جدار على هذا النعت " وفي رواية زيد بن وهب فقال علي التمسوا فيهم المخرج فالتمسوه فلم يجدوه فقام علي بنفسه حتى أتى ناسا قد قتل بعضهم على بعض قال أخروهم فوجده مما يلي الأرض فكبر ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله. وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع " فلما قتلهم علي قال انظروا، فنظروا فلم يجدوا شيئا، فقال ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثا ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه " أخرجها مسلم، وفي رواية للطبري من طريق زيد بن وهب " فقال علي اطلبوا ذا الثدية، فطلبوه فلم يجدوه فقال: ما كذبت ولا كذبت اطلبوه فطلبوه، فوجدوه في وهدة من الأرض عليه ناس من القتلى، فإذا رجل على يده مثل سبلات السنور، فكبر علي والناس وأعجبه ذلك " ومن طريق عاصم بن كليب حدثنا أبي قال: "بينا نحن قعود عند علي فقام رجل عليه أثر السفر فقال: إني كنت في العمرة فدخلت على عائشة فقالت: ما هؤلاء القوم الذين خرجوا فيكم؟ قلت: قوم خرجوا إلى أرض قريبة منا يقال لها حروراء، فقالت أما إن ابن أبي طالب لو شاء لحدثكم بأمرهم، قال فأهل علي وكبر فقال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عنده غير عائشة فقال: كيف أنت وقوم يخرجون من قبل المشرق وفيهم رجل كان يده ثدي حبشية، نشدتكم الله هل أخبرتكم بأنه فيهم؟ قالوا: نعم، فجئتموني فقلتم ليس فيهم فحلفت لكم أنه فيهم ثم أتيتموني به تسحبونه كما نعت لي. فقالوا: اللهم نعم. قال فأهل علي وكبر" وفي رواية أبي الوضي بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة الخفيفة

(12/297)


والتشديد عن علي "اطلبوا المخرج" فذكر الحديث وفيه: "فاستخرجوه من تحت القتلى في طين " قال أبو الوضي: كأني أنظر إليه حبشي عليه طريطق له إحدى يديه مثل ثدي المرأة عليها شعيرات مثل شعيرات تكون على ذنب اليربوع " ومن طريق أبي مريم قال: "إن كان وذلك المخرج لمعنا في المسجد وكان فقيرا قد كسوته برنسا لي ورأيته يشهد طعام علي وكان يسمى نافعا ذا الثدية وكان في يده مثل ثدي المرأة على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي عليه شعيرات مثل سبلات السنور " أخرجهما أبو داود، وأخرجه الطبري من طريق أبي مريم مطولا وفيه: "وكان علي يحدثنا قبل ذلك أن قوما يخرجون وعلامتهم رجل مخرج اليد فسمعت ذلك منه مرارا كثيرة وسمعت المخرج حتى رأيته يتكره طعامه من كثرة ما يسمع ذلك منه " وفيه: "ثم أمر أصحابه أن يلتمسوا المخرج فالتمسوه فلم يجدوه حتى جاء رجل فبشره فقال وجدناه تحت قتيلين في ساقية، فقال والله ما كذبت ولا كذبت " وفي رواية أفلح " فقال علي أيكم يعرف هذا؟ فقال رجل من القوم: نحن نعرفه، هذا حرقوص وأمه هاهنا، قال فأرسل علي إلى أمه فقالت: كنت أرعى غنما في الجاهلية فغشيني كهيئة الظلة فحملت منه فولدت هذا " وفي رواية عاصم بن شمخ عن أبي سعيد قال حدثني عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن عليا قال: "التمسوا لي العلامة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني لم أكذب ولا أكذب، فجيء به فحمد الله وأثنى عليه حين عرف العلامة " ووقع في رواية أبي بكر مولى الأنصار عن علي حولها سبع هلبات وهو بضم الهاء وموحدة جمع هلبة، وفيه أن الناس وجدوا في أنفسهم بعد قتل أهل النهر فقال علي: إني لا أراه إلا منهم، فوجدوه على شفير النهر تحت القتلى فقال علي: صدق الله ورسوله، وفرح الناس حين رأوه واستبشروا وذهب عنهم ما كانوا يجدونه". قوله: "قال فنزلت فيه" في رواية السرخي "فيهم". قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} اللمز العيب وقيل الوقوع في الناس وقيل بقيد أن يكون مواجهة، والهمز في الغيبة أي يعيبك في قسم الصدقات، ويؤيد القيل المذكور ما وقع في قصة المذكور حيث واجه بقوله: "هذه قسمة ما أريد بها وجه الله" ولم أقف على الزيادة إلا في رواية معمر، وقد أخرجه عبد الرزاق عن معمر لكن وقعت مقدمة على قوله: "حين فرقة من الناس، قال فنزلت فيهم " وذكر كلام أبي سعيد بعد ذلك، وله شاهد من حديث ابن مسعود قال: "لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين سمعت رجلا يقول: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله " قال فنزلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} أخرجه ابن مردويه، وقد تقدم في غزوة حنين بدون هذه الزيادة ووقع في رواية عتبة بن وساج عن عبد الله بن عمر ما يؤيد هذه الزيادة " فجعل يقسم بين أصحابه ورجل جالس فلم يعطه شيئا فقال: يا محمد ما أراك تعدل " وفي رواية أبي الوضي عن أبي برزة نحوه، فدل على أن الحامل للقائل على ما قال من الكلام الجافي وأقدم عليه من الخطاب السيئ كونه لم يعط من تلك العطية وأنه لو أعطى لم يقل شيئا من ذلك. وأخرج الطبراني نحو حديث أبي سعيد وزاد في آخره: "فغفل عن الرجل فذهب، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فطلب فلم يدرك " وسنده جيد. "تنبيه": جاء عن أبي سعيد الخدري قصة أخرى تتعلق بالخوارج فيها ما يخالف هذه الرواية، وذلك فيما أخرجه أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال: "جاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بوادي كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه، فقال: اذهب إليه فاقتله. قال فذهب إليه أبو بكر فلما رآه يصلي كره أن يقتله فرجع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعمر: اذهب إليه فاقتله فذهب فرآه على تلك الحالة فرجع، فقال: يا علي اذهب إليه فاقتله فذهب علي فلم يره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا وأصحابه

(12/298)


يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه فاقتلوهم هم شر البرية " وله شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات، ويمكن الجمع بأن يكون هذا الرجل هو الأول وكانت قصته هذه الثانية متراخية عن الأولى، وأذن صلى الله عليه وسلم في قتله بعد أن منع منه لزوال علة المنع وهي التألف، فكأنه استغنى عنه بعد انتشار الإسلام كما نهى عن الصلاة على من ينسب إلى النفاق بعد أن كان يجري عليهم أحكام الإسلام قبل ذلك وكأن أبا بكر وعمر تمسكا بالنهي الأول عن قتل المصلين وحملا الأمر هنا على قيد أن لا يكون لا يصلي فلذلك عللا عدم القتل بوجود الصلاة أو غلبا جانب النهي. ثم وجدت في " مغازي الأموي " من مرسل الشعبي في نحو أصل القصة " ثم دعا رجالا فأعطاهم، فقام رجل فقال: إنك لتقسم وما نرى عدلا، قال: إذن لا يعدل أحد بعدي. ثم دعا أبا بكر فقال: اذهب فاقتله، فذهب فلم يجده فقال: لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم " فهذا يؤيد الجمع الذي ذكرته لما يدل عليه " ثم " من التراخي والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم منقبة عظيمة لعلي وأنه كان الإمام الحق وأنه كان على الصواب في قتال من قاتله في حروبه في الجمل وصفين وغيرهما، وأن المراد بالحصر في الصحيفة في قوله في كتاب الديات " ما عندنا إلا القرآن والصحيفة " مقيد بالكتابة لا أنه ليس عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء مما أطلعه الله عليه من الأحوال الآتية إلا ما في الصحيفة، فقد اشتملت طرق هذا الحديث على أشياء كثرة كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم علم بها مما يتعلق بقتال الخوارج وغير ذلك مما ذكر، وقد ثبت عنه أنه كان يخبر بأنه سيقتله أشقى القوم فكان ذلك في أشياء كثيرة. ويحتمل أن يكون النفي مقيدا باختصاصه بذلك فلا يرد حديث الباب لأنه شاركه فيه جماعة وإن كان عنده هو زيادة عليهم لأنه كان صاحب القصة فكان أشد عناية بها من غيره. وفيه الكف عن قتل من يعتقد الخروج على الإمام ما لم ينصب لذلك حربا أو يستعد لذلك لقوله: "فإذا خرجوا فاقتلوهم"، وحكى الطبري الإجماع على ذلك في حق من لا يكفر باعتقاده، وأسند عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب في الخوارج بالكف عنهم " ما لم يسفكوا دما حراما أو يأخذوا مالا فإن فعلوا فقاتلوهم ولو كانوا ولدي " ومن طريق ابن جريج " قلت لعطاء ما يحل في قتال الخوارج؟ إذا قطعوا السبيل وأخافوا الأمن " وأسند الطبري عن الحسن أنه " سئل عن رجل كان يرى رأي الخوارج ولم يخرج؟ فقال: العمل أملك بالناس من الرأي " قال الطبري. ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الخوارج بأنهم يقولون الحق بألسنتهم ثم أخبر أن قولهم ذلك وإن كان حقا من جهة القول فإنه قول لا يجاوز حلقومهم، ومنه قوله تعالى :{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} أخبر أن العمل الصالح الموافق للقول الطيب هو الذي يرفع القول الطيب، قال وفيه أنه لا يجوز قتال الخوارج وقتلهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم بدعائهم إلى الرجوع إلى الحق والإعذار إليهم، وإلى ذلك أشار البخاري في الترجمة بالآية المذكورة فيها واستدل به لمن قال بتكفير الخوارج. وهو مقتضى صنيع البخاري حيث قرنهم بالملحدين وأفرد عنهم المتأولين بترجمة، وبذلك صرح القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي فقال: الصحيح أنهم كفار لقوله صلى الله عليه وسلم: "يمرقون من الإسلام " ولقوله: "لأقتلنهم قتل عاد" وفي لفظ: "ثمود" وكل منهما إنما هلك بالكفر وبقوله: "هم شر الخلق" ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولقوله: "إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى" ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار فكانوا هم أحق بالاسم منهم، وممن جنح إلى ذلك من أئمة المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي فقال في فتاويه: احتج من كفر الخوارج وغلاة الروافض بتكفيرهم

(12/299)


أعلام الصحابة لتضمنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم، بالجنة، قال: وهو عندي احتجاج صحيح، قال: واحتج من لم يكفرهم بأن الحكم بتكفيرهم يستدعي تقدم علمهم بالشهادة المذكورة علما قطعيا، وفيه نظر لأنا نعلم تزكية من كفروه علما قطعيا إلى حين موته وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفرهم، ويؤيده حديث: "من قال لأخيه كافر فقد باء به أحدهما " وفي لفظ مسلم: "من رمى مسلما بالكفر أو قال عدو الله إلا حاد عليه " قال وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر ممن حصل عندنا القطع بإيمانهم فيجب أن يحكم بكفرهم بمتقضي خبر الشارع، وهو نحو ما قالوه فيمن سجد للصنم ونحوه ممن لا تصريح بالجحود فيه بعد أن فسروا الكفر بالجحود فإن احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك قلنا وهذه الأخبار الواردة في حق هؤلاء تقتضي كفرهم ولو لم يعتقدوا تزكية من كفروه علما قطعيا، ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالا والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم كما لا ينجى الساجد للصنم ذلك. قلت: وممن جنح إلى بعض هذا البحث الطبري في تهذيبه فقال بعد أن سرد أحاديث الباب: فيه الرد على قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالما فإنه مبطل لقوله في الحديث: "يقولون الحق ويقرءون القرآن ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشيء " ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطأ منهم فيما تأولوه من آي القرآن على غير المراد منه. ثم أخرج بسند صحيح عن ابن عباس وذكر عنده الخوارج وما يلقون عند قراءة القرآن فقال: يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه. ويؤيد القول المذكور الأمر بقتلهم مع ما تقدم من حديث ابن مسعود " لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث - وفيه - التارك لدينه، المفارق للجماعة " قال القرطبي في " المفهم ": يؤيد القول بتكفيرهم التمثيل المذكور في حديث أبي سعيد، يعني الآتي في الباب الذي يليه، فإن ظاهر مقصوده أنهم خرجوا من الإسلام ولم يتعلقوا منه بشيء كما خرج السهم من الرمية لسرعته وقوة راميه بحيث لم يتعلق من الرمية بشيء، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "سبق الفرث والدم " وقال صاحب الشفاء فيه: وكذا نقطع بكفر كل من قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة، وحكاه صاحب " الروضة " في كتاب الردة عنه وأقره. وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك. وقال الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام. وقال عياض: كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالا عند المتكلمين من غيرها، حتى سأل الفقيه عبد الحق الإمام أبا المعالي عنها فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين، قال: وقد توقف قبله القاضي أبو بكر الباقلاني وقال: لم يصرح القوم بالكفر وإنما قالوا أقوالا تؤدي إلى الكفر. وقال الغزالي في كتاب "التفرقة بين الإيمان والزندقة" والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد. ومما احتج به من لم يكفرهم قوله في ثالث أحاديث الباب بعد وصفهم بالمروق من الدين "كمروق السهم فينظر الرامي إلى سهمه" إلى أن قال: "فيتمارى في الفوقة هل علق بها شيء" قال ابن بطال: ذهب جمهور

(12/300)


العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين لقوله: "يتمارى في الفوق" لأن التماري من الشك، وإذ وقع الشك في ذلك لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين قال: وقد سئل علي عن أهل النهر هل كفروا؟ فقال: من الكفر فروا. قلت: وهذا إن ثبت عن علي حمل على أنه لم يكن اطلع على معتقدهم الذي أوجب تكفيرهم عند من كفرهم، وفي احتجاجه بقوله: "يتمارى في الفوق " نظر، فإن في بعض طرق الحديث المذكور كما تقدمت الإشارة إليه وكما سيأتي " لم يعلق منه بشيء " وفي بعضها " سيق الفرث والدم " وطريق الجمع بينهما أنه تردد هل في الفوق شيء أو لا ثم تحقق أنه لم يعلق بالسهم ولا بشيء منه من الرمي بشيء، ويمكن أن يحمل الاختلاف فيه على اختلاف أشخاص منهم، ويكون في قوله: "يتمارى " إشارة إلى أن بعضهم قد يبقى معه من الإسلام شيء، قال القرطبي في " المفهم ": والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث، قال: فعلى القول بتكفيرهم يقاتلون ويقتلون وتسبى أموالهم وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج، وعلى القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل البغي إذا شقوا العصا ونصبوا الحرب، فأما من استسر منهم ببدعة فإذا ظهر عليه هل يقتل بعد الاستتابة أو لا يقتل بل يجتهد في رد بدعته؟ اختلف فيه بحسب الاختلاف في تكفيرهم، قال: وباب التكفير باب خطر ولا نعدل بالسلامة شيئا، قال وفي الحديث علم من أعلام النبوة حيث أخبر بما وقع قبل أن يقع، وذلك أن الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم استباحوا دمائهم وتركوا أهل الذمة فقالوا نفي لهم بعهدهم، وتركوا قتال المشركين واشتغلوا بقتال المسلمين، وهذا كله من آثار عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم ولم يتمسكوا بحبل وثيق من العلم، وكفى أن رأسهم رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ونسبه إلى الجور نسأل الله السلامة. قال ابن هبيرة: وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظ رأس المال أولى، وفيه الزجر عن الأخذ بظواهر جميع الآيات القابلة للتأويل التي يفضي القول بظواهرها إلى مخالفة إجماع السلف، وفيه التحذير من الغلو في الديانة والتنطع في العبادة بالحمل على النفس فيما لم يأذن فيه الشرع، وقد وصف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة، وإنما ندب إلى الشدة على الكفار وإلى الرأفة بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج كما تقدم بيانه. وفيه جواز قتال من خرج عن طاعة الإمام العادل، ومن نصب الحرب فقاتل على اعتقاد فاسد، ومن خرج يقطع الطرق ويخيف السبيل ويسعى في الأرض بالفساد، وأما من خرج عن طاعة إمام جائر أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور ولا يحل قتاله وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته، وسيأتي بيان ذلك في كتاب الفتن، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن عبد الله بن الحارث عن رجل من بني نضر عن علي وذكر الخوارج فقال: إن خالفوا إماما عدلا فقاتلوهم، وإن خالفوا إماما جائرا فلا تقاتلوهم فإن لهم مقالا. قلت: وعلى ذلك يحمل ما وقع للحسين بن علي ثم لأهل المدينة في الحرة ثم لعبد الله بن الزبير ثم للقراء الذين خرجوا على الحجاج في قصة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث والله أعلم. وفيه ذم استئصال شعر الرأس، وفيه نظر لاحتمال أن يكون المراد بيان صفتهم الواقعة لا لإرادة ذمها، وترجم أبو عوانة في صحيحه لهذه الأحاديث " بيان أن سبب خروج الخوارج كان بسبب الأثرة في القسمة مع كونها كانت صوابا فخفي عنهم ذلك " وفيه إباحة قتال الخوارج بالشروط المتقدمة وقتلهم في الحرب وثبوت الأجر لمن قتلهم، وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد

(12/301)


الخروج منه ومن غير أن يختار دينا على دين الإسلام، وأن الخوارج شر الفرق المبتدعة من الأمة المحمدية ومن اليهود والنصارى. قلت: والأخير مبني على القول بتكفيرهم مطلقا، وفيه منقبة عظيمة لعمر لشدته في الدين وفيه أنه لا يكتفي في التعديل بظاهر الحال ولو بلغ المشهود بتعديله الغاية في العبادة والتقشف والورع حتى يختبر باطن حاله. الحديث الثاني. قوله: "عبد الواحد" هو ابن زياد، والشيباني هو أبو إسحاق، ويسير بن عمرو بتحتانية أوله بعدها مهملة مصغر ويقال له أيضا أسير، ووقع كذلك في رواية مسلم كحديث الباب، وليس له في البخاري هذا الحديث الواحد، وهو من بني محارب بن ثعلبة نزل الكوفة ويقال إن له صحبة، وذكر أبو نعيم في تاريخه " حدثنا قيس بن عمرو بن يسير بن عمر وأخبرني أبي عن يسير بن عمرو قال توفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين " ويقال له أسير بن جابر كذا وقع عند مسلم في رواية أبي نضرة عن أسير بن جابر عن عمير في فضيلة أويس القرني، وقيل هو أسير بن عمرو بن جابر نسب لجده. قوله: "سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق" أي من جهته. وفي رواية علي بن مسهر عن الشيباني عند مسلم: "نحو المشرق". قوله: "يمرقون" قال ابن بطال: المروق الخروج عند أهل اللغة يقال مرق السهم من الغرض إذا أصابه ثم نفذ منه فهو يمرق منه مرقا ومروقا وانمرق منه وأمرقه الرامي إذا فعل ذلك به ومنه قيل للممرق ممرق لأنه يخرج منه ومنه قيل مرق البرق لخروجه بسرعة. قوله: "مروق السهم من الرمية" زاد أبو عوانة في صحيحه من طريق محمد بن فضيل عن الشيباني قال: "قال أسير قلت ما لهم علامة؟ قال سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم لا أزيدك عليه " وفي هذا أن سهل بن حنيف صرح بأن الحرورية هم المراد بالقوم المذكورين في أحاديث هذين البابين فيقوى ما تقدم أن أبا سعيد توقف في الاسم والنسبة لا في كونهم المراد: قال الطبري: وروى هذا الحديث في الخوارج عن علي تاما ومختصرا عبيد الله بن أبي رافع وسويد بن غفلة وعبيدة بن عمرو وزيد بن وهب وكليب الجرمي وطارق بن زياد وأبو مريم. قلت: وأبو وضي وأبو كثير وأبو موسى وأبو وائل في مسند إسحاق بن راهويه والطبراني وأبو جحيفة عند البزار وأبو جعفر الفراء مولى علي أخرجه الطبراني في الأوسط وكثير بن نمير وعاصم بن ضمرة، قال الطبري ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب أو بعضه عبد الله بن مسعود وأبو ذر وابن عباس وعبد الله ابن عمرو بن العاص وابن عمر وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وحذيفة وأبو بكرة وعائشة وجابر وأبو برزة وأبو أمامة وعبد الله بن أبي أوفى وسهل بن حنيف وسلمان الفارسي قلت: ورافع بن عمرو وسعد ابن أبي وقاص وعمار بن ياسر وجندب بن عبد الله البجلي وعبد الرحمن بن عريس وعقبة بن عامر وطلق بن علي وأبو هريرة أخرجه الطبراني في الأوسط بسند جيد من طريق الفرزدق الشاعر أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد وسألهما فقال إني رجل من أهل المشرق وإن قوما يخرجون علينا يقتلون من قال لا إله إلا الله ويؤمنون من سواهم فقالا لي " سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من قتلهم فله أجر شهيد ومن قتلوه فله أجر شهيد " فهؤلاء خمسة وعشرون نفسا من الصحابة والطرق إلى كثرتهم متعددة كعلي وأبي سعيد وعبد الله بن عمر وأبي بكرة وأبي برزة وأبي ذر، فيفيد مجموع خبرهما القطع بصحة ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(12/302)


باب لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان
...
8- باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ"
6935- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(12/302)


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة" كذا ترجم بلفظ الخبر، وسيأتي شرحه مستوفي في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. وفي المتن من الزيادة "يكون بينهما مقتلة عظيمة " والمراد بالفئتين جماعة علي وجماعة معاوية، والمراد بالدعوة الإسلام على الراجح، وقيل المراد اعتقاد كل منهما أنه على الحق، وأورده هنا للإشارة إلى ما وقع في بعض طرقه كما عند الطبري من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد نحو حديث الباب وزاد في آخره: "فبينما هم كذلك إذ مرقت مارقة يقتلها أولى الطائفتين بالحق " فبذلك تظهر مناسبته لما قبله، والله أعلم.

(12/303)


9- باب: مَا جَاءَ فِي الْمُتَأَوِّلِينَ
6936- قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِيَّ أَخْبَرَاهُ "أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى سَلَّمَ ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ - أَوْ بِرِدَائِي – فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ. فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِي هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَؤُهَا. فَانْطَلَقْتُ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ له: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، وَأَنْتَ أَقْرَأْتَنِي سُورَةَ الْفُرْقَانِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَؤُهَا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ. ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"
6937- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ ح وحَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}"
6938- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ "سَمِعْتُ عِتْبَانَ ابْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: "غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا: ذَلِكَ مُنَافِقٌ

(12/303)


لاَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ تَقُولُوهُ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ فَإِنَّهُ لاَ يُوَافَى عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ"
6939- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ فُلاَنٍ قَالَ: "تَنَازَعَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَحِبَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِحِبَّانَ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا الَّذِي جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ - يَعْنِي عَلِيًّا – قَالَ: مَا هُوَ لاَ أَبَا لَكَ؟ قَالَ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ. قَالَ مَا هُوَ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالزُّبَيْرَ وَأَبَا مَرْثَدٍ - وَكُلُّنَا فَارِسٌ – قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ حَاجٍ - قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: هَكَذَا قَالَ أَبُو عَوَانَةَ حَاجٍ - فَإِنَّ فِيهَا امْرَأَةً مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَأْتُونِي بِهَا. فَانْطَلَقْنَا عَلَى أَفْرَاسِنَا حَتَّى أَدْرَكْنَاهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ. فَقُلْنَا أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِي مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ. فَأَنَخْنَا بِهَا بَعِيرَهَا فَابْتَغَيْنَا فِي رَحْلِهَا فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا. فَقَالَ صَاحِبَايَ مَا نَرَى مَعَهَا كِتَابًا، قَالَ فَقُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ حَلَفَ عَلِيٌّ: وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لاَجَرِّدَنَّكِ. فَأَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا - وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْ الصَّحِيفَةَ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ". فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا حَاطِبُ مَا حَمَلكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِي أَنْ لاَ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يُدْفَعُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلاَّ لَهُ هُنَالِكَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ. قَالَ: صَدَقَ، لاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا. قَالَ فَعَادَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي فَلِأَضْرِبْ عُنُقَهُ قَالَ: أَوَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمْ الْجَنَّةَ: فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"
قوله: "باب: ما جاء في المتأولين" تقدم في "باب: كل من أكفر أخاه بغير تأويل" من كتاب الأدب وفي الباب الذي يليه كل من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا وبيان المراد بذلك، والحاصل أن من أكفر المسلم نظر فإن كان بغير تأويل استحق الذم وربما كان هو الكافر. وإن كان بتأويل نظر إن كان غير سائغ استحق الذم أيضا ولا يصل إلى الكفر بل يبين له وجه خطئه ويزجر بما يليق به ولا يلتحق بالأول عند الجمهور، وإن كان بتأويل سائغ لم يستحق الذم بل تقام عليه الحجة حتى يرجع إلى الصواب قال العلماء كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم إذ كان تأويله سائغا في لسان العرب وكان له وجه في العلم. وذكر هنا أربعة أحاديث: الحديث الأول حديث عمر في قصته مع هشام بن حكيم بن حزام حين سمعه يقرأ سورة الفرقان في الصلاة بحروف تخالف ما قرأه هو على

(12/304)


رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب فضائل القرآن، ومناسبته للترجمة من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ عمر بتكذيب هشام ولا بكونه لببه بردائه وأراد الإيقاع به، بل صدق هشاما فيما نقله وعذر عمر في إنكاره ولم يزده على بيان الحجة في جواز القراءتين. وقوله في أول السند "وقال الليث إلخ" وصله الإسماعيلي من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه، ويونس شيخ الليث فيه هو ابن يزيد، وقد تقدم في فضائل القرآن وغيره من رواية الليث أيضا موصولا لكن عن عقيل لا عن يونس، ووهم مغلطاي ومن تبعه في أن البخاري وصله عن سعيد بن عفير عن الليث عن يونس، وقوله: "كدت أساوره" بسين مهملة أي أواثبه وزنه ومعناه، وقيل هو من قولهم سار يسور إذا ارتفع ذكره، وقد يكون بمعنى البطش لأن السورة قد تطلق على البطش لأنه ينشأ عنها. الحديث الثاني حديث ابن مسعود في نزول قوله تعالى :{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} وقد تقدم شرحه في أول حديث من كتاب استتابة المرتدين، وسنده هنا كلهم كوفيون، ووجه دخوله في الترجمة من جهة أنه صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ الصحابة بحملهم الظلم في الآية على عمومه حتى يتناول كل معصية بل عذرهم لأنه ظاهر في التأويل ثم بين لهم المراد بما رفع الإشكال. الحديث الثالث حديث عتبان بن مالك في قصة مالك بن الدخشم، وهو بضم المهملة وسكون المعجمة ثم شين معجمة مضمومة ثم ميم أو نون وهو الذي وقع هنا وقد يصغر، وقد تقدم شرحه مستوفي في أبواب المساجد في البيوت من كتاب الصلاة، ومناسبته من جهة أنه صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ القائلين في حق مالك بن الدخشم بما قالوا، بل بين لهم أن إجراء أحكام الإسلام على الظاهر دون ما في الباطن. وقوله هنا "ألا تقولونه يقول لا إله إلا الله " كذا في رواية الكشميهني وفي رواية المستملي والسرخسي "لا تقولوه" بصيغة النهي. وقال ابن التين "ألا تقولوه" جاءت الرواية والصواب "تقولونه" أي تظنونه. قلت: الذي رأيته "لا تقولوه" بغير ألف في أوله وهو موجه، وتفسير القول بالظن فيه نظر، والذي يظهر أنه بمعنى الرؤية أو السماع، وجوز ابن التين أنه خطاب للمفرد وأصله ألا تقوله فأشبع ضمة اللام حتى صارت واوا وأنشد لذلك شاهدا. الحديث الرابع حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة في مكاتبته قريشا ونزول قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وقد تقدم في "باب الجاسوس" من كتاب الجهاد وما يتعلق به، وفي باب النظر في شعور أهل الذمة ما يتعلق بذلك، والجمع بين قوله حجزتها وعقيصتها وضبط ذلك، وتقدم في "باب فضل من شهد بدرا" من كتاب المغازي الكلام على قوله: "لعل الله اطلع على أهل بدر وفي تفسير الممتحنة بأبسط منه، وفيها الجواب عن اعتراض عمر على حاطب بعد أن قبل النبي صلى الله عليه وسلم عذره، وفي غزوة الفتح الجمع بين قوله: "بعثني أنا والزبير والمقداد " وقوله: "بعثني أنا وأبا مرثد" وفيه قصة المرأة وبيان ما قيل في اسمها وما في الكتاب الذي حملته وأذكر هنا بقية شرحه. قوله: "عن حصين" بالتصغير هو ابن عبد الرحمن الواسطي. قوله: "عن فلان" كذا وقع مبهما وسمي في رواية هشيم في الجهاد، وعبد الله بن إدريس في الاستئذان "سعد بن عبيدة" وكذا وقع في رواية خالد بن عبد الله ومحمد بن فضيل عند مسلم. وأخرجه أحمد عن عفان عن أبي عوانة فسماه ونحوه للإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن عفان قالا " حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن حدثني سعد بن عبيدة هو السلمي الكوفي يكنى أبا حمزة وكان زوج بنت أبي عبد الرحمن السلمي شيخه في هذا الحديث: "وقد وقع نسخه الصغاني هنا بعد قوله: "عن فلان" ما نصه هو أبو حمزة سعد بن عبيدة السلمي ختن أبي عبد الرحمن السلمي انتهى، ولعل

(12/305)


القائل "هو إلخ" من دون البخاري، وسعد تابعي روى عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر والبراء. قوله: "تنازع أبو عبد الرحمن" هو السلمي وصرح به في رواية عفان. قوله: "وحبان بن عطية" بكسر المهملة وتشديد الموحدة، وحكى أبو علي الجياني وتبعه صاحب المشارق والمطالع أن بعض رواة أبي ذر ضبطه بفتح أوله، وهو وهم. قلت: وحكى المزي أن ابن ماكولا ذكره بالكسر وأن ابن الفرضي ضبطه بالفتح قال: وتبعه أبو علي الجياني، كذا قال، والذي جزم به أبو علي الجياني توهيم من ضبطه بالفتح كما نقلته وذلك في تقييد المهمل، وصوب أنه بالكسر حيث ذكره مع حبان بن موسى وهو بالكسر إجماعا، وكان حبان بن عطية سلميا أيضا ومؤاخيا لأبي عبد الرحمن السلمي وإن كان مختلفين في تفضيل عثمان وعلي، وقد تقدم في أواخر الجهاد من طريق هشيم عن حصين في هذا الحديث: "وكان أبو عبد الرحمن عثمانيا أي يفضل عثمان على علي وحبان بن عطية علويا أي يفضل عليا على عثمان. قوله: "لقد علمت ما الذي" كذا الكشميهني وكذا في أكثر الطرق، وللحموي والمستملي هنا " من الذي " وعلى الرواية الأولى ففاعل التجرئ هو القول المعبر عنه هنا بقوله: "شيء يقوله: "وعلى الثانية الفاعل هو القائل. قوله: "جرأ" بفتح الجيم وتشديد الراء مع الهمز. قوله: "صاحبك" زاد عفان " يعني عليا". قوله: "على الدماء" أي إراقة دماء المسلمين لأن دماء المشركين مندوب إلى إراقتها اتفاقا. قوله: "لا أبا لك" بفتح الهمزة وهي كلمة تقال عند الحث على الشيء، والأصل فيه أن الإنسان إذا وقع في شدة عاونه أبوه فإذا قيل لا أبا لك فمعناه ليس لك أب، جد في الأمر جد من ليس له معاون، ثم أطلق في الاستعمال في موضع استبعاد ما يصدر من الخاطب من قول أو فعل. قوله: "سمعته يقوله" في رواية المستملي والكشميهني هنا " سمعته يقول: "بحذف الضمير والأول أوجه لقوله قال ما هو. قوله: "قال بعثني" كذا لهم وكأن " قال: "الثانية سقطت على عادتهم في إسقاطها خطأ والأصل قال أي أبو عبد الرحمن قال أي علي. قوله: "والزبير وأبا مرثد" تقدم في غزوة الفتح من طريق عبد الله بن أبي رافع عن علي ذكر المقداد بدل أبي مرثد، وجمع بأن الثلاثة كانوا مع علي، ووقع عند الطبري في "تهذيب الآثار" من طريق أعشى ثقيف عن أبي عبد الرحمن السلمي في هذا الحديث: "ومعي الزبير في العوام ورجل من الأنصار " وليس المقداد ولا أبو مرثد من الأنصار إلا إن كان بالمعنى الأعم، ووقع في " الأسباب " للواحدي أن عمر وعمارا وطلحة كانوا معهم ولم يذكر له مستندا وكأنه من تفسير ابن الكلبي فإني لم أره في سير الواقدي ووجدت ذكر فيه عمر من وجه آخر أخرجه ابن مردويه في تفسيره من طريق الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس في قصة المرأة المذكورة فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بخبرها فبعث في أثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. قوله: "روضة حاج" بمهملة ثم جيم. قوله: "قال أبو سلمة" هو موسى بن إسماعيل شيخ البخاري فيه. قوله: "هكذا قال أبو عوانة حاج" فيه إشارة إلى أن موسى كان يعرف أن الصواب " خاخ " بمعجمتين ولكن شيخه قالها بالمهملة والجيم وقد أخرجه أبو عوانة في صحيحه من رواية محمد بن إسماعيل الصائغ عن عفان فذكرها بلفظ: "حاج" بمهملة ثم جيم قال عفان والناس يقولون " خاخ " أي بمعجمتين، قال النووي قال العلماء هو غلط من أبي عوانة وكأنه اشتبه عليه بمكان آخر يقال له "ذات حاج" بمهملة ثم جيم وهو موضع بين المدينة والشام يسلكه الحاج، وأما " روضة خاخ " فإنها بين مكة والمدينة بقرب المدينة. قلت: وذكر الواقدي أنها بالقرب من ذي الحليفة على بريد من المدينة، وأخرج سمويه في فوائده من طريق عبد الرحمن بن حاطب قال:

(12/306)


وكان حاطب من أهل اليمن حليفا للزبير فذكر القصة وفيها أن المكان على قريب من اثنى عشر ميلا من المدينة، وزعم السهيلي أن هشيما كان يقولها أيضا: "حاج " بمهملة ثم جيم وهو وهم أيضا، وسيأتي ذلك في آخر الباب، وقد سبق في أواخر الجهاد من طريق هشيم بلفظ: "حتى تأتوا روضة كذا " فلعل البخاري كنى عنها أو شيخه إشارة إلى أن هشيما كان يصحفها، وعلى هذا فلم ينفرد أبو عوانة بتصحيفها لكن أكثر الرواة عن حصين قالوها على الصواب بمعجمتين. قوله: "فإن فيها امرأة معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فائتوني بها" في رواية عبيد الله بن أبي رافع " فإن بها ظعينة معها كتاب " والظعينة بظاء معجمة وزن عظيمة فعيلة بمعنى فاعلة من الظعن وهو الرحيل، وقيل سميت ظعينة لأنها تركب الظعين التي تظعن براكبها، وقال الخطابي: سميت ظعينة لأنها تظعن مع زوجها ولا يقال لها ظعينة إلا إذا كانت في الهودج وقيل إنه اسم الهودج سميت المرأة لركوبها فيه، ثم توسعوا فأطلقوه على المرأة ولو لم تكن في هودج، وقد تقدم في غزوة الفتح بيان الاختلاف في اسمها، وذكر الواقدي أنها من مزينة وأنها من أهل العرج بفتح الراء بعدها جيم يعني قرية بين مكة والمدينة، وذكر الثعلبي ومن تبعه أنها كانت مولاة أبي صيفي ابن عمرو بن هاشم بن عبد مناف، وقيل عمران بدل عمرو، وقيل مولاة بني أسد بن عبد العزى، وقيل كانت من موالى العباس، وفي حديث أنس الذي أشرت إليه عند ابن مروديه أنها مولاة لقريش " وفي تفسير مقاتل بن حبان أن حاطبا أعطاها عشرة دنانير وكساها بردا، وعند الواحدي أنها قدمت المدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: جئت مسلمة؟ قالت: لا ولكن احتجت، قال: فأين أنت عن شباب قريش؟ وكانت مغنية، قالت: ما طلب مني بعد وقعة بدر شيء من ذلك، فكساها وحملها فأتاها حاطب فكتب معها كتابا إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يغزو فخذوا حذركم؟، وفي حديث عبد الرحمن بن حاطب: فكتب حاطب إلى كفار قريش بكتاب ينتصح لهم، وعند أبي يعلى والطبري من طريق الحارث بن علي لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو مكة أسر إلى ناس من أصحابه ذلك وأفشى في الناس أنه يريد غير مكة، فسمعه حاطب بن أبي بلتعة فكتب حاطب إلى أهل مكة بذلك، وذكر الواقدي أنه كان في كتابه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو ولا أراه إلا يريدكم، وقد أحببت أن يكون إنذاري لكم بكتابي إليكم، وتقدم بقية ما نقل مما وقع في الكتاب في غزوة الفتح. قوله: "تسير على بعير لها" في رواية محمد بن فضيل عن حصين " تشتد " بشين معجمة ومثناة فوقانية. قوله: "فابتغينا في رحلها" أي طلبنا كأنهما فتشا ما معها ظاهرا وفي رواية محمد بن فضيل " فأنخنا بعيرها فابتغينا " وفي رواية الحارث فوضعنا متاعها وفتشنا فلم نجد". قوله: "لقد علمنا" في رواية الكشميهني: "لقد علمتما " وهي رواية عفان أيضا قوله: "ثم حلف على: والذي يحلف به" أي قال والله وصرح به في حديث أنس، وفي حديث عبد الرحمن بن حاطب. قوله: "لتخرجن الكتاب أو لأجردنك" أي أنزع ثيابك حتى تصيري عريانة، وفي رواية ابن فضيل "أو لأقتلنك" وذكر الإسماعيلي أن في رواية خالد بن عبد الله مثله، وعنده من رواية أبي فضيل لأجزرنك بجيم ثم زاي أي أضيرك مثل الجزور إذا ذبحت. ثم قال الإسماعيلي ترجم البخاري النظر في شعور أهل الذمة يعني الترجمة الماضية في كتاب الجهاد، وهذه الرواية تخالفه أي رواية: "أو لأقتلنك". قلت: رواية: "لأجردنك" أشهر ورواية، "لأجزرنك" كأنها مفسرة منها ورواية: "لأقتلنك" كأنها بالمعنى من لأجردنك، ومع ذلك فلا تنافي الترجمة لأنها إذا قتلت سلبت ثيابها في العادة فيستلزم التجرد الذي ترجم به. ويؤيد الرواية المشهورة ما وقع في رواية

(12/307)


عبيد الله بن أبي رافع بلفظ: "لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب " قال ابن التين: كذا وقع بكسر القاف وفتح الياء التحتانية وتشديد النون قال: والياء زائدة، وقال الكرماني: هو بكسر الياء وبفتحها كذا جاء في الرواية بإثبات الياء والقواعد التصريفية تقتضي حذفها. لكن إذا صحت الرواية فتحمل على أنها وقعت على طريق المشاكلة لتخرجن، وهذا توجيه الكسرة وأما الفتحة فتحمل على خطاب المؤنث الغائب على طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، قال: ويجوز فتح القاف على البناء للمجهول وعلى هذا فترفع الثياب، قلت: ويظهر لي أن صواب الرواية: "لتلقين" بالنون بلفظ الجمع وهو ظاهر جدا لا إشكال فيه البتة ولا يفتقر إلى تكلف تخريج، ووقع في حديث أنس " فقالت ليس معي كتاب فقال كذبت فقال قد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن معك كتاب والله لتعطيني الكتاب الذي معك أو لا أترك عليك ثوبا إلا التمسنا فيه، قالت أو لستم بناس من مسلمين! حتى إذا ظنت أنهما يلتمسان في كل ثوب معها حلت عقاصها، وفية " فرجع إليها فسلا سيفيهما فقالا: والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن إلينا الكتاب، فأنكرت " ويجمع بينهما بأنهما هدداها بالقتل أولا فلما أصرت على الإنكار ولم يكن معهما إذن بقتلها هدداها بتجريد ثيابها فلما تحققت ذلك خشيت أن يقتلاها حقيقة، وزاد في حديث أنس أيضا: "فقالت: أدفعه إليكما على أن ترداني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية أعشى ثقيف عن عبد الرحمن عند الطبري " فلم يزل علي بها حتى خافته " وقد اختلف هل كانت مسلمة أو على دين قومها فالأكثر على الثاني فقد عدت فيمن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمهم يوم الفتح لأنها كانت تغني بهجائه وهجاء أصحابه، وقد وقع في أول حديث أنس " أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بقتل أربعة " فذكرها فيهم ثم قال: "وأما أمر سارة فذكر قصتها مع حاطب". قوله: "فأتوا بها" أي الصحيفة وفي رواية عبد الله بن أبي رافع " فأتينا به " أي الكتاب، ونحوه في رواية ابن عباس وزاد: "فقرئ عليه فإذا فيه من حاطب إلى ناس من المشركين من أهل مكة " سماهم الواقدي في روايته سهيل بن عمرو العامري وعكرمة بن أبي جهل المخزومي وصفوان بن أمية الجمحي. قوله: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب ما حملك على ما صنعت" في رواية عبد الرحمن بن حاطب " فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال: أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: نعم. قال: فما حملك على ذلك " وكأن حاطبا لم يكن حاضرا لما جاء الكتاب فاستدعى به لذلك، وقد تبين ذلك في حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب ولفظه: "فأرسل إلى حاطب " فذكر نحو رواية عبد الرحمن أخرجه الطبري بسند صحيح. قوله: "قال: يا رسول الله مالي أن أكون مؤمنا بالله ورسوله" وفي رواية المستملي: "ما بي " بالموحدة بدل اللام وهو أوضح، وفي رواية عبد الرحمن بن حاطب " أما والله ما ارتبت منذ أسلمت في الله " وفي رواية ابن عباس " قال والله إني لناصح لله ولرسوله". قوله: "ولكني أردت أن يكون لي عند القوم يد" أي منة أدفع بها عن أهلي ومالي، زاد في رواية أعشى ثقيف " والله ورسوله أحب إلي من أهلي ومالي" وتقدم في تفسير الممتحنة قوله: "كنت ملصقا " وتفسيره وفي رواية عبد الرحمن بن حاطب " ولكني كنت امرأ غريبا فيكم وكان لي بنون وإخوة بمكة فكتبت لعلي أدفع عنهم". قوله: "وليس من أصحابك أحد إلا له هنا لك" وفي رواية المستملي هناك " من قومه من يدفع الله به عن أهله وماله " وفي حديث أنس وليس منكم رجل إلا له بمكة من يحفظه في عياله غيري. قوله: "قال: صدق، ولا تقولوا له إلا خيرا" ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عرف صدقه مما ذكر، ويحتمل أن يكون بوحي. قوله: "فعاد عمر" أي عاد إلى الكلام الأول في حاطب وفيه تصريح بأنه قال ذلك مرتين فأما المرة الأولى

(12/308)


فكان فيها معذورا لأنه لم يتضح له عذره في ذلك، وأما الثانية فكان اتضح عذره وصدقه النبي صلى الله عليه وسلم فيه ونهى أن يقولوا له إلا خيرا، ففي إعادة عمر الكلام إشكال. وأجيب عنه بأنه ظن أن صدقه في عذره لا يدفع ما وجب عليه من القتل، وتقدم إيضاحه في تفسير الممتحنة. قوله: "فلأضرب عنقه" قال الكرماني هو بكسر اللام ونصب الباء وهو في تأويل مصدر محذوف وهو خبر مبتدأ محذوف أي اتركني لأضرب عنقه فتركك لي من أجل الضرب، ويجوز سكون الباء والفاء زائدة على رأي الأخفش واللام للأمر، ويجوز فتحها على لغة وأمر المتكلم نفسه باللام فصيح قليل الاستعمال، وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع " دعني أضرب عنق هذا المنافق " وفي حديث ابن عباس " قال عمر فاخترطت سيفي وقلت: يا رسول الله أمكني منه فإنه قد كفر " وقد أنكر القاضي أبو بكر بن الباقلاني هذه الرواية وقال ليست بمعروفة قاله في الرد على الجاحظ لأنه احتج بها على تكفير العاصي، وليس لإنكار القاضي معنى لأنها وردت بسند صحيح وذكر البرقاني في مستخرجه أن مسلما أخرجها، ورده الحميدي، والجمع بينهما أن مسلما خرج سندها ولم يسق لفظها، وإذا ثبت فلعله أطلق الكفر وأراد به كفر النعمة كما أطلق النفاق وأراد به نفاق المعصية، وفيه نظر لأنه استأذن في ضرب عنقه فأشعر بأنه ظن أنه نافق نفاق كفر ولذلك أطلق أنه كفر، ولكن مع ذلك لا يلزم منه أن يكون عمر يرى تكفير من ارتكب معصية ولو كبرت كما يقوله المبتدعة ولكنه غلب على ظنه ذلك في حق حاطب، فلما بين له النبي صلى الله عليه وسلم عذر حاطب رجع. قوله: "أو ليس من أهل بدر" في رواية الحارث " أو ليس قد شهد بدرا " وهو استفهام تقرير، وجزم في رواية عبيد الله بن أبي رافع أنه قد شهد بدرا وزاد الحارث " فقال عمر بلى ولكنه نكث وظاهر أعداءك عليك". قوله: "وما يدريك لعل الله اطلع" تقدم في فضل من شهد بدرا رواية من رواه بالجزم والبحث في ذلك وفي معنى قوله: "اعملوا ما شئتم " ومما يؤيد أن المراد أن ذنوبهم تقع مغفورة حتى لو تركوا فرضا مثلا لم يؤاخذوا بذلك ما وقع في حديث سهل بن الحنظلية في قصة الذي حرس ليلة حنين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل نزلت؟ قال: لا، إلا لقضاء حاجة قال لا عليك أن لا تعمل بعدها. وهذا يوافق ما فهمه أبو عبد الرحمن السلمي، ويؤيده قول علي فيمن قتل الحرورية " لو أخبرتكم بما قضى الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمن قتلهم لنكلتم عن العمل " وقد تقدم بيانه، فهذا فيه إشعار بأن من باشر بعض الأعمال الصالحة يثاب من جزيل الثواب بما يقاوم الآثام الحاصلة من ترك الفرائض الكثيرة، وقد تعقب ابن بطال على أبي عبد الرحمن السلمي فقال: هذا الذي قاله ظنا منه لأن عليا على مكانته من العلم والفضل والدين لا يقتل إلا من وجب عليه القتل، ووجه ابن الجوزي والقرطبي في "المفهم" قول السلمي كما تقدم، وقال الكرماني: يحتمل أن يكون مراده أن عليا استفاد من هذا الحديث الجزم بأنه من أهل الجنة فعرف أنه لو وقع منه خطأ في اجتهاده لم يؤاخذ به قطعا، كذا قال وفيه نظر، لأن المجتهد معفو عنه فيما أخطأ فيه إذا بذل فيه وسعه، وله مع ذلك أجر فإن أصاب فله أجران، والحق أن عليا كان مصيبا في حروبه فله في كل ما اجتهد فيه من ذلك أجران، فظهر أن الذي فهمه السلمي استند فيه إلى ظنه كما قال ابن بطال والله أعلم، ولو كان الذي فهمه السلمي صحيحا لكان علي يتجرأ على غير الدماء كالأموال، والواقع أنه كان في غاية الورع وهو القائل " يا صفراء ويا بيضاء غري غيري " ولم ينقل عنه قط في أمر المال إلا التحري بالمهملة لا التحري بالجيم. قوله: "فقد أوجبت لكم الجنة" في رواية عبيد الله بن أبي رافع "فقد غفرت لكم" وكذا في حديث عمر، ومثله في

(12/309)


مغازي أبي الأسود عن عروة وكذا عند أبي عائد. قوله: "فاغرورقت عيناه" بالغين المعجمة الساكنة والراء المكررة بينهما واو ساكنة ثم قاف أي امتلأت من الدموع حتى كأنها غرقت فهو افعوعلت من الغرق، ووقع في رواية الحارث عن علي " ففاضت عينا عمر " ويجمع على أنها امتلأت ثم فاضت. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف. قوله: "خاخ أصح" يعني بمعجمتين. قوله: "ولكن كذا قال أبو عوانة حاج" أي بمهملة ثم جيم. قوله: "وحاج تصحيف وهو موضع". قلت: تقدم بيانه. قوله: "وهشيم يقول خاخ" وقع للأكثر بالمعجمتين، وقيل بل هو كقول أبي عوانة وبه جزم السهيلي، ويؤيده أن البخاري لما أخرجه من طريقه في الجهاد عبر بقوله: "روضة كذا " كما تقدم فلو كان بالمعجمتين لما كنى عنه، ووقع في السيرة للقطب الحلبي " روضة خاخ " بمعجمتين وكان هشيم يروي الأخيرة منها بالجيم وكذا ذكره البخاري عن أبي عوانة انتهى، وهو يوهم أن المغايرة بينها وبين الرواية المشهورة إنما هو في الخاء الآخرة فقط وليس كذلك بل وقع كذلك في الأولى فعند أبي عوانة أنها بالحاء المهملة جزما وأما هشيم فالرواية عنه محتملة. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن المؤمن ولو بلغ بالصلاح أن يقطع له بالجنة لا يعصم من الوقوع في الذنب لأن حاطبا دخل فيمن أوجب الله لهم الجنة ووقع منه ما وقع، وفيه تعقب على من تأول أن المراد بقوله: "اعملوا ما شئتم " أنهم حفظوا من الوقوع في شيء من الذنوب. وفيه الرد على من كفر المسلم بارتكاب الذنب، وعلى من جزم بتخليده في النار، وعلى من قطع بأنه لا بد وأن يعذب. وفيه أن من وقع منه الخطأ لا ينبغي له أن يجحده بل يعترف ويعتذر لئلا يجمع بين ذنبين. وفيه جواز التشديد في استخلاص الحق والتهديد بما لا يفعله المهدد تخويفا لمن يستخرج منه الحق. وفيه هتك ستر الجاسوس، وقد استدل به من يرى قتله من المالكية لاستئذان عمر في قتله ولم يرده النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلا لكونه من أهل بدر، ومنهم من قيده بأن يتكرر ذلك منه، والمعروف عن مالك يجتهد فيه الإمام، وقد نقل الطحاوي الإجماع على أن الجاسوس المسلم لا يباح دمه وقال الشافعية والأكثر يعزر، وإن كان من أهل الهيئات يعفى عنه. وكذا قال الأوزاعي وأبو حنيفة يوجع عقوبة ويطال حبسه. وفيه العفو عن زلة ذوي الهيئة. وأجاب الطبري عن قصة حاطب واحتجاج من احتج بأنه إنما صفح عنه لما أطلعه الله عليه من صدقه في اعتذاره فلا يكون غيره كذلك، قال القرطبي وهو ظن خطأ لأن أحكام الله في عباده إنما تجري على ما ظهر منهم، وقد أخبر الله تعالى نبيه عن المنافقين الذين كانوا بحضرته ولم يبح له قتلهم مع ذلك لإظهارهم الإسلام، وكذلك الحكم في كل من أظهر الإسلام تجري عليه أحكام الإسلام. وفيه من أعلام النبوة إطلاع الله نبيه على قصة حاطب مع المرأة كما تقدم بيانه من الروايات في ذلك، وفيه إشارة الكبير على الإمام بما يظهر له من الرأي العائد نفعه على المسلمين ويتخير الإمام في ذلك. وفيه جواز العفو عن العاصي. وفيه أن العاصي لا حرمة له وقد أجمعوا على أن الأجنبية يحرم النظر إليها مؤمنة كانت أو كافرة ولولا أنها لعصيانها سقطت حرمتها ما هددها على بتجريدها قاله ابن بطال. وفيه جواز غفران جميع الذنوب الجائزة الوقوع عمن شاء الله خلافا لمن أبى ذلك من أهل البدع، وقد استشكلت إقامة الحد على مسطح بقذف عائشة رضي الله عنها كما تقدم مع أنه من أهل بدر فلم يسامح بما ارتكبه من الكبيرة وسومح حاطب، وعلل بكونه من أهل بدر، والجواب ما تقدم في "باب فضل من شهد بدرا" أن محل العفو عن البدري في الأمور التي لا حد فيها. وفيه جواز غفران ما تأخر من الذنوب ويدل على ذلك الدعاء به في عدة أخبار، وقد جمعت جزءا في الأحاديث الواردة في بيان

(12/310)


الأعمال الموعود لعاملها بغفران ما تقدم وما تأخر سميته " الخصال المكفرة للذنوب المقدمة والمؤخرة " وفيها عدة أحاديث بأسانيد جياد، وفيه تأدب عمر، وأنه لا ينبغي إقامة الحد والتأديب بحضرة الإمام إلا بعد استئذانه. وفيه منقبة لعمر ولأهل بدر كلهم، وفيه البكاء عند السرور ويحتمل أن يكون عمر بكى حينئذ لما لحقه من الخشوع والندم على ما قاله في حق حاطب.
"خاتمة" اشتمل كتاب استتابة المرتدين من الأحاديث المرفوعة على أحد وعشرين حديثا فيها واحد معلق والبقية موصولة المكرر منه فيه وفيما مضى سبعة عشر حديثا والأربعة خالصة وافقه مسلم على تخريجها جميعها، وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة آثار بعضها موصول، والله أعلم.

(12/311)


كتاب الإكراه
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
89- كِتَاب الإِكْرَاهِ
َقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَقَالَ {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} وَهِيَ تَقِيَّةٌ. وَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ - إِلَى قَوْلِهِ - عَفُوّاً غَفُوراً} وَقَالَ {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} فَعَذَرَ اللَّهُ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لاَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَالْمُكْرَهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مُسْتَضْعَفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّقِيَّةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ يُكْرِهُهُ اللُّصُوصُ فَيُطَلِّقُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم : "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ"
6940- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ هِلاَلِ بْنِ أُسَامَةَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَالْوَلِيدَ. بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ"
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الإكراه" هو إلزام الغير بما لا يريده. وشروط الإكراه أربعة: الأول أن يكون فاعله قادرا على إيقاع ما يهدد به والمأمور عاجزا عن الدفع لو بالفرار. الثاني أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك. الثالث أن يكون ما هدده به فوريا، فلو قال إن لم تفعل كذا ضربتك غدا لا يعد مكرها ويستثنى ما إذا ذكر زمنا قريبا جدا أو جرت العادة بأنه لا يخلف الرابع أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره كمن أكره على الزنا فأولج وأمكنه أن ينزع ويقول أنزلت فيتمادى حتى ينزل، وكمن قيل له طلق ثلاثا فطلق

(12/311)


واحدة وكذا عكسه، ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور، ويستثنى من الفعل ما هو محرم على التأبيد كقتل النفس بغير حق، واختلف في المكره هل يكلف بترك فعل ما أكره عليه أو لا؟ فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: انعقد الإجماع على أن المكره على القتل مأمور باجتناب القتل والدفع عن نفسه وأنه يأثم إن قتل من أكره على قتله، وذلك يدل أنه مكلف حالة الإكراه، وكذا وقع في كلام الغزالي وغيره، ومقتضى كلامهم تخصيص الخلاف بما إذا وافق داعية الإكراه داعية الشرع كالإكراه على قتل الكافر وإكراهه على الإسلام، أما ما خالف فيه داعية الإكراه داعية الشرع كالإكراه على القتل فلا خلاف في جواز التكليف به، وإنما جرى الخلاف في تكليف الملجأ وهو من لا يجد مندوحة عن الفعل كمن ألقي من شاهق وعلقه ثابت فسقط على شخص فقتل فإن لا مندوحة له عن السقوط ولا اختيار له في عدمه وإنما هو آلة محضة، ولا نزاع في أنه غير مكلف إلا ما أشار إليه الآمدي من التفريع على تكليف ما لا يطاق، وقد جرى الخلاف في تكليف الغافل كالنائم والناسي وهو أبعد من الملجأ لأن لا شعور له أصلا وإنما قال الفقهاء بتكليفه على معنى ثبوت الفعل في ذمته أو من جهة ربط الأحكام بالأسباب. وقال القفال: إنما شرع سجود السهو ووجبت الكفارة على المخطئ لكون الفعل في نفسه متهيئا من حيث هو لا أن الغافل نهى عنه حالة الغفلة إذ لا يمكنه التحفظ عنه، واختلف فيما يهدد به فاتفقوا على القتل وإتلاف العضو والضرب الشديد والحبس الطويل، واختلفوا في يسير الضرب والحبس كيوم أو يومين. قوله: "وقوله الله تعالى {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}" وساق إلى {عَظِيمٌ}. وهو وعيد شديد لمن ارتد مختارا، وأما من أكره على ذلك فهو معذور بالآية، لأن الاستثناء من الإثبات نفي فيقتضي أن لا يدخل الذي أكره على الكفر تحت الوعيد، والمشهور أن الآية المذكورة نزلت في عمار بن ياسر كما جاء من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: "أخذ المشركون عمارا فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان، قال فإن عادوا فعد " وهو مرسل ورجاله ثقات أخرجه الطبري وقبله عبد الرزاق وعنه عبد بن حميد، وأخرجه البيهقي من هذا الوجه فزاد في السند فقال: "عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه " وهو مرسل أيضا. وأخرج الطبري أيضا من طريق عطية العوفي عن ابن عباس نحوه مطولا وفي سنده ضعف. وفيه أن المشركين عذبوا عمارا وأباه وأمه وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما مولى أبي حذيفة، فمات ياسر وامرأته في العذاب وصبر الآخرون. وفي رواية مجاهد عن ابن عباس عند ابن المنذر أن الصحابة لما هاجروا إلى المدينة أخذ المشركون خبابا وبلالا وعمارا، فأطاعهم عمارا وأبى الآخران فعذبوهما، وأخرجه الفاكهي من مرسل زيد بن أسلم وأن ذلك وقع من عمار عند بيعة الأنصار في العقبة وأن الكفار أخذوا عمارا فسألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم فجحدهم خبره فأرادوا أن يعذبوه فقال هو يكفر بمحمد وبما جاء به فأعجبهم وأطلقوه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، وفي سنده ضعف أيضا. وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن سيرين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عمار بن ياسر وهو يبكي فجعل يمسح الدموع عنه ويقول أخذك المشركون فغطوك في الماء حتى قلت لهم كذا، إن عادوا فعد " ورجاله ثقات مع إرساله أيضا وهذه المراسيل تقوى بعضها ببعض، وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق مسلم الأعور - وهو ضعيف - عن مجاهد عن ابن عباس قال: "عذب المشركون عمارا حتى قال لهم كلاما تقية فاشتد عليه " الحديث وقد أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ

(12/312)


وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} قال: "أخبر الله أن من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله، وأما من أكره بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه فلا حرج عليه، إن شاء الله إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم". قلت: وعلى هذا فالاستثناء مقدم من قوله فعليهم غضب كأنه قيل فعليهم غضب من الله إلا من أكره، لأن الكفر يكون بالقول والفعل من غير اعتقاد وقد يكون باعتقاد فاستثنى الأول وهو المكره. قوله: "وقال إلا أن تتقوا منهم تقاة وهي تقية" أخذه من كلام أبي عبيدة قال: تقاة وتقية واحد. قلت: وقد تقدم ذلك في تفسير آل عمران ومعنى الآية: لا يتخذ المؤمن الكافر وليا في الباطن ولا في الظاهر إلا للتقية في الظاهر فيجوز أن يواليه إذا خافه ويعاديه باطنا. قيل الحكمة في العدول عن الخطاب أن موالاة الكفار لما كانت مستقبحة لم يواجه الله المؤمنين بالخطاب. قلت: ويظهر لي أن الحكمة فيه إنه لما تقدم الخطاب في قوله: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} كأنهم أخذوا بعمومه حتى أنكروا على من كان له عذر في ذلك فنزلت هذه الآية رخصة في ذلك، وهو كالآيات الصريحة في الزجر عن الكفر بعد الإيمان، ثم رخص فيه لمن أكره على ذلك. قوله: "وقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ - إلى قوله - عَفُوّاً غَفُوراً} - وقال: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} هكذا في رواية أبي ذر وهو صواب، وإنما أوردته بلفظه لتنبيه على ما وقع من الاختلاف عند الشراح، ووقع في رواية كريمة والأصيلي والقابسي أن الذين توفاهم فساق إلى قوله: {فِي الْأَرْضِ} وقال بعدها إلى قوله: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} وفيه تغيير، ووقع في رواية النسفي {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآيات قال: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - إلى قوله – نَصِيراً} وهو صواب وإن كانت الآيات الأولى متراخية في السورة عن الآية الأخيرة فليس فيه شيء من التغيير، وإنما صدر بالآيات المتراخية للإشارة إلى ما روي عن مجاهد أنها نزلت في ناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم من المدينة فإنا لا نراكم منا إلا أن هاجرتم، فخرجوا فأدركهم أهلهم بالطريق ففتنوهم حتى كفروا مكرهين، واقتصر ابن بطال على هذا الأخير وعزاه للمفسرين وقال ابن بطال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى {أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} وقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} إلى {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} قلت: وليس فيه تغيير من التلاوة إلا أن فيه تصرفا فيما ساقه المصنف، وقال ابن التين بعد أن تكلم على قصة عمار إلى أن قال: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} أي من فتح صدره لقبوله. وقوله: {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} إلى قوله: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} ليس التلاوة كذلك لأن قوله: {اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} قبل هذا قال: ووقع في بعض النسخ إلى قوله: {غَفُوراً رَحِيماً} وفي بعضها {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} وقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ} إلى قوله: {مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} وهذا على نسق التنزيل، كذا قال فأخطأ، فالآية التي أخرها نصيرا في أولها {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} بالواو لا بلفظ: "إلا" وما نقله عن بعض النسخ إلى قوله : {غَفُوراً رَحِيماً} محتمل لأن آخر الآية التي أولها {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} قوله: {وَسَاءَتْ مَصِيراً} وآخر التي بعدها {سَبِيلاً} وآخر التي بعدها {عَفُوّاً غَفُوراً} وآخر التي بعدها {غَفُوراً رَحِيماً} فكأنه أراد سياق أربع آيات. قوله: "فعذر الله المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله به" يعني إلا إذا غلبوا. قال والمكره لا يكون

(12/313)


إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمره به أي ما يأمره به من له قدرة على إيقاع الشر به، أي لأنه لا يقدر على الامتناع من الترك كما لا يقدر المكره على الامتناع من الفعل فهو في حكم المكره. قوله: "وقال الحسن" أي البصري "التقية إلى يوم القيامة" وصله عبد بن حميد وابن أبي شيبة من رواية عوف الأعرابي " عن الحسن البصري قال التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلا أنه كان لا يجعل في القتل تقية " ولفظ عبد بن حميد إلا في قتل النفس التي حرم الله يعني لا يعذر من أكره على قتل غيره لكونه يؤثر نفسه على نفس غيره. قلت: ومعنى التقية الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير، وأصله وقية بوزن حمزة فعلة من الوقاية. وأخرج البيهقي من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: "التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان ولا يبسط يده للقتل". قوله: "وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق ليس بشيء، وبه قال ابن عمر وابن الزبير والشعبي والحسن" أما قول ابن عباس فوصله ابن أبي شيبة من طريق عكرمة أنه سئل عن رجل أكرهه اللصوص حتى طلق امرأته فقال: قال ابن عباس: ليس بشيء، أي لا يقع عليه الطلاق. وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان لا يرى طلاق المكره شيئا، وأما قول ابن عمر وابن الزبير فأخرجهما الحميدي في جامعه والبيهقي من طريقه قال: "حدثنا سفيان سمعت عمرا يعني ابن دينار حدثني ثابت الأعرج قال: تزوجت أم ولد عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب فدعاني ابنه ودعا غلامين له فربطوني وضربوني بالسياط وقال لتطلقها أو لأفعلن وأفعلن فطلقتها، ثم سألت ابن عمر وابن الزبير فلم يرياه شيئا " وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن ثابت الأعرج نحوه. وأما قول الشعبي فوصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه قال: إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق وإن أكرهه السلطان وقع. ونقل عن ابن عيينة توجيهه وهو أن اللص يقدم على قتله والسلطان لا يقتله. وأما قول الحسن فقال سعيد بن منصور "حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن الحسن أنه كان لا يرى طلاق المكره شيئا" وهذا سند صحيح أبي الحسن "قال ابن بطال تبعا لابن المنذر: أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يحكم عليه بالكفر ولا تبين منه زوجته، إلا محمد بن الحسن فقال: إذا أظهر الكفر صار مرتدا وبانت منه امرأته ولو كان في الباطن مسلما. قال: وهذا قول تغني حكايته عن الرد عليه لمخالفته النصوص. وقال قوم: محل الرخصة في القول دون الفعل كأن يسجد للصنم أو يقتل مسلما أو يأكل الخنزير أو يزني، وهو قول الأوزاعي وسحنون، وأخرج إسماعيل القاضي بسند صحيح عن الحسن أنه لا يجعل التقية في قتل النفس المحرمة. وقالت طائفة الإكراه في القول والفعل سواء. واختلف في حد الإكراه فأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن عمر قال: "ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سجن أو أوثق أو عذب " ومن طريق شريح نحوه وزيادة ولفظه: "أربع كلهن كره: السجن والضرب والوعيد والقيد " وعن ابن مسعود قال: "ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به " وهو قول الجمهور، وعند الكوفيين فيه تفصيل، واختلفوا في طلاق المكره فذهب الجمهور إلى أنه لا يقع، ونقل فيه ابن بطال إجماع الصحابة، وعن الكوفيين يقع ونقل مثله عن الزهري وقتادة وأبي قلابة، وفيه قول ثالث تقدم عن الشعبي. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنية" هذا طرف من حديث وصله المصنف في كتاب الأيمان بفتح الهمزة ولفظه: "الأعمال بالنية " هكذا وقع فيه بدون " إنما " في أوله وإفراد النية، وقد تقدم شرحه مستوفي في أول حديث في الصحيح، ويأتي ما يتعلق بالإكراه في أول ترك الحيل قريبا، وكأن البخاري أشار بإيراده هنا إلى الرد

(12/314)


على من فرق في الإكراه بين القول والفعل لأن العمل فعل، وإذا كان لا يعتبر إلا بالنية كما دل عليه الحديث فالمكره لا نية له بل نيته عدم الفعل الذي أكره عليه. واحتج بعض المالكية بأن التفصيل يشبه ما نزل في القرآن لأن الذين أكرهوا إنما هو على الكلام فيما بينهم وبين ربهم، فلما لم يكونوا معتقدين له جعل كأنه لم يكن ولم يؤثر لا في بدن ولا مال، بخلاف الفعل فإنه يؤثر في البدن والمال، هذا معنى ما حكاه ابن بطال عن إسماعيل القاضي، وتعقبه ابن المنير بأنهم أكرهوا على النطق بالكفر وعلى مخالطة المشركين ومعاونتهم وترك ما يخالف ذلك. والتروك أفعال على الصحيح ولم يؤاخذوا بشيء، من ذلك، واستثنى المعظم قتل النفس فلا يسقط القصاص عن القاتل ولو أكره لأنه آثر نفسه على نفس المقتول ولا يجوز لأحد أن ينجي نفسه من القتل بأن يقتل غيره. ثم ذكر حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة" تقدم في تفسير سورة النساء من وجه آخر عن أبي سلمة بمثل هذا الحديث وزاد أنها صلاة العشاء، وفي كتاب الصلاة من طريق شعيب عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي سلمة " أن أبا هريرة كان يكبر في كل صلاة " الحديث وفيه: "قال أبو هريرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد يدعو لرجال فيسميهم بأسمائهم " فذكر مثل حديث الباب وزاد: "وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له " وفي الأدب من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: "لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركوع قال: "فذكره وقد تقدم بيان المستضعفين في سورة النساء والتعريف بالثلاثة المذكورين هنا في تفسر آل عمران وما يتعلق بمشروعية القنوت في النازلة ومحله في كتاب الوتر ولله الحمد. وقوله: "والمستضعفين" هو من ذكر العام بعد الخاص وتعلق الحديث بالإكراه لأنهم كانوا مكرهين على الإقامة مع المشركين لأن المستضعف لا يكون إلا مكرها كما تقدم، ويستفاد منه أن الإكراه على الكفر لو كان كفرا لما دعا لهم وسماهم مؤمنين.

(12/315)


باب من اختار الضرب و القتل و الهوان على الكفر
...
1- باب: مَنْ اخْتَارَ الضَّرْبَ وَالْقَتْلَ وَالْهَوَانَ عَلَى الْكُفْرِ
6941- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ الطَّائِفِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ"
6942- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا عَبَّادٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ سَمِعْتُ قَيْسًا سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ مُوثِقِي عَلَى الإِسْلاَمِ. وَلَوْ انْقَضَّ أُحُدٌ مِمَّا فَعَلْتُمْ بِعُثْمَانَ كَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ"
6943- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا قَيْسٌ "عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ

(12/315)


وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"
قوله: "باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر" تقدمت الإشارة إلى ذلك في الباب الذي قبله وأن بلالا كان ممن اختار الضرب والهوان على التلفظ بالكفر وكذلك خباب المذكور في هذا الباب ومن ذكر معه وأن والدي عمار ماتا تحت العذاب، ولما لم يكن ذلك على شرط الصحة اكتفى المصنف بما يدل عليه، وذكر فيه ثلاثة أحاديث: الحديث الأول حديث : "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان في أوائل الصحيح، ووجه أخذ الترجمة منه أنه سوى بين كراهية الكفر وكراهية دخول النار، والقتل والضرب والهوان أسهل عند المؤمن من دخول النار فيكون أسهل من الكفر إن اختار الأخذ بالشدة، ذكره ابن بطال وقال أيضا: فيه حجة لأصحاب مالك، وتعقبه ابن التين بأن العلماء متفقون على اختيار القتل على الكفر، وإنما يكون حجة على من يقول إن التلفظ بالكفر أولى من الصبر على القتل، ونقل عن المهلب أن قوما منعوا من ذلك واحتجوا بقوله تعالى :{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية، ولا حجة فيه لأنه قال تلو الآية المذكورة {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً} فقيده بذلك، وليس من أهلك نفسه في طاعة الله ظالما ولا معتديا. وقد أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد انتهى، وهذا يقدح في نقل ابن التين الاتفاق المذكور وأن ثم من قال بأولوية التلفظ على بذل النفس للقتل، وإن كان قائل ذلك يعمم فليس بشيء، وإن قيده بما لو عرض ما يرجح المفضول كما لو عرض على من إذا تلفظ به نفع متعد ظاهرا فيتجه. الحديث الثاني. قوله: "عباد" هو ابن أبي العوام فيما جزم به أبو مسعود، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وسعيد بن زيد أي ابن عمرو بن نفيل وهو ابن ابن عم عمر بن الخطاب بن تفيل وقد تقدم حديثه في " باب إسلام سعيد بن زيد " من السيرة النبوية، وهو ظاهر فيما ترجم له لأن سعيدا وزوجته أخت عمر اختارا الهوان على الكفر، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة. وقال الكرماني: هي مأخوذة من كون عثمان اختار القتل على ما يرضى قاتليه فيكون اختياره القتل على الكفر بطريق الأولى، واسم زوجته فاطمة بنت الخطاب وهي أول امرأة أسلمت بعد خديجة فيما يقال، وقيل سبقتها أم الفضل زوج العباس. الحديث الثالث. قوله: "يحيى" هو القطان، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم أيضا، وخباب بفتح الخاء المعجمة وموحدتين الأولى مشددة بينهما ألف وقد تقدم شرحه مستوفي في " باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين بمكة " من السيرة النبوية، ودخوله في الترجمة من جهة أن طلب خباب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على الكفار دال على أنهم كانوا قد اعتدوا عليهم بالأذى ظلما وعدوانا، قال ابن بطال: إنما لم يجب النبي صلى الله عليه وسلم سؤال خباب ومن معه بالدعاء على الكفار مع قوله تعالى :{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقوله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} لأنه علم أنه قد سبق القدر بما جرى عليهم من البلوى ليؤجروا عليها كما جرت به عادة الله تعالى في من اتبع الأنبياء فصيروا على الشدة في ذات الله، ثم كانت لهم العاقبة بالنصر وجزيل الأجر، قال: فأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة لأنهم لم يطلعوا على ما اطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم انتهى ملخصا. وليس في الحديث تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لم يدع لهم بل يحتمل أنه دعا، وإنما قال: "قد كان من قبلكم يؤخذ إلخ" تسلية لهم وإشارة إلى الصبر حتى تنقضي

(12/316)


المدة المقدورة، وإلى ذلك الإشارة بقوله في آخر الحديث: "ولكنكم تستعجلون". وقوله في الحديث: "بالمنشار" بنون ساكنة ثم شين معجمة معروف، وفي نسخة بياء مثناة من تحت بغير همزة بدل النون وهي لغة فيه، وقوله: "من دون لحمه وعظمه" وللأكثر "ما" بدل "من" وقوله: "هو الأمر" أي الإسلام، وتقدم المراد بصنعاء في شرح الحديث، قال ابن بطال: أجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة، وأما غير الكفر فإن أكره على أكل الخنزير وشرب الخمر مثلا فالفعل أولى، وقال بعض المالكية: بل يأثم إن منع من أكل غيرها فإنه يصير كالمضطر على أكل الميتة إذا خاف على نفسه الموت فلم يأكل.

(12/317)


باب في بيع المكره و نحوه في الحق و غيره
...
2- باب: فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَنَحْوِهِ فِي الْحَقِّ وَغَيْرِهِ
6944- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ. فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ: ذَلِكَ أُرِيدُ. ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلاَ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ"
قوله: "باب في بيع المكره ونحوه في الحق وغيره" قال الخطابي: استدل أبو عبد الله يعني البخاري بحديث أبي هريرة يعني المذكور في الباب على جواز بيع المكره والحديث ببيع المضطر أشبه، فإن المكره على البيع هو الذي يحمل على بيع الشيء شاء أو أبى، واليهود لو لم يبيعوا أرضهم لم يلزموا بذلك ولكنهم شحوا على أموالهم فاختاروا بيعها فصاروا كأنهم اضطروا إلى بيعها كمن رهقه دين فاضطر إلى بيع ماله فيكون جائزا ولو أكره عليه لم يجز. قلت: لم يقتصر البخاري في الترجمة على المكره وإنما قال: "بيع المكره ونحوه في الحق " فيدخل في ترجمته المضطر، وكأنه أشار إلى الرد على من لا يصحح بيع المضطر، وقوله في آخر كلامه " ولو أكره عليه لم يجز " مردود لأنه إكراه بحق، كذا تعقبه الكرماني وتوجيه كلام الخطابي أنه فرص كلامه في المضطر من حيث هو ولم يرد خصوص قصة اليهود. وقال ابن المنير: ترجم بالحق وغيره ولم يذكر إلا الشق الأول، ويجاب بأن مراده بالحق الدين وبغيره ما عداه مما يكون بيعه لازما، لأن اليهود أكرهوا على بيع أموالهم لا لدين عليهم وأجاب الكرماني بأن المراد بالحق الجلاء وبقوله وغيره الجنايات، والمراد بقوله الحق الماليات وبقوله غيره الجلاء. قلت: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "وغيره: "الدين فيكون من الخاص بعد العام، وإذا صح البيع في الصورة المذكورة وهو سبب غير مالي فالبيع في الدين وهو سبب مالي أولى. ثم ذكر حديث أبي هريرة في إخراج اليهود من المدينة، وقد تقدم في الجزية في "باب إخراج اليهود من جزيرة العرب" وبينت فيه أن اليهود المذكورين لم يسموا ولم ينسبوا، وقد أورد مسلم حديث ابن عمر في إجلاء بني النضير ثم عقبه بحديث أبي هريرة فأوهم أن اليهود المذكورين في حديث أبي هريرة هم بنو النضير، وفيه نظر لأن أبا هريرة إنما جاء بعد فتح خيبر وكان

(12/317)


فتحها بعد إجلاء بني النضير وبني قينقاع وقيل بني قريظة، وقد تقدمت قصة بني النضير في المغازي قبل قصة بدر وتقدم قول ابن إسحاق أنها كانت بعد بئر معونة، وعلى الحالين فهي قبل مجيء أبي هريرة، وسياق إخراجهم مخالف لسياق هذه القصة فإنهم لم يكونوا داخل المدينة ولا جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا ليستعين بهم في دية رجلين قتلهما عمرو بن أمية من حلفائهم فأرادوا الغدر به فرجع إلى المدينة وأرسل إليهم يخيرهم بين الإسلام وبين الخروج فأبوا فحاصرهم فرضوا بالجلاء، وفيهم نزل أول سورة الحشر، فيحتمل أن يكون من ذكر في حديث أبي هريرة بقية منهم أو من بني قريظة كانوا سكانا داخل المدينة فاستمروا فيها على حكم أهل الذمة حتى أجلاهم بعد فتح خيبر، ويحتمل أن يكونوا من أهل خيبر لأنها لما فتحت أقر أهلها على أن يزرعوا فيها ويعملوا فيها ببعض ما يخرج منها فاستمروا بها حتى أجلاهم عمر من خيبر كما تقدم بيانه في المغازي، فيحتمل أن يكون هؤلاء طائفة منهم كانوا يسكنون بالمدينة فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى عند موته أن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب ففعل ذلك عمر. قوله: "بيت المدراس" بكسر الميم وآخره مهملة مفعال من الدرس والمراد به كبير اليهود ونسب البيت إليه لأنه هو الذي كان صاحب دراسة كتبهم أي قراءتها، ووقع في بعض الطرق " حتى إذا أتى المدينة المدارس " ففسره في المطالع بالبيت الذي تقرأ فيه التوراة ووجهه الكرماني بأن إضافة البيت إليه من إضافة العام إلى الخاص مثل شجر أراك، وقال في النهاية: مفعال غريب في المكان والمعروف أنه من صيغ المبالغة للرجل. قلت: والصواب أنه على حذف الموصوف والمراد الرجل، وقد وقع في الرواية الماضية في الجزية "حتى جئنا بيت المدارس" بتأخير الراء عن الألف بصيغة المفاعل وهو من يدرس الكتاب ويعلمه غيره، وفي حديث الرجم " فوضع مدارسها الذي يدرسها يده على آية الرجم " وفسر هناك بأنه ابن صوريا، فيحتمل أن يكون هو المراد هنا. قوله: "فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم" في رواية الكشميهني: "فنادى". قوله: "ذلك أريد" أي بقولي أسلموا أي إن اعترفتم أنني بلغتكم سقط عني الحرج. قوله: "اعلموا أن الأرض" في رواية الكشميهني: "إنما الأرض" في الموضعين وقوله لله ورسوله قال الداودي لله افتتاح كلام ولرسوله حقيقة لأنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، كذا قال والظاهر ما قال غيره أن المراد أن الحكم لله في ذلك ولرسوله لكونه المبلغ عنه القائم بتنفيذ أوامره. قوله: "أجليكم" بضم أوله وسكون الجيم أي أخرجكم وزنه ومعناه. قوله: "فمن وجد" كذا هنا بلفظ الفعل الماضي بماله شيئا الباء متعلقة بشيء محذوف أو ضمن وجد معنى نحل فعداه بالباء، أو وجد من الوجدان والباء سببية أي فمن وجد بما له شيئا من المحبة، وقال الكرماني: الباء هنا للمقابلة فجعل وجد من الوجدان.

(12/318)


3- باب: لاَ يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُكْرَهِ {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
6945- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ الأَنْصَارِيِّ "عَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأَنْصَارِيَّةِ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ نِكَاحَهَا"

(12/318)


6946- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو - وهُوَ ذَكْوَانُ - "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحْيِي فَتَسْكُتُ، قَالَ سُكَاتُهَا إِذْنُهَا"
قوله: "باب لا يجوز نكاح المكره" المكره بفتح الراء. قول {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ - إلى قوله - غَفُورٌ رَحِيمٌ} كذا لأبي ذر والإسماعيلي وزاد القابسي لفظ: "إكراههن" وعند النسفي "الآية" بدل قوله إلخ، وكذا للجرجاني، وساق في رواية كريمة الآية كلها. والفتيات بفتح الفاء والتاء جمع فتاة والمراد بها الأمة وكذا الخادم ولو كانت حرة، وحكمة التقييد ب قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} أن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن لأن المطيعة لا تسمى مكرهة فالتقدير فتياتكم اللاتي جرت عادتهن بالبغاء وخفي هذا على بعض المفسرين فجعل {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} متعلقا بقوله فيما قبل ذلك {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وسيأتي بقية الكلام على هذه الآية بعد بابين، وقد استشكل بعضهم مناسبة الآية للترجمة وجوز أنه أشار إلى أنه يستفاد مطلوب الترجمة بطريق الأولى لأنه إذا نهى عن الإكراه فيما لا يحل فالنهي عن الإكراه فيما يحل أولى، قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى بطلان نكاح المكره، وأجازه الكوفيون قالوا فلو أكره رجل على تزويج امرأة بعشرة آلاف وكان صداق مثلها ألفا صح النكاح ولزمته الألف وبطل الزائد، قال: فلما أبطلوا الزائد بالإكراه كان أصل النكاح بالإكراه أيضا باطلا ا هـ، فلو كان راضيا بالنكاح وأكره على المهر كانت المسألة اتفاقية يصح العقد ويلزم المسمى بالدخول، ولو أكره على النكاح والوطء لم يحد ولم يلزمه شيء، وإن وطئ مختارا غير راض بالعقد حد. ثم ذكر في الباب حديثين: أحدهما حديث خنساء بفتح المعجمة وسكون النون بعدها مهملة ومد بنت خدام بكسر المعجمة وتخفيف المهملة وجارية جد الراويين عنها بجيم وياء مثناه من تحت، وقد تقدم شرحه في كتاب النكاح وأنها كانت غير بكر وذكر ما ورد فيه من الاختلاف. ثانيهما قوله: "حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان" الظاهر أنه الفريابي وشيخه الثوري، ويحتمل أن يكون البيكندي وشيخه ابن عيينة فإن كلا من السفيانين معروف بالرواية عن ابن جريج، لكن هذا الحديث إنما هو عن الفريابي كما جزم به أبو نعيم، والفريابي إذا أطلق سفيان أراد الثوري وإذا أراد ابن عيينة نسبه. قوله: "ذكوان" يعني مولى عائشة. قوله: "قلت: يا رسول الله يستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم" في رواية حجاج بن محمد وأبو عاصم عن ابن جرير " سمعت ابن أبي مليكة يقول قال ذكوان: سمعت عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها هل تستأمر أم لا؟ فقال: نعم تستأمر " وفيه تقوية لمضمون الحديث الذي قبله وإرشاد أبي السلامة من إبطال العقد، وقوله: "سكاتها " وهو لغة في السكوت، ووقع الإسماعيلي من رواية الذهلي وأحمد عن يوسف عن الفريابي بلفظ، " سكوتها " وفي رواية حجاج وأبي عاصم "ذلك إذنها إذا سكتت" وتقدم في النكاح من طريق الليث عن ابن أبي مليكة بلفظ: "صمتها" وتقدم شرحه أيضا هناك وبيان الاختلاف في صحة إنكاح الولي المجبر البكر الكبيرة، وأن الصغيرة لا خلاف في صحة إجباره لها.

(12/319)


4- باب: إِذَا أُكْرِهَ حَتَّى وَهَبَ عَبْدًا أَوْ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ

(12/319)


6947- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ "عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ. قَالَ فَسَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ"
قوله: "باب: إذا أكره حتى وهب عبدا أو باعه لم يجز" أي ذلك البيع والهبة، والعبد باق على ملكه. قوله: "وبه قال بعض الناس. قال: فإن نذر المشتري فيه نذرا فهو جائز" أي ماض عليه ويصح البيع الصادر مع الإكراه وكذلك الهبة. قوله: "بزعمه" أي عنده، والزعم يطلق على القول كثيرا. قوله: "وكذلك إن دبره" أي ينعقد التدبير نقل ابن بطال عن محمد بن سحنون قال: وافق الكوفيون الجمهور على أن بيع المكره باطل، وهذا يقتضي أن البيع مع الإكراه غير ناقل للملك، فإن سلموا ذلك بطل قولهم إن نذر المشتري وتدبيره يمنع تصرف الأول فيه، وإن قالوا إنه ناقل فلم خصوا ذلك بالعتق والهبة دون غيرهما من التصرفات؟ قال الكرماني: ذكر المشايخ أن المراد بقول البخاري في هذه الأبواب "بعض الناس" الحنفية وغرضه أنهم تناقضوا، فإن بيع الإكراه إن كان ناقلا للملك إلى المشتري فإنه يصح منه جميع التصرفات فلا يختص بالنذر والتدبير، وإن قالوا ليس بناقل فلا يصح النذر والتدبير أيضا، وحاصله أنهم صححوا النذر والتدبير بدون الملك، وفيه تحكم وتخصيص بغير مخصص. وقال المهلب: أجمع العلماء على أن الإكراه على البيع والهبة لا يجور معه البيع، وذكر عن أبي حنيفة إن أعتقه المشتري أو دبره جاز وكذا الموهوب له، وكأنه قاسه على البيع الفاسد لأنهم قالوا إن تصرف المشتري في البيع الفاسد نافذ ثم ذكر البخاري حديث جابر في بيع المدبر وقد تقدم شرحه مستوفي في العتق، قال ابن بطال: ووجه الرد به على القول المذكور أن الذي دبره لما لم يكن له مال غيره كان تدبيره سفها من فعله فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وإن كان ملكه للعبد كان صحيحا فكان من اشتراه شراء فاسدا ولم يصح له ملكه إذا دبره أو أعتقه أولى أن يرد فعله من أجل أنه لم يصح له ملكه.

(12/320)


باب من الاكراه كرها و كرها و احد
...
5- باب: مِنْ الإِكْرَاهِ كُرْهًا وَ كَرْهًا وَاحِدٌ
6948- حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ سُلَيْمَانُ بْنُ فَيْرُوزٍ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الشَّيْبَانِيُّ وَحَدَّثَنِي عَطَاءٌ أَبُو الحَسَنِ السُّوَائِيُّ وَلاَ أَظُنُّهُ إِلاَّ ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} الْآيَةَ. قَالَ: "كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجْهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ"
قوله: "باب: من الإكراه" أي من جملة ما ورد في كراهية الإكراه ما تضمنته الآية، وهو المذكور فيه عن ابن عباس في نزول قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} وقد تقدم شرحه في تفسير سورة النساء، فإنه أورده هناك عن محمد بن مقاتل عن أسباط بن محمد وهنا عن حسين بن منصور عن أسباط، وحسين نيسابوري ما له في البخاري إلا هذا الموضع كذا جزم به الكلاباذي، وقد تقدم شرحه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم:

(12/320)


"حدثنا الحسن بن منصور أبو علي حدثنا حجاج بن محمد " فذكر حديثا، وذكر الخطيب أن محمد بن مخلد روى عن أبي علي هذا فسماه حسينا بالتصغير فيحتمل أن يكون هو، وذكر المزي مع حسين بن منصور النيسابوري ثلاثة كل منهم حسين بن منصور وكلهم من طبقة واحدة، وقوله في الترجمة "كرها وكرها واحد" أي بفتح أوله وبضمه بمعنى واحد وهذا قول الأكثر، وقيل بالضم ما أكرهت نفسك عليه وبالفتح ما أكرهك عليه غيرك، ووقع لغير أبي ذر "كره وكره" بالرفع فيهما، وسقط للنسفي أصلا، وقد تقدم في تفسير سورة النساء. وقال ابن بطال عن المهلب: يستفاد منه أن كل من أمسك امرأته طمعا أن تموت فيرثها لا يحل له ذلك بنص القرآن، كذا قال ولا يلزم من النص على أن ذلك لا يحل أن لا يصح ميراثه منها في الحكم الظاهر.

(12/321)


6- باب: إِذَا اسْتُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهَا
لقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
6949- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الإِمَارَةِ وَقَعَ عَلَى وَلِيدَةٍ مِنْ الْخُمُسِ فَاسْتَكْرَهَهَا حَتَّى اقْتَضَّهَا، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ وَنَفَاهُ، وَلَمْ يَجْلِدْ الْوَلِيدَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا". قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الأَمَةِ الْبِكْرِ يَفْتَرِعُهَا الْحُرُّ: يُقِيمُ ذَلِكَ الْحَكَمُ مِنْ الأَمَةِ الْعَذْرَاءِ بِقَدْرِ ثمنها وَيُجْلَدُ، وَلَيْسَ فِي الأَمَةِ الثَّيِّبِ فِي قَضَاءِ الأَئِمَّةِ غُرْمٌ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ
6950- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، دَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ - أَوْ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ - فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ بِهَا فَأَرْسَلَ بِهَا فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ"
قوله: "باب إذا استكرهت المرأة على الزنا فلا حد عليها لقوله تعالى:{ وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لهن: وقد قرئ في الشاذ " فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم " وهي قراءة ابن مسعود وجابر وسعيد بن جبير ونسيت أيضا لابن عباس والمحفوظ عنه تفسيره بذلك وكذا عن جماعة غيره، وجوز بعض المعربين أن يكون التقدير "لهم" أي لمن وقع منه الإكراه لكن إذا تاب، وضعف بكون الأصل عدم التقدير، وأجيب بأنه لا بد من التقدير لأجل الربط، واستشكل تعليق المغفرة لهن لأن التي تكره ليست آثمة، وأجيب باحتمال أن يكون الإكراه المذكور كان دون ما اعتبر شرعا فربما قصرت عن الحد الذي تعذر به فيأثم فناسب تعليق المغفرة. وقال البيضاوي: الإكراه لا ينافي المؤاخذة. قلت: أو ذكر المغفرة والرحمة لا يستلزم تقدم الإثم فهو كقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال الطيبي: يستفاد منه الوعيد الشديد للمكرهين لهن وفي ذكر المغفرة والرحمة وتعريض وتقديره انتهوا أيها المكرهون فإنهن مع كونهن مكرهات قد يؤاخذن لولا رحمة الله ومغفرته فكيف بكم أنتم، ومناسبتها للترجمة أن في الآية دلالة على أن لا إثم

(12/321)


على المكرهة على الزنا فيلزم إذ لا يجب عليها الحد، وفي صحيح مسلم عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها مسيلمة وأخرى يقال لها أميمة وكان يكرههما على الزنا فأنزل الله سبحانه وتعالى :{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الآية. قوله: "وقال الليث" هو ابن سعد "حدثني نافع" هو مولى ابن عمر. قوله: "أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته" يعني الثقفية امرأة عبد الله بن عمر. قوله: "أن عبدا من رقيق الإمارة" بكسر الألف أي من مال الخليفة وهو عمر. قوله: "وقع على وليدة من الخمس" أي من مال خمس الغنيمة الذي يتعلق التصرف فيه بالإمام، والمراد زنى بها. قوله: "فاستكرهها حتى اقتضها" بقاف وضاد معجمة مأخوذ من القضة وهي عذرة البكر، وهذا يدل على أنها كانت بكرا. قوله: "فجلده عمر الحد ونفاه" أي جلده خمسين جلدة ونفاه نصف سنة، لأن حده نصف حد الحر، ويستفاد منه أن عمر كان يرى أن الرقيق ينفي كالحر، وقد تقدم البحث فيه في الحدود. وقوله: "لم يجلد الوليدة لأنه استكرهها " لم أقف على اسم واحد منهما. وهذا الأثر وصله أبو القاسم البغوي عن العلاء بن موسى عن الليث بمثله سواء، ووقع لي عاليا جدا بيني وبين صاحب الليث فيه سبعة أنفس بالسماع المتصل في أزيد من ستمائة سنة، قرأته على محمد بن الحسن بن عبد الرحيم الدقاق عن أحمد بن نعمة سماعا أنبأنا أبو المنجا بن عمر أنبأنا أبو الوقت أنبأنا محمد بن عبد العزيز أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنبأنا البغوي فذكره، وعند ابن أبي شيبة فيه حديث مرفوع عن وائل بن حجر قال: "استكرهت امرأة في الزنا فدرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها الحد " وسنده ضعيف. قوله: "وقال الزهري في الأمة البكر يفترعها" بفاء وبعين مهملة أي يقتضها. قوله: "يقيم ذلك" أي الافتراع "الحكم" بفتحتين أي الحاكم. قوله: "بقدر ثمنها" أي على الذي اقتضها ويجلد، والمعنى أن الحاكم يأخذ من المفترع دية الافتراع بنسبة قيمتها أي أرش النقص، وهو التفاوت بين كونها بكرا أو ثيبا، وقوله: "يقيم " بمعنى يقوم وفائدة قوله: "ويجلد " لدفع توهم من يظن أن العقر يغني عن الجلد. قوله: "وليس في الأمة الثيب لي قضاء الأئمة غرم" بضم المعجمة أي غرامة، ولكن عليها الحد. ثم ذكر طرفا من حديث أبي هريرة في شأن إبراهيم وسارة مع الجبار، وقد مضى شرحه مستوفي في أحاديث الأنبياء. قوله هنا "الظالم" تقدم هناك بلفظ: "الكافر" وقوله: "غط " بضم الغين المعجمة أي غم وزنه ومعناه وقيل خنق، ونقل ابن التين أنه روى بالعين المهملة وأخذ من العطعطة وهي حكاية صوت، وتقدم الخلاف في تسمية الجبار، والمراد بالقرية حران وقيل الأردن وقيل مصر، وقولها " إن كنت " ليس للشك فتقديره إن كنت مقبولة الإيمان عندك، وقوله ركض أي حرك، قال ابن المنير: ما كان ينبغي إدخال هذا الحديث في هذه الترجمة أصلا، وليس لها مناسبة للترجمة إلا سقوط الملامة عنها في الخلوة لكونها كانت مكرهة على ذلك، قال الكرماني تبعا لابن بطال، وجه إدخال هذا الحديث في هذا الباب مع أن سارة عليها السلام كانت معصومة من كل سوء أنها لا ملامة عليها في الخلوة مكرهة فكذا غيرها لو زنى بها مكرهة لا حد عليها. "تكميل": لم يذكروا حكم إكراه الرجل على الزنا، وقد ذهب الجمهور أنه لا حد عليه، وقال مالك وطائفة: عليه الحد لأنه لا ينتشر إلا بلذة، وسواء أكرهه سلطان أم غيره، وعن أبي حنيفة يحد إن أكرهه غير السلطان، وخالفه صاحباه، واحتج المالكية بأن الانتشار لا يحصل إلا بالطمأنينة وسكون النفس، والمكره بخلافه لأنه خائف، وأجيب بالمنع وبأن الوطء يتصور بغير انتشار. والله أعلم.

(12/322)


باب جين الرجل لصاحبه
...
7- باب: يَمِينِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ إِنَّهُ أَخُوهُ إِذَا خَافَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ نَحْوَهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُكْرَهٍ يَخَافُ فَإِنَّهُ يَذُبُّ عَنْهُ الْمَظَالِمَ وَيُقَاتِلُ دُونَهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ، فَإِنْ قَاتَلَ دُونَ الْمَظْلُومِ فَلاَ قَوَدَ عَلَيْهِ وَلاَ قِصَاصَ. وَإِنْ قِيلَ لَهُ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَكَ أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ أَوْ تَهَبُ هِبَةً وَتَحُلُّ عُقْدَةً أَوْ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ أَخَاكَ فِي الإِسْلاَمِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَسِعَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ". وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ أَوْ لَنَقْتُلَنَّ ابْنَكَ أَوْ أَبَاكَ أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لَمْ يَسَعْهُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ، ثُمَّ نَاقَضَ فَقَالَ: إِنْ قِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ ابْنَكَ أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ أَوْ تَهَبُ يَلْزَمُهُ فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَقُولُ: الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَكُلُّ عُقْدَةٍ فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ وَغَيْرِهِ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلاَ سُنَّةٍ. وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِامْرَأَتِهِ: هَذِهِ أُخْتِي" وَذَلِكَ فِي اللَّهِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إِذَا كَانَ الْمُسْتَحْلِفُ ظَالِمًا فَنِيَّةُ الْحَالِفِ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَنِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ
6951- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ. وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ"
6952- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ ابْنِ أَنَسٍ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا . فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ"
قوله: "باب: يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه" جواب الشرط يأتي بعده. قوله: "وكذلك كل مكره يخاف فإنه" أي المسلم "يذب" بفتح أوله وضم الذال المعجمة أي يدفع "عنه الظالم ويقاتل دونه" أي عنه "ولا يخذله" قال ابن بطال: ذهب مالك والجمهور إلى أن من أكره على يمين إن لم يحلفها قتل أخوه المسلم أنه لا حنث عليه، وقال الكوفيون يحنث لأنه كان له أن يوري فلما ترك التورية صار قاصدا لليمين فيحنث. وأجاب الجمهور بأنه إذا أكره على اليمين فنيته مخالفة لقوله: "الأعمال بالنيات ". قوله: "فإن قاتل دون المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص" قال الداودي: أراد لا قود ولا دية عليه ولا قصاص، قال والدية تسمى أرشا. قلت: والأولى أن قوله: "ولا قصاص " تأكيد، أو أطلق القود على الدية. وقال ابن بطال: اختلفوا فيمن قاتل عن رجل خشي عليه أن يقتل فقتل دونه هل يجب على الآخر قصاص أو دية؟ فقالت طائفة: لا يجب عليه شيء للحديث المذكور ففيه: "ولا يسلمه " وفي الحديث الذي بعده "أنصر أخاك" وبذلك قال عمر، وقالت طائفة: عليه القود وهو قول الكوفيين وهو يشبه قول ابن القاسم وطائفة من المالكية، وأجابوا عن الحديث بأن فيه

(12/323)


الندب إلى النصر وليس فيه الإذن بالقتل، والمتجه قول ابن بطال أن القادر على تخليص المظلوم توجه عليه دفع الظلم بكل ما يمكنه، فإذا دافع عنه لا يقصد قتل الظالم وإنما يقصد دفعه فلو أتى الدفع على الظالم كان دمه هدرا وحينئذ لا فرق بين دفعه عن نفسه أو عن غيره. قوله: "وإن قيل له لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة أو لتبيعن عبدك أو لتقر بدين أو تهب هبة أو تحل عقدة أو لتقتلن أباك أو أخاك في الإسلام وما أشبه ذلك وسعه ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أخو المسلم" قال الكرماني: المراد بحل العقدة فسخها وقيد الأخ بالإسلام ليكون أعم من القريب " وسعه ذلك " أي جاز له جميع ذلك ليخلص أباه وأخاه، وقال ابن بطال ما ملخصه: مراد البخاري أن من هدد بقتل والده أو بقتل أخيه في الإسلام إن لم يفعل شيئا من المعاصي أو يقر على نفسه بدين ليس عليه أو يهب شيئا لغيره بغير طيب نفس منه أو يحل عقدا كالطلاق والعتاق بغير اختياره أنه يفعل جميع ما هدد به لينجو أبوه من القتل وكذا أخوه المسلم من الظلم ودليله على ذلك ما ذكره في الباب الذي بعده موصولا ومعلقا، ونبه ابن التين على وهم وقع للداودي الشارح حاصله أن الداودي وهم في إيراد كلام البخاري فجعل قوله: "لتقتلن " بالتاء وجعل قول البخاري وسعه ذلك " لم يسعه ذلك " ثم تعقبه بأنه إن أراد لا يسعه في قتل أبيه أو أخيه فصواب، وأما الإقرار بالدين والهبة والبيع فلا يلزم، واختلف في الشرب والأكل، قال ابن التين: قرأ لتقتلن بتاء الخاطبة وإنما هو بالنون. قوله: "وقال بعض الناس لو قيل له لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة أو لتقتلن ابنك أو أباك أو ذا رحم محرم لم يسعه لأن هذا ليس بمضطر، ثم ناقض فقال: إن قيل له لتقتلن أباك أو لتبيعن هذا العبد أو لتقرن بدين أو بهبة يلزمه في القياس، ولكنا نستحسن ونقول البيع والهبة وكل عقدة في ذلك باطل" قال ابن بطال: معناه أن ظالما لو أراد قتل رجل فقال لولد الرجل مثلا إن لم تشرب الخمر أو تأكل الميتة قتلت أباك، وكذا لو قال له قتلت ابنك أو ذا رحم لك ففعل لم يأثم عند الجمهور، وقال أبو حنيفة يأثم لأنه ليس بمضطر لأن الإكراه إنما يكون فيما يتوجه إلى الإنسان في خاصة نفسه لا في غيره، وليس له أن يعصي الله حتى يدفع عن غيره بل الله سائل الظالم ولا يؤاخذ الابن لأنه لم يقدر على الدفع إلا بارتكاب ما لا يحل له ارتكابه، قال: ونظيره في القياس ما لو قال إن لم تبع عبدك أو تقر بدين أو تهب هبة أن كل ذلك ينعقد، كما لا يجوز له أن يرتكب المعصية في الدفع عن غيره. ثم ناقض هذا المعنى فقال: ولكنا نستحسن ونقول البيع وغيره من العقود كل ذلك باطل، فخالف قياس قوله بالاستحسان الذي ذكره، فلذلك قال البخاري بعده فرقوا بين كل ذي رحم محرم وغيره بغير كتاب ولا سنة " يعني أن مذهب الحنفية في ذي رحم بخلاف مذهبهم في الأجنبي، فلو قيل لرجل: لتقتلن هذا الرجل الأجنبي أو لتبيعن كذا ففعل لينجيه من القتل لزمه البيع، ولو قيل له ذلك في ذي رحمه لم يلزمه ما عقده. والحاصل أن أصل أبي حنيفة اللزوم في الجميع قياسا لكن يستثنى من له منه رحم استحسانا، ورأى البخاري أن لا فرق بين القريب والأجنبي في ذلك لحديث: "المسلم أخو المسلم: "فإن المراد به أخوة الإسلام لا النسب، ولذلك استشهد بقول إبراهيم "هذه أختي" والمراد أخوة الإسلام، وإلا فنكاح الأخت كان حراما في ملة إبراهيم، وهذه الأخوة توجب حماية أخيه المسلم والدفع عنه فلا لزمه ما عقده ولا إثم عليه فيما يأكل ويشرب للدفع عنه، فهو كما لو قيل له لتفعلن كذا أو لنقتلنك يسعه إتيانها ولا يلزمه الحكم ولا يقع عليه الإثم. وقال الكرماني: يحتمل أن يقرر البحث المذكور بأن يقال إنه ليس بمضطر لأنه مخير في أمور متعددة والتخيير ينافي الإكراه، فكما لا إكراه في الصورة الأولى

(12/324)


وهي الأكل والشرب والقتل كذلك لا إكراه في الصورة الثانية وهو البيع والهبة والعتق، فحيث قالوا ببطلان البيع استحسانا فقد ناقضوا إذ يلزم منه القول بالإكراه وقد قالوا بعدم الإكراه. قلت: ولقائل أن يقول بعدم الإكراه أصلا، وإنما أثبتوه بطريق القياس في الجميع لكن استحسنوا في أمر المحرم لمعنى قام به، وقوله في أول التقرير " في أمور متعددة " ليس كذلك بل الذي يظهر أن " أو " فيه للتنويع لا للتخيير وأنها أمثلة لا مثال واحد ثم قال الكرماني: وقوله أي البخاري أن تفريقهم بين المحرم وغيره شيء قالوه لا يدل عليه كتاب ولا سنة أي ليس فيهما ما يدل على الفرق بينهما في باب الإكراه، وهو أيضا كلام استحساني، قال: وأمثال هذه المباحث غير مناسبة لوضع هذا الكتاب إذ هو خارج عن فنه. قلت: وهو عجب منه لأن كتاب البخاري كما تقدم تقريره لم يقصد به إيراد الأحاديث نقلا صرفا بل ظاهر وضعه أنه يجعل كتابا جامعا للأحكام وغيرها، وفقهه في تراجمه، فلذلك يورد فيه كثيرا الاختلاف العالي ويرجح أحيانا ويسكت أحيانا توقفا عن الجزم بالحكم ويورد كثيرا من التفاسير ويشير فيه إلى كثير من العلل وترجيح بعض الطرق عل بعض، فإذا أورد فيه شيئا من المباحث لم تستغرب، وأما رمزه إلى أن طريقة البحث ليست من فنه. فتلك شكاة ظاهر عنك عارها، فللبخاري أسوة بالأئمة الذين سلك طريقهم كالشافعي وأبي ثور والحميدي وأحمد وإسحاق، فهذه طريقتهم في البحث وهي محصلة للمقصود وإن لم يعرجوا على اصطلاح المتأخرين. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قال إبراهيم لامرأته" في رواية الكشميهني: "لسارة". قوله: "هذه أختي وذلك في الله" هذا طرف من قصة إبراهيم وسارة مع الجبار، وقد وصله في أحاديث الأنبياء وليس فيه: "وذلك في الله " بل تقدم هناك ثنتان منهما في ذات الله قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ومفهومه أن الثالثة وهي قوله: "هذه أختي " ليست في ذات الله، فعلى هذا فقوله: "وذلك في الله " من كلام البخاري ولا مخالفة بينه وبين مفهوم الحديث المذكور، لأن المراد أنهما من جهة محض الأمر الإلهي بخلاف الثالثة فإن فيها شائبة نفع وحظ له، ولا ينفي أن يكون في الله أي من أجل توصله بذلك إلى السلامة مما أراده الجبار منها أو منه. قوله: "وقال النخعي: إذا كان المستحلف ظالما فنية الحالف، وإن كان مظلوما فنية المستحلف" وصله محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عنه بلفظ: "إذا استحلف الرجل وهو مظلوم فاليمين على ما نوى وعلى ما ورى، وإذا كان ظالما فاليمين على نية من استحلفه، ووصله ابن أبي شيبة من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي بلفظ: "إذا كان الحالف مظلوما فله أن يوري، وإن كان ظالما فليس له أن يوري" قال ابن بطال: قول النخعي يدل على أن النية عنده نية المظلوم أبدا. وإلى مثله ذهب مالك والجمهور، وعند أبي حنيفة النية نية الحالف أبدا. قلت: ومذهب الشافعي أن الحلف إن كان عند الحاكم فالنية نية الحاكم وهي راجعة إلى نية صاحب الحق، وإن كان في غير الحكم فالنية نية الحالف. قال ابن بطال: ويتصور كون المستحلف مظلوما أن يكون له حق في قبل رجل فيجحده ولا بينه له فيستحلفه فتكون النية نيته لا الحالف فلا تنفعه في ذلك التورية. ثم ذكر البخاري حديث ابن عمر مرفوعا: "المسلم أخو المسلم: "قد تقدم من هذا الوجه بأتم من هذا السياق في كتاب المظالم مشروحا. قوله: "حدثني محمد بن عبد الرحيم" هو البزاز بمعجمتين البغدادي الملقب صاعقة وهو من طبقة البخاري في أكثر شيوخه، وسعيد بن سليمان من شيوخ البخاري فقد روى عنه بغير واسطة في مواضع أقربها في "باب من اختار الضرب" وقد أخرج البخاري حديث الباب في كتاب المظالم عن عثمان بن أبي شيبة عن هشيم

(12/325)


فنزل فيه هنا درجتين لأن سياقه هنا أتم ولمغايرة الإسناد. قوله: "فقال رجل" لم أقف على اسمه، ووقع في رواية عثمان " قالوا". قوله: "آنصره مظلوما" بالمد على الاستفهام وهو استفهام تقرير ويجوز ترك المد. قوله: "أفرأيت" أي أخبرني قال الكرماني: في هذه الصيغة مجازان: إطلاق الرؤية وإرادة الإخبار، والخبر وإرادة الأمر. قوله: "إذا كان ظالما" أي كيف أنصره على ظلمه. قوله: "تحجزه" بمهملة ثم جيم ثم زاي للأكثر، ولبعضهم بالبراء بدل الزاي وكلاهما بمعنى المنع. وفي رواية عثمان تأخذ فوق يده "وهو كناية عن المنع، وتقدم بيان اختلاف ألفاظه هناك، ومنها أن في رواية عائشة " قال إن كان مظلوما فخذ له بحقه، وإن كان ظالما فخذ له من نفسه" أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب أدب الحكماء.
"خاتمة": اشتمل كتاب الإكراه من الأحاديث المرفوعة على خمسة عشر حديثا. المعلق منها ثلاثة وسائرها موصول، وهي مكررة كلها فيما مضى، وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم تسعة آثار. والله أعلم.

(12/326)


كتاب الحيل
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
90- كِتَاب الْحِيَلِ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الحيل" جمع حيلة وهي ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي. وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها، فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة. ووقع الخلاف بين الأئمة في القسم الأول: هل يصح مطلقا وينفذ ظاهرا وباطنا، أو يبطل مطلقا، أو يصح مع الإثم؟ ولمن أجازها مطلقا أو أبطلها مطلقا أدلة كثيرة، فمن الأول قوله تعالى :{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} وقد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم في حق الضعيف الذي زنى، وهو من حديث أبي أمامة بن سهل في السنن، ومنه قوله تعالى :{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء فإن فيه تخليصا من الحنث، وكذلك الشروط كلها فإن فيها سلامة من الوقوع في الحرج، ومنه حديث أبي هريرة وأبي سعيد في قصة بلال " بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا " ومن الثاني قصة أصحاب السبت وحديث: "حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها " وحديث النهي عن النجش، وحديث لعن المحلل والمحلل له، والأصل في اختلاف العلماء في ذلك اختلافهم: هل المعتبر في صيغ العقود ألفاظها أو معانيها؟ فمن قال بالأول أجاز الحيل. ثم اختلفوا: فمنهم من جعلها تنفذ ظاهرا وباطنا في جميع الصور أو في بعضها ومنهم من قال تنفذ ظاهرا لا باطنا، ومن قال بالثاني أبطلها ولم يجز منها إلا ما وافق فيه اللفظ المعنى الذي تدل عليه القرائن الحالية، وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية لكون أبي يوسف صنف فيها كتابا، لكن المعروف عنه وعن كثير من أئمتهم تقييد أعمالها بقصد الحق، قال صاحب المحيط أصل الحيل قوله تعالى :{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} الآية، وضابطها إن كانت للفرار من الحرام والتباعد من الإثم فحسن، وإن كانت لإبطال حق مسلم فلا بل هي إثم وعدوان.

(12/326)


1- باب: فِي تَرْكِ الْحِيَلِ وَأَنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فِي الأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا
6953- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْطُبُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"
قوله: "باب ترك الحيل" قال ابن المنير: أدخل البخاري الترك في الترجمة لئلا يتوهم أي من الترجمة الأولى إجازة الحيل. قال: وهو بخلاف ما ذكره في "باب بيعة الصغير" فإنه أورد فيه أنه لم يبايعه بل دعا له ومسح برأسه فلم يقرب باب ترك بيعة الصغير وذلك أن بيعته لو وقعت لم يكن فيها إنكار، بخلاف الحيل فإن في القول بجوازها عموما إبطال حقوق وجبت وإثبات حقوق لا تجب فتحرى فيها لذلك. قلت: وإنما أطلق أولا للإشارة إلى أن من الحيل ما يشرع فلا يترك مطلقا. قوله: "وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها" في رواية الكشميهني: "وغيره: "وجعل الضمير مذكرا على إرادة اليمين المستفاد من صيغة الجمع، وقوله في الأيمان وغيرها من تفقه المصنف لا من الحديث، قال ابن المنير: اتسع البخاري في الاستنباط والمشهور عند النظار حمل الحديث على العبادات فحمله البخاري عليها وعلى المعاملات، وتبع مالكا في القول بسد الذرائع واعتبار المقاصد، فلو فسد اللفظ وصح القصد ألغي اللفظ وأعمل القصد تصحيحا وإبطالا، قال: والاستدلال بهذا الحديث على سد الذرائع وإبطال التحيل من أقوى الأدلة، ووجه التعميم أن المحذوف المقدر الاعتبار، فمعنى الاعتبار في العبادات إجزاؤها وبيان مراتبها، وفي المعاملات وكذلك الأيمان الرد إلى القصد، وقد تقدم في " باب ما جاء أن الأعمال بالنية " من كتاب الإيمان في أوائل الكتاب تصريح البخاري بدخول الأحكام كلها في هذا الحديث، ونقلت هناك كلام ابن المنير في ضابط ذلك. قوله: "حدثنا محمد بن إبراهيم" هو التيمي، وقد صرح بتحديث علقمة شيخه في هذا الحديث له في أول بدء الوحي " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا أيها الناس " وفيه إشعار بأنه خطب به، وقوله: "يخطب" تقدم في بدء الوحي أن عمر قاله على المنبر. قوله: "إنما الأعمال بالنية" تقدم في بدء الوحي بلفظ: "بالنيات " وفي كتاب الإيمان بلفظ: "الأعمال بالنية " كما هنا مع حذف "إنما" من أوله. قوله: "وإنما لامرئ ما نوى" تقدم في بدء الوحي بلفظ : "وإنما لكل امرئ ما نوى " وهو الذي علقه في أول الباب وتقدم البحث في أن مفهومه أن من لم ينو شيئا لم يحصل له وقد أورد عليه من نوى الحج عن غيره وكان لم يحج فإنه لم يصح عنه، ويسقط عنه الفرض بذلك عند الشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق، وقال الباقون: يصح عن غيره ولا ينقلب عن نفسه لأنه لم ينوه، واحتج للأول بحديث ابن عباس في قصة شبرمة، فعند أبي داود " حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة " وعند ابن ماجه: "فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة " وسنده صحيح وأجابوا أن الحج خرج عن بقية العبادات ولذلك يمضي فاسده دون غيره، وقد وافق أبو جعفر الطبري على ذلك ولكن حمله على الجاهل بالحكم وأنه إذا علم بأثناء الحال وجب عليه أن ينويه عن نفسه فحينئذ ينقلب وإلا فلا يصح عنه، ويستثنى من عموم الخبر ما يحصل من جهة الفضل الإلهي بالقصد من غير عمل كالأجر

(12/327)


الحاصل للمريض بسبب مرضه على الصبر لثبوت الأخبار بذلك خلافا لمن قال: إنما يقع الأجر على الصبر وحصول الأجر بالوعد الصادق لمن قصد العبادة فعاقه عنها عائق بغير إرادته، وكمن له أوراد فعجز عن فعلها لمرض مثلا فإنه يكتب له أجرها كمن عملها. ومما يستثنى على خلف ما إذا نوى صلاة فرض ثم ظهر له ما يقتضي بطلانها فرضا هل تنقلب نفلا؟ وهذا عند العذر، فأما لو أحرم بالظهر مثلا قبل الزوال فلا يصح فرضا ولا ينقلب نفلا إذا تعمد ذلك. ومما اختلف فيه هل يثاب المسبوق ثواب الجماعة على ما إذا أدرك ركعة أو يعم، وهل يثاب من نوى صيام نفل في أثناء النهار على جميعه أو من حين نوى؟ وهل تكمل الجمعة إذا خرج وقتها في أول الركعة الثانية مثلا جمعة أو ظهرا وهل تنقلب بنفسها أو تحتاج إلى تجديد نية؟ والمسبوق إذا أدرك الاعتدال الثاني مثلا هل ينوي الجمعة أو الظهر؟ ومن أحرم بالحج في غير أشهره هل ينقلب عمرة أو لا؟ واستدل به من قال بإبطال الحيل ومن قال بإعمالها، لأن مرجع كل من الفريقين إلى نية العامل، وسيأتي في أثناء الأبواب التي ذكرها المصنف إشارة إلى بيان ذلك، والضابط ما تقدمت الإشارة إليه إن كان فيه خلاص مظلوم مثلا فهو مطلوب، وإن كان فيه فوات حق فهو مذموم ونص الشافعي على كراهة تعاطي الحيل في تفويت الحقوق فقال بعض أصحابه: هي كراهة تنزيه، وقال كثير من محققيهم كالغزالي: هي كراهة تحريم ويأثم بقصده، ويدل عليه قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى " فمن نوى بعقد البيع الربا وقع في الربا ولا يخلصه من الإثم صورة البيع، ومن نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا ودخل في الوعيد على ذلك باللعن ولا يخلصه من ذلك صورة النكاح، وكل شيء قصد به تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله كان إثما. ولا فرق في حصول الإثم في التحيل على الفعل المحرم بين الفعل الموضوع له والفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له، واستدل به على أنه لا تصح العبادة من الكافر ولا المجنون لأنهما ليسا من أهل العبادة وعلى سقوط القود في شبه العمد لأنه لم يقصد القتل، وعلى عدم مؤاخذة المخطئ والناسي والمكره في الطلاق والعتاق ونحوهما، وقد تقدم ذلك في أبوابه، واستدل به لمن قال كالمالكية: اليمين على نية المحلوف له ولا تنفعه التورية، وعكسه غيرهم، وقد تقدم بيانه في الأيمان، واستدلوا بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: "اليمين على نية المستحلف " وفي لفظ له " يمينك على ما يصدقك به صاحبك " وحمله الشافعية على ما إذا كان المستحلف الحاكم. واستدل به لمالك على القول بسد الذرائع واعتبار المقاصد بالقرائن كما تقدمت الإشارة إليه، وضبط بعضهم ذلك لأن الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلم ثلاثة أقسام أحدها أن تظهر المطابقة إما يقينا وإما ظنا غالبا، والثاني أن يظهر أن المتكلم لم يرد معناه إما يقينا وإما ظنا، والثالث أن يظهر في معناه ويقع التردد في إرادة غيره وعدمها على حد سواء، فإذا ظهر قصد المتكلم لمعنى ما تكلم به أو لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه على ظاهره، وإذا ظهرت إرادته بخلاف ذلك فهل يستمر الحكم على الظاهر ولا عبرة بخلاف ذلك أو يعمل بما ظهر من إرادته؟ فاستدل للأول بأن البيع لو كان يفسد بأن يقال هذه الصيغة فيها ذريعة أبي الربا ونية المتعاقدين فيها فاسدة لكان إفساد البيع بما يتحقق تحريمه أولى أن يفسد به البيع من هذا الظن، كما لو نوى رجل بشراء سيف أن يقتل به رجلا مسلما بغير حق فإن العقد صحيح وإن كانت نيته فاسدة جزما، فلم يستلزم تحريم القتل بطلان البيع، وإن كان العقد لا يفسد بمثل هذا فلا يفسد بالظن والتوهم بطريق الأولى، واستدل للثاني بأن النية تؤثر في الفعل فيصير بها تارة حراما وتارة حلالا كما يصير العقد بها تارة صحيحا وتارة فاسدا، كالذبح مثلا فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل ويحرم إذا ذبح لغير الله والصورة

(12/328)


واحدة، والرجل يشتري الجارية لوكيله فتحرم عليه ولنفسه فتحل له وصورة العقد واحدة، وكذلك صورة القرض في الذمة وبيع النقد بمثله إلى أجل صورتهما واحدة الأول قربة صحيحة والثاني معصية باطلة، وفي الجملة فلا يلزم من صحة العقد في الظاهر رفع الحرج عمن يتعاطى الحيلة الباطلة في الباطن والله أعلم. وقد نقل النسفي الحنفي في "الكافي" عن محمد بن الحسن قال: ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق.

(12/329)


2- باب: فِي الصَّلاَةِ
6954- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ"
قوله: "باب في الصلاة" أي دخول الحيلة فيها، ذكر فيه حديث أبي هريرة لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، قال ابن بطال: فيه رد على من قال إن من أحدث في القعدة الأخيرة أن صلاته صحيحة لأنه أتى بما يضادها. وتعقب بأن الحدث في أثنائها مفسد لها فهو كالجماع في الحج لو طرأ في خلاله لأفسده، وكذا في آخره. وقال ابن حزم في أجوبة له عن مواضع من صحيح البخاري: مطابقة الحديث للترجمة أنه لا يخلو أن يكون المرء طاهرا متيقنا للطهارة أو محدثا متيقنا للحدث وعلى الحالين ليس لأحد أن يدخل في الحقيقة حيلة، فإن الحقيقة إثبات الشيء صدقا أو نفيه صدقا فما كان ثابتا حقيقة فنافيه بحيلة مبطل وما كان منتفيا فمثبته بالحيلة مبطل وقال ابن المنير أشار البخاري بهذه الترجمة إلى الرد على قول من قال بصحة صلاة من أحدث عمدا في أثناء الجلوس الأخير ويكون حدثه كسلامه بأن ذلك من الحيل لتصحيح الصلاة مع الحدث، وتقرير ذلك أن البخاري بني على أن التحلل من الصلاة ركن منها فلا تصح مع الحدث، والقائل بأنها تصح يرى أن التحلل من الصلاة ضدها فتصح مع الحدث، قال: وإذا تقرر ذلك فلا بد من تحقق كون السلام ركنا داخلا في الصلاة لا ضدا لها. وقد استدل من قال بركنيته بمقابلته بالتحريم لحديث: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم " فإذا كان أحد الطرفين ركنا كان الطرف الآخر ركنا ويؤيده أن السلام من جنس العبادات لأنه ذكر الله تعالى ودعاء لعباده فلا يقوم الحدث الفاحش مقام الذكر الحسن، وانفصل الحنفية بأن السلام واجب لا ركن، فإن سبقه الحدث بعد التشهد توضأ وسلم وإن تعمده فالعمد قاطع وإذا وجد القطع انتهت الصلاة لكون السلام ليس ركنا وقال ابن بطال: فيه رد على أبي حنيفة في قوله إن المحدث في صلاته يتوضأ ويبني، ووافقه ابن أبي ليلى. وقال مالك والشافعي: يستأنف الصلاة واحتجا بهذا الحديث، وفي بعض ألفاظه "لا صلاة إلا بطهور" فلا يخلو حال انصرافه أن يكون مصليا أو غير مصل فإن قالوا هو مصل رد لقوله: "لا صلاة إلا بطهور" ومن جهة النظر أن كل حدث منع من ابتداء الصلاة منع من البناء عليها بدليل أنه لو سبقه المني لاستأنف اتفاقا. قلت: وللشافعي قول وافق أبا حنيفة. وقال الكرماني: وجه أخذه من الترجمة أنهم حكموا بصحة الصلاة مع الحدث حيث قالوا يتوضأ ويبني، وحيث حكموا بصحتها مع عدم النية في الوضوء لعلة أن الوضوء ليس بعبادة. ونقل ابن التين عن الداودي ما حاصله: أن مناسبة الحديث للترجمة أنه أراد أن من أحدث وصلى ولم يتوضأ وهو يعلم أنه يخادع الناس بصلاته فهو مبطل كما خدع مهاجر أم قيس بهجرته وخادع الله وهو يعلم أنه مطلع على ضميره. قلت: وقصة مهاجر أم قيس إنما ذكرت في حديث: "الأعمال بالنيات" وهو في

(12/329)


الباب الذي قبل هذا، لا في هذا الباب، وزعم بعض المتأخرين أن البخاري أراد الرد على من زعم أن الجنازة إذا حضرت وخاف فوتها أنه يتيمم، وكذا من زعم أنه إذا قام لصلاة الليل فبعد عنه الماء وخشي إذا طلبه أن يفوته قيام الليل أنه تباح له الصلاة بالتيمم، ولا يخفي تكلفه.

(12/330)


3- باب: فِي الزَّكَاةِ، وَأَنْ لاَ يُفَرَّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلاَ يُجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ
6955- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ "أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ"
6956- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا. فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ؟ قَالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا. قَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ. قَالَ وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لاَ أَتَطَوَّعُ شَيْئًا وَلاَ أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ" وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ حِقَّتَانِ، فَإِنْ أَهْلَكَهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ احْتَالَ فِيهَا فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
6957- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ فَيَطْلُبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَنْ يَزَالَ يَطْلُبُهُ حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ فَيُلْقِمَهَا فَاهُ"
6958- وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَا رَبُّ النَّعَمِ لَمْ يُعْطِ حَقَّهَا تُسَلَّطُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَخْبِطُ وَجْهَهُ بِأَخْفَافِهَا". وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي رَجُلٍ لَهُ إِبِلٌ فَخَافَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ فَبَاعَهَا بِإِبِلٍ مِثْلِهَا أَوْ بِغَنَمٍ أَوْ بِبَقَرٍ أَوْ بِدَرَاهِمَ فِرَارًا مِنْ الصَّدَقَةِ بِيَوْمٍ احْتِيَالًا فَلاَ شئَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: إِنْ زَكَّى إِبِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ بِيَوْمٍ أَوْ بِسِتَّةٍ جَازَتْ عَنْهُ
6959- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بن مسعود "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْضِهِ عَنْهَا". وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا بَلَغَتْ الإِبِلُ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ،

(12/330)


فَإِنْ وَهَبَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَاعَهَا فِرَارًا وَاحْتِيَالًا لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إِنْ أَتْلَفَهَا فَمَاتَ فَلاَ شَيْءَ فِي مَالِهِ
قوله: "باب في الزكاة" أي ترك الحيل في إسقاطها. قوله: "وأن لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة" هو لفظ الحديث الأول في الباب، وهو طرف من حديث طويل أورده في الزكاة بهذا السند تاما ومفرقا وتقدم شرحه هناك. الحديث الثاني حديث طلحة بن عبيد الله "أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس". الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان أول الصحيح. قوله: "وقال بعض الناس في عشرين ومائة بعير حقتان فإن أهلكها متعمدا أو وهبها أو احتال فيها فرارا من الزكاة فلا شيء عليه" قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن للمرء قبل الحول التصرف في ماله بالبيع والهبة والذبح وإذا لم ينو الفرار من الصدقة وأجمعوا على أنه إذا حال الحول أنه لا يحل التحيل بأن يفرق بين مجتمع أو يجمع بين متفرق، ثم اختلفوا فقال مالك: من فوت من ماله شيئا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه لزمته الزكاة عند الحول لقوله صلى الله عليه وسلم: "خشية الصدقة" وقال أبو حنيفة إن نوى بتفويته الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا تضره النية لأن ذلك لا يلزمه إلا بتمام الحول ولا يتوجه إليه معنى قوله: "خشية الصدقة " إلا حينئذ، قال: وقال المهلب قصد البخاري أن كل حيلة يتحيل بها أحد في إسقاط الزكاة فإن إثم ذلك عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع من جمع الغنم أو تفرقتها خشية الصدقة فهم منه هذا المعنى، وفهم من حديث طلحة في قوله: "أفلح إن صدق" أن من رام أن ينقص شيئا من فرائض الله بحيلة يحتالها أنه لا يفلح، قال: وما أجاب به الفقهاء من تصرف ذي المال في ماله قرب حلول الحول ثم يريد بذلك الفرار من الزكاة ومن نوى ذلك فالإثم عنه غير ساقط وهو كمن فر عن صيام رمضان قبل رؤية الهلال بيوم واستعمل سفرا لا يحتاج إليه ليفطر فالوعيد إليه يتوجه، وقال بعض الحنفية: هذا الذي ذكره البخاري ينسب لأبي يوسف وقال محمد: يكره لما فيه من القصد إلى إبطال حق الفقراء بعد وجود سببه وهو النصاب، واحتج أبو يوسف بأنه امتناع من الوجوب لا إسقاط للواجب، واستدل بأنه لو كان له مائتا درهم فلما كان قبل الحول بيوم تصدق بدرهم منها لم يكره، ولو نوى بتصدقه بالدرهم أن يتم الحول وليس في ملكه نصاب فلا يلزمه الزكاة، وتعقب بأن من أصل أبي يوسف أن الحرمة تجامع الفرض كطواف المحدث أو العاري، فكيف لا يكون القصد مكروها في هذه الحالة؟ وقوله امتناع من الوجوب معترض، فإن الوجوب قد تقرر من أول الحول ولذلك جاز التعجيل قبل الحول، وقد اتفقوا على أن الاحتيال لإسقاط الشفعة بعد وجوبها مكروه وإنما الخلاف فيما قبل الوجوب، فقياسه أن يكون في الزكاة مكروها أيضا والأشبه أن يكون أبو يوسف رجع عن ذلك فإنه قال في "كتاب الخراج" بعد إيراد حديث: "لا يفرق بين مجتمع" ولا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر منع الصدقة ولا إخراجها عن ملكه لملك غيره ليفرقها بذلك فتبطل الصدقة عنها بأن يصير لكل واحد منهما ما لا تجب فيه الزكاة، ولا يحتال في إبطال الصدقة بوجه انتهى. ونقل أبو حفص الكبير راوي " كتاب الحيل " عن محمد بن الحسن أن محمدا قال: ما احتال به المسلم حتى يتخلص به من الحرام أو يتوصل به إلى الحلال فلا بأس به، وما احتال به حتى يبطل حقا أو يحق باطلا أو ليدخل به شبهة في حق فهو مكروه والمكروه عنده إلى الحرام أقرب. وذكر الشافعي أنه ناظر

(12/331)


محمدا في امرأة كرهت زوجها وامتنع من فراقها فمكنت ابن زوجها من نفسها فإنها تحرم عندهم على زوجها بناء على قولهم إن حرمة المصاهرة تثبت بالزنا، قال فقلت لمحمد: الزنا لا يحرم الحلال لأنه ضده ولا يقاس شيء على ضده فقال: يجمعهما الجماع، فقلت: الفرق بينهما أن الأول حمدت به وحصنت فرجها والآخر ذمت به ووجب عليها الرجم، ويلزم أن المطلقة ثلاثا إذا زنت حلت لزوجها، ومن كان عنده أربع نسوة فزنى بخامسة أن تحرم عليه إحدى الأربع إلى آخر المناظرة. وقد أشكل قول البخاري في الترجمة "فإن أهلكها" بأن الإهلاك ليس من الحيل بل هو من إضاعة المال، فإن الحيلة إنما هي لدفع ضرر أو جلب منفعة وليس كل واحد منهما موجودا في ذلك، ويظهر لي أنه يتصور بأن يذبح الحقتين مثلا وينتفع بلحمهما فتسقط الزكاة بالحقتين وينتقل إلى ما دونهما. الحديث الثالث، قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه كما جزم به أبو نعيم في المستخرج. قوله: "يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع" المراد بالكنز المال الذي يخبأ من غير أن يؤدي زكاته كما تقدم تقريره في كتاب الزكاة، ووقع هناك في رواية أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "من أعطاه الله مالا فلم يؤد زكاته سئل له يوم القيامة شجاعا أقرع " فذكر نحوه، وبه تظهر مناسبة ذكره في هذا الباب. قوله: "أنا كنزك" هذا زائد في هذه الطريق. قوله: "والله لن يزال" في رواية الكشميهني: "لا" بدل "لن". قوله: "حتى يبسط يده" أي صاحب المال. قوله: "فيلقمها فاه" يحتمل أن يكون فاعل يلقمها الكانز أو الشجاع، ووقع في رواية أبي صالح " فليأخذ بلهزمتيه " أي يأخذ الشجاع يد الكانز بشدقيه وهما اللهزمتان كما أوضحته هناك. قوله: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" هو موصول بالسند المذكور، وهو من نسخة همام عن أبي هريرة، وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق تقدم هذا على الذي قبله. قوله: "إذا ما رب النعم" ما زائدة والرب المالك والنعم بفتحتين الإبل والغنم والبقر، وقيل الإبل والغنم فقط حكاه في المحكم، وقيل الإبل فقط، ويؤيد الأول قوله تعالى :{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً}، ثم فسره بالإبل والبقر والغنم، ويؤيد الثالث اقتصاره هنا على الإخفاف فإنها للإبل خاصة، والمراد بقوله: "حقها" زكاتها وصرح به في حديث أبي ذر كما تقدم في الزكاة أتم منه. قوله: "وقال بعض الناس في رجل له إبل فخاف أن تجب عليه الصدقة فباعها بإبل مثلها أو بغنم أو بقر أو بدراهم فرارا من الصدقة بيوم احتيالا فلا شيء عليه، وهو يقول إن زكى إبله قبل أن يحول الحول بيوم أو سنة جازت عنه" في رواية الكشميهني: "أجزأت عنه " ويعرف، تقرير مذهب الحنفية مما مضى، وقد تأكد المنع بمسألة التعجيل قبل توجيه إلزامهم التناقض أن من أجاز التقديم لم يراع دخول الحول من كل جهة، فإذا كان التقديم على الحول مجزئا فليكن التصرف فيها قبل الحول غير مسقط وأجاب عنهم ابن بطال بأن أبا حنيفة لم يتناقض في ذلك لأنه لا يوجب الزكاة إلا بتمام الحول ويجعل من قدمها كمن قدم دينا مؤجلا قبل أن يحل انتهى، والتناقض لازم لأبي يوسف لأنه يقول إن الحرمة تجامع الفرض كطواف العاري، ولو لم يتقرر الوجوب لم يجز التعجيل قبل الحول. وقد اختلف العلماء فيمن باع إبلا بمثلها في أثناء الحول: فذهب الجمهور إلى أن البناء على حول الأولى لاتحاد الجنس والنصاب، والمأخوذ عن الشافعي قولان واختلفوا في بيعها بغير جنسها فقال الجمهور: يستأنف لاختلاف النصاب، وإذا فعل ذلك فرارا من الزكاة أثم، ولو قلنا يستأنف. وعن أحمد إذا ملكها ستة أشهر ثم باعها بنقد زكى الدراهم عن ستة أشهر من يوم البيع. ونقل شيخنا ابن الملقن عن ابن التين أنه قال: إن البخاري إنما أتى بقوله: "مانع الزكاة" ليدل على أن الفرار من الزكاة

(12/332)


لا يحل فهو مطالب بذلك في الآخرة، قال شيخنا: وهذا لم نره في البخاري. قلت: بل هو فيه بالمعنى في قوله: "إذا ما رب النعم لم يعط حقها " فهذا هو مانع الزكاة. الحديث الرابع حديث ابن عباس قال: "استفتى سعد بن عبادة إلخ " تقدم شرحه قريبا في كتاب الأيمان والنذور، وقال المهلب: فيه حجة على أن الزكاة لا تسقط بالحيلة ولا بالموت، لأن النذر لما لم يسقط بالموت - والزكاة أوكد منه - كانت لازمة لا تسقط بالموت أولى، لأنه لما ألزم الولي بقضاء النذر عن أمه كان قضاء الزكاة التي فرضها الله أشد لزوما. قوله: "وقال بعض الناس: إذا بلغت الإبل عشرين ففيها أربع شياه، فإن وهبها قبل الحول أو باعها فرارا أو احتيالا لإسقاط الزكاة فلا شيء عليه، وكذلك إن أتلفها فمات فلا شيء عليه في ماله" تقدمت المنازعة في صورة الإتلاف قريبا، وأجاب بعض الحنفية بأن المال إنما تجب فيه الزكاة ما دام واجبا في الذمة أو ما يتعلق به من الحقوق، وهذا الذي مات لم يبق في ذمته شيء يجب على ورثته وفاؤه، والكلام إنما هو في حل الحيلة لا في لزوم الزكاة إذا فر. قلت: وحرف المسألة أنه إذا قصد ببيعها الفرار من الزكاة أو بهبتها الحيلة على إسقاط الزكاة ومن قصده أن يسترجعها بعد كما تقدم فهو آثم بهذا القصد لكن هل يؤثر هذا القصد في إبقاء الزكاة في ذمته أو يعمل به مع الإثم؟ هذا مجر الخلاف، قال الكرماني: ذكر البخاري في هذا الباب ثلاثة فروع يجمعها حكم واحد وهو أنه إذا زال ملكه عما تجب فيه الزكاة قبل الحول سقطت الزكاة سواء كان لقصد الفرار من الزكاة أم لا، ثم أراد بتفريعها عقب كل حديث التشنيع بأن من أجاز ذلك خالف ثلاثة أحاديث صحيحة انتهى، ومن الحيل في إسقاط الزكاة أن ينوي بعروض التجارة القنية قبل الحول فإذا دخل الحول الآخر استأنف التجارة حتى إذا قرب الحول أبطل التجارة ونوى القنية وهذا يأثم جزما، والذي يقوى أنه لا تسقط الزكاة عنه، والعلم عند الله تعالى.

(12/333)


4- باب: الْحِيلَةِ فِي النِّكَاحِ
6960- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الشِّغَارِ. قُلْتُ لِنَافِعٍ: مَا الشِّغَارُ؟ قَالَ: يَنْكِحُ ابْنَةَ الرَّجُلِ وَيُنْكِحُهُ ابْنَتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَيَنْكِحُ أُخْتَ الرَّجُلِ وَيُنْكِحُهُ أُخْتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ" وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ احْتَالَ حَتَّى تَزَوَّجَ عَلَى الشِّغَارِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَقَالَ فِي الْمُتْعَةِ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُتْعَةُ وَالشِّغَارُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ
6961- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ الْحَسَنِ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ ابْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا "أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ يَرَى بِمُتْعَةِ النِّسَاءِ بَأْسًا. فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ" . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ احْتَالَ حَتَّى تَمَتَّعَ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النِّكَاحُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ

(12/333)


قوله: "باب الحيلة في النكاح" ذكر فيه حديث ابن عمر في النهي عن الشغار، وفيه تفسيره عن نافع، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب النكاح وتقرير كون التفسير مرفوعا قال ابن المنير: إدخال البخاري الشغار في باب الحيل مع أن القائل بالجواز يبطل الشغار ويوجب مهر المثل مشكل، ويمكن أن يقال إنه أخذه مما نقل أن العرب كانت تأنف من التلفظ بالنكاح من جانب المرأة فرجعوا إلى التلفظ بالشغار لوجود المساواة التي تدفع الأنفة، فمحا الشرع رسم الجاهلية فحرم الشغار وشدد فيه ما لم يشدد في النكاح الخالي عن ذكر الصداق، فهو صححنا النكاح بلفظ الشغار وأوجبنا مهر المثل أبقينا غرض الجاهلية بهذه الحيلة انتهى، وفيه نظر لأن الذي نقله عن العرب لا أصل له، لأن الشغار في العرب بالنسبة إلى غيره قليل، وقضية ما ذكره أن تكون أنكحتهم كلها كانت شغارا لوجود الأنفة في جميعهم. والذي يظهر لي أن الحيلة في الشغار تتصور في موسر أراد تزويج بنت فقير فامتنع أو اشتط في المهر فخدعه بأن قال له زوجنيها وأنا أزوجك بنتي فرغب الفقير في ذلك لسهولة ذلك عليه فلما وقع العقد على ذلك وقيل له أن العقد يصح ويلزم لكل منهما مهر المثل فإنه يندم إذ لا قدرة له على مهر المثل لبنت الموسر وحصل للموسر مقصوده بالتزويج لسهولة مهر المثل عليه، فإذا أبطل الشغار من أصله بطلت هذه الحيل. قوله: "وقال بعض الناس: إن احتال حتى تزوج على الشغار فهو جائز والشرط باطل" وقال في المتعة: النكاح فاسد والشرط باطل. قلت: وهذا بناء على قاعدة الحنفية أن ما لم يشرع بأصله باطل، وما شرع بأصله دون وصفه فاسد، فالنكاح مشروع بأصله وجعل البضع صداقا وصف فيه فيفسد الصداق ويصح النكاح، بخلاف المتعة فإنها لما ثبت أنها منسوخة صارت غير مشروعة بأصلها. قوله: "وقال بعضهم: المتعة والشغار جائزان والشرط باطل" أي في كل منهما كأنه يشير إلى ما نقل عن زفر أنه أجاز النكاح المؤقت وألغى الوقت لأنه فاسد والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة، وردوا عليه بالفرق المذكور، قال ابن بطال لا يكون البضع صداقا عند أحد من العلماء وإنما قالوا ينعقد النكاح بمهر المثل إذا اجتمعت شروطه والصداق ليس بركن فيه، فهو كما لو عقد بغير صداق ثم ذكر الصداق فصار ذكر البضع كلا ذكر انتهى. وهذا محصل ما قاله أبو زيد وغيره من أئمة الحنفية، وتعقبه ابن السمعاني فقال: ليس الشغار إلا النكاح الذي اختلفنا فيه وقد ثبت النهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه لأن العقد الشرعي إنما يجوز بالشرع وإذا كان منهيا لم يكن مشروعا، ومن جهة المعنى أنه يمنع تمام الإيجاب في البضع للزوج والنكاح لا ينعقد إلا بإيجاب كامل، ووجه قولنا يمنع أن الذي أوجبه للزوج نكاحا هو الذي أوجبه للمرأة صداقا، وإذا لم يحصل كمال الإيجاب لا يصح فإنه جعل عين ما أوجبه للزوج صداقا للمرأة فهو كمن جعل الشيء لشخص في عقد ثم جعل عينه لشخص آخر فإنه لا يكمل الجعل الأول، قال: ولا يعارض هذا ما لو زوج أمته آخر فإن الزوج يملك التمتع بالفرج والسيد يملك رقبة الفرج بدليل أنها لو وطئت بعد بشبهة يكون المهر للسيد، والفرق أن الذي جعله السيد للزوج لم يبقه لنفسه لأنه ملك التمتع بالأمة للزوج وما عدا ذلك باق له، وفي مسألة الشغار جعل ملك التمتع الذي جعله للزوج بعينه صداقا للمرأة الأخرى ورقبة البضع لا تدخل تحت ملك اليمين حتى يصبح جعله صداقا. قوله: "يحيى" هو القطان، وعبيد الله بن عمر هو العمري، ومحمد بن علي هو المعروف بابن الحنفية، وعلي هو ابن أبي طالب. قوله: "قيل له إن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأسا" لم أقف على اسم القائل، وزاد عمرو بن علي الفلاس في روايته لهذا الحديث عن يحيى القطان "فقال له إنك تايه" بمثناة فوقانية وياء

(12/334)


آخر الحروف بوزن فاعل من التيه وهو الحيرة، وإنما وصفه بذلك إشارة إلى أنه تمسك بالمنسوخ وغفل عن الناسخ، وقد تقدم بيان مذهب ابن عباس في ذلك في كتاب النكاح مستوفي. قوله: "وقال بعض الناس: إن احتال حتى تمتع فالنكاح فاسد" أي إن عقد عقد نكاح متعة، والفساد لا يستلزم البطلان لإمكان إصلاحه بإلغاء الشرط فيتحيل في تصحيحه بذلك، كما قال في ربا الفضل إن حذفت منه الزيادة صح البيع. قوله: "وقال بعضهم إلخ" تقدم أنه قول زفر، وقيل إنه لم يجز إلا النكاح المؤقت وألغى الشرط. وأجيب بأن نسخ المتعة ثابت والنكاح المؤقت في معنى المتعة، والاعتبار عندهم في العقود بالمعاني.

(12/335)


5- باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ الِاحْتِيَالِ فِي الْبُيُوعِ وَلاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلاَ
6962- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلاَ"
قوله: "باب ما يكره من الاحتيال في البيوع. ولا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ" ذكر فيه حديث أبي هريرة " لا يمنع إلخ " وإسماعيل شيخه فيه هو ابن أبي أويس، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي في كتاب الشرب، قال المهلب: المراد رجل كان له بئر وحولها كلأ مباح وهو بفتح الكاف واللام مهموز ما يرعى، فأراد الاختصاص به فيمنع فضل ماء بئره أن ترده نعم غيره للشرب وهو لا حاجة به إلى الماء الذي يمنعه وإنما حاجته إلى الكلأ وهو لا يقدر على منعه لكونه غير مملوك له فيمنع الماء فيتوفر له الكلأ لأن النعم لا تستغنى عن الماء بل إذا رعت الكلأ عطشت ويكون ماء غير البئر بعيدا عنها فيرغب صاحبها عن ذلك الكلأ فيتوفر لصاحب البئر بهذه الحيلة. انتهى موضحا. قال: وفيه معنى آخر وهو أنه قد يخص أحد معاني الحديث ويسكت عن البقية لأن ظاهر الحديث اختصاص النهي بما إذا أريد به منع الكلأ فإذا لم يرد به ذلك فلا نهي عن منع الكلأ، والحديث معناه لا يمنع فضل الماء بوجه من الوجوه لأنه إذا لم يمنع بسبب غيره فأحرى أن لا يمنع بسبب نفسه، وفي تسميته فضلا إشارة إلى أنه إذا لم تكن زيادة عن حاجة صاحب البئر جاز لصاحب البئر منعه والله أعلم. وقال ابن المنير وجه مطابقة الترجمة أن الآبار التي في البوادي لمحتفرها أن يختص بما عدا فضلها من الماء، بخلاف الكلأ المباح فلا اختصاص له به، فلو تحيل صاحب البئر فادعى أنه لا فضل في ماء البئر عن حاجته ليتوفر له الكلأ الذي بقربه لأن صاحب الماشية حينئذ يحتاج أن يحولها إلى ماء آخر لأنها لا تستطيع الرعي على الظمأ لدخل في النهي، ثم قال: ولا يلزم من كون دعواه كذبا محضا أن لا يكون في كلامه تحيل على منع المباح فحجته ظاهرة فيما له فيه مقال وهو الماء تحيلا على ما لا حق له فيه ولا حجة وهو الكلأ. قلت: وهذا جواب عن أصل التحيل لا عن خصوص التحيل في البيع، ومن ثم قال الكرماني: هو من قبيل ما ترجم به وبيض له فلم يذكر فيه حديثا، يريد أنه ترجم بالتحيل بالبيع وعطف عليه ولا يمنع فضل الماء، وذكر الحديث المتعلق بالثاني دون الأول، لكن لا يدفع هذا القدر السؤال عن حكمة إيراد منع فضل الماء في ترك الحيل. ثم قال الكرماني: يمكن أن يكون المنع أعم من أن يكون بطريق عدم البيع أو بغيره انتهى. ويظهر أن المناسبة بينهما ما أشار إليه ابن المنير لكن تمامه أن يقال: إن صاحب البئر يدعي أنه لا فضل في ماء البئر ليحتاج من احتاج إلى الكلأ أن يبتاع منه ماء بئره ليسقى ماشيته، فيظهر

(12/335)


حينئذ أنه تحيل بالجحد على حصول البيع ليتم مراده في أخذ ثمن ماء البئر وفي الكلأ عليه، وأما ابن بطال فأدخل في هذه الترجمة حديث النهي عن النجش، فلو كان كذلك لبطل الاعتراض، لكن ترجمة النجش موجودة في جميع الروايات بين الحديثين.

(12/336)


6- باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَاجُشِ
6963- حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن نافع "عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش"
قوله: "باب ما يكره من التناجش" أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث المذكور في الباب باللفظ: "نهى عن النجش " من حديث أبي هريرة بلفظ: "لا تناجشوا" وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب البيوع، المراد بالكراهة في الترجمة كراهة التحريم.

(12/336)


7- باب: مَا يُنْهَى مِنْ الْخِدَاعِ فِي الْبُيُوعِ
وَقَالَ أَيُّوبُ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ آدَمِيًّا، لَوْ أَتَوْا الأَمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ
6964- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ"
قوله: "باب ما ينهى من الخداع" في رواية الكشميهني: "عن الخداع " ويقال له الخداع بالفتح والكسر ورجل خادع وفي المبالغة خدوع وخداع. قوله: "وقال أيوب" هو السختياني "يخادعون الله كأنما يخادعون آدميا لو أتوا الأمر عيابا كان أهون علي" وصله وكيع في مصنفه عن سفيان بن عيينة عن أيوب وهو السختياني قال الكرماني: قول "عيابا" أي لو أعلنوا بأخذ الزائد على الثمن معاينة بلا تدليس لكان أسهل لأنه ما يجعل آلة للخداع انتهى. ومن ثم كان سالك المكر والخديعة حتى يفعل المعصية أبغض عند الناس ممن يتظاهر بها وفي قلوبهم أوضع وهم عنه أشد نفرة، وحديث ابن عمر "إذا بايعت فقل لا خلابة" بكسر المعجمة وتخفيف اللام ثم موحدة، تقدم شرحه مستوفي في كتاب البيوع. قال الملهب: معنى قوله لا خلابة لا تخلبوني أي لا تخدعوني فإن ذلك لا يحل. قلت: والذي يظهر أنه وارد مورد الشرط أي إن ظهر في العقد خداع فهو غير صحيح، كأنه قال بشرط أن لا يكون فيه خديعة أو قال لا تلزمني خديعتك: قال الملهب: ولا يدخل في الخداع المحرم الثناء على السلعة والإطناب في مدحها فإنه متجاوز عنه ولا ينتقض به البيع. وقال ابن القيم في الإعلام: أحدث بعض المتأخرين حيلا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة، ومن عرف سيرة الشافعي وفضله علم أنه لم يكن يأمر بفعل الخيل التي تبنى عليا لخداع وإن كان يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد إذا خالف لفظه، فحاشاه أن يبيح للناس المكر والخديعة، فإن الفرق بين إجراء العقد على ظاهره فلا يعتبر القصد في العقد وبين تجويز عقد قد علم بناؤه على المكر مع العلم بأن باطنه بخلاف ظاهره، ومن نسب حل الثاني إلى الشافعي فهو خصمه عند الله فإن الذي جوزه بمنزلة الحاكم يجري

(12/336)


8- باب مَا يُنْهَى مِنْ الِاحْتِيَالِ لِلْوَلِيِّ فِي الْيَتِيمَةِ الْمَرْغُوبَةِ وَأَنْ لاَ يُكَمِّلَ لَهَا صَدَاقَهَا
6965- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ كَانَ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ أَنَّهُ "سَأَلَ عَائِشَةَ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قَالَتْ: هِيَ الْيَتِيمَةُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ ثُمَّ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قوله: "باب ما ينهى عن الاحتيال للولي في اليتيمة المرغوبة وأن لا يكمل لها صداقها" ذكر فيه حديث عائشة في تفسير قوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ولم يسقه بتمامه وقد تقدم بهذا السند في النكاح تاما، قال ابن بطال: فيه أنه لا يجوز للولي أن يتزوج يتيمة بأقل من صداقها ولا أن يعطيها من العروض في صداقها مالا يفي بقيمة صداق مثلها واختلف في سبب نزول الآية المذكورة كما تقدم عند شرح الحديث المذكور في تفسير سورة النساء. وفي قوله: {فِي الْيَتَامَى} حذف تقديره في نكاح اليتامى، وقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أي من سواهن، قال القاضي أبو بكر بن الطيب: معنى الآية وإن خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى الأطفال اللاتي لا أولياء لهن يطالبونكم بحقوقهن ولا تأمنوا من ترك القيام بحقوقهن لعجزهن عن ذلك فتزوجوا من النساء القادرات على تدبير أمورهن أو من لهن أولياء يمنعونكم من الحيف عليهن، وقوله: "ثم استفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: يستفتونك في النساء " فذكر الحديث، كذا في الأصل وقد تقدم سياقه.

(12/337)


9- باب إِذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَزَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ فَقُضِيَ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ الْمَيِّتَةِ، ثُمَّ وَجَدَهَا صَاحِبُهَا فَهِيَ لَهُ وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ وَلاَ تَكُونُ الْقِيمَةُ ثَمَنًا . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْجَارِيَةُ لِلْغَاصِبِ لِأَخْذِهِ الْقِيمَةَ منه. وَفِي هَذَا احْتِيَالٌ لِمَنْ اشْتَهَى جَارِيَةَ رَجُلٍ لاَ يَبِيعُهَا فَغَصَبَهَا وَاعْتَلَّ بِأَنَّهَا مَاتَتْ حَتَّى يَأْخُذَ رَبُّهَا قِيمَتَهَا فَيَطِيبُ لِلْغَاصِبِ جَارِيَةَ غَيْرِهِ. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"

(12/337)


باب إنما أنا بشر
...
10- باب 6967- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ ابنةِ أُمِّ سَلَمَةَ "عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ"
قوله: "باب" كذا للأكثر بغير ترجمة "وحذفه ابن بطال والنسفي والإسماعيلي، وأضاف ابن بطال حديث أم سلمة للباب الذي قبله، وتعلقه به ظاهر جدا لدلالته على أن حكم الحاكم لا يحل ما حرمه الله ورسوله ولنهيه عن أخذه إذا كان يعلم أنه في نفس الأمر لغريمه، وعلى الأول هو كالفصل من الباب الذي قبله وإنما أفرده لأنه يشمل الحكم المذكور وغيره، وسيأتي شرحه مستوفي في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. وقوله: "سفيان" هو الثوري، وقوله: "عن هشام" هو ابن عروة، ووقع في رواية أبي داود عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه: "حدثنا سفيان حدثنا هشام " وقوله عن عروة وقع في رواية أبي داود " عن أبيه " وقوله عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة هي أمها، ووقع في شرح ابن بطال حديث زينب فأوهم أنه من مسندها على ما جرت به عادته من الاقتصار على صحابي الحديث. قول "إنما أنا بشر" أي كواحد من البشر في عدم علم الغيب، وقوله: "ولعل" هي هنا بمعنى عسى، وقوله: "ألحن " تقدم في المظالم بلفظ: "أبلغ " وهو بمعناه لأنه من لحن بمعنى فطن وزنه ومعناه، والمراد أنه إذا كان أفطن كان قادرا على أن يكون أبلغ في حجته من الآخر. وقوله: "على نحو مما أسمع" في رواية الكشميهني: "ما أسمع" وهي موصولة. وقوله: "من أخيه" أي من حق أخيه، وثبت كذلك في الطريق الآتي في الأحكام، وقوله: "فلا يأخذ" كذا للأكثر بحذف المفعول وللكشميهني: "فلا يأخذه" وقوله: "فإنما أقطع له قطعة من النار " أي إن أخذها مع علمه بأنها حرام عليه دخل النار.

(12/339)


11- باب: فِي النِّكَاحِ
6968- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَلاَ الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: إِذَا سَكَتَتْ". وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ لَمْ تُسْتَأْذَنْ الْبِكْرُ وَلَمْ تَزَوَّجْ فَاحْتَالَ رَجُلٌ فَأَقَامَ شَاهِدَيْ زُورٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فَأَثْبَتَ الْقَاضِي نِكَاحَهَا وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاطِلَةٌ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَطَأَهَا وَهُوَ تَزْوِيجٌ صَحِيحٌ
6969- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ "عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ وَلَدِ

(12/339)


باب ما يكره من احتيال المرأة مع الزوج و الضرائر
...
12- باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ احْتِيَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ الزَّوْجِ وَالضَّرَائِرِ وَمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ
6972- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَيُحِبُّ الْعَسَلَ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ أَجَازَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ

(12/342)


فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَرْبَةً. فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ. لَهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ وقُلْتُ لها: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَقُولِي لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: لاَ. فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، وَسَأَقُولُ ذَلِكِ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ قُلْتُ - تَقُولُ سَوْدَةُ - وَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِئَهُ بِالَّذِي قُلْتِ لِي وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ له: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: لاَ. قُلْتُ فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ قُلْتُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَدَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: لاَ حَاجَةَ لِي بِهِ. قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ. قَالَتْ: قُلْتُ لَهَا اسْكُتِي"
قوله: "باب ما يكره من احتيال المرأة مع الزوج والضرائر وما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك" قال ابن التين معنى الترجمة ظاهر. إلا أنه لم يبين ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وهو قوله تعالى :{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}. قلت: وقد ذكرت في التفسير الخلاف في المراد بذلك، وأن الذي في الصحيح هو العسل، وهو الذي وقع في قصة زينب بنت جحش، وقيل في تحريم مارية، وأن الصحيح أنه نزل في كلا الأمرين. ثم وجدت في الطبراني وتفسير ابن مردويه من طريق أبي عامر الخزاز عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند سودة " فذكر نحو حديث الباب وفي آخره: "فأنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ورواته موثقون: إلا أن أبا عامر وهم في قوله سودة. وذكر فيه حديث عائشة "كان يجب الحلواء والعسل وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه فيدنو منهن" الحديث بطوله، وقد تقدم في كتاب الطلاق مشروحا وذكر معه حديث عائشة معه طريق عبيد بن عمير عنها وفيه أن التي سقته العسل زينب بنت جحش، واستشكلت قصة حفصة بأن في الآية ما يدل على أن نزول ذلك كان في حق عائشة وحفصة فقط لتكرار الثنية في قوله: {إِنْ تَتُوبَا} {وَإِنْ تَظَاهَرَا} وهنا جاء فيه ذكر ثلاثة، وجميع الكرماني بينهما بأن قصة حفصة سابقة وليس فيها سبب نزول ولا تثنية بخلاف قصة زينب ففيها "تواطأت أنا وحفصة" وفيها التصريح بأن الآية نزلت في ذلك. وحكى ابن التين عن الداودي أن قوله في هذا الحديث أن التي سقته العسل حفصة غلط لأن صفية هي التي تظاهرت مع عائشة في هذه القصة وإنما شربه عند صفية وقيل عند زينب، كذا قال، وجزمه بأن الرواية التي فيها حفصة غلط مردود فإنها ليست غلطا بل هي قصة أخرى، والحديث الصحيح لا يرد بمثل هذا، ويكفي في الرد عليه أنه جعل قصة زينب لصفية وأشار إلى أن نسبة ذلك لزينب ضعيف، والواقع أنه صحيح وكلاهما متفق على صحته، وللداودي عجائب في شرحه ذكرت منها شيئا كثرا ومنها في هذا الحديث أنه قال في قوله: "جرست نحله العرفط " جرست معناه تغير طعم العسل لشيء يأكله

(12/343)


النحل والعرفط موضع وتفسير الجرس بالتغير والعرفط بالموضوع مخالف للجميع وقد تقدم بيانه مع شرح الحديث، وقوله في هذه الرواية: "أجاز" ثبت هكذا لهم، وهو صحيح يقال أجزت الوادي إذا قطعته والمراد أنه يقطع المسافة التي بين كل واحدة والتي تليها. ووقع في رواية مسلم والإسماعيلي هنا "جاز" وحكى ابن التين جاز على نسائه أي مر أو سلك، ووقع في رواية علي بن مسهر الماضية في الطلاق "إذا صلى العصر دخل" وقوله فيها "أبادئه" بهمزة وموحدة وفيه اختلاف ذكرته فيما مضى، وقوله: "فرقا" بفتح الراء أي خوفا، وقال ابن المنير: إنما ساغ لهن أن يقلن "أكلت مغافير" لأنهن أوردنه على طريق الاستفهام بدليل جوابه بقوله: "لا " وأردن بذلك التعريض لا صريح الكذب، فهذا وجه الاحتيال التي قالت عائشة " لتحتالن له " ولو كان كذبا محضا لم يسم حيلة إذ لا شبهة لصاحبه.

(12/344)


13- باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ الِاحْتِيَالِ فِي الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ
6973- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، فلما جاء سرغ بلغه أن الوباء وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه . فرجع عمر من سرغ"
وعن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عمر إنما انصرف من حديث عبد الرحمن
6974- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ "سَمِعَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ سَعْدًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْوَجَعَ فَقَالَ: رِجْزٌ - أَوْ عَذَابٌ - عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الأُمَمِ ثُمَّ بَقِيَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ فَيَذْهَبُ الْمَرَّةَ وَيَأْتِي الأُخْرَى، فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ يُقْدِمَنَّ عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ بِأَرْضٍ وَقَعَ بِهَا فَلاَ يَخْرُجْ فِرَارًا مِنْهُ"
قوله: "باب ما يكره من الاحتيال في الفرار من الطاعون" ذكر فيه حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر خرج إلى الشام فذكر حديث عبد الرحمن بن عوف في النهي عن الخروج من البلد الذي يقع به الطاعون وعن القدوم على البلد التي وقع بها، وحديث سالم بن عبد الله يعني ابن عمر أن عمر إنما انصرف من حديث عبد الرحمن بن عوف وحديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا بمعنى حديث عبد الرحمن بن عوف وفيه زيادة في أوله، وقد تقدم كل ذلك مشروحا في كتاب الطب، ووقع في حديث أسامة هنا الوجع بدل الطاعون، وقوله: "فيذهب المرة ويأتي الأخرى " قال المهلب: يتصور التحيل في الفرار من الطاعون بأن يخرج في تجارة أو لزيارة مثلا وهو ينوي بذلك الفرار من الطاعون، واستدل ابن الباقلاني بقصة عمر على أن الصحابة كانوا يقدمون خبر الواحد على القياس لأنهم اتفقوا على الرجوع اعتمادا على خبر عبد الرحمن بن عوف وحده بعد أن ركبوا المشقة في المسير من المدينة إلى الشام ثم رجعوا ولم يدخلوا الشام.

(12/344)


14- باب: فِي الْهِبَةِ وَالشُّفْعَةِ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ وَهَبَ هِبَةً أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى مَكَثَ عِنْدَهُ سِنِينَ وَاحْتَالَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهَا فَلاَ زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَخَالَفَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِبَةِ وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ
6975- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ"
6976- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ". وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الشُّفْعَةُ لِلْجِوَارِ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى مَا شَدَّدَهُ فَأَبْطَلَهُ وَقَالَ: إِنْ اشْتَرَى دَارًا فَخَافَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارُ بِالشُّفْعَةِ فَاشْتَرَى سَهْمًا مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ ثُمَّ اشْتَرَى الْبَاقِيَ وَكَانَ لِلْجَارِ الشُّفْعَةُ فِي السَّهْمِ الأَوَّلِ وَلاَ شُفْعَةَ لَهُ فِي بَاقِي الدَّارِ وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ فِي ذَلِكَ
6977- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الشَّرِيدِ قَالَ "جَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ لِلْمِسْوَرِ: أَلاَ تَأْمُرُ هَذَا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنِّي بَيْتِي الَّذِي فِي دَارِي؟ فَقَالَ: لاَ أَزِيدُهُ عَلَى أَرْبَعِ مِائَةٍ إِمَّا مُقَطَّعَةٍ وَإِمَّا مُنَجَّمَةٍ، قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسَ مِائَةٍ نَقْدًا فَمَنَعْتُهُ، وَلَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ مَا بِعْتُكَهُ" - أَوْ قَالَ: مَا أَعْطَيْتُكَهُ - قُلْتُ لِسُفْيَانَ: إِنَّ مَعْمَرًا لَمْ يَقُلْ هَكَذَا، قَالَ: لَكِنَّهُ قَالَ لِي هَكَذَا". وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الشُّفْعَةَ فَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ حَتَّى يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ، فَيَهَبَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الدَّارَ وَيَحُدُّهَا وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ وَيُعَوِّضُهُ الْمُشْتَرِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلاَ يَكُونُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ
6978- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ "عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ سَعْدًا سَاوَمَهُ بَيْتًا بِأَرْبَعِ مِائَةِ مِثْقَالٍ، فَقَالَ: لَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ لَمَا أَعْطَيْتُكَه" وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ اشْتَرَى نَصِيبَ دَارٍ فَأَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ وَهَبَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ
قوله: "باب: في الهبة والشفعة" أي كيف تدخل الحيلة فيهما معا ومنفردين. قوله: "وقال بعض الناس: إن وهب هبة ألف درهم أو أكثر حتى مكث عنده سنين واحتال في ذلك" أي بأن تواطأ مع الموهوب له على ذلك

(12/345)


باب في الهبة و الشفعة
...
14- باب: فِي الْهِبَةِ وَالشُّفْعَةِ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ وَهَبَ هِبَةً أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى مَكَثَ عِنْدَهُ سِنِينَ وَاحْتَالَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهَا فَلاَ زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَخَالَفَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِبَةِ وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ
6975- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ"
6976- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ". وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الشُّفْعَةُ لِلْجِوَارِ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى مَا شَدَّدَهُ فَأَبْطَلَهُ وَقَالَ: إِنْ اشْتَرَى دَارًا فَخَافَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارُ بِالشُّفْعَةِ فَاشْتَرَى سَهْمًا مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ ثُمَّ اشْتَرَى الْبَاقِيَ وَكَانَ لِلْجَارِ الشُّفْعَةُ فِي السَّهْمِ الأَوَّلِ وَلاَ شُفْعَةَ لَهُ فِي بَاقِي الدَّارِ وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ فِي ذَلِكَ
6977- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الشَّرِيدِ قَالَ "جَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ لِلْمِسْوَرِ: أَلاَ تَأْمُرُ هَذَا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنِّي بَيْتِي الَّذِي فِي دَارِي؟ فَقَالَ: لاَ أَزِيدُهُ عَلَى أَرْبَعِ مِائَةٍ إِمَّا مُقَطَّعَةٍ وَإِمَّا مُنَجَّمَةٍ، قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسَ مِائَةٍ نَقْدًا فَمَنَعْتُهُ، وَلَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ مَا بِعْتُكَهُ" - أَوْ قَالَ: مَا أَعْطَيْتُكَهُ - قُلْتُ لِسُفْيَانَ: إِنَّ مَعْمَرًا لَمْ يَقُلْ هَكَذَا، قَالَ: لَكِنَّهُ قَالَ لِي هَكَذَا". وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الشُّفْعَةَ فَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ حَتَّى يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ، فَيَهَبَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الدَّارَ وَيَحُدُّهَا وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ وَيُعَوِّضُهُ الْمُشْتَرِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلاَ يَكُونُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ
6978- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ "عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ سَعْدًا سَاوَمَهُ بَيْتًا بِأَرْبَعِ مِائَةِ مِثْقَالٍ، فَقَالَ: لَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ لَمَا أَعْطَيْتُكَه" وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ اشْتَرَى نَصِيبَ دَارٍ فَأَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ وَهَبَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ
قوله: "باب: في الهبة والشفعة" أي كيف تدخل الحيلة فيهما معا ومنفردين. قوله: "وقال بعض الناس: إن وهب هبة ألف درهم أو أكثر حتى مكث عنده سنين واحتال في ذلك" أي بأن تواطأ مع الموهوب له على ذلك

(12/345)


وإلا فالهبة لا تتم إلا بالقبض وإذا قبض كان بالخيار في التصرف فيها ولا يتهيأ للواهب الرجوع فيها بعد التصرف فلا بد من المواطأة بأن لا يتصرف فيها ليتم الحيلة. قوله: "ثم رجع الواهب فيها فلا زكاة على واحد منهما فخالف الرسول صلى الله عليه وسلم في الهبة وأسقط الزكاة" قال ابن بطال: إذا قبض الموهوب له هبة فهو مالك لها فإذا حال عليها الحول عنده وجبت عليه الزكاة فيها عند الجميع وأما الرجوع فلا يكون عند الجمهور إلا فيما يوهب للولد فإن رجع فيها الأب بعد الحول وجبت فيها الزكاة على الابن. قلت: فإن رجع فيها قبل الحول صح الرجوع ويستأنف الحول فإن كان فعل ذلك ليريد إسقاط الزكاة سقطت وهو آثم مع ذلك، وعلى طريقة من يبطل الحيل مطلقا لا يصح رجوعه لثبوت النهي عن الرجوع في الهبة ولا سيما إذا قارن ذلك التحيل في إسقاط الزكاة، وقوله: "فخالف الرسول صلى الله عليه وسلم: "يعني خالف ظاهر حديث الرسول وهو النهي عن العود في الهبة، وقال ابن التين: مراده أن مذهب أبي حنيفة أن من سوى الوالدين يرجع في هبته ولا يرجع الوالد فيما وهب لولده، وهو خلاف قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل أن يعط عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يرجع في عطيته كالكلب يعود في قيئه". قلت: فعلي هذا إنما أخرج البخاري حديث ابن عباس للإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، وهو مخرج عند أبي داود عن ابن عباس من وجه آخر كما تقدم بيانه في كتاب الهبة، وذهب الجمهور ومنهم الشافعي إلى أن الزكاة تجب على المتهب مدة مكث المال عنده. ثم ذكر في الباب ثلاثة أحاديث: الحديث الأول، قوله: "سفيان" هو الثوري وقد تقدم شرح حديث ابن عباس في كتاب الهبة. الحديث الثاني حديث جابر في الشفعة وقد تقدم شرحه في كتاب الشفعة، وظاهره أنه لا شفعة للجار لأنه نفي الشفعة في كل مقسوم كما تقدم تقريره. قوله: "وقال بعض الناس: الشفعة للجوار" بكسر الجيم من المجاورة أي تشرع الشفعة للجار كما تشرع للشريك. قوله: "ثم عمد إلى ما شدده" بالشين المعجمة ولبعضهم بالمهملة. قوله: "فأبطله" أي حيث قال لا شفعة للجار في هذه الصورة، وقال: إن اشترى دارا أي أراد شراءها كاملة فخاف أن يأخذ الجار بالشفعة فاشترى سهما من مائة سهم ثم اشترى الباقي كان للجار الشفعة في السهم الأول ولا شفعة له في باقي الدار قال ابن بطال: أصل هذه المسألة أن رجلا أراد شراء دار فخاف أن يأخذها جاره بالشفعة، فسأل أبا حنيفة كيف الحيلة في إسقاط الشفعة؟ فقال له: اشتر منها سهما واحدا من مائة سهم فتصير شريكا لمالكها، ثم اشتر منه الباقي فتصير أنت أحق بالشفعة من الجار لأن الشريك في المشاع أحق من الجار، وإنما أمره بأن يشتري سهما من مائة سهم لعدم رغبة الجار شراء السهم الواحد لحقارته وقلة انتفاعه به، قال: وهذا ليس فيه شيء من خلاف السنة، وإنما أراد البخاري إلزامهم التناقض لأنهم احتجوا في شفعة الجار بحديث: "الجار أحق بسقبه " ثم تحيلوا في إسقاطها بما يقتضي أن يكون غير الجار أحق بالشفعة من الجار انتهى. والمعروف عند الحنفية أن الحيلة المذكورة لأبي يوسف، وأما محمد بن الحسن فقال: يكره ذلك أشد الكراهية لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر عن الشفيع فالذي يحتال لإسقاطها بمنزلة القاصد إلى الإضرار بالغير وذلك مكروه، ولا سيما إن كان بين المشتري وبين الشفيع عداوة ويتضرر من مشاركته، ثم إن محل هذا إنما هو فيمن احتال قبل وجوب الشفعة أما بعده كمن قال للشفيع خذ هذا المال ولا تطالبني بالشفعة فرضي وأخذ فإن شفعته تبطل اتفاقا انتهى. الحديث الثالث، قوله "سفيان" هو بن عيينة. قوله "عن إبراهيم بن ميسرة" في رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا إبراهيم" قوله "جاء المسور بن مخرمة فوضع يده على منكبي" في رواية

(12/346)


15- باب: احْتِيَالِ الْعَامِلِ لِيُهْدَى لَهُ
6979- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَهَلاَ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَنِي اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلاَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي"
6980- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ "عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ". وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ اشْتَرَى دَارًا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَحْتَالَ حَتَّى يَشْتَرِيَ الدَّارَ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَيَنْقُدَهُ تِسْعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَتِسْعَ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَيَنْقُدَهُ دِينَارًا بِمَا بَقِيَ مِنْ الْعِشْرِينَ الأَلْفَ، فَإِنْ طَلَبَ الشَّفِيعُ أَخَذَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَإِلاَ فَلاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَى الدَّارِ، فَإِنْ اسْتُحِقَّتْ الدَّارُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِمَا دَفَعَ إِلَيْهِ وَهُوَ تِسْعَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَتِسْعُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَدِينَارٌ، لِأَنَّ الْبَيْعَ حِينَ اسْتُحِقَّ انْتَقَضَ الصَّرْفُ فِي الدِّينَارِ، فَإِنْ وَجَدَ بِهَذِهِ الدَّارِ عَيْبًا وَلَمْ تُسْتَحَقَّ فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفَاً. قَالَ: فَأَجَازَ هَذَا الْخِدَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "بَيْعُ الْمُسْلِمِ لاَ دَاءَ وَلاَ خِبْثَةَ وَلاَ غَائِلَةَ"

(12/348)


6981- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ "أَنَّ أَبَا رَافِعٍ سَاوَمَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ بَيْتًا بِأَرْبَعِ مِائَةِ مِثْقَالٍ وَقَالَ: لَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ مَا أَعْطَيْتُكَ"
قوله: "باب احتيال العامل ليهدى له" ذكر فيه حديث أبي حميد الساعدي في قصة ابن اللتبية، وقد تقدم بعض شرحه في الهبة وتقدمت تسميته وضبط اللتبية في كتاب الزكاة، ويأتي استيفاء شرحه في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، ومطابقته للترجمة من جهة أن تملكه ما أهدي له إنما كان لعلة كونه عاملا فاعتقد أن الذي أهدي له يستبد به دون أصحاب الحقوق التي عمل فيها، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الحقوق التي عمل لأجلها هي السبب في الإهداء له وأنه لو أقام في منزله لم يهد له شيء، فلا ينبغي له أن يستحلها بمجرد كونها وصلت إليه على طريق الهدية فإن ذاك إنما يكون حيث يتمحض الحق له، وقوله في آخره: "بصر عيني وسمع أذني " بفتح الموحدة وضم الصاد المهملة وفتح السين المهملة وكسر الميم، قال المهلب: حيلة العامل ليهدى له تقع بأن يسامح بعض من عليه الحق فلذلك قال: "هلا جلس في بيت أمه لينظر هل يهدى له " فأشار إلي أنه لولا الطمع في وضعة من الحق ما أهدي له، قال فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الهدية وضمها إلى أموال المسلمين، كذا قال ولم أقف على أخذ ذلك منه صريحا، قال ابن بطال: دل الحديث على أن الهدية للعامل تكون لشكر معروفه أو للتحبب إليه أو للطمع في وضعه من الحق، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه فيما يهدى له من ذلك كأحد المسلمين لا فضل له عليهم فيه وأنه لا يجوز الاستئثار به انتهى. والذي يظهر أن الصورة الثالثة إن وقعت لم تحل للعامل جزما وما قبلها في طرف الاحتمال، وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان إلخ" كذا وقع للأكثر هذا الحديث وما بعده متصلا بباب احتيال العامل، وأظنه وقع هنا تقديم وتأخير فإن الحديث وما بعده يتعلق بباب الهبة والشفعة، فلما جعل الترجمة مشتركة جمع مسائلها، ومن ثم قال الكرماني إنه من تصرف النقلة، وقد وقع عند ابن بطال هنا " باب " بلا ترجمة ثم ذكر الحديث وما بعده ثم ذكر " باب احتيال العامل " وعلى هذا فلا إشكال لأنه حينئذ كالفصل من الباب، ويحتمل أن يكون في الأصل بعد قصة ابن اللتبية " باب " بلا ترجمة فسقطت الترجمة فقط أو بيض لها في الأصل. قوله: "وقال بعض الناس إن اشترى دارا" أي أراد شراء دار "بعشرين ألف درهم فلا بأس أن يحتال" أي على إسقاط الشفعة، "حتى يشتري الدار بعشرين ألف درهم وينقده" أي ينقد البائع "تسعة آلاف درهم وتسعمائة وتسعة وتسعين وينقده دينارا بما بقي من العشرين ألف" أي مصارفة عنها. "فإن طالبه الشفيع أخدها بعشرين ألف درهم" أي إن رضي بالثمن الذي وقع عليه العقد "وإلا فلا سبيل له على الدار" أي لسقوط الشفعة لكونه امتنع من بدل الثمن الذي وقع به العقد. قوله: "فإن استحقت الدار" بلفظ المجهول أي ظهرت مستحقة لغير البائع "رجع المشتري على البائع بما دفع إليه وهو تسعة آلاف إلخ" أي لكون القدر الذي تسلمه منه ولا يرجع عليه بما وقع عليه العقد "لأن المبيع حين استحق" أي للغير "انتقض الصرف" أي الذي وقع بين البائع والمشتري في الدار المذكورة "بالدينار" ووقع في رواية الكشميهني، " في الدينار " وهو أوجه. قوله: "فإن وجد بهذه الدار عيبا ولم تستحق" أي لم تخرج مستحقة "فإنه يردها عليه بعشرين ألفا" أي وهذا تناقض بين

(12/349)


ومن ثم عقبه بقوله: "فأجاز هذا الخداع بين المسلمين" والفرق عندهم أن البيع في الأول كان مبنيا على شراء الدار وهو منفسخ ويلزم عدم التقابض في المجلس فليس له أن يأخذ إلا ما أعطاه وهو الدراهم والدينار بخلاف الرد بالعيب فإن البيع صحيح وإنما ينفسخ باختيار المشتري. وأما بيع الصرف فكان وقع صحيحا فلا يلزم من فسخ هذا بطلان هذا. وقال ابن بطال: إنما خص القدر من الذهب والفضة بالمثال لأن بيع الفضة بالذهب متفاضلا إذا كان يدا بيد جائز بالإجماع فبنى القائل أصله على ذلك فأجاز صرف عشرة دراهم ودينار بأحد عشر درهما جعل العشرة دراهم بعشرة دراهم وجعل الدينار بدرهم، ومن جعل في الصورة المذكورة الدينار بعشرة آلاف ليستعظم الشفيع الثمن الذي انعقدت عليه الصيغة فيترك الأخذ بالشفعة فتسقط شفعته ولا التفات إلى ما أنقده لأن المشتري تجاوز للبائع عند النقد، وخالف مالك في ذلك فقال: المراعي في ذلك النقد الذي حصل في يد البائع فبه يأخذ الشفيع بدليل الإجماع على أنه في الاستحقاق والرد بالعيب لا يرجع إلا بما نقده، وإلى ذلك أشار البخاري إلى تناقض الذي احتال في إسقاط الشفعة حيث قال: "فإن استحقت الدار" أي إن ظهر أنها مستحقة لغير البائع إلخ فدل على أنه موافق للجماعة في أن المشتري عند الاستحقاق لا يرد إلا ما قبضه، وكذلك الحكم في الرد بالعيب انتهى ملخصا موضحا: وقال الكرماني: النكتة في جعله الدينار في مقابلة عشرة آلاف ودرهم ولم يجعله في مقابلة العشرة آلاف فقط لأن الثمن في الحقيقة عشرة آلاف بقرينة نقده هذا المقدار، فلو جعل العشرة والدينار في مقابلة الثمن الحقيقي للزم الربا، بخلاف ما إذا نقص درهما فإن الدينار في مقابلة ذلك الواحد والألف إلا واحدا في مقابلة الألف إلا واحدا بغير تفاضل. وقال المهلب: مناسبة هذا الحديث لهذه المسألة أن الخبر لما دل على أن الجار أحق بالمبيع من غيره مراعاة لحقه لزم أن يكون أحق أن يرفق به في الثمن ولا يقام عليه عروض بأكثر من قيمتها، وقد فهم الصحابي راوي الخبر هذا القدر فقدم الجار في العقد بالثمن الذي دفعه إليه على من دفع إليه أكثر منه بقدر ربعه مراعاة لحق الجار الذي أمر الشارع بمراعاته. قوله: "فأجاز هذا الخداع" أي الحيلة في إيقاع الشريك في الغبن الشديد إن أخذ بالشفعة أو إبطال حقه إن ترك خشية من الغبن في الثمن بالزيادة الفاحشة، وإنما أورد البخاري مسألة الاستحقاق التي مضت ليستدل بها على أنه كان قاصدا للحيلة في إبطال الشفعة، وعقب بذكر مسألة الرد بالعيب ليبين أنه تحكم، وكان مقتضاه أنه لا يرد إلا ما قبضه لا زائدا عليه. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بيع المسلم لا داء لا خبثة" قال ابن التين: ضبطناه بكسر الخاء المعجمة وسكون الموحدة بعدها مثلثة، وقيل هو بضم أوله لغتان، قال أبو عبيد: هو أن يكون البيع غير طيب كأن يكون من قوم لم يحل سبيهم لعهد تقدم لهم، قال ابن التين: وهذا في عهدة الرقيق. قلت: إنما خصه بذلك لأن الخبر إنما ورد فيه. قال: والغائلة أن يأتي أمرا سرا كالتدليس ونحوه. قلت: والحديث المذكور طرف تقدم بكماله في أوائل كتاب البيوع من حديث العداء بفتح العين وتشديد الدال المهملتين مهموزا ابن خالد أنه اشترى من النبي صلى الله عليه وسلم عبدا أو أمة وكتب له العهدة "هذا ما اشترى العداء من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم للمسلم". وسنده حسن، وله طرق إلى العداء وذكر هناك تفسير الغائلة بالسرقة والإباق ونحوهما من قول قتادة، قال ابن بطال: فيستفاد من هذا الخبر أنه لا يجوز الاحتيال في شيء من بيوع المسلمين بالصرف المذكور ولا غيره. قلت: ووجهه أن الحديث وإن كان لفظه لفظ الخبر لكن معناه

(12/350)


النهي، ويؤخذ من عمومه أن الاحتيال في كل بيع من بيوع المسلمين لا يحل، فيدخل فيه صرف دينار بأكثر من قيمته ونحو ذلك. قوله: "حدثنا مسدد حدثنا يحيى" هو القطان وسفيان هو الثوري، وقوله: "أن أبا رافع ساوم سعد ابن مالك " هو ابن أبي وقاص، وعند أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري بالشك أن سعدا ساوم أبا رافع أو أبو رافع ساوم سعدا، ولا أثر لهذا الشك، وقوله: "بيتا بأربعمائة مثقال: "فيه بيان الثمن المذكور. قوله: "قال: وقال لولا أن سمعت إلخ" القائل الأول عمرو بن الشريد والثاني أبو رافع، وقد بينه عبد الرحمن ابن مهدي في روايته ولفظه: "فقال أبو رافع لولا أني سمعت إلخ " وقد تقدمت مباحثه ولله الحمد.
"خاتمة": اشتمل كتاب الحيل من الأحاديث المرفوعة على أحد وثلاثين حديثا، المعلق منها واحد وسائرها موصول وكلها مكررة فيه وفيما تقدم، وفيه أثر واحد عن أيوب. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(12/351)


كتاب التعبير
باب أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
91- كتاب التعبير
1- باب: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ
6982- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح وحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْه مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - حَتَّى بَلَغَ - مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ مَا لِي؟ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَقَالَ: قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فَقَالَتْ لَهُ: كَلاَ، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي

(12/351)


الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ فَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ الإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيْ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَقِرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَالِقُ الإِصْبَاحِ: ضَوْءُ الشَّمْسِ بِالنَّهَار،ِ وَضَوْءُ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ
قوله: "باب" بالتنوين "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة" كذا للنسفي والقابسي، ولأبي ذر مثله إلا أنه سقط له عن غير المستملي لفظ: "باب " ولغيرهم " باب التعبير وأولى ما بدئ به " إلى آخره، وللإسماعيلي: "كتاب التعبير" ولم يزد، وثبتت البسملة أولا للجميع، والتعبير خاص بتفسير الرؤيا وهو العبور من ظاهرها إلى باطنها وقيل النظر في الشيء فيعتبر بعضه ببعض حتى يحصل على فهمه حكاه الأزهري، وبالأول جزم الراغب وقال: أصله من العبر بفتح ثم سكون وهو التجاوز من حال إلى حال، وخصوا تجاوز الماء بسباحة أو في سفينة أو غيرها بلفظ العبور بضمتين، وعبر القوم إذا ماتوا كأنهم جازوا القنطرة من الدنيا إلى الآخرة، قال: والاعتبار والعبرة الحالة التي يتوصل بها من معرفة الشاهد إلى ما ليس بمشاهد، ويقال عبرت الرؤيا بالتخفيف إذا فسرتها وعبرتها بالتشديد للمبالغة في ذلك، وأما الرؤيا فهي ما يراه الشخص في منامه وهي بوزن فعلي وقد تسهل الهمزة، وقال الواحدي: هي في الأصل مصدر كاليسرى، فلما جعلت اسما لما يتخيله النائم أجريت مجرى الأسماء. قال الراغب: والرؤية بالهاء إدراك المرء بحاسة البصر، وتطلق على ما يدرك بالتخيل نحو أرى أن زيدا مسافر، وعلى التفكر النظري نحو {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} وعلى الرأي وهو اعتقاد أحد النقيضين على غلبة الظن انتهى. وقال القرطبي في "المفهم": قال بعض العلماء قد تجيء الرؤية بمعنى الرؤيا كقوله تعالى :{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} فزعم أن المراد بها ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من العجائب، وكان الإسراء جميعه في اليقظة. قلت: وعكسه بعضهم فزعم أنه حجة لمن قال إن الإسراء كان مناما والأول المعتمد، وقد تقدم في تفسير الإسراء قول ابن عباس إنها رؤيا عين، ويحتمل أن تكون الحكمة في تسمية ذلك رؤيا لكون أمور الغيب مخالفة لرؤيا الشهادة فأشبهت ما في المنام. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان إما بأسمائها أي حقيقتها وإما بكناها أي بعبارتها وإما تخليط، ونظيرها في اليقظة الخواطر فإنها قد تأتي على نسق في قصة وقد تأتي مسترسلة غير محصلة،

(12/352)


هذا حاصل قول الأستاذ أبي إسحاق، قال: وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى إنها اعتقادات، واحتج بأن الرائي قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادا لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد، قال ابن العربي: والأول أولى، والذي يكون من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل المثل، فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات. انتهى ملخصا. وقال المازري، كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع فاضطربت أقوالهم، فمن ينتمي إلى الطب ينسب جميع الرؤيا إلى الإخلاط فيقول من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح في الماء ونحو ذلك لمناسبة الماء طبيعة البلغم، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو، وهكذا إلى آخره، وهذا وإن جوزه العقل وجاز أن يجري الله العادة به لكنه لم يقم عليه دليل ولا اطردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غلط. ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنقوش فما حاذى بعض النقوش منها انتقش فيها، قال: وهذا أشد فسادا من الأول لكونه تحكما لا برهان عليه والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض والأعراض لا ينتقش فيها قال والصحيح ما عليه أهل السنة أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان فإذا خلقها فكأنه جعلها علما على أمور أخرى يخلقها في ثاني الحال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن الله خلق الغيم علامة على المطر وقد يتخلف، وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسر أو بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضر والعلم عند الله تعالى. وقال القرطبي: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم، وبيان ذلك أن الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس وقد غيب عنا علم حقيقتها أي النفس، وإذا كان كذلك فالأولى أن لا نعلم علم إدراكاتها، بل كثير مما انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنما نعلم منه أمورا جملية لا تفصيلة. ونقل القرطبي في "المفهم" عن بعض أهل العلم أن لله تعالى ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم فيمثل له صورة محسوسة، فتارة تكون أمثلة موافقة لما يقع في الوجود وتارة تكون أمثلة لمعان معقولة، وتكون في الحالين مبشرة ومنذرة، قال: ويحتاج فيما نقله عن الملك إلى توقيف من الشرع وإلا فجائز أن يخلق الله تلك المثالات من غير ملك، قال: وقيل إن الرؤيا إدراك أمثلة منضبطة في التخيل جعلها الله أعلاما على ما كان أو يكون. وقال القاضي عياض: اختلف في النائم المستغرق فقيل لا تصح رؤياه ولا ضرب المثل له لأن هذا لا يدرك شيئا مع استغراق أجزاء قلبه لأن النوم يخرج الحي عن صفات التمييز والظن والتخيل كما يخرجه عن صفة العلم، وقال آخرون: بل يصح للنائم مع استغراق أجزاء قلبه بالنوم أن يكون ظانا ومتخيلا، وأما العلم فلا لأن النوم آفة تمنع حصول الاعتقادات الصحيحة، نعم إن كان بعض أجزاء قلبه لم يحل فيه النوم فيصح وبه يضرب المثل وبه يرى ما يتخيله ولا تكليف عليه حينئذ لأن رؤياه ليست على حقيقة وجود العلم ولا صحة الميز، وإنما بقيت فيه بقية يدرك بها ضرب المثل. وأيده القرطبي بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام عينه ولا ينام قلبه، ومن ثم احترز القائل بقوله: "المدرك" من النائم ولذا قال: "منضبطة في التخيل" لأن الرائي لا يرى في منامه إلا من نوع ما يدركه في اليقظة بحسه، إلا أن التخيلات قد تركب له في النوم تركيبا يحصل به صورة لا عهد له بها يكون علما على أمر نادر كمن رأى رأس إنسان على جسد فرس له جناحان مثلا وأشار

(12/353)


بقوله: "أعلاما" إلى الرؤيا الصحيحة المنتظمة الواقعة على شروطها، وأما الحديث الذي أخرجه الحاكم والعقيلي من رواية محمد بن عجلان عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "لقي عمر عليا فقال: يا أبا الحسن الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب: قال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلئ نوما إلا تخرج بروحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق والذي يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب، قال الذهبي في تلخيصه: هذا حديث منكر لم يصححه المؤلف، ولعل الآفة من الراوي عن ابن عجلان. قلت: هو أزهر ابن عبد الله الأزدي الخراساني ذكره العقيلي في ترجمته وقال: إنه غير محفوظ، ثم ذكره من طريق أخرى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي ببعضه، وذكر فيه اختلافا في وقفه ورفعه، وذكر ابن القيم حديثا مرفوعا غير معزو "إن رؤيا المؤمن كلام يكلم به العبد ربه في المنام " ووجد الحديث المذكور في " نوادر الأصول للترمذي" من حديث عبادة بن الصامت أخرجه في الأصل الثامن والسبعين وهو من روايته عن شيخه عمر بن أبي عمر، وهو واه وفي سنده جنيد، قال ابن ميمون عن حمزة بن الزبير عن عبادة قال الحكيم: قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى :{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي في المنام، ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم، فالوحي لا يدخله خلل لأنه محروس بخلاف رؤيا غير الأنبياء فإنها قد يحضرها الشيطان. وقال الحكيم أيضا: وكل الله بالرؤيا ملكا اطلع على أحوال بني آدم كل من اللوح المحفوظ فينسخ منها ويضرب لكل على قصته مثلا، فإذا نام مثل له تلك الأشياء على طريق الحكمة لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة، والآدمي قد تسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما فهو يكيده بكل وجه ويريد إفساد أموره بكل طريق فيلبس عليه رؤياه إما بتغليطه فيها وإما بغفلته عنها، ثم جميع المرائي تنحصر على قسمين: الصادقة وهي رؤيا الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين وقد تقع لغيرهم بندور وهي التي تقع في اليقظة على وفق ما وقعت في النوم، والأضغاث وهي لا تنذر بشيء وهي أنواع: الأول تلاعب الشيطان ليحزن الرائي كأن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه أو رأى أنه واقع في هول ولا يجد من ينجده ونحو ذلك، الثاني أن يرى أن بعض الملائكة تأمره أن يفعل المحرمات مثلا ونحوه من المحال عقلا، الثالث أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه فيراه كما هو في المنام وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة أو ما يغلب على مزاجه ويقع عن المستقبل غالبا وعن الحال كثيرا وعن الماضي قليلا. ثم ساق المصنف حديث عائشة في بدء الوحي وقد ذكره في أول الصحيح وقد شرحته هناك ثم استدركت ما فات من شرحه في تفسير {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وسأذكر هنا ما لم يتقدم ذكره في الموضعين غالبا مما يستفاد من شرحه، ومداره على الزهري عن عروة عن عائشة، وقد ساقه في المواضع الثلاثة عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري ولكنه ساقه على لفظه في أول الكتاب، وقرنه في التفسير بيونس بن يزيد وساقه على لفظه، ثم قرنه هنا بمعمر وساقه على لفظه، وقوله هنا " أنبأنا معمر قال قال الزهري فأخبرني عروة " وقع عند مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق مثله لكن فيه: "وأخبرني" بالواو لا بالفاء وهذه الفاء معقبة لشيء محذوف وكذلك الواو عاطفة عليه، وقد بينه البيهقي في "الدلائل" حيث أخرج الحديث من وجه آخر عن الزهري عن محمد بن النعمان بن بشير مرسلا فذكر قصة بدء الوحي مختصرة ونزول {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} وقال محمد بن النعمان: فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. قال الزهري:

(12/354)


فسمعت عروة بن الزبير يقول: "قالت عائشة" فذكر الحديث مطولا. قوله: "الصالحة" في رواية عقيل "الصادقة" وهما بمعنى واحد بالنسبة إلى أمور الآخرة في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا فالصالحة في الأصل أخص، فرؤيا النبي كلها صادقة وقد تكون صالحة وهي الأكثر، وغير صالحة بالنسبة للدنيا كما وقع في الرؤيا يوم أحد، وأما رؤيا غير الأنبياء فبينهما عموم وخصوص: إن فسرنا الصادقة بأنها التي لا تحتاج إلى تعبير وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث فالصالحة أخص مطلقا. وقال الإمام نصر بن يعقوب الدينوري في التعبير القادري: الرؤية الصادقة ما يقع بعينه أو ما يعبر في المنام أو يخبر به ما لا يكذب والصالحة ما يسر. قوله: "إلا جاءته مثل فلق الصبح" في رواية الكشميهني: "جاءت " كرواية عقيل، قال ابن أبي حمزة: إنما شبهها بفلق الصبح دون غيره لأن شمس النبوة كانت الرؤيا مبادي أنوارها فما زال ذلك النور يتسع حتى أشرقت الشمس فمن كان باطنه نوريا كان في التصديق بكريا كأبي بكر ومن كان باطنه مظلما كان في التكذيب خفاشا كأبي جهل، وبقية الناس بين هاتين المنزلتين كل منهم بقدر ما أعطى من النور. قوله: "يأتي حراء" قال ابن أبي حمزة: الحكمة في تخصيصه بالتخلي فيه أن المقيم فيه كان يمكنه رؤية الكعبة فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاث عبادات: الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت. قلت: وكأنه مما بقي عندهم من أمور الشرع على سنن الاعتكاف، وقد تقدم أن الزمن الذي كان يخلو فيه كان شهر رمضان وأن قريشا كانت تفعله كما كانت تصوم عاشوراء، ويزاد هنا أنهم إنما لم ينازعوا النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء مع مزيد الفضل فيه على غيره لأن جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش وكانوا يعظمونه لجلالته وكبر سنه فتبعه على ذلك من كان يتأله، فكلن صلى الله عليه وسلم يخلو بمكان جده وسلم له ذلك أعمامه لكرامته عليهم، وقد تقدم ضبط حراء وإن كان الأفصح فيه كسر أوله وبالمد وحكي تثليث أوله مع المد والقصر وكسر الراء والصرف وعدمه فيجتمع فيه عدة لغات مع قلة أحرفه، ونظيره قباء لكن الخطابي جزم بأن فتح أوله لحن وكذا ضمه وكذا قصر وكسر الراء، وزاد التميمي ترك الصرف، وقال الكرماني إن كان الذي كسر الراء أراد الإمالة فهو سائغ. قوله: "الليالي ذوات العدد" قال الكرماني: يحتمل الكثرة إذ الكثير يحتاج إلى العدد وهو المناسب للمقام. قلت: أما كونه المناسب فمسلم، وأما الأول فلا لأن عادتهم جرت في الكثير أن يوزن وفي القليل أن يعد، وقد جزم الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة بأن المراد به الكثرة لأن العدد على قسمين فإذا أطلق أريد به مجموع القلة والكثرة فكأنها قالت ليالي كثيرة أي مجموع قسمي العدد. وقال الكرماني اختلف في تعبده صلى الله عليه وسلم بماذا كان يتعبد بناء على أنه هل كان متعبدا بشرع سابق أو لا؟ والثاني قول الجمهور ومستندهم أنه لو وجد لنقل، ولأنه لو وقع لكان فيه تنفير عنه. وبماذا كان يتعبد؟ قيل بما يلقى إليه من أنوار المعرفة، وقيل بما يحصل له من الرؤيا، وقيل بالتفكر، وقيل باجتناب رؤية ما كان يقع من قومه ورجح الآمدي وجماعة الأول ثم اختلفوا في تعيينه على ثمانية أقوال آدم أو نوح أو إبراهيم أو موسى أو عيسى أو أي شريعة أو كل شريعة أو الوقف. قوله: "فتزوده" في رواية الكشميهني بحذف الضمير وقوله: "لمثلها" تقدم في بدء الوحي أن الضمير لليالي، ويحتمل أن يكون للمرة أو الفعلة أو الخلوة أو العبادة، ورجح شيخنا البلقيني أن الضمير للسنة فذكر من رواية ابن إسحاق كان يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه يطعم من جاءه من المساكين قال وظاهره أن التزود لمثلها كان في السنة التي تليها لا لمدة أخرى من تلك السنة، وقد كنت قويت هذا في التفسير ثم ظهر لي بعد ذلك أن مدة الخلوة كانت شهرا كان يتزود لبعض

(12/355)


ليالي الشهر فإذا نفذ ذلك الزاد رجع إلى أهله فتزود قدر ذلك من جهة أنهم لم يكونوا في سعة بالغة من العيش، وكان غالب زادهم اللبن واللحم وذلك لا يدخر منه كفاية الشهور لئلا يسرع إليه الفساد ولا سيما وقد وصف بأنه كان يطعم من يرد عليه. قوله: "حتى فجئه الحق" حتى هنا على بابها من انتهاء الغاية، أي انتهى توجهه لغار حراء بمجيء الملك فترك ذلك، وقوله: "فجئه" بفتح الفاء وكسر الجيم ثم همز أي جاءه الوحي بغتة قاله النووي، قال: فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متوقعا للوحي، وفي إطلاق هذا النفي نظر فإن الوحي كان جاءه في النوم مرارا قاله شيخنا البلقيني وأسنده إلى ما ذكره ابن إسحاق عن عبيد بن عمير أنه وقع له في المنام نظير ما وقع له في اليقظة من الغط والأمر بالقراءة وغير ذلك انتهى، وفي كون ذلك يستلزم وقوعه في اليقظة حتى يتوقعه نظر فالأولى ترك الجزم بأحد الأمرين، وقوله: "الحق " قال الطيبي: أي أمر الحق، وهو الوحي، أو رسول الحق وهو جبريل. وقال شيخنا: أي الأمر البين الظاهر، أو المراد الملك بالحق أي الأمر الذي بعث به. قوله: "فجاءه الملك" تقدم في بدء الوحي الكلام على الفاء التي في قوله: "فجاءه الملك " وأنها التفسيرية، وقال شيخنا البلقيني: يحتمل أن تكون للتعقيب والمعنى بمجيء الحق انكشاف الحال عن أمر وقع في القلب فجاءه الملك عقبه، قال: ويحتمل أن تكون سببية أي حتى قضى بمجيء الوحي فبسبب ذلك جاءه الملك. قلت: وهذا أقرب من الذي قبله، وقوله: "فيه: "يؤخذ منه رفع توهم من يظن أن الملك لم يدخل إليه الغار بل كلمه والنبي صلى الله عليه وسلم داخل الغار والملك على الباب وقد عزوت هذه الزيادة في التفسير لدلائل البيهقي تبعا لشيخنا البلقيني ثم وجدتها هنا فكان العزو إليه أولى فألحقت ذلك هناك، قال شيخنا البلقيني: الملك المذكور هو جبريل كما وقع شاهده في كلام ورقة، وكما مضى في حديث جابر أنه الذي جاءه بحراء، ووقع في شرح القطب الحلبي: الملك هنا هو جبريل قاله السهيلي، فتعجب منه شيخنا وقال: هذا لا خلاف فيه فلا يحسن عزوه للسهيلي وحده، قال: واللام في الملك لتعريف الماهية لا للعهد إلا أن يكون المراد به ما عهده النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك لما كلمه في صباه، أو اللفظ لعائشة وقصدت به ما تعهده من تخاطبه به انتهى. وقد قال الإسماعيلي: هي عبارة عما عرف بعد أنه ملك وإنما الذي في الأصل " فجاءه جاء " وكان ذلك الجائي ملكا فأخبر صلى الله عليه وسلم عنه يوم أخبر بحقيقة جنسه، وكأن الحامل على ذلك أنه لم يتقدم له معرفة به انتهى. وقد جاء التصريح بأنه جبريل فأخرج أبو داود الطيالسي في مسنده من طريق أبي عمران الجوني عن رجل عن عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف هو وخديجة فوافق ذلك رمضان، فخرج يوما فسمع السلام عليكم، قال فظننت أنه من الجن فقال أبشروا فإن السلام خير، ثم رأى يوما آخر جبريل على الشمس له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب قال: فهبت منه، الحديث، وفيه أنه " جاءه فكلمه حتى أنس به " وظاهره أن جميع ما وقع له كان وهو في الغار، لكن وقع في مرسل عبيد بن عمير " فأجلسني على درنوك فيه الياقوت واللؤلؤ " وهو بضم الدال والنون بينهما راء ساكنة نوع من البسط له خمل، وفي مرسل الزهري " فأجلسني على مجلس كريم معجب " وأفاد شيخنا أن سن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه جبريل في حراء كان أربعين سنة على المشهور، ثم حكي أقوالا أخري قيل أربعين ويوما وقيل عشرة أيام وقيل وشهرين وقيل وسنتين وقيل وثلاثا وقيل وخمسا، قال: وكان ذلك يوم الاثنين نهارا، قال: واختلف في الشهر فقيل شهر رمضان في سابع عشره وقيل سابعه وقيل رابع عشرية. قلت: ورمضان هو الراجح لما تقدم من أنه الشهر الذي جاء فيه في حراء فجاءه الملك، وعلى هذا يكون سنه حينئذ أربعين سنة وستة أشهر، وليس ذلك في الأقوال التي

(12/356)


حكاها شيخنا. ثم قال: وسيأتي ما يؤيد ذلك من قول من قال إن وحي المنام كان ستة أشهر، قال شيخنا: وقيل في سابع عشري من شهر رجب، وقيل في أول شهر ربيع الأول وقيل في ثامنه انتهى. ووقع في رواية الطيالسي التي أشرت إليها أن مجيء جبريل كان لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى أهله، فإذا هو بجبريل وميكائيل، فهبط جبريل إلى الأرض وبقي ميكائيل بين السماء والأرض الحديث. فيستفاد من ذلك أن يكون في آخر شهر رمضان، وهو قول آخر يضاف لما تقدم ولعله أرجحها. قوله: "فقال اقرأ" قال شيخنا ظاهره أنه لم يتقدم من جبريل شيء قبل هذه الكلمة ولا السلام، فيحتمل أن يكون سلم وحذف ذكره لأنه معتاد، وقد سلم الملائكة على إبراهيم حين دخلوا عليه، ويحتمل أن يكون لم يسلم لأن المقصود حينئذ تفخيم الأمر وتهويله، وقد تكون مشروعية ابتداء السلام تتعلق بالبشر لا من الملائكة وإن وقع ذلك منهم قي بعض الأحيان. قلت: والحالة التي سلموا فيها على إبراهيم كانوا في صورة البشر فلا ترد هنا، ولا يرد سلامهم على أهل الجنة لأن أمور الآخرة مغايرة لأمور الدنيا غالبا، وقد ذكرت عن رواية الطيالسي أن جبريل سلم أولا ولم ينقل أنه سلم عند الأمر بالقراءة والله أعلم. قوله: "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم" هذا مناسب لسياق الحديث من أوله إلى هنا بلفظ الإخبار بطريق الإرسال، ووقع مثله في التفسير في رواية بدء الوحي اختلاف هل فيه قال ما أنا بقارئ، أو قلت ما أنا بقارئ وجمع بين اللفظين يونس عند مسلم قال: "قلت ما أنا بقارئ " قال شيخنا البلقيني: وظاهره أن عائشة سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون من مرسلات الصحابة. قوله: "فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني" استدل به على أن أفعل ترد لتنبيه ولم يذكروه قاله شيخنا البلقيني، ثم قال: ويحتمل أن تكون على بابها لطلب القراءة على معنى أن الإمكان حاصل. قوله: "فقال اقرأ" قال شيخنا البلقيني رحمه الله: دلت القصة على أن مراد جبريل بهذا أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم نص ما قاله وهو قوله: "اقرأ" وإنما لم يقل اقرأ إلى آخره لئلا يظن أن لفظه: "قل" أيضا من القرآن. قلت: ويحتمل أن يكون السر فيه الابتلاء في أول الأمر حتى يترتب عليه ما وقع، ثم قال شيخنا: ويحتمل أن يكون جبريل أشار بقوله اقرأ إلى ما هو مكتوب في النمط الذي وقع في رواية ابن إسحاق فلذلك قال له "ما أنا بقارئ" أي أمي لا أحسن قراءة الكتب، قال: والأول أظهر وهو أنه أراد بقوله اقرأ التلفظ بها. قلت: ويؤيده أن رواية عبيد بن عمير إنما ذكرها عن منام تقدم، بخلاف حديث عائشة فإنه كان في اليقظة، ثم تكلم شيخنا على ما كان مكتوبا في ذلك النمط فقال اقرأ أي القدر الذي أقرأه إياه وهي الآيات الأولى من {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ويحتمل أن يكون جملة القرآن، على هذا يكون القرآن نزل جملة واحدة باعتبار ونزل منجما كاعتبار آخر، قال: وفي إحضاره له جملة واحدة إشارة إلى أن آخره يكمل باعتبار الجملة ثم تكمل باعتبار التفصيل. قوله: "حتى بلغ مني الجهد" تقدم في بدء الوحي أنه روى بنصب الدال ورفعها وتوجيههما. وقال التوربشتي: لا أرى الذي قاله بالنصب إلا وهم فإنه يصير المعنى أنه غطه حتى استفرغ الملك قوته في ضغطه بحيث لم يبق فيه مزيد، وهو قول غير سديد، فإن البنية البشرية لا تطيق استيفاء القوة الملكية لا سيما في مبتدأ الأمر، وقد صرح الحديث بأنه داخله الرعب من ذلك. قلت: وما المانع أن يكون قواه الله على ذلك ويكون من جملة معجزاته، وقد أجاب الطيبي بأن جبريل لم يكن حينئذ على صورته الملكية فيكون استفراغ جهده بحسب صورته التي جاءه بها حين غطه قال: وإذا صحت الرواية اضمحل الاستبعاد. قلت: الترجيح

(12/357)


هنا متعين لاتحاد القصة ورواية الرفع لا إشكال فيها وهي التي ثبتت عن الأكثر فترجحت وإن كان للأخرى توجيه، وقد رجح شيخنا البلقيني بأن فاعل بلغ هو الغط والتقدير بلغ مني الغط جهده أي غايته فيرجع الرفع والنصب إلى معنى واحد وهو أولى، قال شيخنا: وكان الذي حصل له عند تلقي الوحي من الجهد مقدمة لما صار يحصل له من الكرب عند نزول القرآن كما في حديث ابن عباس " كان يعالج من التنزيل شدة " وكذا في حديث عائشة وعمر ويعلى بن أمية وغيرهم، وهي حالة يؤخذ فيها عن حال الدنيا من غير موت، فهو مقام برزخي يحصل له عند تلقي الوحي، ولما كان البرزخ العام ينكشف فيه للميت كثير من الأحوال خص الله نبيه ببرزخ في الحياة يلقى إليه فيه وحيه المشتمل على كثير من الأسرار، وقد يقع لكثير من الصلحاء عند الغيبة بالنوم أو غيره اطلاع على كثير من الأسرار، وذلك مستمد من المقام النبوي، ويشهد له حديث: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " كما سيأتي الإلمام به قريبا. قال السهيلي: تأويل الغطات الثلاث على ما في رواية ابن إسحاق أنها كانت في النوم أنه سيقع له ثلاث شدائد يبتلى بها ثم يأتي الفرج، وكذلك كان، فإنه لقي ومن تبعه شدة أولى بالشعب لما حصرتهم قريش، وثانية لما خرجوا وتوعدوهم بالقتل حتى فروا إلى الحبشة، وثالثة لما هموا بما هموا به من المكر به كما قال تعالى :{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} الآية فكانت له العاقبة في الشدائد الثلاث. وقال شيخنا البلقيني ما ملخصه: وهذه المناسبة حسنة ولا يتعين للنوم بل تكون بطريق الإشارة في اليقظة، قال: ويمكن أن تكون المناسبة أن الأمر الذي جاءه به ثقيل من حيث القول والعمل والنية، أو من جهة التوحيد والأحكام والإخبار بالغيب الماضي والآتي، وأشار بالإرسالات الثلاث إلى حصول التيسير والتسهيل والتخفيف في الدنيا والبرزخ والآخرة عليه وعلى أمته. قوله: "فرجع بها" أي رجع مصاحبا للآيات الخمس المذكورة. قوله: "ترجف بوادره" تقدم في بدء الوحي بلفظ فؤاده قال شيخنا: الحكمة في العدول عن القلب إلى الفؤاد أن الفؤاد وعاء القلب على ما قاله بعض أهل اللغة، فإذا حصل للوعاء الرجفان حصل لما فيه فيكون في ذكره من تعظيم الأمر ما ليس في ذكر القلب؟ وأما بوادره فالمراد بها اللحمة التي بين المنكب والعنق، جرت العادة بأنها تضطرب عند الفزع، وعلى ذلك جرى الجوهري أن اللحمة المذكورة سميت بلفظ الجمع، وتعقبه ابن بري فقال: البوادر جمع بادرة وهي ما بين المنكب والعنق، يعني أنه لا يختص بعضو واحد، وهو جيد فيكون إسناد الرجفان إلى القلب لكونه محله وإلى البوادر لأنها مظهره، وأما قول الداودي البوادر والفؤاد واحد فإن أراد أن مفادهما واحد على ما قررناه وإلا فهو مردود. قوله: "قال قد خشيت على" بالتشديد وفي رواية الكشميهني: "على نفسي". قوله: "فقالت له كلا أبشر" قال النووي تبعا لغيره كلا كلمة نفي وإبعاد وقد تأتي بمعنى حقا وبمعنى الاستفتاح، وقال القزاز: هي هنا بمعنى الرد لما خشي على نفسه أي لا خشية عليك، ويؤيده أن في رواية أبي ميسرة "فقالت معاذ الله" ومن اللطائف أن هذه الكلمة التي ابتدأت خديجة النطق بها عقب ما ذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم من القصة التي وقعت له هي التي وقعت عقب الآيات الخمس من سورة اقرأ في نسق التلاوة فجرت على لسانها اتفاقا لأنها لم تكن نزلت بعد وإنما نزلت في قصة أبي جهل وهذا هو المشهور عند المفسرين، وقد ذهب بعضهم إلى أنها تتعلق بالإنسان المذكور قيل لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة فهي عين الأولى، وقد أعيد الإنسان هنا كذلك فكان التقدير كلا لا يعلم الإنسان أن الله هو خلقه وعلمه أن الإنسان ليطغى، وأما قولها هنا "أبشر" فلم يقع في حديث عائشة تعيين

(12/358)


المبشر به، ووقع في دلائل البيهقي من طريق أبي ميسرة مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم قص على خديجة ما رأى في المنام فقالت له أبشر فإن الله لن يصنع بك إلا خيرا، ثم أخبرها بما وقع له من شق البطن وإعادته فقالت له أبشر إن هذا والله خير ثم استعلن له جبريل فذكر القصة فقال لها أرأيتك الذي كنت رأيت في المنام فإنه جبريل استعلن لي بأن ربي أرسله إلي، وأخبرها بما جاء به، فقالت: أبشر، فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا، فاقبل الذي جاءك من الله فإنه حق، وأبشر فإنك رسول الله حقا. قلت: هذا أصرح ما ورد في أنها أول الآدميين آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "لا يخزيك الله أبدا" في رواية الكشميهني: "لا يحزنك" بمهملة ونون. قوله: "وهو ابن عم خديجة أخو أبيها" كذا وقع هنا وأخو صفة للعم فكان حقه أن يذكر مجرورا وكذا وقع في رواية ابن عساكر: "أخي أبيها" وتوجيه رواية الرفع أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: "تنصر" أي دخل في دين النصرانية. قوله: "في الجاهلية" أي قبل البعثة المحمدية، وقد تطلق الجاهلية ويراد بها ما قبل دخول المحكي عنه في الإسلام وله أمثلة كثيرة. قوله: "أو مخرجي هم" ؟ تقدم ضبطه في أول الكتاب وتمامه في التفسير، قال السهيلي: يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس فإنه صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك لحب الوطن وإلفه فقال: "أو مخرجي هم "؟ قال ويؤيد ذلك إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه فأشعر بأن الاستفهام على سبيل الإنكار أو التفجع، ويؤكد ذلك أن الوطن المشار إليه حرم الله وجوار بيته وبلدة الآباء من عهد إسماعيل عليه السلام. انتهى ملخصا. ويحتمل أن يكون انزعاجه كان من جهة خشية فوات ما أمله من إيمان قومه بالله وإنقاذهم به من وضر الشرك وأدناس الجاهلية ومن عذاب الآخرة وليتم له المراد من إرساله إليهم، ويحتمل أن يكون انزعج من الأمرين معا. قوله: "لم يأت رجل قط بما جئت به" في رواية الكشميهني: "بمثل ما جئت به" وكذا للباقين. قوله: "نصرا مؤزرا" بالهمز للأكثر وتشديد الزاي بعدها راء من التأزير أي التقوية وأصله من الأزر وهو القوة، وقال القزاز: الصواب موزرا بغير همز من وازرته موازرة إذا عاونته، ومنه أخذ وزراء الملك، ويجوز حذف الألف فتقول نصرا موزرا، ويرد عليه قول الجوهري آزرت فلانا عاونته والعامة تقول وازرته. قوله: "وفتر الوحي" تقدم القول في مدة هذه الفترة في أول الكتاب، وقوله هنا " فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا " هذا وما بعده من زيادة معمر على رواية عقيل يونس. وصنيع المؤلف يوهم أنه داخل في رواية عقيل، وقد جرى على ذلك الحميدي في جمعه فساق الحديث إلى قوله: "وفتر الوحي" ثم قال: انتهى حديث عقيل المفرد عن ابن شهاب إلى حيث ذكرنا، وزاد عنه البخاري في حديثه المقترن بمعمر عن الزهري فقال: "وفتر الوحي فترة حتى حزن " فساقه إلى آخره، والذي عندي أن هذه الزيادة خاصة برواية معمر، فقد أخرج طريق عقيل أبو نعيم في مستخرجه من طريق أبي زرعة الرازي عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه في أول الكتاب بدونها، وأخرجه مقرونا هنا برواية معمر وبين أن اللفظ لمعمر وكذلك صرح الإسماعيلي أن الزيادة في رواية معمر، وأخرجه أحمد ومسلم والإسماعيلي وغيرهم وأبو نعيم أيضا من طريق جمع من أصحاب الليث عن الليث بدونها، ثم إن القائل فيما بلغنا هو الزهري، ومعنى الكلام أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة وهو من بلاغات الزهري وليس موصولا. وقال الكرماني: هذا هو الظاهر ويحتمل أن يكون بلغه بالإسناد المذكور، ووقع عند ابن مردويه في التفسير من طريق محمد بن كثير عن

(12/359)


معمر بإسقاط قوله: "فيما بلغنا" ولفظه: "فترة حزن النبي صلى الله عليه وسلم منها حزنا غدا منه " إلى آخره، فصار كله مدرجا على رواية الزهري وعن عروة عن عائشة، والأول هو المعتمد، قوله فيها " فإذا طالت عليه فترة الوحي " قد يتمسك به من يصحح مرسل الشعبي في أن مدة الفترة كانت سنتين ونصفا كما نقلته في أول بدء الوحي، ولكن يعارضه ما أخرجه ابن سعد من حديث ابن عباس بنحو هذا البلاغ الذي ذكره الزهري، وقوله: "مكث أياما بعد مجيء الوحي لا يرى جبريل فحزن حزنا شديدا حتى كاد يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء أخرى يريد أن يلقي نفسه فبينا هو كذلك عامدا لبعض تلك الجبال إذ سمع صوتا فوقف فزعا ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعا يقول يا محمد أنت رسول الله حقا وأنا جبريل، فانصرف وقد أقر الله عينه وانبسط جأشه ثم تتابع الوحي " فيستفاد من هذه الرواية تسمية بعض الجبال التي أبهمت في رواية الزهري وتقليل مدة الفترة والله أعلم، وقد تقدم في تفسير سورة والضحى شيء يتعلق بفترة الوحي. قوله: "فيسكن لذلك جأشه" بجيم وهمزة ساكنة وقد تسهل وبعدها شين معجمة قال الخليل الجأش النفس فعلى هذا فقوله: "وتقر نفسه" تأكيد لفظي. قوله: "عدا" بعين مهملة من العدو وهو الذهاب بسرعة، ومنهم من أعجمها من الذهاب غدوة. قوله: "بذروة جبل" قال ابن التين رويناه بكسر أوله وضمه، وهو في كتب اللغة بالكسر لا غير قلت: بل حكى تثليثه، وهو أعلى الجبل وكذا الجمل. قوله: "تبدى له جبريل" في رواية الكشميهني: "بدا له " وهو بمعنى الظهور. قوله: "فقال له مثل ذلك" زاد في رواية محمد بن كثير " حتى كثر الوحي وتتابع " قال الإسماعيلي: موه بعض الطاعنين على المحدثين فقال كيف يجوز للنبي أن يرتاب في نبوته حتى يرجع إلى ورقة ويشكو لخديجة ما يخشاه، وحتى يوفى بذروة جبل ليلقي منها نفسه على ما جاء في رواية معمر؟ قال: ولئن جاز أن يرتاب مع معاينة النازل عليه من ربه فكيف ينكر على من ارتاب فيما جاءه به مع عدم المعاينة؟ قال: والجواب أن عادة الله جرت بأن الأمر الجليل إذا قضى بإيصاله إلى الخلق أن يقدمه ترشيح وتأسيس، فكان ما يراه النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة ومحبة الخلوة والتعبد من ذلك، فلما فجئه الملك فجئة بغتة أمر خالف العادة والمألوف فنفر طبعه البشرى منه وهاله ذلك ولم يتمكن من التأمل في تلك الحال، لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها، فلا يتعجب أن يجزع مما لم يألفه وينفر طبعه منه حتى إذا تدرج عليه وألفه استمر عليه، فلذلك رجع إلى أهله التي ألف تأنيسها له فأعلمها بما وقع له فهونت عليه خشيته بما عرفته من أخلاقه الكريمة وطريقته الحسنة، فأرادت الاستظهار بمسيرها به إلى ورقة لمعرفتها بصدقه ومعرفته وقراءته الكتب القديمة، فلما سمع كلامه أيقن بالحق واعترف به، ثم كان من مقدمات تأسيس النبوة فترة الوحي ليتدرج فيه ويمرن عليه، فشق عليه فتوره إذ لم يكن خوطب عن الله بعد أنك رسول من الله ومبعوث إلى عباده، فأشفق أن يكون ذلك أمر بدئ به ثم لم يرد استفهامه فحزن لذلك، حتى تدرج على احتمال أعباء النبوة والصبر على ثقل ما يرد عليه فتح الله له من أمره بما فتح قال: ومثال ما وقع له في أول ما خوطب ولم يتحقق الحال على جليتها مثل رجل سمع آخر يقول: "الحمد لله " فلم يتحقق أنه يقرأ حتى إذا وصلها بما بعدها من الآيات تحقق أنه يقرأ، وكذا لو سمع قائلا يقول: "خلت الديار" لم يتحقق أنه ينشد شعرا حتى يقول: "محلها ومقامها" انتهى ملخصا. ثم أشار إلى أن الحكمة في ذكره صلى الله عليه وسلم ما اتفق له في هذه القصة أن يكون سببا في انتشار خبره في بطانته ومن يستمع لقوله ويصغي إليه، وطريقا في معرفتهم مباينة من سواه في أحواله لينبهوا على محله، قال: وأما إرادته إلقاء نفسه من رءوس

(12/360)


الجبال بعدما نبئ فلضعف قوته عن تحمل ما حمله من أعباء النبوة، وخوفا مما يحصل له من القيام بها من مباينة الخلق جميعا، كما يطلب الرجل الراحة من غم يناله في العاجل بما يكون فيه زواله عنه ولو أفضى إلى إهلاك نفسه عاجلا، حتى إذا تفكر فيما فيه صبره على ذلك من العقبى المحمودة صبر واستقرت نفسه. قلت: أما الإرادة المذكورة في الزيادة الأولى ففي صريح الخبر أنها كانت حزنا على ما فاته من الأمر الذي بشره به ورقة وأما الإرادة الثانية، بعد أن تبدى له جبريل وقال له إنك رسول الله حقا فيحتمل ما قاله، والذي يظهر لي أنه بمعنى الذي قبله، وأما المعنى الذي ذكره الإسماعيلي فوقع قبل ذلك في ابتداء مجيء جبريل، ويمكن أن يؤخذ مما أخرجه الطبري من طريق النعمان بن راشد عن ابن شهاب فذكر نحو حديث الباب وفيه: "فقال لي يا محمد أنت رسول الله حقا قال فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق جبل " أي من علوه. قوله: "وقال ابن عباس: فالق الإصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل" ثبت هذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني وكذا للنسفي ولأبي زيد المروزي عن الفربري، ووصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} يعني بالإصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل، وتعقب بعضهم هذا على البخاري فقال: إنما فسر ابن عباس الإصباح ولفظ: "فالق" هو المراد هنا لأن البخاري إنما ذكره عقب هذا الحديث من أجل ما وقع في حديث عائشة " فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح " فلإيراد البخاري وجه، وقد تقدم في آخر التفسير قول مجاهد في تفسير قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إن الفلق الصبح وأخرج الطبري هنا عنه في قوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} قال إضاءة الصبح، وعلى هذا فالمراد بفلق الصبح إضاءته، والفالق اسم فاعل ذلك، وقد أخرج الطبري من طريق الضحاك: الإصباح خالق النور نور النهار، وقال بعض أهل اللغة: الفلق شق الشيء، وقيده الراغب بإبانة بعضه من بعض، ومنه فلق موسى البحر فانفلق، ونقل الفراء أن فطر وخلق وفلق بمعنى واحد، وقد قيل في قوله تعالى :{فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} أن المراد به الشق الذي في الحبة من الحنطة وفي النواة، وهذا يرد على تقييد الراغب، والإصباح في الأصل مصدر أصبح إذا دخل في الصبح سمي به الصبح، قال امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى ... بصبح وما الإصباح فيك بأمثل

(12/361)


2- باب: رُؤْيَا الصَّالِحِينَ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً }
6983- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ"
[الحديث 6983- طرفه في: 6994]
قوله: "باب: رؤيا الصالحين" الإضافة فيه للفاعل لقوله في حديث الباب: "يراها الرجل الصالح" وكأنه جمع إشارة إلى أن المراد بالرجل الجنس. قوله: "وقوله تعالى :{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ - إلى قوله - فَتْحاً قَرِيباً} ساق في رواية كريمة الآية كلها، وأخرج الفريابي وعبد بن حميد

(12/361)


والطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال: "أرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أنه دخل مكة هو وأصحابه محلقين، قال فلما نحر الهدي بالحديبية قال أصحابه: أين رؤياك؟ فنزلت: وقوله: {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} قال: النحر بالحديبية فرجعوا ففتحوا خيبر أي المراد بقوله ذلك النحر والمراد بالفتح فتح خيبر. قال: ثم اعتمر بعد ذلك فكان تصديق رؤياه في السنة المقبلة. وقد أخرج ابن مردويه في التفسير بسند ضعيف عن ابن عباس في هذه الآية قال: تأويل رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء، واختلف في معنى قوله: "إن شاء الله" في الآية فقيل: هي إشارة إلى أنه لا يقع شيء إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل هي حكاية لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه، وقيل هي على سبيل التعليم لمن أراد أن يفعل شيئا مستقبلا كقوله تعالى :{َلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقيل هي على سبيل الاستثناء من عموم المخاطبين، لأن منهم من مات قبل ذلك أو قتل. قوله: "عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" سيأتي بعد باب من وجه آخر " عن أنس عن عبادة بن الصامت " ويأتي بيانه هناك. قوله: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح" هذا يقيد ما أطلق في غير هذه الرواية كقوله: "رؤيا المؤمن جزء" ولم يقيدها بكونها حسنة ولا بأن رائيها صالح، ووقع في حديث أبي سعيد "الرؤيا الصالحة" وهو تفسير المراد بالحسنة هنا، قال المهلب: المراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يري الأضغاث ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلط الشيطان عليهم، قال: فالناس على هذا ثلاث درجات: الأنبياء ورؤياهم كلها صدق وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث وهي ثلاثة أقسام: مستورون فالغالب استواء الحال في حقهم، وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث ويقل فيها الصدق، وكفار ويندر في رؤياهم الصدق جدا ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا " أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وستأتي الإشارة إليه في " باب القيد في المنام " إن شاء الله تعالى. وقد وقعت الرؤيا الصادقة من بعض الكفار كما في رؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام ورؤيا ملكهما وغير ذلك. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: رؤيا المؤمن الصالح هي التي تنسب إلى أجزاء النبوة، ومعنى صلاحها استقامتها وانتظامها، قال: وعندي أن رؤيا الفاسق لا تعد في أجزاء النبوة، وقيل تعد من أقصى الأجزاء، وأما رؤيا الكافر فلا تعد أصلا. وقال القرطبي: المسلم الصادق الصالح هو الذي يناسب حاله حال الأنبياء فأكرم بنوع مما أكرم به الأنبياء وهو الاطلاع على الغيب، وأما الكافر والفاسق والمخلط فلا، ولو صدقت رؤياهم أحيانا فذاك كما قد يصدق الكذوب وليس كل من حديث عن غيب يكون خبره من أجزاء النبوة كالكاهن والمنجم. وقوله: "من الرجل" ذكر للغالب فلا مفهوم له فإن المرأة الصالحة كذلك قاله ابن عبد البر. قوله: "جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" كذا وقع في أكثر الأحاديث، ولمسلم من حديث أبي هريرة " جزء من خمسة وأربعين " أخرجه من طريق أيوب عن محمد بن سيرين عنه، وسيأتي للمصنف من طريق عوف عن محمد بلفظ: "ستة " كالجادة، ووقع عند مسلم أيضا من حديث ابن عمر " جزء من سبعين جزءا " وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود موقوفا، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عنه مرفوعا، وله من وجه آخر عنه " جزء من ستة وسبعين " وسندها ضعيف، وأخرجه ابن أبي

(12/362)


شيبة أيضا من رواية حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة موقوفا كذلك، وأخرجه أحمد مرفوعا، لكن أخرجه مسلم من رواية الأعمش عن أبي صالح كالجادة، ولابن ماجه مثل حديث ابن عمر مرفوعا وسنده لين، وعند أحمد والبزار عن ابن عباس بمثله وسنده جيد. وأخرج ابن عبد البر من طريق عبد العزيز بن المختار عن ثابت عن أنس مرفوعا: "جزء من ستة وعشرين" والمحفوظ من هذا الوجه كالجادة، وسيأتي للبخاري قريبا، ومثله لمسلم من رواية شعبة عن ثابت، وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبري في " تهذيب الآثار " من طريق الأعرج عن سليمان بن عريب بمهملة وزن عظيم من أبي هريرة كالجادة، قال سليمان: فذكرته لابن عباس فقال: "جزء من خمسين" فقلت له إني سمعت أبا هريرة فقال ابن عباس: فإني سمعت العباس بن عبد المطلب يقول: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الرؤيا الصالحة من المؤمن جزء من خمسين جزءا من النبوة " وللترمذي والطبري من حديث أبي رزين العقيلي " جزء من أربعين " وأخرج الترمذي من وجه آخر كالجادة، وأخرجه الطبري من وجه آخر عن ابن عباس " أربعين " وللطبري من حديث عبادة " جزء من أربعة وأربعين " والمحفوظ عن عبادة كالجادة كما سيأتي بعد باب وأخرج الطبري وأحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص " جزء من تسعة وأربعين " وذكره القرطبي في " المفهم " بلفظ: "سبعة " بتقديم السين، فحصلنا من هذه الروايات على عشرة أوجه أقلها جزء من ستة وعشرين وأكثرها من ستة وسبعين وبين ذلك أربعين وأربعة وأربعين وخمسة وأربعين وستة وأربعين وسبعة وأربعين وتسعة وأربعين وخمسين وسبعين، أصحها مطلقا الأول ويليه السبعين، ووقع في شرح النووي وفي رواية عبادة أربعة وعشرين، وفي رواية ابن عمر ستة وعشرين وهاتان الروايتان لا أعرف من أخرجهما إلا أن بعضهم نسب رواية ابن عمر هذه لتخريج الطبري، ووقع في كلام ابن أبي جمرة أنه ورد بألفاظ مختلفة فذكر بعض ما تقدم وزاد في رواية اثنين وسبعين، وفي أخرى اثنين وأربعين وفي أخرى سبعة وعشرين وفي أخرى خمسة وعشرين فبلغت على هذا خمسة عشر لفظا. وقد استشكل كون الرؤيا جزءا من النبوة مع أن النبوة انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل في الجواب إن وقعت الرؤيا من النبي صلى الله عليه وسلم فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة وإن وقعت من غير النبي فهي جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز. وقال الخطابي قيل معناه إن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لا أنها جزء باق من النبوة، وقيل المعنى إنها جزء من علم النبوة لأن النبوة وإن انقطعت فعلمها باق، وتعقب بقول مالك فيما حكاه ابن عبد البر أنه سئل: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال أبالنبوة يلعب؟ ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة فلا يلعب بالنبوة. والجواب أنه لم يرد أنها نبوة باقية وإنما أراد أنها لما أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب لا ينبغي أن يتكلم فيها بغير علم. وقال ابن بطال: كون الرؤيا جزءا من أجزاء النبوة مما يستعظم ولو كانت جزءا من ألف جزء، فيمكن أن يقال إن لفظ النبوة مأخوذ من الإنباء وهو الإعلام لغة، فعلى هذا فالمعنى أن الرؤيا خبر صادق من الله لا كذب فيه كما أن معنى النبوة نبأ صادق من الله لا يجوز عليه الكذب فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر. وقال المازري: يحتمل أن يراد بالنبوة في هذا الحديث الخبر بالغيب لا غير وإن كان يتبع ذاك إنذار أو تبشير فالخبر بالغيب أحد ثمرات النبوة، وهو غير مقصود لذاته لأنه يصح أن يبعث نبي يقرر الشرع ويبين الأحكام وإن لم يخبر في طول عمره بغيب ولا يكون ذلك قادحا في نبوته ولا مبطلا للمقصود منها، والخبر بالغيب من النبي لا يكون إلا صدقا ولا يقع إلا حقا، وأما خصوص العدد فهو مما أطلع الله عليه نبيه لأنه يعلم من حقائق النبوة ما لا يعلمه

(12/363)


غيره، قال: وقد سبق بهذا الجواب جماعة لكنهم لم يكشفوه ولم يحققوه. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبي، وإنما القدر الذي أراده النبي أن يبين أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة. وقال المازري: لا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملة وتفصيلا، فقد جعل الله للعالم حدا يقف عنده، فمنه ما يعلم المراد به جملة وتفصيلا، ومنه ما يعلمه جملة لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل. وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة وأبدى لها مناسبة فنقل ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسي أن بعض أهل العلم ذكر أن الله أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة بقية مدة حياته، ونسبتها من الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءا لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح، قال ابن بطال: هذا التأويل يفسد من وجهين: أحدهما أنه قد اختلف في قدر المدة التي بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى موته، والثاني أنه يبقى حديث السبعين جزءا بغير معنى. قلت: ويضاف إليه بقية الأعداد الواقعة. وقد سبقه الخطابي إلى إنكار هذه المناسبة فقال: كان بعض أهل العلم يقول في تأويل هذا العدد قولا لا يكاد يتحقق، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أقام بعد الوحي ثلاثا وعشرين سنة وكان يوحى إليه في منامه ستة أشهر وهي نصف سنة فهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، قال الخطابي: وهذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب والعدد فأول ما يجب على من قاله أن يثبت بما ادعاه خبرا، ولم يسمع فيه أثر ولا ذكر مدعية في ذلك خبرا، فكأنه قاله على سبيل الظن والظن لا يغني من الحق شيئا، ولئن كانت هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة على ما ذهب إليه فليلحق بها سائر الأوقات التي كان يوحى إليه فيها في منامه في طول المدة كما ثبت ذلك عنه في أحاديث كثيرة جليلة القدر، والرؤيا في أحد وفي دخول مكة فإنه يتلفق من ذلك مدة أخرى وتزاد في الحساب فتبطل القسمة التي ذكرها، قال: فدل ذلك على ضعف ما تأوله المذكور، وليس كل ما خفي علينا علمه لا يلزمنا حجته كأعداد الركعات وأيام الصيام ورمي الجمار فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها، ولم يقدح ذلك في موجب اعتقادنا للزومها، وهو كقوله في حديث آخر " الهدى الصالح والسمت الصالح جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة " فإن تفصيل هذا العدد وحصر النبوة متعذر وإنما فيه أن هاتين الخصلتين من جملة هدى الأنبياء وسمتهم، فكذلك معنى حديث الباب المراد به تحقيق أمر الرؤيا وأنها مما كان الأنبياء عليه وأنها جزء من أجزاء العلم الذي كان يأتيهم والأنباء التي كان ينزل بها الوحي عليهم، وقد قبل جماعة من الأئمة المناسبة المذكورة وأجابوا عما أورده الخطابي، أما الدليل على كون الرؤيا كانت ستة أشهر فهو أن ابتداء الوحي كان على رأس الأربعين من عمره صلى الله عليه وسلم كما جزم به ابن إسحاق وغيره وذلك في ربيع الأول ونزول جبريل إليه وهو بغار حراء كان في رمضان وبينهما ستة أشهر، وفي هذا الجواب نظر لأنه على تقدير تسليمه ليس فيه تصريح بالرؤيا، وقد قال النووي: لم يثبت أن زمن الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم كان ستة أشهر وأما ما ألزمه به من تلفيق أوقات المرائي وضمها إلى المدة فإن المراد وحي المنام المتتابع، وأما ما وقع منه في غضون وحي اليقظة فهو يسير بالنسبة إلى وحي اليقظة فهو مغمور في جانب وحي اليقظة فلم يعتبر بمدته، وهو نظير ما اعتمدوه في نزول الوحي، وقد أطبقوا على تقسيم النزول إلى مكي ومدني قطعا فالمكي ما نزل قبل الهجرة ولو وقع بغيرها مثلا كالطائف ونخلة والمدني ما نزل بعد الهجرة ولو وقع وهو بغيرها كما في الغزوات وسفر الحج والعمرة حتى مكة. قلت: وهو

(12/364)


اعتذار مقبول، ويمكن الجواب عن اختلاف الأعداد أنه وقع بحسب الوقت الذي حدث فيه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كأن يكون لما أكمل ثلاث عشرة سنة بعد مجيء الوحي إليه حدث بأن الرؤيا جزء من ستة وعشرين إن ثبت الخبر بذلك وذلك وقت الهجرة، ولما أكمل اثنين وعشرين حدث بأربعة وأربعين ثم بعدها بخمسة وأربعين ثم حدث بستة وأربعين في آخر حياته، وأما ما عدا ذلك من الرؤيات بعد الأربعين فضعيف ورواية الخمسين يحتمل أن تكون لجبر الكسر ورواية السبعين للمبالغة وما عدا ذلك لم يثبت، وهذه مناسبة لم أر من تعرض لها، ووقع في بعض الشروح مناسبة للسبعين ظاهرة التكلف وهي أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي أخرجه أحمد وغيره: "أنا بشارة عيسى ودعوة إبراهيم ورأت أمي نورا، فهذه ثلاثة أشياء تضرب في مدة نبوته وهي ثلاثة وعشرون سنة تضاف إلى أصل الرؤيا فتبلغ سبعين. قلت: ويبقى في أصل المناسبة إشكال آخر وهو المتبادر من الحديث إرادة تعظيم رؤيا المؤمن الصالح، والمناسبة المذكورة تقتضي قصر الخبر على صورة ما اتفق لنبينا صلى الله عليه وسلم كأنه قيل كانت المدة التي أوحى الله إلى نبينا فيها في المنام جزءا من ستة وأربعين جزءا من المدة التي أوحى الله إليه فيها في اليقظة، ولا يلزم من ذلك أن كل رؤيا لكل صالح تكون كذلك، ويؤيد إرادة التعميم الحديث الذي ذكره الخطابي في الهدى والسمت فإنه ليس خاصا بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أصلا، وقد أنكر الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة التأويل المذكور فقال ليس فيه كبير فائدة ولا ينبغي أن يحمل كلام المؤيد بالفصاحة والبلاغة على هذا المعنى، ولعل قائله أراد أن يجعل بين النبوة والرؤيا نوع مناسبة فقط، ويعكر عليه الاختلاف في عدد الأجزاء. "تنبيه": حديث الهدى الصالح الذي ذكره الخطابي أخرجه الترمذي والطبراني من حديث عبد الله بن سرخس لكن بلفظ أربعة وعشرين جزءا وقد ذكره القرطبي في " المفهم " بلفظ من ستة وعشرين انتهى. وقد أبدى غير الخطابي المناسبة باختلاف الروايات في العدد المذكور، وقد جمع بينها جماعة أولهم الطبري فقال: رواية السبعين عامة في كل رؤيا صادقة من كل مسلم، ورواية الأربعين خاصة بالمؤمن الصادق الصالح، وأما ما بين ذلك فبالنسبة لأحوال المؤمنين. وقال ابن بطال: أما الاختلاف في العدد قلة وكثرة فأصح ما ورد فيها من ستة وأربعين ومن سبعين وما بين ذلك من أحاديث الشيوخ، وقد وجدنا الرؤيا تنقسم قسمين: جلية ظاهرة كمن رأى في المنام أنه يعطى تمرا فأعطي تمرا مثله في اليقظة فهذا القسم لا إغراب في تأويلها ولا رمز في تفسيرها، ومرموزة بعيدة المرام فهذا القسم لا يقوم به حتى يعبره إلا حاذق لبعد ضرب المثل فيه، فيمكن أن هذا من السبعين والأول من الستة والأربعين لأنه إذا قلت الأجزاء كانت الرؤيا أقرب إلى الصدق وأسلم من وقوع الغلط في تأويلها، بخلاف ما إذا كثرت. قال: وقد عرضت هذا الجواب على جماعة فحسنوه وزادني بعضهم فيه أن النبوة على مثل هذين الوصفين تلقاها الشارع عن جبريل، فقد أخبر أنه كان يأتيه الوحي مرة فيكلمه بكلام فيعيه بغير كلفة ومرة يلقى إليه جملا وجوامع يشتد عليه حملها حتى تأخذه الرحضاء ويتحدر منه العرق ثم يطلعه الله على بيان ما ألقى عليه منها. ولخصه المازري فقال: قيل إن المنامات دلالات، والدلالات منها ما هو جلي ومنها ما هو خفي، فالأقل في العدد هو الجلي والأكثر في العدد هو الخفي وما بين ذلك. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة ما حاصله: إن النبوة جاءت بالأمور الواضحة، وفي بعضها ما يكون فيه إجمال مع كونه مبينا في موضع آخر، وكذلك المرائي منها ما هو صريح لا يحتاج إلى تأويل ومنها ما يحتاج فالذي يفهمه العارف من الحق الذي يعرج عليه منها جزء من أجزاء

(12/365)


النبوة، وذلك الجزء يكثر مرة ويقل أخرى بحسب فهمه، فأعلاهم من يكون بينه وبين درجة النبوة أقل ما ورد من العدد، وأدناهم الأكثر من العدد، ومن عداهما ما بين ذلك. وقاك القاضي عياض: ويحتمل أن تكون هذه التجزئة في طرق الوحي، إذ منه ما سمع من الله بلا واسطة، ومنه ما جاء بواسطة الملك، ومنه ما ألقي في القلب من الإلهام، ومنه ما جاء به الملك وهو على صورته أو على صورة آدمي معروف أو غير معروف، ومنه ما أتاه به في النوم، ومنه ما أتاه به في صلصلة الجرس، ومنه ما يلقيه روح القدس في روعه، إلى غير ذلك مما وقفنا عليه ومما لم نقف عليه، فتكون تلك الحالات إذا عددت انتهت إلى العدد المذكور. قال القرطبي في "المفهم": ولا يخفى ما فيه من التكلف والتساهل، فإن تلك الأعداد إنما هي أجزاء النبوة، وأكثر الذي ذكره إنما هي أحوال لغير النبوة لكونه يعرف الملك أو لا يعرفه أو يأتيه على صورته أو على صورة آدمي ثم مع هذا التكلف لم يبلغ عدد ما ذكر عشرين فضلا عن سبعين. قلت: والذي نحاه القاضي سبقه إليه الحليمي " فقرأت في مختصره للشيخ علاء الدين القونوي بخطه ما نصه: ثم إن الأنبياء يختصون بآيات يؤيدون بها ليتميزوا بها عمن ليس مثلهم، كما تميزوا بالعلم الذي أوتوه " فيكون لهم الخصوص من وجهين: فما هو في حيز التعليم هو النبوة، وما هو في حيز التأبيد هو حجة النبوة، قال: وقد قصد الحليمي في هذا الموضع بيان كون الرؤيا الصالحة جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة فذكر وجوها من الخصائص العلمية للأنبياء تكلف في بعضها حتى أنهاها إلى العدد المذكور، فتكون الرؤيا واحدا من تلك الوجوه، فأعلاها تكليم الله بغير واسطة، ثانيها الإلهام بلا كلام بل يجد علم شيء في نفسه من غير تقدم ما يوصل إليه بحس أو استدلال، ثالثها الوحي على لسان ملك يراه فيكلمه، رابعها نفث الملك في روعه وهو الوحي الذي يخص به القلب دون السمع، قال: وقد ينفث الملك في روع بعض أهل الصلاح لكن بنحو الإطماع في الظفر بالعدو والترغيب في الشيء والترهيب من الشيء فيزول عنه بذلك وسوسة الشيطان بحضور الملك لا بنحو نفي علم الأحكام والوعد والوعيد فإنه من خصائص النبوة، خامسها إكمال عقله فلا يعرض له فيه عارض أصلا، سادسها قوة حفظه حتى يسمع السورة الطويلة فيحفظها من مرة ولا ينسى منها حرفا، سابعها عصمته من الخطأ في اجتهاده، ثامنها ذكاء فهمه حتى يتسع لضروب من الاستنباط، تاسعها ذكاء بصره حتى يكاد يبصر الشيء من أقصى الأرض، عاشرها ذكاء سمعه حتى يسمع من أقصى الأرض ما لا يسمعه غيره، حادي عشرها ذكاء شمه كما وقع ليعقوب في قميص يوسف، ثاني عشرها تقوية جسده حتى سار في ليلة مسيرة ثلاثين ليلة، ثالث عشرها عروجه إلى السماوات، رابع عشرها مجيء الوحي له في مثل صلصلة الجرس، خامس عشرها تكليم الشاة، سادس عشرها إنطاق النبات، سابع عشرها إنطاق الجذع، ثامن عشرها إنطاق الحجر، تاسع عشرها إفهامه عواء الذئب أن يفرض له رزقا، العشرون إفهامه رغاء البعير، الحادي والعشرون أن يسمع الصوت ولا يرى المتكلم، الثانية والعشرون تمكينه من مشاهدة الجن، الثالثة والعشرون تمثيل الأشياء المغيبة له كما مثل له بيت المقدس صبيحة الإسراء، الرابعة والعشرون حدوث أمر يعلم به العاقبة كما قال في الناقة لما بركت في الحديبية "حبسها حابس الفيل" الخامسة والعشرون استدلاله باسم على أمر كما قال لما جاءهم سهيل بن عمرو "قد سهل لكم الأمر"، السادسة والعشرون أن ينظر شيئا علويا فيستدل به على أمر يقع في الأرض كما قال: "إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب"، السابعة والعشرون رؤيته من ورائه، الثامنة والعشرون اطلاعه على أمر وقع لمن مات قبل أن يموت

(12/366)


كما قال في حنظلة "رأيت الملائكة تغسله" وكان قتل وهو جنب، التاسعة والعشرون أن يظهر له ما يستدل به على فتوح مستقبل كما جاء ذلك يوم الخندق، الثلاثون اطلاعه على الجنة والنار في الدنيا، الحادية والثلاثون الفراسة، الثانية والثلاثون طواعية الشجرة حتى انتقلت بعروقها وغصونها من مكان إلى مكان ثم رجعت، الثالثة والثلاثون قصة الظبية وشكواها له ضرورة خشفها الصغير، الرابعة والثلاثون تأويل الرؤيا بحيث لا تخطئ، الخامسة والثلاثون الحزر في الرطب وهو على النخل أنه يجيء كذا وكذا وسقا من التمر فجاء كما قال، السادسة والثلاثون الهداية إلى الأحكام، السابعة والثلاثون الهداية إلى سياسة الدين والدنيا، الثامنة والثلاثون الهداية إلى هيئة العالم وتركيبه، التاسعة والثلاثون الهداية إلى مصالح البدن بأنواع الطب، الأربعون الهداية إلى وجوه القربات، الحادية والأربعون الهداية إلى الصناعات النافعة، الثانية والأربعون الاطلاع على ما سيكون، الثالثة والأربعون الاطلاع على ما كان مما لم ينقله أحد قبله، الرابعة والأربعون التوقيف على أسرار الناس ومخبآتهم، الخامسة والأربعون تعليم طرق الاستدلال، السادسة والأربعون الاطلاع على طريق التلطف في المعاشرة، قال: فقد بلغت خصائص النبوة فيما مرجعه العلم ستة وأربعين وجها ليس منها وجه إلا وهو يصلح أن يكون مقاربا للرؤيا الصالحة التي أخبر أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، والكثير منها وإن كان قد يقع لغير النبي لكنه للنبي لا يخطئ أصلا ولغيره قد يقع فيه الخطأ والله أعلم. وقال الغزالي في كتاب الفقر والزهد من "الإحياء"، لما ذكر حديث يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام " وفي رواية بأربعين سنة قال: وهذا يدل على تفاوت درجات الفقراء فكان الفقير الحريص على جزء من خمسة وعشرين جزءا من الفقير الزاهد لأن هذه نسبة الأربعين إلى الخمسمائة، ولا يظن أن تقدير النبي صلى الله عليه وسلم يتجزأ على لسانه كيف ما اتفق بل لا ينطق إلا بحقيقة الحق وهذا كقوله: "الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " فإنه تقدير تحقيق، لكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلا بتخمين، لأن النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره، وهو يختص بأنواع من الخواص منها أنه يعرف حقاق الأمور المتعلقة بالله وصفاته وملائكته والدار الآخرة لا كما يعلمه غيره بل عنده من كثرة المعلومات وزيادة اليقين والتحقيق ما ليس عند غيره، وله صفة تتم له بها الأفعال الخارقة للعادات كالصفة التي بها تتم لغيره الحركات الاختيارية، وله صفة يبصر بها الملائكة ويشاهد بها الملكوت كالصفة التي يفارق بها البصير الأعمى، وله صفة بها يدرك ما سيكون في الغيب ويطالع بها ما في اللوح المحفوظ كالصفة التي يفارق بها الذكي البليد، فهذه صفات كمالات ثابتة للنبي يمكن انقسام كل واحد منها إلى أقسام بحيث يمكننا أن نقسمها إلى أربعين وإلى خمسين وإلى أكثر، وكذا يمكننا أن نقسمها إلى ستة وأربعين جزءا بحيث تقع الرؤيا الصحيحة جزءا من جملتها لكن لا يرجع إلا إلى ظن وتخمين لا أنه الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة، انتهى ملخصا. وأظنه أشار إلى كلام الحليمي فإنه مع تكلفه ليس على يقين أن الذي ذكره هو المراد والله أعلم. وقال ابن الجوزي: لما كانت النبوة تتضمن اطلاعا على أمور يظهر تحقيقها فيما بعد وقع تشبيه رؤيا المؤمن بها، وقيل إن جماعة من الأنبياء كانت نبوتهم وحيا في المنام فقط، وأكثرهم ابتدئ بالوحي في المنام ثم رقوا إلى الوحي في اليقظة! فهذا بيان مناسبة تشبيه المنام الصادق بالنبوة، وأما خصوص العدد المذكور فتكلم فيه جماعة فذكر المناسبة الأولى وهي أن مدة وحي المنام إلى نبينا كانت ستة أشهر وقد تقدم ما فيه، ثم ذكر أن الأحاديث اختلفت في العدد المذكور قال: فعلى هذا تكون رؤيا المؤمن مختلفة بأعلاها ستة وأربعون وأدناها سبعون، ثم ذكر المناسبة التي ذكرها الطبري.

(12/367)


وقال القرطبي في "المفهم": يحتمل أن يكون المراد من هذا الحديث أن المنام الصادق خصلة من خصال النبوة كما جاء في الحديث الآخر " التؤدة والاقتصاد وحسن السمت جزء من ستة وعشرين جزءا من النبوة " أي النبوة مجموع خصال مبلغ أجزائها ذلك وهذه الثلاثة جزء منها، وعلى مقتضى ذلك يكون كل جزء من الستة والعشرين ثلاثة أشياء فإذا ضربنا ثلاثة في ستة وعشرين انتهت إلى ثمانية وسبعين فيصح لنا أن عدد خصال النبوة من حيث آحادها ثمانية وسبعون قال: ويصح أن يسمى كل اثنين منها جزءا فيكون العدد بهذا الاعتبار تسعة وثلاثين، ويصح أن يسمى كل أربعة منها جزءا فتكون تسعة عشر جزءا ونصف جزء فيكون اختلاف الروايات في العدد بحسب اختلاف اعتبار الأجزاء، ولا يلزم منه اضطراب. قال وهذا أشبه ما وقع لي في ذلك مع أنه لم ينشرح به الصدر ولا اطمأنت إليه النفس. قلت وتمامه أن يقول في الثمانية والسبعين بالنسبة لرواية السبعين ألغي فيها الكسر وفي التسعة والثلاثين بالنسبة لرواية الأربعين جبر الكسر، ولا تحتاج إلى العدد الأخير لما فيه من ذكر النصف، وما عدا ذلك من الأعداد قد أشار إلى أنه يعتبر بحسب ما يقدر من الخصال، ثم قال: وقد ظهر لي وجه آخر وهو أن النبوة معناها أن الله يطلع من يشاء من خلقه على ما يشاء من أحكامه ووحيه إما بالمكالمة وإما بواسطة الملك وإما بإلقاء في القلب بغير واسطة، لكن هذا المعنى المسمى بالنبوة لا يخص الله به إلا من خصه بصفات كمال نوعه من المعارف والعلوم والفضائل والآداب مع تنزهه عن النقائص أطلق على تلك الخصال نبوة كما في حديث: "التؤدة والاقتصاد" أي تلك الخصال من خصال الأنبياء، والأنبياء مع ذلك متفاضلون فيها كما قال تعالى :{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ومع ذلك فالصدق أعظم أوصافهم يقظة ومناما، فمن تأسى بهم في الصدق حصل من رؤياه على الصدق ثم لما كانوا في مقاماتهم متفاوتين كان أتباعهم من الصالحين كذلك، وكان أقل خصال الأنبياء ما إذا اعتبر كان ستة وعشرين جزءا وأكثرها ما يبلغ سبعين، وبين العددين مراتب مختلفة بحسب ما اختلفت ألفاظ الروايات، وعلى هذا فمن كان من غير الأنبياء في صلاحه وصدقه على رتبة تناسب حال نبي من الأنبياء كانت رؤياه جزءا من نبوة ذلك النبي، ولما كانت كمالاتهم متفاوتة كانت نسبة أجزاء منامات الصادقين متفاوتة على ما فصلناه، قال: وبهذا يندفع الاضطراب إن شاء الله. وذكر الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة وجها آخر ملخصه أن النبوة لها وجوه من الفوائد الدنيوية والأخروية خصوصا وعموما، منها ما يعلم ومنها ما لا يعلم، ليس بين النبوة والرؤيا نسبة إلا في كونها حقا فيكون مقام النبوة بالنسبة لمقام الرؤيا بحسب تلك الأعداد راجعة إلى درجات الأنبياء، فنسبتها من أعلاهم وهو من ضم له إلى النبوة الرسالة أكثر ما ورد من العدد، ونسبتها إلى الأنبياء غير المرسلين أقل ما ورد من العدد وما بين ذلك، ومن ثم أطلق في الخبر النبوة ولم يقيدها بنبوة نبي بعينه. ورأيت في بعض الشروح أن معنى الحديث أن للمنام شبها بما حصل للنبي وتميز به عن غيره بجزء من ستة وأربعين جزءا، فهذه عدة مناسبات لم أر من جمعها في موضع واحد، فلله الحمد على ما ألهم وعلم "ولم أقف في شيء من الأخبار على كون الإلهام جزءا من أجزاء النبوة مع أنه من أنواع الوحي إلا أن ابن أبي جمرة تعرض لشيء منه كما سأذكره في "باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم"إن شاء الله تعالى.

(12/368)


3- باب: الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ
6984- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ

(12/368)


"سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مِنْ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ"
6985- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلاَ يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ"
قوله: "باب" بالتنوين "الرؤيا من الله" أي مطلقا، وإن قيدت في الحديث بالصالحة فهو بالنسبة إلى ما لا دخول للشيطان فيه، وأما ما له فيه دخل فنسبت إليه نسبة مجازية، مع أن الكل بالنسبة إلى الخلق والتقدير من قبل الله، وإضافة الرؤيا إلى الله للتشريف، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما سأبينه، وظاهر قوله: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان " أن التي تضاف إلى الله لا يقال لها حلم والتي تضاف للشيطان لا يقال لها رؤيا وهو تصرف شرعي، وإلا فكل يسمى رؤيا، وقد جاء في حديث آخر " الرؤيا ثلاث " فأطلق على كل رؤيا، وسيأتي بيانه في " باب القيد في المنام". وذكر فيه حديثين: الحديث الأول حديث أبي قتادة، وزهير في السند هو ابن معاوية أبو خيثمة الجعفي، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن. قوله: "الرؤيا الصادقة" في رواية الكشميهني: "الصالحة " وهو الذي وقع في معظم الروايات، وسقط الوصف من رواية أحمد بن يحيى الحلواني عن أحمد بن يونس شيخ البخاري فيه أخرجه أبو نعيم في المستخرج بلفظ: "الرؤيا من الله" كالترجمة، وكذا في الطب من رواية سليمان بن بلال والإسماعيلي من رواية الثوري وبشر بن المفضل ويحيى القطان كلهم عن يحيى بن سعيد، ولمسلم من رواية الزهري عن أبي سلمة كما سيأتي قريبا مثله، ووقع في رواية عبد ربه بن سعيد عن أبي سلمة كما سيأتي في باب إذا رأى ما يكره " الرؤيا الحسنة من الله " ووقع عند مسلم من هذا الوجه " الصالحة " زاد في هذه الرواية: "فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يخبر به إلا من يحب " ولمسلم في رواية من هذا الوجه " فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر إلا من يحب " وقوله فليبشر بفتح التحتانية وسكون الموحدة وضم المعجمة من البشرى، وقيل بنون بدل الموحدة أي ليحدث بها، وزعم عياض أنها تصحيف، ووقع في بعض النسخ من مسلم: "فليستر " بمهملة ومثناة من الستر، وفي حديث أبي رزين عند الترمذي " ولا يقصها إلا على واد " بتشديد الدال اسم فاعل من الود " أو ذي رأي " وفي أخرى " ولا يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا " وفي أخرى " ولا يقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح " قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما العالم فإنه يؤولها له على الخير مهما أمكنه، وأما الناصح فإنه يرشد إلى ما ينفعه ويعينه عليه، وأما اللبيب وهو العارف بتأويلها فإنه يعلمه بما يعول عليه في ذلك أو يسكت، وأما الحبيب فإن عرف خيرا قاله وإن جهل أو شك سكت. قلت: والأولى الجمع بين الروايتين فإن اللبيب عبر به عن العالم والحبيب عبر به من الناصح، ووقع عند مسلم في حديث أبي سعيد في حديثي الباب: "فليحمد الله عليها وليحدث بها". قوله: "والحلم من الشيطان " كذا اختصره، وسيأتي ضبط الحلم ومعناه في "باب الحلم من الشيطان" إن شاء الله تعالى، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من الطريق المشار إليها فزاد: "فإذا رأى أحدكم

(12/369)


شيئا يكرهه فلينفث عن شماله ثلاث مرات ويتعوذ بالله من شرها وأذاها فإنها لا تضر " وكذا مضى في الطب من رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، وسيأتي للمصنف في " باب الحلم من الشيطان " من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة بلفظ: "فإذا حلم أحدكم الحلم يكرهه فليبصق عن يساره وليستعذ بالله منه فلن يضره " ولمسلم من هذا الوجه " عن يساره حين يهب من نومه ثلاث مرات، وسيأتي في " باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم: "من طريق عبيد بن أبي جعفر عن أبي سلمة بلفظ: "فمن رأى شيئا يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثا وليتعوذ من الشيطان فإنها لا تضره" ، ومن رواية عبد ربه بن سعيد عن أبي سلمة الآتية في " باب إذا رأى ما يكره، بلفظ: "وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثا ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره " وهذه أتم الروايات عن أبي سلمة لفظا. قال المهلب: سمى الشارع الرؤيا الخالصة من الأضغاث صالحة وصادقة وأضافها إلى الله، وسمى الأضغاث حلما وأضافها إلى الشيطان إذ كانت مخلوقة على شاكلته فأعلم الناس بكيده وأرشدهم إلى دفعه لئلا يبلغوه أربه في تحزينهم والتهويل عليهم، وقال أبو عبد الملك: أضيفت إلى الشيطان لكونها على هواه ومراده. وقال ابن الباقلاني يخلق الله الرؤيا الصالحة بحضرة الملك ويخلق الرؤيا التي تقابلها بحضرة الشيطان، فمن ثم أضيف إليه، وقيل أضيفت إليه لأنه الذي يخيل بها ولا حقيقة لها في نفس الأمر. الحديث الثاني عن أبي سعيد الخدري، قوله: "حدثني ابن الهاد" هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن عبد الله ابن شداد بن الهاد الليثي، وسيأتي منسوبا في "باب إذا رأى ما يكره". قوله: "فإنما هي من الله" في الرواية المذكورة. "فإنها من الله، فليحمد الله عليها وليتحدث بها، وفي رواية الكشميهني: "فليتحدث" ومثله في الرواية المذكورة. قوله: "وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ" زاد في نسخة "بالله". قوله: "ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره" في رواية الكشميهني في باب إذا رأى ما يكره " فإنها لن تضره" ، فحاصل ما ذكر من أبواب الرؤيا الصالحة ثلاث أشياء: أن يحمد الله عليها، وأن يستبشر بها، وأن يتحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره وحاصل ما ذكر من أدب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، وأن يتفل حين يهب من نومه عن يساره ثلاثا، ولا يذكرها لأحد أصلا. ووقع عند المصنف في "باب القيد في المنام" عن أبي هريرة خامسة وهي الصلاة ولفظه: "فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل " لكن لم يصرح البخاري بوصله وصرح به مسلم كما سيأتي بيانه في بابه، وغفل القاضي أبو بكر بن العربي فقال: زاد الترمذي على الصحيحين بالأمر بالصلاة انتهى، وزاد مسلم سادسة وهي التحول عن جنبه الذي كان عليه فقال: "حدثنا قتيبة حدثنا ليث وحدثنا ابن رمح أنبأنا الليث عن أبي الزبير عن جابر رفعه إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق على يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه " وقال قبل ذلك " حدثنا قتيبة ومحمد بن رمح عن الليث بن سعد وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير كلهم عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد " يعني عن أبي سلمة عن أبي قتادة مثل حديث سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد وزاد ابن رمح في هذا الحديث: "وليتحول عن جنبه الذي كان عليه " وذكر بعض الحفاظ أن هذه الزيادة إنما هي في حديث الليث عن أبي الزبير كما اتفق عليه قتيبة وابن رمح، وأما طريق يحيى بن سعيد في حديث أبي قتادة فليست فيه ولذلك لم يذكرها قتيبة، وفي الجملة فتكمل الآداب ستة الأربعة الماضية والصلاة والتحول، ورأيت في بعض الشروح.

(12/370)


ذكر سابعة وهي قراءة آية الكرسي ولم يذكر لذلك مستندا فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة ولا يقربنك شيطان فيتجه، وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة، وسيأتي ما يتعلق بآداب العابر، وقد ذكر العلماء حكمة هذه الأمور: فأما الاستعاذة بالله من شرها فواضح وهي مشروعة عند كل أمر يكره، وأما الاستعاذة من الشيطان فلما وقع في بعض طرق الحديث أنها منه وأنه يخيل بها لقصد تحزين الآدمي والتهويل عليه كما تقدم، وأما التفل فقال عياض: أمر به طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيرا له واستقذارا، وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها. قلت: والتثليث للتأكيد. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: فيه إشارة إلى أنه في مقام الرقية ليتقرر عند النفس دفعه عنها وعبر في بعض الروايات بالبصاق إشارة، إلى استقذاره، وقد ورد بثلاثة ألفاظ النفث والتفل والبصق، قال النووي في الكلام على النفث في الرقية تبعا لعياض: اختلف في النفث والتفل فقيل هما بمعنى ولا يكونان إلا بريق. وقال أبو عبيد: يشترط في التفل ريق يسير ولا يكون في النفث، وقيل عكسه، وسئلت عائشة عن النفث في الرقية فقالت: كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه. قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة بغير قصد، قال: وقد جاء في حديث أبي سعيد في الرقية بفاتحة الكتاب " فجعل يجمع بزاقه " قال عياض: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفث للمباشر للرقية المقارن للذكر الحسن كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء. وقال النووي أيضا: أكثر الروايات في الرؤيا "فلينفث" وهو نفخ لطيف بلا ريق فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا. قلت: لكن المطلوب في الموضعين مختلف، لأن المطلوب في الرقية التبرك برطوبة الذكر كما تقدم، والمطلوب هنا طرد الشيطان وإظهار احتقاره واستقذاره كما نقله هو عن عياض كما تقدم، فالذي يجمع الثلاثة الحمل على التفل فإنه نفخ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى النفخ قيل له نفث وبالنظر إلى الريق قيل له بصاق. قال النووي وأما قوله: "فإنها لا تضره" فمعناه أن الله جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه المترتب على الرؤيا كما جعل الصدقة وقاية للمال انتهى. وأما الصلاة فلما فيها من التوجه إلى الله واللجأ إليه، ولأن في التحرم بها عصمة من الأسواء وبها تكمل الرغبة وتصح الطلبة لقرب المصلي من ربه عند سجوده، وأما التحول فللتفاؤل بتحول تلك الحال التي كان عليها. قال النووي: وينبغي أن يجمع بين هذه الروايات كلها ويعمل بجميع ما تضمننه، فإن اقتصر على بعضها أجزاء في دفع ضررها بإذن الله تعالى كما صرحت به الأحاديث. قلت: لم أر في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحدة، نعم أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها وكأنه أخذه من قوله تعالى :{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فيحتاج مع الاستعاذة إلى صحة التوجه ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان،. وقال القرطبي في "المفهم": الصلاة تجمع ذلك كله، لأنه إذا قام فصلى تحول عن جنبه وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء واستعاذ قبل القراءة ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه فيكفيه الله شرها بمنه وكرمه. وورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر صحيح أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي قال: "إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره فليقل إذا استيقظ: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه أن يصيبني فيها ما أكره في ديني ودنياي"، وورد في الاستعاذة من التهويل في المنام ما أخرجه مالك قال: "بلغني أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله إني أروع في المنام فقال صلى الله عليه وسلم: "قل أعوذ بكلمات الله التامات من شر غضبه وعذابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون"

(12/371)


وأخرج النسائي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كان خالد بن الوليد يفزع في منامه" فذكر نحوه وزاد في أوله "إذا اضطجعت فقل: باسم الله" فذكره، وأصله عند أبي داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه، واستثنى الداودي من عموم قوله: "إذا رأى ما يكره" ما يكون في الرؤيا الصادقة لكونها قد تقع إنذارا كما تقع تبشيرا وفي الإنذار نوع ما يكرهه الرائي فلا يشرع إذا عرف أنها صادقة ما ذكره من الاستعاذة ونحوها، واستند إلى ما ورد من مرائي النبي صلى الله عليه وسلم كالبقر التي تنحر ونحو ذلك، ويمكن أن يقال: لا يلزم من ترك الاستعاذة في الصادقة أن لا يتحول عن جنبه ولا أن لا يصلي، فقد يكون ذلك سببا لدفع مكروه الإنذار مع حصول مقصود الإنذار، وأيضا فالمنذورة قد ترجع إلى معنى المبشرة لأن من أنذر بما سيقع له ولو كان لأيسره أحسن حالا ممن هجم عليه ذلك فإنه ينزعج ما لا ينزعج من كان يعلم بوقوعه فيكون ذلك تخفيفا عنه ورفقا به، قال الحكيم الترمذي: الرؤيا الصادقة أصلها حق تخبر عن الحق وهو بشرى وإنذار ومعاتبة لتكون عونا لما ندب إليه، قال: وقد كان غالب أمور الأولين الرؤيا إلا أنها قلت في هذه الأمة لعظم ما جاء به نبيها من الوحي ولكثرة من في أمته من الصديقين من المحدثين بفتح الدال وأهل اليقين. فاكتفوا بكثرة الإلهام والملهمين عن كثرة الرؤيا التي كانت في المتقدمين. وقال القاضي عياض: يحتمل قوله الرؤيا الحسنة والصالحة أن يرجع إلى حسن ظاهرها أو صدقها، كما أن قوله الرؤيا المكروهة أو السوء يحتمل سوء الظاهر أو سوء التأويل، وأما كتمها مع أنها قد تكون صادقة فخفيت حكمته، ويحتمل أن يكون لمخافة تعجيل اشتغال سر الرائي بمكروه تفسيرها، لأنها قد تبطئ فإذا لم يخبر بها زال تعجيل روعها وتخويفها ويبقى إذا لم يعبرها له أحد بين الطمع في أن لها تفسيرا حسنا، أو الرجاء في أنها من الأضغاث فيكون ذلك أسكن لنفسه. واستدل بقوله: "ولا يذكرها على أن الرؤيا تقع على ما يعبر به " وسيأتي البحث في ذلك في " باب إذا رأى ما يكره " إن شاء الله تعالى، واستدل به على أن للوهم تأثيرا في النفوس لأن التفل وما ذكر معه يدفع الوهم الذي يقع في النفس من الرؤيا، فلو لم يكن للوهم تأثير لما أرشد إلى ما يدفعه، وكذا في النهي عن التحديث بما يكره لمن يكره والأمر بالتحديث بما يحب لمن يحب. قوله في حديث أبي سعيد "وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان" ظاهر الحصر أن الرؤيا الصالحة لا تشتمل على شيء مما يكرهه الرائي، ويؤيده مقابلة رؤيا البشرى بالحلم وإضافة الحلم إلى الشيطان، وعلى هذا ففي قول أهل التعبير ومن تبعهم أن الرؤيا الصادقة قد تكون بشرى وقد تكون إنذارا نظر، لأن الإنذار غالبا يكون فيما يكره الرائي، ويمكن الجمع بأن الإنذار لا يستلزم وقوع المكروه كما تقدم تقريره، وبأن المراد بما يكره ما هو أعم من ظاهر الرؤيا ومما تعبر به وقال القرطبي في "المفهم": ظاهر الخبر أن هذا النوع من الرؤيا يعني ما كان فيه تهويل أو تخويف أو تحزين هو المأمور بالاستعاذة منه لأنه من تخيلات الشيطان، فإذا استعاذ الرائي منه صادقا في التجائه إلى الله وفعل ما أمر به من التفل والتحول والصلاة أذهب الله عنه ما به وما يخافه من مكروه ذلك ولم يصبه منه شيء، وقيل بل الخبر على عمومه فيما يكرهه الرائي بتناول ما يتسبب به الشيطان وما لا تسبب له فيه، وفعل الأمور المذكورة مانع من وقوع المكروه كما جاء أن الدعاء يدفع البلاء والصدقة تدفع ميتة السوء وكل ذلك بقضاء الله وقدره، ولكن الأسباب عادات لا موجودات، وأما ما يرى أحيانا مما يعجب الرائي ولكنه لا يجده في اليقظة ولا ما يدل عليه فإنه يدخل في قسم آخر وهو ما كان الخاطر به مشغولا قبل النوم ثم يحصل النوم فيراه فهذا قسم لا يضر ولا ينفع.

(12/372)


باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة
...
4- باب: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ
6986- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ - وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا لَقِيتُهُ بِالْيَمَامَةِ - عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ فَلْيَتَعَوَّذْ مِنْهُ وَلْيَبْصُقْ عَنْ شِمَالِهِ فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ"
وَعَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. مِثْلَهُ
6987- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَادَةَ ابْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ"
6988- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ". وَرَوَاهُ ثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ وَإِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَشُعَيْبٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 6988- طرفه في: 7017]
6989- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ"
قوله: "باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" هذه الترجمة لفظ آخر أحاديث الباب، فكأنه حمل الرواية الأخرى بلفظ: "رؤيا المؤمن" على هذه المقيدة، وسقطت هذه الترجمة للنسفي وذكر أحاديثها في الباب الذي قبله، وذكر فيه خمسة أحاديث: الحديث الأول. قوله: "حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير وأثنى عليه خيرا لقيته باليمامة" هكذا للأكثر. وفي رواية القابسي بعد قوله خيرا " قال لقيته باليمامة " وفاعل أثنى هو مسدد وهي جملة حالية كأنه قال أثنى عليه خيرا حال تحديثه عنه، وقد أثنى عليه أيضا إسحاق بن أبي إسرائيل فيما أخرجه الإسماعيلي من طريقه قال: "حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير وكان من خيار الناس وأهل الورع والدين". قوله: "عن أبيه" هو عطف على السند الذي قبله، ففي رواية إسحاق بن أبي إسرائيل المذكورة بعد أن ساق طريق أبي سلمة قال: "وحدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير عن أبيه عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه مثل حديث أبي سلمة وتقدم في صفة إبليس من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وحده عن أبي قتادة " وأخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق أبي خليفة عن مسدد كرواية البخاري عن مسدد، ومن طريق إبراهيم الحربي عن مسدد بهذا السند فقال عن أبي هريرة بدل أبي قتادة، ولعله كان عند أبي سلمة عنهما،

(12/373)


وكان عند مسدد على الوجهين، فقد أخرجه ابن عدي من رواية إسحاق بن أبي إسرائيل بهذا السند إلى أبي سلمة فقال عن أبي قتادة تارة وعن أبي هريرة أخرى، وعن عبيد الله بن يحيى بن أبي كثير عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة حديث: "رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " أخرجه مسلم. قوله: "الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم" تقدم شرحه في الباب الذي قبله مستوفى، وقد اعترضه الإسماعيلي فقال: ليس هذا الحديث من هذا الباب في شيء، وأخذه الزركشي فقال: إدخاله في هذا الباب لا وجه له بل هو ملحق بالذي قبله، قلت: وقد وقع ذلك في رواية النسفي كما أشرت إليه، ويجاب عن صنيع الأكثر بأن وجه دخوله في هذه الترجمة الإشارة إلى أن الرؤيا الصالحة إنما كانت جزءا من أجزاء النبوة لكونها من الله تعالى بخلاف التي من الشيطان فإنها ليست من أجزاء النبوة، وأشار البخاري مع ذلك إلى ما وقع في بعض الطرق عن أبي سلمة عن أبي قتادة، فقد ذكرت في الباب الذي قبله أنه وقع في رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن أبي قتادة في هذا الحديث من الزيادة " ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" . الحديث الثاني، قوله: "حدثنا غندر" هو محمد بن جعفر. قوله: "عن أنس" في رواية أحمد عن محمد بن جعفر المذكور بسنده المذكور "سمعت أنس بن مالك يحدث عن عبادة، وقد خالف قتادة غيره فلم يذكروا عبادة في السند وهو الحديث الثالث حديث أنس. قوله: "ورواه ثابت وحميد وإسحاق بن عبد الله وشعيب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي بغير واسطة، فأما رواية ثابت فتأتي موصولة بعد خمسة أبواب من طريق عبد العزيز بن المختار عنه تلو حديث أوله " من رآني في المنام فقد رآني " وقال فيه: "ورؤيا المؤمن " ووصلها مسلم من طريق شعبة عن ثابت كذلك، وأخرجها البزار وقال لا نعلم رواه عن ثابت إلا شعبة، ورواية عبد العزيز ترد عليه، ووقع في أطراف المزي أن البخاري أخرجه في التعبير معلقا فقال: رواه شعبة عن ثابت، ولم أر ذلك في البخاري، وأما رواية حميد فوصلها أحمد عن محمد بن أبي عدي عنه ولفظ المتن مثل رواية قتادة وأما رواية إسحاق وهو ابن عبد الله بن أبي طلحة فتقدمت قريبا وأما رواية شعيب وهو ابن الحبحاب بمهملتين مفتوحتين وموحدتين الأولى ساكنة فرويناها موصولة في " كتاب الروح لأبي عبد الله بن منده " من طريق عبد الوارث بن سعيد وفي الجزء الرابع من فوائد أبي جعفر محمد بن عمرو الرزاز من طريق سعيد بن زيد كلاهما عن شعيب ولفظه مثل حميد وأشار الدار قطني إلى أن الطريقين صحيحان. الحديث الرابع، حديث أبي هريرة من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عنه ولفظه مثل قتادة، وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه فزاد في أوله أن التي للتأكيد، وأخرجه من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ أبي سعيد آخر أحاديث الباب، ومن طريق أبي سلمة ومن طريق همام كلاهما عن أبي هريرة بلفظ: "رؤيا الرجل الصالح" بدل لفظ المؤمن. الحديث الخامس حديث أبي سعيد من رواية ابن أبي حازم والدراوردي واسم كل منهما عبد العزيز واسم أبي حازم سلمة بن دينار واسم والد الدراوردي محمد بن عبيد ويزيد شيخهما هو المعروف بابن الهاد والسند كله مدنيون ولفظ المتن مثل الترجمة كما تقدم. قوله: "من النبوة" قال بعض الشراح كذا هو في جميع الطرق وليس في شيء منها بلفظ: "من الرسالة" بدل "من النبوة" قال وكأن السر فيه أن الرسالة تزيد على النبوة بتبليغ الأحكام للمكلفين بخلاف النبوة المجردة فإنها اطلاع على بعض المغيبات وقد يقرر بعض الأنبياء شريعة من قبله ولكن لا يأتي بحكم جديد مخالف لمن قبله، فيؤخذ من ذلك ترجيح القول بأن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأمره بحكم يخالف حكم

(12/374)


الشرع المستقر في الظاهر أنه لا يكون مشروعا في حقه ولا في حق غيره حتى يجب عليه تبليغه وسيأتي بسط هذه المسألة في الكلام على حديث: "من رآني في المنام فقد رآني" إن شاء الله تعالى.

(12/375)


5- باب: الْمُبَشِّرَاتِ
6990- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الْمُبَشِّرَاتُ. قَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ"
قوله: "باب المبشرات" بكسر الشين المعجمة جمع مبشرة وهي البشرى، وقد ورد في قوله تعالى:{ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هي الرؤيا الصالحة، أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبادة بن الصامت ورواته ثقات إلا أن أبا سلمة لم يسمعه من عبادة، وأخرجه الترمذي أيضا من وجه آخر عن أبي سلمة قال: "نبئت عن عبادة " وأخرجه أيضا هو وأحمد وإسحاق وأبو يعلى من طريق عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن عبادة، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أن هذا الرجل ليس بمعروف، وأخرجه ابن مردويه من حديث ابن مسعود قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذكر مثله، وفي الباب عن جابر عند البزار وعن أبي هريرة عند الطبري وعن عبد الله بن عمرو عند أبي يعلى. قوله: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات" كذا ذكره باللفظ الدال على المضي تحقيقا لوقوعه والمراد الاستقبال أي لا يبقى، وقيل هو على ظاهره لأنه قال ذلك في زمانه واللام في النبوة للعهد والمراد نبوته، والمعنى لم يبق بعد النبوة المختصة بي إلا المبشرات، ثم فسرها بالرؤيا، وصرح به في حديث عائشة عند أحمد بلفظ: "لم يبق بعدي" وقد جاء في حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مرض موته أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن أبيه عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف الستارة ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " الحديث، وللنسائي من رواية زفر بن صعصعة عن أبي هريرة رفعه أنه " ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة " وهذا يؤيد التأويل الأول، وظاهر الاستثناء مع ما تقدم من أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة أن الرؤيا نبوة وليس كذلك لما تقدم أن المراد تشبيه أمر الرؤيا بالنبوة، أو لأن جزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، رافعا صوته لا يسمى مؤذنا ولا يقال إنه أذن وإن كانت جزءا من الأذان، وكذا لو قرأ شيئا من القرآن وهو قائم لا يسمى مصليا وإن كانت القراءة جزءا من الصلاة، ويؤيده حديث أم كرز بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي الكعبية قالت: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت النبوة وبقيت المبشرات " أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ولأحمد عن عائشة مرفوعا: "لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا " وله وللطبراني من حديث حذيفة بن أسيد مرفوعا: "ذهبت النبوة وبقيت المبشرات " ولأبي يعلى من حديث أنس رفعه: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت ولا نبي ولا رسول بعدي ولكن بقيت المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: رؤيا المسلمين جزء من أجزاء النبوة " قال المهلب ما حاصله: التعبير بالمبشرات خرج للأغلب، فإن من الرؤيا ما تكون

(12/375)


منذرة وهي صادقة يريها الله للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه. وقال ابن التين: معنى الحديث أن الوحي ينقطع بموتي ولا يبقى ما يعلم منه ما سيكون إلا الرؤيا، ويرد عليه الإلهام فإن فيه إخبارا بما سيكون، وهو للأنبياء بالنسبة للوحي كالرؤيا، ويقع لغير الأنبياء كما في الحديث الماضي في مناقب عمر " قد كان فيمن مضى من الأمم محدثون " وفسر المحدث بفتح الدال بالملهم بالفتح أيضا، وقد أخبر كثير من الأولياء عن أمور مغيبة فكانت كما أخبروا، والجواب أن الحصر في المنام لكونه يشمل آحاد المؤمنين بخلاف الإلهام فإنه مختص بالبعض، ومع كونه مختصا فإنه نادر، فإنما ذكر المنام لشموله وكثرة وقوعه، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن يكن " وكان السر في ندور الإلهام في زمنه وكثرته من بعده غلبة الوحي إليه صلى الله عليه وسلم في اليقظة وإرادة إظهار المعجزات منه، فكان المناسب أن لا يقع لغيره منه في زمانه شيء، فلما انقطع الوحي بموته وقع الإلهام لمن اختصه الله به للأمن من اللبس في ذلك، وفي إنكار وقوع ذلك مع كثرته واشتهاره مكابرة ممن أنكره.

(12/376)


6- باب رُؤْيَا يُوسُفَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}. فَاطِرٌ وَالْبَدِيعُ وَالْمُبْدِعُ وَالْبَارِئُ وَالْخَالِقُ وَاحِدٌ. مِنْ الْبَدْوِ: بَادِيَةٍ
قوله: "باب رؤيا يوسف" كذا لهم، ووقع للنسفي "يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن" وقوله عز وجل :{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ} فساق إلى {سَاجِدِينَ} ثم قال: "إلى قوله :{عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كذا لأبي ذر والنسفي، وساق في رواية كريمة الآيات كلها. قوله: "وقوله تعالى :{يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً - إلى قوله - وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} كذا لأبي ذر والنسفي أيضا. وساق في رواية كريمة الآيتين، والمراد أن معنى قوله: {تَأْوِيلُ رُؤْيايَ} أي التي تقدم ذكرها وهي رؤية الكواكب والشمس والقمر ساجدين له، فلما وصل أبواه وإخوته إلى مصر ودخلوا عليه وهو في مرتبة الملك وسجدوا له وكان ذلك مباحا في شريعتهم فكان التأويل في الساجدين وكونها حقا في السجود، وقيل التأويل وقع أيضا في السجود ولم يقع منهم السجود حقيقة وإنما هو كناية عن الخضوع، والأول هو المعتمد. وقد أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن قتادة في قوله: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} قال: "كانت تحية من قبلكم، فأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة" وفي لفظ: "وكانت تحية الناس يومئذ أن يسجد بعضهم لبعض" ومن طريق ابن إسحاق والثوري وابن جريج وغيرهم نحو ذلك، قال الطبري: أرادوا أن ذلك كان بينهم لا على وجه العبادة بل الإكرام، واختلف في المدة التي كانت بين

(12/376)


الرؤيا وتفسيرها، فأخرج الطبري والحاكم والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن سلمان الفارسي قال: "كان بين رؤيا يوسف وعبارتها أربعون عاما " وذكر البيهقي له شاهدا عن عبد الله بن شداد وزاد: "وإليها ينتهي أمد الرؤيا" وأخرج الطبري من طريق الحسن البصري قال: كانت مدة المفارقة بين يعقوب ويوسف ثمانين سنة وفي لفظ ثلاثا وثمانين سنة، ومن طريق قتادة خمسا وثلاثين سنة، ونقل الثعلبي عن ابن مسعود تسعين سنة، وعن الكلبي اثنتين وعشرين سنة قال وقيل سبعا وسبعين، ونقل ابن إسحاق قولا أنها كانت ثمانية عشر عاما والأول أقوى والعلم عند الله. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف، وسقط هذا وما بعده إلى آخر الباب للنسفي. قوله: "فاطر والبديع والمبدع والبارئ والخالق واحد" كذا لبعضهم البارئ بالراء، ولأبي ذر والأكثر البادئ بالدال بدل الراء والهمز ثابت فيهما، وزعم بعض الشراح أن الصواب بالراء وأن رواية الدال وهم، وليس كما قال فقد وردت في بعض طرق الأسماء الحسنى كما تقدم في الدعوات، وفي الأسماء الحسنى أيضا المبدئ. وقد وقع في العنكبوت ما يشهد لكل منهما في قوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ - ثم قال - فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} فالأول من الرباعي واسم الفاعل منه مبدئ والثاني من الثلاثي واسم الفاعل منه بادئ وهما لغتان مشهورتان، وإنما ذكر البخاري هذا استطرادا من قوله في الآيتين المذكورتين {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فأراد تفسير الفاطر، وزعم بعض الشراح أن دعوى البخاري في ذلك الوحدة ممنوعة عند المحققين، كذا قال، ولم يرد البخاري بذلك أن حقائق معانيها متوحدة وإنما أراد أنها ترجع إلى معنى واحد وهو إيجاد الشيء بعد أن لم يكن، وقد ذكرت قول الفراء أن فطر وخلق وفلق بمعنى واحد قبل "باب رؤيا الصالحين". قوله: "قال أبو عبد الله: من البدء وبادئه" كذا وجدته مضبوطا في الأصل بالهمز في الموضعين وبواو العطف لأبي ذر، فإن كان محفوظا ترجحت رواية الدال من قوله والبادئ، ولغير أبي ذر " من البدو وبادية " بالواو بدل الهمز وبغير همز في بادية وبهاء تأنيث، وهو أولى لأنه يريد تفسير قوله في الآية المذكورة {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} ففسرها بقوله بادية أي جاء بكم من البادية، وذكره الكرماني فقال: قوله من البدو أي قوله: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} أي من البادية، ويحتمل أن يكون مقصوده أن فاطر معناه البادئ من البدء أي الابتداء أي بادئ الخلق، فمعنى فاطر بادئ والله أعلم.

(12/377)


7- باب رُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ. عَلَيْهِ السَّلاَم وَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَسْلَمَا سَلَّمَا مَا أُمِرَا بِهِ. وَتَلَّهُ وَضَعَ وَجْهَهُ بِالأَرْضِ
قوله: "باب رؤيا إبراهيم عليه السلام" كذا لأبي ذر، وسقط لفظ باب لغيره. قوله: "وقوله عز وجل :{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ - إلى قوله - نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} كذا لأبي ذر وسقط للنسفي، وساق في رواية كريمة الآيات كلها. قيل كان إبراهيم نذر إن رزقه الله من سارة ولدا أن يذبحه قربانا فرأى في المنام أن أوف بنذرك أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي قال: فقال إبراهيم لإسحاق انطلق بنا نقرب قربانا وأخذ حبلا وسكينا ثم انطلق به حتى إذا كان

(12/377)


بين الجبال قال: يا أبت أين قربانك؟ قال: أنت يا بني، إني أرى في المنام أني أذبحك الآيات، فقال: اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي فتراه سارة فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي، ففعل ذلك إبراهيم وهو يبكي وأمر السكين على حلقه فلم تحز وضرب الله على حلقه صفيحة من نحاس فكبه على جبينه وحز في قفاه، فذاك قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} فالتفت فإذا هو بكبش فأخذه وحل عن ابنه، هكذا ذكره السدي ولعله أخذه عن بعض أهل الكتاب، فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح أيضا عن الزهري عن القاسم قال: اجتمع أبو هريرة وكعب فحدث أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لكل نبي دعوة مستجابة، فقال كعب: أفلا أخبرك عن إبراهيم؟ لما رأى أنه يذبح ابنه إسحاق قال الشيطان إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا، فذهب إلى سارة فقال: أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: في حاجته، قال: كلا إنه ذهب به ليذبحه يزعم أن ربه أمره بذلك، فقالت: أخشى أن لا يطيع ربه، فجاء إلى إسحاق فأجابه بنحوه، فواجه إبراهيم فلم يلتفت إليه، فأيس أن يطيعوه. وساق نحوه من طريق سعيد عن قتادة وزاد: أنه سد على إبراهيم الطريق إلى المنحر، فأمره جبريل أن يرميه بسبع حصيات عند كل جمرة، وكأن قتادة أخذ أوله عن بعض أهل الكتاب وآخره مما جاء عن ابن عباس وهو عند أحمد من طريق أبي الطفيل عنه قال: إن إبراهيم لما رأى المناسك عرض له إبليس عند المسعى فسبقه إبراهيم فذهب به جبريل إلى العقبة فعرض له إبليس فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، وكان على إسماعيل قميص أبيض، وتم تله للجبين فقال: يا أبت إنه ليس لي قميص تكفنني فيه غيره فاخلعه، فنودي من خلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فالتفت فإذا هو بكبش أبيض أقرن أعين فذبحه. وأخرج ابن إسحاق في "المبتدأ" عن ابن عباس نحوه وزاد: فوالذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة. وأخرجه أحمد أيضا عن عثمان بن أبي طلحة قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فواريت قرني الكبش حين دخل البيت". وهذه الآثار من أقوى الحجج لمن قال إن الذبيح إسماعيل، وقد نقل ابن أبي حاتم وغيره عن العباس وابن مسعود وعن علي وابن عباس في إحدى الروايتين عنهما وعن الأحنف عن ابن ميسرة وزيد بن أسلم ومسروق وسعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه وعطاء والشعبي وكعب الأحبار أن الذبيح إسحاق، وعن ابن عباس في أشهر الروايتين عنه وعن علي في إحدى الروايتين وعن أبي هريرة ومعاوية وابن عمر وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والشعبي في إحدى الروايتين عنهما ومجاهد والحسن ومحمد بن كعب وأبي جعفر الباقر وأبي صالح والربيع بن أنس وأبي عمرو بن العلاء وعمر بن عبد العزيز وابن إسحاق أن الذبيح إسماعيل، ويؤيده ما تقدم وحديث: "أنا ابن الذبيحين" رويناه في "الخلعيات" من حديث معاوية، ونقله عبد الله بن أحمد عن أبيه وابن أبي حاتم عن أبيه وأطنب ابن القيم في الهدي في الاستدلال لتقويته، وقرأت بخط الشيخ تقي الدين السبكي أنه استنبط من القرآن دليلا وهو قوله في الصافات {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ - إلى قوله - إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} وقوله في هود {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ - إلى قوله - وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} قال: ووجه الأخذ منهما أن سياقهما يدل على أنهما قصتان مختلفتان في وقتين الأولى عن طلب من إبراهيم وهو لما هاجر من بلاد قومه في ابتداء أمره فسأل من ربه الولد {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ

(12/378)


8- باب: التَّوَاطُؤِ عَلَى الرُّؤْيَا
6991- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أُنَاسًا أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، وَأَنَّ أُنَاسًا أُرُوا أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ"، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ"
قوله: "باب: التواطؤ على الرؤيا" أي توافق جماعة على شيء واحد ولو اختلفت عباراتهم. قوله: "أن أناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر أن أناسا" في رواية الكشميهني: "ناسا". قوله: "أروها في ا