السبت، 7 مايو 2022

كتاب : 28 و29- من فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

  كتاب :28 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 
 =أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فإن فيه إشارة إلى سبب نزول أول هذه السورة، وإلى قوله فيها {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وقد وقع في بعض حديث ابن عباس عن عمر في القصة الآتية في الباب الذي يليه "فعاتبه الله في ذلك وجعل له كفارة اليمين" واختلف في المراد بتحريمه، ففي حديث عائشة ثاني حديثي الباب أن ذلك بسبب شربه صلى الله عليه وسلم العسل عند زينب بنت جحش، فإن في آخره: "ولن أعود له وقد حلفت " وسيأتي شرح حديث عائشة مستوفى في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. ووقع عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى مسروق قال: "حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة لا يقرب أمته وقال: هي علي حرام" . فنزلت الكفارة ليمينه، وأمر أن لا يحرم ما أحل الله" ووقعت هذه القصة مدرجة عند ابن إسحاق في حديث ابن عباس عن عمر الآتي في الباب الذي يليه كما سأبينه. وأخرج الضياء في "المختارة" من مسند الهيثم بن كليب ثم من طريق جرير بن حازم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لحفصة: لا تخبري أحدا أن أم إبراهيم علي حرام" ، قال فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل الله {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . وأخرج الطبراني في عشرة النساء وابن مردويه من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية بيت حفصة، فجاءت فوجدتها معه، فقالت: يا رسول الله في بيتي تفعل هذا معي دون نسائك "فذكر نحوه. وللطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: "دخلت حفصة بيتها فوجدته يطأ مارية، فعاتبته" فذكر نحوه. وهذه طرق يقوى بعضها بعضا، فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معا، وقد روي النسائي من طريق حماد عن ثابت عن أنس هذه القصة مختصرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية

(8/657)


باب {تبتغي مرضات أزواجك ... قد فرض الله لكم تحله أيمانكم}
...
2- باب {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ.... قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}
4913- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّهُ قَالَ مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ قَالَ فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجِهِ فَقَالَ تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ قَالَ فَقُلْتُ وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لاَرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ قَالَ فَلاَ تَفْعَلْ مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ فَاسْأَلْنِي فَإِنْ كَانَ لِي عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ بِهِ قَالَ: ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ قَالَ فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إِذْ قَالَتْ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَقُلْتُ لَهَا مَا لَكَ وَلِمَا هَا هُنَا وَفِيمَ تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ فَقَالَتْ لِي عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ فَقَالَتْ حَفْصَةُ وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ فَقُلْتُ تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ وَغَضَبَ

(8/657)


رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بُنَيَّةُ لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا يُرِيدُ عَائِشَةَ قَالَ ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا فَقَدْ امْتَلاَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ فَإِذَا صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ فَقَالَ افْتَحْ افْتَحْ فَقُلْتُ جَاءَ الْغَسَّانِيُّ فَقَالَ بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ فَقُلْتُ رَغَمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ فَأَخَذْتُ ثَوْبِي فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ وَغُلاَمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ فَقُلْتُ لَهُ قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَذِنَ لِي قَالَ عُمَرُ فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكَ" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَة"
قوله: "باب {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} كذا لهم بإسقاط بعض الآية الأولى وحذف بقية الثانية وكملها أبو ذر. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد الأنصاري، والإسناد كله مدنيون. قوله: "مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب" فذكر الحديث بطوله في قصة اللتين تظاهرتا، وقد ذكره في النكاح مختصرا من هذا الوجه ومطولا من وجه آخر، وتقدم طرف منه في كتاب العلم وفي هذه الطريق هنا من الزيادة مراجعة امرأة عمر له ودخوله على حفصة بسبب ذلك بطوله، ودخول عمر على أم سلمة. وذكر في آخر الأخرى قصة اعتزاله صلى الله عليه وسلم نساءه، وفي آخر حديث عائشة في التخيير، وسيأتي الكلام على ذلك كله مستوفى في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. وقوله في هذه الطريق "ثم قال عمر رضي الله عنه: والله أن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل" قرأت بخط أبي علي الصدفي في هامش نسخته: قيل لا بد من اللام للتأكيد. وقوله في هذه الطريق "لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو برفع حب على أنه بدل من فاعل أعجب، ويجوز النصب على أنه مفعول من أجله أي من أجل حبه لها، وقوله فيه: "قرظا مصبورا" أي مجموعا مثل الصبرة، وعند الإسماعيلي: "مصبوبا" بموحدتين.

(8/658)


3- باب {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} فِيهِ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(8/658)


4914- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ حُنَيْنٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَتْمَمْتُ كَلاَمِي حَتَّى قَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَة"
قوله: "باب {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} - إلى - {الخبير} " كذا لأبي ذر وساق غيره الآية. قوله: "فيه عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى حديثها المذكور قبل بباب. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، وذكر طرفا من الحديث الذي في الباب قبله

(8/659)


4- باب {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} صَغَوْتُ وَأَصْغَيْتُ مِلْتُ لِتَصْغَى لِتَمِيلَ {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} عَوْنٌ تَظَاهَرُونَ تَعَاوَنُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} أَوْصُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَدِّبُوهُمْ
4915- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ حُنَيْنٍ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَكَثْتُ سَنَةً فَلَمْ أَجِدْ لَهُ مَوْضِعًا حَتَّى خَرَجْتُ مَعَهُ حَاجًّا فَلَمَّا كُنَّا بِظَهْرَانَ ذَهَبَ عُمَرُ لِحَاجَتِهِ فَقَالَ أَدْرِكْنِي بِالْوَضُوءِ فَأَدْرَكْتُهُ بِالإِدَاوَةِ فَجَعَلْتُ أَسْكُبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَرَأَيْتُ مَوْضِعًا فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا أَتْمَمْتُ كَلاَمِي حَتَّى قَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَة"
قوله: "باب {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} صغوت وأصغيت ملت، لتصغى لتميل" سقط هذا لأبي ذر، وهو قول أبي عبيدة، قال في قوله: "ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة" : لتميل، من صغوت إليه ملت إليه، وأصغوت إليه مثله. وقال في قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي عدلت ومالت. قوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} عون" كذا لهم، واقتصر أبو ذر من سياق الآية على قوله: "ظهير: عون" وهو تفسير الفراء. قوله: "تظاهرون تعاونون" كذا لهم، وفي بعض النسخ تظاهرا تعاونا، وهو تفسير الفراء أيضا قال في قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} تعاونا عليه. قوله: "وقال مجاهد: {قُوا أَنْفُسَكُمْ} ، أوصوا أهليكم بتقوى الله وأدبوهم" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: "أوصوا أهليكم بتقوى الله" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "مروهم بطاعة الله وانهوهم عن معصيته" وعند سعيد بن منصور عن الحسن نحوه، وروى الحاكم من طريق ربعي بن حراش عن علي في قوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} قال: "علموا أهليكم خيرا" ورواته ثقات.
" تنبيه " : وقع في جميع النسخ التي وقفت عليها "أوصوا" بفتح الألف وسكون الواو بعدها صاد مهملة من الإيصاء، وسقطت هذه اللفظة للنسفي، وذكرها ابن التين بلفظ: "قوا أهليكم أو قفوا أهليكم" ونسب عياض هذه الرواية هكذا للقابسي وابن السكن، قال: وعند الأصيلي أوصوا أنفسكم وأهليكم انتهى. قال ابن التين: قال القابسي صوابه "أوفقوا" قال ونحو ذلك ذكر النحاس، ولا أعرف للألف من أو

(8/659)


ولا للفاء من قوله فقوا وجها، قال ابن التين: ولعل المعنى أوقفوا بتقديم القاف على الفاء أي أوقفوهم عن المعصية، قال: لكن الصواب على هذا حذف الألف لأنه ثلاثي من وقف، قال: ويحتمل أن يكون أوفقوا يعني بفتح الفاء وضم القاف لا تعصوا فيعصوا مثل لا تزن فيزن أهلك وتكون "أو" على هذا للتخيير، والمعنى إما أن تأمروا أهليكم بالتقوى أو فاتقوا أنتم فيتقوا هم تبعا لكم انتهى، وكل هذه التكلفات نشأت عن تحريف الكلمة، وإنما هي "أوصوا" بالصاد والله حديث ابن عباس عن عمر أيضا في قصة المتظاهرين، وسيأتي شرحه

(8/660)


باب {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا}
...
5 - بَاب {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}
4916- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ
قوله " {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الآية ذكر فيه طرفا من حديث أنس عن عمر في موافقاته، واقتصر منه على قصة الغيرة، وقد تقدم بهذا الإسناد في أوائل الصلاة تاما، وذكرنا كل موافقة منها في بابها، وسيأتي ما يتعلق بالغيرة في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.

(8/660)


67- سورة { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}
{التَّفَاوُتُ} الاخْتِلاَفُ وَالتَّفَاوُتُ وَالتَّفَوُّتُ وَاحِدٌ {تَمَيَّزُ} تَقَطَّعُ {مَنَاكِبِهَا} جَوَانِبِهَا {تَدَّعُونَ} وَتَدْعُونَ وَاحِدٌ مِثْلُ تَذَّكَّرُونَ وَتَذْكُرُونَ وَ {يَقْبِضْنَ} يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {صَافَّاتٍ} بَسْطُ أَجْنِحَتِهِنَّ وَنُفُورٌ الْكُفُورُ
قوله: "سورة {بَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} سقطت البسملة للجميع. قوله: "التفاوت الاختلاف، والتفاوت والتفوت واحد" هو قول الفراء قال: وهو مثل تعهدته وتعاهدته. وأخرج سعيد بن منصور من طريق إبراهيم عن علقمة أنه كان يقرأ: {من تفوت} وقال الفراء: هي قراءة ابن مسعود وأصحابه، والتفاوت الاختلاف يقول: هل ترى في خلق الرحمن من اختلاف؟ وقال ابن التين: قياس متفاوت فليس متباينا، وتفوت فات بعضه بعضا. قوله: "تميز تقطع" هو قول الفراء قال في قوله تكاد تميز من الغيظ أي تقطع عليهم غيظا. قوله: "مناكبها جوانبها" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي جوانبها، وكذا قال الفراء. قوله: "تدعون وتدعون واحد، مثل تذكرون وتذكرون" هو قول الفراء قال في قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} يريد تدعون بالتخفيف، وهو مثل تذكرون وتذكرون، قال والمعنى واحد، وأشار إلى أنه لم يقرأ بالتخفيف. وقال أبو عبيدة في قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي تدعون به وتكذبون. قوله: "يقال غورا غائرا، يقال لا تناله

(8/660)


سورة {ن والقلم وما يسطرون}
...
68- سورة ن وَالْقَلَمِ
بسم الله الرحمن الرحيم
وَقَالَ قَتَادَةُ {حَرْدٍ} جِدٍّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {يَتَخَافَتُونَ} يَنْتَجُونَ السِّرَارَ وَالْكَلاَمَ الْخَفِيَّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَضَالُّونَ} أَضْلَلْنَا مَكَانَ جَنَّتِنَا وَقَالَ غَيْرُهُ {كَالصَّرِيمِ} كَالصُّبْحِ انْصَرَمَ مِنْ اللَّيْلِ وَاللَّيْلِ انْصَرَمَ مِنْ النَّهَارِ وَهُوَ أَيْضًا كُلُّ رَمْلَةٍ انْصَرَمَتْ مِنْ مُعْظَمِ الرَّمْلِ وَالصَّرِيمُ أَيْضًا الْمَصْرُومُ مِثْلُ قَتِيلٍ وَمَقْتُولٍ
قوله: "سورة ن والقلم – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت سورة والبسملة لغير أبي ذر، والمشهور في ن أن حكمها حكم أوائل السور في الحروف المتقطعة، وبه جزم الفراء، وقيل: بل المراد بها الحوت، وجاء ذلك في حديث ابن عباس أخرجه الطبراني مرفوعا قال: "أول ما خلق الله القلم والحوت، قال اكتب قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كائن إلى يوم القيامة" . ثم قرأ ن والقلم، فالنون الحوت والقلم القلم" . قوله: "وقال قتادة حرد جد في أنفسهم" هو بكسر الجيم وتشديد الدال الاجتهاد والمبالغة في الأمر، قال ابن التين: وضبط في بعض الأصول بفتح الجيم، قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: كانت الجنة لشيخ، وكان يمسك قوته سنة ويتصدق بالفضل، وكان بنو ينهونه عن الصدقة، فلما مات أبوهم غدوا عليها فقالوا لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} يقول: على جد من أمرهم؛ قال معمر وقال الحسن: على فاقة. وأخرج سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عكرمة قال: هم ناس من الحبشة كانت لأبيهم جنة، فذكر نحوه إلى أن قال: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} قال: أمر مجتمع. وقد قيل في حرد إنها اسم الجنة، وقيل اسم قريتهم، وحكى أبو عبيدة فيه أقوالا أخرى: القصد والمنع والغضب والحقد. قوله: "وقال ابن عباس: يتخافتون ينتجون السرار والكلام الخفي" ثبت هذا لأبي ذر وحده هنا، وثبت

(8/661)


للباقين في كتاب التوحيد. قوله: "وقال ابن عباس: إنا لضالون أضللنا مكان جنتنا" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أضللنا مكان جنتنا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أخطأنا الطريق، ما هذه جنتنا. "تنبيه" : زعم بعض الشراح أن الصواب في هذا أن يقال ضللنا بغير ألف، تقول: ضللت الشيء إذا جعلته في مكان ثم لم تدر أين هو، وأضللت الشيء إذا ضيعته انتهى. والذي وقع في الرواية صحيح المعنى، عملنا عمل من ضيع، ويحتمل أن يكون بضم أول أضللنا. قوله: "وقال غيره: كالصريم، كالصبح انصرم من الليل والليل انصرم من النهار" قال أبو عبيدة: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} النهار انصرم من الليل والليل انصرم من النهار. وقال الفراء: الصريم الليل المسود. قوله: "وهو أيضا كل رملة انصرمت من معظم الرمل" هو قول أبي عبيدة أيضا قال: وكذلك الرملة تنصرم من معظم الرمل فيقال: صريمة، وصريمة أمرك قطعه. قوله: "والصريم أيضا المصروم مثل قتيل ومقتول" هو محصول ما أخرجه ابن المنذر من طريق شيبان عن قتادة في قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} : كأنها قد صرمت. والحاصل أن الصريم مقول بالاشتراك على معان يرجع جميعها إلى انفصال شيء عن شيء، ويطلق أيضا على الفعل فيقال: صريم بمعنى مصروم. "تكميل" : قال عبد الرزاق عن معمر: أخبرني تميم بن عبد الرحمن أنه سمع سعيد بن جبير يقول: هي يعني الجنة المذكورة أرض باليمن يقال لها: صرفان، بينها وبين صنعاء ستة أميال. قوله: {تدهن فيدهنون} ترخص فيرخصون" كذا للنسفي وحده هنا وسقط للباقين، وقد رأيته أيضا في "المستخرج" لأبي نعيم، وهو قول ابن عباس: أخرجه ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة ومن طريق عكرمة قال: تكفر فيكفرون. وقال الفراء: المعنى تلين فيلينون. وقال أبو عبيدة: هو من المداهنة. قوله: "مكظوم وكظيم مغموم" كذا للنسفي وحده هنا وسقط للباقين، ورأيته أيضا في "مستخرج أبي نعيم" ، وهو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} من الغم مثل كظيم. وأخرج ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله مكظوم قال: مغموم.

(8/662)


1- باب {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}
4917- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} قَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُ زَنَمَةٌ مِثْلُ زَنَمَةِ الشَّاة"
4918- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِر"
[الحديث 4918- طرفاه في: 6071، 6657]
قوله: "باب {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} اختلف في الذي نزلت فيه، فقيل: هو الوليد بن المغيرة وذكره يحيى بن سلام في تفسيره، وقيل: الأسود بن عبد يغوث ذكره سنيد بن داود في تفسيره، وقبل الأخنس بن شريق وذكره السهيلي عن القتيبي، وحكى هذين القولين الطبري فقال: يقال: هو الأخنس، وزعم قوم أنه الأسود وليس به، وأبعد

(8/662)


من قال إنه عبد الرحمن بن الأسود فإنه يصغر عن ذلك، وقد أسلم وذكر في الصحابة. قوله: "حدثنا محمود بن غيلان" في رواية المستملي: "محمد" وكأنه الذهلي. قوله: "حدثنا عبيد الله بن موسى" هو من شيوخ المصنف، وربما حدث عنه بواسطة كالذي هنا. قوله: "عن أبي حصين عن مجاهد" لإسرائيل فيه طريق أخرى أخرجها الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى أيضا والإسماعيلي من طريق وكيع كلاهما عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه. وأخرجه الطبري من طريق شريق عن أبي إسحاق بهذا الإسناد وقال: الذي يعرف بالشر. سعيد بن جبير المذكورة "يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها" وللطبري من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: نعت فلم يعرف حتى قيل زنيم فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها. وقال أبو عبيدة: الزنيم المعلق في القوم ليس منهم قال الشاعر: "زنيم ليس يعرف من أبوه" . وقال حسان "وأنت زنيم نيط في آل هاشم" قال: ويقال للتيس زنيم له زنمتان. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "عن معبد بن خالد" هو الجدلي بضم الجيم والمهملة وتخفيف اللام، كوفي ثقة، ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في كتاب الزكاة وثالث يأتي في الطب. قوله: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف" بكسر العين وبفتحها وهو أضعف. وفي رواية الإسماعيلي: "مستضعف" وفي حديث عبد الله بن عمرو عند الحاكم الضعفاء المغلوبون، وله من حديث سراقة بن مالك: الضعفاء المغلوبون. ولأحمد من حديث حذيفة: الضعيف المستضعف ذو الطمرين لا يؤبه له. والمراد بالضعيف من نفسه ضعيفة لتواضعه وضعف حاله في الدنيا، والمستضعف المحتقر لخموله في الدنيا. قوله: "عتل" بضم المهملة والمثناة بعدها لام ثقيلة قال الفراء: الشديد الخصومة. وقيل الجافي عن الموعظة. وقال أبو عبيدة: العتل الفظ الشديد من كل شيء، وهو هنا الكافر. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن: العتل الفاحش الآثم. وقال الخطابي: العتلي الغليظ العنيف. وقال الداودي: السمين العظيم العنق والبطن. وقال الهروي: الجموع المنوع. وقيل: القصير البطن قلت: وجاء فيه حديث عند أحمد من طريق عبد الرحمن بن غنم وهو مختلف في صحته قال: سئل رسول صلى الله عليه وسلم عن العتل الزنيم قال: هو الشديد الخلق المصحح، الأكول الشروب، الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس، الرحيب الجوف. قوله: "جواظ" بفتح الجيم وتشديد الواو وآخره معجمة الكثير اللحم المختال في مشيه حكاه الخطابي. وقال ابن فارس: قيل هو الأكول، وقيل الفاجر. وأخرج هذا الحديث أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بهذا الإسناد مختصرا. "لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري" قال: والجواظ الفظ الغليظ انتهى وتفسير الجواظ لعله من سفيان، والجعظري بفتح الجيم والظاء المعجمة بينهما عين مهملة وآخره راء مكسورة ثم تحتانية ثقيلة قيل: هو الفظ الغليظ، وقيل: الذي لا يمرض، وقيل: الذي يتمدح بما ليس فيه أو عنده. وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن عمر أنه تلا قوله تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} إلى {زَنِيمٍ} فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر"

(8/663)


2- باب {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}
حدثنا آدم حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "سمعت

(8/633)


69- سورة الْحَاقَّةِ
بسم الله الرحمن الرحيم
{عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} : يُرِيدُ فِيهَا الرِّضَا {الْقَاضِيَةَ} الْمَوْتَةَ الأُولَى الَّتِي مُتُّهَا لَمْ أُحْيَ بَعْدَهَا {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أَحَدٌ يَكُونُ لِلْجَمْعِ وَلِلْوَاحِدِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْوَتِينَ نِيَاطُ الْقَلْبِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَغَى كَثُرَ وَيُقَالُ بِالطَّاغِيَةِ بِطُغْيَانِهِمْ وَيُقَالُ طَغَتْ عَلَى الْخَزَّانِ كَمَا طَغَى الْمَاءُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ
قوله: "سورة الحاقة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر، والحاقة من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لأنها حقت لكل قوم أعمالهم. قال قتادة: أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه. قوله: "حسوما متتابعة" كذا للنسفي وحده هنا، وهو قول أبي عبيدة. وأخرج الطبراني ذلك عن ابن مسعود موقوفا بإسناد حسن وصححه الحاكم. قوله: "وقال ابن جبير" عيشة راضية" . يريد فيها الرضا" وقال أبو عبيدة: معناه مرضية، قال وهو مثل ليل نائم. قوله: "وقال ابن جبير أرجائها ما لم ينشق منها، فهم على حافتيه، كقولك على أرجاء البئر" كذا للنسفي وحده هنا، وهو عند أبي نعيم أيضا، وتقدم أيضا في بدء الخلق قوله: "واهية وهيها تشققها" كذا للنسفي وحده هنا وهو عند أبي نعيم أيضا، وتقدم أيضا في بدء الخلق. قوله: "والقاضية الموتة الأولى التي متها لم أحي بعدها" كذا لأبي ذر، ولغيره: "ثم أحيي بعدها" والأول أصح وهو قول الفراء، قال في قوله: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} يقول: ليت الموتة الأولى التي متها لم أحي بعدها. قوله: {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}، أحد يكون للجميع والواحد" هو قول الفراء، قال أبو عبيدة في قوله: {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} جمع صفته على صفة الجميع لان أحدا يقع على الواحد والاثنين والجمع من الذكر والأنثى. قوله: "وقال ابن عباس: الوتين نياط القلب" بكسر النون وتخفيف التحتانية هو حبل الوريد، وهذا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، والفريابي والأشجعي والحاكم كلهم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإسناده قوي لأنه من رواية الثوري عن عطاء وسمعه منه قبل الاختلاط. وقال أبو عبيدة مثله. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: الوتين

(8/664)


حبل القلب. قوله: "قال ابن عباس: طغى كثر" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: بلغنا أنه طغى فوق كل شيء خمسة عشر ذراعا. قوله: "ويقال بالطاغية: بطغيانهم" هو قول أبي عبيدة وزاد: "كفرهم" . وأخرج الطبري من طريق مجاهد قال: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} بالذنوب. قوله: "ويقال طغت على الخزان كما طغى الماء على قوم نوح" لم يظهر لي فاعل طغت لأن الآية في حق ثمود وهم قد أهلكوا بالصيحة، ولو كانت عادا لكان الفاعل الريح وهي لها الخزان، وتقدم في أحاديث الأنبياء أنها عتت على الخزان. وأما الصيحة فلا خزان لها، فلعله انتقال من عتت إلى طغت. وأما قوله: {لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} فروى سعيد بن منصور من طريق السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس في قوله: {لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} قال: طغى على خزانه فنزل بغير كيل ولا وزن. قوله: "وغسلين ما يسيل من صديد أهل النار" كذا ثبت للنسفي وحده عقب قوله: "القاضية" وهو عند أبي نعيم أيضا، وهو كلام الفراء قال في قوله: {وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} يقال إنه ما يسيل من صديد أهل النار. قوله: "وقال غيره {مِنْ غِسْلِينٍ} كل شيء غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين، فعلين من الغسل مثل الجرح والدبر" كذا للنسفي وحده هنا وقد تقدم في بدء الخلق. أعجاز نخل أصولها كذا للنسفي وحده هنا وهو عند أبي نعيم أيضا؛ وقد تقدم أيضا في أحاديث الأنبياء. قوله: "باقية بقية" كذا للنسفي وحده وعند أبي نعيم أيضا، وقد تقدم أحاديث الأنبياء.
" تنبيه " : لم يذكر في تفسير الحاقة حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" أخرجه أبو داود وابن أبي حاتم من رواية إبراهيم بن طهمان عن محمد بن المنكدر وإسناده على شرط الصحيح.

(8/665)


70- سورة {سَأَلَ سَائِلٌ}
الْفَصِيلَةُ أَصْغَرُ آبَائِهِ الْقُرْبَى إِلَيْهِ يَنْتَمِي مَنْ انْتَمَى لِلشَّوَى الْيَدَانِ وَالرِّجْلاَنِ وَالأَطْرَافُ وَجِلْدَةُ الرَّأْسِ يُقَالُ لَهَا شَوَاةٌ وَمَا كَانَ غَيْرَ مَقْتَلٍ فَهُوَ شَوًى عِزِينَ وَالْعِزُونَ الْحِلَقُ وَالْجَمَاعَاتُ وَوَاحِدُهَا عِزَةٌ
قول "سورة {سَأَلَ سَائِلٌ} سقطت البسملة للجميع. قوله: "الفصيلة أصغر آبائه القربى إليه ينتمي" هو قول الفراء. وقال أبو عبيدة: الفصيلة دون القبيلة، ثم الفصيلة فخذه التي تؤويه. وقال عبد الرزاق عن معمر: بلغني أن فصيلته أمه التي أرضعته. وأغرب الداودي فحكى أن الفصيلة من أسماء النار. قوله: "للشوى: اليدان والرجلان والأطراف، وجلدة الرأس يقال لها شواة، وما كان غير مقتل فهو شوى" هو كلام الفراء بلفظه أيضا. وقال أبو عبيدة: الشوى واحدتها شواة وهي اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، قال: وسمعت رجلا من أهل المدينة يقول اقشعرت شواتي، قلت له ما معناه؟ قال: جلدة رأسي، والشوى قوائم الفرس يقال: عبل الشوى، ولا يراد في هذا الرأس لأنهم وصفوا الخيل بأسالة الخدين ورقة الوجه. قوله: "عزين والعزون الحلق والجماعات واحدها عزة" أي بالتخفيف كذا لأبي ذر، وسقط لفظ: "الحلق" لغير أبي ذر والصواب إثباته وهو كلام الفراء بلفظه، والحلق بفتح الحاء المهملة على المشهور ويجوز كسرها. وقال أبو عبيدة: عزين جماعة عزة مثل ثبة وثبين وهي جماعات في تفرقة. قوله: "يوفضون الإيفاض الإسراع" كذا للنسفي هنا وحده وهو كلام الفراء. وقد تقدم في

(8/665)


الجنائز. قوله: "وقرأ الأعمش وعاصم إلى نصب" أي إلى شيء منصوب يستبقون إليه، وقراءة زيد بن ثابت "إلى نصب" وكان النصب الآلهة التي كانت تعبد وكل صواب، والنصب واحد والنصب مصدر، ثبت هذا هنا للنسفي، وذكره أبو نعيم أيضا. وقد تقدم بعضه في الجنائز. وهو قول الفراء بلفظه وزاد: في قراءة بن ثابت برفع النون، وبعد قوله التي كانت تعبد من الأحجار قال: النصب والنصب واحد وهو مصدر والجمع أنصاب انتهى، يريد أن الذي بضمتين واحد لا جمع مثل حقب واحد الأحقاب.

(8/666)


71- سورة نُوحٍ
{أَطْوَارًا} طَوْرًا كَذَا وَطَوْرًا كَذَا يُقَالُ عَدَا طَوْرَهُ أَيْ قَدْرَهُ وَالْكُبَّارُ أَشَدُّ مِنْ الْكِبَارِ وَكَذَلِكَ جُمَّالٌ وَجَمِيلٌ لأَنَّهَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً وَكُبَّارٌ الْكَبِيرُ وَكُبَارًا أَيْضًا بِالتَّخْفِيفِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ رَجُلٌ حُسَّانٌ وَجُمَّالٌ وَحُسَانٌ مُخَفَّفٌ وَجُمَالٌ مُخَفَّفٌ دَيَّارًا مِنْ دَوْرٍ وَلَكِنَّهُ فَيْعَالٌ مِنْ الدَّوَرَانِ كَمَا قَرَأَ عُمَرُ الْحَيُّ الْقَيَّامُ وَهِيَ مِنْ قُمْتُ وَقَالَ غَيْرُهُ دَيَّارًا أَحَدًا {تَبَارًا} هَلاَكًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {مِدْرَارًا} يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَقَارًا عَظَمَةً
قوله: "سورة نوح" سقطت البسملة للجميع. قوله: "أطوارا طورا كذا وطورا كذا" تقدم في بدء الخلق. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} : نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر. قوله: "يقال عدا طوره أي قدره" تقدم في بدء الخلق أيضا. قوله: "والكبار أشد من الكبار، وكذلك جمال وجميل لأنها أشد مبالغة؛ وكذلك كبار الكبير، وكبار أيضا بالتخفيف" قال أبو عبيدة في قوله {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} قال مجازها كبير والعرب تحول لفظة كبير إلى فعال مخففة ثم يثقلون ليكون أشد مبالغة، فالكبار أشد من الكبار، وكذا يقال للرجل الجميل لأنه أشد مبالغة. قوله: "والعرب تقول رجل حسان وجمال وحسان مخفف وجمال مخفف" قال الفراء في قوله {مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} : الكبار الكبير وكبار أيضا بالتخفيف، والعرب تقول عجب وعجاب ورجل حسان وجمال بالتثقيل وحسان وجمال بالتخفيف في كثير من أشباهه. قوله: "ديارا من دور، ولكنه فيعال من الدوران" أي أصله ديوار فأدغم ولو كان أصله فعالا لكان دوارا، وهذا كلام الفراء بلفظه. وقال غيره: أصل ديار دوار، والواو إذا وقعت بعد تحتانية ساكنة بعدها فتحة قلبت ياء مثل أيام وقيام. قوله: "كما قرأ عمر الحي القيام وهي من قمت" هو من كلام الفراء أيضا، وقد أخرج أبو عبيدة في فضائل القرآن من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر أنه صلى العشاء الآخرة فاستفتح آل عمران فقرأ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طرق عن عمر أنه قرأها كذلك، وأخرجها عن ابن مسعود أيضا. قوله: "وقال غيره ديارا أحدا" هو قول أبي عبيدة وزاد: يقولون ليس بها ديار ولا عريب. "تنبيه" : لم يتقدم ذكر من يعطف عليه قوله: "وقال غيره:"فيحتمل أن يكون كان في الأصل منسوبا لقائل فحذف اختصارا من بعض النقلة، وقد عرفت أنه الفراء. قوله: "تبارا هلاكا" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "وقال ابن عباس مدرارا يتبع بعضه بعضا" وصله ابن أبي حاتم من علي بن أبي طلحة

(8/666)


عن ابن عباس به. قوله: "وقارا عظمة" وصله سعيد بن منصور وابن أبي حاتم من طريق مسلم البطين بن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} قال: ما تعرفون لله حق عظمته.

(8/667)


1- باب {وَدًّا وَلاَ سُواعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ}
4920- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَارَتْ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لآلِ ذِي الْكَلاَعِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَت"
قوله: "باب {وَدًّا وَلاَ سُواعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "ابن جريج وقال عطاء" كذا فيه وهو معطوف على كلام محذوف، وقد بينه الفاكهي من وجه آخر عن ابن جريج قال في قوله تعالى {وَدًّا وَلاَ سُواعًا} الآية قال: أوثان كان قوم نوح يعبدونهم وقال عطاء كان ابن عباس إلخ. قوله: "عن ابن عباس" قيل هذا منقطع لأن عطاء المذكور هو الخراساني ولم يلق ابن عباس، فقد أخرج عبد الرزاق هذا الحديث في تفسيره عن ابن جريج فقال: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس. وقال أبو مسعود: ثبت هذا الحديث في تفسير ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وإنما أخذه من ابنه عثمان بن عطاء فنظر فيه. وذكر صالح بن أحمد بن حنبل في "العلل" عن علي بن المديني قال: سألت يحيى القطان عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني فقال: ضعيف. فقلت: إنه يقول أخبرنا. قال: لا شيء، إنما هو كتاب دفعه إليه انتهى. وكان ابن جريج يستجيز إطلاق أخبرنا في المناولة والمكاتبة. وقال الإسماعيلي أخبرت عن علي بن المديني أنه ذكر عن "تفسير ابن جريج" كلاما معناه أنه كان يقول عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، فطال على الوراق أن يكتب الخراساني كل حديث فتركه فرواه من روى على أنه عطاء بن أبي رباح انتهى. وأشار بهذا إلى القصة التي ذكرها صالح بن أحمد عن علي بن المديني ونبه عليها أبو على الجياني في "تقييد المهمل" قال ابن المديني سمعت هشام بن يوسف يقول قال لي ابن جريج سألت عطاء عن التفسير من البقرة وآل عمران ثم قال: اعفني من هذا. قال قال هشام فكان بعد إذا قال قال عطاء عن ابن عباس قال عطاء الخراساني. قال هشام: فكتبنا ثم مللنا، يعني كتبنا الخراساني. قال ابن المديني وإنما بينت هذا لأن محمد بن ثور كان يجعلها - يعني في روايته عن ابن جريج - عن عطاء عن ابن عباس فيظن أنه عطاء بن أبي رباح. وقد أخرج الفاكهي الحديث المذكور من طريق محمد بن ثور عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ولم يقل الخراساني، وأخرجه عبد الرزاق كما تقدم فقال الخراساني. وهذا مما استعظم على البخاري أن يخفي عليه، لكن الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريج عن عطاء الخراساني وعن عطاء ابن أبي رباح جميعا؛ ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح من التحديث بالتفسير أن لا يحدث بهذا الحديث في

(8/667)


باب آخر من الأبواب أو في المذاكرة، وإلا فكيف يخفي على البخاري ذلك مع تشدده ما شرط الاتصال واعتماده غالبا في العلل على علي بن المديني شيخه وهو الذي نبه على هذه القصة. ومما يؤيد ذلك أنه لم يكثر من تخريج هذه النسخة وإنما ذكر بهذا الإسناد موضعين هذا وآخر في النكاح، ولو كان خفي عليه لاستكثر من إخراجها لأن ظاهرها أنها على شرطه. قوله: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد" في رواية عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: كانت آلهة تعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب بعد. وقال أبو عبيدة: وزعموا أنهم كانوا مجوسا وأنها غرقت في الطوفان، فلما نضب الماء عنها أخرجها إبليس فبثها في الأرض انتهى. وقوله كانوا مجوسا غلط، فإن المجوسية كلمة حدثت بعد ذلك بدهر طويل، وإن كان الفرس يدعون خلاف ذلك. وذكر السهيلي في "التعريف" أن يغوث هو ابن شيث بن آدم فيما قيل، وكذلك سواع وما بعده وكانوا يتبركون بدعائهم، فلما مات منهم أحد مثلوا صورته تمسحوا بها إلى زمن مهلائيل فعبدوها بتدريج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية، ولا أدري من أين سرت لهم تلك الأسماء؟ من قبل الهند فقد قيل إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح، أم الشيطان ألهم العرب ذلك انتهى. وما ذكر مما نقله تلقاه من "تفسير بقي بن مخلد1 فإنه ذكر فيه نحو ذلك على ما نبه عليه ابن عسكر في ذيله، وفيه أن تلك الأسماء وقعت إلى الهند فسموا بها أصنامهم ثم أدخلها إلى أرض العرب عمرو بن لحي، وعن عروة بن الزبير أنهم كانوا أولاد آدم لصلبه، وكان ود أكبرهم وأبرهم به، وهكذا أخرجه عمر بن شبة في "كتاب مكة" من طريق محمد بن كعب القرظي قال: كان لآدم خمس بنين فسماهم قال: وكانوا عبادا. فمات رجل منهم فحزنوا عليه. فجاء الشيطان فصوره لهم ثم قال للآخر إلى آخر القصة، وفيها: فعبدوها حتى بعث الله نوحا. ومن طريق أخرى أن الذي صوره لهم رجل من ولد قابيل بن آدم. وقد أخرج الفاكهي من طريق ابن الكلبي قال: كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن، فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة، وادخل بلا ملامة. ثم ائت سيف جدة، تجد بها أصناما معدة. ثم أوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب. قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفي عليها الرمل فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة وحضر الموسم فدعا إلى عبادتها فأجيب؛ وعمرو بن ربيعة هو عمرو بن لحي كما تقدم. قوله: "أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل" قال ابن إسحاق: وكان لكلب بن وبرة بن قضاعة. قلت: وبرة هو ابن تغلب بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ودومة بضم الدال، الجندل بفتح الجيم وسكون النون مدينة من الشام مما يلي العراق، وود بفتح الواو وقرأها نافع وحده بضمها "وأما سواع فكانت لهذيل" زاد أبو عبيدة بن مدركة بن إلياس بن مضر؛ وكانوا بقرب مكة. وقال ابن إسحاق: كان سواع بمكان لهم يقال له رهاط بضم الراء وتخفيف الهاء من أرض الحجاز من جهة الساحل. قوله: "وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف" في مرسل قتادة "فكانت لبني غطيف بن مراد" وهو غطيف بن عبد الله بن ناجية بن مراد. وروي الفاكهي من طريق ابن إسحاق قال: كانت أنعم من طيئ وجرش ابن مذحج اتخذوا يغوث لجرش. قوله: "بالجرف" في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني بفتح الحاء وسكون الواو، وله عن الكشميهني الجرف بضم الجيم والراء وكذا في مرسل قتادة، وللنسفي بالجون بجيم ثم واو ثم نون، زاد غير أبي ذر: عند سبأ. قوله: "وأما
ـــــــ
(1) كذا في نسخة، وفي أخرى: "ابن خالد".

(8/668)


يعوق فكانت لهمدان "قال أبو عبيدة: لهذا الحي من همدان ولمراد بن مذحج، وروي الفاكهي من طريق ابن إسحاق قال: كانت خيوان بطن من همدان اتخذوا يعوق بأرضهم1. قوله: "وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع" في مرسل قتادة "لذي الكلاع من حمير" زاد الفاكهي من طريق أبي إسحاق "اتخذوه بأرض حمير" . قوله: "ونسر، أسماء قوم صالحين من قوم نوح" كذا لهم، وسقط لفظ: "ونسر" لغير أبي ذر وهو أولى، وزعم بعض الشراح أن قوله: "ونسر" غلط، وكذا قرأت بخط الصدفي في هامش نسخته. ثم قال هذا الشارح: والصواب وهي قلت: ووقع في رواية محمد بن ثور بعد قوله: "وأما نسر فكانت لآل ذي الكلاع" قال: "ويقال هذه أسماء قوم صالحين" وهذا أوجه الكلام وصوابه؛ وقال بعض الشراح: محصل ما قيل في هذه الأصنام قولان: أحدهما أنها كانت في قوم نوح، والثاني أنها كانت أسماء رجال صالحين إلى آخر القصة. قلت: بل مرجع ذلك إلى قول واحد، وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام ثم تبعهم من بعدهم على ذلك. قوله: "فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم" كذا لهم، ولأبي ذر والكشميهني: "ونسخ العلم" أي علم تلك الصور بخصوصها. وأخرج الفاكهي من طريق عبيد الله بن عبيد بن عمير قال: أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح، وكانت الأبناء تبر الآباء، فمات رجل منهم فجزع عليه فجعل لا يصبر عنه؛ فاتخذ مثالا على صورته فكلما اشتاق إليه نظره ثم مات ففعل به كما فعل حتى تتابعوا على ذلك فمات الآباء، فقال الأبناء. ما أتخذ آباؤنا هذه إلا أنها كانت آلهتهم، فعبدوها. وحكى الواقدي قال: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة طائر، وهذا شاذ والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر، وهو مقتضى ما تقدم من الآثار في سبب عبادتها. والله أعلم
ـــــــ
(1) انظر الكتاب العاشر من (الإكليل لهمداني) ص56 فقيه آل خيوان بن زيد بن مالك بن جشم بن حاشد من همدان وعبادتهم للصنم يعوق، وكان في قرية ببلاد همدا باليمن.

(8/669)


72- سورة {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِبَدًا أَعْوَانًا
1- باب 4921 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ فَقَالُوا مَا لَكُمْ فَقَالُوا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالَ مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلاَّ مَا حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي حَدَثَ فَانْطَلَقُوا فَضَرَبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَنْظُرُونَ مَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ قَالَ فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَخْلَةَ وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَسَمَّعُوا لَهُ

(8/669)


فَقَالُوا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ} "
قوله: "سورة قل أوحى" كذا لهم. ويقال لها سورة الجن. قوله: "قال ابن عباس: لبدا أعوانا" هو عند الترمذي في آخر حديث ابن عباس المذكور في هذا الباب، ووصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هكذا، وقراءة الجمهور بكسر اللام وفتح الباء وهشام وحده بضم اللام وفتح الموحدة فالأولى جمع لبدة بكسر ثم سكون نحو قربة وقرب، واللبدة واللبد الشيء الملبد أي المتراكب بعضه على بعض وبه سمي اللبد المعروف والمعنى كادت الجن يكونون عليه جماعات متراكبة مزدحمين عليه كاللبدة، وأما التي بضم اللام فهي جمع لبدة بضم ثم سكون مثل غرفة وغرف والمعنى أنهم كانوا جمعا كثيرا كقوله تعالى {مَالاً لُبَداً} أي كثيرا وروى عن أبي عمرو أيضا بضمتين فقيل هي جمع لبود مثل صبر وصبور، وهو بناء مبالغة وقرأ ابن محيصن بضم ثم سكون فكأنها مخففة من التي قبلها. وقرأ الجحدري بضمة ثم فتحة مشددة جمع لا بد كسجد وساجد، وهذه القراءات كلها راجعة إلى معنى واحد وهو أن الجن تزاحموا على النبي صلى الله عليه وسلم لما استمعوا القرآن وهو المعتمد. وروي عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبدت الإنس والجن وحرصوا على أن يطفئوا هذا النور الذي أنزله الله تعالى، وهو لما اللفظ واضح القراءة المشهورة لكنه في المعنى مخالف. قوله: "بخسا نقصا" ثبت هذا للنسفي وحده، وتقدم في بدء الخلق. قوله: "عن أبي بشر" هو جعفر بن أبي وحشية. قوله: "انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا اختصره البخاري هنا وفي صفة الصلاة، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبراني عن معاذ بن المثنى عن مسدد شيخ البخاري فيه فزاد في أوله "ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق" إلخ، وهكذا أخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة بالسند الذي أخرجه به البخاري، فكأن البخاري حذف هذه اللفظة عمدا لأن ابن مسعود أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجن، فكان ذلك مقدما على نفي ابن عباس. وقد أشار إلى ذلك مسلم فأخرج عقب حديث ابن عباس هذا حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني داعي الجن فانطلقت معه فقرأت عليه القرآن" ويمكن الجمع بالتعدد كما سيأتي. قوله: "في طائفة من أصحابه" تقدم في أوائل المبعث في "باب ذكر الجن" أن ابن إسحاق وابن سعد ذكرا أن ذلك كان ذي القعدة سنة عشر من المبعث لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ثم رجع منها، ويؤيده قوله في هذا الحديث: "إن الجن رأوه يصلي بأصحابه صلاة الفجر" والصلاة المفروضة إنما شرعت ليلة الإسراء والإسراء كان على الراجح قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث فتكون القصة بعد الإسراء، لكنه مشكل من جهة أخرى، لأن محصل ما في الصحيح كما تقدم في بدء الخلق وما ذكره ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف لم يكن معه من أصحابه إلا زيد بن حارثة، وهنا قال أنه انطلق في طائفة من أصحابه، فلعلها كانت وجهة أخرى. ويمكن الجمع بأنه لما رجع لاقاه بعض أصحابه في أثناء الطريق فرافقوه. قوله: "عامدين" أي قاصدين. قوله: "إلى سوق عكاظ" بضم المهملة وتخفيف الكاف وآخره ظاء معجمة بالصرف وعدمه، قال اللحياني الصرف لأهل

(8/670)


الحجاز وعدمه لغة تميم، وهو موسم معروف للعرب. بل كان من أعظم مواسمهم، وهو نخل في واد بين مكة والطائف وهو إلى الطائف أقرب بينهما عشرة أميال، وهو وراء قرن المنازل بمرحلة من طريق صنعاء اليمن. وقال البكري: أول ما أحدثت قبل الفيل بخمس عشرة سنة، ولم تزل سوقا إلى سنة تسع وعشرين ومائة، فخرج الخوارج الحرورية فنهبوها فتركت إلى الآن، كانوا يقيمون به جميع شوال يتبايعون ويتفاخرون وتنشد الشعراء ما تجدد لهم، وقد كثر ذلك في أشعارهم كقول حسان:
سأنشر إن حييت لكم كلاما ... ينشر في المجامع من عكاظ
وكان المكان الذي يجتمعون به منه يقال له الابتداء، وكانت هناك صخور يطوفون حولها. ثم يأتون مجنة فيقيمون بها عشرين ليلة من ذي القعدة. ثم يأتون ذا المجاز، وهو خلف عرفة فيقيمون به إلى وقت الحج، وقد تقدم في كتاب الحج شيء من هذا. وقال ابن التين: سوق عكاظ من إضافة الشيء إلى نفسه، كذا قال، وعلى ما تقدم من أن السوق كانت تقام بمكان من عكاظ يقال له الابتداء لا يكون كذلك. قوله: "وقد حيل" بكسر الحاء المهملة وسكون التحتانية بعدها لام أي حجز ومنع على البناء للمجهول. قوله: "بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب" بضمتين جمع شهاب، وظاهر هذا أن الحيلولة وإرسال الشهب وقع في هذا الزمان المقدم ذكره والذي تضافرت به الأخبار أن ذلك وقع لهم من أول البعثة النبوية، وهذا مما يؤيد تغاير زمن القصتين، وأن مجيء الجن لاستماع القرآن كان قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بسنتين، ولا يعكر على ذلك إلا قوله في هذا الخبر إنهما رأوه يصلي بأصحابه صلاة الفجر، لأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل فرض الصلوات ليلة الإسراء فإنه صلى الله عليه وسلم كان قبل الإسراء يصلي قطعا، وكذلك أصحابه لكن اختلف هل افترض قبل الخمس شيء من الصلاة أم لا؟ فيصح على هذا قول من قال: إن الفرض أولا كان صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها، والحجة فيه قوله تعالى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} ونحوها من الآيات، فيكون إطلاق صلاة الفجر في حديث الباب باعتبار الزمان لا لكونها إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء، فتكون قصة الجن متقدمة من أول المبعث. وهذا الموضع مما لم ينبه عليه أحد ممن وقفت على كلامهم في شرح هذا الحديث. وقد أخرج الترمذي والطبري حديث الباب بسياق سالم من الإشكال الذي ذكرته من طريق أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كانت الجن تصعد إلى السماء الدنيا يستمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها أضعافا، فالكلمة تكون حقا وأما ما زادوا فيكون باطلا، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك" وأخرجه الطبري أيضا وابن مردويه وغيرها من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير مطولا وأوله "كان للجن مقاعد في السماء يستمعون الوحي" الحديث: "فبينما هم كذلك إذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فدحرت الشياطين من السماء، ورموا بالكواكب، فجعل لا يصعد أحد منهم إلا احترق، وفزع أهل الأرض لما رأوا من الكواكب ولم تكن قبل ذلك فقالوا: هلك أهل السماء كان أهل الطائف أول من تفطن لذلك فعمدوا إلى أموالهم فسيبوها وإلى عبيدهم فعتقوها، فقال لهم رجل: ويلكم لا تهلكوا أموالكم، فإن معالمكم من الكواكب التي تهتدون بها لم يسقط منها شيء، فأقلعوا. وقال إبليس: حدث في الأرض حدث، فأتى من كل أرض بتربة فشمها، فقال لتربة تهامة: هاهنا حدث الحدث، فصرف إليه نفرا من الجن، فهم الذين استمعوا القرآن" وعند أبي داود في" كتاب

(8/671)


المبعث "من طريق الشعبي أن الذي قال لأهل الطائف ما قال هو عبد ياليل ابن عمرو، وكان قد عمى، فقال لهم: لا تعجلوا وانظروا، فإن كانت النجوم التي يرمي بها هي التي تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو من حدث فنظروا فإذا هي نجوم لا تعرف، فلم يلبثوا أن سمعوا بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرجه الطبري من طريق السدي مطولا، وذكر ابن إسحاق نحوه مطولا بغير إسناد في "مختصر ابن هشام" ، زاد في رواية يونس بن بكير فساق سنده بذلك عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة ابن الأخنس أنه حدثه عن عبد الله بن عبد الله أنه حدثه أن رجلا من ثقيف يقال له عمرو بن أمية كان من أدهى العرب، وكان أول من فزع لما رمى بالنجوم من الناس، فذكر نحوه. وأخرجه ابن سعد من وجه آخر عن يعقوب ابن عتبة قال: أول العرب فزع من رمى النجوم ثقيف، فأتوا عمرو بن أمية. وذكر الزبير بن بكار في النسب نحوه بغير سياقه، ونسب القول المنسوب لعبد ياليل لعتبة بن ربيعه، فلعلهما تواردا على ذلك. فهذه الأخبار تدل على أن القصة وقعت أول البعثة وهو المعتمد، وقد استشكل عياض وتبعه القرطبي والنووي وغيرهما من حديث الباب موضعا آخر ولم يتعرضوا لما ذكرته، فقال عياض: ظاهر الحديث أن الرمي بالشهب لم يكن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لإنكار الشياطين له وطلبهم سببه، ولهذا كانت الكهانة فاشية في العرب ومرجوعا إليها في حكمهم، حتى قطع سببها بأن حيل بين الشياطين وبين استراق السمع، كما قال تعالى في هذه السورة {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} وقوله تعالى {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وقد جاءت أشعار العرب باستغراب رميها وإنكاره إذ لم يعهدوه قبل المبعث، وكان ذلك أحد دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم. يؤيده ما ذكر في الحديث من إنكار الشياطين. قال وقال بعضهم: لم تزل الشهب يرمي بها مد كانت الدنيا، واحتجوا بما جاء في أشعار العرب من ذلك قال: وهذا مروى عن ابن عباس والزهري، ورفع فيه ابن عباس حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال الزهري لمن اعترض عليه بقوله {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} قال: غلظ أمرها وشدد انتهى. وهذا الحديث الذي أشار إليه أخرجه مسلم من طريق الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن رجال من الأنصار قالوا "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ رمى بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون لهذا إذا رمى به في الجاهلية" ؟ الحديث. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: سئل الزهري عن النجوم أكان يرمي بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنه إذ جاء الإسلام غلظ وشدد. وهذا جمع حسن. ومحتمل أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رمى بها في الجاهلية" أي جاهلية المخاطبين، ولا يلزم أن يكون ذلك قبل المبعث فإن المخاطب بذلك الأنصار، وكانوا قبل إسلامهم في جاهلية، فإنهم لم يسلموا إلا بعد المبعث ثلاث عشرة سنة. وقال السهيلي: لم يزل القذف بالنجوم قديما، وهو موجود في أشعار قدماء الجاهلية كأوس بن حجر وبشر بن أبي حازم وغيرهما. وقال القرطبي: يجمع بأنها لم تكن يرمي بها قبل المبعث رميا يقطع الشياطين عن استراق السمع، ولكن كانت ترمى تارة ولا ترمى أخرى، وترمي من جانب ولا ترمي من جميع الجوانب، ولعل الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً} انتهى. ثم وجدت عن وهب بن منبه ما يرفع الإشكال ويجمع بين مختلف الأخبار قال: كان إبليس يصعد إلى السماوات كلهن يتقلب فيهن كيف شاء لا يمنع منذ أخرج آدم إلى أن رفع عيسى، فحجب حينئذ من أربع سماوات، فلما بعث نبينا حجب من الثلاث فصار يسترق السمع هو وجنوده ويقذفون بالكواكب. ويؤيده ما روى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لم تكن

(8/672)


السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد، فلما بعث محمد حرست حرسا شديدا ورجمت الشياطين، فأنكروا ذلك. ومن طريق السدي قال: إن السماء لم تكن تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين ظاهر، وكانت الشياطين قد اتخذت مقاعد يسمعون فيها ما يحدث، فلما بعث محمد رجموا. وقال الزين بن المنير: ظاهر الخبر أن الشهب لم تكن يرمى بها، وليس كذلك؛ لما دل عليه حديث مسلم. وأما قوله تعالى {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} فمعناه أن الشهب كانت ترمي فتصيب تارة ولا تصيب أخرى، وبعد البعثة أصابتهم إصابة مستمرة فوصفوها لذلك بالرصد، لأن الذي يرصد الشيء لا يخطئه، فيكون المتجدد دوام الإصابة لا أصلها. وأما قول السهيلي: لولا أن الشهاب قد يخطئ الشيطان لم يتعرض له مرة أخرى، فجوابه أنه يجوز أن يقع التعرض مع تحقق الإصابة لرجاء اختطاف الكلمة وإلقائها قبل إصابة الشهاب، ثم لا يبالي المختطف بالإصابة لما طبع عليه من الشر كما تقدم. وأخرج العقيلي وابن منده وغيرهما وذكره أبو عمر بغير سند من طريق لهب - بفتحتين ويقال بالتصغير - ابن مالك الليثي قال: ذكرت عن النبي صلى الله عليه وسلم لكهانة فقلت: نحن أول من عرف حراسة السماء ورجم الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك أنا اجتمعنا عند كاهن لنا يقال له خطر بن مالك - وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتان وستة وثمانون سنة - فقلنا: يا خطر، هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمي بها، فإنا فزعنا منها وحفنا سوء عاقبتها؟ الحديث، وفيه: فانقض نجم عظيم من السماء، فصرخ الكاهن رافعا صوته:
أصابه أصابه ... خامره عذابه ... أحرقه شهابه
الأبيات، وفي الخبر أنه قال أيضا:
قد منع السمع عتاة الجان ... بثاقب يتلف ذي سلطان ... من أجل مبعوث عظيم الشان
وفيه أنه قال:
أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير نبي الإنس
الحديث بطوله، قال أبو عمر: سنده ضعيف جدا، ولولا فيه حكم لما ذكرته لكونه علما من أعلام النبوة والأصول. فإن قيل إذا كان الرمي بها غلظ وشدد بسبب نزول الوحي فهلا انقطع بانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نشاهدها الآن يرمى بها؟ فالجواب يؤخذ من حديث الزهري المتقدم، ففيه عند مسلم قالوا: كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنها لا ترمي لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمرا أخبر أهل السماوات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون به إلى أوليائهم. فيؤخذ من ذلك أن سبب التغليظ والحفظ لم ينقطع لما يتجدد من الحوادث التي تلقي بأمره إلى الملائكة، فإن الشياطين مع شدة التغليظ عليهم في ذلك بعد المبعث لم ينقطع طمعهم في استراق السمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بما بعده، وقد قال عمر لغيلان بن سلمة لما طلق نساءه: إني أحسب أن الشياطين فيما تسترق السمع سمعت بأنك ستموت فألقت إليك ذلك الحديث، أخرجه عبد الرزاق وغيره. فهذا ظاهر في أن استراقهم السمع استمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقصدون استماع الشيء مما يحدث فلا يصلون إلى ذلك إلا إن اختطف أحدهم بخفة حركته خطفة فيتبعه الشهاب، فإن أصابه قبل أن يلقيها لأصحابه فاتت وإلا سمعوها وتداولوها، وهذا يرد على قول السهيلي

(8/673)


المقدم ذكره. قوله: "قال ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث" الذي قال لهم ذلك هو إبليس كما تقدم في رواية أبي إسحاق المتقدمة قريبا. قوله: "فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها" أي سيروا فيها كلها، ومنه قوله تعالى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وفي رواية نافع بن جبير عن ابن عباس عند أحمد "فشكوا ذلك إلى إبليس، فبث جنوده، فإذا هم بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي برحبة في نخلة" . قوله: "فانطلق الذين توجهوا" قيل كان هؤلاء المذكورون من الجن على دين اليهود، ولهذا قالوا "أنزل من بعد موسى" وأخرج ابن مردويه من طريق عمر بن قيس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم كانوا تسعة، ومن طريق النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس كانوا سبعة من أهل نصيبين، وعند ابن أبي حاتم من طريق مجاهد نحوه لكن قال: كانوا أربعة من نصيبين وثلاثة من حران، وهم حسا ونسا وشاصر وماضر والأدرس ووردان والأحقب. ونقل السهيلي في "التعريف" أن ابن دريد ذكر منهم خمسة: شاصر وماضر ومنشي وناشي والأحقب. قال وذكر يحيى بن سلام وغيره قصة عمرو بن جابر وقصة سرق وقصة زوبعة قال: فإن كانوا سبعة فالأحقب لقب أحدهم لا اسمه. واستدرك عليه ابن عسكر ما تقدم عن مجاهد قال: فإذا ضم إليهم عمرو وزوبعة وسرق وكان الأحقب لقبا كانوا تسعة. قلت: هو مطابق لرواية عمر بن قيس المذكورة. وقد روى ابن مردويه أيضا من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس: كانوا اثنى عشر ألفا من جزيرة الموصل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لابن مسعود: أنظرني حتى آتيك. وخط عليه خطا. الحديث. والجمع بين الروايتين تعدد القصة، فإن الذين جاءوا أولا كان سبب مجيئهم ما ذكر في الحديث من إرسال الشهب، وسبب مجيء الذين في قصة ابن مسعود أنهم جاءوا لقصد الإسلام وسماع القرآن والسؤال عن أحكام الدين، وقد بينت ذلك في أوائل المبعث في الكلام على حديث أبي هريرة، وهو من أقوى الأدلة على تعدد القصة فإن أبا هريرة إنما أسلم بعد الهجرة، والقصة الأولى كانت عقب المبعث، ولعل من ذكر في القصص المفرقة كانوا ممن وفد بعد، لأنه ليس في كل قصة منها إلا أنه كان ممن وفد، وقد ثبت تعدد وفودهم. وتقدم في بدء الخلق كثير مما يتعلق بأحكام الجن والله المستعان. قوله: "نحو تهامة" بكسر المثناة اسم لكل مكان غير عال من بلاد الحجاز، سميت بذلك لشدة حرها اشتقاقا من التهم بفتحتين وهو شدة الحر وسكون الريح، وقيل من تهم الشيء إذا تغير، قيل لها ذلك لتغير هوائها. قال البكري: حدها من جهة الشرق ذات عرق، ومن قبل الحجاز السرج بفتح المهملة وسكون الراء بعدها جيم قرية من عمل الفرع بينها وبين المدينة اثنان وسبعون ميلا. قوله: "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية أبي إسحاق: فانطلقوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وهو عامد" كذا هنا، وتقدم في صفة الصلاة بلفظ: "عامدين" ونصب على الحال من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه، أو ذكر بلفظ الجمع تعظيما له، وهو أظهر لمناسبة الرواية التي هنا. قوله: "بنخلة" بفتح النون وسكون المعجمة موضع بين مكة والطائف، قال البكري: على ليلة من مكة. وهي التي ينسب إليها بطن نخل. ووقع في رواية مسلم بنخل بلا هاء والصواب إثباتها. قوله: "يصلي بأصحابه صلاة الفجر" لم يختلف علي ابن عباس في ذلك، ووقع في رواية عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: قال الزبير - أو ابن الزبير - كان ذلك بنخلة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء، وخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة قال: قال الزبير فذكره، وزاد: فقرأ {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} . وكذا أخرجه ابن أبي حاتم، وهذا منقطع، والأول أصح. قوله: "تسمعوا له" أي قصدوا لسماع القرآن وأصغوا إليه. قوله: "فهنالك" هو

(8/674)


ظرف مكان والعامل فيه قالوا. وفي رواية: "فقالوا" والعامل فيه رجعوا. قوله: "رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا" قال الماوردي: ظاهر هذا أنهم آمنوا عند سماع القرآن، قال: والإيمان يقع بأحد أمرين: إما بأن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة فيقع له العلم بصدق الرسول، أو يكون عنده علم من الكتب الأولى فيها دلائل على أنه النبي المبشر به، وكلا الأمرين في الجن محتمل. والله أعلم. قوله: "وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم. {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} " زاد الترمذي "قال ابن عباس: وقول الجن لقومهم: لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا، قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته يسجدون بسجوده، قال فتعجبوا من طواعية أصحابه له قالوا لقومهم ذلك" . قوله: "وإنما أوحي إليه قول الجن" هذا كلام ابن عباس، كأنه تقرر فيه ما ذهب إليه أولا أنه صلى الله عليه وسلم لم يجتمع بهم، وإنما أوحى الله إليه بأنهم استمعوا، ومثله قوله تعالى {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} الآية. ولكن لا يلزم من عدم ذكر اجتماعه بهم حين استمعوا أن لا يكون اجتمع بهم بعد ذلك كما تقدم تقريره. وفي الحديث إثبات وجود الشياطين والجن وأنهما لمسمى واحد، وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان، فلا يقال لمن آمن منهم إنه شيطان. وفيه أن الصلاة في الجماعة شرعت قبل الهجرة. وفيه مشروعيتها في السفر. والجهر بالقراءة في صلاة الصبح، وأن الاعتبار بما قضى الله للعبد من حسن الخاتمة لا بما ظهر منه من الشر ولو بلغ ما بلغ، لأن هؤلاء الذين بادروا إلى الإيمان بمجرد استماع القرآن لو لم كونوا عند إبليس في أعلى مقامات الشر ما اختارهم للتوجه إلى الجهة التي ظهر له أن الحدث الحادث من جهتها. ومع ذلك فغلب عليهم ما قضى لهم من السعادة بحسن الخاتمة، ونحو ذلك قصة سحرة فرعون، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى.

(8/675)


73- سورة الْمُزَّمِّلِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَتَبَتَّلْ أَخْلِصْ وَقَالَ الْحَسَنُ {أنْكَالًا} قُيُودًا {مُنْفَطِرٌ بِهِ} مُثْقَلَةٌ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {كَثِيبًا مَهِيلاً} الرَّمْلُ السَّائِلُ {وَبِيلاً} شَدِيدًا
قوله: "سورة المزمل والمدثر" كذا لأبي ذر، واقتصر الباقون على المزمل وهو أولى، لأنه أفرد المدثر بعد بالترجمة. والمزمل بالتشديد أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، وقد جاءت قراءة أبي بن كعب على الأصل. قوله: "وقال مجاهد وتبتل أخلص" وصله الفريابي وغيره، وقد تقدم في كتاب قيام الليل. قوله: "وقال الحسن: أنكالا قيودا" وصله عبد بن حميد والطبري من طريق الحسن البصري. وقال أبو عبيدة: الأنكال واحدها نكل بكسر النون وهو القيد، وهذا هو المشهور. وقيل النكل الغل. قوله: {مُنْفَطِرٌ بِهِ} مثقلة به" وصله عبد بن حميد من وجه آخر عن الحسن البصري في قوله {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} قال: مثقلة به يوم القيامة ووصله الطبري وابن أبي حاتم من طريقه بلفظ: "مثقلة موقوة" ولابن أبي حاتم من طريق أخرى عن مجاهد {مُنْفَطِرٌ بِهِ} تنفطر من ثقل ربها تعالى. وعلى هذا فالضمير لله، ومحتمل أن يكون الضمير ليوم القيامة. وقال أبو عبيدة: أعاد الضمير مذكرا لأن مجاز السماء مجاز السقف، يريد قوله منفطر، ويحتمل أن يكو على حذف والتقدير شيء منفطر. قوله: "وقال ابن عباس: كثيبا مهيلا الرمل السائل" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، وأخرجه

(8/675)


الحاكم من وجه آخر عن ابن عباس ولفظه: المهيل إذا أخذت منه شيئا يتبعك آخره، والكثيب الرمل. وقال الفراء: الكثيب الرمل والمهيل الذي تحرك أسفله فينهال عليك أعلاه. قوله: "وبيلا شديدا" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة مثله.
" تنبيه " : لم يورد المصنف في سورة المزمل حديثا مرفوعا، وقد أخرج مسلم حديث سعيد بن هشام عن عائشة فيما يتعلق منها بقيام الليل وقولها فيه: "فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضته" ويمكن أن يدخل في قوله تعالى في آخرها {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} حديث ابن مسعود "إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر" وسيأتي في الرقاق.

(8/676)


74- سورة الْمُدَّثِّرِ
بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {عَسِيرٌ} شَدِيدٌ {قَسْوَرَةٌ} رِكْزُ النَّاسِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَكُلُّ شَدِيدٍ قَسْوَرَةٌ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ الْقَسْوَرَةُ قَسْوَرٌ الأَسَدُ الرِّكْزُ الصَّوْتُ {مُسْتَنْفِرَةٌ} نَافِرَةٌ مَذْعُورَةٌ
قوله: "سورة المدثر - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر، قرأ أبي بن كعب بإثبات المثناة المفتوحة بغير إدغام كما تقدم في المتزمل، وقرأ عكرمة فيهما بخفيف الزاي والدال اسم فاعل. قوله: "قال ابن عباس: عسير شديد" وصله ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس به. قوله: "قسورة ركز الناس وأصواتهم" وصله سفيان بن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} قال: هو ركز الناس، قال سفيان: يعني حسهم وأصواتهم. قوله: "وقال شديد قسورة" زاد النسفي: وقسور. وسيأتي القول فيه مبسوطا. قوله: "وقال أبو هريرة: القسور قسور الأسد، الركز الصوت" سقط قوله: "الركز الصوت" لغير أبي ذر، وقد وصله عبد بن حميد من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: كان أبو هريرة إذا قرأ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} قال: الأسد. وهذا منقطع بين زيد وأبي هريرة. وقد أخرجه من وجهين آخرين عن زيد بن أسلم عن ابن سيلان عن أبي هريرة وهو متصل، ومن هذا الوجه أخرجه البزار، وجاء عن ابن عباس أنه بالحبشية، أخرجه ابن جرير من طريق يوسف بن مهران عنه قال: القسورة الأسد بالعربية، وبالفارسية شير، وبالحبشية قسورة. وأخرج الفراء من طريق عكرمة أنه قيل له: القسورة بالحبشية الأسد، فقال: القسورة الرماة والأسد بالحبشية عنبسة. وأخرجه ابن أبي حازم عن ابن عباس، وتفسيره بالرماة أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم من حديث أبي موسى الأشعري، ولسعيد من طريق ابن أبي حمزة قلت لابن عباس: القسورة الأسد؟ قال: ما أعلمه بلغة أحد من العرب، هم عصب الرجال. قوله: "مستنفرة نافر مذعورة" قال أبو عبيدة في قوله تعالى {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} أي مذعورة، ومستنفرة نافرة، يريد أن لها معنيين وهما على القراءتين، فقد قرأها الجمهور بفتح الفاء وقرأها عاصم والأعمش بكسرها.
1- باب 4922- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} قُلْتُ يَقُولُونَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ فَقَالَ

(8/676)


جَابِرٌ: لاَ أُحَدِّثُكَ إِلاَّ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا قَالَ فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا قَالَ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
قوله: "حدثني يحيى" هو ابن موسى البلخي أو ابن جعفر. قوله: "عن علي بن المبارك" هو الهنائي بضم ثم نون خفيفة ومد. بصرى ثقة مشهور، ما بينه وبين عبد الله ابن المبارك المشهور قرابة.

(8/677)


2- بَاب {قُمْ فَأَنْذِرْ}
4923- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ قَالاَ حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ.." مِثْلَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَك"
قوله: "حدثني محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي وغيره" هو أبو داود الطيالسي أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي عروبة حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدى وأبو داود قالا حدثنا حرب بن شداد به. قوله: "عن أبي سلمة" كذا قال أكثر الرواة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. وقال شيبان بن عبد الرحمن: عن يحيى عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن جابر، أخرجه النسائي من طريق آدم بن أبي إياس عن شيبان، وهكذا ذكره البخاري في "التاريخ" عن آدم، ورواه سعد بن حفص عن شيبان كرواية الجماعة وهو المحفوظ. قوله: "مثل حديث عثمان بن عمر عن علي بن المبارك" لم يخرج البخاري رواية عثمان بن عمر التي أحال رواية حرب بن شداد عليها، وهي عند محمد بن بشار شيخ البخاري فيه أخرجه أبو عروبة في "كتاب الأوائل" قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عثمان بن عمر أنبأنا علي بن المبارك، وهكذا أخرجه مسلم والحسن بن سفيان جميعا عن أبي موسى محمد بن المثنى عن عثمان بن عمر

(8/677)


3- باب {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
4924- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا حَرْبٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ أَوَّلُ فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فَقُلْتُ أُنْبِئْتُ أَنَّهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ أَوَّلُ فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فَقُلْتُ أُنْبِئْتُ أَنَّهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ لاَ أُخْبِرُكَ إِلاَّ بِمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جَاوَرْتُ فِي حِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِيَ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَإِذَا

(8/677)


4- باب {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}
4925- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب .ح. وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري، فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن "عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحكي فقال في حديثه: فبينا أنا أمشي إّ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي فإّذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجئت منه

(8/678)


رعبا. فرجعت فقلت: زملوني زملوني. فدثروني. فأنزل الله تعالى : {يا أيها المدثر _ إلى _ والرجز فاهجر} قبل أن تفرض الصلاة. وهي الأوثان"
قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ذكر فيه حديث جابر المذكور، لكن من رواية الزهري عن أبي سلمة، وأورده بإسنادين من طريق عقيل ومعمر، وساقه على لفظ معمر، وساق لفظ عقيل في الباب الذي يليه. ووقع في آخر الحديث {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قبل أن تفرض الصلاة، وكأنه أشار بقوله: "قبل أن تفرض الصلاة" إلى أن تطهير الثياب كان مأمورا به قبل أن تفرض الصلاة وأخرج ابن المنذر من طريق محمد بن سيرين قال: اغسلها بالماء، وعلى هذا حمله ابن عباس فيما أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج من وجه آخر عنه قال: فطهر من الإثم. ومن طريق عن قتادة والشعبي وغيرهما نحوه. ومن وجه ثالث عن ابن عباس قال: لا تلبسها على غدرة ولا فجرة. ومن طريق طاوس قال: شمر. ومن طريق منصور - قال وعن مجاهد مثله - قال: أصلح عملك. وأخرجه سعيد بن منصور أيضا عن طريق منصور عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق منصور عن أبي رزين مثله. وأخرج ابن المنذر من طريق الحسن قال: خلقك فحسنه. وقال الشافعي رحمه الله: قبل في قوله {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} صل في ثياب طاهره، وقيل غير ذلك، والأول أشبه. انتهى. ويؤيد ما أخرج ابن المنذر في سبب نزولها من طريق زيد بن مرثد قال: "ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم جزور فنزلت. ويجوز أن يكون المراد جميع ذلك.

(8/679)


5- باب {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} يُقَالُ الرِّجْزُ وَالرِّجْسُ: الْعَذَابُ
حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب سمعت أبا سلمة قال: "أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فبينا أنا أمشي إّذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء فإّذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله تعالى {ياأيها المدثر قم فأنذر _ إلى قوله _ فاهجر} . قال أبو سلمة: والرجز الأوثان. ثم حمى الوحي وتتابع"
قوله: {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} يقال الرجز والرجس العذاب" هو قول أبي عبيدة، وقد تقدم في الذي قبله أن الرجز الأوثان، وهو تفسير معنى، أي أهجر أسباب الرجز أي العذاب وهي الأوثان. وقال الكرماني: فسر المفرد بالجمع لأنه اسم جنس، وبين ما في سياق رواية الباب أن تفسيرها بالأوثان من قول أبي سلمة، وعند ابن مردويه من طريق محمد بن كثير عن معمر عن الزهري في هذا الحديث: والرجز بضم الراء، وهي قراءة حفص عن عاصم، قال أبو عبيدة: هما بمعنى، ويروى عن مجاهد والحسن بالضم اسم الصنم وبالكسر اسم العذاب

(8/679)


سورة القيامة: باب {لا تحرك به لسانك لتعجل به}
...
75- سورة الْقِيَامَةِ
1- بَاب {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} سَوْفَ أَتُوبُ سَوْفَ أَعْمَلُ {لاَ وَزَرَ} لاَ حِصْنَ {سُدًى} هَمَلاً

(8/679)


باب {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
4928- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} يَخْشَى أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ أَنْ تَقْرَأَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ يَقُولُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَنْ نُبَيِّنَهُ عَلَى لِسَانِك"
قوله: "باب {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور من رواية إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة أتم من رواية ابن عيينة، وقد استغربه الإسماعيلي فقال: كذا أخرجه عن عبيد الله بن موسى، ثم أخرجه هو من طريق أخرى عن عبيد الله المذكور بلفظ {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قال كان يحرك به لسانه مخافة أن ينفلت

(8/681)


عنه، فيحتمل أن يكون ما بعد هذا من قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} إلى آخره معلقا عن ابن عباس بغير هذا الإسناد، وسيأتي الحديث في الباب الذي بعده أتم سياقا.

(8/682)


باب {فإذا قرأنه فاتبع قرآنه}
...
2- باب {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأْنَاهُ بَيَّنَّاهُ فَاتَّبِعْ اعْمَلْ بِهِ
4929- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي فِي لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ قَالَ فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى تَوَعُّدٌ"
قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال ابن عباس: قرأناه بيناه، فاتبع اعمل به" هذا التفسير رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم، وسيأتي في الباب عن ابن عباس تفسيره بشيء آخر. قوله: "إذا نزل جبريل عليه" في رواية أبي عوانة عن موسى بن أبي عائشة كما تقدم في بدء الوحي "كان يعالج من التنزيل شدة" وهذه الجملة توطئة لبيان السبب في النزول، وكانت الشدة تحصل له عند نزول الوحي لثقل القول كما تقدم في بدء الوحي من حديث عائشة، وتقدم من حديثها في قصة الإفك "فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء" وفي حديثها في بدء الوحي أيضا: "وهو أشده علي" لأنه يقتضي الشدة في الحالتين المذكورتين لكن إحداهما أشد من الأخرى. قوله: "وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه" اقتصر أبو عوانة على ذكر الشفتين وكذلك إسرائيل، واقتصر سفيان على ذكر اللسان، والجميع مراد إما لأن التحريكين متلازمان غالبا، أو المراد يحرك فمه المشتمل على الشفتين واللسان، لكن لما كان اللسان هو الأصل في النطق اقتصر في الآية عليه. قوله: "فيشتد عليه" ظاهر هذا السياق أن السبب في المبادرة حصول المشقة التي يجدها عند النزول، فكان يتعجل بأخذه لتزول المشقة سريعا. وبين في رواية إسرائيل أن ذلك كان خشية أن ينساه حيث قال: "فقيل له لا تحرك به لسانك تخشى أن ينفلت" . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي رجاء عن الحسن "كان يحرك به لسانه يتذكره، فقيل له إنا سنحفظه عليك" وللطبري من طريق الشعبي "كان إذا نزل عليه عجل يتكلم به من حبه إياه، وظاهره أنه كان يتكلم بما يلقى إليه منه أولا فأولا من شدة حبه إياه، فأمر أن يتأنى إلى أن ينقضي النزول. ولا بعد في تعدد السبب. ووقع في رواية أبي عوانة" قال ابن عباس: فأنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما" وقال سعيد "أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما" فأطلق في خبر ابن عباس وقيد بالرؤية في خبر سعيد لأن ابن عباس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، لأن الظاهر أن ذلك كان في مبدأ المبعث النبوي، ولم يكن ابن عباس ولد حينئذ، ولكن لا مانع أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بعد فيراه ابن عباس حينئذ، وقد ورد ذلك صريحا عند أبي داود الطيالسي مسنده عن أبي عوانة بسنده بلفظ: "قال ابن عباس: فأنا أحرك لك شفتي كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" . وأفادت هذه الرواية إبراز الضمير في رواية البخاري حيث قال فيها "فأنا أحركهما" ولم يتقدم للشفتين ذكر، فعلمنا أن ذلك من تصرف الرواة.

(8/682)


قوله: "فأنزل الله" أي بسبب ذلك. واحتج بهذا من جوز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، وجوز الفخر الرازي أن يكون أذن له في الاستعجال إلى وقت ورود النهي عن ذلك فلا يلزم وقوع الاجتهاد في ذلك، والضمير في "به" عائد على القرآن وإن لم يجر له ذكر، لكن القرآن يرشد إليه، بل دل عليه سياق الآية. قوله: "علينا أن نجمعه في صدرك" كذا فسره ابن عباس وعبد الرزاق عن معمر عن قتادة تفسيره بالحفظ، ووقع في رواية أبي عوانة "جمعه لك في صدرك" ورواية جرير أوضح. وأخرج الطبري عن قتادة أن معنى جمعه تأليفه. قوله: "وقرآنه" زاد في رواية إسرائيل "أن تقرأه" أي أنت. ووقع في رواية الطبري "وتقرأه بعد" قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي قرأه عليك الملك "فاتبع قرآنه، فإذا أنزلناه فاستمع" هذا تأويل آخر لابن عباس غير المنقول عنه في الترجمة. وقد وقع في رواية ابن عيينة مثل رواية جرير. وفي رواية إسرائيل نحو ذلك. وفي رواية أبي عوانة "فاستمع وأنصت" ولا شك أن الاستماع أخص من الإنصات لأن الاستماع الإصغاء والإنصات السكوت، ولا يلزم من السكوت الإصغاء، وهو مثل قوله تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} والحاصل أن لابن عباس في تأويل قوله تعالى: { أَنْزَلْنَاهُ} وفي قوله: "فَاسْتَمِعْ" قولين. وعند الطبري من طريق قتادة في قوله استمع: اتبع حلاله واجتنب حرامه. ويؤيد ما وقع في حديث الباب قوله في آخر الحديث: "فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه، والضمير في قوله: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} لجبريل، والتقدير: فإذا انتهت قراءة جبريل فاقرأ أنت. قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} علينا أن نبينه بلسانك" في رواية إسرائيل "على لسانك" . وفي رواية أبي عوانة "أن تقرأه" وهي بمثناة فوقانية، واستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو مذهب الجمهور من أهل السنة، ونص عليه الشافعي، لما تقتضيه "ثم" من التراخي. وأول من استدل لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الطيب وتبعوه، وهذا لا يتم إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حمل على أن المراد استمرار حفظه له وظهوره على لسانه فلا، قال الآمدي: يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل، يقال بأن الكوكب إذا ظهر، قال: ويؤيد ذلك أن المراد جميع القرآن، والمجمل إنما هو بعضه، ولا اختصاص لبعضه بالأمر المذكور دون بعض. وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يراد البيان التفصيلي ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجمالي، فلا يتم الاستدلال. وتعقب باحتمال إرادة المعنيين الإظهار والتفصيل وغير ذلك، لأن قوله: "بيانه" جنس مضاف فيعم جميع أصنافه من إظهاره وتبيين أحكامه وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك، وقد تقدم كثير من مباحث هذا الحديث في بدء الوحي وأعيد بعضه هنا استطرادا

(8/683)


76- سورة {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُقَالُ مَعْنَاهُ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ وَهَلْ تَكُونُ جَحْدًا وَتَكُونُ خَبَرًا وَهَذَا مِنْ الْخَبَرِ يَقُولُ كَانَ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا وَذَلِكَ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ إِلَى أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ {أَمْشَاجٍ} الأَخْلاَطُ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ الدَّمُ وَالْعَلَقَةُ وَيُقَالُ إِذَا خُلِطَ مَشِيجٌ كَقَوْلِكَ خَلِيطٌ وَمَمْشُوجٌ مِثْلُ مَخْلُوطٍ وَيُقَالُ {سَلاَسِلاً وَأَغْلاَلاً} وَلَمْ يُجْرِ بَعْضُهُمْ {مُسْتَطِيرًا} مُمْتَدًّا الْبَلاَءُ وَالْقَمْطَرِيرُ الشَّدِيدُ يُقَالُ يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُمَاطِرٌ وَالْعَبُوسُ وَالْقَمْطَرِيرُ وَالْقُمَاطِرُ وَالْعَصِيبُ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ الأَيَّامِ فِي الْبَلاَءِ وَقَالَ الْحَسَنُ النُّضْرَةُ فِي

(8/683)


الْوَجْهِ وَالسُّرُورُ فِي الْقَلْبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الأَرَائِكِ} السُّرُرُ وَقَالَ الْبَرَاءُ {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا} يَقْطِفُونَ كَيْفَ شَاءُوا وَقَالَ مَعْمَرٌ أَسْرَهُمْ شِدَّةُ الْخَلْقِ وَكُلُّ شَيْءٍ شَدَدْتَهُ مِنْ قَتَبٍ وَغَبِيطٍ فَهُوَ مَأْسُورٌ
قوله: "سورة هل أتى على الإنسان - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثبتت البسملة لأبي ذر. قوله: "يقال معناه أتى على الإنسان، و "هل" تكون جحدا وتكون خبرا، وهذا من الخبر "كذا للأكثر وفي بعض، النسخ" وقال يحيى "وهو صواب لأنه قول يحيى بن زياد الفراء بلفظه، وزاد: لأنك تقول هل وعظمتك، هل أعطيتك؟ تقرره بأنك وعظته وأعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ والتحرير أن "هل" للاستفهام، لكن تكون تارة للتقرير وتارة للإنكار، فدعوى زيادتها لا يحتاج إليه. وقال أبو عبيدة "هل أتى" معناه قد أتى وليس باستفهام. وقال غيره: بل هي للاستفهام التقريري، كأنه قيل لمن أنكر البعث {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} فيقول: نعم، فيقال: فالذي أنشأه - بعد أن لم يكن - قادر على إعادته. ونحوه {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} أي فتعلمون أن من أنشأ قادر على أن يعيد. قوله: "يقول كان شيئا فلم يكن مذكورا، وذلك من حين خلقه من طين إلى أن ينفخ فيه الروح" هو كلام الفراء أيضا، وحاصله انتفاء الموصوف بانتفاء صفته. ولا حجة فيه للمعتزلة في دعواهم أن المعدوم شيء. قوله: "أمشاج الأخلاط: ماء المرأة وماء الرجل الدم والعلقة، ويقال إذا خلط مشيج كقولك خليط، وممشوج مثل مخلوط" هو قول الفراء قال في قوله: "أمشاج نبتليه" : وهو ماء المرأة وماء الرجل، والدم والعلقة، ويقال للشيء من هذا إذا خلط مشيج كقولك خليط، وممشوج كقولك مخلوط. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة قال: من الرجل الجلد والعظم، ومن المرأة الشعر والدم، ومن طريق الحسن: من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيض. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أمشاج قال مختلفة الألوان. ومن طريق ابن جريج عن مجاهد قال: أحمر وأسود. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الأمشاج إذا اختلط الماء والدم ثم كان علقة ثم كان مضغة. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: الأمشاج العروق. قوله: "سلاسلا وأغلالا" في رواية أبي ذر "ويقال سلاسلا وأغلالا" . قوله: "ولم يجر بعضهم" هو بضم التحتانية وسكون الجيم وكسر الراء بغير إشباع علامة للجزم، وذكر عياض أن في رواية الأكثر بالزاي بدل الراء ورجح الراء وهو الأوجه، والمراد أن بعض القراء أجرى سلاسلا وبعضهم لم يجرها أي لم يصرفها، وهذا اصطلاح قديم يقولون للاسم المصروف مجرى. والكلام المذكور للفراء، قال في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً} كتبت سلاسل بالألف وأجراها بعض القراء مكان الألف التي في آخرها، ولم يجر بعضهم واحتج بأن العرب قد ثبت الألف في النصب وتحذفها عند الوصل، قال: وكل صواب انتهى. ومحصل ما جاء من القراءات المشهورة في سلاسل التنوين وعدمه، ومن لم ينون منهم من يقف بألف وبغيرها، فنافع والكسائي وأبو بكر بن عياش وهشام بن عمار قرءوا بالتنوين، والباقون بغير تنوين، فوقف أبو عمرو بالألف ووقف حمزة بغير ألف، وجاء مثله في رواية عن ابن كثير، وعن حفص وابن ذكوان الوجهان، أما من نون فعلى لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف حكاها الكسائي والأخفش وغيرهما، أو على مشاكلة أغلالا.

(8/684)


وقد ذكر أبو عبيدة أنه رآها في إمام أهل الحجاز والكوفة "سلاسلا" بالألف، وهذه حجة من وقف بالألف اتباعا للرسم، وما عدا ذلك واضح. والله أعلم. قوله: "مستطيرا ممتدا البلاء" هو كلام الفراء أيضا وزاد: والعرب تقول استطار الصدع في القارورة وشبهها واستطال. وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة قال: استطار والله شره حتى ملأ السماء والأرض. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "مستطيرا" قال: فاشيا. قوله: "والقمطرير الشديد، يقال يوم قمطرير ويوم قماطر، والعبوس والقمطرير والقماطر والعصيب أشد ما يكون من الأيام في البلاء" هو كلام أبي عبيدة بتمامه. وقال الفراء: قمطرير أي شديد، ويقال يوم قمطرير ويوم قماطر. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: القمطرير تقبيض الوجه، قال معمر وقال يوم الشديد. قوله: "وقال الحسن: النضرة في الوجه والسرور في القلب" سقط هذا هنا لغير النسفي والجرجاني، وقد تقدم ذلك في صفة الجنة. قوله: "وقال ابن عباس: الأرائك السرر" ثبت هذا للنسفي والجرجاني، وقد تقدم أيضا في صفة الجنة. قوله: "وقال البراء: وذللت قطوفها يقطفون كيف شاءوا" ثبت هذا للنسفي وحده أيضا، وقد وصله سعيد بن منصور عن شريك عن أبي إسحاق عن البراء في قوله: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} قال: إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين وعلى أي حال شاءوا. ومن طريق مجاهد: إن قام ارتفعت وإن قعد تدلت. ومن طريق قتادة: لا يرد أيديهم شوك ولا بعد. قوله: "وقال مجاهد: سلسبيلا حديد الجرية" ثبت هذا للنسفي وحده، وتقدم في صفة الجنة. قوله: "وقال معمر أسرهم شدة الخلق، وكل شيء شددته من قتب وغبيط فهو مأسور" سقط هذا لأبي ذر عن المستملي وحده، ومعمر المذكور هو أبو عبيدة معمر بن المثنى، وظن بعضهم أنه ابن راشد فزعم أن عبد الرزاق أخرجه في تفسيره عنه، ولفظ أبي عبيدة: أسرهم شدة خلقهم، ويقال للفرس شديد الأسر أي شديد الخلق وكل شيء إلى آخر كلامه. وأما عبد الرزاق فإنما أخرج عن معمر بن راشد عن قتادة في قوله: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} قال: خلقهم، وكذا أخرجه الطبري من طريق محمد بن ثور عن معمر.
" تنبيه " : لم يورد في تفسير "هل أتى" حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث ابن عباس في قراءتها في صلاة الصبح يوم الجمعة. وقد تقدم في الصلاة.

(8/685)


77- سورة وَالْمُرْسَلاَتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {جِمَالاَتٌ} حِبَالٌ {ارْكَعُوا} صَلُّوا {لاَ يَرْكَعُونَ} لاَ يُصَلُّونَ وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لاَ يَنْطِقُونَ} {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} فَقَالَ إِنَّهُ ذُو أَلْوَانٍ مَرَّةً يَنْطِقُونَ وَمَرَّةً يُخْتَمُ عَلَيْهِم"
1- باب 49300- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاَتِ وَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ فَابْتَدَرْنَاهَا فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا"
4931حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ بِهَذَا وَعَنْ إِسْرَائِيلَ

(8/685)


عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ وَتَابَعَهُ أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ حَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاَتِ فَتَلَقَّيْنَاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ اقْتُلُوهَا قَالَ فَابْتَدَرْنَاهَا فَسَبَقَتْنَا قَالَ فَقَالَ وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا"
قوله: "سورة والمرسلات" كذا لأبي ذر، وللباقين والمرسلات حسب. وأخرج الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: "المرسلات عرفا الملائكة أرسلت بالمعروف" . قوله: "جمالات حبال" في رواية أبي ذر. وقال مجاهد "جمالات" حبال. ووقع عند النسفي والجرجاني في أول الباب: وقال مجاهد "كفاتا" أحياء يكونون فيها وأمواتا يدفنون فيها. "فراتا" عذبا. {جِمَالاَتٌ} حبال الجسور، وهذا الأخير وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا. ووقع عند ابن التين: قول مجاهد جمالات جمال يريد بكسر الجيم وقيل بضمها إبل سود واحدها جمالة، وجمالة جمع جمل مثل حجارة وحجر، ومن قرأ جمالات ذهب به إلى الحبال الغلاظ. وقد قال مجاهد في قوله: "حتى يلج الجمل في سم الخياط" : هو حبل السفينة، وعن الفراء: الجمالات ما جمع من الحبال، قال ابن التين: فعلى هذا يقرأ في الأصل بضم الجيم. قلت: هي قراءة نقلت عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة، وعن ابن عباس أيضا جمالة بالإفراد مضموم الأول أيضا، وسيأتي تفسيرها عن ابن عباس بنحو ما قال مجاهد في آخر السورة. وأما تفسير {كِفَاتاً} فتقدم في الجنائز، وقوله: {فُرَاتاً} عذبا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذا قال أبو عبيدة. قوله: "وقال مجاهد: اركعوا صلوا، لا يركعون لا يصلون" سقط لا يركعون لغير أبي ذر، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} قال: صلوا. قوله: "وسئل ابن عباس" لا ينطقون، والله ربنا ما كنا مشركين، اليوم نختم على أفواههم "فقال: إنه ذو ألوان، مرة ينطقون ومرة يختم عليهم" سقط لفظ: "على أفواههم" لغير أبي ذر، وهذا تقدم شيء من معناه في تفسير فصلت. وأخرج عبد بن حميد من طريق علي بن زيد عن أبي الضحى أن نافع بن الأزرق وعطية أتيا ابن عباس فقالا: يا ابن عباس، أخبرنا عن قول الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} وقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} قال: ويحك يا ابن الأزرق إنه يوم طويل وفيه مواقف، تأتي عليهم ساعة لا ينطقون، ثم يؤذن لهم فيختصمون، ثم يكون ما شاء الله يحلفون ويجحدون، فإذا فعلوا ذلك ختم الله على أفواههم، وتؤمر جوارحهم فتشهد على أعمالهم بما صنعوا ثم تنطق ألسنتهم فيشهدون على أنفسهم بما صنعوا، وذلك قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} . وروى ابن مردويه من حديث عبد الله بن الصامت قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أرأيت قول الله {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} ؟ فقال: إن يوم القيامة له حالات وتارات، في حال لا ينطقون وفي حال ينطقون، ولابن أبي حاتم من طريق معمر عن قتادة

(8/686)


قال: إنه يوم ذو ألوان. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان، وعبيد الله بن موسى هو من شيوخ البخاري لكنه أخرج عنه هذا بواسطة. قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية جرير "في غار" ووقع في رواية حفص بن غياث كما سيأتي "بمنى" وهذا أصح مما أخرج الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي وائل عن ابن مسعود قال: "بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم على حراء" . قوله: "فخرجت" في رواية حفص بن غياث الآتية "إذ وثبت" . قوله: "فابتدرناها" في رواية الأسود "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقتلوها، فابتدرناها" . قوله: "فسبقتنا" أي باعتبار ما آل إليه أمرها، والحاصل أنهم أرادوا أن يسبقوها فسبقتهم، وقوله: "فابتدرناها" أي تسابقنا أينا يدركها، فسبقتنا كلنا. وهذا هو الوجه والأول احتمال بعيد. قوله: "عن منصور بهذا، وعن إسرائيل عن الأعمش عن إبراهيم" يريد أن يحيى بن آدم زاد لإسرائيل فيه شيخا وهو الأعمش. قوله: "وتابعه أسود بن عامر عن إسرائيل" وصله الإمام أحمد عنه به، قال الإسماعيلي: وافق إسرائيل على هذا شيبان والثوري وورقاء وشريك، ثم وصله عنهم. قوله: "وقال حفص وأبو معاوية وسليمان بن قرم عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود" يريد أن الثلاثة خالفوا رواية إسرائيل عن الأعمش في شيخ إبراهيم، فإسرائيل يقول: عن الأعمش عن علقمة، وهؤلاء يقولون: الأسود. وسيأتي في آخر الباب أن جرير بن عبد الحميد وافقهم عن الأعمش. فأما رواية حفص وهو ابن غياث فوصلها المصنف، وستأتي بعد باب. وأما رواية أبي معاوية فتقدم بيان من وصلها في بدء الخلق. وكذا رواية سليمان بن قرم، وهو بفتح القاف وسكون الراء بصري ضعيف الحفظ، وتفرد أبو داود الطيالسي بتسمية أبيه معاذا، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق. قوله: "وقال يحيى بن حماد أخبرنا أبو عوانة عن مغيرة" يعني ابن مقسم "عن إبراهيم عن علقمة" يريد أن مغيرة وافق إسرائيل في شيخ إبراهيم وأنه علقمة، ورواية يحيى بن حماد هذه وصلها الطبراني قال حدثنا محمد ابن عبد الله الحضرمي حدثنا الفضل بن سهل حدثنا يحيى بن حماد به ولفظه: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فأنزلت عليه والمرسلات" الحديث. وحكى عياض أنه وقع في بعض النسخ "وقال حماد أنبأنا أبو عوانة" وهو غلط. قوله: "وقال ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عبد الله" يريد أن للحديث أصلا عن الأسود من غير طريق الأعمش ومنصور، ورواية ابن إسحاق هذه وصلها أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي إسحاق "حدثني عبد الرحمن بن الأسود" وأخرجها ابن مردويه من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن إسحاق ولفظه: "نزلت والمرسلات عرفا بحراء ليلة الحية، قالوا: وما ليلة الحية؟ قال: خرجت حية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوها، فتغيبت في جحر، فقال: دعوها" الحديث. ووقع في بعض النسخ "وقال أبو إسحاق" وهو تصحيف والصواب "ابن إسحاق" وهو محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي. الحديث المذكور عن قتيبة عن جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة بتمامه

(8/687)


2- باب {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ}
4932- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ قَالَ كُنَّا نَرْفَعُ الْخَشَبَ بِقَصَرٍ ثَلاَثَةَ أَذْرُعِ أَوْ أَقَلَّ فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ الْقَصَر"
[الحديث 4923- طرفه في:4933]

(8/687)


قوله: "باب قوله {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} أي قدر القصر. قوله: "كنا نرفع الخشب بقصر" بكسر الموحدة والقاف وفتح الصاد المهملة وتنوين الراء وبالإضافة أيضا وهو بمعنى الغاية والقدر، تقول قصرك وقصاراك من كذا ما اقتصرت عليه. قوله: "ثلاثة أذرع أو أقل" في الرواية التي بعد هذه "أو فوق ذلك" وهي رواية المستملي وحده. قوله: "فنرفعه للشتاء فنسميه القصر" بسكون الصاد وبفتحها، وهو على الثاني جمع قصرة أي كأعناق الإبل ويؤيده قراءة ابن عباس كالقصر بفتحتين، وقيل هو أصول الشجر، وقيل أعناق النخل. وقال ابن قتيبة: القصر البيت، ومن فتح أراد أصول النخل المقطوعة، شبهها بقصر الناس أي أعناقهم، فكأن ابن عباس فسر قراءته بالفتح بما ذكر. وأخرج أبو عبيد من طريق هارون الأعرج عن حسين المعلم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} بفتحتين، قال هارون: وأنبأنا أبو عمرو أن سعيدا وابن عباس قرءا كذلك، وأسنده أبو عبيد عن ابن مسعود أيضا بفتحتين. وأخرج ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن عبد الرحمن بن عابس "سمعت ابن عباس كانت العرب تقول في الجاهلية اقصروا لنا الحطب، فيقطع على قدر الذراع والذراعين" وقد أخرج الطبراني في "الأوسط" من حديث ابن مسعود في قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} قال: ليست كالشجر والجبال، ولكنها مثل المدائن والحصون.

(8/688)


3- باب {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ}
4933- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ} قَالَ كُنَّا نَعْمِدُ إِلَى الْخَشَبَةِ ثَلاَثَةَ أَذْرُعٍ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ الْقَصَرَ {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} حِبَالُ السُّفُنِ تُجْمَعُ حَتَّى تَكُونَ كَأَوْسَاطِ الرِّجَال"
قوله: "باب قوله {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} ذكر فيه الحديث الذي قبله من طريق يحيى وهو القطان أخبرنا سفيان وهو الثوري. قوله: "ثلاثة أذرع" زاد المستملي روايته: "أو فوق ذلك" . قوله: {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} حبال السفن تجمع "أي يضم بعضها إلى بعض ليقوى" حتى تكون كأوساط الرجال "قلت هو من تتمة الحديث، وقد أخرجه عبد الرزاق عن الثوري بإسناده وقال في آخره: "وسمعت ابن عباس يسأل عن قوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} قال: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال" . وفي رواية قيس بن الربيع عن عبد الرحمن بن عباس: هي القلوص التي تكون في الجسور، والأول هو المحفوظ

(8/688)


4- باب {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ}
4934- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاَتِ فَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لاَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوهَا فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا" قَالَ عُمَرُ حَفِظْتُهُ مِنْ أَبِي فِي غَارٍ بِمِنًى"

(8/688)


78-سورة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}
قَالَ مُجَاهِدٌ {لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا} لاَ يَخَافُونَهُ {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} لاَ يُكَلِّمُونَهُ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ {صَوَابًا} حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمِلَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَهَّاجًا} مُضِيئًا وَقَالَ غَيْرُهُ {غَسَّاقًا} غَسَقَتْ عَيْنُهُ وَيَغْسِقُ الْجُرْحُ يَسِيلُ كَأَنَّ الْغَسَاقَ وَالْغَسِيقَ وَاحِدٌ {عَطَاءً حِسَابًا} جَزَاءً كَافِيًا أَعْطَانِي مَا أَحْسَبَنِي أَيْ كَفَانِي"
قوله: "سورة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} قرأ الجمهور "عم" بميم فقط، وعن ابن كثير رواية بالهاء وهي هاء السكت أجرى الوصل مجرى الوقف، وعن أبي بن كعب وعيسى بن عمر بإثبات الألف على الأصل وهي لغة نادرة، ويقال لها أيضا سورة النبأ. قوله: {لا يَرْجُونَ حِسَاباً} لا يخافونه" كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: "وقال مجاهد" فذكره. وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد كذلك. قوله: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} لا يكلمونه إلا أن يأذن لهم" كذا للمستملي، وللباقين "لا يملكونه" والأول أوجه، وسأبينه في الذي بعده. قوله: "صوابا: حقا في الدنيا وعمل به" ووقع لغير أبي ذر نسبة هذا إلى ابن عباس كالذي بعده، وفيه نظر فإن الفريابي أخرجه من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} قال: كلاما "إلا من قال صوابا" قال: حقا في الدنيا وعمل به. قوله: "وقال ابن عباس {ثَجَّاجاً} منصبا" ثبت هذا للنسفي وحده وقد تقدم في المزارعة. قوله: "ألفافا ملتفة" ثبت هذا للنسفي وحده، وهو قول أبي عبيدة. قوله: "وقال ابن عباس {وَهَّاجاً} مضيئا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: "{دِهَاقاً} ممتلئا {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} نواهد" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "وقال غيره {وَغَسَّاقاً} غسقت عينه" سقط هذا لغير أبي ذر وقد تقدم في بدء الخلق. وقال أبو عبيدة: يقال تغسق عينه أي تسيل. ووقع عند النسفي والجرجاني "وقال معمر فذكره" ، ومعمر هو أبو عبيدة ابن المثنى المذكور. قوله: "ويغسق الجرح يسيل، كأن الغساق والغسيق واحد" تقدم بيان ذلك في بدء الخلق، وسقط هنا لغير أبي ذر. قوله: "عطاء حسابا جزاء كافيا، أعطاني ما أحسبني أي كفاني" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {عَطَاءً حِسَاباً} أي جزاء، ويجيء حسابا كافيا، وتقول أعطاني ما أحسبني أي كفاني. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {عَطَاءً حِسَاباً} قال: كثيرا.

(8/689)


1 - باب {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} زُمَرًا
4935- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ، قَالَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ أَبَيْتُ قَالَ أَرْبَعُونَ شَهْرًا

(8/689)


سورة النازعات
...
79- سورة وَالنَّازِعَاتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {الآيَةَ الْكُبْرَى} عَصَاهُ وَيَدُهُ يُقَالُ النَّاخِرَةُ وَالنَّخِرَةُ سَوَاءٌ مِثْلُ الطَّامِعِ وَالطَّمِعِ وَالْبَاخِلِ وَالْبَخِيلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ النَّخِرَةُ الْبَالِيَةُ وَالنَّاخِرَةُ الْعَظْمُ الْمُجَوَّفُ الَّذِي تَمُرُّ فِيهِ الرِّيحُ فَيَنْخَرُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحَافِرَةِ الَّتِي أَمْرُنَا الأَوَّلُ إِلَى الْحَيَاةِ وَقَالَ غَيْرُهُ أَيَّانَ مُرْسَاهَا مَتَى مُنْتَهَاهَا وَمُرْسَى السَّفِينَةِ حَيْثُ تَنْتَهِي"
قوله: "سورة والنازعات" كذا للجميع. قوله: "زجرة صيحة" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد وصله عبد بن حميد من طريقه. قوله: "وقال مجاهد {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} هي الزلزلة" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد وصله عبد بن حميد من طريقه بلفظ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} وهي الزلزلة. قوله: "وقال مجاهد: الآية الكبرى عصاه ويده" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. قوله: "سمكها بناءها بغير عمد" ثبت هذا هنا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "طغى عصى" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد به. قوله: "الناخرة والنخرة سواء مثل الطامع والطمع والباخل والبخيل" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {عِظَاماً نَخِرَةً} ناخرة ونخرة سواء. وقال الفراء مثله، قال: وهما قراءتان أجودهما ناخرة. ثم أسند عن ابن الزبير أنه قال على المنبر: ما بال صبيان يقرءون نخرة؟ إنما هي ناخرة. قلت: قرأها نخرة بغير ألف جمهور القراء، وبالألف الكوفيون لكن بخلف عن عاصم.
" تنبيه " : قوله: "والباخل والبخيل" في رواية الكشميهني بالنون والحاء المهملة فيهما، ولغيره بالموحدة والمعجمة وهو الصواب، وهذا الذي ذكره الفراء قال: هو بمعنى الطامع والطمع والباخل والبخل. وقوله: "سواء" أي في أصل المعنى، وإلا ففي نخرة: مبالغة ليست في ناخرة. قوله: "وقال بعضهم النخرة البالية، والناخرة العظم المجوف الذي تمر فيه الريح فينخر" قال الفراء: فرق بعض المفسرين بين الناخرة والنخرة فقال: النخرة البالية، والناخرة العظم المجوف الذي تمر فيه الريح فينخر. والمفسر المذكور هو ابن الكلبي، فقال أبو الحسن الأثرم الراوي عن أبي عبيدة: سمعت ابن الكلبي يقول: نخرة ينخر فيها الريح، وناخرة بالية. وأنشد لرجل من فهم يخاطب فرسه في يوم ذي قار حين تحاربت العرب والفرس:
أقدم نجاح إنها الأساورة ... فإنما قصرك ترب الساهرة
ثم تعود بعدها في الحافرة ... من بعدما كنت عظاما ناخرة

(8/690)


أي بالية. قوله: "الساهرة وجه الأرض" كأنها سميت بهذا الاسم لأن فيها الحيوان نومهم وسهرهم. ثبت هذا هنا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق، وهو قول الفراء بلفظه. قوله: "وقال ابن عباس: الحافرة إلى أمرنا الأول، إلى الحياة" وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "الحافرة" يقول: الحياة وقال الفراء: الحافرة يقول إلى أمرنا الأول، إلى الحياة. والعرب تقول أتيت فلانا ثم رجعت عل حافري أي من حيث جئت، قال: وقال بعضهم الحافرة الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فسماها الحافرة أي المحفورة، كماء دافق أي مدفوق. قوله: "الراجفة النفخة الأولى، تتبعها الرادفة النفخة الثانية" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} النفخة الأولى "تتبعها الرادفة" النفخة الثانية. قوله: "وقال غيره {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} متى منتهاها؟ ومرسى السفينة حيث تنتهي" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} متى منتهاها. قال: ومرساها منتهاها إلخ ثم ساق حديث سهل بن سعد "بعثت والساعة - بالرفع والنصب - كهاتين" وسيأتي شرحه في الرقاق. قوله: "قال ابن عباس: أغطش أظلم" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق.
1- باب 4936- حدثنا أحمد بن المقدام حدثنا الفضيل بن سليمان حدثنا أبو حازم حدثنا سهل بن سعد رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا بالوسطى ملكا تلي الإبهام: "بعثت أنا والساعة كهاتين" الطَّامَّةُ تَطِمُّ عَلَى كُلِّ شَيْء"
[الحديث 4936- طرفاه في: 5301، 6503]
قوله: "الطامة تطم كل شيء" ووقع هذا للنسفي مقدما قبل باب، وهو قول الفراء قال في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ} هي القيامة تطم كل شيء. ولابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس: الطامة هي الساعة طمت كل داهية.

(8/691)


80- سورة عَبَسَ
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} كَلَحَ وَأَعْرَضَ وَقَالَ غَيْرُهُ {مُطَهَّرَةٍ} لاَ يَمَسُّهَا إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ وَهُمْ الْمَلاَئِكَةُ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} جَعَلَ الْمَلاَئِكَةَ وَالصُّحُفَ مُطَهَّرَةً لأَنَّ الصُّحُفَ يَقَعُ عَلَيْهَا التَّطْهِيرُ فَجُعِلَ التَّطْهِيرُ لِمَنْ حَمَلَهَا أَيْضًا {سَفَرَةٍ} الْمَلاَئِكَةُ وَاحِدُهُمْ سَافِرٌ سَفَرْتُ أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ وَجُعِلَتْ الْمَلاَئِكَةُ إِذَا نَزَلَتْ بِوَحْيِ اللَّهِ وَتَأْدِيَتِهِ كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ الْقَوْمِ وَقَالَ غَيْرُهُ تَصَدَّى تَغَافَلَ عَنْهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَمَّا يَقْضِ لاَ يَقْضِي أَحَدٌ مَا أُمِرَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَرْهَقُهَا تَغْشَاهَا شِدَّةٌ مُسْفِرَةٌ مُشْرِقَةٌ {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَتَبَةٍ أَسْفَارًا كُتُبًا تَلَهَّى تَشَاغَلَ يُقَالُ وَاحِدُ الأَسْفَارِ سِفْرٌ
4937- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَمِعْتُ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَان"

(8/691)


قوله: "سورة عبس - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "عبس وتولى: كلح وأعرض" أما تفسير عبس فهو لأبي عبيدة، وأما تفسير تولى فهو في حديث عائشة الذي سأذكره بعد، ولم يختلف السلف في أن فاعل عبس هو النبي صلى الله عليه وسلم. وأغرب الداودي فقال. هو الكافر. وأخرج الترمذي والحاكم من طريق يحيى بن سعيد الأموي وابن حبان من طريق عبد الرحيم بن سليمان كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: "نزلت في ابن أم مكتوم الأعمى فقال: يا رسول الله أرشدني - وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين - فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر فيقول له: أترى بما أقول باسا؟ فيقول: لا. فنزلت عبس وتولى" قال الترمذي: حسن غريب، وقد أرسله بعضهم عن عروة لم يذكر عائشة. وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن الذي كان يكلمه أبي بن خلف. وروى سعيد بن منصور من طريق أبي مالك أنه أمية بن خلف. وروى ابن مردويه من حديث عائشة أنه كان يخاطب عتبة وشيبة ابني ربيعة. ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: عتبة وأبو جهل وعياش. ومن وجه آخر عن عائشة: كان في مجلس فيه ناس من وجوه المشركين منهم أبو جهل وعتبة، فهذا يجمع الأقوال. قوله: "مطهرة لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة" في رواية غير أبي ذر. وقال غيره مطهرة إلخ وكذا للنسفي، وكان قال قبل ذلك: وقال مجاهد. فذكر الأثر الآتي ثم قال: وقال غيره. قوله: "وهذا مثل قوله فالمدبرات أمرا" هو قول الفراء، قال في قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} مرفوعة مطهرة، لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة، وهذا مثل قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} . قوله: "جعل الملائكة والصحف مطهرة لأن الصحف يقع عليها التطهير فجعل التطهير لمن حملها أيضا" . هو قول الفراء أيضا. قوله: "وقال مجاهد: الغلب الملتفة، والأب ما يأكل الأنعام" وقع في رواية النسفي وحده هنا، وقد تقدم في صفة الجنة. قوله: "سفرة الملائكة واحدهم سافر، سفرت أصلحت بينهم وجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم" هو قول الفراء بلفظه، وزاد: قال الشاعر:
وما أدع السفارة بين قومي ... وما أمشي بغش إن مشيت
وقد تمسك به من قال إن جميع الملائكة رسل الله، وللعلماء في ذلك قولان، الصحيح أن فيهم الرسل وغير الرسل، وقد ثبت أن منهم الساجد فلا يقوم والراكع فلا يعتدل، الحديث. واحتج الأول بقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} وأجيب بقول الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} . قوله: "تصدى تغافل عنه" في رواية النسفي "وقال غيره إلخ" وسقط منه شيء. والذي قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} أي تتعرض له، تلهى تغافل عنه، فالساقط لفظ تتعرض له ولفظ تلهى، وسيأتي تفسير تلهى على الصواب، وهو بحذف إحدى التاءين في اللفظتين والأصل تتصدى وتتلهى، وقد تعقب أبو ذر ما وقع في البخاري فقال: إنما يقال تصدى للأمر إذا رفع رأسه إليه، فأما تغافل فهو تفسير تلهى. وقال ابن التين: قيل تصدى تعرض. وهو اللائق بتفسير الآية لأنه لم يتغافل عن المشركين إنما تغافل عن الأعمى. قوله: "وقال مجاهد: لما يقض لا يقضي أحد ما أمر به" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: "لا يقضي أحد أبدا ما افترض عليه" . قوله: "وقال ابن عباس: ترهقها قترة تغشاها شدة" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به. وأخرج الحاكم من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}

(8/692)


قال: يصيران غبرة على وجوه الكفار لا على وجوه المؤمنين، وذلك قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ َرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} . قوله: "مسفرة مشرقة" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة أيضا. قوله: "بأيدي سفرة قال ابن عباس: كتبة، أسفارا كتبا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "بأيدي سفرة" قال: كتبة واحدها سافر، وهي كقوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} قال: كتبا، وقد ذكر عبد الرزاق من طريق معمر عن قتادة في قوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} قال: كتبة. وقال أبو عبيدة في قوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي كتبة، واحدها سافر. قوله: "تلهى تشاغل" تقدم القول فيه. قوله: "يقال واحد الأسفار سفر" سقط هذا لأبي ذر، وهو قول الفراء، قال في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} الأسفار واحدها سفر، وهي الكتب العظام. قوله: "فأقبرها، يقال أقبرت الرجل جعلت له قبرا، وقبرته دقنته" قال الفراء في قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } جعله مقبورا، ولم يقل قبره لأن القابر هو الدافن. وقال أبو عبيدة في قوله: {فَأَقْبَرَهُ} أمر بأن يقبر، جعل له قبرا، والذي يدفن بيده هو القابر. قوله: "عن سعد بن هشام" أي ابن عامر الأنصاري، لأبيه صحبة، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وآخر معلق في المناقب. قوله: "مثل" بفتحتين أي صفته، وهو كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} . قوله: "وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة" قال ابن التين: معناه كأنه مع السفرة فيما يستحقه من الثواب. قلت: أراد بذلك تصحيح التركيب، وإلا فظاهره أنه لا ربط بين المبتدأ الذي هو مثل والخبر الذي هو مع السفرة، فكأنه قال: المثل بمعنى الشبيه فيصير كأنه قال: شبيه الذي يحفظ كائن مع السفرة فكيف به. وقال الخطابي: كأنه قال صفته وهو حافظ له كأنه مع السفرة، وصفته وهو عليه شديد أن يستحق أجرين. قوله: "ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران" قال ابن التين اختلف هل له ضعف أجر الذي يقرأ القرآن حافظا أو يضاعف له أجره وأجر الأول أعظم؟ قال: وهذا أظهر، ولمن رجح الأول أن يقول: الأجر على قدر المشقة

(8/693)


3 - سورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}
{انْكَدَرَتْ} انْتَثَرَتْ وَقَالَ الْحَسَنُ {سُجِّرَتْ} ذَهَبَ مَاؤُهَا فَلاَ يَبْقَى قَطْرَةٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْمَسْجُورُ الْمَمْلُوءُ وَقَالَ غَيْرُهُ {سُجِرَتْ} أَفْضَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا وَ {الْخُنَّسُ} تَخْنِسُ فِي مُجْرَاهَا تَرْجِعُ وَتَكْنِسُ تَسْتَتِرُ كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ تَنَفَّسَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ وَالظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ وَالضَّنِينُ يَضَنُّ بِهِ وَقَالَ عُمَرُ {النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ قَرَأَ {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} {عَسْعَسَ} أَدْبَرَ.
قوله: "سورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}- بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر، ويقال لها أيضا سورة التكوير. قوله: {سُجِّرَتْ} يذهب ماؤها فلا يبقى قطرة "تقدم في تفسير سورة الطور، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بهذا. قوله:"وقال مجاهد: المسجور المملوء" تقدم في تفسير سورة الطور أيضا. قوله: "وقال غيره: سجرت أفضى بعضها إلى بعض فصارت بحرا واحدا" هو معنى قول السدي، أخرجه ابن أبي حاتم من طريقه بلفظ {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي فتحت وسيرت. قوله: "انكدرت انتثرت" قال الفراء

(8/693)


في قوله تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} يريد انتثرت، وقعت في وجه الأرض. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} قال: تناثرت. قوله: "كشطت أي غيرت، وقرأ عبد الله قشطت، مثل الكافور والقافور، والقسط والكسط" ثبت هذا للنسفي وحده وذكره غيره في الطب، وهو قول الفراء، قال في قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} يعني نزعت وطويت، وفي قراءة عبد الله - يعني ابن مسعود - قشطت بالقاف، والمعنى واحد، والعرب تقول القافور والكافور والقسط والكسط، إذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغة كما يقال حدث وحدت والأتاني والأثاني. قوله: "والخنس تخنس في مجراها ترجع، وتكنس تستتر في بيوتها تكنس الظباء" قال الفراء في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} : وهي النجوم الخمسة تخنس في مجراها ترجع، وتكنس تستتر في بيوتها كما تكنس الظباء في المغاير وهي الكناس، قال: والمراد بالنجوم الخمسة بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري، وأسند هذا الكلام ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي ميسرة عن عمرو بن شرحبيل قال: قال لي ابن مسعود ما الخنس؟ قال قلت: أظنه بقر الوحش. قال: وأنا أظن ذلك. وعن معمر عن الحسن قال: هي النجوم تخنس بالنهار، والكنس تسترهن إذا غبن. قال وقال بعضهم: الكنس الظباء. وروى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن علي قال: هن الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى. ومن طريق مغيرة قال: سئل مجاهد عن هذه الآية فقال: لا أدري. فقال إبراهيم: لم لا تدري؟ قال: سمعنا أنها بقر الوحش، وهؤلاء يروون عن علي أنها النجوم. قال: إنهم يكذبون على علي. وهذا كما يقولون إن عليا قال: لو أن رجلا وقع من فوق بيت على رجل فمات الأعلى ضمن الأسفل. قوله: "تنفس ارتفع النهار" هو قول الفراء أيضا. قوله: "والظنين المتهم والضنين يضن به" هو قول أبي عبيدة، وأشار إلى القراءتين، فمن قرأها بالظاء المشالة فمعناها ليس بمتهم، ومن قرأها بالساقطة فمعناها البخيل. وروى الفراء عن قيس بن الربيع عن عاصم عن ورقاء قال: أنتم تقرءون بضنين ببخيل، ونحن نقرأ بظنين بمتهم. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي قال: الظنين المتهم، والضنين البخيل. وروى ابن أبي حاتم بسند صحيح: كان ابن عباس يقرأ بضنين، قال: والضنين والظنين سواء، يقول ما هو بكاذب، والظنين المتهم والضنين البخيل. قوله: "وقال عمر: النفوس زوجت، يزوج نظيره من أهل الجنة والنار. ثم قرأ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} وصله عبد بن حميد والحاكم وأبو نعيم في "الحلية" وابن مردويه من طريق الثوري وإسرائيل وحماد بن سلمة وشريك كلهم عن سماك بن حرب سمعت النعمان بن بشير سمعت عمر يقول في قوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} : هو الرجل يزوج نظيره من أهل الجنة، والرجل يزوج نظيره من أهل النار. ثم قرأ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} وهذا إسناد متصل صحيح، ولفظ الحاكم: هما الرجلان يعملان العمل يدخلان به الجنة والنار: الفاجر مع الفاجر والصالح مع الصالح. وقد رواه الوليد بن أبي ثور عن سماك بن حرب فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقصر به فلم يذكر فيه عمر، جعله من مسند النعمان، أخرجه ابن مردويه، وأخرجه أيضا، من وجه آخر عن الثوري كذلك، والأول هو المحفوظ. وأخرج الفراء من طريق عكرمة قال: يقرن الرجل بقرينه الصالح في الدنيا، ويقرن الرجل الذي كان يعمل السوء في الدنيا بقرينه الذي كان يعينه في النار. قوله: {عَسْعَسَ} أدبر وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا. وقال أبو عبيدة: قال بعضهم {عَسْعَسَ} أقبلت

(8/694)


ظلماؤه. وقال بعضهم: بل معناه ولي، لقوله بعد ذلك {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} . وروى أبو الحسن الأثرم بسند له عن عمر قال: إن شهرنا قد عسعس، أي أدبر. وتمسك من فسره بأقبل بقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} قال الخليل: أقسم بإقبال الليل وإدباره.
" تنبيه " : لم يورد فيها حديثا مرفوعا، وفيها حديث جيد أخرجه أحمد والترمذي والطبراني وصححه الحاكم من حديث ابن عمر رفعه: "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} لفظ أحمد.

(8/695)


82- سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ {فُجِّرَتْ} فَاضَتْ وَقَرَأَ الأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ {فَعَدَلَكَ} بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَهُ أَهْلُ الْحِجَازِ بِالتَّشْدِيدِ وَأَرَادَ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ وَمَنْ خَفَّفَ يَعْنِي فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ إِمَّا حَسَنٌ وَإِمَّا قَبِيحٌ أَوْ طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ
قوله: "سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ويقال لها أيضا سورة الانفطار. قوله: "انفطارها انشقاقها" ثبت هذا للنسفي وحده وهو قول الفراء. قوله: "ويذكر عن ابن عباس بعثرت يخرج من فيها من الموتى" ثبت هذا أيضا للنسفي وحده، وهو قول الفراء أيضا، وقد أخرج ابن أبي حاتم أيضا من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: بعثرت أي بحثت. قوله: "وقال غيره: انتثرت. بعثرت حوضي: جعلت أسفله أعلاه" ثبت هذا للنسفي أيضا وحده وتقدم في الجنائز. قوله: "وقال الربيع بن خثيم: فجرت فاضت" قال عبد بن حميد حدثنا مؤمل وأبو نعيم قالا: حدثنا سفيان هو ابن سعيد الثوري عن أبيه عن أبي يعلى هو منذر الثوري عن الربيع بن خثيم به، قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري مثله وأتم منه، والمنقول عن الربيع "فجرت" بتخفيف الجيم وهو اللائق بتفسيره المذكور. قوله: "وقرأ الأعمش وعاصم فعدلك بالتخفيف، وقرأه أهل الحجاز بالتشديد" قلت: قرأ أيضا بالتخفيف حمزة والكسائي وسائر الكوفيين، وقرأ أيضا بالتثقيل من عداهم من قراءة الأمصار. قوله: "وأراد معتدل الخلق، ومن خفف يعني في أي صورة شاء: إما حسن وإما قبيح أو طويل أو قصير" هو قول الفراء بلفظه إلى قوله بالتشديد، ثم قال: فمن قرأ بالتخفيف فهو والله أعلم يصرفك في أي صورة شاء إما حسن إلخ، ومن شدد فإنه أراد والله أعلم جعلك معتدلا معتدل الخلق. قال: وهو أجود القراءتين في العربية وأحبهما إلي. وحاصل القراءتين أن التي بالتثقيل من التعديل، والمراد التناسب، وبالتخفيف من العدل وهو الصرف إلى أي صفة أراد.
" تنبيه " : لم يورد فيها حديث مرفوعا، ويدخل فيها حديث ابن عمر المنبه عليه في التي قبلها.

(8/695)


83- سُورَةُ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ِبسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ بَلْ رَانَ ثَبْتُ الْخَطَايَا ثُوِّبَ جُوزِيَ وَقَالَ غَيْرُهُ الْمُطَفِّفُ لاَ يُوَفِّي غَيْرَهُ
قوله: "سورة {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} بسم الله الرحمن الرحيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. أخرج النسائي وابن ماجه

(8/695)


باب {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
4938- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ"
[الحديث 4938- طرفه في:6531]
قوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} زاد في رواية ابن وهب "يوم القيامة" . قوله: "في رشحه" بفتحتين أي عرقه لأنه يخرج من البدن شيئا بعد شيء كما يرشح الإناء المتحلل الأجزاء. ووقع في رواية سعيد بن داود "حتى إن العرق يلجم أحدهم إلى أنصاف أذنيه" . قوله: "إلى أنصاف أذنيه" هو من إضافة الجميع إلى الجميع حقيقة ومعنى، لأن لكل واحد أذنين. وقد روى مسلم من حديث المقداد بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق: فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما"

(8/696)


84- سُورَةُ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
قَالَ مُجَاهِدٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ يَأْخُذُ كِتَابَهُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ وَسَقَ جَمَعَ مِنْ دَابَّةٍ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ لاَ يَرْجِعَ إِلَيْنَا.

(8/696)


1- باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}
4939- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي يُونُسَ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلاَّ هَلَكَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قَالَ ذَاكَ الْعَرْضُ يُعْرَضُونَ وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَك"
قوله: "باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وله في هذا الحديث شيخ آخر بإسناد آخر وهو مذكور في هذا الباب، وعثمان بن الأسود أي ابن أبي موسى المكي مولى بني جمح، ووقع عند القابسي عثمان الأسود صفة لعثمان وهو خطأ، واشتمل ما ساقه المصنف على ثلاثة أسانيد: عثمان عن ابن أبي مليكة عن عائشة، وتابعه أيوب عن عثمان، وخالفهما أبو يونس فأدخل بين ابن أبي مليكة وعائشة رجلا وهو القاسم بن محمد، وهو محمول على أن ابن أبي مليكة حمله عن القاسم ثم سمعه من عائشة أو سمعه أولا من عائشة ثم استثبت القاسم إذ في رواية القاسم زيادة ليست عنده. وقد استدرك الدار قطني هذا الحديث لهذا الاختلاف، وأجيب بما ذكرناه، ونبه الجياني على خبط لأبي زيد المروزي في هذه الأسانيد قال: سقط عنده ابن أبي مليكة من الإسناد الأول ولا بد منه، وزيد عنده القاسم بن محمد الإسناد الثاني وليس فيه وإنما هو في رواية أبي يونس. وقال الإسماعيلي: جمع البخاري بين الأسانيد الثلاثة ومتونها مختلفة. قلت: وسأبين ذلك وأوضحه في كتاب الرقاق مع بقية الكلام على الحديث، وتقدمت بعض مباحثه في أواخر كتاب العلم

(8/697)


2- باب {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}
4940- حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ حَالاً بَعْدَ حَالٍ قَالَ هَذَا نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. قوله: "قال ابن عباس {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حالا بعد حال، قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم" أي الخطاب له، وهو على قراءة فتح الموحدة وبها قرأ ابن كثير والأعمش والأخوان. وقد أخرج الطبري الحديث المذكور عن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم بلفظ: "أن ابن عباس كان يقرأ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} يعني نبيكم حالا بعد حال" وأخرجه أبو عبيد في "كتاب القراءات" عن هشيم وزاد: يعني بفتح الباء، قال الطبري: قرأها ابن مسعود وابن عباس وعامة قراء أهل مكة والكوفة بالفتح، والباقون بالضم على أنه خطاب للأمة، ورجحها أبو عبيدة لسياق ما قبلها وما بعدها. ثم أخرج عن الحسن وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم قالوا {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} يعني حالا بعد حال، ومن طريق الحسن أيضا وأبي العالية ومسروق قال: السماوات. وأخرج الطبري أيضا والحاكم من حديث ابن مسعود إلى قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قال: السماء. وفي لفظ للطبري عن ابن مسعود قال: المراد أن السماء تصير مرة كالدهان، ومرة تشقق ثم تحمر ثم تنفطر. ورجح الطبري الأول وأصل الطبق الشدة، والمراد بها هنا ما يقع من الشدائد يوم القيامة. والطبق ما طابق غيره، يقال ما هذا بطبق كذا أي لا يطابقه. ومعنى قوله: "حالا بعد حال" أي حال مطابقة للتي قبلها في الشدة، أو هو جمع طبقة وهي المرتبة، أي هي طبقات بعضها أشد من بعض، وقيل المراد اختلاف أحوال المولود منذ يكون جنينا إلى أن يصير إلى أقصى العمر، فهو قبل أن يولد جنين، ثم إذا ولد صبي، فإذا فطم غلام، فإذا بلغ سبعا يافع، فإذا بلغ عشرا حزور، فإذا بلغ خمس عشرة قمد، فإذا بلغ خمسا وعشرين عنطنط، فإذا بلغ ثلاثين صمل، فإذا بلغ أربعين كهل، فإذا بلغ خمسين شيخ، فإذا بلغ ثمانين هم، فإذا بلغ تسعين فان.

(8/698)


85- سُورَةُ الْبُرُوجِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الأُخْدُودِ} شَقٌّ فِي الأَرْضِ {فَتَنُوا} عَذَّبُوا
قوله: "سورة البروج" تقدم في أواخر الفرقان تفسير البروج. قوله: "وقال مجاهد: الأخدود شق في الأرض" وصله الفريابي بلفظ: "شق بنجران كانوا يعذبون الناس فيه:"وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما من حديث صهيب قصة أصحاب الأخدود مطولة، وفيه قصة الغلام الذي كان يتعلم من الساحر، فمر بالراهب فتابعه على دينه، فأراد الملك قتل الغلام لمخافته دينه فقال: إنك لن تقدر على قتلي حتى تقول إذا رميتني بسم الله رب الغلام، ففعل، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فخد لهم الملك الأخاديد في السكك وأضرم فيها النيران ليرجعوا إلى دينه. وفيه قصة الصبي الذي قال لأمه: أصبري فإنك على الحق، صرح برفع القصة بطولها حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب. ومن طريقه أخرجه مسلم والنسائي وأحمد. ووقفها معمر عن ثابت، ومن طريقه أخرجها الترمذي، وعنده في آخره: يقول الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} إلى - { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ". قوله: "فتنوا عذبوا"

(8/698)


وصله الفريابي من طريقه، وهذا أحد معاني الفتنة، ومثله {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي يعذبون. قوله: "وقال ابن عباس: الودود الحبيب، المجيد الكريم" ثبت هذا للنسفي وحده، ويأتي في التوحيد. وأخرج الصبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {الْغَفُورُ الْوَدُودُ} قال: الودود الحبيب. وفي قوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} يقول: الكريم

(8/699)


86- سُورَةُ الطَّارِقِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {ذَاتِ الرَّجْعِ} سَحَابٌ يَرْجِعُ بِالْمَطَرِ {ذَاتِ الصَّدْعِ} تَتَصَدَّعُ بِالنَّبَاتِ
قوله: "سورة الطارق: هو النجم وما أتاك ليلا فهو طارق" ثم فسره فقال: "النجم الثاقب المضيء، يقال أثقب نارك للموقد" ثبت هذا للنسفي وأبي نعيم وسيأتي للباقين في كتاب الاعتصام. وهو كلام الفراء قال في قوله تعالى: {السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} إلخ" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الثاقب المضيء. وأخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله. قوله: "وقال مجاهد: الثاقب الذي يتوهج" ثبت هذا لأبي نعيم عن الجرجاني، ووصله الفريابي والطبري من طريق مجاهد بهذا. وأخرج الطبري من طريق السدي قال: هو النجم الذي يرمي به، ومن طريق عبد الرحمن بن زيد قال: النجم الثاقب الثريا. قوله: {ذَاتِ الرَّجْعِ} سحاب يرجع بالمطر، وذات الصدع الأرض تتصدع بالنبات" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} قال: يعني ذات السحاب تمطر ثم ترجع بالمطر. وفي قوله: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} ذات النبات. وللحاكم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله: {ذَاتِ الرَّجْعِ} المطر بعد المطر. وإسناده صحيح. قوله: "وقال ابن عباس: لقول فصل لحق" وقع هذا للنسفي، وسيأتي في التوحيد بزيادة. قوله: "لما عليها حافظ: إلا عليها حافظ" وصله ابن أبي حاتم من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس وإسناده صحيح، لكن أنكره أبو عبيدة وقال: لم نسمع لقول "لما" بمعنى "إلا "شاهدا في كلام العرب. وقرئت لما بالتخفيف والتشديد: فقرأها ابن عامر وعاصم وحمزة بالتشديد. وأخرج أبو عبيدة عن ابن سيرين أنه أنكر التشديد على من قرأ به.
" تنبيه " : لم يورد في الطارق حديثا مرفوعا، وقد وقع حديث جابر في قصة معاذ "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفتان يا معاذ؟ يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق والشمس وضحاها" . الحديث أخرجه النسائي هكذا، ووصله في الصحيحين.

(8/699)


86- سُورَةُ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}
وقال مجاهد: {قدر فهدى} قدر للإنسان الشقاء والسعادة وهدى الأنعام لمراتعها
4941- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَجَعَلاَ يُقْرِئَانِنَا الْقُرْآنَ ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ

(8/699)


88- سُورَةُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} النَّصَارَى وَقَالَ مُجَاهِدٌ {عَيْنٍ آنِيَةٍ} بَلَغَ إِنَاهَا وَحَانَ شُرْبُهَا حَمِيمٍ آنٍ بَلَغَ إِنَاهُ {لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} شَتْمًا وَيُقَالُ الضَّرِيعُ نَبْتٌ يُقَالُ لَهُ الشِّبْرِقُ يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْحِجَازِ الضَّرِيعَ إِذَا يَبِسَ وَهُوَ سُمٌّ {بِمُسَيْطِرٍ} بِمُسَلَّطٍ وَيُقْرَأُ بِالصَّادِ وَالسِّينِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {إِيَابَهُمْ} مَرْجِعَهُمْ
قوله: "سورة هل أتاك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" كذا لأبي ذر، وسقطت البسملة للباقين، ويقال لها أيضا سورة الغاشية. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الغاشية من أسماء يوم القيامة. قوله: "وقال ابن عباس عاملة ناصبة النصارى" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ومن طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس وزاد: اليهود، وذكر الثعلبي من رواية أبي الضحى عن ابن عباس قال: الرهبان. قوله: "وقال مجاهد {عَيْنٍ آنِيَةٍ} بلغ إناها وحان شربها. {حَمِيمٍ آنٍ} بلغ إناه" وصله الفريابي من طريق مجاهد مفرقا في مواضعه. قوله: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} شتما" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: لا تسمع فيها باطلا ولا مأثما، وهذا على قراءة الجمهور بفتح تسمع بمثناة فوقية، وقرأها الجحدري بتحتانية كذلك، وأما أبو عمرو وابن كثير فضما التحتانية، وضم نافع أيضا لكن بفوقانية قوله: "ويقال الضريع نبت يقال له الشبرق تسمية أهل الحجاز الضريع إذا يبس وهو سم" هو كلام الفراء بلفظه، والشبرق بكسر المعجمة

(8/700)


بعدها موحدة، قال الخليل بن أحمد: هو نبت أخضر منتن الريح يرمي به البحر. وأخرج الطبري من طريق، عكرمة ومجاهد قال: الضريع الشبرق. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الضريع شجر من نار. ومن طريق سعيد بن جبير قال: الحجارة. وقال ابن التين كأن الضريع مشتق من الضارع وهو الذليل، وقيل هو السلا بضم المهملة وتشديد اللام وهو شوك النخل. قوله: "بمسيطر بمسلط" قال أبو عبيدة في قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر} : بمسلط، قال: ولم نجد مثلها إلا مبيطر أي بالموحدة، قال: لم نجد لهما ثالثا. كذا قال، وقد قدمت في تفسير سورة المائدة زيادات عليها. قال ابن التين: أصله السطر، والمعنى أنه لا يتجاوز ما هو فيه. قال وإنما كان ذلك وهو بمكة قبل أن يهاجر ويؤذن له في القتال. قوله: "ويقرأ بالصاد والسين" قلت: قراءة الجمهور بالصاد. وفي رواية عن ابن كثير بالسين وهي قراءة هشام. قوله: "وقال ابن عباس: إيابهم مرجعهم" وصله ابن المنذر من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وذكره ابن أبي حاتم عن عطاء، ولم يجاوز به.
" تنبيه " : لم يذكر فيها حديثا مرفوعا، ويدخل فيها حديث جابر رفعه: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" الحديث، وفي آخره: "وحسابهم على الله" ثم قرأ : {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر} إلى آخر السورة، أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم، وإسناده صحيح

(8/701)


89- سُورَةُ وَالْفَجْرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْوَتْرُ اللَّهُ {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} يَعْنِي الْقَدِيمَةَ وَالْعِمَادُ أَهْلُ عَمُودٍ لاَ يُقِيمُونَ {سَوْطَ عَذَابٍ} الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ {أَكْلاً لَمّاً} السَّفُّ وَ {جَمّاً} الْكَثِيرُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَهُوَ شَفْعٌ السَّمَاءُ شَفْعٌ وَالْوَتْرُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالَ غَيْرُهُ {سَوْطَ عَذَابٍ} كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْعَذَابِ يَدْخُلُ فِيهِ السَّوْطُ {لَبِالْمِرْصَادِ} إِلَيْهِ الْمَصِيرُ {تَحَاضُّونَ} تُحَافِظُونَ وَتَحُضُّونَ تَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِهِ {الْمُطْمَئِنَّةُ} الْمُصَدِّقَةُ بِالثَّوَابِ وَقَالَ الْحَسَنُ {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْضَهَا اطْمَأَنَّتْ إِلَى اللَّهِ وَاطْمَأَنَّ اللَّهُ إِلَيْهَا وَرَضِيَتْ عَنْ اللَّهِ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَمَرَ بِقَبْضِ رُوحِهَا وَأَدْخَلَهَا اللَّهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلَهُ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَقَالَ غَيْرُهُ {جَابُوا} نَقَبُوا مِنْ جِيبَ الْقَمِيصُ قُطِعَ لَهُ جَيْبٌ يَجُوبُ الْفَلاَةَ يَقْطَعُهَا {لَمًّا} لَمَمْتُهُ أَجْمَعَ أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهِ
قوله: "سورة والفجر - وقال مجاهد: إرم ذات العماد يعني القديم، والعماد أهل عمود لا يقيمون" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ إرم القديمة، وذات العماد أهل عماد لا يقيمون: وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: إرم قبيلة من عاد، قال: والعماد كانوا أهل عمود أي خيام، انتهى. وإرم هو ابن سام بن نوح، وعاد ابن عوص بن إرم. وقيل إرم اسم المدينة، وقيل أيضا إن المراد بالعماد شدة أبدانهم وإفراط طولهم وقد أخرج ابن مردويه من طريق المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} قال: " كان الرجل يأتي الصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم" . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: إرم اسم أبيهم.

(8/701)


ومن طريق مجاهد قال: إرم أمه. ومن طريق قتادة قال: كنا نتحدث أن إرم قبيلة. ومن طريق عكرمة قال: إرم هي دمشق. ومن طريق عطاء الخراساني قال: إرم الأرض. ومن طريق الضحاك قال: الأرم الهلاك. يقال أرم بنو فلان أي هلكوا. ومن طريق شهر بن حوشب نحوه، وهذا على قراءة شاذة قرئت "بعاد أرم" بفتحتين والراء ثقيلة على أنه فعل ماض، و "ذات" بفتح التاء على المفعولية أي أهلك الله ذات العماد، وهو تركيب قلق. وأصح هذه الأقوال الأول أن إرم اسم القبيلة وهم إرم بن سام بن نوح، وعاد هم بنو عاد بن عوص بن إرم، وميزت عاد بالإضافة لإرم عن عاد الأخيرة، وقد تقدم في تفسير الأحقاف أن عادا قبيلتان، ويؤيده قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} . وأما قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} فقد فسره مجاهد بأنها صفة القبيلة، فإنهم كانوا أهل عمود أي خيام. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك قال: {ذَاتِ الْعِمَادِ} القوة. ومن طريق ثور بن زيد قال: قرأت كتابا قديما "أنا شداد بن عاد، أنا الذي رفعت ذات العماد، أنا الذي شددت بذراعي بطن واد" وأخرج ابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة قصة مطولة جدا أنه خرج في طلب إبل له، وأنه وقع في صحاري عدن، وأنه وقع على مدينة في تلك الفلوات فذكر عجائب ما رأى فيها، وأن معاوية لما بلغه خبره أحضره إلى دمشق وسأل كعبا عن ذلك فأخبره بقصة المدينة ومن بناها وكيفية ذلك مطولا جدا، وفيها ألفاظ منكرة، وراويها عبد الله بن قلابة لا يعرف، وفي إسناده عبد الله بن لهيعة. قوله: {سوط عذاب} الذي عذبوا به" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ ما عذبوا به. ولابن أبي حاتم من طريق قتادة: كل شيء عذب الله به فهو سوط عذاب، وسيأتي له تفسير آخر. قوله: {أكْلاً لَمّاً} السف، وجما الكثير" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: السف لف كل شيء. ويحبون المال حبا جما قال الكثير. وسيأتي بسط الكلام على السف في شرح حديث أم زرع في النكاح قوله: "وقال مجاهد: كل شيء خلقه فهو شفع، السماء شفع، والوتر الله" تقدم في بدء الخلق بأتم من هذا. وقد أخرج الترمذي من حديث عمران بن حصين "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال: "هي الصلاة، بعضها شفع، وبعضها وتر " ورجاله ثقات إلا أن فيه راويا مبهما، وقد أخرجه الحاكم من هذا الوجه فسقط من روايته المبهم فاغتر فصححه. وأخرج النسائي من حديث جابر رفعه قال: "العشر عشر الأضحى، والشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة" وللحاكم من حديث ابن عباس قال: الفجر فجر النهار، وليال عشر عشر الأضحى. ولسعيد بن منصور من حديث ابن الزبير أنه كان يقول: الشفع قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} والوتر اليوم الثالث.
" تنبيه " : قرأ الجمهور الوتر بفتح الواو، وقرأها الكوفيون سوى عاصم بكسر الواو واختارها أبو عبيد. قوله: "وقال غيره سوط عذاب كلمة تقولها العرب لكل نوع من العذاب يدخل فيه السوط" هو كلام الفراء. وزاد في آخره: جرى به الكلام. لأن السوط أصل ما كانوا يعذبون به، فجرى لكل عذاب إذ كان عندهم هو الغاية. قوله: "لبالمرصاد: إليه المصير" هو قول الفراء أيضا، والمرصاد مفعال من المرصد وهو مكان الرصد، وقرأ ابن عطية بما يقتضيه ظاهر اللفظ؛ فجوز أن يكون المرصاد بمعنى الفاعل أي الراصد، لكن أتى فيه بصيغة المبالغة، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه الباء في فصيح الكلام، وإن سمع ذلك نادرا في الشعر، وتأويله على ما يليق بجلال الله واضح فلا حاجة للتكلف. وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: بمرصاد أعمال بني آدم. قوله: "تحاضون تحافظون، وتحضون تأمرون بإطعامه" قال الفراء: قرأ الأعمش وعاصم بالألف وبمثناة مفتوحة أوله، ومثله لأهل المدينة لكن بغير

(8/702)


ألف، وبعضهم "يحاضون" بتحتانية أوله، والكل صواب. كانوا يحاضون يحافظون، ويحضون يأمرون بإطعامه انتهى. وأصل تحاضون تتحاضون فحذفت إحدى التاءين، والمعنى لا يحض بعضكم بعضا. وقرأ أبو عمرو بالتحتانية في يكرمون ويحضون وما بعدهما، وبمثل قراءة الأعمش قرأ يحيى بن وثاب والأخوان وأبو جعفر المدني، وهؤلاء كلهم بالمثناة فيها وفي يكرمون فقط، ووافقهم على المثناة فيهما ابن كثير ونافع وشيبة، لكن بغير ألف يحضون. قوله: "المطمئنة المصدقة بالثواب" قال الفراء {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} بالإيمان، المصدقة بالثواب والبعث. وأخرج ابن مردويه من طريق ابن عباس قال: المطمئنة المؤمنة. قوله: "وقال الحسن {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} إذا أراد الله قبضها اطمأنت إلى الله واطمأن الله إليه، ورضيت عن الله ورضي الله عنه، فأمر بقبض روحها وأدخله الله الجنة وجعله من عباده الصالحين" وقع في رواية الكشميهني: "واطمأن الله إليها ورضي الله عنها وأدخلها الله الجنة" بالتأنيث في المواضع الثلاثة، وهو أوجه. وللآخر وجه وهو عود الضمير على الشخص. وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق الحسن قال: إن الله تعالى إذا أراد قبض روح عبده المؤمن واطمأنت النفس إلى الله واطمأن الله إليها ورضيت عن الله ورضي عنها، أمر بقبضها فأدخلها الجنة وجعلها من عباده الصالحين. أخرجه مفرقا، وإسناد الاطمئنان إلى الله من مجاز المشاكلة، والمراد به لازمه من إيصال الخير ونحو ذلك. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: المطمئنة إلى ما قال الله والمصدقة بما قال الله تعالى. قوله: "وقال غيره" جابوا "نقبوا، من جيب القميص قطع له جيب. يجوب الفلاة" أي "يقطعها" . ثبت هذا لغير أبي ذر. وقال أبو عبيدة في قوله: "جابوا" البلاد: نقبوها، ويجوب البلاد يدخل فيها ويقطعها. وقال الفراء {جَابُوا الصَّخْرَ} فرقوه فاتخذوه بيوتا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {جَابُوا الصَّخْرَ} نقبوا الصخر. قوله: "لما: لممته أجمع أتيت على آخره" سقط هذا لأبي ذر وهو قول أبي عبيدة بلفظه وزاد: {حُبّاً جَمّاً} كثيرا شديدا.
" تنبيه " : لم يذكر في الفجر حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث ابن مسعود رفعه في قوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قال: "يؤتي بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" . أخرجه مسلم والترمذي.

(8/703)


90- سُورَةُ {لاَ أُقْسِمُ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} بِمَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنْ الإِثْمِ {وَوَالِدٍ} آدَمَ {وَمَا وَلَدَ} {لُبَدًا} كَثِيرًا وَ {النَّجْدَيْنِ} الْخَيْرُ وَالشَّرُّ {مَسْغَبَةٍ} مَجَاعَةٍ {مَتْرَبَةٍ} السَّاقِطُ فِي التُّرَابِ يُقَالُ {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} فَلَمْ يَقْتَحِمْ الْعَقَبَةَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فَسَّرَ الْعَقَبَةَ فَقَالَ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} {في كبد} في شدة.
قوله: "سورة {لاَ أُقْسِمُ} ويقال لها أيضا سورة البلد، واتفقوا على أن المراد بالبلد مكة شرفها الله تعالى. قوله: "وقال مجاهد {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} مكة، ليس عليك ما على الناس فيه من الإثم" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: يقول لا تؤاخذ بما عملت فيه وليس عليك فيه ما على الناس. وقد أخرجه الحاكم من طريق منصور عن مجاهد فزاد فيه عن ابن عباس بلفظ: أحل الله له أن يصنع فيه ما شاء. ولابن مردويه من

(8/703)


طريق عكرمة عن ابن عباس: يحل لك أن تقاتل فيه. وعلى هذا فالصيغة للوقت الحاضر والمراد الآتي لتحقق وقوعه، لأن السورة مكية والفتح بعد الهجرة بثمان سنين. قوله: "ووالد آدم وما ولد" وصله الفريابي من طريق مجاهد بهذا، وقد أخرجه الحاكم من طريق مجاهد أيضا وزاد فيه: عن ابن عباس. قوله: "في كبد في شدة خلق" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد أخرجه سعيد بن منصور من طريق مجاهد بلفظ: حملته أمه كرها ووضعته كرها، ومعيشة في نكد وهو يكابد ذلك. وأخرجه الحاكم من طريق سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مثله وزاد: في ولادته ونبت أسنانه وسرره وختانه ومعيشته. قوله: {لِبَداً} كثيرا وصله الفريابي بهذا، وهي بتخفيف الموحدة، وشددها أبو جعفر وحده. وقد تقدم تفسيرها في تفسير سورة الجن. والنجدين الخير والشر، وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ سبيل الخير وسبيل الشر، يقول: عرفناه. وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: النجدين سبيل الخير والشر، وصححه الحاكم، وله شاهد عند ابن مردويه من حديث أبي هريرة. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما هما النجدان، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير" . قوله: "مسغبة مجاعة" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ جوع، ومن وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس قال: ذي مجاعة. وأخرجه ابن أبي حاتم كذلك. ومن طريق قتادة قال: يوم يشتهي فيه الطعام. قوله: "متربة الساقط في التراب" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ المطروح في التراب ليس له بيت. وروى الحاكم من طريق حصين عن مجاهد عن ابن عباس قال: المطروح الذي ليس له بيت. وفي لفظ: المتربة الذي لا يقيه من التراب شيء وهو كذلك لسعيد بن منصور، ولابن عيينة من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: هو الذي ليس بينه وبين الأرض شيء. قوله: "يقال: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} فلم يقتحم العقبة في الدنيا. ثم فسر العقبة فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: للنار عقبة دون الجنة، فلا اقتحم العقبة. ثم أخبر عن اقتحامها فقال: فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة. وقال أبو عبيدة في قوله: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} إلخ" بلفظ الأصل، وزاد بعد قوله مسغبة: مجاعة، ذا متربة: قد لزق بالتراب. وأخرج سعيد بن منصور من طريق مجاهد قال: إن من الموجبات إطعام المؤمن السغبان.
" تنبيه " : قرأ فك وأطعم بالفعل الماضي فيهما ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، وقرأ باقي السبعة فك بضم الكاف والإضافة وإطعام عطفا عليها. قوله: "مؤصدة مطبقة" هو قول أبي عبيدة، وقد تقدم في صفة النار من بدء الخلق، ويأتي في حديث آخر في تفسير الهمزة.
" تنبيه " : لم يذكر في سورة البلد حديثا مرفوعا ويدخل فيها حديث البراء قال: "جاء أعرابي فقال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة، قال: لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة أو فك الرقبة. قال: أو ليستا بواحدة؟ قال: لا، إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها" أخرجه أحمد وابن مردويه من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عنه وصححه ابن حبان.

(8/704)


91- سُورَةُ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}
وقال مجاهد: {وَضُحَاهَا} ضوؤها {إِذَا تَلاهَا} تبعها و {طَحَاهَا ـ دَحَاهَا ـ دَسَّاهَا} أغواها {فَأَلْهَمَهَا} عرفها الشقاء والسعادة وَقَالَ مُجَاهِدٌ {بِطَغْوَاهَا} بِمَعَاصِيهَا {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} عُقْبَى أَحَدٍ

(8/704)


4942- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ وَذَكَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي عَقَرَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ وَذَكَرَ النِّسَاءَ فَقَالَ يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنْ الضَّرْطَةِ وَقَالَ لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ" وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ عَمِّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّام"
قوله: "سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" ثبتت البسملة لأبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: {وَضُحَاهَا} ضوءها. {إِذَا تَلاهَا} تبعها. و {طَحَاهَا} {دَحَاهَا} . و {دَسَّاهَا} أغواها" ثبت هذا كله للنسفي وحده، وقد تقدم لهم في بدء الخلق مفرقا إلا قوله: {دَسَّاهَا} فأخرجه الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، وقد أخرج الحاكم من طريق حصين عن مجاهد عن ابن عباس جميع ذلك قوله: {فَأَلْهَمَهَا} عرفها الشقاء والسعادة "ثبت هذا للنسفي وحده، وقد أخرجه الطبري من طريق مجاهد قوله: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} عقبي أحد" وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: "ولا يخاف عقباها" : الله لا يخاف عقبى أحد، وهو مضبوط بفتح الألف والمهملة، وفي بعض النسخ بسكون الخاء المعجمة بعدها ذال معجمة، قال الفراء: قرأ أهل البصرة والكوفة بالواو وأهل المدينة بالفاء" فلا يخاف" فالواو صفة العاقر أي عقر ولم يخف عاقبة عقرها، أو المراد لا يخاف الله أن يرجع بعد إهلاكها، فالفاء على هذا أجود، والضمير في عقباها للدمدمة أو لثمود أو للنفس المقدم ذكرها، والدمدمة الهلاك العام. قوله: {بِطَغْوَاهَا} معاصيها" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: "معصيتها" وهو الوجه. والطغوى بفتح الطاء والقصر الطغيان، ويحتمل في الباء أن تكون للاستعانة وللسبب، أو المعنى كذبت بالعذاب الناشئ عن طغيانها. قوله: "هشام" هو ابن عروة بن الزبير. قوله: "عبد الله بن زمعة" أي ابن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى صحابي مشهور، وأمه قريبة أخت أم سلمة أم المؤمنين، وكان تحته زينب بنت أم سلمة. وقد تقدم في قصة ثمود من أحاديث الأنبياء أنه ليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وأنه يشتمل على ثلاثة أحاديث. قوله: "وذكر الناقة" أي ناقة صالح، والواو عاطفة على شيء محذوف تقديره: فخطب فذكر كذا وذكر الناقة. قوله: "والذي عقر" كذا هنا بحذف المفعول، وتقدم بلفظ: "عقرها" أي الناقة. قوله: {إِذِ انْبَعَثَ} تقدم في أحاديث الأنبياء بلفظ انتدب، تقول ندبته إلى كذا فانتدب له أي أمرته فامتثل. قوله: "عزيز: أي قليل المثل. قوله: "عارم" بمهملتين أي صعب على من يرومه كثير الشهامة والشر. قوله: "منيع" أي قوي ذو منعة أي رهط يمنعونه من الضيم، وقد تقدم في أحاديث الأنبياء بلفظ: "ذو منعة" وتقدم بيان اسمه وسبب عقره الناقة. قوله: "مثل أبي زمعة" يأتي في الحديث الذي بعده. قوله: "وذكر النساء" أي وذكر في خطبته النساء استطرادا إلى ما يقع من أزواجهن. قوله: "يعمد" بكسر الميم وسيأتي شرحه في كتاب النكاح. قوله: "ثم وعظهم في ضحكهم" في رواية الكشميهني: "في ضحك" بالتنوين وقال: لم يضحك أحدكم مما يفعل؟ يأتي الكلام عليه في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال أبو معاوية إلخ" وصله إسحاق بن راهويه في مسنده قال: أنبأنا أبو معاوية،

(8/705)


فذكر الحديث بتمامه وقال في آخره: "مثل أبي زمعة عم الزبير بن العوام" كما علقه البخاري سواء. وقد أخرجه أحمد عن أبي معاوية لكن لم يقل في آخره: "عم الزبير بن العوام" قوله: "عم الزبير بن العوام" هو عم الزبير مجازا لأنه الأسود بن المطلب بن أسد، والعوام بن خويلد بن أسد. فنزل ابن العم منزلة الأخ فأطلق عليه عما بهذا الاعتبار، كذا جزم الدمياطي باسم أبي زمعة هنا وهو المعتمد وقال القرطبي في "المفهم" : يحتمل أن المراد بأبي زمعة الصحابي الذي بايع تحت الشجرة يعني وهو عبيد البلوي، قال: ووجه تشبيهه به إن كان كذلك أنه كان في عزة ومنعة في قومه كما كان ذلك الكافر، قال: ويحتمل أن يريد غيره ممن يكنى أبا زمعة من الكفار. قلت: وهذا الثاني هو المعتمد، والغير المذكور هو الأسود، وهو جد عبد الله بن زمعة راوي هذا الخبر، لقوله في نفس الخبر "عم الزبير بن العوام" وليس بين البلوي وبين الزبير نسب. وقد أخرج الزبير بن بكار هذا الحديث في ترجمة الأسود بن المطلب من طريق عامر بن صالح عن هشام بن عروة وزاد: "قال فتحدث بها عروة وأبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة جالس، فكأنه وجد منها، فقال له عروة: يا ابن أخي، والله ما حدثنيها أبوك إلا وهو يفخر بها، وكان الأسود أحد المستهزئين، ومات على كفره بمكة، وقتل ابنه زمعة يوم بدر كافرا أيضا

(8/706)


92- سُورَةُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} بِالْخَلَفِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَرَدَّى} مَاتَ وَ {تَلَظَّى} تَوَهَّجُ وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ تَتَلَظَّى
قوله: "سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثبتت البسملة لأبي ذر. قوله: "وقال ابن عباس: وكذب بالحسنى بالخلف" وصله ابن أبي حاتم من طريق حصين عن عكرمة عنه وإسناده صحيح قوله: "وقال مجاهد تردى مات. وتلظى توهج" وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: {إِذَا تَرَدَّى} إذا مات. وفي قوله: {نَاراً تَلَظَّى} توهج. قوله: "وقرأ عبيد بن عمير تتلظى" وصله سعيد بن منصور عن ابن عيينة وداود العطار كلاهما عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ: {نارا تتلظى} وقال الفراء: حدثنا ابن عيينة عن عمرو قال: "فاتت عبيد بن عمير ركعة من المغرب، فسمعته يقرأ {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} "وهذا إسناد صحيح، ولكن رواه سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عن ابن عيينة بهذا السند فالله أعلم، وهي قراءة زيد بن علي وطلحة بن مصرف أيضا، وقد قيل إن عبيد بن عمير قرأها بالإدغام في الوصل لا في الابتداء؛ وهي قراءة البزي من طريق ابن كثير

(8/706)


1- باب {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}
4943- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ دَخَلْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّأْمَ فَسَمِعَ بِنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَأَتَانَا فَقَالَ أَفِيكُمْ مَنْ يَقْرَأُ فَقُلْنَا نَعَمْ قَالَ فَأَيُّكُمْ أَقْرَأُ فَأَشَارُوا إِلَيَّ فَقَالَ اقْرَأْ فَقَرَأْتُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} قَالَ أَنْتَ سَمِعْتَهَا مِنْ فِي صَاحِبِكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ وَأَنَا سَمِعْتُهَا مِنْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَؤُلاَءِ يَأْبَوْنَ عَلَيْنَا"

(8/706)


2- باب {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}
4944- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قَدِمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُلُّنَا قَالَ فَأَيُّكُمْ أَحْفَظُ فَأَشَارُوا إِلَى عَلْقَمَةَ قَالَ كَيْفَ سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قَالَ عَلْقَمَةُ {وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} قَالَ أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَكَذَا وَهَؤُلاَءِ يُرِيدُونِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} وَاللَّهِ لاَ أُتَابِعُهُم"
قوله: "باب {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} حدثنا عمر" هو ابن حفص بن غياث، ووقع لأبي ذر حدثنا عمر ابن حفص. قوله: "قدم أصحاب عبد الله" أي ابن مسعود" على أبي الدرداء، فطلبهم فوجدهم فقال: أيكم يقرأ على قراءة عبد الله؟ قالوا: كلنا. قال: فأيكم أحفظ؟ وأشاروا إلى علقمة" هذا صورته الإرسال، لأن إبراهيم ما حضر القصة، وقد وقع في رواية سفيان عن الأعمش في الباب الذي قبله "عن إبراهيم عن علقمة" فتبين أن الإرسال في هذا الحديث، ووقع رواية الباب عند أبي نعيم أيضا ما يقتضي أن إبراهيم سمعه من علقمة. وقوله في آخره "وهؤلاء يريدونني على أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى. والله لا أتابعهم" ووقع في رواية داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة في هذا الحديث: "وإن هؤلاء يريدونني أن أزول عما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون لي: اقرأ وما خلق الذكر والأنثى، وإني والله لا أطيعهم" أخرجه مسلم وابن مردويه. وفي هذا بيان واضح أن قراءة ابن مسعود كانت كذلك، والذي وقع في غير هذه الطريق أنه قرأ: {والذي خلق الذكر والأنثى" كذا في كثير من كتب القراءات الشاذة، وهذه القراءة لم يذكرها أبو عبيد إلا عن الحسن البصري، وأما ابن مسعود فهذا الإسناد المذكور في الصحيحين عنه من أصح الأسانيد يروي به الأحاديث. قوله: "كيف سمعته" أي ابن مسعود "يقرأ والليل إذ يغشى؟ قال علقمة: والذكر والأنثى" في رواية سفيان "فقرأت والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى" وهذا صريح في أن ابن مسعود كان يقرؤها كذلك. وفي رواية إسرائيل عن مغيرة في المناقب "والليل إذا يغشى والذكر والأنثى" بحذف {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} كذا في رواية أبي ذر وأثبتها الباقون. قوله: "وهؤلاء" أي أهل الشام" يريدونني على أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى، والله لا أتابعهم" هذا أبين من الرواية التي قبلها حيث قال: "وهؤلاء يأبون علي" ثم هذه القراءة لم تنقل إلا عمن ذكر هنا، ومن عداهم قرءوا {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} وعليها استقر الأمر مع قوة إسناد ذلك إلى أبي الدرداء ومن ذكر معه، ولعل هذا مما نسخت تلاوته ولم يبلغ النسخ أبا الدرداء ومن ذكر معه. والعجب من نقل الحفاظ من الكوفيين هذه القراءة عن علقمة وعن ابن مسعود وإليهما تنتهي القراءة بالكوفة ثم لم يقرأ بها أحد منهم، وكذا أهل الشام حملوا القراءة عن أبي الدرداء ولم يقرأ أحد منهم بهذا، فهذا مما يقوى أن التلاوة بها نسخت.

(8/707)


باب {فأما من أعطى واتقى}
...
3- بَاب قَوْلُهُ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
4945- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جَنَازَةٍ فَقَالَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ فَقَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إِلَى قَوْلِهِ {لِلْعُسْرَى}
حديث علي قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال: ما منكم من أحد إلا وكتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" الحديث ذكره في خمسة تراجم أخرى لا يأتي في هذه السورة كلها من طريق الأعمش إلا الخامس، فمن طريق منصور، كلاهما عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي، وصرح في الترجمة الأخيرة بسماع الأعمش له من سعد، وسيأتي شرحه مستوفي في كتاب القدر إن شاء الله تعالى

(8/708)


باب {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . "فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قوله: "باب قوله {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر والنسفي، وسقط لفظ: "باب" من التراجم كلها لغير أبي ذر

(8/708)


4- بَاب {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
4946- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيَةَ قَالَ شُعْبَةُ وَحَدَّثَنِي بِهِ مَنْصُورٌ فَلَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ.

(8/708)


5- بَاب {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}
4947- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ

(8/708)


6 - بَاب {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}
4948- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلاَ قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيَةَ

(8/709)


7- بَاب {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
4949- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيَةَ.

(8/709)


93- سُورَةُ {وَالضُّحَى} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {إِذَا سَجَى} اسْتَوَى وَقَالَ غَيْرُهُ {سَجَى} أَظْلَمَ وَسَكَنَ {عَائِلاً} ذُو عِيَالٍ
قوله: "سورة والضحى - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال مجاهد إذا سجى: استوى" وصله الفريابي من طريق مجاهد بهذا. قوله: "وقال غيره سجى أظلم وسكن" قال الفراء في قوله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} قال: الضحى النهار كله، والليل إذا سجى إذا أظلم وركد في طوله، تقول بحر ساج وليل ساج إذا سكن. وروى الطبري من طريق قتادة في قوله: {إِذَا سَجَى} قال: إذا سكن بالخلق. قوله: "عائلا ذو عيال" هو قول أبي عبيدة. وقال الفراء: معناه فقيرا، وقد وجدتها في مصحف عبد الله "عديما" ، والمراد أنه أغناه بما أرضاه، لا بكثرة المال

(8/709)


1- باب {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
4950- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لاَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} قَوْلُهُ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} تُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَا تَرَكَكَ رَبُّكَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا تَرَكَكَ وَمَا أَبْغَضَكَ
قوله: "باب {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر، وذكر في سبب نزولها حديث جندب، وأن ذلك سبب شكواه صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت في صلاة الليل أن الشكوى المذكورة لم ترد بعينها، وأن من فسرها بأصبعه التي دميت لم يصب. ووجدت الآن في الطبراني بإسناد فيه من لا يعرف أن سبب نزولها وجود جرو كلب تحت سريره صلى الله عليه وسلم لم يشعر به فأبطأ عنه جبريل لذلك، وقصة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة، لكن كونها سبب نزول هذه الآية غريب، بل شاذ، مردود بما في الصحيح والله أعلم. وورد لذلك سبب ثالث وهو ما أخرجه الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: "لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن أبطأ عنه جبريل أياما فتغير بذلك فقالوا: ودعه ربه وقلاه. فأنزل الله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ومن طريق إسماعيل مولى آل الزبير قال: "فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأحزنه فقال: لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني، فجاء جبريل بسورة والضحى". وذكر سليمان التيمي في السيرة التي جمعها ورواها محمد بن عبد الأعلى عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: "وفتر الوحي، فقالوا: لو كان من عند الله لتتابع. ولكن الله قلاه. فأنزل الله: والضحى وألم نشرح بكمالهما" وكل هذه الروايات لا تثبت، والحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول والضحى غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي، فإن تلك دامت أياما وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثا، فاختلطتا على بعض الرواة، وتحرير الأمر في ذلك ما بينته. وقد أوضحت ذلك في التعبير ولله الحمد. ووقع في سيرة ابن إسحاق في سبب نزول والضحى شيء آخر، فإنه ذكر أن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين والروح وغير ذلك ووعدهم بالجواب ولم يستثن، فأبطأ عليه جبريل اثنتا عشرة ليلة أو أكثر فضاق صدره، وتكلم المشركون: فنزل جبريل بسورة والضحى، وبجواب ما سألوا، وبقوله تعالى: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} انتهى. وذكر سورة الضحى هنا بعيد، لكن يجوز أن يكون الزمان في القصتين متقاربا فضم بعض الرواة إحدى القصتين إلى الأخرى، وكل منهما لم يكن في ابتداء البعث، وإنما كان بعد ذلك بمدة والله أعلم. قوله: "سمعت جندب بن سفيان" هو البجلي. قوله: "فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك تركك" هي أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب. وقد تقدم بيان ذلك في كتاب قيام الليل. وأخرجه الطبري من طريق المفضل بن صالح عن الأسود بن قيس بلفظ: "فقالت امرأة من أهله" ومن وجه آخر عن الأسود بن قيس بلفظ: "حتى قال المشركون" ولا مخالفة لأنهم قد يطلقون لفظ الجمع ويكون القائل أو الفاعل واحدا، بمعنى أن الباقين راضون بما وقع من ذلك الواحد. قوله: "قربك" بكسر الراء، يقال يقربه بفتح الراء متعديا، ومنه {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} ، وأما

(8/710)


قرب بالضم فهو لازم. تقول قرب الشيء أي دنا. وقد بينت هناك أنه وقع في رواية أخرى عند الحاكم "فقالت خديجة" وأخرجه الطبري أيضا من طريق عبد الله بن شداد "فقالت خديجة ولا أرى ربك" ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه "فقالت خديجة لما ترى من جزعه" وهذان طريقان مرسلان ورواتهما ثقات، فالذي يظهر أن كلا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل عبرت - لكونها كافرة - بلفظ شيطانك، وخديجة عبرت - لكونها مؤمنة - بلفظ ربك أو صاحبك. وقالت أم جميل شماتة وخديجة توجعا.

(8/711)


2- باب {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
تقرأ بالتشديد والتخفيف بمعنى واحد ما تركك ربك. وقال ابن عباس: ما تركك وما أبغضك
4951- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدُبًا الْبَجَلِيَّ قَالَتْ امْرَأَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أُرَى صَاحِبَكَ إِلاَّ أَبْطَأَكَ فَنَزَلَتْ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
قوله: "باب قوله {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} "كذا ثبتت هذه الترجمة في رواية المستملي، وهو تكرار بالنسبة إليه لا بالنسبة للباقين لأنهم لم يذكروها في الأولى. قوله: "تقرأ بالتشديد والتخفيف بمعنى واحد ما تركك ربك" أما القراءة بالتشديد فهي قراءة الجمهور، وقرأ بالتخفيف عروة وابنه هشام وابن أبي عليه. وقال أبو عبيدة "ما ودعك" يعني بالتشديد من التوديع و "ما ودعك" يعني بالتخفيف من ودعت انتهى، ويمكن تخريج كونهما بمعنى واحد على أن التوديع مبالغة في الودع لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. قوله: "وقال ابن عباس: ما تركك وما أبغضك" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا. قوله: "في الرواية الأخيرة: "قالت امرأة: يا سول الله ما أرى صاحبك إلا أبطأك" هذا السياق يصلح أن يكون خطاب خديجة، دون الخطاب الأول فإنه يصلح أن يكون خطاب حمالة الحطب لتعبيرها بالشيطان والترك ومخاطبتها بمحمد، بخلاف هذه فقالت: صاحبك. وقالت أبطأ. وقالت يا رسول الله. وجوز الكرماني أن يكون من تصرف الرواة، وهو موجه لأن مخرج الطريقين واحد. وقوله: "أبطأك" أي صيرك بطيئا في القراءة، لأن بطأه في الإقراء يستلزم بطء الآخر في القراءة، ووقع في رواية أحمد عن محمد بن جعفر عن شعبة "إلا أبطأ عنك".

(8/711)


94- سُورَةُ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وِزْرَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْقَضَ أَثْقَلَ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَيْ مَعَ ذَلِكَ الْعُسْرِ يُسْرًا آخَرَ كَقَوْلِهِ {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فَانْصَبْ فِي حَاجَتِكَ إِلَى رَبِّكَ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ
قوله: "سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر، وللباقين "ألم نشرح" حسب. قوله: "وقال مجاهد: وزرك في الجاهلية" وصله الفريابي من طريقه، و "في الجاهلية" متعلق بالوزر، أي الكائن في الجاهلية وليس متعلقا بوضع. قوله: "أنقض أتقن" قال عياض: كذا في جميع النسخ "أتقن" بمثناة وقاف ونون، وهو وهم

(8/711)


95- سورة والتين
وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ التِّينُ وَالزَّيْتُونُ الَّذِي يَأْكُلُ النَّاسُ يُقَالُ {فَمَا يُكَذِّبُكَ} فَمَا الَّذِي يُكَذِّبُكَ بِأَنَّ النَّاسَ يُدَانُونَ بِأَعْمَالِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَكْذِيبِكَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَاب"
1- باب 4952- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ تَقْوِيمٍ الْخَلْق"
قوله: "سورة والتين" وقال مجاهد: هو التين والزيتون الذي يأكل الناس" وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: "والتين والزيتون" قال: الفاكهة التي تأكل الناس. "وطور سينين" الطور الجبل وسينين المبارك. وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس مثله، ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: التين مسجد نوح الذي بني على الجودي. ومن طريق الربيع بن أنس قال: التين جبل عليه التين والزيتون جبل عليه الزيتون. ومن طريق قتادة: الجبل الذي عليه دمشق. ومن طريق محمد بن كعب قال: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيلياء. ومن طريق قتادة: جبل عليه بيت المقدس. قوله: "تقويم: خلق" كذا ثبت لأبي نعيم، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} قال: أحسن خلق. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس بإسناد حسن قال: أعدل خلق. قوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إلا من آمن" كذا ثبت للنسفي وحده وقد تقدم لهم في بدء الخلق. وأخرج الحاكم من طريق عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} قال: الذين قرءوا القرآن. قوله: "يقال فما يكذبك فما الذي يكذبك بأن الناس يدانون بأعمالهم كأنه قال: ومن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب" في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني: "تدالون" بلام بدل النون الأولى، والأول هو الصواب، كذا هو في كلام الفراء بلفظه وزاد في آخره: بعدما تبين له كيفية خلقه. قال ابن التين: كأنه جعل "ما" لمن يعقل وهو بعيد. وقيل: المخاطب بذلك الإنسان المذكور، قيل هو على طريق الالتفات وهذا عن مجاهد، أي ما الذي جعلك كاذبا؟ لأنك إذا كذبت بالجزاء صرت كاذبا، لأن كل مكذب بالحق فهو كاذب. وأما تعقب ابن التين قول الفراء جعل "ما" لمن يعقل وهو بعيد، فالجواب أنه ليس ببعيد فيمن أبهم أمره، ومنه {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} قوله: "أخبرني عدي" هو ابن ثابت الكوفي. قوله: "فقرأ في العشاء بالتين" تقدم شرحه في صفة الصلاة. وقد كثر سؤال بعض الناس: هل قرأ بها في الركعة الأول أو الثانية؟ أو قرأ فيهما معا كأن يقول أعادها في الثانية؟ وعلى أن يكون قرأ غيرها فهل عرف؟ وما كنت أستحضر لذلك جوابا، إلى أن رأيت في" كتاب الصحابة لأبي علي بن السكن" في ترجمة زرعة بن خليفة رجل من أهل اليمامة أنه قال: "سمعنا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأتيناه فعرض علينا الإسلام فأسلمنا وأسهم لنا، وقرأ في الصلاة بالتين والزيتون وإنا أنزلناه في ليلة القدر" فيمكن إن

(8/713)


كانت هي الصلاة التي عين البراء بن عازب أنها العشاء أن يقال قرأ في الأولى بالتين وفي الثانية بالقدر، ويحصل بذلك جواب السؤال. ويقوى ذلك أنا لا نعرف في خبر من الأخبار أنه قرأ بالتين والزيتون إلا في حديث البراء ثم حديث زرعة هذا

(8/714)


96- سُورَةُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ اكْتُبْ فِي الْمُصْحَفِ فِي أَوَّلِ الإِمَامِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَاجْعَلْ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ خَطًّا وَقَالَ مُجَاهِدٌ {نَادِيَهُ} عَشِيرَتَهُ {الزَّبَانِيَةَ} الْمَلاَئِكَةَ وَقَالَ مَعْمَرٌ {الرُّجْعَى} الْمَرْجِعُ {لَنَسْفَعَنْ} قَالَ لَنَأْخُذَنْ وَلَنَسْفَعَنْ بِالنُّونِ وَهِيَ الْخَفِيفَةُ سَفَعْتُ بِيَدِهِ أَخَذْت"
قوله: "سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال صاحب الكشاف: ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أنها أول سورة نزلت، وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب. كذا قال. والذي ذهب أكثر الأئمة إليه هو الأول. وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول. قوله: "وقال قتيبة حدثنا حماد عن يحيى بن عتيق عن الحسن قال: اكتب في المصحف في أول الإمام بسم الله الرحمن الرحيم واجعل بين السورتين خطا" في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني: "حدثنا قتيبة" وقد أخرجه ابن الضريس في "فضائل القرآن" حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بهذا، وحماد هو ابن زيد، وشيخه بصري ثقة من طبقة أيوب مات قبله، ولم أر له في البخاري إلا هذا الموضع. وقوله: "في أول الإمام" أي أم الكتاب، وقوله: "خطا" قال الداودي إن أراد خطا فقط بغير بسملة فليس بصواب لاتفاق الصحابة على كتابة البسملة بين كل سورتين إلا براءة وإن أراد بالإمام إمام كل سورة فيجعل الخط مع البسملة فحسن فكان ينبغي أن يستثنى براءة. وقال الكرماني: معناه اجعل البسملة في أوله فقط، واجعل بين كل سورتين علامة للفاصلة، وهو مذهب حمزة من القراء السبعة. قلت: المنقول ذلك عن حمزة في القراءة لا في الكتابة، قال: وكأن البخاري أشار إلى أن هذه السورة لما كان أولها مبتدأ بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أراد أن يبين أنه لا تجب البسملة في أول كل سورة. بل من قرأ البسملة في أول القرآن كفاه في امتثال هذا الأمر. نعم استنبط السهيلي من هذا الأمر ثبوت البسملة في أول الفاتحة لأن هذا الأمر هو أول شيء نزل من القرآن فأولى مواضع امتثاله أول القرآن. قوله: "وقال مجاهد: ناديه عشيرته" وصله الفريابي من طريق مجاهد، وهو تفسير معنى، لأن المدعو أهل النادي والنادي المجلس المتخذ للحديث. قوله: "الزبانية الملائكة" وصله الفريابي من طريق مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مثله. قوله: "وقال معمر الرجعي المرجع" كذا لأبي ذر، وسقط لغيره: "وقال معمر" فصار كأنه من قول مجاهد والأول هو الصواب، وهو كلام أبي عبيدة في "كتاب المجاز: ولفظه {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} قال: المرجع والرجوع. قوله: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} لنأخذن، ولنسفعن بالنون وهي الخفيفة، سفعت بيده أخذت" هو كلام أبي عبيدة أيضا ولفظه: و "لنسفعن" إنما يكتب بالنون لأنها نون خفيفة انتهى. وقد روي عن أبي عمرو بتشديد النون، والموجود في مرسوم المصحف بالألف، والسفع القبض على الشيء بشدة، وقيل أصله الأخذ بسفعة الفرس أي سواد ناصيته، ومنه قولهم: به سفعة من غضب، لما يعلو لون الغضبان من التغير، ومنه امرأة سفعاء.

(8/714)


باب كان أول مابدىء به صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة
...
1- باب 4953- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ سَلْمَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ قَالَ وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} الآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ قَالَ لِخَدِيجَةَ أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي" فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ قَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَ أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنْ الإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ قَالَ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا -ذَكَرَ حَرْفاً- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ" قَالَ وَرَقَةُ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ أُوذِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
4954- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَفَرِقْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَّرُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} قَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَهِيَ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ قَالَ ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْي"

(8/715)


قوله: "باب حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب. وحدثني سعيد بن مروان" الإسناد الأول قد ساق البخاري المتن به في أول الكتاب، وساق في هذا الباب المتن بالإسناد الثاني، وسعيد بن مروان هذا هو أبو عثمان البغدادي نزيل نيسابور من طبقة البخاري، شاركه في الرواية عن أبي نعيم وسليمان بن حرب ونحوهما، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، ومات قبل البخاري بأربع سنين. ولهم شيخ آخر يقال الله أبو عثمان سعيد بن مروان الرهاوي، حدث عنه أبو حاتم وابن أبي رزمة وغيرهما، وفرق البخاري في "التاريخ" بينه وبين البغدادي، ووهم من زعم أنهما واحد وآخرهم الكرماني. ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة بكسر الراء وسكون الزاي. واسم أبي رزمة غزوان، وهو مروزي من طبقة أحمد بن حنبل، فهو من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، ومع ذلك فحدث عنه بواسطة، وليس له عنده سوى هذا الموضع. وقد حدث عنه أبو داود بلا واسطة. وشيخه أبو صالح سلمويه اسمه سليمان بن صالح الليثي المروزي يلقب سلمويه، ويقال اسم أبيه داود، وهو من طبقة الراوي عنه من حيث الرواية إلا أنه تقدمت وفاته، وكان من أخصاء عبد الله بن المبارك والمكثرين عنه. وقد أدركه البخاري بالسن لأنه مات سنة عشر ومائتين، وما له أيضا في البخاري سوى هذا الحديث. وعبد الله هو ابن المبارك الإمام المشهور، وقد نزل البخاري في حديثه في هذا الإسناد درجتين، وفي حديث الزهري ثلاث درجات، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفي في أوائل هذا الكتاب، وسأذكر هنا ما لم يتقدم ذكره مما اشتمل عليه من سياق هذه الطريق وغيرها من الفوائد. قوله: "أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة" قال النووي: هذا من مراسيل الصحابة، لأن عائشة لم تدرك هذه القصة فتكون سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي. وتعقبه من لم يفهم مراده فقال: إذا كان يجوز أنها سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يجزم بأنها من المراسيل؟ والجواب أن مرسل الصحابي ما يرويه من الأمور التي لم يدرك زمانها، بخلاف الأمور التي يدرك زمانها فإنها لا يقال إنها مرسلة، بل يحمل على أنه سمعها أو حضرها ولو لم يصرح بذلك، ولا تختص هذا بمرسل الصحابي بل مرسل التابعي إذا ذكر قصة لم يحضرها سميت مرسلة، ولو جاز في نفس الأمر أن يكون سمعها من الصحابي الذي وقعت له تلك القصة. وأما الأمور التي يدركها فيحمل على أنه سمعها أو حضرها، لكن بشرط أن يكون سالما من التدليس والله أعلم. ويؤيد أنها سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قولها في أثناء هذا الحديث:"فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ. قال فأخذني" إلى آخره. فقوله قال فأخذني فغطني ظاهر في أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها بذلك فتحمل بقية الحديث عليه. قوله: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة" زاد في رواية عقيل كما تقدم في بدء الوحي "من الوحي" أي في أول المبتدآت من إيجاد الوحي الرؤيا، وأما مطلق ما يدل على نبوته فتقدمت له أشياء مثل تسليم الحجر كما ثبت في صحيح مسلم وغير ذلك، و "ما" في الحديث نكرة موصوفة، أي أول شيء. ووقع صريحا في حديث ابن عباس عند ابن عائذ. ووقع في مراسيل عبد الله بن أبي بكر بن حزم عند الدولابي ما يدل على أن الذي كان يراه صلى الله عليه وسلم هو جبريل ولفظه: "أنه قال لخديجة بعد أن أقرأه جبريل "اقرأ باسم ربك" : أرأيتك الذي كنت أحدثك إني رأيته في المنام فإنه جبريل استعلن" . قوله: "من الوحي" يعني إليه وهو إخبار عما رآه من دلائل نبوته من غير أن يوحي بذلك إليه وهو أول ذلك مطلقا ما سمعه من بحيرا الراهب، وهو عند الترمذي بإسناد قوي عن أبي موسى، ثم ما سمعه عند بناء الكعبة حيث قيل له "اشدد عليك إزارك"

(8/716)


وهو في صحيح البخاري من حديث جابر، وكذلك تسليم الحجر عليه وهو عند مسلم من حديث جابر بن سمرة. قوله: "الصالحة" قال ابن المرابط هي التي ليست ضغثا ولا من تلبيس الشيطان ولا فيها ضرب مثل مشكل، وتعقب الأخير بأنه إن أراد بالمشكل ما لا يوقف على تأويله فمسلم وإلا فلا. قوله: "فلق الصبح" يأتي في سورة الفلق قريبا. قوله: "ثم حبب إليه الخلاء" هذا ظاهر في أن الرؤيا الصادقة كانت قبل أن يحبب إليه الخلاء، ويحتمل أن تكون لترتيب الأخبار، فيكون تحبيب الخلوة سابقا على الرؤيا الصادقة، والأول أظهر. قوله: "الخلاء" بالمد المكان الخالي، ويطلق على الخلوة، وهو المراد هنا. قوله: "فكان يلحق بغار حراء" كذا في هذه الرواية، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: "فكان يخلو" وهي أوجه. وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق "فكان يجاوز: . قوله: "الليالي ذوات العدد" في رواية ابن إسحاق أنه كان يعتكف شهر رمضان. قوله: "قال والتحنث التعبد" هذا ظاهر في الإدراج، إذ لو كان من بقية كلام عائشة لجاء فيه قالت، وهو يحتمل أن يكون من كلام عروة أو من دونه، ولم يأت التصريح بصفة تعبده، لكن في رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق "فيطعم من يرد عليه من المساكين" وجاء عن بعض المشايخ أنه كان يتعبد بالتفكر، ويحتمل أن تكون عائشة أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدا، فإن الانعزال عن الناس ولا سيما من كان على باطل من جملة العبادة كما وقع للخليل عليه السلام حيث قال: "إني ذاهب إلى ربي" ، وهذا يلتفت إلى مسألة أصولية، وهو أنه صلى الله عليه وسلم هل كان قبل أن يوحي إليه متعبدا بشريعة نبي قبله؟ قال الجمهور: لا، لأنه لو كان تابعا لاستبعد أن يكون متبوعا، ولأنه لو كان لنقل من كان ينسب إليه. وقيل نعم واختاره ابن الحاجب، واختلفوا في عيينة على ثمانية أقوال: أحدها آدم حكاه ابن برهان، الثاني نوح حكاه الآمدي، الثالث إبراهيم ذهب إليه جماعة واستدلوا بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} ، الرابع موسى، الخامس عيسى، السادس بكل شيء بلغه عن شرع نبي من الأنبياء وحجته {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، السابع الوقف واختاره الآمدي، ولا يخفى قوة الثالث ولا سيما مع ما نقل من ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم والله أعلم. وهذا كله قبل النبوة، وأما بعد النبوة فقد تقدم القول فيه في تفسير سورة الأنعام. قوله: "إلى أهله" يعني خديجة وأولاده منها، وقد سبق في تفسير سورة النور في الكلام على حديث الإفك تسمية الزوجة أهلا، ويحتمل أن يريد أقاربه أو أعم. قوله: "ثم يرجع إلى خديجة فيتزود" خص خديجة بالذكر بعد إذ عبر بالأهل إما تفسيرا بعد إبهام، وإما إشارة إلى اختصاص التزود بكونه من عندها دون غيرها. قوله: "فيتزود لمثلها" في رواية الكشميهني: "بمثلها" بالموحدة، والضمير لليالي أو للخلوة أو للعبادة أو للمرات. أي السابقة، ثم يحتمل أن يكون المراد أنه يتزود ويخلو أياما، ثم يرجع ويتزود ويخلو أياما، ثم يرجع ويتزود ويخلو أياما إلى أن ينقضي الشهر. ويحتمل أن يكون المراد أن يتزود لمثلها إذا حال الحول وجاء ذلك الشهر الذي جرت عادته أن يخلو فيه، وهذا عندي أظهر، ويؤخذ منه إعداد الزاد للمختلي إذا كان بحيث يتعذر عليه تحصيله لبعد مكان اختلائه من البلد مثلا، وأن ذلك لا يقدح في التوكل وذلك لوقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم بعد حصول النبوة له بالرؤيا الصالحة، وإن كان الوحي في اليقظة قد تراخى عن ذلك. قوله: "وهو في غار حراء" جملة في موضع الحال. قوله: "فجاءه الملك" هو جبريل كما جزم به السهيلي، وكأنه أخذه من كلام ورقة المذكور في حديث الباب. ووقع عند البيهقي في "الدلائل" فجاءه الملك فيه، أي في غار حراء، كذا عزاه شيخنا البلقيني للدلائل فتبعته، ثم وجدته بهذا اللفظ في كتاب التعبير فعزوه له أولى.
" تنبيه " : إذا علم أنه

(8/717)


كان يجاوز في غار حراء في شهر رمضان وأن ابتداء الوحي جاءه وهو في الغار المذكور اقتضى ذلك أنه نبئ في شهر رمضان ويعكر على قول ابن إسحاق أنه بعث على رأس الأربعين مع قوله إنه شهر في رمضان ولد، ويمكن أن يكون المجيء في الغار كان أو لا في شهر رمضان وحينئذ نبئ وأنزل عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، ثم كان المجيء الثاني في شهر ربيع الأول بالإنذار وأنزلت عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} فيحمل قول ابن إسحاق "على رأس الأربعين" أي عند المجيء بالرسالة، والله أعلم. قوله: "اقرا" يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه، ويحتمل أن يكون على بابه من الطلب فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال وإن قدر عليه بعد ذلك، ويحتمل أن تكون صيغة الأمر محذوفة أي قل اقرأ، وإن كان الجواب ما أنا بقارئ فعلى ما فهم من ظاهر اللفظ، وكأن السر في حذفها لئلا يتوهم أن لفظ قل من القرآن، ويؤخذ منه جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وأن الأمر على الفور، لكن يمكن أن يجاب بأن الفور فهم من القرينة. قوله: "ما أنا بقارئ" وقع عند ابن إسحاق في مرسل عبيد بن عمير "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل بنمط من ديباج فيه كتاب قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ" قال السهيلي قال بعض المفسرين: إن قوله: {ألم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل حيث قال له "اقرا" . قوله: "فغطني" تقدم بيانه في بدء الوحي، ووقع في "السيرة لابن إسحاق" فغتني بالمثناة بدل الطاء وهما بمعنى والمراد غمني وصرح بذلك ابن أبي شيبة في مرسل عبد الله بن شداد وذكر السهيلي أنه روى سأبي1 بمهملة ثم همزة مفتوحة ثم موحدة أو مثناة وهما جميعا بمعنى الخنق، وأغرب الداودي فقال: معنى فغطني صنع بي شيئا حتى ألقاني إلى الأرض كمن تأخذه الغشية. والحكمة في هذا الغط شغله عن الالتفات لشيء آخر أو لإظهار الشدة والجد في الأمر تنبيها على ثقل القول الذي سيلقى إليه، فلما ظهر أنه صبر على ذلك ألقى إليه، وهذا وإن كان بالنسبة إلى علم الله حاصل لكن لعل المراد إبرازه للظاهر بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، وقيل ليختبر هل يقول من قبل نفسه شيئا فلما لم يأت بشيء دل على أنه لا يقدر عليه وقيل أراد أن يعلمه أن القراءة ليست من قدرته ولو أكره عليها، وقيل: الحكمة فيه أن التخيل والوهم والوسوسة ليست من صفات الجسم؛ فلما وقع ذلك لجسمه علم أنه من أمر الله. وذكر بعض من لقيناه أن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك. قوله: "فغطني الثالثة" يؤخذ منه أن من يريد التأكيد في أمر وإيضاح البيان فيه أن يكرره ثلاثا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كما سبق في كتاب العلم، ولعل الحكمة في تكرير الإقراء الإشارة إلى انحصار الإيمان الذي ينشأ الوحي بسببه في ثلاث: القول، والعمل، والنية. وأن الوحي يشتمل على ثلاث: التوحيد، والأحكام والقصص. وفي تكرير الغط الإشارة إلى الشدائد الثلاث التي وقعت له وهي: الحصر في الشعب، وخروجه في الهجرة وما وقع له يوم أحد. وفي الإرسالات الثلاثة إشارة إلى حصول التيسير له عقب الثلاث المذكورة: في الدنيا والبرزخ، والآخرة. قوله: "فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} هذا القدر من هذه السورة هو الذي نزل أولا، بخلاف بقية السورة فإنما نزل بعد ذلك بزمان. وقد قدمت في تفسير المدثر بيان الاختلاف في أول ما نزل، والحكمة في هذه الأولية أن هذه الآيات الخمس اشتملت على مقاصد القرآن: ففيها براعة الاستهلال، وهي جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله، وهذا بخلاف الفن البديعي المسمى العنوان فإنهم عرفوه بأن يأخذ المتكلم في فن فيؤكده بذكر مثال سابق، وبيان كونها اشتملت على مقاصد
ـــــــ
(1) كذا في طبعة بولاق، ولعله "دأني" أو غير ذلك.

(8/718)


القرآن أنها تنحصر في علوم التوحيد والأحكام والأخبار، وقد اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله، وفي هذه الإشارة إلى الأحكام وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته من صفة ذات وصفة فعل، وفي هذا إشارة إلى أصول الدين، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . قوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} استدل به السهيلي على أن البسملة يؤمر بقراءتها أول كل سورة، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون آية من كل سورة، كذا قال، وقرره الطيبي فقال: قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قدم الفعل الذي هو متعلق الباء لكون الأمر بالقراءة أهم، وقوله: "اقرا" أمر بإيجاد القراءة مطلقا، وقوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} حال، أي اقرأ مفتتحا باسم ربك: وأصح تقاديره قل باسم الله ثم اقرأ، قال فيؤخذ منه أن البسملة مأمور بها في ابتداء كل قراءة انتهى. لكن لا يلزم من ذلك أن تكون مأمورا بها، فلا تدل على أنها آية من كل سورة، وهو كما قال، لأنها لو كان للزم أن تكون آية قبل كل آية وليس كذلك. وأما ما ذكره القاضي عياض عن أبي الحسن بن القصار من المالكية أنه قال: في هذه القصة رد على الشافعي في قوله إن البسملة آية من كل سورة، قال: لأن هذا أول سورة أنزلت وليس في أولها البسملة، فقد تعقب بأن فيها الأمر بها وإن تأخر نزولها. وقال النووي: ترتيب آي السور في النزول لم يكن شرطا، وقد كانت الآية تنزل فتوضع في مكان قبل التي نزلت قبلها ثم تنزل الأخرى فتوضع قبلها، إلى أن استقر الأمر في آخر عهده صلى الله عليه وسلم على هذا الترتيب، ولو صح ما أخرجه الطبري من حديث ابن عباس "أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة والبسملة قبل قوله: {اقرأ} لكان أولى في الاحتجاج، لكن في إسناده ضعف وانقطاع، وكذا حديث أبي ميسرة "أن أول ما أمر به جبريل قال له: قل بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين" هو مرسل وإن كان رجاله ثقات، والمحفوظ أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وأن نزول الفاتحة كان بعد ذلك. قوله: "ترجف بوادره" في رواية الكشميهني: "فؤاده" وقد تقدم بيان ذلك في بدء الوحي، وترجف عندهم بمثناة فوقانية ولعلها في رواية: "يرجف فؤاده" بالتحتانية. قوله: "زملوني زملوني" كذا للأكثر مرتين، كذا تقدم في بدء الوحي، ووقع لأبي ذر هنا مرة واحدة. والتزميل التلفيف. وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر، وجرت العادة بسكون الرعدة بالتلفيف. ووقع في مرسل عبيد بن عمير "أنه صلى الله عليه وسلم خرج فسمع صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي في ناحية آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك" وسيأتي في التعبير أن مثل ذلك وقع له عند فترة الوحي، وهو المعتمد، فإن إعلامه بالإرسال وقع ب قوله: {قمْ فَأَنْذِرْ} . قوله: "فزملوه حتى ذهب عنه الروع" بفتح الراء أي الفزع، وأما الذي بضم الراء فهو موضع الفزع من القلب. قوله: "قال لخديجة: أي خديجة، ما لي لقد خشيت" في رواية الكشميهني: "قد خشيت" . قوله: "فأخبرها الخبر" تقدم في بدء الوحي بلفظ: "فقاله لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت" وقوله: "وأخبرها الخبر" جملة معترضة بين القول والمقول، وقد تقدم في بدء الوحي ما قالوه في متعلق الخشية المذكورة. وقال عياض: هذا وقع له أول ما رأى التباشير في النوم ثم في اليقظة، وسمع الصوت قبل لقاء الملك، فأما بعد مجيء الملك فلا يجوز عليه الشك ولا يخشى من تسلط الشيطان. وتعقبه النووي بأنه خلاف صريح الشفاء، فإنه قال بعد أن غطه الملك وأقرأه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، قال: إلا أن يكون أراد أن قوله: "خشيت على نفسي" وقع منه إخبارا عما حصل له أولا لا أنه حالة إخبارها بذلك جازت فيتجه، والله أعلم. قوله:

(8/719)


"كلا أبشر" بهمزة قطع ويجوز الوصل، وأصل البشارة في الخير. وفي مرسل عبيد بن عمير "فقالت أبشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة" . قوله: "لا يخزيك الله" بخاء معجمة وتحتانية. ووقع في رواية معمر في التعبير "يحزنك" بمهملة ونون ثلاثيا ورباعيا، قال اليزيدي: أحزنه لغة تميم، وحزنه لغة قريش، وقد نبه على هذا الضبط مسلم. والخزي الوقوع في بلية وشهرة بذلة، ووقع عند ابن إسحاق عن إسماعيل بن أبي حكيم مرسلا" أن خديجة قالت: أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاء؟ قال: نعم. فجاءه جبريل، فقال: يا خديجة، هذا جبريل. قالت: قم فاجلس على فخذي اليسرى، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت فتحول إلى اليمنى كذلك، ثم قالت: فتحول فاجلس في حجري كذلك، ثم ألقت خمارها وتحسرت وهو في حجرها وقالت: هل تراه؟ قال: لا. قالت: اثبت، فوالله إنه لملك وما هو بشيطان" . وفي رواية مرسلة عند البيهقي في "الدلائل" أنها ذهبت إلى عداس وكان نصرانيا فذكرت له خبر جبريل فقال: هو أمين الله بينه وبين النبيين، ثم ذهبت إلى ورقة. قوله: "فانطلقت به إلى ورقة" في مرسل عبيد بن عمير أنها أمرت أبا بكر أن يتوجه معه، فيحتمل أن يكون عند توجيهها أو مرة أخرى. قوله: "ماذا ترى"؟ في رواية ابن منده في "الصحابة" من طريق سعيد بن جبير "عن ابن عباس عن ورقة ابن نوفل قال: قلت يا محمد أخبرني عن هذا الذي يأتيك، قال: يأتيني من السماء جناحاه لؤلؤ وباطن قدميه أخضر" قوله: "وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله" هكذا وقع هنا وفي التعبير، وقد تقدم القول فيه في بدء الوحي، ونبهت عليه هنا لأني نسيت هذه الرواية هناك لمسلم فقط تبعا للقطب الحلبي، قال النووي: العبارتان صحيحتان. والحاصل أنه تمكن حتى صار يكتب من الإنجيل أي موضع شاء بالعربية وبالعبرانية، قال الداودي: كتب من الإنجيل الذي هو بالعبرانية هذا الكتاب الذي هو بالعربي. قوله: "اسمع من ابن أخيك" أي الذي يقول. قوله: "أنزل على موسى" كذا هنا على البناء للمجهول، وقد تقم في بدء الوحي "أنزل الله" ووقع في مرسل أبي ميسرة "أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد وهذا أصرح ما جاء في إسلام ورقة أخرجه ابن إسحاق. وأخرج الترمذي عن عائشة" أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ورقة: كان ورقة صدقك. ولكنه مات قبل أن تظهر، فقال: رأيته في المنام وعليه ثياب بيض" ، ولو كان من أهل النار لكان لباسه غير ذلك. وعند البزار والحاكم عن عائشة مرفوعا: "لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين" وقد استوعبت ما ورد فيه في ترجمته ترجمة من كتابي في الصحابة، وتقدم بعض خبره في بدء الوحي، وتقدم أيضا ذكر الحكمة في قول ورقة "ناموس موسى" ولم يقل عيسى مع أنه كان تنصر، وأن ذلك ورد في رواية الزبير بن بكار بلفظ: "عيسى" ولم يقف بعض من لقيناه على ذلك فبالغ في الإنكار على النووي ومن تبعه بأنه ورد في غير الصحيحين بلفظ: "ناموس عيسى" وذكر القطب الحلبي في وجه المناسبة لذكر موسى دون عيسى أن النبي صلى الله عليه وسلم لعله لما ذكر لورقة مما نزل عليه من اقرأ ويا أيها المدثر ويا أيها المزمل فهم ورقة من ذلك أنه كلف بأنواع من التكاليف فناسب ذكر موسى لذلك، لأن الذي أنزل على عيسى إنما كان مواعظ. كذا قال، وهو متعقب فإن نزول {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} و {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} إنما نزل بعد فترة الوحي كما تقدم بيانه في تفسير المدثر، والاجتماع بورقة كان في أول البعثة. وزعم أن الإنجيل كله مواعظ متعقب أيضا، فإنه منزل أيضا على الأحكام الشرعية وإن كان

(8/720)


معظمها موافقا لما في التوراة، لكنه نسخ منها أشياء بدليل قوله تعالى: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} قوله: "فيها" أي أيام الدعوة قاله السهيلي. وقال المازري: الضمير للنبوة، ويحتمل أن يعود للقصة المذكورة. قوله: "ليتني أكون حيا ذكر حرفا" كذا في هذه الرواية، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: "إذ يخرجك قومك" ويأتي في رواية معمر في التعبير بلفظ: "حين يخرجك" وأبهم موضع الإخراج والمراد به مكة، وقد وقع في حديث عبد الله بن عدي في السنن "ولولا أني أخرجوني منك ما خرجت" يخاطب مكة. قوله: "يومك" أي وقت الإخراج، أو وقت إظهار الدعوة، أو وقت الجهاد. وتمسك ابن القيم الحنبلي بقوله في الرواية التي في بدء الوحي" ثم لم ينشب ورقة أن توفي" يرد ما وقع في السيرة النبوية لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال والمشركون يعذبونه وهو يقول أحد أحد فيقول: أحد والله يا بلال، لئن قتلوك لاتخذت قبرك حنانا، هذا والله أعلم وهم، لأن ورقة قال: "وإن أدركني يومك حيا لأنصرنك نصرا مؤزرا" فلو كان حيا عند ابتداء الدعوة لكان أول من استجاب وقام بنصر النبي صلى الله عليه وسلم كقيام عمر وحمزة. قلت: وهذا اعتراض ساقط، فإن ورقة إنما أراد بقوله: "فإن يدركني يومك حيا أنصرك" اليوم الذي يخرجوك فيه، لأنه قال ذلك عنه عند قوله: "أو مخرجي هم" وتعذيب بلال كان بعد انتشار الدعوة، وبين ذلك وبين إخراج المسلمين من مكة للحبشة ثم للمدينة مدة متطاولة.
" تنبيه " : زاد معمر بعد هذا كلاما يأتي ذكره في كتاب التعبير. قوله: "قال محمد بن شهاب" هو موصول بالإسنادين المذكورين في أول الباب، وقد أخرج البخاري حديث جابر هذا بالسند الأول من السندين المذكورين هنا في تفسير سورة المدثر. قوله: "فأخبرني" هو عطف على شيء، والتقدير قال ابن شهاب فأخبرني عروة بما تقدم، وأخبرني أبو سلمة بما سيأتي. قوله قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه: بينا أنا أمشي" هذا يشعر بأنه كان في أصل الرواية أشياء غير هذا المذكور، وهذا أيضا من مرسل الصحابي لأن جابرا لم يدركه زمان القصة فيحتمل أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي آخر حضرها والله أعلم. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهو يحدث عن فترة الوحي" وقع في رواية عقيل في بدء الوحي غير مصرح بذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ووقع في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في تفسير المدثر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت" وزاد مسلم في روايته: "جاورت بحراء شهرا" . قوله: "سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري " يؤخذ منه جواز رفع البصر إلى السماء عند وجود حادث من قبلها، وقد ترجم له المصنف في الأدب، ويستثنى من ذلك رفع البصر إلى السماء في الصلاة لثبوت النهي عنه كما تقدم في الصلاة من حديث أنس، وروى ابن السني بإسناد ضعيف عن ابن مسعود قال: أمرنا أن لا نتبع أبصارنا الكواكب إذا انقضت. ووقع في رواية يحيى بن أبي كثير "فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت أمامي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي " وفي رواية مسلم بعد قوله شيئا "ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي" . قوله: " فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي" كذا له بالرفع، وهو على تقدير حذف المبتدأ، أي فإذا صاحب الصوت هو الملك الذي جاءني بحراء وهو جالس، ووقع عند مسلم: "جالسا" بالنصب وهو على الحال، ووقع في رواية يحيى بن أبي كثير "فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض" . قوله: "ففزعت منه1 "
ـــــــ
(1) الذي في المتن "ففرقت منه"

(8/721)


كذا في رواية ابن المبارك عن يونس. وفي رواية ابن وهب عند مسلم: "فجئثت" . وفي رواية عقيل في بدء الوحي "فرعبت" ، وفي روايته في تفسير المدثر "فجئثت" وكذا لمسلم وزاد: "فجئثت منه فرقا" . وفي رواية معمر فيه: "فجئثت" وهذه اللفظة بضم الجيم، وذكر عياض أنه وقع للقابسي بالمهملة قال: وفسره بأسرعت، قال: ولا يصح مع قوله: "حتى هويت" أي سقطت من الفزع. قلت: ثبت في رواية عبد الله بن يوسف عن الليث في ذكر الملائكة من بدء الخلق ولكنها بضم المهملة وكسر المثلثة بعدها مثناة تحتانية ساكنة ثم مثناة فوقانية، ومعناها إن كانت محفوظة سقطت على وجهي حتى صرت كمن حثى عليه التراب. قال النووي: وبعد الجيم مثلثتان في رواية عقيل ومعمر. وفي رواية يونس بهمزة مكسورة ثم مثلثة وهي أرجح من حيث المعنى، قال أهل اللغة: جئت الرجل فهو مجئوت إذا فزع، وعن الكسائي جئث وجثث فهو مجئوث ومجثوث أي مذعور. قوله: "فقلت زملوني زملوني" في رواية يحيى بن أبي كثير "فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا" وكأنه رواها بالمعنى، والتزميل والتدثير يشتركان في الأصل وإن كانت بينهما مغايرة في الهيئة. ووقع في رواية مسلم: "فقلت دثروني، فدثروني وصبوا علي ماء" ويجمع بينهما بأنه أمرهم فامتثلوا. وأغفل بعض الرواة ذكر الأمر بالصب، والاعتبار بمن ضبط، وكأن الحكمة في الصب بعد التدثر طلب حصول السكون لما وقع في الباطن من الانزعاج، أو أن العادة أن الرعدة تعقبها الحمى، وقد عرف من الطب النبوي معالجتها بالماء البارد. قوله: "فنزلت {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} يعرف من اتحاد الحديثين في نزول يا أيها المدثر عقب قوله دثروني وزملوني أن المراد بزملوني دثروني، ولا يؤخذ من ذلك نزول يا أيها المزمل حينئذ لأن نزولها تأخر عن نزول يا أيها المدثر بالاتفاق، لأن أول يا أيها المدثر الأمر بالإنذار وذلك أول ما بعث، وأول المزمل الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن فيقتضي تقدم نزول كثير من القرآن قبل ذلك، وقد تقدم في تفسير المدثر أنه نزل من أولها إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وفيها محصل ما يتعلق بالرسالة، ففي الآية الأولى المؤانسة بالحالة التي هو عليها من التدثر إعلاما بعظيم قدره، وفي الثانية الأمر بالإنذار قائما وحذف المفعول تفخيما، والمراد بالقيام إما حقيقته أي قم من مضجعك، أو مجازه أي قم مقام تصميم، وأما الإنذار فالحكمة في الاقتصار عليه هنا فإنه أيضا بعث مبشرا لأن ذلك كان أول الإسلام، فمتعلق الإنذار محقق؛ فلما أطاع من أطاع نزلت: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} وفي الثانية تكبير الرب تمجيدا وتعظيما، ويحتمل الحمل على تكبير الصلاة كما حمل الأمر بالتطهير على طهارة البدن والثياب كما تقدم البحث فيه وفي الآية الرابعة، وأما الخامسة فهجران ما ينافي التوحيد وما يئول إلى العذاب، وحصلت المناسبة بين السورتين المبتدأ بهما النزول فيما اشتملتا عليه من المعاني الكثيرة باللفظ الوجيز وفي عدة ما نزل من كل منهما ابتداء والله أعلم. قوله:"قال أبو سلمة: وهي الأوثان التي كان أهل الجاهلية يعبدون" تقدم شرح ذلك في تفسير المدثر، وتقدم الكثير من شرح حديث عائشة وجابر في بدء الوحي، وبقيت منهما فوائد أخرتها إلى كتاب التعبير ليأخذ كل موضع ساقهما المصنف فيه مطولا بقسط من الفائدة. قوله: "ثم تتابع الوحي" أي استمر نزوله.

(8/722)


2- بَاب قَوْلُهُ {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}
4955- حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا

(8/722)


قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}
قوله "بَاب قَوْلُهُ {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} ذكر فيه طرفا من الحديث الذي قبله برواية عقيل عن بن شهاب واختصره جدا قال أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة وفي رواية الكشميهني الصادقة قال فجاءه الملك فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم وهذا في غاية الإجحاف ولا أظن يحيى بن بكير حدث البخاري به هكذا ولا كان له هذا التصرف وإنما هذا صنيع البخاري وهو دال على أنه كان التابعين الاختصار من الحديث إلى هذه الغاية.

(8/723)


3- بَاب قَوْلُهُ {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}
4956- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ جَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
قوله "باب قوله" {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} "حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري ح. وقال الليث حدثني عقيل قال قال محمد أخبرني عروة" أما رواية معمر فسيأتي بتمامها في أول التعبير، وأما رواية الليث فوصلها المصنف في بدء الوحي، ثم في الذي قبله، ثم في التعبير، أخرجه في المواضع الثلاثة عن يحيى بن بكير عن الليث. فأما في بدء الوحي فأفرده، وأما في الذي قبله فاختصره جدا، وساقه قبله بتمامه لكن قرنه برواية يونس وساقه على لفظ يونس، وأما التعبير فقرنه برواية معمر وساقه على لفظ معمر أيضا، ولكن لم يقع في شيء من المواضع المذكورة" حدثني عقيل قال قال محمد "وإنما في بدء الوحي" عن عقيل عن ابن شهاب" وكذا في بقية المواضع، وكذا ذكره عن عبد الله بن يوسف عن الليث في الباب الذي بعد هذا، وذكره في بدء الخلق عنه عن الليث بلفظ: "حدثني عقيل عن ابن شهاب" ورواه أبو صالح عبد الله بن صالح عن الليث" حدثني عقيل قال قال محمد بن شهاب" فساقه بتمامه، وقد ذكر المصنف متابعة أبي صالح في بدء الوحي، وبينت هناك من وصلها ولله الحمد.

(8/723)


باب {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
4957- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قوله: "باب {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} "كذا لأبي ذر، وسقطت الترجمة لغيره، وأورد طرفا من حديث بدء الوحي عن عبد الله بن يوسف عن الليث مقتصرا منه على قوله: "فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فقال: زملوني زملوني ، فذكر الحديث:"كذا فيه، وقد ذكر من الحديث في ذكر الملائكة من بدء الخلق حديث جابر مقتصرا عليه.

(8/723)


4- باب {كَلاَ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}
4958- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لاَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لَوْ فَعَلَهُ لاَخَذَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ" تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ
قوله: "باب {كَلاَ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} "سقط لغير أبي ذر "باب" ومن "ناصية" إلى آخره. قوله: "عن عبد الكريم الجزري" هو ابن مالك وهو ثقة، وفي طبقته عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف. قوله: "قال أبو جهل" هذا مما أرسله ابن عباس، لأنه لم يدرك زمن قول أبي جهل ذلك، لأن مولده قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وقد أخرج ابن مردويه بإسناد ضعيف عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن العباس بن عبد المطلب قال: "كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل فقال: إن لله علي إن رأيت محمدا ساجدا" فذكر الحديث. قوله: "لو فعله لأخذته الملائكة" وقع عند البلاذري" نزل اثنا عشر ملكا من الزبانية رءوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض" وزاد الإسماعيلي في آخره من طريق معمر عن عبد الكريم الجزري "قال ابن عباس لو تمنى اليهود الموت لماتوا، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا" . وأخرج النسائي من طريق أبي حازم عن أبي هريرة نحو حديث ابن عباس وزاد في آخره: "فلم يفجأهم منه إلا وهو - أي أبو جهل - ينكص على عقبيه ويتقي بيده، فقيل له، فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو دنا لاختطفته الملائكة عضوا عضوا" وإنما شدد الأمر في حق أبي جهل، ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبي معيط حيث طرح سلي الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلي كما تقدم شرحه في الطهارة لأنهما وان اشتركا في مطلق الأذية حالة صلاته لكن زاد أبو جهل بالتهديد وبدعوى أهل طاعته وبإرادة وطء العنق الشريف، وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة لو فعل ذلك، ولأن سلي الجزور لم يتحقق نجاستها، وقد عوقب عقبة بدعائه صلى الله عليه وسلم عليه وعلى من شاركه في فعله فقتلوا يوم بدر. قوله: "تابعه عمرو بن خالد عن عبيد الله عن عبد الكريم" أما عمرو بن خالد فهو من شيوخ البخاري وهو الحراني ثقة مشهور، وأما عبيد الله فهو ابن عمرو الرقي، وعبد الكريم هو الجزري المذكور، وهذه المتابعة وصلها علي بن عبد العزيز البغوي في "منتخب المسند" له عن عمرو بن خالد بهذا؛ وقد أخرجه ابن مردويه من طريق زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو بالسند المذكور ولفظه بعد قوله لو فعل لأخذته الملائكة "عيانا ولو أن اليهود" إلى آخر الزيادة التي ذكرتها من عند الإسماعيلي، وزاد بعد قوله لماتوا "ورأوا مقاعدهم من النار"

(8/724)


97- سُورَةُ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}
يُقَالُ الْمَطْلَعُ هُوَ الطُّلُوعُ وَالْمَطْلِعُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُطْلَعُ مِنْهُ أَنْزَلْنَاهُ الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ الْقُرْآنِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَمِيعِ وَالْمُنْزِلُ هُوَ اللَّهُ وَالْعَرَبُ تُوَكِّدُ فِعْلَ الْوَاحِدِ فَتَجْعَلُهُ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ لِيَكُونَ أَثْبَتَ وَأَوْكَدَ

(8/724)


قوله سورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} في رواية غير أبي ذر "سورة القدر" . قوله: "يقال المطلع هو الطلوع، والمطلع الموضع الذي يطلع منه" قال الفراء: المطلع بفتح اللام، وبكسرها قرأ يحيى بن وثاب، والأول أولى لأن المطلع بالفتح هو الطلوع وبالكسر الموضع والمراد هنا الأول انتهى. وقرأ بالكسر أيضا الكسائي والأعمش وخلف وقال الجوهري: طلعت الشمس مطلعا ومطلعا أي بالوجهين. قوله: "أنزلناه الهاء كناية عن القرآن" أي الضمير راجع إلى القرآن وإن لم يتقدم له ذكر. قوله: "إنا أنزلناه خرج مخرج الجميع، والمنزل هو الله تعالى. والعرب تؤكد فعل الرجل الواحد فتجعله بلفظ الجميع ليكون أثبت وأوكد" هو قول أبي عبيدة، ووقع في رواية أبي نعيم في "المستخرج" نسبته إليه قال: قال معمر، وهو اسم أبي عبيدة كما تقدم غير مرة. وقوله: "ليكون أثبت وأوكد" قال ابن التين: النحاة يقولون بأنه للتعظيم. بقوله المعظم عن نفسه ويقال عنه، انتهى. وهذا هو المشهور أن هذا جمع التعظيم.
" تنبيه " : لم يذكر في سورة القدر حديثا مرفوعا، ويدخل فيها حديث: "من قام ليلة القدر" وقد تقدم في أواخر الصيام.

(8/725)


98- سُورَةُ {لَمْ يَكُنْ} . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{مُنْفَكِّينَ} زَائِلِينَ {قَيِّمَةٌ} الْقَائِمَةُ {دِينُ الْقَيِّمَةِ} أَضَافَ الدِّينَ إِلَى الْمُؤَنَّثِ
قوله: "سورة {لَمْ يَكُنْ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر، ويقال لها أيضا سورة القيمة، وسورة البينة. قوله: "منفكين زائلين" هو قول أبي عبيدة. قوله: "قيمة القائمة دين القيمة أضاف الدين إلى المؤنث" هو قول أبي عبيدة بلفظه. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان قال: القيمة الحساب المبين.
1- باب 4959- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم لأُبَيٍّ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ وَسَمَّانِي قَالَ نَعَمْ فَبَكَى"
2- باب 4960- حدثنا حسان بن حسان حدثنا همام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن قال أبي: آلله سماني لك قال الله سماك لي فجعل أبي يبكي قال قتادة: فأنبئت أنه قرأ عليه {مْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
قوله: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} كذا في رواية شعبة، وبين في رواية همام أن تسمية السورة لم يحمله قتادة عن أنس فإنه قال في آخر الحديث:"قال قتادة: فأنبئت أنه قرأ عليه {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} "وسقط بيان ذلك من رواية سعيد بن أبي عروبة، هذا ما في هذه الطرق الثلاثة التي أخرجها البخاري وقد أخرجه الحاكم وأحمد والترمذي من طريق زر بن حبيش عن أبي بن كعب نفسه مطولا ولفظه: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال فقرأ عليه {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} . والجمع بين الروايتين حمل المطلق على المقيد لقراءته لم يكن دون غيرها، فقيل: الحكمة في تخصيصها بالذكر لأن فيها {يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} ، وفي تخصيص أبي

(8/725)


بن كعب التنويه به في أنه أقرأ الصحابة، فإذا قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم منزلته كان غيره بطريق التبع له، وقد تقدم في المناقب مزيد كلام في ذلك.
3- باب 4961- حَدَّثَنَا أحمد بن أبي داوود أَبُو جَعْفَرٍ الْمُنَادِي حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ قَالَ أَاللَّهُ سَمَّانِي لَكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ نَعَمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاه"
قوله: "حدثني أحمد بن أبي داود أبو جعفر المنادي" كذا وقع عند الفريابي عن البخاري، والذي وقع عند النسفي" حدثني أبو جعفر المنادي" حسب، فكأن تسميته من قبل الفربري. فعلى هذا لم يصب من وهم البخاري فيه، وكذا من قال إنه كان يرى أن محمدا وأحمد شيء واحد، وقد ذكر ذلك الخطيب عن اللالكائي احتمالا، قال: واشتبه على البخاري، قال: وقيل كان لأبي جعفر أخ اسمه أحمد، قال: وهو باطل والمشهور أن اسم أبي جعفر هذا محمد وهو ابن عبيد الله بن يزيد وأبو داود كنية أبيه، وليس لأبي جعفر في البخاري سوى هذا الحديث، وقد عاش بعد البخاري ستة عشر عاما، ولكنه عمر وعاش مائة سنة وسنة وأشهرا، وقد سمع منه هذا الحديث بعينه من لم يدرك البخاري وهو أبو عمرو بن السماك فشارك البخاري في روايته عن ابن المنادي هذا الحديث وبينهما في الوفاة ثمان وثمانون سنة، وهو من لطيف ما وقع من نوع السابق واللاحق. قوله: "أن أقرئك" أي أعلمك بقراءتي عليك كيف تقرأ حتى لا تتخالف الروايتان، وقيل: الحكمة فيه لتحقق قوله تعالى فيها {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} . قوله: "فذرفت" بفتح الراء وقبلها الذال معجمة، أي تساقطت بالدموع، وقد تقدم شرح الحديث في مناقب أبي بن كعب.

(8/726)


سورة {إذا زلزلت الأرض زلزالها}: باب قوله {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}
...
99- سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1- باب قَوْلُهُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}
يُقَالُ {أَوْحَى لَهَا} أَوْحَى إِلَيْهَا وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إِلَيْهَا وَاحِدٌ
حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الخيل لثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به كان ذلك حسنات له فهي لذلك الرجل أجر ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر قال ما أنزل الله علي فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة:

(8/726)


{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}

(8/727)


2- بَاب {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
4963- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ فَقَالَ: " لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
قوله: "سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ} . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" : "باب قوله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} إلخ" سقط "باب قوله:"لغير أبي ذر. قوله: "أوحي لها يقال أوحي لها وأوحي إليها ووحى لها ووحى إليها واحد" قال أبو عبيدة في قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} : قال العجاج: أوحي لها القرار فاستقرت. وقيل اللام بمعنى من أجل والموحى إليه محذوف أي أأوحي إلى الملائكة من أجل الأرض، والأول أصوب. وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: "أوحي لها أوحي إليها" ثم ذكر فيه حديث أبي هريرة "الخيل لثلاثة" وفي آخره: "فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر" الحديث، ثم ساقه من وجه آخر عن مالك بسنده المذكور مقتصرا على القصة الآخرة، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب الجهاد.

(8/727)


سورة العاديات والقارعة
...
100- سُورَةُ وَالْعَادِيَاتِ والقارعة
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْكَنُودُ الْكَفُورُ يُقَالُ {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} رَفَعْنَا بِهِ غُبَارًا {لِحُبِّ الْخَيْرِ} مِنْ أَجْلِ حُبِّ الْخَيْرِ {لَشَدِيدٌ} لَبَخِيلٌ وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ شَدِيدٌ حُصِّلَ مُيِّزَ
قوله: "والعاديات والقارعة" كذا لأبي ذر، ولغيره: "والعاديات" حسب، والمراد بالعاديات الخيل، وقيل الإبل. قوله: "وقال مجاهد: الكنود الكفور" وصله الفريابي عن مجاهد بهذا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مثله، ويقال إنه بلسان قريش الكفور وبلسان كنانة البخيل وبلسان كندة العاصي، وروى الطبراني من حديث أبي أمامة رفعه: "الكنود الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده ". قوله: "يقال فأثرن به نقعا رفعن به غبارا" هو قول أبي عبيدة والمعنى أن الخيل التي أغارت صباحا أثرن به غبارا. والضمير في" به" للصبح، أي أثرن به وقت الصبح. وقيل للمكان، وهو وإن لم يجر له ذكر لكن دلت عليه الإثارة. وقيل الضمير للعدو الذي دلت عليه العاديات. وعند البزار والحاكم من حديث ابن عباس قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا فلبثت شهرا لا يأتيه خبرها، فنزلت: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} ضبحت بأرجلها {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} قدحت الحجارة فأورت بحوافرها {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً} صبحت القوم بغارة {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} التراب {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} صبحت القوم جميعا" وفي إسناده ضعف، وهو مخالف لما روى ابن مردويه بإسناد أحسن منه عن ابن عباس قال: "سألني رجل عن العاديات فقلت: الخيل، قال فذهب إلى علي فسأله فأخبره بما قلت، فدعاني فقال لي: إنما العاديات الإبل من عرفة إلى مزدلفة" الحديث. وعند سعيد بن منصور من طريق حارثة بن مضرب قال:

(8/727)


101- سُورَةُ الْقَارِعَةِ
{كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } كَغَوْغَاءِ الْجَرَادِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَذَلِكَ النَّاسُ يَجُولُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ {كَالْعِهْنِ} كَأَلْوَانِ الْعِهْنِ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ كَالصُّوفِ
قوله: "سورة القارعة" كذا لغير أبي ذر، واكتفى بذكرها مع التي قبلها. قوله: {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضا. كذلك الناس يجول بعضهم في بعض" هو كلام الفراء، قال في قوله {كَالْفَرَاشِ} يريد كغوغاء الجراد إلخ. وقال أبو عبيدة: الفراش طير لا ذباب ولا بعوض، والمبثوث المتفرق، وحمل الفراش على حقيقته أولى، والعرب تشبه بالفراش كثيرا كقول جرير:
إن الفرزدق ما علمت وقومه ... مثل الفراش غشين نار المصطلى
وصفهم بالحرص والتهافت: وفي تشبيه الناس يوم البعث بالفراش مناسبات كثيرة بليغة، كالطيش والانتشار والكثرة والضعف والذلة والمجيء بغير رجوع والقصد إلى الداعي والإسراع وركوب بعضهم بعضا والتطاير إلى النار. قوله: "كالعهن كألوان العهن" سقط هذا لأبي ذر، وهو قول الفراء قال: كالعهن لأن ألوانها مختلفة كالعهن وهو الصوف. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة قال: كالعهن كالصوف. قوله: "وقرأ عبد الله كالصوف" سقط هذا لأبي ذر. وهو بقية كلام الفراء، قال: في قراءة عبد الله - يعني ابن مسعود "كالصوف المنفوش" .

(8/728)


102- سُورَةُ {أَلْهَاكُمْ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {التَّكَاثُرُ} مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ
قوله: "سورة {أَلْهَاكُمْ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" كذا لأبي ذر، ويقال لها سورة التكاثر. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن أبي هلال قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمونها المقبرة. قوله: "وقال ابن عباس: التكاثر من الأموال والأولاد" وصله ابن المنذر من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس.
" تنبيه " لم يذكر في هذه السورة حديثا مرفوعا وسيأتي في الرقاق من حديث أبي بن كعب ما يدخل فيها

(8/728)


103- سُورَةُ {وَالْعَصْرِ}
وَقَالَ يَحْيَى: "الْعَصْرُ" الدَّهْرُ، أَقْسَمَ بِهِ

(8/728)


104- سُورَةُ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْحُطَمَةُ} اسْمُ النَّارِ مِثْلُ سَقَرَ وَ لَظَى
قوله: "سورة {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" كذا لأبي ذر، ويقال لها أيضا سورة الهمزة، والمراد الكثير الهمز، وكذا اللمز. وأخرج سعيد بن منصور من حديث ابن عباس أنه سئل عن الهمزة قال: المشاء بالنميمة، المفرق بين الإخوان. قوله: "الحطمة اسم النار، مثل سقر ولظى" هو قول الفراء، قال في قوله: {لَيُنْبَذَنَّ} أي الرجل وماله، "في الحطمة" اسم من أسماء النار، كقوله جهنم وسقر ولظى.
وقال أبو عبيدة: يقال للرجل الأكول حطمة، أي الكثير الحطم.

(8/729)


105- سُورَةُ {أَلَمْ تَرَ}
قال مجاهد: {أَلَمْ تَرَ} أَلَمْ تَعْلَمْ. وقَالَ مُجَاهِدٌ {أَبَابِيلَ} مُتَتَابِعَةً مُجْتَمِعَةً وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {مِنْ سِجِّيلٍ} هِيَ سَنْكِ وَكِلْ
قوله: "سورة {أَلَمْ تَرَ} "كذا لهم، ويقال لها أيضا سورة الفيل. قوله: "ألم تر ألم تعلم" كذا لغير أبي ذر. وللمستملي ألم تر. قال مجاهد: ألم تر ألم تعلم، والصواب الأول فإنه ليس من تفسير مجاهد. وقال الفراء: ألم تخبر عن الحبشة والفيل، وإنما قال ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم يدرك قصة أصحاب الفيل لأنه ولد في تلك السنة. قوله: "أبابيل: متتابعة مجتمعة" وصله الفريابي عن مجاهد في قوله أبابيل قال: شتى متتابعة. وقال الفراء: لا واحد لها. وقيل: واحدها أبالة بالتخفيف، وقيل بالتشديد، وقيل أبول كعجول وعجاجيل. قوله: "وقال ابن عباس: من سجيل هي سنك وكل" وصله الطبري من طريق السدي عن عكرمة عن ابن عباس قال: سنك وكل، طين وحجارة. وقد تقدم في تفسير سورة هود، ووصله ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه جرير بن حازم عن يعلى بن حكيم عن عكرمة، وروى الطبري من طريق عبد الرحمن بن سابط قال: هي بالأعجمية سنك وكل. ومن طريق حصين عن عكرمة قال: كانت ترميهم بحجارة معها نار، قال: فإذا أصابت أحدهم خرج به الجدري، وكان أول يوم رئي فيه الجدري.

(8/729)


106- سُورَةُ {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لإِيلاَفِ} أَلِفُوا ذَلِكَ فَلاَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَ {آمَنَهُمْ} مِنْ كُلِّ عَدُوِّهِمْ فِي حَرَمِهِمْ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لإِيلاَفِ لِنِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ
قوله: سورة لإِيلاف" قيل اللام متعلقة بالقصة التي في السورة التي قبلها ويؤيده أنهما في مصحف أبي بن كعب سورة واحدة. وقيل متعلقة بشيء مقدر أي أعجب لنعمتي على قريش. قوله: "وقال مجاهد: لإيلاف ألفوا ذلك فلا يشق عليهم في الشتاء والصيف، وآمنهم من خوف قال: من كل عدو في حرمهم" وأخرج ابن مردويه من أوله إلى قوله والصيف من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس. قوله: "وقال ابن عيينة لإيلاف: لنعمتي على قريش" هو كذلك في تفسير ابن عيينة رواية سعيد بن عبد الرحمن عنه، ولابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله. "تنبيهان" الأول قرأ الجمهور لإيلاف بإثبات الياء إلا ابن عامر فحذفها، واتفقوا على إثباتها في قوله: {إِيلافِهِمْ} إلا في رواية عن ابن عامر فكالأول، وفي أخرى عن ابن كثير بحذف الأولى التي بعد اللام أيضا.
وقال الخليل بن أحمد: دخلت الفاء في قوله: {فَلْيَعْبُدُوا} لما في السياق من معنى الشرط، أي فإن لم يعبدوا رب هذا البيت لنعمته السالفة فليعبدوه للائتلاف المذكور. الثاني لم يذكر في هذه السورة ولا التي قبلها حديثا مرفوعا، فأما سورة الهمزة ففي صحيح ابن حبان من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يحسب أن ماله أخلده" يعني بفتح السين وأما سورة الفيل ففيها من حديث المسور الطويل في صلح الحديبية. قوله: "حبسها حابس الفيل" قد تقدم شرحه مستوفى في الشروط، وفيها حديث ابن عباس مرفوعا: "إن الله حبس عن مكة الفيل" الحديث. وأما هذه السورة فلم أر فيها حديثا مرفوعا صحيحا.

(8/730)


107- سُورَةُ {أَرَأَيْتَ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يَدُعُّ} يَدْفَعُ عَنْ حَقِّهِ يُقَالُ هُوَ مِنْ دَعَعْتُ يُدَعُّونَ يُدْفَعُونَ سَاهُونَ لاَهُونَ وَ {الْمَاعُونَ} الْمَعْرُوفَ كُلُّهُ وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ الْمَاعُونُ الْمَاءُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَعْلاَهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَأَدْنَاهَا عَارِيَّةُ الْمَتَاعِ
قوله: "سورة {أَرَأَيْتَ} " كذا لهم، ويقال لها أيضا سورة الماعون. قال الفراء: قرأ ابن مسعود "أرأيتك الذي يكذب" قال: والكاف صلة، والمعنى في إثباتها وحذفها لا يختلف، كذا قال، لكن التي بإثبات الكاف قد تكون بمعنى أخبرني، والتي بحذفها الظاهر أنها من رؤية البصر. قوله: "وقال مجاهد: يدع يدفع عن حقه، يقال هو من دععت، يدعون يدفعون" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ} أي يدفعون، يقال دععت في قفاه أي دفعت. وفي رواية أخرى {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} قال وقال بعضهم: يدع اليتيم مخففة، قلت: وهي قراءة الحسن وأبي رجاء ونقل عن علي أيضا. وأخرج الطبري من طريق مجاهد قال: يدع يدفع اليتيم عن حقه. وفي قوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} قال: يدفعون. قوله: "ساهون لاهون" وصله الطبري أيضا من طريق مجاهد في قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} . قال: لاهون. وقال الفراء كذلك فسرها ابن عباس، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، وجاء ذلك في حديث أخرجه عبد الرزاق وابن مردويه من رواية مصعب بن سعد عن أبيه أنه سأله

(8/730)


عن هذه الآية قال: أو ليس كنا نفعل ذلك، الساهي هو الذي يصليها لغير وقتها. قوله: "والماعون المعروف كله. وقال بعض العرب: الماعون الماء. وقال عكرمة: أعلاها الزكاة المفروضة وأدناها عارية المتاع" أما القول الأول فقال الفراء قال بعضهم: أن الماعون المعروف كله، حتى ذكر القصعة والدلو والفأس ولعله أراد ابن مسعود فإن الطبري أخرج من طريق سلمة بن كهيل عن أبي المغيرة سأل رجل ابن عمر عن الماعون، قال: المال الذي لا يؤدى حقه. قال قلت: إن ابن مسعود يقول هو المتاع الذي يتعاطاه الناس بينهم، قال: هو ما أقول لك. وأخرجه الحاكم أيضا وزاد في رواية أخرى عن ابن مسعود: هو الدلو والقدر والفأس. وكذا أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن مسعود بلفظ: "كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر" وإسناده صحيح إلى ابن مسعود. وأخرجه البزار والطبراني من حديث ابن مسعود مرفوعا صريحا. وأخرج الطبراني من حديث أم عطية قالت: ما يتعاطاه الناس بينهم. وأما القول الثاني فقال الفراء سمعت بعض العرب يقول: الماعون هو الماء، وأنشد "يصب صبيرة الماعون صبا" . قلت: وهذا يمكن تأويله وصبيرة جبل باليمن معروف وهو بفتح المهملة وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة وآخره راء، وأما قول عكرمة فوصله سعيد بن منصور بإسناد إليه باللفظ المذكور. وأخرج الطبري والحاكم من طريق مجاهد عن على مثله.
" تنبيه " لم يذكر المصنف في تفسير هذه السورة حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث ابن مسعود المذكور قبل.

(8/731)


108- سُورَةُ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَانِئَكَ عَدُوَّكَ
1- باب 4964- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: "أَتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفاً فَقُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا الْكَوْثَر"
4965- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَتْ نَهَرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُوم" رَوَاهُ زَكَرِيَّاءُ وَأَبُو الأَحْوَصِ وَمُطَرِّفٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
4966- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ قَالَ أَبُو بِشْرٍ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ سَعِيدٌ النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاه"
[الحديث 4966- طرفه في: 6578]
قوله: "سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} "هي سورة الكوثر. وقد قرأ ابن محيصن إنا أنطيناك الكوثر بالنون، وكذا قرأها طلحة بن مصرف. والكوثر فوعل من الكثرة سمي بها النهر لكثرة مائه وآنيته وعظم قدره وخيره.

(8/731)


قوله: {شَانِئَكَ} عدوك في رواية المستملي: وقال ابن عباس. وقد وصله ابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كذلك. واختلف الناقلون في تعيين الشانئ المذكور فقيل هو العاصي بن وائل، وقيل أبو جهل، وقيل عقبة بن أبي معيط. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: الأول حديث أنس وقد تقدم شرحه في أوائل المبعث في قصة الإسراء في أواخرها، ويأتي بأوضح من ذلك في أواخر كتاب الرقاق. وقوله: "لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر. هكذا اقتصر على بعضه. وساقه البيهقي من طريق إبراهيم بن الحسن عن آدم شيخ البخاري فيه فزاد بعد قوله الكوثر" والذي أعطاك ربك، فأهوى الملك بيده فاستخرج من طينه مسكا أذفر" وأورده البخاري بهذه الزيادة في الرقاق من طريق همام عن أبي هريرة. الثاني حديث عائشة، وأبو عبيدة رواية عنها هو ابن عبد الله بن مسعود. قوله: "عن عائشة قال سألتها" في رواية النسائي: "قلت لعائشة" . قوله: "عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} " في رواية النسائي: "ماء الكوثر" . قوله: "هو نهر أعطيه نبيكم" زاد النسائي: "في بطنان الجنة. قلت ما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها" انتهى. وبطنان بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون، ووسط بفتح المهملة والمراد به أعلاها أي أرفعها قدرا، أو المراد أعدلها. قوله: "شاطئاه" أي حافتاه. قوله: "در مجوف" أي القباب التي على جوانبه. قوله: "رواه زكريا وأبو الأحوص ومطرف عن أبي إسحاق" أما زكريا فهو ابن أبي زائدة، وروايته عند علي ابن المديني عن يحيى بن زكريا عن أبيه، ولفظه قريب من لفظ أبي الأحوص. وأما رواية أبي الأحوص وهو سلام ابن سليم فوصلها أبو بكر بن أبي شيبة عنه ولفظه: "الكوثر نهر بفناء الجنة شاطئاه در مجوف؛ وفيه من الأباريق عدد النجوم" وأما رواية مطرف وهو ابن طريف بالطاء المهملة فوصلها النسائي من طريقه، وقد بينت ما فيها من زيادة. حديث ابن عباس من رواية أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه أنه قال في الكوثر" هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال قلت لسعيد بن جبير عنه أنه قال في الكوثر: فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه" . هذا تأويل من سعيد بن جبير جمع به بين حديثي عائشة وابن عباس، وكأن الناس الذين عناهم أبو بشر أبو إسحاق وقتادة ونحوهما ممن روي ذلك صريحا أن الكوثر هو النهر، وقد أخرج الترمذي من طريق ابن عمر رفعه: "الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت" الحديث قال: إنه حسن صحيح. وفي صحيح مسلم من طريق المختار بن فلفل عن أنس "بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ غفا إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت على سورة. فقرأ. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. إنا أعطيناك الكوثر} إلى آخرها، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة" الحديث. وحاصل ما قاله سعيد بن جبير أن قول ابن عباس إنه الخير الكثير لا يخالف قول غيره إن المراد به نهر في الجنة، لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير، ولعل سعيدا أومأ إلى أن تأويل ابن عباس أولى لعمومه، لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فلا معدل عنه. وقد نقل المفسرون في الكوثر أقوالا أخرى غير هذين تزيد على العشرة، منها قول عكرمة: الكوثر النبوة، وقول الحسن: الكوثر القرآن، وقيل تفسيره، وقيل الإسلام، وقيل إنه التوحيد، وقيل كثرة الأتباع، وقيل الإيثار، وقيل رفعة الذكر، وقيل نور القلب، وقيل الشفاعة،

(8/732)


وقيل المعجزات؛ وقيل إجابة الدعاء، وقيل الفقه في الدين، وقيل الصلوات الخمس. وسيأتي مزيد بسط في أمر الكوثر وهل الحوض النبوي هو أو غيره في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(8/733)


109- سُورَةُ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
يُقَالُ {لَكُمْ دِينُكُمْ} الْكُفْرُ {وَلِيَ دِينِ} الإِسْلاَمُ وَلَمْ يَقُلْ دِينِي لأَنَّ الآيَاتِ بِالنُّونِ فَحُذِفَتْ الْيَاءُ كَمَا قَالَ يَهْدِينِ وَ يَشْفِينِ وَقَالَ غَيْرُهُ {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الْآنَ وَلاَ أُجِيبُكُمْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي {وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}
قوله: "سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} "وهي سورة الكافرين، ويقال لها أيضا المقشقشة أي المبرئة من النفاق. قوله: "يقال لكم دينكم الكفر، ولي دين الإسلام. ولم يقل ديني لأن الآيات بالنون فحذفت الياء كما فال يهدين ويشفين" هو كلام الفراء بلفظه. قوله: "وقال غيره: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلخ" سقط "وقال غيره:"لأبي ذر والصواب إثباته لأنه ليس من بقية كلام الفراء بل هو كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ": كأنهم دعوه إلى أن يعبد آلهتهم ويعبدون إلهه فقال: لا أعبد ما تعبدون في الجاهلية، ولا أنتم عابدون ما أعبد في الجاهلية والإسلام، ولا أنا عابد ما عبدتم الآن، أي لا أعبد الآن ما تعبدون ولا أجيبكم فيما بقي أن أعبد ما تعبدون وتعبدون ما أعبد انتهى. وقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس قال: "قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: كف عن آلهتنا فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فنزلت وفي إسناده أبو خلف عبد الله بن عيسى، وهو ضعيف.
" تنبيه " لم يورد في هذه السورة حديثا مرفوعا، ويدخل فيها حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد" أخرجه مسلم، وقد ألزمه الإسماعيلي بذلك حيث قال في تفسير والتين والزيتون لما أورد البخاري حديث البراء "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بها في العشاء" قال الإسماعيلي: ليس لإيراد هذا معنى هنا، وإلا للزمه أن يورد كل حديث وردت فيه قراءته لسورة مسماة في تفسير تلك السورة.

(8/733)


سورة {إذا جاء نصر الله والفتح}
...
110- سُورَةُ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1- باب 4967- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلاَّ يَقُولُ فِيهَا: "سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي"
2- باب 4968- حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن.

(8/733)


باب {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا}
...
3- باب قَوْلُهُ {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}
4969- حدثنا عبد الله بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن بن عباس ثم أن عمر رضي الله عنه سألهم عن قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قالوا فتح المدائن والقصور قال ما تقول يا بن عباس قال أجل أو مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت له نفسه"
قوله: "باب قوله {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} "ذكر فيه حديث ابن عباس أن عمر سألهم عن قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وسأذكر شرحه في الباب الذي يليه.

(8/734)


4- باب قَوْلُهُ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}
تَوَّابٌ عَلَى الْعِبَادِ وَالتَّوَّابُ مِنْ النَّاسِ التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ
4970- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ

(8/734)


111- سُورَةُ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تباب: خسران، تتبيب: تدمير.

(8/736)


1- باب 4971- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وَرَهْطَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ: "يَا صَبَاحَاهْ" فَقَالُوا مَنْ هَذَا فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ قَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلاَّ لِهَذَا ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وَقَدْ تَبَّ هَكَذَا قَرَأَهَا الأَعْمَشُ يَوْمَئِذ"
قوله: "سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. وأبو لهب هو ابن عبد المطلب واسمه عبد العزى. وأمه خزاعية. وكني أبا لهب إما بابنه لهب، وإما بشدة حمرة وجنته. وقد أخرج الفاكهي من طريق عبد الله بن كثير قال: إنما سمي أبا لهب لأن وجهه كان يتلهب من حسنه انتهى. ووافق ذلك ما آل إليه أمره من أنه سيصلى نارا ذات لهب، ولهذا ذكر في القرآن بكنيته دون اسمه، ولكونه بها أشهر، ولأن في اسمه إضافة إلى الصنم. ولا حجة فيه لمن قال بجواز تكنية المشرك على الإطلاق، بل محل الجواز إذا لم يقتض ذلك التعظيم له أودعت الحاجة إليه. قال الواقدي: كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان السبب في ذلك أن أبا طالب لاحى أبا لهب فقعد أبو لهب على صدر أبي طالب فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بضبعي أبي لهب فضرب به الأرض، فقال له أبو لهب: كلانا عمك، فلم فعلت بي هذا؟ والله لا يحبك قلبي أبدا. وذلك قبل النبوة. وقال له إخوته لما مات أبو طالب: لو عضدت ابن أخيك لكنت أولى الناس بذلك. ولقيه فسأله عمن مضى من آبائه فقال: إنهم كانوا على غير دين، فغضب، وتمادى على عداوته. ومات أبو لهب بعد وقعة بدر، ولم يحضرها بل أرسل عنه بديلا، فلما بلغه ما جرى لقريش مات غما. قوله: {وَتَبَّ} : خسر. تباب: خسران "وقع في رواية ابن مردويه في حديث الباب من وجه آخر عن الأعمش في آخر الحديث قال: "فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ، قال يقول: خسر وتب" أي خسر وما كسب يعني ولده "وقال أبو عبيدة في قوله: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} قال: في هلكة. قوله: "تتبيب تدمير" قال أبو عبيدة في قوله: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي تدمير وإهلاك. قوله: "عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين" كذا وقع في رواية أبي أسامة عن الأعمش، وقد تقدم البحث فيه في تفسير سورة الشعراء مع بقية مباحث هذا الحديث وفوائده.

(8/737)


2- باب {وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}
4972- حدثنا محمد بن سلام أخبرنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد إلى الجبل فنادى: "يا صباحاه" فاجتمعت إليه قريش فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقونني قالوا نعم قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب ألهذا جمعتنا تبا لك فأنزل الله عز وجل {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخرها"

(8/737)


قوله: "باب قوله {وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} "ذكر فيه الحديث الذي قبله من وجه آخر. وقوله فيه: "فهتف" أي صاح. وقوله: "يا صباحاه" أي هجموا عليكم صباحا.

(8/738)


3- باب قَوْلُهُ {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}
قوله: "باب قوله {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} "ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور مختصرا، مقتصرا على قوله: "قال أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا، فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} "وقد قدمت أن عادة المصنف غالبا إذا كان للحديث طرق أن لا يجمعها في باب واحد، بل يجعل لكل طريق ترجمة تليق به، وقد يترجم بما يشتمل عليه الحديث وإن لم يسقه في ذلك الباب اكتفاء بالإشارة، وهذا من ذلك.

(8/738)


4- باب قَوْلِهِ {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {حَمَّالَةُ الْحَطَبِ} تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} يُقَالُ مِنْ مَسَدٍ لِيفِ الْمُقْلِ وَهِيَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي فِي النَّارِ
قوله: "باب {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} " قال أبو عبيدة: كان عيسى بن عمر يقرأ: {حَمَّالَةُ الْحَطَبِ} " بالنصب ويقول هو ذم لها. قلت: وقرأها بالنصب أيضا من الكوفيين عاصم. واسم امرأة أبي لهب العوراء وتكنى أم جميل، وهي بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان والد معاوية، وتقدم لها ذكر في تفسير والضحى، يقال إن اسمها أروى والعوراء لقب، ويقال لم تكن عوراء وإنما قيل لها ذلك لجمالها. وروى البزار بإسناد حسن عن ابن عباس قال: "لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} جاءت امرأة أبي لهب، فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو تنحيت، قال: " إنه سيحال بيني وبينها" ، فأقبلت فقالت: يا أبا بكر هجاني صاحبك، قال: لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يفوه به. قالت: إنك لمصدق. فلما ولت قال أبو بكر: ما رأتك. قال: "ما زال ملك يسترني حتى ولت" . وأخرجه الحميدي وأبو يعلى وابن أبي حاتم من حديث أسماء بنت أبي بكر بنحوه. وللحاكم من حديث زيد بن أرقم" لما {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} قيل لامرأة أبي لهب: إن محمدا هجاك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هل رأيتني أحمل حطبا، أو رأيت في جيدي حبلا" . قوله: "وقال مجاهد: حمالة الحطب تمشي بالنميمة" وصله الفريابي عنه. وأخرج سعيد بن منصور من طريق محمد بن سيرين قال: كانت امرأة أبي لهب تنم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المشركين. وقال الفراء: كانت تنم فتحرش فتوقد بينهم العداوة، فكنى عن ذلك بحملها الحطب. قوله: "في جيدها حبل من مسد يقال من مسد ليف المقل، وهي السلسلة التي في النار" قلت هما قولان حكاهما الفراء في قوله تعالى: {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قال: هي السلسلة التي في النار، ويقال المسد ليف المقل. وأخرج الفريابي من طريق مجاهد قال في قوله: {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قال: من حديد. قال أبو عبيدة. في عنقها حبل من نار، والمسد عند العرب حبال من ضروب.

(8/738)


112- سُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُقَالُ لاَ يُنَوَّنُ {أَحَدٌ} أَيْ وَاحِدٌ
1- باب 4974- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ"
قوله: "سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" ويقال لها أيضا سورة الإخلاص، وجاء في سبب نزولها من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب "إن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فنزلت. أخرجه الترمذي والطبري وفي آخره قال: "لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ولا شيء يموت إلا يورث، وربنا لا يموت ولا يورث ولم يكن له كفوا أحد، شبه ولا عدل" وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن أبي العالية مرسلا وقال: هذا أصح، وصحح الموصول ابن خزيمة والحاكم، وله شاهد من حديث جابر عند أبي يعلى والطبري والطبراني في الأوسط. قوله: "يقال لا ينون أحد أي واحد" كذا اختصره، والذي قاله أبو عبيدة: الله أحد لا ينون، كفوا أحد أى واحد انتهى. وهمزة أحد بدل من واو لأنه من الوحدة، وهذا بخلاف أحد المراد به العموم فإن همزته أصلية. وقال الفراء: الذي قرأ بغير تنوين يقول النون نون إعراب إذا استقبلتها الألف واللام حذفت، وليس ذلك بلازم انتهى. وقرأها بغير تنوين أيضا نصر بن عاصم ويحيى بن أبي إسحاق، ورويت عن أبي عمرو أيضا، وهو كقول الشاعر "عمرو العلى هشم الثريد لقومه" الأبيات. وقول الآخر "ولا ذاكر الله إلا قليلا" وهذا معنى قول الفراء" إذا استقبلها" أي إذا أتت بعدها. وأغرب الداودي فقال: إنما حذف التنوين لالتقاء الساكنين وهي لغة. كذا قال. قوله: "حدثنا أبو الزناد" لشعيب بن أبي حمزة فيه إسناد آخر أخرجه المصنف من حديث ابن عباس كما تقدم في تفسير سورة البقرة. قوله: "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى" تقدم في بدء الخلق من رواية سفيان الثوري عن أبي الزناد بلفظ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أراه يقول الله عز وجل" والشك فيه من المصنف فيما أحسب. قوله: "قال الله تعالى كذبني ابن آدم" سأذكر شرحه في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى.

(8/739)


باب {الله الصمد}
...
2 - باب قَوْلُهُ {اللَّهُ الصَّمَدُ}
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَشْرَافَهَا {الصَّمَدَ} قَالَ أَبُو وَائِلٍ هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُودَدُهُ
4975- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ إِنِّي لَنْ أُعِيدَهُ كَمَا بَدَأْتُهُ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُؤًا أَحَدٌ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤًا أَحَدٌ}كُفُؤًا وَكَفِيئًا وَكِفَاءً وَاحِدٌ"

(8/739)


قوله: "باب قوله {اللَّهُ الصَّمَدُ} "ثبتت هذه الترجمة لأبي ذر. قوله: "والعرب تسمى أشرافها الصمد". وقال أبو عبيدة الصمد السيد الذي يصمد إليه ليس فوقه أحد، فعلى هذا هو فعل بفتحتين بمعنى مفعول، ومن ذلك قول الشاعر:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
قوله: "قال أبو وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده" ثبت هذا للنسفي هنا، وقد وصله الفريابي طريق الأعمش عنه، وجاء أيضا من طريق عاصم عن أبي وائل فوصله بذكر ابن مسعود فيه. قوله: "حدثنا إسحاق بن منصور" كذا للجميع، قال المزي في "الأطراف" : في بعض النسخ "حدثنا إسحاق بن نصر" قلت: وهي رواية النسفي، وهما مشهوران من شيوخ البخاري ممن حدثه عن عبد الرزاق. قوله: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك" في رواية أحمد عن عبد الرزاق "كذبني عبدي" . قوله: "وشتمني ولم يكن له ذلك" ثبت هنا في رواية الكشميهني، وكذا هو عند أحمد، وسقط بقية الرواة عن الفربري وكذا النسفي، والمراد به بعض بني آدم، وهم من أنكر البعث من العرب وغيرهم من عباد الأوثان والدهرية ومن ادعى أن لله ولدا من العرب أيضا ومن اليهود والنصارى. قوله: "أما تكذيبه إياي أن يقول إني لن أعيده كما بدأته" كذا لهم بحذف الفاء في جواب "أما" وقد وقع في رواية الأعرج في الباب الذي قبله "فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني" وفي رواية أحمد "أن يقول فليعيدنا كما بدأنا" وهي من شواهد ورود صيغة أفعل بمعنى التكذيب، ومثله قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} ، وقع في رواية الأعرج في الباب قبله "وليس بأول الخلق بأهون من إعادته" وقد تقدم الكلام على لفظ: "أهون" في بدء الخلق وقول من قال إنها بمعنى هين وغير ذلك من الأوجه. قوله: "وأنا الصمد الذي لم ألد ولم أولد" في رواية الأعرج "وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد" قوله: {ولم يكن لي كفوا أحد} كذا للأكثر، وهو وزان ما قبله. ووقع للكشميهني: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ} وهو التفات، وكذا في رواية الأعرج "ولم يكن لي" بعد قوله: "لم يلد" وهو التفات أيضا. ولما كان الرب سبحانه واجب الوجود لذاته قديما موجودا قبل وجود الأشياء وكان كل مولود محدثا انتفت عنه الوالدية، ولما كان لا يشبهه أحد من خلقه ولا يجانسه حتى يكون له من جنسه صاحبة فتتوالد انتفت عنه الولدية، ومن هذا قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} وقد تقدم في تفسير البقرة حديث ابن عباس بمعنى حديث أبي هريرة هذا، لكن قال في آخره: "فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا" بدل قوله: "وأنا الأحد الصمد إلخ" وهو محمول على أن كلا من الصحابيين حفظ في آخره ما لم يحفظ الآخر. ويؤخذ منه أن من نسب غيره إلى أمر لا يليق به يطلق عليه أنه شتمه، وسبق في كتاب بدء الخلق تقرير ذلك. قوله: "كفوا وكفيئا وكفاء واحد" أي بمعنى واحد وهو قول أبي عبيدة، والأول بضمتين والثاني بفتح الكاف وكسر الفاء بعدها تحتانية ثم الهمزة والثالث بكسر الكاف ثم المد. وقال الفراء: كفوا يثقل ويخفف، أي يضم ويسكن. قلت: وبالضم قرأ الجمهور، وفتح حفص الواو بغير همز. وبالسكون قرأ حمزة وبهمز في الوصل ويبدلها واوا في الوقف، ومراد أبي عبيدة أنها لغات لا قراءات نعم روي في الشواذ عن سليمان بن علي العباسي أنه قرأ بكسر ثم مد، وروي عن نافع مثله لكن بغير مد. ومعنى الآية أنه لم يماثله أحد ولم يشاكله، أو المراد نفي الكفاءة في النكاح نفيا للمصاحبة، والأول أولى، فإن سياق الكلام لنفي المكافأة عن ذاته تعالى.

(8/740)


113- سُورَةُ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الْفَلَقُ} الصُّبْحُ وَ {غَاسِقٍ} اللَّيْلُ {إِذَا وَقَبَ} غُرُوبُ الشَّمْسِ يُقَالُ أَبْيَنُ مِنْ فَرَقِ وَفَلَقِ الصُّبْحِ وَقَبَ إِذَا دَخَلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَظْلَمَ
4976- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ وَعَبْدَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنْ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "قِيلَ لِي" فَقُلْتُ فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
[الحديث 4976-طرفه في: 4977]
قوله: "سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر، وتسمى أيضا سورة الفلق. قوله: "وقال مجاهد: الفلق الصبح" وصله الفريابي من طريقه، وكذا قال أبو عبيدة. قوله: "وغاسق الليل إذا وقب غروب الشمس" وصله الطبري من طريق مجاهد بلفظ: "غاسق إذا وقب الليل إذا دخل" . قوله: "يقال أبين من فرق وفلق الصبح" هو قول الفراء ولفظه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق الصبح، وهو أبين من فلق الصبح وفرق الصبح" . قوله: "وقب إذا دخل في كل شيء وأظلم" هو كلام الفراء أيضا، وجاء في حديث مرفوع أن الغاسق القمر، أخرجه الترمذي والحاكم من طريق أبي سلمة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، قال: هذا الغاسق إذا وقب " إسناده حسن. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "عاصم" هو ابن بهدلة. القارئ وهو ابن أبي النجود. قوله: "وعبدة" هو ابن أبي لبابة بموحدتين الثانية خفيفة وضم أوله. قوله: "سألت أبي بن كعب" سيأتي في تفسير السورة التي بعدها بأتم من هذا السياق ويشرح ثم إن شاء الله تعالى.

(8/741)


114- سُورَةُ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . وقال ابْنِ عَبَّاسٍ:
الْوَسْوَاسِ إِذَا وُلِدَ خَنَسَهُ الشَّيْطَانُ فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَهَبَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ ثَبَتَ عَلَى قَلْبِهِ
4977- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ ح وَحَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ زِرٍّ قَالَ سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ أُبَيٌّ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: " قِيلَ لِي" فَقُلْتُ قَالَ فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} "وتسمى سورة الناس. قوله: "وقال ابن عباس: الوسواس إذا ولد خنسه الشيطان، فإذا ذكر الله عز وجل ذهب، وإذا لم يذكر الله ثبت على قلبه" كذا لأبي ذر، ولغيره: ويذكر عن ابن عباس، وكأنه أولى لأن إسناده إلى ابن عباس ضعيف، أخرجه الطبري والحاكم وفي إسناده حكيم بن جبير وهو ضعيف ولفظه: "ما من مولود إلا على قلبه الوسواس فإذا عمل فذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس" ورويناه في الذكر لجعفر بن أحمد بن فارس من وجه آخر عن ابن عباس، وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وفيه مقال ولفظه: "يحط الشيطان فاه على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس" وأخرجه سعيد بن منصور من

(8/741)


وجه آخر عن ابن عباس ولفظه: "يولد الإنسان والشيطان جاثم على قلبه، فإذا عقل وذكر اسم الله خنس، وإذا غفل وسوس" وجاثم بجيم ومثلثة، وعقل الأولى بمهملة وقاف والثانية بمعجمة وفاء. ولأبي يعلى من حديث أنس نحوه مرفوعا وإسناده ضعيف، ولسعيد بن منصور من طريق عروة بن رويم قال: سأل عيسى عليه السلام ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم فأراه، فإذا رأسه مثل رأس الحية، واضع رأسه على ثمرة القلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس. وإذا ترك مناه وحدثه. قال ابن التين ينظر في قوله خنسه الشيطان فإن المعروف في اللغة خنس إذا رجع وانقبض. وقال عياض: كذا في جميع الروايات وهو تصحيف وتغيير، ولعله كان فيه نخسه أي بنون ثم خاء معجمة ثم سين مهملة مفتوحات، لما جاء في حديث أبي هريرة - يعني الماضي في ترجمة عيسى عليه السلام - قال: لكن اللفظ المروي عن ابن عباس ليس فيه نخس، فلعل البخاري أشار إلى الحديثين معا، كذا قال وادعى فيه التصحيف، ثم فرع على ما ظنه من أنه نخس، والتفريع ليس بصحيح لأنه لو أشار إلى حديث أبي هريرة لم يخص الحديث بابن عباس، ولعل الرواية التي وقعت له باللفظ المذكور، وتوجيهه ظاهر، ومعنى يخنسه يقبضه أي يقبض عليه، وهو بمعنى قوله في الروايتين اللتين ذكرناهما عن ابن فارس وسعيد بن منصور، وقد أخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس قال: الوسواس هو الشيطان، يولد المولود والوسواس على قلبه فهو يصرفه حيث شاء، فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل جثم على قلبه فوسوس. وقال الصغاني: الأولى خنسه مكان يخنسه قال: فإن سلمت اللفظة من التصحيف فالمعنى أخره وأزاله عن مكانه لشدة نخسه وطعنه بإصبعه. قوله: "حدثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش، وحدثنا عاصم عن زر "القائل" وحدثنا عاصم" هو سفيان، وكأنه كان يجمعهما تارة ويفردهما أخرى وقد قدمت أن في رواية الحميدي التصريح بسماع عبدة وعاصم له من زر. قوله: "سألت أبي كعب قلت أبا المنذر" هي كنية أبي بن كعب، وله كنية أخرى أبو الطفيل. قوله: "يقول كذا وكذا" هكذا وقع هذا اللفظ مبهما، وكأن بعض الرواة أبهمه استعظاما له. وأظن ذلك من سفيان فإن الإسماعيلي أخرجه من طريقي عبد الجبار بن العلاء عن سفيان كذلك على الإبهام، كنت أظن أولا أن الذي أبهمه البخاري لأنني رأيت التصريح به في رواية أحمد عن سفيان ولفظه: "قلت لأبي إن أخاك يحكها من المصحف" وكذا أخرجه الحميدي عن سفيان ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج" وكأن سفيان كان تارة يصرح بذلك وتارة يبهمه. وقد أخرجه أحمد أيضا وابن حبان من رواية حماد بن سلمة عن عاصم بلفظ: "إن عبد الله بن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه" وأخرج أحمد عن أبي بكر بن عياش عن عاصم بلفظ: "إن عبد الله يقول في المعوذتين" وهذا أيضا فيه إبهام، وقد أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال: "كان عبد الله بن مسعود يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول إنهما ليستا من كتاب الله. قال الأعمش: وقد حدثنا عاصم عن زر عن أبي بن كعب فذكر نحو حديث قتيبة الذي في الباب الماضي، وقد أخرجه البزار وفي آخره يقول: "إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما" قال البزار. ولم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأهما في الصلاة. قلت: هو في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر وزاد فيه ابن حبان من وجه آخر عن عقبة بن عامر "فإن استطعت أن لا تفوتك قراءتهما في صلاة فافعل" وأخرج أحمد من طريق أبي العلاء بن الشخير عن رجل من الصحابة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه المعوذتين وقال له: إذا أنت صليت فاقرأ بهما" وإسناده

(8/742)


صحيح ولسعيد بن منصور من حديث معاذ بن جبل "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فقرأ فيهما بالمعوذتين" وقد تأول القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب "الانتصار" وتبعه عياض وغيره ما حكي عن ابن مسعود فقال: لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن وإنما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنه كان يرى أن لا يكتب في المصحف شيئا إلا إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابته فيه، وكأنه لم يبلغه الإذن في ذلك، قال: فهذا تأويل منه وليس جحدا لكونهما قرآنا. وهو تأويل حسن إلا أن الرواية الصحيحة الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها: ويقول إنهما ليستا من كتاب الله. نعم يمكن حمل لفظ كتاب الله على المصحف فيتمشى التأويل المذكور. وقال غير القاضي: لم يكن اختلاف ابن مسعود مع غيره في قرآنيتهما، وإنما كان في صفة من صفاتهما انتهى. وغاية ما في هذا أنه أبهم ما بينه القاضي. ومن تأمل سياق الطرق التي أوردتها للحديث استبعد هذا الجمع. وأما قول النووي في شرح المهذب: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منهما شيئا كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح، ففيه نظر، وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل "المحلى": ما نقل عن ابن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين فهو كذب باطل. وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره: الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل. والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل، بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل، والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر فهو مخدوش، وإن أراد استقراره فهو مقبول. وقد قال ابن الصباغ في الكلام على مانعي الزكاة: وإنما قاتلهم أبو بكر على منع الزكاة ولم يقل إنهم كفروا بذلك، وإنما لم يكفروا لأن الإجماع لم يكن يستقر. قال: ونحن الآن نكفر من جحدها. قال: وكذلك ما نقل عن ابن مسعود في المعوذتين، يعني أنه لم يثبت عنده القطع بذلك، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك. وقد استشكل هذا الموضع الفخر الرازي فقال: إن قلنا إن كونهما من القرآن كان متواترا في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرها، وإن قلنا إن كونهما من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعض القرآن لم يتواتر. قال: وهذه عقدة صعبة. وأجيب باحتمال أنه كان متوترا في عصر ابن مسعود لكن لم يتوتر عند ابن مسعود فانحلت العقدة بعون الله تعالى. قوله: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قيل لي قل، فقلت. قال فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" القائل فنحن نقول إلخ هو أبي بن كعب. ووقع عند الطبراني في الأوسط أن ابن مسعود أيضا قال مثل ذلك، لكن المشهور أنه من قول أبي بن كعب فلعله انقلب على راوية. وليس في جواب أبي تصريح بالمراد، إلا أن في الإجماع على كونهما من القرآن غنية عن تكلف الأسانيد بأخبار الآحاد، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
" خاتمة " : اشتمل كتاب التفسير على خمسمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا من الأحاديث المرفوعة وما في حكمها، الموصول من ذلك أربعمائة حديث وخمسة وستون حديثا والبقية معلقة وما في معناه، المكرر من ذلك فيه وفيما مضى أربعمائة وثمانية وأربعون حديثا، والخالص منها مائة حديث وحديث، وافقه مسلم على تخريج بعضها ولم يخرج أكثرها لكونها ليست ظاهرة في الرفع، والكثير منها من تفاسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهي ستة وستون حديثا: حديث أبي سعيد بن المعلى في الفاتحة، وحديث عمر "أبي أقرؤنا" وحديث ابن عباس "كذبني ابن آدم" وحديث أبي هريرة "لا تصدقوا أهل الكتاب" وحديث أنس "لم يبق ممن صلى القبلتين غيري" وحديث ابن عباس "كان في بني إسرائيل القصاص" وحديثه في تفسير {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ، وحديث ابن

(8/743)


عمر في ذلك، وحديث البراء "لما نزل رمضان كانوا لا يقربون النساء" وحديث حذيفة في تفسير {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وحديث ابن عمر في {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ، وحديث معقل بن يسار في نزول "ولا تعضلوهن" ، وحديث عثمان في نزول {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً }، وحديث ابن عباس في تفسيرها، وحديث ابن مسعود في المتوفى عنها زوجها، وحديث ابن عباس عن عمر في {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} وحديث ابن عمر في {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} ، وحديث ابن عباس في {حَسْبُنَا اللَّهُ} ، وحديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين" الحديث، ووقع في آخر حديث أسامة بن زيد في قصة عبد الله بن أبي، وحديث ابن عباس "كان المال للولد" وحديثه "كان إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته" وحديثه في {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} وحديثه "كنت أنا وأمي من المستضعفين" ، وحديثه في نزول {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ، وحديثه في نزول {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} ، وحديث ابن مسعود في يونس بن متى، وحديث حذيفة في النفاق، وحديث عائشة في لغو اليمين، وحديثها عن أبيها في كفارة اليمين. وحديث جابر في نزول {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} ، وحديث ابن عمر في الأشربة، وحديث ابن عباس في نزول {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} ، وحديث الحر بن قيس مع عمر في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} ، وحديث ابن الزبير في تفسيرها، وحديث ابن عباس في تفسير "الصم البكم" ، وحديثه في تفسير {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} وحديث حذيفة "ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة، وحديث ابن عباس في قصته مع ابن الزبير وفيه ذكر أبي بكر في الغار، وحديثه في تفسير {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} ، وحديث ابن مسعود في {هَيْتَ لَكَ} و {بَلْ عَجِبْتَ} ، وحديث أبي هريرة في صفة مسترقي السمع، وحديث ابن عباس في تفسير "عضين" ، وحديث ابن مسعود في "الكهف ومريم من تلادى" ، وحديثه "كنا نقول للحي إذا كثروا" ، وحديث ابن عباس في تفسير {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا} ، وحديث سعد بن أبي وقاص في "الأخسرين أعمالا" ، وحديث ابن عباس في تفسير {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} ، وحديث عائشة في نزول {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ}، وحديث ابن عباس في {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، وحديث أبي سعيد في الصلاة على النبي، وحديث ابن عباس في جواب "إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي" وحديث عائشة في تفسير {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} ، وحديث عبد الله بن مغفل في البول في المغتسل، وحديث ابن عباس في تفسير {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ، وحديثه في تفسير "اللات" ، وحديث عائشة في نزول {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} ، وحديث ابن عباس في تفسير {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} ، وحديث أنس عن زيد بن أرقم في فضل الأنصار، وحديث ابن عباس في تفسير {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} وحديثه في ذكر الأوثان التي كانت في قوم نوح، وحديثه في تفسير {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} ، وحديثه في تفسير {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} ، وحديثه في تفسير {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} ، وحديث عائشة في تفسير ذكر الكوثر، وحديث ابن عباس في تفسيره بالخير الكثير، وحديث أبي بن كعب في المعوذتين. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم خمسمائة وثمانون أثرا تقدم بعضها في بدء الخلق وغيره، وهي قليلة، وقد بينت كل واحد منها في موضعها. ولله الحمد.
تم الجزء الثامن. ويليه – إن شاء الله – الجزء التاسع، وأوله "كتاب فضائل القرآن"

(8/744)


المجلد التاسع
كتاب فضائل القرآن
باب كيف نزل الوحي وأول مانزل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
66- كتاب فضائل القرآن".
1- باب كَيْفَ نَزَلَ الْوَحْيُ وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُهَيْمِنُ الأَمِينُ الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ
4978، 4979- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ لَبِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ"
4980- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لِأُمِّ سَلَمَةَ مَنْ هَذَا أَوْ كَمَا قَالَ قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ فَلَمَّا قَامَ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلاَّ إِيَّاهُ حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ خَبَرَ جِبْرِيلَ أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ أَبِي: قُلْتُ لِأَبِي عُثْمَانَ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا قَالَ مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ"
4981- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
[الحديث 4981- طرفه في: 7274]
4982- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْيُ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ"
4983- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ مَا أُرَى شَيْطَانَكَ إِلاَّ قَدْ تَرَكَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}

(9/3)


"كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ" ثبتت البسملة و "كتاب" لأبي ذر ووقع لغبره "فضائل القرآن" حسب "باب فضائل نزل الوحي وأول ما نزل" كذا لأبي ذر "نزل" بلفظ الفعل الماضي، ولغيره: "كيف قوله: "باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل" كذا لأبي ذر "نزل" بلفظ الفعل الماضي، ولغيره: "كيف نزول الوحي" بصيغة الجمع، وقد تقدم البحث في كيفية نزوله في حديث عائشة "إن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي" في أول الصحيح، وكذا أول نزوله في حديثها "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة" لكن التعبير بأول ما نزل أخص من التعبير بأول ما بدئ لأن النزول يقتضي وجود من ينزل به، وأول ذلك مجيء الملك له عيانا مبلغا عن الله بما شاء من الوحي، وإيحاء الوحي أعم من أن يكون بإنزال أو بإلهام، سواء وقع ذلك في النوم أو في اليقظة. وأما انتزاع ذلك من أحاديث الباب فسأذكره إن شاء الله تعالى عند شرح كل حديث منها. قوله: "قال ابن عباس: المهيمن الأمين، القرآن أمين على كل كتاب قبله" تقدم بيان هذا الأثر وذكر من وصله في تفسير سورة المائدة، وهو يتعلق بأصل الترجمة وهي فضائل القرآن، وتوجيه كلام ابن عباس أن القرآن تضمن تصديق جميع ما أنزل قبله، لأن الأحكام التي فيه إما مقررة لما سبق وإما ناسخة - وذلك يستدعي إثبات المنسوخ - وإما مجددة، وكل ذلك دال على تفضيل المجدد. ثم ذكر المصنف في الباب ستة أحاديث: الأول والثاني حديثا ابن عباس وعائشة معا.قوله: "عن شيبان" هو ابن عبد الرحمن، ويحيى هو ابن أبي كثير، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن. قوله: "لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشر سنين" كذا للكشميهني، ولغيره: "وبالمدينة عشرا" بإبهام المعدود، وهذا ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم عاش ستين سنة إذا انضم إلى المشهور أنه بعث على رأس الأربعين، لكن يمكن أن يكون الراوي ألغى الكسر كما تقدم بيانه في الوفاة النبوية، فإن كل من روي عنه أنه عاش ستين أو أكثر من ثلاث وستين جاء عنه أنه عاش ثلاثا وستين، فالمعتمد أنه عاش ثلاثا وستين، وما يخالف ذلك إما أن يحمل على إلغاء الكسر في السنين، وإما على جبر الكسر في الشهور، وأما حديث الباب فيمكن أن يجمع بينه وبين المشهور بوجه آخر، وهو أنه بعث على رأس الأربعين، فكانت مدة وحي المنام ستة أشهر إلى أن نزل عليه الملك في شهر رمضان من غير فترة، ثم فتر الوحي، ثم تواتر وتتابع، فكانت مدة تواتره وتتابعه بمكة عشر سنين من غير فترة، أو أنه على رأس الأربعين قرن به ميكائيل أو إسرافيل فكان يلقي إليه الكلمة أو الشيء مدة ثلاث سنين كما جاء من وجه مرسل، ثم قرن به جبريل فكان ينزل عليه بالقرآن مدة عشر سنين بمكة. ويؤخذ من هذا الحديث مما يتعلق بالترجمة أنه نزل مفرقا ولم ينزل جملة واحدة، ولعله أشار إلى ما أخرجه النسائي وأبو عبيد والحاكم من وجه آخر عن ابن عباس قال: "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. وقرأ: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} الآية" وفي رواية للحاكم والبيهقي في الدلائل "فرق في السنين" وفي أخرى صحيحة لابن أبي شيبة والحاكم أيضا: "وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم: "وإسناده صحيح، ووقع في "المنهاج للحليمي" : أن جبريل كان ينزل منه من اللوح المحفوظ في ليلة القدر إلى السماء الدنيا قدر ما ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة إلى ليلة القدر التي تليها، إلى أن أنزله كله في عشرين ليلة من عشرين سنة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وهذا أورده ابن الأنباري من طريق ضعيفة ومنقطعة أيضا وما تقدم من أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك مفرقا هو الصحيح المعتمد وحكى الماوردي في تفسير ليلة القدر

(9/4)


أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وهذا أيضا غريب، والمعتمد أن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان بما ينزل به عليه في طول السنة، كذا جزم به الشعبي فيما أخرجه عنه أبو عبيد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وسيأتي مزيد لذلك بعد ثلاثة أبواب. وقد تقدم في بدء الوحي أن أول نزول جبريل بالقرآن كان في شهر رمضان، وسيأتي في هذا الكتاب أن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في شهر رمضان، وفي ذلك حكمتان: إحداهما تعاهده، والأخرى تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضا وأحكاما. وقد أخرج أحمد والبيهقي في "الشعب" عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت التوراة لست مضين من رمضان. والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، والزبور لثمان عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت من شهر رمضان". وهذا كله مطابق لقوله تعالى :{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ولقوله تعالى :{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أول {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ويستفاد من حديث الباب أن القرآن نزل كله بمكة والمدينة خاصة، وهو كذلك، لكن نزل كثير منه في غير الحرمين حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر حج أو عمرة أو غزاة، ولكن الاصطلاح أن كل ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني، سواء نزل في البلد حال الإقامة أو في غيرها حال السفر، وسيأتي مزيد لذلك في "باب تأليف القرآن". قوله: "حدثنا معتمر" هو ابن سليمان التيمي. قوله: "قال أنبئت أن جبريل" فاعل "قال: "هو أبو عثمان النهدي. قوله: "أنبئت" بضم أوله على البناء للمجهول، وقد عينه في آخر الحديث. ووقع عند مسلم في أوله زيادة حذفها البخاري عمدا لكونها موقوفة ولعدم تعلقها بالباب وهي: عن أبي عثمان عن سلمان قال: "لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق" الحديث موقوف، وقد أورده البرقاني في مستخرجه من طريق عاصم عن أبي عثمان عن سلمان مرفوعا. قوله: "فقال لأم سلمة: من هذا" ؟ فاعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، استفهم أم سلمة عن الذي كان يحدثه هل فطنت لكونه ملكا أو لا. قوله: "أو كما قال" يريد أن الراوي شك في اللفظ مع بقاء المعنى في ذهنه، وهذه الكلمة كثر استعمال المحدثين لها في مثل ذلك. قال الداودي. هذا السؤال إنما وقع بعد ذهاب جبريل، وظاهر سياق الحديث يخالفه. كذا قال، ولم يظهر لي ما ادعاه من الظهور، بل هو محتمل للأمرين. قوله: "قالت هذا دحية" أي ابن خليفة الكلبي الصحابي المشهور، وقد تقدم ذكره في حديث أبي سفيان الطويل في قصة هرقل أول الكتاب، وكان موصوفا بالجمال، وكان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم غالبا على صورته. قوله: "فلما قام" أي النبي صلى الله عليه وسلم أي قام ذاهبا إلى المسجد، وهذا يدل على أنه لم ينكر عليها ما ظنته من أنه دحية اكتفاء بما سيقع منه في الخطبة مما يوضح لها المقصود. قوله: "ما حسبته إلا إياه" هذا كلام أبي سلمة، وعند مسلم: "فقالت أم سلمة أيمن الله ما حسبته إلا إياه" وأيمن من حروف القسم، وفيها لغات قد تقدم بيانها. قوله: "حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بخبر جبريل أو كما قال" في رواية مسلم: "يخبرنا خبرنا" وهو تصحيف نبه عليه عياض، قال النووي: وهو الموجود في نسخ بلادنا. قلت: ولم أر هذا الحديث في شيء من المسانيد إلا من هذا الطريق فهو من غرائب الصحيح. ولم أقف في شيء من الروايات على بيان هذا الخبر في أي قصة، ويحتمل أن يكون في قصة بني قريظة، فقد وقع في "دلائل البيهقي" وفي

(9/5)


"الغيلانيات" من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه "عن عائشة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يكلم رجلا وهو راكب، فلما دخل قلت: من هذا الذي كنت تكلمه، قال: بمن تشبهينه؟ قلت: بدحية بن خليفة، قال: ذاك جبريل أمرني أن أمضي إلى بني قريظة". قوله: "قال أبي" بفتح الهمزة وكسر الموحدة الخفيفة، والقائل هو معتمر بن سليمان، وقوله: "فقلت لأبي عثمان، أي النهدي الذي حدثه بالحديث، وقوله: "ممن سمعت هذا؟ قال من أسامة بن زيد" فيه الاستفسار عن اسم من أبهم من الرواة ولو كان الذي أبهم ثقة معتمدا، وفائدته احتمال أن لا يكون عند السامع كذلك، ففي بيانه رفع لهذا الاحتمال، قال عياض وغيره: وفي هذا الحديث أن للملك أن يتصور على صورة الآدمي. وأن له هو في ذاته صورة لا يستطيع الآدمي أن يراه فيها لضعف القوى البشرية إلا من يشاء الله أن يقويه على ذلك، ولهذا كان غالب ما يأتي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل كما تقدم في بدء الوحي "وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا" ولم ير جبريل على صورته التي خلق عليها إلا مرتين كما ثبت في الصحيحين. ومن هنا يتبين وجه دخول حديث أسامة هذا في هذا الباب. قالوا وفيه فضيلة لأم سلمة ولدحية، وفيه نظر، لأن أكثر الصحابة رأوا جبريل في صورة الرجل لما جاء فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، ولأن اتفاق الشبه لا يستلزم إثبات فضيلة معنوية، وغايته أن يكون له مزية في حسن الصورة حسب، وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن قطن حين قال إن الدجال أشبه الناس به فقال: "أيضرني شبهه؟ قال: لا" قوله: "عن أبيه" هو أبو سعيد المقبري كيسان، وقد وقع سعيد المقبري الكثير من أبي هريرة وسمع من أبيه عن أبي هريرة، ووقع الأمران في الصحيحين، وهو دال على تثبت سعيد وتحريه. قوله: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطى" هذا دال على أن النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضره من أصر على المعاندة. من الآيات" أي المعجزات الخوارق. قوله: "ما مثله آمن عليه البشر" ما موصولة وقعت مفعولا ثانيا لأعطى، ومثله مبتدأ، وآمن خبره، والمثل يطلق ويراد به عين الشيء وما يساويه، والمعنى أن كل نبي أعطى آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها، وعليه بمعنى اللام أو الباء الموحدة، والنكتة في التعبير بها تضمنها معنى الغلبة، أي يؤمن بذلك مغلوبا عليه بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه، لكن قد يجحد فيعاند، كما قال الله تعالى :{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً} وقال الطيبي: الراجع إلى الموصول ضمير المجرور في عليه وهو حال، أي مغلوبا عليه في التحدي، والمراد بالآيات المعجزات وموقع المثل موقعه من قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} أي على صفته من البيان وعلو الطبقة في البلاغة. "تنبيه": قوله: "آمن" وقع في رواية حكاها ابن قرقول "أومن" بضم الهمز ثم واو. وسيأتي في كتاب الاعتصام. قال وكتبها بعضهم. بالياء الأخيرة بدل الواو. وفي رواية القابسي "أمن" بغير مد من الأمان، والأول هو المعروف. قوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي" أي إن معجزتي التي تحديت بها الوحي الذي أنزل علي وهو القرآن لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، وليس المراد حصر معجزاته فيه ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره، لأن كل نبي أعطي معجزة خاصة به لم يعطها بعينها غيره تحدى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه كما كان السحر فاشيا عند فرعون فجاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة لكنها تلقفت ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره وكذلك إحياء عيسى الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لكون

(9/6)


الأطباء والحكماء كانوا في ذلك الزمان في غاية الظهور، فأتاهم من جنس عملهم بما لم تصل قدرتهم إليه، ولهذا لما كان العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الغاية من البلاغة جاءهم بالقرآن الذي تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فلم يقدروا على ذلك. وقيل المراد أن القرآن ليس له مثل لا صورة ولا حقيقة، بخلاف غيره من المعجزات فإنها لا تخلو عن مثل. وقيل المراد أن كل نبي أعطي من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله صورة أو حقيقة، والقرآن لم يؤت أحد قبله مثله، فلهذا أردفه بقوله: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا". وقيل المراد أن الذي أوتيته لا يتطرق إليه تخييل، وإنما هو كلام معجز لا يقدر أحد أن يأتي بما يتخيل منه التشبيه به، بخلاف غيره فإنه قد يقع في معجزاتهم ما يقدر الساحر أن يخيل شبهه فيحتاج من يميز بينهما إلى نظر، والنظر عرضة للخطأ، فقد يخطئ الناظر فيظن تساويهما. وقيل المراد أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه للعادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه، وهذا أقوى المحتملات، وتكميله في الذي بعده. وقيل المعنى أن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا. قلت: ويمكن نظم هذه الأقوال كلها في كلام واحد؛ فإن محصلها لا ينافي بعضه بعضا. قوله: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" رتب هذا الكلام على ما تقدم من معجزة القرآن المستمرة لكثرة فائدته وعموم نفعه، لاشتماله على الدعوة والحجة والإخبار بما سيكون، فعم نفعه من حضر ومن غاب ومن وجد ومن سيوجد، فحسن ترتيب الرجوى المذكورة على ذلك، وهذه الرجوى قد تحققت، فإنه أكثر الأنبياء تبعا، وسيأتي بيان ذلك واضحا في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. وتعلق هذا الحديث بالترجمة من جهة أن القرآن إنما نزل بالوحي الذي يأتي به الملك لا بالمنام ولا بالإلهام. وقد جمع بعضهم إعجاز القرآن في أربعة أشياء: أحدها حسن تأليفه والتئام كلمه مع الإيجاز والبلاغة، ثانيها صورة سياقه وأسلوبه المخالف لأساليب كلام أهل البلاغة من العرب نظما ونثرا حتى حارت فيه عقولهم ولم يهتدوا إلى الإتيان بشيء مثله مع توفر دواعيهم على تحصيل ذلك وتقريعه لهم على العجز عنه، ثالثها ما اشتمل عليه من الإخبار عما مضى من أحوال الأمم السالفة والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم منه بعضه إلا النادر من أهل الكتاب، رابعها الإخبار بما سيأتي من الكوائن التي وقع بعضها في العصر النبوي وبعضها بعده. ومن غير هذه الأربعة آيات وردت بتعجيز قوم في قضايا أنهم لا يفعلونها فعجزوا عنها مع توفر دواعيهم على تكذيبه، كتمني اليهود الموت، ومنها الروعة التي تحصل لسامعه، ومنها أن قارئه لا يمل من ترداده وسامعه لا يمجه ولا يزداد بكثرة التكرار إلا طراوة ولذاذة. ومنها أنه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، ومنها جمعه لعلوم ومعارف لا تنقضي عجائبها ولا تنتهي فوائدها. ا ه ملخصا من كلام عياض، وغيره. قوله: "حدثنا عمرو بن محمد" هو الناقد، وبذلك جزم أبو نعيم في "المستخرج". وكذا أخرجه مسلم عن عمرو بن محمد الناقد وغيره عن يعقوب بن إبراهيم. ووقع في الأطراف لخلف "حدثنا عمرو بن علي الفلاس" ورأيت في نسخة معتمدة من رواية النسفي عن البخاري "حدثنا عمرو بن خالد" وأظنه تصحيفا، والأول هو المعتمد، فإن الثلاثة وإن كانوا

(9/7)


معروفين من شيوخ البخاري، لكن الناقد أخص من غيره بالرواية عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ورواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب من رواية الأقران، بل صالح بن كيسان أكبر سنا من ابن شهاب وأقدم سماعا، وإبراهيم بن سعد قد سمع من ابن شهاب كما سيأتي تصريحه بتحديثه له في الحديث الآتي بعد باب واحد. قوله: "إن الله تابع على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته" كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر "إن الله تابع على رسوله الوحي قبل وفاته" أي أكثر إنزاله قرب وفاته صلى الله عليه وسلم، والسر في ذلك أن الوفود بعد فتح مكة كثروا وكثر سؤالهم عن الأحكام فكثر النزول بسبب ذلك. ووقع لي سبب تحديث أنس بذلك من رواية الدراوردي عن الإمامي عن الزهري "سألت أنس بن مالك: هل فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت؟ قال: أكثر ما كان وأجمه" أورده ابن يونس في "تاريخ مصر" في ترجمة محمد بن سعيد بن أبي مريم. قوله: "حتى توفاه أكثر ما كان الوحي" أي الزمان الذي وقعت فيه وفاته كان نزول الوحي فيه أكثر من غيره من الأزمنة. قوله: "ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد" فيه إظهار ما تضمنته الغاية في قوله: "حتى توفاه الله"، وهذا الذي وقع أخيرا على خلاف ما وقع أولا، فإن الوحي في أول البعثة فتر فترة ثم كثر، وفي أثناء النزول بمكة لم ينزل من السور الطوال إلا القليل، مما بعد الهجرة نزلت السور الطوال المشتملة على غالب الأحكام، إلا أنه كان الزمن الأخير من الحياة النبوية أكثر الأزمنة نزولا بالسبب المتقدم، وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة لتضمنه الإشارة إلى كيفية النزول. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري، وقد تقدم شرح الحديث قريبا في سورة والضحى، ووجه إيراده في هذا الباب الإشارة إلى أن تأخير النزول أحيانا إنما كان يقع لحكمة تقتضي ذلك لا لقصد تركه أصلا، فكان نزوله على أنحاء شتى: تارة يتتابع، وتارة يتراخى. وفي إنزاله مفرقا وجوه من الحكمة: منها تسهيل حفظه لأنه لو نزل جملة واحدة على أمة أمية لا يقرأ غالبهم ولا يكتب لشق عليهم حفظه. وأشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله ردا على الكفار {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ - أي أنزلناه مفرقا - لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} وبقوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}. ومنها ما يستلزمه من الشرف له والعناية به لكثرة تردد رسول ربه إليه يعلمه بأحكام ما يقع له وأجوبة ما يسأل عنه من الأحكام والحوادث. ومنها أنه أنزل على سبعة أحرف، فناسب أن ينزل مفرقا، إذ لو نزل دفعة واحدة لشق بيانها عادة. ومنها أن الله قدر أن ينسخ من أحكامه ما شاء، فكان إنزاله مفرقا لينفصل الناسخ من المنسوخ أولى من إنزالهما معا. وقد ضبط النقلة ترتيب نزول السور كما سيأتي في "باب تأليف القرآن"ولم يضبطوا من ترتيب نزول الآيات إلا قليلا وقد تقدم في تفسير { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أنها أول سورة نزلت ومع ذلك فنزل من أولها أولا خمس آيات ثم نزل باقيها بعد ذلك وكذلك سورة المدثر التي نزلت بعدها نزل أولها أولا ثم نزل سائرها بعد وأوضح من ذلك ما أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وصححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس عن عثمان قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الآيات فيقول :ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(9/8)


2- باب نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
4984- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ فَأَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ

(9/8)


3- باب جَمْعِ الْقُرْآنِ
4986- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُمَرُ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا

(9/10)


4- باب كَاتِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4989- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ ابْنَ السَّبَّاقِ قَالَ إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبِعْ الْقُرْآنَ فَتَتَبَّعْتُ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} إِلَى آخِرِهِ"
4990- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ادْعُ لِي زَيْدًا وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ أَوْ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ ثُمَّ قَالَ اكْتُبْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنِي فَإِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}
قوله: "باب كاتب النبي صلى الله عليه وسلم "قال ابن كثير: ترجم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر سوى حديث زيد بن ثابت وهذا عجيب، فكأنه لم يقع له على شرطه غير هذا. ثم أشار إلى أنه استوفى بيان ذلك في السيرة النبوية. قلت: لم أقف في شيء من النسخ إلا بلفظ: "كاتب" بالإفراد وهو مطابق لحديث الباب، نعم قد كتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة غير زيد بن ثابت، أما بمكة فلجميع ما نزل بها لأن زيد بن ثابت إنما أسلم بعد الهجرة، وأما بالمدينة فأكثر ما كان يكتب زيد، ولكثرة تعاطيه ذلك أطلق عليه الكاتب بلام العهد كما في حديث البراء بن عازب ثاني حديثي الباب، ولهذا قال له أبو بكر: إنك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان زيد بن ثابت ربما غاب فكتب الوحي غيره. وقد كتب له قبل زيد ابن ثابت أبي بن كعب وهو أول من كتب له بالمدينة، وأول من كتب له بمكة من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح، وممن كتب له في الجملة الخلفاء الأربعة والزبير بن العوام وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية وحنظلة بن الربيع الأسدي ومعيقيب بن أبي فاطمة وعبد الله بن الأرقم الزهري وشرحبيل بن حسنة وعبد الله بن رواحة في آخرين، وروى أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عباس عن عثمان بن عفان قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا" الحديث. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: الأول حديث زيد بن ثابت في قصته مع أبي بكر في جمع القرآن، أورد منه طرفا، وغرضه منه قول أبي بكر لزيد "إنك كنت تكتب الوحي" وقد مضى البحث فيه مستوفى في الباب الذي قبله. الثاني حديث البراء وهو ابن عازب "لما نزلت: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} "قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لي زيدا" وقد تقدم في تفسير سورة النساء بلفظ: "ادع لي فلانا" من رواية إسرائيل أيضا. وفي رواية غيره: "ادع لي زيدا" أيضا وتقدمت

(9/22)


القصة هناك من حديث زيد بن ثابت نفسه. ووقع هنا فنزلت مكانها {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله غير أولي الضرر} هكذا وقع بتأخير لفظ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} والذي في التلاوة {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} قبل {والْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقد تقدم على الصواب من وجه آخر عن إسرائيل.

(9/23)


5- باب أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ
4991- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"
4992- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِيَّ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"
قوله: "باب أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي على سبعة أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة إلى سبعة، فإن قيل فإنا نجد بعض الكلمات يقرأ على أكثر من سبعة أوجه، فالجواب أن غالب ذلك إما لا يثبت الزيادة وإما أن يكون من قبيل الاختلاف في كيفية الأداء كما في المد والإمالة ونحوهما. وقيل ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بل المراد التسهيل والتيسير، ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعين في العشرات والسبعمائة في المئين ولا يراد العدد المعين، وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه. وذكر القرطبي عن ابن حبان أنه بلغ الاختلاف في معنى الأحرف السبعة إلى خمسة وثلاثين قولا ولم يذكر القرطبي منها سوى خمسة. وقال المنذري: أكثرها غير مختار، ولم أقف على كلام ابن حبان في هذا بعد تتبعي مظانه من صحيحه، وسأذكر ما انتهى إلي من أقوال العلماء في ذلك مع بيان المقبول منها والمردود إن شاء الله تعالى في آخر هذا الباب. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث ابن عباس. قوله: "حدثنا سعيد بن عفير" بالمهملة والفاء مصعر، وهو سعيد بن كثير بن

(9/23)


عفير ينسب إلى جده، وهو من حفاظ المصريين وثقاتهم. قوله: "أن ابن عباس رضي الله عنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "هذا مما لم يصرح ابن عباس بسماعه له من النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه سمعه من أبي بن كعب، فقد أخرج النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب نحوه، والحديث مشهور عن أبي أخرجه مسلم وغيره من حديثه كما سأذكره. قوله: "أقرأني جبريل على حرف" في أول حديث النسائي عن أبي بن كعب "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة، فبينما أنا في المسجد إذ سمعت رجلا يقرؤها يخالف قراءتي" الحديث. ولمسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب قال: "كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما فقرأ، فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما قال فسقط في نفسي ولا إذ كنت في الجاهلية، فضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله فرقا، فقال لي يا أبي، أرسل إلى أن اقرأ القرآن على حرف" الحديث. وعند الطبري في هذا الحديث: "فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمر وجهي، فضرب في صدري وقال: اللهم اخسأ عنه الشيطان". وعند الطبري من وجه آخر عن أبي أن ذلك وقع بينه وبين ابن مسعود، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كلاكما محسن قال أبي فقلت: ما كلانا أحسن ولا أجمل، قال فضرب في صدري" الحديث. وبين مسلم من وجه آخر عن أبي ليلى عن أبي المكان الذي نزل فيه ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فآتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف الحديث. وبين الطبري من هذه الطريق أن السورة المذكورة سورة النحل. قوله: "فراجعته" في رواية مسلم عن أبي "فرددت إليه أن هون على أمتي " وفي رواية له "إن أمتي لا تطيق ذلك". ولأبي داود من وجه آخر عن أبي "فقال لي الملك الذي معي: قل على حرفين، حتى بلغت سبعة أحرف". وفي رواية للنسائي من طريق أنس عن أبي بن كعب "أن جبريل وميكائيل أتياني فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل استزده" ولأحمد من حديث أبي بكرة نحوه. قوله: "فلم أزل أستزيده ويزيدني" في حديث أبي "ثم أتاه الثانية فقال على حرفين" ثم أتاه الثالثة فقال على ثلاثة أحرف، ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا" وفي رواية للطبري "على سبعة أحرف من سبعة أبواب من الجنة" وفي أخرى له "من قرأ حرفا منها فهو كما قرأ: {وفي رواية أبي داود "ثم قال: ليس منها إلا شاف كاف إن قلت سميعا عليما عزيزا حكيما، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب" وللترمذي من وجه آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط" الحديث. وفي حديث أبي بكرة عند أحمد "كلها كاف شاف كقولك هلم وتعال ما لم تختم" الحديث. وهذه الأحاديث تقوى أن المراد بالأحرف اللغات أو القراءات، أي أنزل القرآن على سبع لغات أو قراءات، والأحرف جمع حرف مثل فلس وأفلس، فعلى الأول يكون المعنى على سبعة أوجه من اللغات لأن أحد معاني الحرف في اللغة الوجه كقوله تعال {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} وعلى الثاني يكون المراد من إطلاق الحرف على الكلمة مجازا لكونه بعضها. قوله: "إن المسور بن مخرمة" أي ابن نوفل الزهري، كذا رواه عقيل ويونس وشعيب وابن أخي الزهري عن الزهري، واقتصر مالك عنه على عروة فلم يذكر المسور في إسناده، واقتصر عبد

(9/24)


الأعلى عن معمر عن الزهري فيما أخرجه النسائي عن المسور بن مخرمة فلم يذكر عبد الرحمن، وذكره عبد الرزاق عن معمر أخرجه الترمذي، وأخرجه مسلم من طريقه لكن أحال به قال: كرواية يونس وكأنه أخرجه من طريق ابن وهب عن يونس فذكرهما، وذكره المصنف في المحاربة عن الليث عن يونس تعليقا. قوله: "وعبد الرحمن بن عبد" هو بالتنوين غير مضاف لشيء. قوله: "القاري" بتشديد الياء التحتانية نسبة إلى القارة بطن من خزيمة بن مدركة، والقارة لقب واسمه أثيع بالمثلثة مصغر ابن مليح بالتصغير وآخره مهملة ابن الهون بضم الهاء ابن خزيمة. وقيل بل القارة هو الديش بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها معجمة من ذرية أثيع المذكور، وليس هو منسوبا إلى القراءة، وكانوا قد حالفوا بني زهرة وسكنوا معهم بالمدينة بعد الإسلام، وكان عبد الرحمن من كبار التابعين، وقد ذكر في الصحابة لكونه أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، أخرج ذلك البغوي في مسند الصحابة بإسناد لا بأس به، ومات سنة ثمان وثمانين في قول الأكثر وقيل سنة ثمانين، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد ذكره في الأشخاص، وله عنده حديث آخر عن عمر في الصيام. قوله: "سمعت هشام بن حكيم" أي ابن حزام الأسدي، له ولأبيه صحبة، وكان إسلامهما يوم الفتح، وكان لهشام فضل، ومات قبل أبيه، وليس له في البخاري رواية. وأخرج له مسلم حديثا واحدا مرفوعا من رواية عروة عنه، وهذا يدل على أنه تأخر إلى خلافة عثمان وعلي، ووهم من زعم أنه استشهد في خلافة أبي بكر أو عمر. وأخرج ابن سعد عن معن بن عيسى عن مالك عن الزهري: كان هشام بن حكيم يأمر بالمعروف، فكان عمر يقول إذا بلغه الشيء: أما ما عشت أنا وهشام فلا يكون ذلك. قوله: "يقرأ سورة الفرقان" كذا للجميع، وكذا في سائر طرق الحديث في المسانيد والجوامع، وذكر بعض الشراح أنه وقع عند الخطيب في "المبهمات" سورة الأحزاب بدل الفرقان، وهو غلط من النسخة التي وقف عليها، فإن الذي في كتاب الخطيب الفرقان كما في رواية غيره. قوله: "فكدت أساوره" بالسين المهملة أي آخذ برأسه قاله الجرجاني. وقال غيره: "أواثبه" وهو أشبه، قال النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة
من الرقش في أنيابها السم ناقع
أي واثبتني، وفي بانت سعاد:
إذا يساور قرنا لا يحل له
أن يترك القرن إلا وهو مخذول
ووقع عند الكشميهني والقابسي في رواية شعيب الآتية بعد أبواب "أثاوره" بالمثلثة عوض المهملة، قال عياض: والمعروف الأول. قلت: لكن معناها أيضا صحيح، ووقع في رواية مالك "أن أعجل عليه". قوله: "فتصبرت" في رواية مالك "ثم أمهلته حتى انصرف" أي من الصلاة، لقوله في هذه الرواية: "حتى سلم". قوله: "فلببته بردائه" بفتح اللام وموحدتين الأولى مشددة والثانية ساكنة، أي جمعت عليه ثيابه عند لبته لئلا يتفلت مني. وكان عمر شديدا في الأمر بالمعروف، وفعل ذلك عن اجتهاد منه لظنه أن هشاما خالف الصواب، ولهذا لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بل قال له أرسله. قوله: "كذبت" فيه إطلاق ذلك على غلبة الظن، أو المراد بقوله كذبت أي أخطأت لأن أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ. قوله: "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها" هذا قاله عمر استدلالا على ما ذهب إليه من تخطئة هشام، وإنما ساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته، بخلاف

(9/25)


هشام فإنه كان قريب العهد بالإسلام فخشي عمر من ذلك أن لا يكون أتقن القراءة، بخلاف نفسه فإنه كان قد أتقن ما سمع، وكان سبب اختلاف قراءتهما أن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قديما ثم لم يسمع ما نزل فيها بخلاف ما حفظه وشاهده، ولأن هشاما من مسلمة الفتح فكان النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه على ما نزل أخيرا فنشأ اختلافهما من ذلك، ومبادرة عمر للإنكار محمولة على أنه لم يكن سمع حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" إلا في هذه الوقعة. قوله: "فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "كأنه لما لببه بردائه صار يجره به، فلهذا صار قائدا له، ولولا ذلك لكان يسوقه، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما وصلا إليه: أرسله. قوله: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" هذا أورده النبي صلى الله عليه وسلم تطمينا لعمر لئلا ينكر تصويب الشيئين المختلفين، وقد وقع عند الطبري من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده قال: "قرأ رجل فغير عليه عمر، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: ألم تقرئني يا رسول الله؟ قال: بلى، قال فوقع في صدر عمر شيء عرفه النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، قال فضرب في صدره وقال: أبعد شيطانا. قالها ثلاثا. ثم قال: يا عمر، القرآن كله صواب، ما لم تجعل رحمة عذابا أو عذابا رحمة" ومن طريق ابن عمر "سمع عمر رجلا يقرأ: "فذكر نحوه ولم يذكر" فوقع في صدر عمر "لكن قال في آخره: "أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف". ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام، منها لأبي ابن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل كما تقدم، ومنها ما أخرجه أحمد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو "أن رجلا قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو إنما هي كذا وكذا، فذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأي ذلك قرأتم أصبتم، فلا تماروا فيه:" إسناده حسن، ولأحمد أيضا وأبي عبيد والطبري من حديث أبي جهم بن الصمة "أن رجلين اختلفا في آية من القرآن كلاهما يزعم أنه تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فذكر نحو حديث عمرو بن العاص. وللطبري والطبراني عن زيد بن أرقم قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرأني ابن مسعود سورة أقرأنيها زيد وأقرأنيها أبي بن كعب، فاختلفت قراءتهم، فبقراءة أيهم آخذ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعلى إلى جنبه - فقال علي: ليقرأ كل إنسان منكم كما علم فإنه حسن جميل" ولابن حبان والحاكم من حديث ابن مسعود "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من آل حم، فرحت إلى المسجد فقلت لرجل: اقرأها، فإذا هو يقرأ حروفا ما أقرؤها، فقال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه، فتغير وجهه وقال: إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، ثم أسر إلى علي شيئا، فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم. قال فانطلقنا وكل رجل منا يقرأ حروفا لا يقرؤها صاحبه" وأصل هذا سيأتي في آخر حديث في كتاب فضائل القرآن. وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة بلغها أبو حاتم بن حبان إلى خمسة وثلاثين قولا. وقال المنذري: أكثرها غير مختار. قوله :{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي من المنزل. وفيه إشارة إلى الحكمة في التعدد المذكور، وأنه للتيسير على القارئ، وهذا يقوي قول من قال: المراد بالأحرف تأدية المعنى باللفظ المرادف ولو كان من لغة واحدة، لأن لغة هشام بلسان قريش وكذلك عمر، ومع ذلك فقد اختلفت قراءتهما. نبه على ذلك ابن عبد البر، ونقل عن أكثر أهل العلم أن هذا هو المراد بالأحرف السبعة. وذهب أبو عبيد وآخرون إلى أن المراد، اختلاف اللغات، وهو اختيار ابن عطية، وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة، وأجيب بأن المراد أفصحها، فجاء عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات. منها خمس بلغة

(9/26)


العجز من هوازن قال: والعجز سعد ابن بكر وجثم ابن بكر ونصر بن معاوية وثقيف، وهؤلاء كلهم من هوازن. وقال لهم عليا هوازن، ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم يعني بني دارم. وأخرج أبو عبيد من وجه آخر عن ابن عباس قال: نزل القرآن بلغة الكعبين كعب قريش، وكعب خزاعة قيل وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم. وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهذيل وتيم الرباب والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر واستنكره ابن قتيبة واحتج بقوله تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فعلى هذا فتكون اللغات السبع في بطون قريش، وبذلك جزم أبو علي الأهوازي وقال أبو عبيد: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات، بلى اللغات السبع مفرقة فيه، فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن وغيرهم. قال: وبعض اللغات أسعد بها من بعض وأكثر نصيبا وقيل: نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر نزل القرآن بلغة مضر. وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر السبع من مضر أنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات. ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل فهم المراد كل ذلك مع اتفاق المعنى. وعلى هذا يتنزل اختلافهم في القراءة كما تقدم، وتصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا منهم. قلت: وتتمة ذلك أن يقال: إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، أي إن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته، بل المراعي في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث الباب أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعا له، ومن ثم أنكر عمر على ابن مسعود قراءته "حتى حين" أي "حتى حين" وكتب إليه: إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل. وكان ذلك قبل أن يجمع عثمان الناس على قراءة واحدة. قال ابن عبد البر بعد أن أخرجه من طريق أبي داود بسنده: يحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار، لا أن الذي قرأ به ابن مسعود لا يجوز. قال: وإذا أبيحت قراءته على سبعة أوجه أنزلت جاز الاختيار فيما أنزل، قال أبو شامة: ويحتمل أن يكون مراد عمر ثم عثمان بقولهما "نزلا بلسان قريش" أن ذلك كان أول نزوله، ثم إن الله تعالى سهله على الناس فجوز لهم أن يقرءوه على لغاتهم على أن لا يخرج ذلك عن لغات العرب لكونه بلسان عربي مبين. فأما من أراد قراءته من غير العرب فالاختيار له أن يقرأه بلسان قريش لأنه الأولى، وعلى هذا يحمل ما كتب به عمر إلى ابن مسعود لأن جميع اللغات بالنسبة لغير العربي مستوية في التعبير، فإذا لا بد من واحدة، فلتكن بلغة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما العربي المجبول على لغته فلو كلف قراءته بلغة قريش لعثر عليه التحول مع إباحة الله له أن يقرأه بلغته، ويشير إلى هذا قوله في حديث أبي كما تقدم "هون على أمتي" وقوله: "إن أمتي لا تطيق ذلك" ، وكأنه انتهى عند السبع لعلمه أنه لا تحتاج لفظة من ألفاظه إلى أكثر من ذلك العدد غالبا، وليس المراد كما تقدم أن كل لفظة منه تقرأ على سبعة أوجه قال ابن عبد البر: وهذا مجمع عليه، بل هو غير ممكن بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا الشيء القليل مثل

(9/27)


"عبد الطاغوت". وقد أنكر ابن قتيبة أن يكون في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه، ورد عليه ابن الأنباري بمثل "عبد الطاغوت، ولا تقل لهما أف، وجبريل" ويدل على ما قرره أنه أنزل أولا بلسان قريش ثم سهل على الأمة أن يقرءوه بغير لسان قريش وذلك بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام، فقد ثبت أن ورود التخفيف بذلك كان بعد الهجرة كما تقدم في حديث أبي بن كعب "أن جبريل لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند أضاة بني غفار فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك" الحديث أخرجه مسلم، وأضاة بني غفار هي بفتح الهمزة والضاد المعجمة بغير همز وآخره تاء تأنيث، هو مستنقع الماء كالغدير، وجمعه أضا كعصا، وقيل بالمد والهمز مثل إناء، وهو موضع بالمدينة النبوية ينسب إلى بني غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء لأنهم نزلوا عنده. وحاصل ما ذهب إليه هؤلاء أن معنى قوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي أنزل موسعا على القارئ أن يقرأه على سبعة أوجه، أي يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من صاحبه، كأنه قال أنزل على هذا الشرط أو على هذه التوسعة وذلك لتسهيل قراءته، إذ لو أخذوا بأن يقرءوه على حرف واحد لشق عليهم كما تقدم. قال ابن قتيبة في أول "تفسير المشكل" له: كان من تيسير الله أن أمر نبيه أن يقرأ كل قوم بلغتهم، فالهذلي يقرأ حتى حين يريد "حتى حين" والأسدي يقرأ تعلمون بكسر أوله، والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز، قال ولو أراد كل فريق منهم أن يزول عن لغته وما جرى عليه لسانه طفلا وناشئا وكهلا لشق عليه غاية المشقة، فيسر عليهم ذلك بمنه، ولو كان المراد أن كل كلمة منه تقرأ على سبعة أوجه لقال مثلا أنزل سبعة أحرف، وإنما المراد أن يأتي في الكلمة وجه أو وجهان أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة. وقال ابن عبد البر: أنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى الأحرف اللغات، لما تقدم من اختلاف هشام وعمر ولغتهما واحدة، قالوا: وإنما المعنى سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة، نحو أقبل وتعال وهلم. ثم ساق الأحاديث الماضية الدالة على ذلك. قلت: ويمكن الجمع بين القولين بأن يكون المراد بالأحرف تغاير الألفاظ مع اتفاق المعنى مع انحصار ذلك في سبع لغات، لكن لاختلاف القولين فائدة أخرى، وهي ما نبه عليه أبو عمرو الداني أن الأحرف السبعة ليست متفرقة في القرآن كلها ولا موجودة فيه في ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية واحدة فإنما قرأ ببعض الأحرف السبعة لا بكلها، وهذا إنما يتأتى على القول بأن المراد بالأحرف اللغات، وأما قول من يقول بالقول الآخر فيتأتى ذلك في ختمة واحدة بلا ريب، بل يمكن على ذلك القول أن تصل الأوجه السبعة في بعض القرآن كما تقدم. وقد حمل ابن قتيبة وغيره العدد المذكور على الوجوه التي يقع بها التغاير في سبعة أشياء: الأول ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، مثل {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} بنصب الراء ورفعها. الثاني ما يتغير بتغير الفعل مثل {بعد بين أسفارنا} و {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} بصيغة الطلب والفعل الماضي. الثالث ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة مثل "ثم ننشرها بالراء والزاي". الرابع ما يتغير بإبدال حرف قريب من مخرج الآخر مثل {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} في قراءة على وطلع منضود. الخامس ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} في قراءة أبي بكر الصديق وطلحة بن مصرف وزين العابدين {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ}. السادس ما يتغير بزيادة أو نقصان كما تقدم في التفسير عن ابن مسعود وأبي الدرداء {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى -والذكر والأنثى} هذا في النقصان، وأما في الزيادة فكما تقدم في تفسير {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في

(9/28)


حديث ابن عباس "وأنذر عشيرتك الأقربين، ورهطك منهم المخلصين". السابع ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها مثل "العهن المنفوش" في قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير كالصوف المنفوش، وهذا وجه حسن لكن استبعده قاسم بن ثابت في "الدلائل" لكون الرخصة في القراءات إنما وقعت وأكثرهم يومئذ لا يكتب ولا يعرف الرسم، وإنما كانوا يعرفون الحروف بمخارجها. قال: وأما ما وجد من الحروف المتباينة المخرج المتفقة الصورة مثل "ننشرها وننشرها" فإن السبب في ذلك تقارب معانيها، واتفق تشابه صورتها في الخط. قلت: ولا يلزم من ذلك توهين ما ذهب إليه ابن قتيبة، لاحتمال أن يكون الانحصار المذكور في ذلك وقع اتفاقا، وإنما اطلع عليه بالاستقراء، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يخفى. وقال أبو الفضل الرازي: الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف: الأول اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع أو تذكير وتأنيث. الثاني اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر، الثالث وجوه الإعراب، الرابع النقص والزيادة، الخامس التقديم والتأخير، السادس الإبدال، السابع اختلاف اللغات كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإدغام والإظهار ونحو ذلك. قلت: وقد أخذ كلام ابن قتيبة ونقحه. وذهب قوم إلى أن السبعة الأحرف سبعة أصناف من الكلام، واحتجوا بحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا به كل من عند ربنا" أخرجه أبو عبيد وغيره، قال ابن عبد البر: هذا حديث لا يثبت، لأنه من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود ولم يلق ابن مسعود، وقد رده قوم من أهل النظر منهم أبو جعفر أحمد بن أبي، عمران. قلت: وأطنب الطبري في مقدمة تفسيره في الرد على من قال به، وحاصله أنه يستحيل أن يجتمع في الحرف الواحد هذه الأوجه السبعة. وقد صحح الحديث المذكور ابن حبان والحاكم، وفي تصحيحه نظر لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر عن الزهري عن أبي سلمة مرسلا وقال هذا مرسل جيد، ثم قال: إن صح فمعنى قوله في هذا الحديث: "سبعة أحرف" أي سبعة أوجه كما فسرت في الحديث، وليس المراد الأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى، لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا، بل هي ظاهرة في أن المراد أن الكلمة الواحدة تقرأ على وجهين وثلاثة وأربعة إلى سبعة تهوينا وتيسيرا، والشيء الواحد لا يكون حراما وحلالا في حالة واحدة. وقال أبو علي الأهوازي وأبو العلاء الهمداني: قوله زاجر وآمر استئناف كلام آخر، أي هو زاجر أي القرآن؛ ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، وإنما توهم ذلك من توهمه من جهة الاتفاق في العدد. ويؤيده أنه جاء في بعض طرقه زاجرا وآمرا إلخ بالنصب أي نزل على هذه الصفة من الأبواب السبعة. وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب لا للأحرف، أي هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه، وأنزله الله على هذه الأصناف لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب. قلت: ومما يوضح أن قوله زاجر وآمر إلخ ليس تفسيرا للأحرف السبعة ما وقع في مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عقب حديث ابن عباس الأول من حديثي هذا الباب: قال ابن شهاب بلغني أن تلك الأحرف السبعة إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام، قال أبو شامة: وقد اختلف السلف في الأحرف

(9/29)


السبعة التي نزل بها القرآن هل هي مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم أو ليس فيه إلا حرف واحد منها، مال ابن الباقلاني إلى الأول، وصرح الطبري وجماعة بالثاني وهو المعتمد. وقد أخرج ابن أبي داود في "المصاحف" عن أبي الطاهر بن أبي السرح قال: سألت ابن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين هل هي الأحرف السبعة؟ قال: لا، وإنما الأحرف السبعة مثل هلم وتعال وأقبل، أي ذلك قلت أجزأك. قال وقال لي ابن وهب مثله. والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي "تجري من تحتها الأنهار" في آخر براءة وفي غيره بحذف "من" وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة بعضها دون بعض، وعدة هاءات وعدة لامات ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته لشخصين أو أعلم بذلك شخصا واحد وأمره بإثباتهما على الوجهين، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم فهو مما كانت القراءة جوزت به توسعة على الناس وتسهيلا؛ فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان وكفر بعضهم بعضا اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته وتركوا الباقي. قال الطبري: وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار كمن اقتصر مما خير فيه على خصلة واحدة، لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة لم يكن على سبيل الإيجاب بل على سبيل الرخصة. قلت: ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: "فاقرءوا ما تيسر منه" وقد قرر الطبري ذلك تقريرا أطنب فيه ووهى من قال بخلافه، ووافقه على ذلك جماعة منهم أبو العباس بن عمار في "شرح الهداية" وقال: أصح ما عليه الحذاق أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها لا كلها، وضابطه ما وافق رسم المصحف، فأما ما خالفه مثل "أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج" ومثل "إذا جاء فتح الله والنصر" فهو من تلك القراءات التي تركت إن صح السند بها، ولا يكفي صحة سندها في إثبات كونها قرآنا، ولا سيما والكثير منها مما يحتمل أن يكون من التأويل الذي قرن إلى التنزيل فصار يظن أنه منه. وقال البغوي في "شرح السنة" : المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر عثمان بنسخه في المصاحف وجمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك قطعا لمادة الخلاف، فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم وقال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل. وقال ابن عمار أيضا: لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة، ووقع له أيضا في اقتصاره عن كل إمام على راويين أنه صار من سمع قراءة راو ثالث غيرهما أبطلها وقد تكون هي أشهر وأصح وأظهر وربما بالغ من لا يفهم فخطأ أو كفر. وقال أبو بكر بن العربي: ليست هذه السبعة متعينة للجواز حتى لا يجوز غيرها كقراءة أبي جعفر وشيبة والأعمش ونحوهم، فإن هؤلاء مثلهم أو فوقهم. وكذا قال غير واحد منهم مكي بن أبي طالب وأبو العلاء الهمداني وغيرهم من أئمة القراء. وقال أبو حيان: ليس في كتاب ابن مجاهد ومن تبعه من القراءات المشهورة إلا النزر اليسير، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه سبعة عشر راويا، ثم ساق أسماءهم. واقتصر في كتاب ابن مجاهد على اليزيدي، واشتهر عن اليزيدي عشرة أنفس فكيف

(9/30)


يقتصر على السوسي والدوري وليس لهما مزية على غيرهما لأن الجميع مشتركون في الضبط والإتقان والاشتراك في الأخذ، قال: ولا أعرف لهذا سببا إلا ما قضى من نقص العلم فاقتصر هؤلاء على السبعة ثم اقتصر من بعدهم من السبعة على النزر اليسير. وقال أبو شامة: لم يرد ابن مجاهد ما نسب إليه، بل أخطأ من نسب إليه ذلك، وقد بالغ أبو طاهر بن أبي هاشم صاحبه في الرد على من نسب إليه أن مراده بالقراءات السبع الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، قال ابن أبي هشام: إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل، قال فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعا عن الصحابة بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط، امتثالا لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن، فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة. وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. ثم ساق نحو ما تقدم قال: وأما من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطا عظيما، قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة غيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنا، وهذا غلط عظيم، فإن الذين صنفوا القراءات من الأئمة المتقدمين - كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي حاتم السجستاني، وأبي، جعفر الطبري، وإسماعيل بن إسحاق، والقاضي - قد ذكروا أضعاف هؤلاء قلت: اقتصر أبو عبيدة في كتابه على خمسة عشر رجلا من كل مصر ثلاثة أنفس فذكر من مكة ابن كثير وابن محيصن، وحميدا الأعرج ومن أهل المدينة: أبا جعفر وشيبة ونافعا ومن أهل البصرة، أبا عمرو، وعيسى بن عمر، وعبد الله بن أبي إسحاق، ومن أهل الكوفة: يحيى بن وثاب، وعاصما، والأعمش ومن أهل الشام: عبد الله بن عامر، ويحيى بن الحارث. قال وذهب عني اسم الثالث ولم يذكر في الكوفيين حمزة، ولا الكسائي بل قال: إن جمهور أهل الكوفة بعد الثلاثة صاروا إلى قراءة حمزة ولم يجتمع عليه جماعتهم قال: وأما الكسائي فكان يتخير القراءات. فأخذ من قراءة الكوفيين بعضا وترك بعضا وقال بعد أن ساق أسماء من نقلت عنه القراءة من الصحابة والتابعين. فهؤلاء هم الذين يحكي عنهم عظم القراءة وإن كان الغالب عليهم الفقه والحديث، قال: ثم قام بعدهم بالقراءات قوم ليست لهم أسنانهم ولا تقدمهم غير أنهم تجردوا للقراءة واشتدت عنايتهم بها وطلبهم لها حتى صاروا بذلك أئمة يقتدي الناس بهم فيها فذكرهم، وذكر أبو حاتم زيادة على عشرين رجلا ولم يذكر فيهم ابن عامر ولا حمزة ولا الكسائي، وذكر الطبري في كتابه اثنين وعشرين رجلا، قال مكي: وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب، وبالكوف على قراءة حمزة وعاصم وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، واستمروا على ذلك. فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب، قال: والسبب في الاقتصار على السبعة مع أن في أئمة القراء من هو أجل منهم قدرا ومثلهم أكثر من عددهم أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرا جدا، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا - مما يوافق خط المصحف - على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة والاتفاق على الأخذ عنه فأفردوا من كل مصر إماما واحدا، ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة به كقراءة يعقوب وعاصم الجحدري وأبي

(9/31)


جعفر وشيبة وغيرهم، قال وممن اختار من القراءات كما اختار الكسائي أبو عبيد وأبو حاتم والمفضل وأبو جعفر الطبري وغيرهم وذلك واضح في تصانيفهم في ذلك، وقد صنف ابن جبير المكي وكان قبل ابن مجاهد كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة اختار من كل مصر إماما، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار، ويقال إنه وجه بسبعة هذه الخمسة ومصحفا إلى اليمن ومصحفا إلى البحرين لكن لم نسمع لهذين المصحفين خبرا، وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف فاستبدلوا من غير البحرين واليمن قارئين يكمل بهما العدد فصادف ذلك موافقة العدد الذي ورد الخبر بها وهو أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فوقع ذلك لمن لم يعرف أصل المسألة ولم يكن له فطنة فظن أن المراد بالقراءات السبع الأحرف السبعة، ولا سيما وقد كثر استعمالهم الحرف في موضع القراءة فقالوا: قرأ بحرف نافع بحرف ابن كثير، فتأكد الظن بذلك، وليس الأمر كما ظنه، والأصل المعتمد عليه عند الأئمة في ذلك أنه الذي يصح سنده في السماع ويستقيم وجهه في العربية ويوافق خط المصحف، وربما زاد بعضهم الاتفاق عليه ونعني بالاتفاق كما قال مكي بن أبي طالب ما اتفق عليه قراء المدينة والكوفة ولا سيما إذا اتفق نافع وعاصم، قال وربما أرادوا بالاتفاق ما اتفق عليه أهل الحرمين، قال: وأصح القراءات سندا نافع وعاصم، وأفصحها أبو عمرو والكسائي. وقال ابن السمعاني1 في "الشافي" : التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر رأيهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك قال: وقد صنف غيره في السبع أيضا فذكر شيئا كثيرا من الروايات عنهم غير ما في كتابه، فلم يقل أحد إنه لا تجوز القراءة بذلك لخلو ذلك المصحف عنه. وقال أبو الفضل الرازي في "اللوائح" بعد أن ذكر الشبهة التي من أجلها ظن الأغبياء أن أحرف الأئمة السبعة هي المشار إليها في الحديث وأن الأئمة بعد ابن مجاهد جعلوا القراءات ثمانية أو عشرة لأجل ذلك قال: واقتفيت أثرهم لأجل ذلك وأقول: لو اختار إمام من أئمة القراء حروفا وجرد طريقا في القراءة بشرط الاختيار لم يكن ذلك خارجا عن الأحرف السبعة. وقال الكواشي: كل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة فعلى هذا الأصل بنى قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف، ومتى فقد شرط من الثلاثة فهو الشاذ قلت: وإنما أوسعت القول في هذا لما تجدد في الأعصار المتأخرة من توهم أن القراءات المشهورة منحصرة في مثل "التيسير" والشاطبية، وقد اشتد إنكار أئمة هذا الشأن على من ظن ذلك كأبي شامة وأبي حيان، وآخر من صرح بذلك السبكي فقال في "شرح المنهاج" عند الكلام على القراءة بالشاذ صرح كثير من الفقهاء بأن ما عدا السبعة شاذ توهما منه انحصار المشهور فيها، والحق أن الخارج عن السبعة على قسمين: الأول ما يخالف رسم المصحف فلا شك في أنه ليس بقرآن، والثاني ما لا يخالف رسم المصحف وهو على قسمين أيضا: الأول ما ورد من طريق غريبة فهذا ملحق بالأول، والثاني ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن القراءة به قديما وحديثا فهذا لا وجه للمنع منه كقراءة يعقوب وأبي جعفر وغيرهما. ثم نقل كلام البغوي وقال: هو أولى من يعتمد عليه في ذلك، فإنه فقيه محدث مقرئ. ثم قال: وهذا التفصيل بعينه وارد في الروايات عن السبعة، فإن عنهم شيئا كثيرا من الشواذ وهو الذي لم يأت إلا
ـــــــ
1 في نسخة أخرى: قال إسماعيل الخ.

(9/32)


من طريق غريبة وإن اشتهرت القراءة من ذلك المنفرد. وكذا قال أبو شامة. ونحن وإن قلنا إن القراءات الصحيحة إليهم نسبت وعنهم نقلت فلا يلزم أن جميع ما نقل عنهم بهذه الصفة، بل فيه الضعيف لخروجه عن الأركان الثلاثة: ولهذا ترى كتب المصنفين مختلفة في ذلك، فالاعتماد في غير ذلك على الضابط المتفق عليه. "فصل" لم أقف في شيء من طرق حديث عمر على تعيين الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان. وقد زعم بعضهم فيما حكاه ابن التين أنه ليس في هذه السورة عند القراء خلاف فيما ينقص من خط المصحف سوى قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} وقرئ "سرجا" جمع سراج، قال: وباقي ما فيها من الخلاف لا يخالف خط المصنف. قلت: وقد تتبع أبو عمر بن عبد البر ما اختلف فيه القراء من ذلك من لدن الصحابة ومن بعدهم من هذه السورة، فأوردته ملخصا وزدت عليه قدر ما ذكره وزيادة على ذلك، وفيه تعقب على ما حكاه ابن التين في سبعة مواضع أو أكثر، قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} قرأ أبو الجوزاء وأبو السوار "أنزل" بألف. قوله: {عَلَى عَبْدِهِ} قرأ عبد الله بن الزبير وعاصم الجحدري "على عباده" ومعاذ أبو حليمة وأبو نهيك "على عبيده". قوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} قرأ طلحة بن مصرف ورويت عن إبراهيم النخعي بضم المثناة الأولى وكسر الثانية مبنيا للمفعول، وإذا ابتدأ ضم أوله. قوله: {مَلَكٌ فَيَكُونَ} قرأ عاصم الجحدري وأبو المتوكل ويحيى بن يعمر "فيكون" بضم النون. قوله: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} قرأ الأعمش وأبو حصين "يكون" بالتحتانية. قوله: {يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ الكوفيون سوى عاصم "نأكل" بالنون ونقله في الكامل عن القاسم وابن سعد وابن مقسم. قوله: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} قرأ ابن كثير وابن عامر وحميد وتبعهم أبو بكر وشيبان عن عاصم وكذا محجوب عن أبي عمرو وورش "يجعل" برفع اللام والباقون بالجزم عطفا على محل جعل وقيل لإدغامها، وهذا يجري على طريقة أبي عمرو بن العلاء، وقرأ بنصب اللام عمر بن ذر وابن أبي عبلة وطلحة ابن سليمان وعبد الله بن موسى، وذكرها الفراء جوازا على إضمار إن ولم ينقلها، وضعفها ابن جني. قوله: {مَكَاناً ضَيِّقاً} قرأ ابن كثير والأعمش وعلى بن نصر ومسلمة بن محارب بالتخفيف، ونقلها عقبة بن يسار عن أبي عمرو أيضا. قوله: {مُقَرَّنِينَ} قرأ عاصم الجحدري ومحمد بن السميفع "مقرنون". قوله: {ثُبُوراً} قرأ المذكوران بفتح المثلثة. قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب والأعرج والجحدري وكذا الحسن وقتادة والأعمش على اختلاف عنهم بالتحتانية وقرأ الأعرج1 بكسر الشين، قال ابن جني وهي قوية في القياس متروكة في الاستعمال. قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قرأ ابن مسعود وأبو نهيك وعمر بن ذر " وما يعبدون من دوننا". قوله: {فَيَقُولُ} قرأ ابن عامر وطلحة ابن مصرف وسلام وابن حسان وطلحة بن سليمان وعيسى بن عمر وكذا الحسن وقتادة على اختلاف عنهما ورويت عن عبد الوارث عن أبي عمرو بالنون. قوله: {مَا كَانَ يَنْبَغِي} قرأ أبو عيسى الأسواري وعاصم الجحدري بضم الياء وفتح الغين. قوله: {أَنْ نَتَّخِذَ} قرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت والباقر وأخوه زيد وجعفر الصادق ونصر بن علقمة ومكحول وشيبة وحفص ابن حميد وأبو جعفر القارئ وأبو حاتم السجستاني والزعفران - وروى عن مجاهد - وأبو رجاء
ـــــــ
1 في نسخة الأعمش

(9/33)


والحسن بضم أوله وفتح الخاء على البناء للمفعول، وأنكرها أبو عبيد وزعم الفراء أن أبا جعفر تفرد بها. قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} حكى القرطبي أنها قرئت بالتخفيف. قوله: {بِمَا تَقُولُونَ} قرأ ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير والأعمش وحميد بن قيس وابن جريج وعمر بن ذر وأبو حيوة ورويت عن قنبل بالتحتانية. قوله: "فما يستطيعون" قرأ حفص في الأكثر عنه عن عاصم بالفوقانية وكذا الأعمش وطلحة بن مصرف وأبو حيوة. قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ} قرى "يذقه" بالتحتانية. قوله {إِلَّا إِنَّهُمْ} قرئ "أنهم" بفتح الهمزة والأصل لأنهم فحذفت اللام، نقل هذا والذي قبله من "إعراب السمين". قوله: {وَيَمْشُونَ} قرأ علي وابن مسعود وابنه عبد الرحمن وأبو عبد الرحمن السلمي بفتح الميم وتشديد الشين مبنيا للفاعل وللمفعول أيضا. قوله: {حِجْراً مَحْجُوراً} قرأ الحسن والضحاك وقتادة وأبو رجاء والأعمش "حجرا" بضم أوله وهي لغة، وحكى أبو البقاء الفتح عن بعض المصريين ولم أر من نقلها قراءة. قوله :{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} قرأ الكوفيون وأبو عمر والحسن في المشهور عنهما وعمرو بن ميمون ونعيم بن ميسرة بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد ووافقهم عبد الوارث ومعاذ عن أبي عمرو وكذا محبوب وكذا الحمصي من الشاميين في نقل الهذلي. قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} قرأ الأكثر بضم النون وتشديد الزاي وفتح اللام الملائكة بالرفع، وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو ورويت عن معاذ أبي حليمة بتخفيف الزاي وضم اللام، والأصل تنزل الملائكة فحذفت تخفيفا، وقرأ أبو رجاء ويحيى بن يعمر وعمر بن ذر ورويت عن ابن مسعود ونقلها ابن مقسم عن المكي واختارها الهذلي بفتح النون وتشديد الزاي وفتح اللام على البناء للفاعل الملائكة بالنصب، وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو بالتخفيف الملائكة بالرفع على البناء للفاعل، ورويت عن الخفاف على البناء للمفعول أيضا، وقرأ ابن كثير في المشهور عنه وشعيب عن أبي عمرو "وننزل" بنونين الثانية خفيفة الملائكة بالنصب، وقرئ بالتشديد عن ابن كثير أيضا، وقرأ هارون عن أبي عمرو بمثناة أوله وفتح النون وكسر الزاي الثقيلة الملائكة بالرفع أي تنزل ما أمرت به، وروي عن أبي بن كعب مثله لكن بفتح الزاي وقرأ أبو السمال وأبو الأشهب كالمشهور عن ابن كثير لكن بألف أوله، وعن أبي بن كعب "نزلت: بفتح وتخفيف وزيادة مثناة في آخره، وعنه مثله لكن بضم أوله مشددا، وعنه "تنزلت: بمثناة في أوله وفي آخره بوزن تفعلت. قوله: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} قرأ أبو عمرو بفتح الياء الأخيرة من {لَيْتَنِي} قوله: {يَا وَيْلَتَى} قرأ الحسن بكسر المثناة بالإضافة، ومنهم من أمال. قوله: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا} قرأ أبو عمرو وروح وأهل مكة - إلا رواية ابن مجاهد عن قنبل - بفتح الياء "من قومي". قوله:{لِنُثَبِّتَ}قرأ ابن مسعود بالتحتانية بدل النون، وكذا روى عن حميد ابن قيس وأبي حصين وأبي عمران الجوني. قوله: {فَدَمَّرْنَاهُمْ} قرأ علي ومسلمة بن محارب" فدمرانهم" بكسر الميم وفتح الراء وكسر النون الثقيلة بينهما ألف تثنية، وعن علي بغير نون، والخطاب لموسى وهارون. قوله: {وَعَاداً وَثَمُودَ} قرأ حمزة ويعقوب وحفص وثمود بغير صرف. قوله: {أُمْطِرَتْ} قرأ معاذ أبو حليمة وزيد بن علي وأبو نهيك "مطرت" بضم أوله وكسر الطاء مبنيا للمفعول، وقرأ ابن مسعود "أمطروا" وعنه "أمطرناهم". قوله: {مَطَرَ السَّوْءِ} قرأ أبو السمال وأبو العالية وعاصم الجحدري بضم السين، وأبو السمال أيضا مثله بغير همز. وقرأ علي وحفيده زين العابدين وجعفر بن محمد بن زين العابدين بفتح السين وتشديد الواو بلا همز. وكذا قرأ الضحاك لكن بالتخفيف. قوله: {هُزُواً} قرأ حمزة وإسماعيل بن جعفر والمفضل بإسكان الزاي

(9/34)


وحفص بالضم بغير همز. قوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ} قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب "اختاره الله من بيننا". قوله: "عن آلهتنا" قرأ ابن مسعود وأبي عن عبادة آلهتنا. قوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ} قرأ ابن مسعود بمد الهمزة وكسر اللام والتنوين بصيغة الجمع، وقرأ الأعرج بكسر أوله وفتح اللام بعدها ألف وهاء تأنيث وهو اسم الشمس، وعنه بضم أوله أيضا. قوله: {أَمْ تَحْسَبُ} قرأ الشامي بفتح السين. قوله: {أَوْ يَعْقِلُونَ} قرأ ابن مسعود "أو يبصرون" قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ} قرأ ابن مسعود "جعل" قوله: " {الرِّيَاحِ} قرأ ابن كثير وابن محيصن والحسن "الريح" . قوله :" نشرا" اقرأ ابن عامر وقتادة وأبو رجاء وعمرو بن ميمون بسكون الشين، وتابعهم هارون الأعور وخارجة بن مصعب كلاهما عن أبي عمرو، وقرأ الكوفيون سوى عاصم وطائفة بفتح أوله ثم سكون، وكذا قرأ الحسن وجعفر بن محمد والعلاء بن شبابة، وقرأ عاصم بموحدة بدل النون، وتابعه عيسى الهمداني وأبان بن ثعلب، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي في رواية وابن السميفع بضم الموحدة مقصور بوزن حبلى قوله: {لِنُحْيِيَ بِهِ} قرأ ابن مسعود "لننشر به". قوله :{مَيْتاً} قرأ أبو جعفر بالتشديد. قوله: {وَنُسْقِيَهُ} قرأ أبو عمرو وأبو حيوة وابن أبي عبلة بفتح النون، وهي رواية عن أبي عمرو وعاصم والأعمش. قوله: {وَأَنَاسِيَّ} قرأ يحيى بن الحارث بتخفيف آخره، وهي رواية عن الكسائي وعن أبي بكر بن عياش وعن قتيبة الميال وذكرها الفراء جوازا لا نقلا. قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} قرأ عكرمة بتخفيف الراء. قوله: {لِيَذَّكَّرُوا} قرأ الكوفيون سوى عاصم بسكون الدال مخففا. قوله: {وَهَذَا مِلْحٌ } قرأ أبو حصين وأبو الجوزاء وأبو المتوكل وأبو حيوة وعمر بن ذر ونقلها الهذلي عن طلحة بن مصرف، ورويت عن الكسائي وقتيبة الميال بفتح الميم وكسر اللام، واستنكرها أبو حاتم السجستاني. وقال ابن جني يجوز أن يكون أراد مالح فحذف الألف تخفيفا قال: مع أن مالح ليست فصيحة. قوله: {وَحِجْراً} تقدم، قوله: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ} قرأ زيد بن علي بجر النون نعتا للحي، وابن معدان بالنصب قال على المدح. قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ} قرأ المكيون والكسائي وخلف وأبان بن يزيد وإسماعيل بن جعفر، ورويت عن أبي عمرو وعن نافع "فسل به" بغير همز. قوله: "لما تأمرنا" قرأ الكوفيون بالتحتانية، لكن اختلف عن حفص، وقرأ ابن مسعود "لما تأمرنا به". قوله: "سراجا" قرأ الكوفيون سوى عاصم {سِرَاجاً} بضمتين، لكن سكن الراء الأعمش ويحيى بن وثاب وأبان بن ثعلب والشيرازي. قوله: "وقمر" قرأ الأعمش وأبو حصين والحسن ورويت عن عاصم بضم القاف وسكون الميم، وعن الأعمش أيضا فتح أوله. قوله: {أَنْ يُذْكَرَ} قرأ حمزة بالتخفيف وأبي بن كعب يتذكر ورويت عن علي وابن مسعود وقرأها أيضا إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف وعيسى الهمداني والباقر وأبوه وعبد الله بن إدريس ونعيم ابن ميسرة. قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} قرأ أبي بن كعب بضم العين وتشديد الموحدة، والحسن بضمتين بغير ألف وأبو المتوكل وأبو نهيك وأبو الجوزاء بفتح ثم كسر ثم تحتانية ساكنة قوله: {يَمْشُونَ} قرأ علي ومعاذ القارئ وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو المتوكل وأبو نهيك وابن السميفع بالتشديد مبنيا للفاعل" وعاصم الجحدري وعيسى بن، عمر مبنيا للمفعول. قوله: {سُجَّداً} قرأ إبراهيم النخعي "سجودا". قوله: {وَمُقَاماً} قرأ أبو زيد بفتح الميم. قوله: {وَلَمْ يَقْتُرُوا} قرأ ابن عامر والمدنيون هي رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي وعن الحسن وأبي رجاء ونعيم بن ميسرة والمفضل والأزرق والجعفي وهي رواية عن أبي بكر بضم أوله من الرباعي

(9/35)


وأنكرها أبو حاتم، وقرأ الكوفيون إلا من تقدم منهم وأبو عمرو في رواية بفتح أوله وضم التاء، وقرأ عاصم الجحدري وأبو حيوة وعيسى بن عمر وهي رواية عن أبي عمرو أيضا بضم أوله وفتح القاف وتشديد التاء والباقون بفتح أوله. وكسر التاء. قوله: {قَوَاماً} قرأ حسان بن عبد الرحمن صاحب عائشة بكسر القاف، وأبو حصين وعيسى بن عمر بتشديد الواو مع فتح القاف. قوله: {يَلْقَ أَثَاماً} قرأ ابن مسعود وأبو رجاء "يلقى" بإشباع القاف، وقرأ عمر بن ذر بضم أوله وفتح اللام وتشديد القاف بغير إشباع. قوله: {يُضَاعِفُ} قرأ أبو بكر عن عاصم برفع الفاء، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وشيبة ويعقوب يضعف بالتشديد. وقرأ طلحة بن سليمان بالنون، "العذاب" بالنصب. قوله: {َيَخْلُدْ} قرأ ابن عامر والأعمش وأبو بكر عن عاصم بالرفع. وقرأ أبو حيوة بضم أوله وفتح الخاء وتشديد اللام، ورويت عن الجعفي عن شعبة ورويت عن أبي عمرو لكن بتخفيف اللام، وقرأ طلحة بن مصرف ومعاذ القارئ وأبو المتوكل وأبو نهيك وعاصم الجحدري بالمثناة مع الجزم على الخطاب. قوله: {فِيهِ مُهَاناً} قرأ ابن كثير بإشباع الهاء من "فيه:" حيث جاء، وتابعه حفص عن عاصم هنا فقط. قوله: "وذريتنا" قرأ أبو عمرو والكوفيون سوى رواية عن عاصم بالإفراد، والباقون بالجمع. قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قرأ أبو الدرداء وابن مسعود وأبو هريرة وأبو المتوكل وأبو نهيك وحميد بن قيس وعمر بن ذر "قرأت" بصيغة الجمع. قوله: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} قرأ ابن مسعود "يجزون الجنة". قوله:"ويلقون فيها" قرأ الكوفيون سوى حفص وابن معدان بفتح أوله وسكون اللام، وكذا قرأ النميري عن المفضل. قوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} قرأ ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير "فقد كذب الكافرون" وحكى الواقدي عن بعضهم تخفيف الذال. قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ} قرأ أبو السمال وأبو المتوكل وعيسى بن عمر وأبان بن تغلب بالفوقانية. قوله: {لِزَاماً} قرأ أبو السمال بفتح اللام أسنده أبو حاتم السجستاني عن أبي زيد عنه ونقلها الهذلي عن أبان بن تغلب. قال أبو عمر بن عبد البر بعد أن أورد بعض ما أوردته: هذا ما في سورة الفرقان من الحروف التي بأيدي أهل العلم بالقرآن. والله أعلم بما أنكر منها عمر على هشام وما قرأ به عمر، فقد يمكن أن يكون هناك حروف أخرى لم تصل إلي، وليس كل من قرأ بشيء نقل ذلك عنه، ولكن إن فات من ذلك بشيء فهو النزر اليسير. كذا قال، والذي ذكرناه يزيد على ما ذكره مثله أو أكثر، ولكنا لا نتقلد عهدة ذلك، ومع ذلك فنقول يحتمل أن تكون بقيت أشياء لم يطلع عليها، على أني تركت أشياء مما يتعلق بصفة الأداء من الهمز والمد والروم والإشمام ونحو ذلك. ثم بعد كتابتي هذا وإسماعه وقفت على الكتاب الكبير المسمى "بالجامع الأكبر والبحر الأزخر" تأليف شيخ شيوخنا أبي القاسم عيسى بن عبد العزيز اللخمي الذي ذكر أنه جمع فيه سبعة آلاف رواية من طريق غير ما لا يليق. وهو في نحو ثلاثين مجلدة، فالتقطت منه ما لم يتقدم ذكره من الاختلاف فقارب قدر ما كنت ذكرته أولا وقد أوردته على ترتيب السورة قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} قرأ أدهم السدوسي بالمثناة فوق قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} قرأ سعيد بن يوسف بكسر الهمزة وفتح اللام بعدها ألف قوله: {ويمشي} قرأ العلاء بن شبابة وموسى بن إسحاق بضم أوله وفتح الميم وتشديد الشين المفتوحة، ونقل عن الحجاج بضم أوله وسكون الميم وبالسين المهملة المكسورة وقالوا هو تصحيف. قوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ} قرأ ابن أنعم بتحتانية أوله، وكذا محمد بن جعفر بفتح المثناة الأولى وسكون الثانية. قوله: "فلا يستطيعون" قرأ زهير بن

(9/36)


أحمد بمثناة من فوق. قوله: {جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ سالم بن عامر "جنات" بصيغة الجمع. قوله: {مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ} قرأ عبد الله بن سلام "مقرنين" بالتخفيف وقرأ سهل "مقرنون" بالتخفيف مع الواو. قوله: {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} قرأ أبو هشام "أم جنات" بصيغة الجمع. قوله: {عِبَادِي هَؤُلاءِ} قرأها الوليد بن مسلم بتحريك الياء. قوله: {نسُوا الذِّكْرَ} قرأ أبو مالك بضم النون وتشديد السين. قوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً} قرأ ابن مسعود "فما يستطيعون لكم" وأبي بن كعب "فما يستطيعون لك" حكى ذلك أحمد بن يحيى بن مالك عن عبد الوهاب عن هارون الأعور، وروى عن ابن الأصبهاني عن أبي بكر بن عياش وعن يوسف بن سعيد عن خلف ابن تميم عن زائدة كلاهما عن الأعمش بزيادة "لكم" أيضا. قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} قرأ يحيى بن واضح. "ومن يكذب" بدل يظلم ووزنها، وقرأها أيضا هارون الأعور "يكذب" بالتشديد. قوله: {عَذَاباً كَبِيراً} قرأ شعيب عن أبي حمزة بالمثلثة بدل الموحدة. قوله: {لَوْلا أُنْزِلَ} قرأ جعفر بن محمد بفتح الهمزة والزاي ونصب الملائكة. قوله: {عُتُوّاً كَبِيراً} قرئ "عتيا" بتحتانية بدل الواو، وقرأ أبو إسحاق الكوفي "كثيرا" بالمثلثة بدل الموحدة. قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} قرأ عبد الرحمن بن عبد الله "ترون" بالمثناة من فوق. قوله: {وَيَقُولُونَ} قرأ هشيم عن يونس "وتقولون" بالمثناة من فوق أيضا. قوله :{وَقَدِمْنَا} قرأ سعيد بن إسماعيل بفتح الدال. قوله: "إلى ما عملوا من عمل " قرأ الوكيعي "من عمل صالح" بزيادة "صالح". قوله: {هَبَاءً} قرأ محارب بضم الهاء مع المد، وقرأ نصر بن يوسف بالضم والقصر والتنوين، وقرأ ابن دينار كذلك لكن بفتح الهاء. قوله: {مُسْتَقَرّاً} قرأ طلحة بن موسى بكسر القاف. قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} قرأ أبو ضمام "ويوم" بالرفع والتنوين، وأبو وجرة بالرفع بلا تنوين، وقرأ عصمة عن الأعمش يوم "يرون السماء تشقق" بحذف الواو وزيادة يرون. قوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} قرأ سليمان بن إبراهيم "الملك" بفتح الميم وكسر اللام. قوله: {الْحَقُّ} قرأ أبو جعفر بن بزيد بنصب الحق. قوله: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} قرأ عامر بن نصير "تخذت". قوله: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} قرأ المعلى عن الجحدري بفتح النون والزاي مخففا، وقرأ زيد بن علي وعبيد الله بن خليد كذلك لكن مثقلا. قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ} قرأها الحسن بن محمد بن أبي سعدان عن أبيه بالرفع. قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} قرأ حامد الرمهرمزي "آيات" بالجمع. قوله: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} قرأ سورة بن إبراهيم "القريات" بالجمع، وقرأ بهرام "القرية" بالتصغير مثقلا. قوله: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} قرأ أبو حمزة عن شعبة بالمثناة من فوق فيهما. قوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ} قرأ عثمان بن المبارك بالمثناة من فوق فيهما قوله: {أَمْ تَحْسَبُ} قرأ حمزة بن حمزة بضم التحتانية وفتح السين المهملة. قوله :{سُبَاتاً} قرأ يوسف بن أحمد بكسر المهملة أوله وقال: معناه الراحة. قوله: {جِهَاداً كَبِيراً} قرأ محمد بن الحنفية بالمثلثة. قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} قرأ ابن عرفة "مرج" بتشديد الراء. قوله: "هذا عذب" قرأ الحسن بن محمد بن أبي سعدان بكسر الذال المعجمة. قوله: {فَجَعَلَهُ نَسَباً} قرأ الحجاج بن يوسف سببا بمهملة ثم موحدتين. قوله: {أَنَسْجُدُ} قرأ أبو المتوكل بالتاء المثناة من فوق. قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} قرأ الحسن بن محمد بن أبي سعدان عن أبيه "خلفه" بفتح الخاء وبالهاء ضمير يعود على الليل. قوله: {عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} قرأ ابن السميفع بضم الهاء. قوله: {قَالُوا سَلاماً} قرأ حمزة بن عروة سلما بكسر السين وسكون اللام. قوله: {بَيْنَ ذَلِكَ} قرأ جعفر بن إلياس بضم النون وقال: هو

(9/37)


اسم كان. قوله: {لا يَدْعُونَ} قرأ جعفر بن محمد بتشديد الدال. قوله: {وَلا يَقْتُلُونَ} قرأ ابن جامع بضم أوله وفتح القاف وتشديد التاء المكسورة، وقرأها معاذ كذلك لكن بألف قبل المثناة. قوله: {أَثَاماً} قرأ عبد الله بن صالح العجلي عن حمزة "إثما" بكسر أوله وسكون ثانيه بغير ألف قبل الميم، وروي عن ابن مسعود بصيغة الجمع {أَثَاماً} قوله: {يُبَدِّلُ اللَّهُ} قرأ عبد الحميد عن أبي بكر وابن أبي عبلة وأبان وابن مجالد عن عاصم، وأبو عمارة والبرهمي عن الأعمش، بسكون الموحدة. قوله: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قرأ أبو المظفر بنون بدل الراء قوله: {ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} قرأ تميم بن زياد بفتح الذال والكاف. قوله: {بِآياتِ رَبِّهِمْ} قرأ سليمان بن يزيد "بآية" بالإفراد. قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قرأ معروف بن حكيم "قرة عين" بالإفراد وكذا أبو صالح من رواية الكلبي عنه لكن قال: "قرات عين".
قوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ} قرأ جعفر بن محمد "واجعل لنا من المتقين إماما". قوله :{يُجْزَوْنَ} قرأ أبي في رواية: "يجازون". قوله: {الغرفة} قرأ أبو حامد "الغرفات". قوله :{تحية} قرأ ابن عمير "تحيات" بالجمع. قوله: "وسلاما" قرأ الحارث "وسلما" في الموضعين. قوله: {مستقرا ومقاما} قرأ عمير بن عمران "ومقاما" بفتح الميم. قوله: {فقد كذبتم} قرأ عبد ربه بن سعيد بتخفيف الذال. فهذه ستة وخمسون موضعا ليس فيها من المشهور شيء، فليضف إلى ما ذكرته أولا فتكون جملتها نحوا من مائة وثلاثين موضعا، والله أعلم واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} على جواز القراءة بكل ما ثبت من القرآن بالشروط المتقدمة، وهي شروط لا بد من اعتبارها، فمتى اختل شرط منها لم تكن تلك القراءة معتمدة، وقد قرر ذلك أبو شامة في "الوجيز" تقريرا بليغا وقال: لا يقطع بالقراءة بأنها منزلة من عند الله إلا إذا اتفقت الطرق عن ذلك الإمام الذي قام بإمامة المصر بالقراءة وأجمع أهل عصره ومن بعدهم على إمامته في ذلك، قال: أما إذا اختلفت الطرق عنه فلا، فلو اشتملت الآية الواحدة على قراءات مختلفة مع وجود الشرط المذكور جازت القراءة بها بشرط أن لا يختل المعنى ولا يتغير الإعراب. وذكر أبو شامة في "الوجيز" أن فتوى وردت من العجم لدمشق سألوا عن قارئ يقرأ عشرا من القرآن فيخلط القراءات، فأجاب ابن الحاجب وابن الصلاح وغير واحد من أئمة ذلك العصر بالجواز بالشروط التي ذكرناها. كمن يقرأ مثلا {فتلقى آدم من ربه كلمات} فلا يقرأ لابن كثير بنصب آدم ولأبي عمرو بنصب كلمات، وكمن يقرأ: {نَغْفِرْ لَكُمْ} بالنون "خطاياتكم" بالرفع، قال أبو شامة: لا شك في منع مثل هذا، وما عداه فجائز والله أعلم. وقد شاع في زماننا من طائفة من القراء إنكار ذلك حتى صرح بعضهم بتحريمه فظن كثير من الفقهاء أن لهم في ذلك معتمدا فتابعوهم وقالوا: أهل كل فن أدرى بفنهم، وهذا ذهول ممن قاله، فإن علم الحلال والحرام إنما يتلقى من الفقهاء، والذي منع ذلك من القراء إنما هو محمول على ما إذا قرأ برواية خاصة فإنه متى خلطها كان كاذبا على ذلك القارئ الخاص الذي شرع في إقراء روايته، فمن أقرأ رواية لم يحسن أن ينتقل عنها إلى رواية أخرى كما قاله الشيخ محيي الدين، وذلك من الأولوية لا على الحتم، أما المنع على الإطلاق فلا، والله أعلم.

(9/38)


6- باب تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ
4993- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ وَأَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ

(9/38)


مَاهَكٍ قَالَ إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ قَالَتْ وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ قَالَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ قَالَتْ لِمَ قَالَ لَعَلِّي أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ قَالَتْ وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الْحَلاَلُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لاَ تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لاَ تَزْنُوا لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلاَّ وَأَنَا عِنْدَهُ قَالَ فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ"
4994- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَطه وَالأَنْبِيَاءِ إِنَّهُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي"
4995- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ تَعَلَّمْتُ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
4996- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَقَدْ تَعَلَّمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهُنَّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَدَخَلَ مَعَهُ عَلْقَمَةُ وَخَرَجَ عَلْقَمَةُ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ الْحَوَامِيمُ حم الدُّخَانِ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ"
قوله: "باب تأليف القرآن" أي جمع آيات السورة الواحدة، أو جمع السور مرتبة في المصحف. قوله: "أن ابن جريج أخبرهم قال وأخبرني يوسف" كذا عندهم، وما عرفت ماذا عطف عليه، ثم رأيت الواو ساقطة في رواية النسفي، وكذا ما وقفت عليه من طرق هذا الحديث. قوله: "إذ جاءها عراقي" أي رجل من أهل العراق، ولم أقف على اسمه. قوله: "أي الكفن خير؟ قالت ويحك وما يضرك" ؟ لعل هذا العراقي كان سمع حديث سمرة المرفوع "البسوا من ثيابكم البياض وكفنوا فيها موتاكم فإنها أطهر وأطيب" وهو عند الترمذي مصححا، وأخرجه أيضا عن ابن عباس: فلعل العراقي سمعه فأراد أن يستثبت عائشة في ذلك، وكان أهل العراق اشتهروا بالتعنت في السؤال، فلهذا قال له عائشة: وما يضرك؟ تعني أي كفن كفنت فيه أجزأ. وقول ابن عمر الذي سأله عن دم البعوض مشهور حيث قال: انظروا إلى أهل العراق، يسألون عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "أؤلف عليه القرآن، فإنه يقرأ غير مؤلف" قال ابن كثير: كأن قصة هذا العراقي كانت قبل أن يرسل عثمان المصحف إلى الآفاق، كذا قال وفيه نظر، فإن يوسف بن ماهك لم يدرك زمان أرسل عثمان المصاحف إلى الآفاق، فقد ذكر المزي أن روايته عن أبي بن كعب مرسلة وأبي عاش بعد إرسال المصاحف على الصحيح، وقد صرح يوسف في

(9/39)


هذا الحديث أنه كان عند عائشة حين سألها هذا العراقي، والذي يظهر لي أن هذا العراقي كان ممن يأخذ بقراءة ابن مسعود، وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه كما سيأتي بيانه بعد الباب الذي يلي هذا، فكان تأليف مصحفه مغايرا لتأليف مصحف عثمان. ولا شك أن تأليف المصحف العثماني أكثر مناسبة من غيره، فلهذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف، وهذا كله على أن السؤال إنما وقع عن ترتيب السور. ويدل على ذلك قولها له "وما يضرك أيه قرأت قبل" ويحتمل أن يكون أراد تفصيل آيات كل سورة لقوله في آخر الحديث: "فأملت عليه آي السور" أي آيات كل سورة كأن تقول له سورة كذا مثلا كذا كذا آية، الأولى كذا الثانية إلخ، وهذا يرجع إلى اختلاف عدد الآيات، وفيه اختلاف بين المدني والشامي والبصري، وقد اعتنى أئمة القراء بجمع ذلك وبيان الخلاف فيه، والأول أظهر - ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين والله أعلم. قال ابن بطال: لا نعلم أحدا قال بوجوب ترتيب السور في القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها، بل يجوز أن يقرأ الكهف قبل البقرة والحج قبل الكهف مثلا، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكوسا فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها، وكان جماعة يصنعون ذلك في القصيدة من الشعر مبالغة في حفظها وتذليلا للسانه في سردها، فمنع السلف ذلك في القرآن فهو حرام فيه. وقال القاضي عياض في شرح حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاته في الليل بسورة النساء قبل آل عمران: هو كذلك في مصحف أبي بن كعب، وفيه حجة لمن يقول أن ترتيب السور اجتهاد وليس بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول جمهور العلماء واختاره القاضي الباقلاني قال: وترتيب السور ليس بواجب في التلاوة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التعليم فلذلك اختلفت المصاحف، فلما كتب مصحف عثمان رتبوه على ما هو عليه الآن، فلذلك اختلف ترتيب مصاحف الصحابة. ثم ذكر نحو كلام ابن بطال ثم قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف توقيف من الله تعالى وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. قوله: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار" هذا ظاهره مغاير لما تقدم أن أول شيء نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وليس فيها ذكر الجنة والنار، فلعل "من" مقدرة أي من أول ما نزل، أو المراد سورة المدثر فإنها أول ما نزل بعد فترة الوحي وفي آخرها ذكر الجنة والنار، فلعل آخرها نزل قبل نزول بقية سورة اقرأ، فإن الذي نزل أولا من اقرأ كما تقدم خمس آيات فقط. قوله: "حتى إذا ثاب" بالمثلثة ثم الموحدة أي رجع. قوله: "نزل الحلال والحرام" أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: "ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندعها" وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف، وسيأتي بيان المراد بالمفصل في الحديث الرابع. قوله: "لقد نزل بمكة إلخ" أشارت بذلك إلى تقوية ما ظهر لها من الحكمة المذكورة، وقد تقدم نزول سورة القمر - وليس فيها شيء من الأحكام - على نزول سورة البقرة والنساء مع كثرة ما اشتملتا عليه من الأحكام، وأشارت بقولها "وأنا عنده" أي بالمدينة، لأن دخولها عليه إنما كان بعد الهجرة اتفاقا، وقد تقدم ذلك في مناقبها. وفي الحديث رد على النحاس في زعمه أن سورة النساء مكية مستندا إلى قوله تعالى :{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} نزلت بمكة اتفاقا في قصة مفتاح الكعبة، لكنها حجة واهية، فلا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة بمكة

(9/40)


إذا نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية، بل الأرجح أن جميع ما نزل بعد الهجرة معدود من المدني. وقد اعتنى بعض الأئمة ببيان ما نزل من الآيات بالمدينة في السور المكية. وقد أخرج ابن الضريس في "فضائل القرآن" من طريق عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس أن الذي نزل بالمدينة البقرة ثم الأنفال ثم الأحزاب ثم المائدة ثم الممتحنة والنساء ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم القتال ثم الرعد ثم الرحمن ثم الإنسان ثم الطلاق ثم إذا جاء نصر الله ثم النور ثم المنافقون ثم المجادلة ثم الحجرات ثم التحريم ثم الجاثية ثم التغابن ثم الصف ثم الفتح ثم براءة، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن سورة الكوثر مدنية فهو المعتمد، واختلف في الفاتحة والرحمن والمطففين وإذا زلزلت والعاديات والقدر وأرأيت والإخلاص والمعوذتين، وكذا اختلف مما تقدم في الصف والجمعة والتغابن، وهذا بيان ما نزل بعد الهجرة من الآيات مما في المكي، فمن ذلك الأعراف: نزل بالمدينة منها {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} إلى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ}". يونس: نزل منها بالمدينة {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} آيتان وقيل {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} آية، وقيل من رأس أربعين إلى آخرها مدني. هود: ثلاث آيات {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}". النخل {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} الآية {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} إلى آخر السورة. الإسراء {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ} {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا}". الكهف: مكية إلا أولها إلى {جُرُزا} وآخرها من {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}. مريم: آية السجدة. الحج: من أولها إلى {شَدِيدٌ} و " {مَنْ كَانَ يَظُنُّ} و {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} و {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ}، و {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، و {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} وما بعدها، وموضع السجدتين و {هَذَانِ خَصْمَانِ}. الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى {رَحِيماً} ، الشعراء: آخرها من {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ}. القصص: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} إلى {الْجَاهِلِينَ} و {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}. العنكبوت: من أولها إلى {ويعلم المنافقين}. لقمان: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ}. ألم تنزيل: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً} وقيل من {تَتَجَافَى}. سبأ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}. الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} إلى {يَشْعُرُونَ}. المؤمن: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} والتي تليها. الشورى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى} و {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ} إلى {شَدِيدٌ}. الجاثية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا}. الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} وقوله: {فَاصْبِرْ}. ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ} إلى {لُغُوبٍ}. النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} إلى {اتَّقَى}. الرحمن: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. الواقعة: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}. ن: من {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلى {يَعْلَمُونَ} ومن {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} إلى {الصَّالِحِينَ}. المرسلات: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} فهذا ما نزل بالمدينة من آيات من سور تقدم نزولها بمكة. وقد بين ذلك حديث ابن عباس عن عثمان قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينزل عليه الآيات فيقول: ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا". وأما عكس ذلك وهو نزول شيء من سورة بمكة تأخر نزول تلك السورة إلى المدينة فلم أره إلا نادرا، فقد اتفقوا على أن الأنفال مدنية، لكن قيل إن قوله تعالى :{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية نزلت بمكة ثم نزلت سورة الأنفال بالمدينة، وهذا غريب جدا. نعم نزل من السور المدنية التي تقدم ذكرها بمكة ثم نزلت سورة الأنفال بعد الهجرة في العمرة والفتح والحج

(9/41)


ومواضع متعددة في الغزوات كتبوك وغيرها أشياء كثيرة كلها تسمى المدني اصطلاحا والله أعلم. حديث ابن مسعود، تقدم شرحه في تفسير سبحان وفي الأنبياء، والغرض منه هنا أن هذه السور نزلن بمكة وأنها مرتبة في مصحف ابن مسعود كما هي في مصحف عثمان، ومع تقديمهن في النزول فهن مؤخرات في ترتيب المصاحف. والمراد بالعتاق وهو بكسر المهملة أنهن من قديم ما نزل." تعلمت سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم: "هو طرف من حديث تقدم شرحه في أحاديث الهجرة، والغرض منه أن هذه السورة متقدمة النزول، وهي في أواخر المصحف مع ذلك. قوله: "عن شقيق" هو ابن سلمة وهو أبو وائل مشهور بكنيته أكثر من اسمه: وفي رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عن الأعمش "سمعت أبا وائل" أخرجه الترمذي. قوله: "قال عبد الله" سيأتي في "باب الترتيل" بلفظ: "غدونا على عبد الله" وهو ابن مسعود. قوله: "لقد تعلمت النظائر" تقدم شرحه مستوفى في "باب الجمع بين سورتين في الصلاة" من أبواب صفة الصلاة، وفيه أسماء السور المذكورة، وأن فيه دلالة على أن تأليف مصحف ابن مسعود على غير تأليف العثماني، وكان أوله الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ولم يكن على ترتيب النزول، ويقال إن مصحف على كان على ترتيب النزول أوله اقرأ ثم المدثر ثم ن والقلم ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير ثم سبح وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني والله أعلم. وأما ترتيب المصحف على ما هو عليه الآن فقال القاضي أبو بكر الباقلاني: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بترتيبه هكذا، ويحتمل أن يكون من اجتهاد الصحابة، ثم رجح الأول بما سيأتي في الباب الذي بعد هذا أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يعارض به جبريل في كل سنة. فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب، وبه جزم ابن الأنباري، وفيه نظر، بل الذي يظهر أنه كان يعارضه به على ترتيب النزول. نعم ترتيب بعض السور على بعض أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفا وإن كان بعضه من اجتهاد بعض الصحابة، وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس قال: "قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المبين فقرنتم بهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينزل عليه السورة ذات العدد، فإذا نزل عليه الشيء - يعني منها - دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكان قصتها شبيهة بها فظننت أنها منها. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ا ه. فهذا يدل على أن ترتيب الآيات في كل سورة كان توقيفا، ولما لم يفصح النبي صلى الله عليه وسلم بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادا منه رضي الله تعالى عنه. ونقل صاحب" الإقناع "أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود، قال: ولا يؤخذ بهذا. وكان من علامة ابتداء السورة نزول {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أول ما ينزل شيء منها كما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ختم السورة حتى ينزل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" وفي رواية: "فإذا نزلت بسم الرحمن الرحيم علموا أن السورة قد انقضت" ومما يدل على أن ترتيب المصحف كان توقيفا ما أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن أوس بن أبي أوس حذيفة الثقفي قال: "كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف" فذكر الحديث وفيه: "فقال لنا رسول صلى الله عليه وسلم: طرأ علي حزبي من القرآن فأردت

(9/42)


أن لا أخرج حتى أقضيه. قال فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل من ق حتى تختم. قلت: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن الذي كان مرتبا حينئذ حزب المفصل خاصة، بخلاف ما عداه فيحتمل أن يكون كان فيه تقديم وتأخير كما ثبت من حديث حذيفة "أنه صلى الله عليه وسلم قرأ النساء بعد البقرة قبل آل عمران" ويستفاد من هذا الحديث - حديث أوس - أن الراجح في المفصل أنه من أول سورة ق إلى آخر القرآن، لكنه مبني على أن الفاتحة لم تعد في الثلث الأول فإنه يلزم من عدها أن يكون أول المفصل من الحجرات وبه جزم جماعة من الأئمة، وقد نقلنا الاختلاف في تحديده في "باب الجهر بالقراءة في المغرب" من أبواب صفة الصلاة، والله أعلم.

(9/43)


7- باب كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ حَضَرَ أَجَلِي"
4997- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ"
4998- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرًا فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ فِي الْعَام الَّذِي قُبِضَ فِيهِ"
قوله: "باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم" بكسر الراء من العرض وهو بفتح العين وسكون الراء أي يقرأ، والمراد يستعرضه ما أقرأه إياه. قوله: "وقال مسروق عن عائشة عن فاطمة قالت: أسر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن" هذا طرف من حديث وصله بتمامه في علامات النبوة، وتقدم شرحه في "باب الوفاة النبوية" من آخر المغازي، وتقدم بيان فائدة المعارضة في الباب الذي قبله. والمعارضة مفاعلة من الجانبين كأن كلا منهما كان تارة يقرأ والآخر يستمع. قوله: "وأنه عارضني" في رواية السرخسي "وأني عارضني". قوله: "إبراهيم بن سعد عن الزهري" تقدم في الصيام من وجه آخر عن إبراهيم بن سعد قال أنبأنا الزهري، وإبراهيم بن سعد سمع من الزهري ومن صالح بن كيسان عن الزهري، وروايته على الصفتين تكررت في هذا الكتاب كثيرا وقد تقدمت فوائد حديث ابن عباس هذا في بدء الوحي فنذكر هنا نكتا مما لم يتقدم. قوله "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود

(9/43)


الناس" فيه احتراس بليغ لئلا يتخيل من قوله: "وأجود ما يكون في رمضان" أن الأجودية خاصة منه برمضان فيه فأثبت له الأجودية المطلقة أولا ثم عطف عليها زيادة ذلك في رمضان. قوله: "وأجود ما يكون في رمضان" تقدم في بدء الوحي من وجه آخر عن الزهري بلفظ: "وكان أجود ما يكون في رمضان" وتقدم أن المشهور في ضبط أجود أنه بالرفع وأن النصب موجه، وهذه. الرواية مما تؤيد الرفع. قوله: "لأن جبريل كان يلقاه" فيه بيان سبب الأجودية المذكورة، وهي أبين من الرواية التي في بدء الوحي بلفظ: "وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل". قوله: "في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ" أي رمضان، وهذا ظاهر في أنه كان يلقاه كذلك في كل رمضان منذ أنزل عليه القرآن ولا يختص ذلك برمضانات الهجرة، وإن كان صيام شهر رمضان إنما فرض بعد الهجرة لأنه كان يسمى رمضان قبل أن يفرض صيامه. قوله: "يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن" هذا عكس ما وقع في الترجمة لأن فيها أن جبريل كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: "وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن" فيحمل على أن كلا منهما كان يعرض على الآخر، ويؤيده ما وقع في رواية أبي هريرة آخر أحاديث الباب كما سأوضحه. وفي الحديث إطلاق القرآن على بعضه وعلى معظمه، لأن أول رمضان من بعد البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده، إلى رمضان الأخير فكان قد نزل كله إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور، وكان في سنة عشر إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، ومما نزل في تلك المدة قوله تعالى :{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإنها نزلت يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم بها بالاتفاق، وقد تقدم في هذا الكتاب، وكأن الذي نزل في تلك الأيام لما كان قليلا بالنسبة لما تقدم اغتفر أمر معارضته، فيستفاد من ذلك أن القرآن يطلق على البعض مجازا، ومن ثم لا يحنث من حلف ليقرأن القرآن فقرأ بعضه، إلا إن قصد الجميع. واختلف في العرضة الأخيرة هل كانت بجميع الأحرف المأذون في قراءتها أو بحرف واحد منها؟ وعلى الثاني فهل هو الحرف الذي جمع عليه عثمان جميع الناس أو غيره؟ وقد روى أحمد وابن أبي داود والطبري من طريق عبيدة بن عمرو السلماني "أن الذي جمع عليه عثمان الناس يوافق العرضة الأخيرة" ومن طريق محمد بن سيرين قال: "كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن - الحديث نحو حديث ابن عباس وزاد في آخره -: فيرون أن قراءتنا أحدث القراءات عهدا بالعرضة الأخيرة". وعند الحاكم نحوه من حديث سمرة وإسناده حسن، وقد صححه هو ولفظه: "عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات، ويقولون إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة" ومن طريق مجاهد "عن ابن عباس قال: أي القراءتين ترون كان آخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد ابن ثابت، فقال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن كل سنة على جبريل، فلما كان في السنة التي قبض فيها عرضه عليه مرتين وكانت قراءة ابن مسعود آخرهما" وهذا يغاير حديث سمرة ومن وافقه، وعند مسدد في مسنده من طريق إبراهيم النخعي "أن ابن عباس سمع رجلا يقول: الحرف الأول، فقال: ما الحرف الأول؟ قال إن عمر بعث ابن مسعود إلى الكوفة معلما فأخذوا بقراءته فغير عثمان القراءة، فهم يدعون قراءة ابن مسعود الحرف الأول، فقال ابن عباس: إنه لآخر حرف عرض به النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل" وأخرج النسائي من طريق أبي ظبيان قال: "قال لي ابن عباس: أي القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد - يعني عبد الله بن مسعود - قال: بل هي الأخيرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض

(9/44)


على جبريل - الحديث وفي آخره - فحضر ذلك ابن مسعود فعلم ما نسخ من ذلك وما بدل" وإسناده صحيح، ويمكن الجمع بين القولين بأن تكون العرضتان الأخيرتان وقعتا بالحرفين المذكورين. فيصح إطلاق الآخرية على كل منهما. قوله: "أجود بالخير من الريح المرسلة" فيه جواز المبالغة في التشبيه، وجواز تشبيه المعنوي بالمحسوس ليقرب لفهم سامعه، وذلك أنه أثبت له أولا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ في ذلك منها، لأن الريح قد تسكن. وفيه الاحتراس لأن الريح منها العقيم الضارة ومنها المبشرة بالخير فوصفها بالمرسلة ليعين الثانية، وأشار إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً} 1 {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} ونحو ذلك، فالريح المرسلة تستمر مدة إرسالها، وكذا كان عمله صلى الله عليه وسلم في رمضان ديمة لا ينقطع، وفيه استعمال أفعل التفضيل في الإسناد الحقيقي والمجازي، لأن الجود من النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة ومن الريح مجاز فكأنه استعار للريح جودا باعتبار مجيئها بالخير فأنزلها منزلة من جاد، وفي تقديم معمول أجود على المفضل عليه نكتة لطيفة، وهي أنه لو أخره لظن تعلقه بالمرسلة، وهذا وإن كان لا يتغير به المعنى المراد بالوصف من الأجودية إلا أنه تفوت فيه المبالغة لأن المراد وصفه بزيادة الأجودية على الريح المرسلة مطلقا. وفي الحديث من الفوائد غير ما سبق تعظيم شهر رمضان لاختصاصه بابتداء نزول القرآن فيه، ثم معارضته ما نزل منه فيه، ويلزم من ذلك كثر، نزول جبريل فيه. وفي كثرة نزوله من توارد الخيرات والبركات ما لا يحصى، ويستفاد منه أن فضل الزمان إنما يحصل بزيادة العبادة. وفيه أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير. وفيه استحباب تكثير العبادة في آخر العمر، ومذاكرة الفاضل بالخير والعلم وإن كان هو لا يخفى عليه ذلك لزيادة التذكرة والاتعاظ. وفيه أن ليل رمضان أفضل من نهاره، وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم لأن الليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان أجزاء فيقرأ كل ليلة جزءا في جزء من الليلة، والسبب في ذلك ما كان يشتغل به في كل ليلة من سوى ذلك من تهجد بالصلاة ومن راحة بدن ومن تعاهد أهل، ولعله كان يعيد ذلك الجزء مرارا بحسب تعدد الحروف المأذون في قراءتها ولتستوعب بركة القرآن جميع الشهر، ولولا التصريح بأنه كان يعرضه مرة واحدة وفي السنة الأخيرة عرضه مرتين لجاز أنه كان يعرض جميع ما نزل عليه كل ليلة ثم يعيده في بقية الليالي. وقد أخرج أبو عبيد من طريق داود بن أبي هند قال: قلت للشعبي: قوله تعالى :{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أما كان ينزل عليه في سائر السنة؟ قال: بلى. ولكن جبريل كان يعارض مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ما أنزل الله فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء. ففي هذا إشارة إلى الحكمة في التقسيط الذي أشرت إليه لتفصيل ما ذكره من المحكم والمنسوخ. ويؤيده أيضا الرواية الماضية في بدء الخلق بلفظ: "فيدارسه القرآن" فإن ظاهره أن كلا منهما كان يقرأ على الآخر، وهي موافقة لقوله: "يعارضه" فيستدعي ذلك زمانا زائدا على ما لو قرأ الواحد، ولا يعارض ذلك قوله تعالى :{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} إذا قلنا إن "لا" نافية كما هو المشهور وقول الأكثر، لأن المعنى أنه إذا أقرأه فلا ينسى ما أقرأه، ومن جملة الإقراء مدارسة جبريل، أو المراد أن المنفي بقوله: {فَلا تَنْسَى} النسيان الذي لا ذكر بعده لا النسيان الذي يعقبه الذكر في الحال حتى لو قدر
ـــــــ
(1 )في الأصل "مبشرات" والتصحيح من سورة الأعراف57، وأما "مبشرات" فآية أرخى في سورة الروم 46.

(9/45)


أنه نسى شيئا فإنه يذكره إياه في الحال، وسيأتي مزيد بيان لذلك في "باب نسيان القرآن" إن شاء الله تعالى. وقد تقدمت بقية فوائد حديث ابن عباس في بدء الوحي. قوله: "حدثنا خالد بن يزيد" هو الكاهلي، وأبو بكر هو ابن عياش بالتحتانية والمعجمة. وأبو حصين بفتح أوله عثمان بن عاصم، وذكوان هو أبو صالح السمان. قوله: "كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم" كذا لهم بضم أوله على البناء للمجهول، وفي بعضها بفتح أوله بحذف الفاعل، فالمحذوف هو جبريل صرح به إسرائيل في روايته عن أبي حصين أخرجه الإسماعيلي ولفظه: "كان جبريل يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل رمضان" وإلى هذه الرواية أشار المصنف في الترجمة. قوله: "القرآن كل عام مرة" سقط لفظ: "القرآن" لغير الكشميهني، زاد إسرائيل عند الإسماعيلي: "فيصبح وهو أجود بالخير من الريح المرسلة" وهذه الزيادة غريبة في حديث أبي هريرة، وإنما هي محفوظة من حديث ابن عباس. قوله: "فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه" في رواية إسرائيل "عرضتين" وقد تقدم ذكر الحكمة في تكرار العرض في السنة الأخيرة، ويحتمل أيضا أن يكون السر في ذلك أن رمضان من السنة الأولى لم يقع فيه مدارسة لوقوع ابتداء النزول في رمضان، ثم فتر الوحي ثم تتابع فوقعت المدارسة في السنة الأخيرة مرتين ليستوي عدد السنين والعرض. قوله: "وكان يعتكف في كل عام عشرا فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه" ظاهره أنه اعتكف عشرين يوما من رمضان وهو مناسب لفعل جبريل حيث ضاعف عرض القرآن في تلك السنة، ويحتمل أن يكون السبب ما تقدم في الاعتكاف أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف عشرا فسافر عاما فلم يعتكف فاعتكف من قابل عشرين يوما، وهذا إنما يتأتى في سفر وقع في شهر رمضان "وكان رمضان من سنة تسع دخل وهو صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهذا بخلاف القصة المتقدمة في كتاب الصيام أنه شرع في الاعتكاف في أول العشر الأخير فلما رأى ما صنع أزواجه من ضرب الأخبية تركه ثم اعتكف عشرا في شوال، ويحتمل اتحاد القصة، ويحتمل أيضا أن تكون القصة التي في حديث الباب هي التي أوردها مسلم وأصلها عند البخاري من حديث أبي سعيد قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاوز العشر التي في وسط الشهر، فإذا استقبل إحدى وعشرين رجع، فأقام في شهر جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها ثم قال: إني كنت أجاور هذه العشر الوسط ثم بدا لي أن أجاور العشر الأواخر، فجاور العشر الأخير" الحديث، ليكون المراد بالعشرين العشر الأوسط والعشر الأخير.

(9/46)


باب القراءة من أصحاب النبي صلى الله وعليه وسلم
...
8- باب الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4999- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ لاَ أَزَالُ أُحِبُّهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَالِمٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ"
5000- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ خَطَبَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ قَالَ شَقِيقٌ فَجَلَسْتُ فِي الْحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ فَمَا سَمِعْتُ رَادًّاً

(9/46)


يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ"
5001- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ كُنَّا بِحِمْصَ فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحْسَنْتَ وَوَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ فَقَالَ أَتَجْمَعُ أَنْ تُكَذِّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَشْرَبَ الْخَمْرَ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ"
5002- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ وَلاَ أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللَّهِ تُبَلِّغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ"
5003- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنْ الأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ تَابَعَهُ الْفَضْلُ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ"
5004- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ وَثُمَامَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ قَالَ وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ"
5005- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ أُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ لَحَنِ أُبَيٍّ وَأُبَيٌّ يَقُولُ أَخَذْتُهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ أَتْرُكُهُ لِشَيْءٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}"
قوله: "باب القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي الذين اشتهروا بحفظ القرآن والتصدي لتعليمه، وهذا اللفظ كان في عرف السلف أيضا لمن تفقه في القرآن. وذكر فيه ستة أحاديث الأول عن عمرو هو ابن مرة، وقد نسبه المصنف في المناقب من هذا الوجه، وذهل الكرماني. فقال: هو عمرو بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي، وليس كما قال. قوله: "عن مسروق" جاء عن إبراهيم وهو النخعي فيه شيخ آخر أخرجه الحاكم من طريق أبي سعيد المؤدب عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، وهو مقلوب فإن المحفوظ في هذا عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق كما تقدم في المناقب، ويحتمل أن يكون إبراهيم حمله عن شيخين والأعمش حمله عن شيخين. قوله: "خذوا القرآن من أربعة" أي تعلموه منهما، والأربعة المذكورون اثنان من المهاجرين وهما المبدأ بهما واثنان من الأنصار، وسالم هو ابن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ هو ابن جبل. وقد تقدم هذا الحديث في مناقب سالم مولى أبي حذيفة من هذا الوجه وفي أوله "ذكر عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو فقال: ذاك رجل لا أزال أحبه

(9/47)


بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خذوا القرآن من أربعة فبدأ به" فذكر حديث الباب. ويستفاد منه محبة من يكون ماهرا في القرآن، وأن البداءة بالرجل في الذكر على غيره في أمر اشترك فيه مع غيره يدل على تقدمه فيه، وتقدم بقية شرحه هناك. وقال الكرماني: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد الإعلام بما يكون بعده، أي أن هؤلاء الأربعة يبقون حتى ينفردوا بذلك، وتعقب بأنهم لم ينفردوا بل الذين مهروا في تجويد القرآن بعد العصر النبوي أضعاف المذكورين، وقد قتل سالم مولى أبي حذيفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة اليمامة، ومات معاذ في خلافة عمر، ومات أبي وابن مسعود في خلافة عثمان، وقد تأخر زيد بن ثابت وانتهت إليه الرياسة في القراءة وعاش بعدهم زمانا طويلا، فالظاهر أنه أمر بالأخذ عنهم في الوقت الذي صدر فيه ذلك القول، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون أحد في ذلك الوقت شاركهم في حفظ القرآن، بل كان الذين يحفظون مثل الذين حفظوه وأزيد منهم جماعة من الصحابة، وقد تقدم في غزوة بئر معونة أن الذين قتلوا بها من الصحابة كان يقال لهم القراء وكانوا سبعين رجلا. قوله: "حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي" كذا للأكثر، وحكى الجياني أنه وقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني "حدثنا حفص بن عمر حدثنا أبي" وهو خطأ مقلوب، وليس لحفص بن عمر أب يروي عنه في الصحيح، وإنما هو عمر بن حفص بن غياث بالغين المعجمة والتحتانية والمثلثة، وكان أبوه قاضي الكوفة، وقد أخرج أبو نعيم الحديث المذكور في "المستخرج" من طريق سهل بن بحر عن عمر بن حفص بن غياث ونسبه ثم قال: أخرجه البخاري عن عمر بن حفص. قوله: "حدثنا شقيق بن سلمة" في رواية مسلم والنسائي جميعا عن إسحاق عن عبدة عن الأعمش عن أبي وائل وهو شقيق المذكور، وجاء عن الأعمش فيه شيخ آخر أخرجه النسائي عن الحسن بن إسماعيل عن عبدة بن سليمان عنه عن أبي إسحاق عن هبيرة بن يريم عن ابن مسعود، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون للأعمش فيه طريقان، وإلا فإسحاق وهو ابن راهويه أتقن من الحسن بن إسماعيل، مع أن المحفوظ عن أبي إسحاق فيه ما أخرجه أحمد وابن أبي داود من طريق الثوري وإسرائيل وغيرهما عن أبي إسحاق عن خمير بالخاء المعجمة مصغر عن ابن مسعود، فحصل الشذوذ في رواية الحسن بن إسماعيل في موضعين. قوله: "خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة" زاد عاصم عن بدر عن عبد الله "وأخذت بقية القرآن عن أصحابه" وعند إسحاق بن راهويه في روايته المذكورة في أوله {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ثم قال: على قراءة من تأمرونني أن أقرأ وقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فذكر الحديث. وفي رواية النسائي وأبي عوانة وابن أبي داود من طريق ابن شهاب عن الأعمش عن أبي وائل قال: "خطبنا عبد الله بن مسعود على المنبر فقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} غلوا مصاحفكم، وكيف تأمرونني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله" وفي رواية خمير بن مالك المذكورة بيان السبب في قول ابن مسعود هذا ولفظه: "لما أمر بالمصاحف أن تغير ساء ذلك عبد الله بن مسعود فقال من استطاع - وقال في آخره - أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وفي رواية له فقال: "إني غال مصحفي، فمن استطاع أن يغل مصحفه فليفعل" وعند الحاكم من طريق أبي ميسرة قال: "رحت فإذا أنا بالأشعري وحذيفة وابن مسعود، فقال ابن مسعود: والله لا أدفعه - يعني مصحفه أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فذكره. قوله: "والله لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله" وقع في رواية عبدة وأبي شهاب جميعا عن الأعمش "أني أعلمهم بكتاب الله" بحذف "من" وزاد: "ولو أعلم

(9/48)


أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه" وهذا لا ينفي إثبات "من" فإنه نفى الأغلبية ولم ينف المساواة، وسيأتي مزيد لذلك في الحديث الرابع. قوله: "وما أنا بخيرهم" يستفاد منه أن الزيادة في صفة من صفات الفضل لا تقتضي الأفضلية المطلقة، فالأعلمية بكتاب الله لا تستلزم الأعلمية المطلقة، بل يحتمل أن يكون غيره أعلم منه بعلوم أخرى فلهذا قال: "وما أنا بخيرهم" وسيأتي في هذا بحث في "باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه" إن شاء الله تعالى. قوله: "قال شقيق" أي بالإسناد المذكور: "فجلست في الحلق" بفتح المهملة واللام "فما سمعت رادا يقول غير ذلك" يعني لم يسمع من يخالف ابن مسعود يقول غير ذلك، أو المراد من يرد قوله ذلك. ووقع في رواية مسلم: "قال شقيق فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك ولا يعيبه" وفي رواية أبي شهاب "فلما نزل عن المنبر جلست في الحلق فما أحد ينكر ما قال:" وهذا يخصص عموم قوله: "أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: "بمن كان منهم بالكوفة ولا يعارض ذلك ما أخرجه ابن أبي داود من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن مسعود فذكر نحو حديث الباب وفيه: "قال الزهري: فبلغني أن ذلك كرهه من قول ابن مسعود رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأنه محمول على أن الذين كرهوا ذلك من غير الصحابة الذين شاهدهم شقيق بالكوفة، ويحتمل اختلاف الجهة. فالذي نفى شقيق أن أحدا رده أو عابه وصف ابن مسعود بأنه أعلمهم بالقرآن، والذي أثبته الزهري ما يتعلق بأمره بغل المصاحف، وكأن مراد ابن مسعود بغل المصاحف كتمها وإخفاؤها لئلا تخرج فتعدم وكأن ابن مسعود رأى خلاف ما رأى عثمان ومن وافقه في الاقتصار على قراءة واحدة وإلغاء ما عدا ذلك، أو كان لا ينكر الاقتصار لما في عدمه من الاختلاف، بل كان يزيد أن تكون قراءته هي التي يعول عليها دون غيرها لما له من المزية في ذلك مما ليس لغيره كما يؤخذ ذلك من ظاهر كلامه، فلما فاته ذلك ورأى أن الاقتصار على قراءة زيد ترجيح بغير مرجح عنده اختار استمرار القراءة على ما كانت عليه، على أن ابن أبي داود ترجم "باب رضي ابن مسعود بعد ذلك بما صنع عثمان" لكن لم يورد ما يصرح بمطابقة ما ترجم به. قوله: "كنا بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف" هذا ظاهره أن علقمة حضر القصة، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه، وأخرجه أبو نعيم من طريق يوسف القاضي عن محمد بن كثير فقال فيه: "عن علقمة قال: كان عبد الله بحمص" وقد أخرجه مسلم من طريق جرير عن الأعمش ولفظه: "عن عبد الله بن مسعود قال: كنت بحمص، فقرأت" فذكر الحديث، وهذا يقتضي أن علقمة لم يحضر القصة وإنما نقلها عن ابن مسعود، وكذا أخرجه أبو عوانة من طرق عن الأعمش ولفظه: "كنت جالسا بحمص" وعند أحمد عن أبي معاوية عن الأعمش قال:" عن عبد الله أنه قرأ سورة يوسف" ورواية أبي معاوية عند مسلم لكن أحال بها. قوله:" فقال رجل ما هكذا أنزلت" لم أقف على اسمه، وقد قيل إنه نهيك بن سنان الذي تقدمت له مع ابن مسعود في القرآن قصة غير هذه، لكن لم أر ذلك صريحا. وفي رواية مسلم:" فقال لي بعض القوم: اقرأ علينا، فقرأت عليهم سورة يوسف، فقال رجل من القوم: ما هكذا أنزلت: {فإن كان السائل هو القائل وإلا ففيه مبهم آخر. قوله:" فقال قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم:" فقلت ويحك، والله لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله:" ووجد منه ريح الخمر" هي جملة حالية، ووقع في رواية مسلم:" فبينما أنا أكلمه إذ وجدت منه ريح الخمر". قوله:" فضربه الحد" في رواية مسلم:" فقلت لا تبرح حتى أجلدك، قال فجلدته الحد" قال النووي: هذا محمول على أن ابن مسعود كانت

(9/49)


له ولاية إقامة الحدود نيابة عن الإمام، إما عموما وإما خصوصا، وعلى أن الرجل اعترف بشربها بلا عذر، وإلا فلا يجب الحد بمجرد ريحها. وعلى أن التكذيب كان بإنكار بعضه جاهلا، إذ لو كذب به حقيقة لكفر، فقد أجمعوا على أن من جحد حرفا مجمعا عليه من القرآن كفر ا ه، والاحتمال الأول جيد، ويحتمل أيضا أن يكون قوله:" فضربه الحد" أي رفعه إلى الأمير فضربه فأسند الضرب إلى نفسه مجازا لكونه كان سببا فيه. وقال القرطبي: إنما أقام عليه الحد لأنه جعل له ذلك من له الولاية، أو لأنه رأى أنه قام عن الإمام بواجب، أو لأنه كان ذلك في زمان ولايته الكوفة فإنه وليها في زمن عمر وصدرا من خلافة عثمان انتهى، والاحتمال الثاني موجه، وفي الأخير غفلة عما في أول الخبر أن ذلك كان بحمص، ولم يلها ابن مسعود وإنما دخلها غازيا وكان ذلك في خلافة عمر. وأما الجواب الثاني عن الرائحة فيرده النقل عن ابن مسعود أنه كان يرى وجوب الحد بمجرد وجود الرائحة، وقد وقع مثل ذلك لعثمان في قصة الوليد بن عقبة، ووقع عند الإسماعيلي إثر هذا الحديث النقل عن علي أنه أنكر على ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها إذ لم يقر ولم يشهد عليه. وقال القرطبي: في الحديث حجة على من يمنع وجوب الحد بالرائحة كالحنفية وقد قال به مالك وأصحابه وجماعة من أهل الحجاز. قلت: والمسألة خلافية شهيرة، وللمانع أن يقول: إذا احتمل أن يكون أقر سقط الاستدلال بذلك، ولما حكى الموفق في" المغني" الخلاف في وجوب الحد بمجرد الرائحة اختار أن لا يحد بالرائحة وحدها بل لا بد معها من قرينة كأن يوجد سكران أو يتقيأها، ونحوه أن يوجد جماعة شهروا بالفسق ويوجد معهم خمر ويوجد من أحدهم رائحة الخمر، وحكى ابن المنذر عن بعض السلف أن الذي يجب عليه الحد بمجرد الرائحة من يكون مشهورا بإدمان شرب الخمر وقيل بنحو هذا التفصيل فيمن شك وهو في الصلاة هل خرج منه ريح أو لا فإن قارن ذلك وجود رائحة دل ذلك على وجود الحدث فيتوضأ وإن كان في الصلاة فلينصرف، ويحمل ما ورد من ترك الوضوء مع الشك على ما إذا تجرد الظن عن القرينة، وسيكون لنا عودة إلى هذه المسألة في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. وأما الجواب عن الثالث فجيد أيضا، لكن يحتمل أن يكون ابن مسعود كان لا يرى بمؤاخذة السكران بما يصدر منه من الكلام في حال سكره. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الرجل كذب ابن مسعود ولم يكذب بالقرآن، وهو الذي يظهر من قوله:" ما هكذا أنزلت: فإن ظاهره أنه أثبت إنزالها ونفى الكيفية التي أوردها ابن مسعود. وقال الرجل ذلك إما جهلا منه أو قلة حفظ أو عدم تثبت بعثه عليه السكر، وسيأتي مزيد بحث في ذلك في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. قوله:" حدثنا مسلم" هو أبو الضحى الكوفي، وقع كذلك في رواية أبي حمزة عن الأعمش عند الإسماعيلي، وفي طبقة مسلم هذا رجلان من أهل الكوفة يقال لكل منهما مسلم أحدهما يقال له الأعور والآخر يقال له البطين، فالأول هو مسلم بن كيسان والثاني مسلم بن عمران، ولم أر لواحد منهما رواية عن مسروق فإذا أطلق مسلم عن مسروق عرف أنه هو أبو الضحى، ولو اشتركوا في أن الأعمش روى عن الثلاثة. قوله:" قال عبد الله" في رواية قطبة عن الأعمش عند مسلم:" عن عبد الله بن مسعود". قوله:" والله" في رواية جرير عن الأعمش عند ابن أبي داود" قال عبد الله لما صنع بالمصاحف ما صنع: والله إلخ". قوله:" فيمن أنزلت" في رواية الكشميهني:" فيما أنزلت: {ومثله في رواية قطبة وجرير: قوله:" ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل" في رواية الكشميهني:" تبلغنيه" وهي رواية جرير. قوله:" لركبت إليه" تقدم في الحديث الثاني بلفظ:" لرحلت إليه" ولأبي عبيدة من طريق ابن سيرين" نبئت

(9/50)


أن ابن مسعود قال: لو أعلم أحدا تبلغنيه الإبل أحدث عهدا بالعرضة الأخيرة مني لأتيته - أو قال - لتكلفت أن أتيه" وكأنه احترز بقوله تبلغنيه الإبل عمن لا يصل إليه على الرواحل إما لكونه كان لا يركب البحر فقيد بالبر أو لأنه كان جازما بأنه لا أحد يفوقه في ذلك من البشر فاحترز عن سكان السماء. وفي الحديث جواز ذكر الإنسان نفسه بما فيه من الفضيلة بقدر الحاجة، ويحمل ما ورد من ذم ذلك على من وقع ذلك منه فخرا أو إعجابا. حديث أنس، ذكره من وجهين قوله:" سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار" في رواية الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في أول الحديث:" افتخر الحيان الأوس والخزرج، فقال الأوس: منا أربعة: من اهتز له العرش سعد بن معاذ، ومن عدلت شهادته شهادة رجلين خزيمة ابن ثابت، ومن غسلته الملائكة حنظلة بن أبي عامر، ومن حمته الدبر عاصم بن ثابت. فقال الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن لم يجمعه غيرهم. فذكرهم. قوله:" وأبو زيد" تقدم في مناقب زيد بن ثابت من طريق شعبة عن قتادة" قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي" وتقدم بيان الاختلاف في اسم أبي زيد هناك وجوزت هناك أن لا يكون لقول أنس" أربعة" مفهوم، لكن رواية سعيد التي ذكرتها الآن من عند الطبري صريحة في الحصر، وسعيد ثبت في قتادة. ويحتمل مع ذلك أن مراد أنس" لم يجمعه غيرهم" أي من الأوس بقرينة المفاخرة المذكورة، ولم يرد نفي ذلك عن المهاجرين، ثم في رواية سعيد أن ذلك من قول الخزرج، ولم يفصح باسم قائل ذلك، لكن لما أورده أنس ولم يتعقبه كان كأنه قائل به ولا سيما وهو من الخزرج. وقد أجاب القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره عن حديث أنس هذا بأجوبة: أحدها أنه لا مفهوم له، فلا يلزم أن لا يكون غيرهم جمعه. ثانيها المراد لم يجمعه على جميع الوجوه والقراءات التي نزل بها إلا أولئك. ثالثها لم يجمع ما نسخ منه بعد تلاوته وما لم ينسخ إلا أولئك، وهو قريب من الثاني، رابعها أن المراد بجمعه تلقيه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بواسطة، بخلاف غيرهم فيحتمل أن يكون تلقى بعضه بالواسطة. خامسها أنهم تصدوا لإلقائه وتعليمه فاشتهروا به، وخفي حال غيرهم عمن عرف حالهم فحصر ذلك فيهم بحسب علمه، وليس الأمر في نفس الأمر كذلك، أو يكون السبب في خفائهم أنهم خافوا غائلة الرياء والعجب، وأمن ذلك من أظهره. سادسها المراد بالجمع الكتابة، فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظا عن ظهر قلب، وأما هؤلاء فجمعوه كتابة وحفظوه عن ظهر قلب. سابعها المراد أن أحدا لم يفصح بأنه جمعه بمعنى أكمل حفظه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أولئك، بخلاف غيرهم فلم يفصح بذلك لأن أحدا منهم لم يكمله إلا عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت آخر آية منه، فلعل هذه الآية الأخيرة وما أشبهها ما حضرها إلا أولئك الأربعة ممن جمع جميع القرآن قبلها، وإن كان قد حضرها من لم يجمع غيرها الجمع البين. ثامنها أن المراد بجمعه السمع والطاعة له والعمل بموجبه. وقد أخرج أحمد في الزهد من طريق أبي الزاهرية" أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال: إن ابني جمع القرآن، فقال: اللهم غفرا، إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع" وفي غالب هذه الاحتمالات تكلف ولا سيما الأخير وقد أومأت قبل هذا إلى احتمال آخر، وهو أن المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس فقط، فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين من المهاجرين ومن جاء بعدهم، ويحتمل أن يقال: إنما اقتصر عليهم أنس لتعلق غرضه بهم، ولا يخفى بعده. والذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر كان يحفظ القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تقدم في المبعث أنه بنى مسجدا بفناء داره فكان يقرأ فيه القرآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك، وهذا مما لا يرتاب فيه

(9/51)


مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وفراغ باله له وهما بمكة وكثرة ملازمة منهما للآخر حتى قالت عائشة كما تقدم في الهجرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم بكرة وعشية. وقد صحح مسلم حديث:" يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" وتقدمت الإشارة إليه، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يؤم في مكانه لما مرض فيدل على أنه كان أقرأهم، وتقدم عن علي أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج النسائي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر قال:" جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأه في شهر" الحديث، وأصله في الصحيح وتقدم في الحديث الذي مضى ذكر ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وكل هؤلاء من المهاجرين، وقد ذكر أبو عبيد القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعد من المهاجرين الخلفاء الأربعة وطلحة وسعدا وابن مسعود وحذيفة وسالما وأبا هريرة وعبد الله بن السائب والعبادلة، ومن النساء عائشة وحفصة وأم سلمة، ولكن بعض هؤلاء إنما أكمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يرد على الحصر المذكور في حديث أنس، وعد ابن أبي داود في" كتاب الشريعة" من المهاجرين أيضا تميم بن أوس الداري وعقبة بن عامر" ومن الأنصار عبادة بن الصامت ومعاذا الذي يكنى أبا حليمة ومجمع بن حارثة وفضالة بن عبيد ومسلمة بن مخلد وغيرهم، وصرح بأن بعضهم إنما جمعه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وممن جمعه أيضا أبو موسى الأشعري ذكره أبو عمرو الداني، وعد بعض المتأخرين من القراء عمرو بن العاص وسعد بن عباد وأم ورقة. قوله:" تابعه الفضل بن موسى عن حسين بن واقد عن ثمامة عن أنس" هذا التعليق وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عن الفضل بن موسى به، ثم أخرجه المصنف من طريق عبد الله بن المثنى" حدثني ثابت البناني وثمامة عن أنس قال مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة" فذكر الحديث، فخالف رواية قتادة من وجهين: أحدهما التصريح بصيغة الحصر في الأربعة، ثانيهما ذكر أبي الدرداء بدل أبي بن كعب. فأما الأول فقد تقدم الجواب عنه من عدة أوجه، وقد استنكره جماعة من الأئمة. قال المازري: لا يلزم من قول أنس لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك لأن التقدير أن لا يعلم أن سواهم جمعه، وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد، وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في غاية البعد في العادة، وإذا كان المرجع إلى طخا ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك. قال وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة، ولا متمسك لهم فيه فإنا لا نسلم حمله على ظاهره. سلمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه، لكن لا يلزم من كون كل واحد من الجم الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى، واستدل القرطبي على ذلك ببعض ما تقدم من أنه قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد، قال: وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم دون غيرهم، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم. وأما الوجه الثاني من المخالفة فقال الإسماعيلي: هذان الحديثان مختلفان، ولا يجوزان في الصحيح مع تباينهما، بلى الصحيح أحدهما. وجزم البيهقي بأن ذكر أبي الدرداء وهم والصواب أبي بن كعب. وقال الداودي: لا أرى ذكر أبي الدرداء محفوظا. قلت: وقد أشار البخاري إلى عدم الترجيح إسرجيح باستواء الطرفين، فطريق قتادة على شرطه وقد وافقه عليها ثمامة في إحدى الروايتين عنه، وطريق ثابت أيضا على شرطه وقد وافقه عليها أيضا ثمامة في الرواية الأخرى، لكن مخرج الرواية عن ثابت وثمامة بموافقته،

(9/52)


وقد وقع عن عبد الله بن المثنى وفيه مقال وإن كان عند البخاري مقبولا لكن لا تعادل روايته رواية قتادة، ويرجح رواية قتادة حديث عمر في ذكر أبي بن كعب وهو خاتمة أحاديث الباب، ولعل البخاري أشار بإخراجه إلى ذلك لتصريح عمر بترجيحه لا القراءة على غيره، ويحتمل أن يكون أنس حدث بهذا الحديث في وقتين فذكره مرة أبي بن كعب ومرة بدله أبا الدرداء، وقد روى ابن أبي داود من طريق محمد بن كعب القرظي قال:" جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري" وإسناده حسن مع إرساله، وهو شاهد جيد لحديث عبد الله بن المثنى في ذكر أبي الدرداء وإن خالفه في العدد والمعدود، ومن طريق الشعبي قال:" جمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة منهم أبو الدرداء ومعاذ وأبو زيد وزيد بن ثابت، وهؤلاء الأربعة هم الذين ذكروا في رواية عبد الله بن المثنى، وإسناده صحيح مع إرساله.فلله در البخاري ما أكثر اطلاعه. وقد تبين بهذه الرواية المرسلة قوة رواية عبد الله بن المثنى وأن لروايته أصلا والله أعلم. وقال الكرماني: لعل السامع كان يعتقد أن هؤلاء الأربعة لم يجمعوا وكان أبو الدرداء ممن جمع فقال أنس ذلك ردا عليه، وأتى بصيغة الحصر ادعاء ومبالغة، ولا يلزم منه النفي عن غيرهم بطريق الحقيقة والله أعلم. قوله:" وأبو زيد قال ونحن ورثناه" القائل ذلك هو أنس، وقد تقدم في مناقب زيد بن ثابت قال قتادة: قلت ومن أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي، وتقدم في غزوة بدر من وجه آخر عن قتادة عن أنس قال:" مات أبو زيد وكان بدريا ولم يترك عقبا" وقال أنس: نحن، ورثناه. وقوله:" أحد عمومتي" يرد قول من سمي أبا زيد المذكور سعد بن عبيد بن النعمان أحد بني عمرو بن عوف لأن أنسا خزرجي وسعد بن عبيد أوسي، وإذا كان كذلك احتمل أن يكون سعد بن عبيد ممن جمع ولم يطلع أنس على ذلك، وقد قال أبو أحمد العسكري: لم يجمعه من الأوس غيره. وقال محمد بن حبيب في" المجبر" : سعد بن عبيد ونسبه كان أحد من جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ووقع في رواية الشعبي التي أشرت إليها المغايرة بين سعد بن عبيد وبين أبي زيد فإنه ذكرهما جميعا فدل، على أنه غير المراد في حديث أنس. وقد ذكر ابن أبي داود فيمن جمع القرآن قيس بن أبي صعصعة وهو خزرجي وتقدم أنه يكنى أبا زيد، وسعد بن المنذر بن أوس بن زهير وهو خزرجي أيضا لكن لم أر التصريح بأنه يكنى أبا زيد، ثم وجدت عند أبي داود ما يرفع الإشكال من أصله، فإنه روى بإسناد على شرط البخاري إلى ثمامة عن أنس أن أبا زيد الذي جمع القرآن اسمه قيس بن السكن، قال:" وكان رجلا منا من بني عدي بن النجار أحد عمومتي ومات، ولم يدع عقبا، ونحن ورثناه" قال ابن أبي داود: حدثنا أنس بن خالد الأنصاري قال هو قيس بن السكن من زعوراء من بني عدي بن النجار، قال ابن أبي داود: مات قريبا من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فذهب علمه ولم يؤخذ عنه وكان عقبيا بدريا. قوله:" يحيى" هو القطان، وسفيان هو الثوري. قوله:" عن حبيب بن أبي ثابت" عند الإسماعيلي:" حدثنا حبيب". قوله:" أبي أقرؤنا" كذا للأكثر وبه جزم المزي في" الأطراف" فقال: ليس في رواية صدقة ذكر علي. قلت: وقد ثبت في رواية النسفي عن البخاري، فأول الحديث عنده" علي أقضانا، وأبي أقرؤنا" وقد ألحق الدمياطي في نسخته في حديث الباب ذكر علي وليس بجيد، لأنه ساقط من رواية الفربري التي عليها مدار روايته، وقد تقدم في تفسير البقرة عن عمرو بن علي عن يحيى القطان بسنده هذا وفيه ذكر علي عند الجميع. قوله:" من لحن أبي" أي من قراءته، ولحن القول فحواه ومعناه المراد به هنا القول. وكان أبي بن كعب

(9/53)


لا يرجع عما حفظه من القرآن الذي تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أخبره غيره أن تلاوته نسخت، لأنه إذا سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل عنده القطع به فلا يزول عنه بإخبار غيره أن تلاوته نسخت، وقد استدل عليه عمر بالآية الدالة على النسخ وهو من أوضح الاستدلال في ذلك، وقد تقدم بقية شرحه في التفسير.

(9/54)


9- باب فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
5006- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي فَدَعَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي قَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ثُمَّ قَالَ أَلاَ أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لاَعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ"
5007- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا وَهْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ مَعْبَدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا فَنَزَلْنَا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ فَقَالَتْ إِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ فَرَقَاهُ فَبَرَأَ فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاَثِينَ شَاةً وَسَقَانَا لَبَنًا فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِي قَالَ لاَ مَا رَقَيْتُ إِلاَّ بِأُمِّ الْكِتَابِ قُلْنَا لاَ تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ أَوْ نَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِهَذَا"
قوله:" باب فضل فاتحة الكتاب" ذكر فيه حديثين: أحدهما حديث أبي سعيد بن المعلى في أنها أعظم سورة في القرآن، والمراد بالعظيم عظم القدر بالثواب المرتب على قراءتها وإن كان غيرها أطول منها، وذلك لما اشتملت عليه من المعاني المناسبة لذلك، وقد تقدم شرح ذلك مبسوطا في أول التفسير. ثانيهما حديث أبي سعيد الخدري في الرقية بفاتحة الكتاب، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الإجارة، وهو ظاهر الدلالة على فضل الفاتحة. قال القرطبي: اختصت الفاتحة بأنها مبدأ القرآن وحاوية لجميع علومه، لاحتوائها على الثناء على الله والإقرار بعبادته والإخلاص له وسؤال الهداية منه والإشارة إلى الاعتراف بالعجز عن القيام بنعمه، وإلى شأن المعاد وبيان عاقبة الجاحدين، إلى غير ذلك مما يقتضي أنها كلها موضع الرقية. وذكر الروياني في البحر أن البسملة أفضل آيات القرآن وتعقب بحديث آية الكرسي وهو الصحيح. قوله:" وقال أبو معمر حدثنا عبد الوارث إلخ" أراد بهذا التعليق

(9/54)


التصريح بالتحديث من محمد بن سيرين لهشام ومن معبد لمحمد، فإنه في الإسناد الذي ساقه أولا بالعنعنة في الموضعين، وقد وصله الإسماعيلي من طريق، محمد بن يحيى الذهلي عن أبي معمر كذلك، وذكر أبو علي الجياني أنه وقع عند القابسي عن أبي زيد السند إلى محمد بن سيرين" وحدثني معبد بن سيرين" بواو العطف قال والصواب حذفها.

(9/55)


10- باب فَضْلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
5008- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ"
5009- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ"
5010- وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لاَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَّ الْحَدِيثَ فَقَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم :" صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ"
قوله:" باب فضل سورة البقرة" أورد فيه حديثين: الأول. قوله:" عن سليمان" هو الأعمش، ولشعبة فيه شيخ آخر وهو منصور أخرجه أبو داود عن حفص بن عمر عن شعبة عنه، وأخرجه النسائي من طريق يزيد بن زريع عن شعبة كذلك، وجمع غندر عن شعبة فأخرجه مسلم عن أبي موسى وبندار وأخرجه النسائي عن بشر بن خالد ثلاثتهم عن غندر، أما الأولان فقالا عنه عن شعبة عن منصور وأما بشر فقال عنه عن شعبة عن الأعمش وكذا أخرجه أحمد عن غندر. قوله:" عن عبد الرحمن" هو ابن يزيد النخعي. قوله:" عن أبي مسعود" في رواية أحمد عن غندر عن عبد الرحمن بن يزيد عن علقمة عن أبي مسعود وقال في آخره:" قال عبد الرحمن ولقيت أبا مسعود فحدثني به" وسيأتي نحوه للمصنف من وجه آخر في" باب كم يقرأ من القرآن" وأخرجه في" باب من لم ير بأسا أن يقول سورة كذا" من وجه آخر عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن وعلقمة جميعهما عن أبي مسعود، فكأن إبراهيم حمله عن علقمة أيضا بعد أن حدثه به عبد الرحمن عنه، كما لقي عبد الرحمن أبا مسعود فحمله عنه بعد أن حدثه به علقمة، وأبو مسعود هذا هو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري الذي تقدم بيان حاله في غزوة بدر من المغازي، ووقع في رواية عبدوس بدله" ابن مسعود" وكذا عند الأصيلي عن أبي زيد المروزي1 وصوبه الأصيلي فأخطأ في ذلك بل هو تصحيف، قال أبو علي الجياني: الصواب" عن أبي مسعود" وهو عقبة بن
ـــــــ
1 في نسخة أخرى " من أبي أحمد الجرجاني "

(9/55)


عمرو. قلت: وقد أخرجه أحمد من وجه آخر عن الأعمش فقال فيه:" عن عقبة بن عمرو". قوله :" من قرأ بالآيتين" كذا اقتصر البخاري من المتن على هذا القدر، ثم حول السند إلى طريق منصور عن إبراهيم بالسند المذكور وأكمل المتن فقال :" من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" وقد أخرجه أحمد عن حجاج ابن محمد عن شعبة فقال فيه: " من سورة البقرة" لم يقل " آخر" فلعل هذا هو السر في تحويل السند ليسوقه على لفظ منصور. على أنه وقع في رواية غندر عند أحمد بلفظ:" من قرأ الآيتين الأخيرتين" فعلى هذا فيكون اللفظ الذي ساقه البخاري لفظ منصور، وليس بينه وبين لفظ الأعمش الذي حوله عنه مغايرة في المعنى والله أعلم. قوله:" من آخر سورة البقرة" يعني من قوله تعالى :{آمَنَ الرَّسُولُ} إلى آخر السورة، وآخر الآية الأولى {الْمَصِيرُ} ومن ثم إلى آخر السورة آية واحدة، وأما {مَا اكْتَسَبَتْ} فليست رأس آية باتفاق العادين. وقد أخرج علي بن سعيد العسكري في" ثواب القرآن" حديث الباب من طريق عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن علقمة بن قيس عن عقبة بن عمرو بلفظ:" من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتا: آمن الرسول إلى آخر السورة" ومن حديث النعمان بن بشير رفعه :" إن الله كتب كتابا أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة وقال في آخره: آمن الرسول" وأصله عند الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم. ولأبي عبيد في" فضائل القرآن" من مرسل جبير بن نفير نحوه وزاد :" فأقرءوهما وعلموهكا أبناءكم ونساءكم، فإنهما قرآن وصلاة ودعاء". قوله:" كفتاه" أي أجزأتا عنه من قيام الليل بالقرآن، وقيل أجزأتا عنه عن قراءة القرآن مطلقا سواء كان داخل الصلاة أم خارجها، وقيل معناه أجزأتاه فيما يتعلق بالاعتقاد لما اشتملتا عليه من الإيمان والأعمال إجمالا، وقيل معناه كفتاه كل سوء، وقيل كفتاه شر الشيطان، وقيل دفعتا عنه شر الإنس والجن، وقيل معناه كفتاه ما حصل له بسببهما من الثواب عن طلب شيء آخر، وكأنهما اختصتا بذلك لما تضمنتاه من الثناء على الصحابة بجميل انقيادهم إلى الله وابتهالهم ورجوعهم إليه وما حصل لهم من الإجابة إلى مطلوبهم، وذكر الكرماني عن النووي أنه قال: كفتاه عن قراءة سورة الكهف وآية الكرسي، كذا نقل عنه جازما به، ولم يقل ذلك النووي وإنما قال ما نصه: قيل معناه كفتاه من قيام الليل، وقيل من الشيطان، وقيل من الآفات، ويحتمل من الجميع. هذا آخر كلامه. وكأن سبب الوهم أن عند النووي عقب هذا باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي فلعل النسخة التي وقعت للكرماني سقط منها لفظ باب وصحفت فضل فصارت وقيل، واقتصر النووي في" الأذكار" على الأول والثالث نقلا ثم قال: قلت ويجوز أن يراد الأولان انتهى. وعلى هذا فأقول: يجوز أن يراد جميع ما تقدم والله أعلم. والوجه الأول ورد صريحا من طريق عاصم عن علقمة عن أبي مسعود رفعه :" من قرأ خاتمة البقرة أجزأت عنه قيام ليلة" ويؤيد الرابع حديث النعمان بن بشير رفعه :" إن الله كتب كتابا وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، لا يقرآن في دار فيقربها الشيطان ثلاث ليال" أخرجه الحاكم وصححه، وفي حديث معاذ لما أمسك الجنى وآية ذلك " لا يقرأ أحد منكم خاتمة سورة البقرة فيدخل أحد منها بيته تلك الليلة" أخرجه الحاكم أيضا. الحديث الثاني حديث أبي هريرة، تقدم شرحه في الوكالة، وقوله في آخره :" صدقك وهو كذوب" هو من التتميم البليغ، لأنه لما أوهم مدحه بوصفه الصدق في قوله صدقك استدرك نفي الصدق عنه بصيغة مبالغة، والمعنى صدقك في هذا القول مع أن عادته الكذب المستمر، وهو كقولهم قد يصدق الكذوب، وقوله:" ذاك شيطان" كذا للأكثر، وتقدم في الوكالة أنه وقع هنا" ذاك الشيطان" واللام فيه للجنس أو العهد الذهني من الوارد

(9/56)


أن لكل آدمي شيطانا وكل به، أو اللام بدل من الضمير كأنه قال: ذاك شيطانك، أو المراد الشيطان المذكور في الحديث الآخر حيث قال في الحديث :" ولا يقربك شيطان" وشرحه الطيبي على هذا فقال: هو - أي قوله فلا يقربك شيطان - مطلق شائع في جنسه، والثاني فرد من أفراد ذلك الجنس. وقد استشكل الجمع بين هذه القصة وبين حديث أبي هريرة أيضا الماضي في الصلاة وفي التفسير وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال :" إن" شيطانا تفلت على البارحة" الحديث وفيه :" ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية" وتقرير الإشكال أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من إمساكه من أجل دعوة سليمان عليه السلام حيث قال: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} قال الله تعالى :{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} ثم قال :{وَالشَّيَاطِينَ} وفي حديث الباب أن أبا هريرة أمسك الشيطان الذي رآه وأراد حمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والجواب أنه يحتمل أن يكون المراد بالشيطان الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يوثقه هو رأس الشياطين الذي يلزم من التمكن منه التمكن منهم فيضاهي حينئذ ما حصل لسليمان عليه السلام من تسخير الشياطين فيما يريد والتوثق منهم، والمراد بالشيطان في حديث الباب إما شيطانه بخصوصه أو آخر في الجملة لأنه يلزم من تمكنه منه اتباع غيره من الشياطين في ذلك التمكن، أو الشيطان الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم بربطه تبدى له في صفته التي خلق عليها، وكذلك كانوا في خدمة سليمان عليه السلام على هيئتهم، وأما الذي تبدي لأبي هريرة في حديث الباب فكان على هيئة الآدميين فلم يكن في إمساكه مضاهاة لملك سليمان، والعلم عند الله تعالى

(9/57)


1- باب فَضْلِ سُورَةِ الْكَهْفِ
5011- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدْنُو وَتَدْنُو وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ"
قوله:" باب فضل الكهف" في رواية أبي الوقت" فضل سورة الكهف" وسقط لفظ:" باب" في هذا والذي قبله والثلاثة بعده لغير أبي ذر. قوله:" حدثنا زهير" هو ابن معاوية. قوله:" عن البراء" في رواية الترمذي من طريق شعبة عن أبي إسحاق" سمعت البراء". قوله:" كان رجل" قيل هو أسيد بن حضير كما سيأتي من حديثه نفسه بعد ثلاثة أبواب، لكن فيه أنه كان يقرأ سورة البقرة وفي هذا أنه كان يقرأ سورة الكهف وهذا ظاهره التعدد وقد وقع قريب من القصة التي لأسيد لثابت بن قيس بن شماس لكن في سورة البقرة أيضا. وأخرج أبو داود من طريق مرسلة قال:" قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ألم تر ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة تزهر بمصابيح؛ قال: فلعله قرأ سورة البقرة. فسئل قال: قرأت سورة البقرة" ويحتمل أن يكون قرأ سورة البقرة وسورة الكهف جميعا أو من كل منهما. قوله:" بشطنين" جمع شطن بفتح المعجمة وهو الحبل، وقيل بشرط طوله، وكأنه كان شديد الصعوبة. قوله:" وجعل فرسه ينفر" بنون وفاء ومهملة وقد وقع في رواية لمسلم:" ينقز" بقاف وزاي، وخطأه عياض، فإن كان من حيث الرواية فذاك وإلا فمعناها هنا واضح. قوله:" تلك السكينة" بمهملة وزن عظيمة، وحكى ابن قرقول والصغاني فيها كسر أولها والتشديد بلفظ المرادف للمدية؛ وقد نسبه ابن قرقول للحربي وأنه حكاه عن

(9/57)


بعض أهل اللغة. وتقرر لفظ السكينة في القرآن والحديث، فروى الطبري وغيره عن علي قال: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، وقيل لها رأسان، وعن مجاهد لها رأس كرأس الهر وعن الربيع بن أنس لعينها شعاع وعن السدي: السكينة طست من ذهب من الجنة يغسل فيها قلوب الأنبياء، وعن أبي مالك قال: هي التي ألقى فيها موسى الألواح والتوراة والعصا، وعن وهب بن منبه: هي روح من الله، وعن الضحاك بن مزاحم قال: هي الرحمة، وعنه هي سكون القلب وهذا اختيار الطبري، وقيل هي الطمأنينة، وقيل الوقار، وقيل الملائكة ذكره الصغاني. والذي يظهر أنها مقولة بالاشتراك على هذه المعاني، فيحمل كل موضع وردت فيه على ما يليق به، والذي يليق بحديث الباب هو الأول، وليس قول وهب ببعيد. وأما قوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} فيحتمل الأول ويحتمل قول وهب والضحاك، فقد أخرج المصنف حديث الباب في تفسير سورة الفتح كذلك، وأما التي في قوله تعالى :{فيه سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} فيحتمل قول السدي وأبي مالك. وقال النووي: المختار أنها شيء من المخلوقات فيه طمأنينة ورحمة ومعه الملائكة. قوله :" تنزلت" في رواية الكشميهني :" تنزل" بضم اللام بغير تاء والأصل تتنزل. وفي رواية الترمذي" نزلت مع القرآن أو على القرآن"

(9/58)


2- باب فَضْلِ سُورَةِ الْفَتْحِ
5012- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ عُمَرُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لاَ يُجِيبُكَ قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي حَتَّى كُنْتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي قَالَ فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ قَالَ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}"
قوله:" باب فضل سورة الفتح" في رواية غير أبي ذر" فضل سورة الفتح" بغير" باب". قوله:" عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره" تقدم في غزوة الفتح وفي التفسير أن هذا السياق صورته الإرسال وأن الإسماعيلي والبزار أخرجاه من طريق محمد بن خالد ابن عثمة عن مالك بصريح الاتصال ولفظه:" عن أبيه عن عمر" ثم وجدته في التفسير من جامع الترمذي من هذا الوجه فقال:" عن أبيه سمعت عمر" ثم قال:" حديث حسن غريب" وقد رواه بعضهم عن مالك فأرسله فأشار إلى الطريق التي أخرجها البخاري وما وافقها، وقد بينت في المقدمة أن في أثناء السياق ما يدل على أنه من رواية أسلم عن عمر لقوله فيه:" قال عمر فحركت بعيري إلخ" وتقدمت بقية شرحه في تفسير سورة الفتح

(9/58)


3- باب {فَضْلِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فِيهِ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5013- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي

(9/58)


14- باب فَضْلِ الْمُعَوِّذَاتِ
5016- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا"
5017- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المفضل عن عقيل عن بن شهاب عن عروة عن عائشة ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات"
[الحديث 5017- طرفاه في: 5748، 6319]
قوله:" باب فصل المعوذات" أي الإخلاص والفلق والناس، وقد كنت جوزت في" باب الوفاة النبوية" من كتاب المغازي أن الجمع فيه بناء على أن أقل الجمع اثنان، ثم ظهر من حديث هذا الباب أنه على الظاهر، وأن المراد بأنه كان يقرأ بالمعوذات أي السور الثلاث، وذكر سورة الإخلاص معهما تغليبا لما اشتملت عليه من صفة الرب وإن لم يصرح فيها بلفظ التعويذ. وقد أخرج أصحاب السنن الثلاثة أحمد وابن خزيمة وابن حبان من حديث عقبة بن عامر قال:" قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس تعوذ بهن، فإنه لم يتعوذ بمثلهن، اقرأ المعوذات دبر كل صلاة" فذكرهن. قوله:" كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات" الحديث تقدم في الوفاة النبوية من طريق عبد الله بن المبارك عن يونس عن ابن شهاب، وأحلت بشرحه على كتاب الطب، ورواية عقيل عن ابن شهاب في هذا الباب وإن اتحد سندها بالذي قبله من ابن شهاب فصاعدا لكن فيها أنه كان يقرأ المعوذات عند النوم، فهي مغايرة لحديث مالك المذكور، فالذي يترجح أنهما حديثان عند ابن شهاب بسند واحد عند بعض الرواة عنه ما ليس عند بعض، فأما مالك ومعمر ويونس وزياد بن سعد عند مسلم فلم تختلف الرواة عنهم في أن ذلك كان عند الوجع، ومنهم من قيده بمرض، الموت، ومنهم من زاد فيه فعل عائشة، ولم يفسر أحد منهم المعوذات، وأما عقيل فلم تختلف الرواة عنه في ذلك عند النوم. ووقع في رواية يونس من طريق سليمان بن بلال عنه أنه فعل عائشة كان بأمره صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في كتاب الطب، وقد جعلهما أبو مسعود حديثا واحدا، وتعقبه أبو العباس الطرقي، وفرق بينهما خلف، وتبعه المزي والله أعلم. وسيأتي شرحه في كتاب الطب إن شاء الله تعالى

(9/62)


15- باب نُزُولِ السَّكِينَةِ وَالْمَلاَئِكَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
5018- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنْ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ إِذْ جَالَتْ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ فَقَرَأَ فَجَالَتْ الْفَرَسُ فَسَكَتَ وَسَكَتَتْ الْفَرَسُ ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتْ الْفَرَسُ فَانْصَرَفَ وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ قَالَ فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَخَرَجَتْ حَتَّى لاَ أَرَاهَا قَالَ وَتَدْرِي مَا ذَاكَ قَالَ لاَ قَالَ تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لاَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لاَ تَتَوَارَى مِنْهُمْ"
قَالَ ابْنُ الْهَادِ وَحَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ"
قوله:" باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن" كذا جمع بين السكينة والملائكة، ولم يقع في حديث الباب ذكر السكينة ولا في حديث البراء الماضي في فضل سورة الكهف ذكر الملائكة، فلعل المصنف كان يرى أنهما قصة واحدة، ولعله أشار إلى أن المراد بالظلة في حديث الباب السكينة، لكن ابن بطال جزم بأن الظلة السحابة وأن الملائكة كانت فيها ومعها السكينة. قال ابن بطال قضية الترجمة أن السكينة تنزل أبدا مع الملائكة، وقد تقدم بيان الخلاف في السكينة ما هي وما قال النوي في ذلك. قوله:" وقال الليث إلخ" وصله أبو عبيد في" فضائل القرآن" عن يحيى بن بكير عن الليث بالإسنادين جميعا. قوله:" حدثني يزيد بن الهاد" هو ابن أسامة بن عبد الله بن شداد بن الهاد. قوله:" عن محمد بن إبراهيم" هو التيمي وهو من صغار التابعين، ولم يدرك أسيد بن حضير فروايته عنه منقطعة، لكن الاعتماد في وصل الحديث المذكور على الإسناد الثاني، قال الإسماعيلي: محمد بن إبراهيم عن أسيد ابن حضير مرسل، وعبد الله بن خباب عن أبي سعيد متصل. تم ساقه من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن يزيد بن الهاد بالإسنادين جميعا وقال: هذه الطريق على شرط البخاري. قلت: وجاء عن الليث فيه إسناد ثالث أخرجه النسائي من طريق شعيب بن الليث وداود بن منصور كلاهما عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد عن ابن أبي هلال عن يزيد بن الهاد بالإسناد الثاني فقط، وأخرجه مسلم والنسائي أيضا من طريق إبراهيم بن سعد عن يزيد بن الهاد بالإسناد الثاني لكن وقع في روايته:" عن أبي سعيد عن أسيد ابن حضير" وفي لفظ:" عن أبي سعيد أن أسيد بن حضير قال:" لكن في سياقه ما يدل على أن أبا سعيد إنما حمله عن أسيد فإنه قال في أثنائه" قال أسيد: فخشيت أن يطأ يحيى. فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فالحديث من مسند أسيد بن حضير، وليحيى بن بكير فيه عن الليث إسناد آخر أخرجه أبو عبيد أيضا من هذا الوجه فقال:" عن ابن شهاب عن أبي بن كعب بن مالك عن أسيد بن حضير". قوله:" بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة" رواية ابن أبي ليلى عن أسيد بن حضير" بينما أنا أقرأ سورة، فلما انتهيت إلى آخرها" أخرجه أبو عبيد، ويستفاد منه أنه ختم السورة

(9/63)


التي ابتدأ بها. ووقع في رواية إبراهيم بن سعد المذكورة" بينما هو يقرأ في مربده" أي المكان الذي فيه التمر. وفي رواية أبي بن كعب المذكورة أنه كان يقرأ على ظهر بيته وهذا مغاير للقصة التي فيها أنه كان في مربده، وفي حديث الباب أن ابنه كان إلى جانبه وفرسه مربوطة فخشي أن تطأه، وهذا كله مخالف لكونه كان حينئذ على ظهر البيت، إلا أن يراد بظهر البيت خارجه لا أعلاه فتتحد القصتان. قوله:" إذ جالت الفرس فسكت فسكنت" في رواية إبراهيم بن سعد أن ذلك تكرر ثلاث مرار وهو يقرأ. وفي رواية ابن أبي ليلى" سمعت رجة من خلفي حتى ظننت أن فرسي تنطلق". قوله:" فلما اجتره" بجيم ومثناه وراء ثقيلة والضمير لولده أي اجتر ولده من المكان الذي هو فيه حتى لا تطأه الفرس، ووقع في رواية القابسي" آخره:" بمعجمة ثقيلة وراء خفيفة أي عن الموضع الذي كان به خشية عليه. قوله:" رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها" كذا فيه باختصار، وقد أورده أبو عبيد كاملا ولفظه:" رفع رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها" وفي رواية إبراهيم بن سعد" فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج، فعرجت في الجو حتى ما أراها". قوله :" اقرأ يا ابن حضير" أي كان ينبغي أن تستمر على قراءتك، وليس أمرا له بالقراءة في حالة التحديث، وكأنه استحضر صورة الحال فصار كأنه حاضر عنده لما رأى ما رأى، فكأنه يقول: استمر على قراءتك لتستمر لك البركة بنزول الملائكة واستماعها لقراءتك، وفهم أسيد ذلك فأجاب بعذره في قطع القراءة، وهو قوله:" خفت أن تطأ يحيى" أي خشيت إن استمريت على القراءة أن تطأ الفرس ولدى، ودل سياق الحديث على محافظة أسيد على خشوعه في صلاته لأنه كان يمكنه أول، ما جالت الفرس أن يرفع رأسه، وكأنه كان بلغه حديث النهي عن رفع المصلي رأسه إلى السماء فلم يرفعه حتى اشتد به الخطب، ويحتمل أن يكون رفع رأسه بعد انقضاء صلاته فلهذا تمادى به الحال ثلاث مرات. ووقع في رواية ابن أبي ليلى المذكورة " اقرأ أباعتيك" وهي كنية أسيد. قوله :" دنت لصوتك" في رواية إبراهيم بن سعد " تستمع لك" وفي رواية ابن كعب المذكورة" وكان أسيد حسن الصوت" وفي رواية يحيى بن أيوب عن يزيد بن الهاد عند الإسماعيلي أيضا:" اقرأ أسيد فقد أوتيت من مزامير آل داود" وفي هذه الزيادة إشارة إلى الباعث على استماع الملائكة لقراءته. قوله :" ولو قرأت" في رواية ابن أبي ليلى " أما إنك لو مضيت". قوله: " ما يتوارى منهم" في رواية إبراهيم بن سعد" ما تستتر منهم" وفي رواية ابن أبي ليلى" لرأيت الأعاجيب" قال النووي: في هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة للملائكة، كذا أطلق، وهو صحيح لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلا والحسن الصوت، قال: وفيه فضيلة القراءة وأنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة. قلت: الحكم المذكور أعم من الدليل، فالذي في الرواية إنما نشأ عن قراءة خاصة من سورة خاصة بصفة خاصة، ويحتمل من الخصوصية ما لم يذكر، وإلا لو كان الإطلاق لحصل ذلك لكل قارئ. وقد أشار في آخر الحديث بقوله :" ما يتوارى منهم" إلى أن الملائكة لاستغراقهم في الاستماع كانوا يستمرون على عدم الاختفاء الذي هو من شأنهم، وفيه منقبة لأسيد بن حضير، وفضل قراءة سورة البقرة في صلاة الليل، وفضل الخشوع في الصلاة، وأن التشاغل بشيء من أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يفوت الخير الكثير فكيف لو كان بغير الأمر المباح

(9/64)


باب من قال لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا مابين الدفتين
...
16- باب مَنْ قَالَ لَمْ يَتْرُكْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ
5019- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَشَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ

(9/64)


عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ شَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ أَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ مَا تَرَكَ إِلاَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ قَالَ وَدَخَلْنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ مَا تَرَكَ إِلاَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ"
قوله:" باب من قال: لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما بين الدفتين" أي ما في المصحف، وليس المراد أنه ترك القرآن مجموعا بين الدفتين لأن ذلك يخالف ما تقدم من جمع أبي بكر ثم عثمان. وهذه الترجمة للرد على من زعم أن كثيرا من القرآن ذهب لذهاب حملته، وهو شيء اختلقه الروافض لتصحيح دعواهم أن التنصيص على إمامة علي واستحقاقه الخلافة عند موت النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابتا في القرآن وأن الصحابة كتموه، وهي دعوى باطلة لأنهم لم يكتموا مثل " أنت عندي بمنزلة هارون من موسى" وغيرها من الظواهر التي قد يتمسك بها من يدعي إمامته، كما لم يكتموا ما يعارض ذلك أو يخصص عمومه أو يقيد مطلقه. وقد تلطف المصنف في الاستدلال على الرافضة بما أخرجه عن أحد أئمتهم الذين يدعون إمامته وهو محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب. فلو كان هناك شيء ما يتعلق بأبيه لكان هو أحق الناس بالاطلاع عليه، وكذلك ابن عباس فإنه ابن عم علي وأشد الناس له لزوما واطلاعا على حاله. قوله:" عن عبد العزيز بن رفيع" في رواية علي بن المديني عن سفيان" حدثنا عبد العزيز" أخرجه أبو نعيم في" المستخرج". قوله:" دخلت أنا وشداد بن معقل" هو الأسدي الكوفي، تابعي كبير من أصحاب ابن مسعود وعلي. ولم يقع له في رواية البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، وأبوه بالمهملة والقاف، وقد أخرج البخاري في خلق أفعال العباد من طريق عبد العزيز بن رفيع عن شداد بن معقل عن عبد الله بن مسعود حديثا غير هذا. قوله:" أترك النبي صلى الله عليه وسلم من شيء" ؟ في رواية الإسماعيلي:" شيئا سوى القرآن". قوله:" إلا ما بين الدفتين" بالفاء تثنية دفة بفتح أوله وهو اللوح، ووقع في رواية الإسماعيلي، بين اللوحين". قوله:" قال ودخلنا" القائل هو عبد العزيز، ووقع عند الإسماعيلي:" لم يدع إلا ما في هذا المصحف" أي لم يدع من القرآن ما يتلى إلا ما هو داخل المصحف الموجود ولا يرد على هذا ما تقدم في كتاب العلم عن علي أنه قال:" ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة" لأن عليا أراد الأحكام التي كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينف أن عنده أشياء أخر من الأحكام التي لم يكن كتبها. وأما جواب ابن عباس وابن الحنفية فإنما أرادا من القرآن الذي يتلى، أو أرادا مما يتعلق بالإمامة، أي لم يترك شيئا يتعلق بأحكام الإمامة إلا ما هو بأيدي الناس، ويؤيد ذلك ما ثبت عن جماعة من الصحابة من ذكر أشياء نزلت من القرآن فنسخت تلاوتها وبقي حكمها أو لم يبق، مثل حديث عمر" الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وحديث أنس في قصة القراء الذين قتلوا في بئر معونة، قال فأنزل الله فيهم قرآنا " بلغوا عنا قومنا أنا لقد لقينا ربنا" وحديث أبي بن كعب" كانت الأحزاب قدر البقرة" وحديث حذيفة ما يقرءون ربعها يعني براءة، وكلها أحاديث صحيحة. وقد أخرج ابن الضريس من حديث ابن عمر أنه" كان يكره أن يقول الرجل قرأت القرآن كله، ويقول: إن منه قرآنا قد رفع" وليس في شيء من ذلك ما يعارض حديث الباب، لأن جميع ذلك مما نسخت تلاوته في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

(9/65)


17- باب فَضْلِ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ
5020- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي مُوسَى

(9/65)


الأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَالَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلاَ رِيحَ لَهَا"
[الحديث 5020- أطرافه في: 5059، 5427، 7560]
5021- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلاَ مِنْ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ وَمَغْرِبِ الشَّمْسِ وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ثُمَّ أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً قَالَ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ قَالُوا لاَ قَالَ فَذَاكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ شِئْتُ"
قوله:" باب فضل القرآن على سائر الكلام" هذه الترجمة لفظ حديث أخرج الترمذي معناه من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن عن ذكري وعن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه" ورجاله ثقات إلا عطية العوفي فقيه ضعف؛ وأخرجه ابن عدي من رواية شهر بن حوشب عن أبي هريرة مرفوعا:" فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، وفي إسناده عمر بن سعيد الأشج وهو ضعيف، وأخرجه ابن الضريس من وجه آخر عن شهر بن حوشب مرسلا ورجاله لا بأس بهم، وأخرجه يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده من حديث عمر بن الخطاب وفي إسناده صفوان بن أبي الصهباء مختلف فيه، وأخرجه ابن الضريس أيضا من طريق الجراح بن الضحاك عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رفعه :" خيركم من تعلم القرآن وعلمه - ثم قال - وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه وذلك أنه منه" وحديث عثمان هذا سيأتي بعد أبواب بدون هذه الزيادة، وقد بين العسكري أنها من قول أبي عبد الرحمن السلمي. وقال المصنف في خلق أفعال العباد" وقال أبو عبد الرحمن السلمي" فذكره، وأشار في خلق أفعال العباد إلى أنه لا يصح مرفوعا، وأخرجه العسكري أيضا عن طاوس والحسن من قولهما. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث أبي موسى. قوله: " مثل الذي يقرأ القرآن كالأترجة" بضم الهمزة والراء بينهما مثناة ساكنة وآخره جيم ثقيلة، وقد تخفف. ويزاد قبلها نون ساكنة، ويقال بحذف الألف مع الوجهين فتلك أربع لغات وتبلغ مع التخفيف إلى ثمانية. قوله :" طعمها طيب وريحها طيب" قيل خص صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالريح لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح فقد يذهب ريح الجوهر ويبقى طعمه، ثم قيل: الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والريح كالتفاحة لأنه

(9/66)


يتداوى بقشرها وهو مفرح بالخاصية، ويستخرج من حبها دهن له منافع وقيل إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج فناسب أن يمثل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين، وغلاف حبه أبيض فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضا من المزايا كبر جرمها وحسن منظرها وتفريح لونها ولين ملمسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة ودباغ معدة وجودة هضم، ولها منافع أخرى مذكورة في المفردات. ووقع في رواية شعبة عن قتادة كما سيأتي بعد أبواب" المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به" وهي زيادة مفسرة للمراد وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر ونهي لا مطلق التلاوة، فإن قيل لو كان كذلك لكثر التقسيم كأن يقال الذي يقرأ ويعمل وعكسه والذي يعمل ولا يقرأ وعكسه، والأقسام الأربعة ممكنة في غير المنافق وأما المنافق فليس له إلا قسمان فقط لأنه لا اعتبار بعمله إذا كان نفاقه نفاق كفر، وكأن الجواب عن ذلك أن الذي حذف من التمثيل قسمان. الذي يقرأ ولا يعمل، الذي لا يعمل ولا يقرأ، وهما شبيهان بحال المنافق فيمكن تشبيه الأول بالريحانة والثاني بالحنظلة فاكتفى بذكر المنافق، والقسمان الآخران قد ذكرا. قوله :" ولا ريح فيها" في رواية شعبة" لها". قوله :" ومثل الفاجر الذي يقرأ" في رواية شعبة " ومثل المنافق" في الموضعين. قوله :" ولا ريح لها" في رواية شعبة " وريحها مر" واستشكلت هذه الرواية من جهة أن المرارة من أوصاف الطعوم فكيف يوصف بها الريح؟ وأجيب بأن ريحها لما كان كريها استعير له وصف المرارة، وأطلق الزركشي هنا أن هذه الرواية وهم وأن الصواب ما في رواية هذا الباب :" ولا ريح لها" ثم قال في كتاب الأطعمة لما جاء فيه :" ولا ريح لها" هذا أصوب من رواية الترمذي " طعمها مر وريحها مر" ثم ذكر توجيهها وكأنه ما استحضر أنها في هذا الكتاب وتكلم عليها فلذلك نسبها للترمذي. وفي الحديث فضيلة حاملي القرآن، وضرب المثل للتقريب لفهم، وأن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دل عليه. حديث ابن عمر " إنما أجلكم في أجل من قبلكم" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في المواقيت من كتاب الصلاة، ومطابقة الحديث الأول للترجمة من جهة ثبوت فضل قارئ القرآن على غيره فيستلزم فضل القرآن على سائر الكلام كما فضل الأترج على سائر الفواكه، ومناسبة الحديث الثاني من جهة ثبوت فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم وثبوت الفضل لها بما ثبت من فضل كتابها الذي أمرت بالعمل به

(9/67)


باب الوصاة بكتاب الله عز وجل
...
18- باب الْوَصِيَّةِ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
5022- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا مالك بن مغول حدثنا طلحة قال ثم سألت عبد الله بن أبي أوفى آوصى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا فقلت كيف كتب على الناس الوصية أمروا بها ولم يوص قال أوصى بكتاب الله"
قوله:" باب الوصاة بكتاب الله" في رواية الكشميهني:" الوصية" وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الوصايا، وتقدم فيه حديث الباب مشروحا، وقوله فيه:" أوصى بكتاب الله" بعد قوله:" لا" حين قال له" هل أوصى بشيء" ظاهرهما التخالف، وليس كذلك لأنه نفى ما يتعلق بالإمارة ونحو ذلك لا مطلق الوصية، والمراد بالوصية بكتاب الله حفظه حسا ومعنى، فيكرم ويصان ولا يسافر به إلى أرض العدو، ويتبع ما فيه فيعمل بأوامره ويجتنب نواهيه ويداوم تلاوته وتعلمه وتعليمه ونحوه ذلك.

(9/67)


باب من لم يتغنى بالقرآن
...
19- باب مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}
5023- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ يُرِيدُ يَجْهَرُ بِهِ"
الحديث 5023- أطرافه في: 5024، 7482، 7544]
5024- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ قَالَ سُفْيَانُ تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِي بِهِ"
قوله:" باب من لم يتغن بالقرآن" هذه الترجمة لفظ حديث أورده المصنف في الأحكام من طريق ابن جريج عن ابن شهاب بسند حديث الباب بلفظ:" من لم يتغن بالقرآن فليس منا" وهو في السنن من حديث سعد بن أبي وقاص وغيره. قوله:" وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أشار بهذه الآية إلى ترجيح تفسير ابن عيينة: يتغنى يستغنى، كما سيأتي هذا الباب عنه، وأخرجه أبو داود عن ابن عيينة ووكيع جميعا وقد بين إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة أنه استغناء خاص، وكذا قال أحمد عن وكيع: يستغنى به عن أخبار الأمم الماضية، وقد أخرج الطبري وغيره من طريق عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال:" جاء ناس من المسلمين بكتب وقد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كفى تقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم، فنزل : أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم" وقد خفي وجه مناسبة تلاوة هذه الآية هنا على كثير من الناس كابن كثير فنفى أن يكون لذكرها وجه، على أن ابن بطال مع تقدمه قد أشار إلى المناسبة فقال: قال أهل التأويل في هذه الآية. فذكر ابن يحيى بن جعدة مختصرا قال: فالمراد بالآية الاستغناء عن أخبار الأمم الماضية، وليس المراد الاستغناء الذي هو ضد الفقر، قال: وإتباع البخاري الترجمة بالآية يدل على أنه يذهب إلى ذلك. وقال ابن التين: يفهم من الترجمة أن المراد بالتغني الاستغناء لكونه أتبعه الآية التي تتضمن الإنكار على من لم يستغن بالقرآن عن غيره، فحمله على الاكتفاء به وعدم الافتقار إلى غيره وحمله على ضد الفقر من جملة ذلك. قوله:" عن أبي هريرة" في رواية شعيب عن ابن شهاب" حدثني أبو سلمة أنه سمع أبا هريرة" أخرجه الإسماعيلي. قوله :" لم يأذن الله لنبي" كذا لهم بنون وموحدة، وعند الإسماعيلي:" لشيء" بشين معجمة وكذا عند مسلم من جميع طرقه. ووقع في رواية سفيان التي تلي هذه في الأصل كالجمهور. وفي رواية الكشميهني كرواية عقيل. قوله:" ما أذن لنبي" كذا للأكثر، وعند أبي ذر" للنبي" بزيادة اللام، فإن كانت محفوظة فهي للجنس، ووهم من ظنها للعهد وتوهم أن المراد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ما أذن للنبي صلى الله عليه وسلم، وشرحه على ذلك. قوله :" أن يتغنى" كذا لهم، وأخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه بدون" أن" وزعم ابن الجوزي أن الصواب حذف" أن" وأن إثباتها وهم من بعض الرواة لأنهم كانوا يروون بالمعنى فربما ظن بعضهم المساواة فوقع في الخطأ لأن الحديث لو كان بلفظ:" أن" لكان من الإذن بكسر الهمزة وسكون

(9/68)


الذال بمعنى الإباحة والإطلاق، وليس ذلك مرادا هنا وإنما هو من الأذن بفتحتين وهو الاستماع، وقوله أذن أي استمع، والحاصل أن لفظ أذن بفتحة ثم كسرة في الماضي وكذا في المضارع مشترك بين الإطلاق والاستماع، تقول أذنت آذن بالمد، فإن أردت الإطلاق فالمصدر بكسرة ثم سكون، وإن أردت الاستماع فالمصدر بفتحتين، قال عدي بن زيد:
أيها القلب تعلل بددن
إن همي في سماع وأذن
أي في سماع واستماع. وقال القرطبي: أصل الأذن بفتحتين أن المستمع يميل بأذنه إلى جهة من يسمعه، وهذا المعنى في حق الله لا يراد به ظاهره وإنما هو على سبيل التوسع على ما جرى به عرف المخاطب، والمراد به في حق الله تعالى إكرام ا لقارئ وإجزال ثوابه، لأن ذلك ثمرة الإصغاء. ووقع عند مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث :" ما أذن لشيء كأذنه" بفتحتين، ومثله عند ابن أبي داود من طريق محمد بن أبي حفصة عن عمرو بن دينار عن أبي سلمة، وعند أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث فضالة بن عبيد الله" أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته". قلت: ومع ذلك كله فليس ما أنكره ابن الجوزي بمنكر بل هو موجه، وقد وقع عند مسلم في رواية أخرى كذلك ووجهها عياض بأن المراد الحث على ذلك والأمر به. قوله:" وقال صاحب له يجهر به" الضمير في" له" لأبي سلمة، والصاحب المذكور هو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، بينه الزبيدي عن ابن شهاب في هذا الحديث أخرجه ابن أبي داود عن محمد بن يحيى الذهلي في" الزهريات" من طريقه بلفظ: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن" قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الحميد بن عبد الرحمن عن أبي سلمة " يتغنى بالقرآن يجهر به" فكأن هذا التفسير لم يسمعه ابن شهاب من أبي سلمة وسمعه من عبد الحميد عنه فكان تارة يسميه وتارة يبهمه، وقد أدرجه عبد الرزاق عن معمر عنه، قال الذهلي: وهو غير محفوظ في حديث معمر، وقد رواه عبد الأعلى عن معمر بدون هذه الزيادة. قلت: وهي ثابتة عن أبي سلمة من وجه آخر أخرجه مسلم من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: " ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به" وكذا ثبت عنده من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة. قوله:" عن سفيان" هو ابن عيينة. قوله:" عن الزهري" هو ابن شهاب المذكور في الطريق الأولى، ونقل ابن أبي داود عن علي بن المديني شيخ البخاري فيه قال: لم يقل لنا سفيان قط في هذا الحديث:" حدثنا ابن شهاب" قلت: قد رواه الحميدي في مسنده عن سفيان قال:" سمعت الزهري" ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في" المستخرج"، والحميدي من أعرف الناس، بحديث سفيان وأكثرهم تثبتا عته للسماع من شيوخهم. قوله:" قال سفيان تفسيره يستغنى به" كذا فسره سفيان، ويمكن أن يستأنس بما أخرجه أبو داود وابن الضريس، وصححه أبو عوانة عن ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن أبي نهيك قال:" لقيني سعد بن أبي وقاص وأنا في السوق فقال: تجار كسبة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليس منا من لم يتغن بالقرآن" وقد ارتضى أبو عبيد تفسير يتغنى بيستغني وقال إنه جائز في كلام العرب، وأنشد الأعشى:
وكنت امرءا زمنا بالعراق
خفيف المناخ طويل التغني

(9/69)


أي كثير الاستغناء وقال المغيرة بن حبناء:
كلانا غنى عن أخيه حياته
ونحن إذا متنا أشد تغانيا
قال: فعلى هذا يكون المعنى من لم يستغن بالقرآن عن الإكثار من الدنيا فليس منا، أي على طريقتنا. واحتج أبو عبيد أيضا بقول ابن مسعود" من قرأ سورة آل عمران فهو غني" ونحو ذلك. وقال ابن الجوزي: اختلفوا في معنى قوله يتغنى على أربعة أقوال. أحدها تحسين الصوت، والثاني الاستغناء، والثالث التحزن قاله الشافعي، والرابع التشاغل به تقول العرب تغنى بالمكان أقام به. قلت: وفيه قول آخر حكاه ابن الأنباري في" الزاهر" قال. المراد به التلذذ الاستحلاء له كما يستلذ أهل الطرب بالغناء، فأطلق عليه تغنيا من حيث أنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء، وهو كقول النابغة:
بكاء حمامة تدعو هديلا
مفجعة على فنن تغنى
أطلق على صوتها غناء لأنه يطرب كما يطرب الغناء وإن لم يكن غناء حقيقة، وهو كقولهم" العمائم تيجان العرب، لكونها تقوم مقام التيجان، وفيه قول آخر حسن وهو أن يجعله هجيراه كما يجعل المسافر والفارغ هجيراه الغناء، قال ابن الأعرابي: كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى وإذا جلست في أفنيتها وفي أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هجيراهم القراءة مكان التغني. ويؤيد القول الرابع بيت الأعشى المتقدم فإنه أراد بقوله:" طويل التغني" طول الإقامة لا الاستغناء لأنه أليق بوصف الطول من الاستغناء، يعني أنه كان ملازما لوطنه بين أهله كانوا يتمدحون بذلك قال حسان:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم
قبر ابن مارية الكريم المفضل
أراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتجاع ولا يبرحون من أوطانهم، فيكون معنى الحديث الحث على ملازمة القرآن وأن لا يتعدى إلى غيره، وهو يئول من حيث المعنى إلى ما اختاره البخاري من تخصيص الاستغناء وأنه يستغنى به عن غيره من الكتب، وقيل المراد من لم يغنه القرآن وينفعه في إيمانه ويصدق بما فيه من وعد ووعيد وقيل معناه من لم يرتح لقراءته وسماعه، وليس المراد ما اختاره أبو عبيد أنه يحصل به الغنى دون الفقر، لكن الذي اختاره أبو عبيد غير مدفوع إذا أريد به الغنى المعنوي وهو غنى النفس وهو القناعة لا الغنى المحسوس الذي هو ضد الفقر، لأن ذلك لا يحصل بمجرد ملازمة القراءة إلا إن كان ذلك بالخاصية، وسياق الحديث يأبى الحمل على ذلك فإن فيه إشارة إلى الحث على تكلف ذلك، وفي توجيهه تكلف كأنه قال ليس منا من لم يتطلب الغنى بملازمة تلاوته، وأما الذي نقله عن الشافعي فلم أره صريحا عنه تفسير الخبر. وإنما قال في مختصر المزني: وأحب أن يقرأ حدرا وتخزينا انتهى. قال أهل اللغة: حدرت القراءة أدرجتها ولم أمططها، وقرأ فلان تحزينا إذا رفق صوته وصيره كصوت الحزين. وقد روى ابن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه قرأ سورة فحزنها شبه الرثى، وأخرجه أبو عوانة عن الليث بن سعد قال يتغنى به يتحزن به ويرقق به قلبه. وذكر الطبري عن الشافعي أنه سئل عن تأويل ابن عيينة للتغني بالاستغناء فلم يرتضه وقال: لو أراد الاستغناء لقال لم يستغن، وإنما أراد تحسين الصوت. قال ابن بطال: وبذلك فسره ابن أبي مليكة وعبد الله بن المبارك والنضر بن شميل، ويؤيده

(9/70)


رواية عبد الأعلى عن معمر عن ابن شهاب في حديث الباب بلفظ: " ما أذن لنبي في الترنم في القرآن" أخرجه الطبري، وعنده في رواية عبد الرزاق عن معمر " ما أذن لنبي حسن الصوت" وهذا اللفظ عند مسلم من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة، وعند ابن أبي داود والطحاوي من رواية عمرو بن دينار عن أبي سلمة عن أبي هريرة" حسن الترنم بالقرآن" قال الطبري: والترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القارئ وطرب به، قال ولو كان معناه الاستغناء لما كان لذكر الصوت ولا لذكر الجهر معنى. وأخرج ابن ماجه والكجي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد مرفوعا:" الله أشد أذنا - أي استماعا - للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته" والقينة المغنية، وروى ابن أبي شيبة من حديث عقبة بن عامر رفعه:" تعلموا القرآن وغنوا به وأفشوه" كذا وقع عنده والمشهور عند غيره في الحديث:" وتغنوا به" والمعروف في كلام العرب أن التغني الترجيع بالصوت كما قال حسان:
تغن بالشعر إما أنت قائله
إن الغناء بهذا الشعر مضمار
قال: ولا نعلم في كلام العرب تغنى بمعنى استغنى ولا في أشعارهم، وبيت الأعشى لا حجة فيه لأنه أراد طول الإقامة، ومنه قوله تعالى :{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} وقال: بيت المغيرة أيضا لا حجة فيه، لأن التغاني تفاعل بين اثنين وليس هو بمعنى تغنى، قال: وإنما يأتي" تغني" من الغنى الذي هو ضد الفقر بمعنى تفعل أي يظهر خلاف ما عنده، وهذا فاسد المعنى. قلت: ويمكن أن يكون بمعنى تكلفه أي تطلبه وحمل نفسه عليه ولو شق عليه كما تقدم قريبا، ويؤيده حديث: " فإن لم تبكوا فتباكوا" وهو في حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي عوانة. وأما إنكاره أن يكون تغنى بمعنى استغنى في كلام العرب فمردود، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وقد تقدم في الجهاد في حديث الخيل " ورجل ربطها تعففا وتغنيا" وهذا من الاستغناء بلا ريب، والمراد به يطلب الغنى بها عن الناس بقرينة قوله تعففا. وممن أنكر تفسير يتغنى بيستغني أيضا الإسماعيلي فقال: الاستغناء به لا يحتاج إلى استماع، لأن الاستماع أمر خاص زائد على الاكتفاء به، وأيضا فالاكتفاء به عن غيره أمر واجب على الجميع، ومن لم يفعل ذلك خرج عن الطاعة. ثم ساق من وجه آخر عن ابن عيينة قال: يقولون إذا رفع صوته فقد تغنى. قلت: الذي نقل عنه أنه بمعنى يستغنى أتقن لحديثه، وقد نقل أبو داود عنه مثله، ويمكن الجمع بينهما بأن تفسير يستغنى من جهته ويرفع عن غيره. وقال عمر بن شبة: ذكرت لأبي عاصم النبيل تفسير ابن عيينة فقال: لم يصنع شيئا حدثني ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال:" كان داود عليه السلام يتغنى - يعني حين يقرأ - ويبكي ويبكي" وعن ابن عباس: أن داود كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا، ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم. وكان إذا أراد أن يبكي نفسه لم تبق دابة في بر ولا بحر إلا أنصتت له واستمعت وبكت. وسيأتي حديث: " إن أبا موسى أعطى مزمارا من مزامير داود" في" باب حسن الصوت بالقراءة". وفي الجملة ما فسر به ابن عيينة ليس بمدفوع، وإن كانت ظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت ويؤيده قوله:" يجهر به" فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة، وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره ولا سيما إذا كان فقها، وقد جزم الحليمي بأنها من قول أبي هريرة والعرب تقول: سمعت فلانا يتغنى بكذا. أي يجهر به. وقال أبو عاصم: أخذ بيدي ابن جريج فأوقفني على

(9/71)


أشعب فقال: غن ابن أخي ما بلغ من طمعك؟ فذكر قصة. فقوله غن أي أخبرني جهرا صريحا. ومنه قول ذي الرمة:
أحب المكان القفر من أجلي أنني
به أتغنى باسمها غير معجم
أي أجهر ولا أكنى، والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة، وهو أنه يحسن به صوته جاهرا به مترنما على طريق التحزن، مستغنيا به عن غيره من الأخبار، طالبا به غنى النفس راجيا به غنى اليد، وقد نظمت ذلك في بيتين:
تغن بالقرآن حسن به الصو
ت حزينا جاهرا رنم
واستغن عن كتب الألى طالبا
غنى يد والنفس ثم الزم
وسيأتي ما يتعلق بحسن الصوت بالقرآن في ترجمة مفردة. ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم، لأن للتطريب تأثيرا في رقة القلب وإجراء الدمع. وكان بين السلف اختلاف في جواز القرآن بالألحان، أما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره فلا نزاع في ذلك، فحكى عبد الوهاب المالكي عن مالك تحريم القراءة بالألحان، وحكاه أبو الطيب الطبري والماوردي وابن حمدان الحنبلي عن جماعة من أهل العلم، وحكى ابن بطال وعياض والقرطبي من المالكية والماوردي والبندنيجي والغزالي من الشافعية، وصاحب الذخيرة من الحنفية الكراهة، واختاره أبو يعلى وابن عقيل من الحنابلة، وحكى ابن بطال عن جماعة من الصحابة والتابعين الجواز، وهو المنصوص للشافعي ونقله الطحاوي عن الحنفية. وقال الفوراني من الشافعية في الإبانة يجوز بل يستحب، ومحل هذا الاختلاف إذا لم يختل شيء من الحروف عن مخرجه، فلو تغير قال النووي في" التبيان" أجمعوا على تحريمه ولفظه: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفا أو أخفاه حرم، قال: وأما القراءة بالألحان فقد نص الشافعي في موضع على كراهته وقال في موضع آخر لا بأس به، فقال أصحابه: ليس على اختلاف قولين، بل على اختلاف حالين، فإن لم يخرج بالألحان على المنهج القويم جاز وإلا حرم. وحكى الماوردي عن الشافعي أن القراءة بالألحان إذا انتهت إلى إخراج بعض الألفاظ عن مخارجها حرم وكذا حكى ابن حمدان الحنبلي في" الرعاية". وقال الغزالي والبندنيجي وصاحب الذخيرة من الحنفية: إن لم يفرط في التمطيط الذي يشوش النظم استحب وإلا فلا. وأغرب الرافعي فحكى عن" أمالي السرخسي" أنه لا يضر التمطيط مطلقا، وحكاه ابن حمدان رواية عن الحنابلة، وهذا شذوذ لا يعرج عليه. والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح. ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم فإن الحسن الصوت يزداد حسنا بذلك، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء، فإن وجد من يراعيهما معا فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء والله أعلم

(9/72)


20- باب اغْتِبَاطِ صَاحِبِ الْقُرْآنِ
5025- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :" لاَ حَسَدَ إِلاَّ عَلَى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ"
[الحديث5025- طرفه في: 7529]
5026- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :" لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ فَقَالَ رَجُلٌ لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ".
[الحديث 5026- طرفاه في: 7233، 7528]
قوله:" باب اغتباط صاحب القرآن" تقدم في أوائل كتاب العلم" باب الاغتباط في العلم والحكمة" وذكرت هناك تفسير الغبطة، والفرق بينها وبين الحسد، وأن الحسد في الحديث أطلق عليها مجازا، وذكرت كثيرا من مباحث المتن هناك. وقال الإسماعيلي هنا ترجمة الباب:" اغتباط صاحب القرآن" وهذا فعل صاحب القرآن فهو الذي يغتبط وإذا كان يغتبط بفعل نفسه كان معناه أنه يسر ويرتاح بعمل نفسه، وهذا ليس مطابقا. قلت: ويمكن الجواب بأن مراد البخاري بأن الحديث لما كان دالا على أن غير صاحب القرآن يغتبط صاحب القرآن بما أعطيه من العمل بالقرآن فاغتباط صاحب القرآن بعمل نفسه أولى إذا سمع هذه البشارة الواردة في حديث الصادق. قوله :" لا حسد" أي لا رخصة في الحسد إلا في خصلتين، أو لا يحسن الحسد إن حسن، أو أطلق الحسد مبالغة في الحث على تحصيل الخصلتين كأنه قيل لو لم يحصلا إلا بالطريق المذموم لكان ما فيهما من الفضل حاملا على الإقدام عل تحصيلهما به فكيف والطريق المحمود يمكن تحصيلهما به، وهو من جنس قوله تعالى :{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} فإن حقيقة السبق أن يتقدم على غيره في المطلوب. قوله :" إلا على اثنتين" في حديث ابن مسعود الماضي وكذا في حديث أبي هريرة المذكور تلو هذا" إلا في اثنتين" تقول حسدته على كذا أي على وجود ذلك له، وأما حسدته في كذا فمعناه حسدته في شأن كذا وكأنها سببية. قوله :" وقام به آناء الليل" كذا في النسخ التي وقفت عليها من البخاري، وفي" مستخرج أبي نعيم" من طريق أبي بكر بن زنجويه عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه :" آناء الليل وآناء النهار" وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق إسحاق بن يسار عن أبي اليمان، وكذا هو عند مسلم من وجه آخر عن الزهري، وقد تقدم في العلم أن المراد بالقيام به العمل به تلاوة وطاعة. قوله:" حدثنا علي بن إبراهيم" هو الواسطي في قول الأكثر، واسم جده عبد المجيد اليشكري، وهو ثقة متقن، عاش بعد البخاري نحو عشرين سنة. وقيل ابن أشكاب وهو علي بن الحسن بن إبراهيم بن أشكاب نسب إلى جده، وبهذا جزم ابن عدي. وقيل علي بن عبد الله بن إبراهيم نسب إلى جده وهو قول

(9/73)


تي في النكاح رواية الفربري عن علي بن عبد الله بن إبراهيم عن حجاج بن محمد. وقال الحاكم: قيل هو علي بن إبراهيم المروزي وهو مجهول، وقيل الواسطي. قوله:" روح" هو ابن عبادة وقد تابعه بشر بن منصور وابن أبي عدي والنضر بن شميل كلهم عن شعبة، قال الإسماعيلي: رفعه هؤلاء ووقفه غندر عن شعبة. قوله:" عن سليمان" هو الأعمش،" قال سمعت ذكوان" هو أبو صالح السمان. قلت. ولشعبة عن الأعمش فيه شيح آخر أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر غندر عن شعبة عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن أبي كبشة الأنماري. قلت: وقد أشرت إلى متن أبي كبشة في كتاب العلم، وسياقه أتم من سياق أبي هريرة. وأخرجه أبو عوانة في صحيحه أيضا من طريق أبي زيد الهروي عن شعبة، وأخرجه أيضا من طريق جرير عن الأعمش بالإسنادين معا، وهو ظاهر في أنهما حديثان متغايران سندا ومتنا اجتمعا لشعبة وجرير معا عن الأعمش، وأشار أبو عوانة إلى أن مسلما لم يخرج حديث أبي هريرة لهذه العلة، وليس ذلك بواضح لأنها ليست علة قادحة. قوله :" فهو يهلكه في الحق" فيه احتراس بليغ، كأنه لما أوهم الإنفاق في التبذير من جهة عموم الإهلاك قيده بالحق والله أعلم.

(9/74)


21- باب خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ
5027- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ قَالَ وَأَقْرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ حَتَّى كَانَ الْحَجَّاجُ قَالَ وَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا"
[الحديث 5027- طرفه في: 5028]
5028- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ"
5029- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا قَالَ أَعْطِهَا ثَوْبًا قَالَ لاَ أَجِدُ قَالَ أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَاعْتَلَّ لَهُ فَقَالَ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله :" باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه" كذا ترجم بلفظ المتن، وكأنه أشار إلى ترجيح الرواية بالواو. قوله:" عن سعد بن عبيدة" كذا يقول شعبة، يدخل بين علقمة بن مرثد وأبي عبد الرحمن سعد بن عبيدة. وخالفه سفيان الثوري فقال:" عن علقمة عن أبي عبد الرحمن" ولم يذكر سعد بن عبيدة. وقد أطنب الحافظ أبو العلاء العطار في كتابه" الهادي في القرآن" في تخريج طرقه، فذكر ممن تابع شعبة ومن تابع سفيان جمعا كثيرا، وأخرجه

(9/74)


أبو بكر بن أبي داود في أول الشريعة له وأكثر من تخريج طرقه أيضا، ورجح الحفاظ رواية الثوري وعدوا رواية شعبة من المزيد في متصل الأسانيد. وقال الترمذي كأن رواية سفيان أصح من رواية شعبة. وأما البخاري فأخرج الطريقين فكأنه ترجح عنده أنهما جميعا محفوظان، فيحمل على أن علقمة سمعه أولا من سعد ثم لقي أبا عبد الرحمن فحدثه به، أو سمعه مع سعد من أبي عبد الرحمن فثبته فيه سعد، ويؤيد ذلك ما في رواية سعد بن عبيدة من الزيادة الموقوفة وهي قول أبي عبد الرحمن" فذلك الذي أقعدني هذا المقعد" كما سيأتي البحث فيه. وقد شذت رواية عن الثوري بذكر سعد بن عبيدة فيه، قال الترمذي" حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى القطان حدثنا سفيان وشعبة عن علقمة عن سعد بن عبيدة به" وقال النسائي:" أنبأنا عبيد الله بن سعيد حدثنا يحيى عن شعبة وسفيان أن علقمة حدثهما عن سعد" قال الترمذي قال محمد بن بشار: أصحاب سفيان لا يذكرون فيه سعد بن عبيدة وهو الصحيح ا هـ. وهكذا حكم علي بن المديني علي يحيى القطان فيه بالوهم. وقال ابن عدي: جمع يحيى القطان بين شعبة وسفيان، فالثوري لا يذكر في إسناده سعد بن عبيدة. وهذا مما عد في خطأ يحيى القطان على الثوري. وقال في موضع آخر: حمل يحيى القطان رواية الثوري على رواية شعبة فساق الحديث عنهما، وحمل إحدى الروايتين على الأخرى فساقه على لفظ شعبة، وإلى ذلك أشار الدار قطني. وتعقب بأنه فصل بين لفظيهما في رواية النسائي فقال:" قال شعبة خيركم وقال سفيان أفضلكم". قلت: وهو تعقب واه، إذ لا يلزم من تفصيله للفظهما في المتن أن يكون فصل لفظهما في الإسناد" قال ابن عدي: يقال إن يحيى القطان لم يخطئ قط إلا في هذا الحديث. وذكر الدار قطني أن خلاد بن يحيى تابع يحيى القطان عن الثوري على زيادة سعد بن عبيدة وهي رواية شاذة. وأخرج ابن عدي من طريق يحيى بن آدم عن الثوري وقيس بن الربيع. وفي رواية عن يحيى بن آدم عن شعبة وقيس بن الربيع جميعا عن علقمة عن سعد بن عبيدة قال وكذا رواه سعيد بن سالم القداح عن الثوري ومحمد بن أبان كلاهما عن علقمة بزيادة سعد وزاد في إسناده رجلا آخر كما سأبينه، وكل هذه الروايات وهم، والصواب عن الثوري بدون ذكر سعد وعن شعبة بإثباته. قوله:" عن عثمان" في رواية شريك عن عاصم بن بهدلة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود أخرجه ابن أبي داود بلفظ:" خيركم من قرأ القرآن وأقرأه" وذكره الدار قطني وقال: الصحيح عن أبي عبد الرحمن عن عثمان. وفي رواية خلاد بن يحيى عن الثوري بسنده قال:" عن أبي عبد الرحمن عن أبان بن عثمان عن عثمان" قال الدار قطني: هذا وهم، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون السلمي أخذه عن أبان بن عثمان عن عثمان ثم لقي عثمان فأخذه عنه، وتعقب بأن أبا عبد الرحمن أكثر من أبان. وأبان اختلف في سماعه من أبيه أشد مما اختلف في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان فبعد هذا الاحتمال. وجاء من وجه آخر كذلك أخرجه ابن أبي داود من طريق سعيد بن سلام" عن محمد بن أبان سمعت علقمة يحدث عن أبي عبد الرحمن عن أبان بن عثمان عن عثمان" فذكره وقال تفرد به سعيد بن سلام يعني عن محمد بن أبان قلت: وسعيد ضعيف، وقد قال أحمد: حدثنا حجاج بن محمد عن شعبة قال لم يسمع أبو عبد الرحمن السلمي من عثمان وكذا نقله أبو عوانة في صحيحه عن شعبة ثم قال: اختلف أهل التمييز في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان ونقل ابن أبي داود عن يحيى بن معين مثل ما قال شعبة. ذكر الحافظ أبو العلاء أن مسلما سكت عن إخراج هذا الحديث في صحيحه. قلت: قد وقع في بعض الطرق التصريح بتحديث عثمان لأبي عبد الرحمن، وذلك فيما أخرجه ابن عدي في ترجمة عبد الله بن محمد بن أبي مريم من طريق ابن جريج عن عبد الكريم عن أبي عبد

(9/75)


الرحمن" حدثني عثمان" وفي إسناده مقال، لكن ظهر لي أن البخاري اعتمد في وصله وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة عن سعد بن عبيدة من الزيادة، وهي أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجاج، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور، فدل على أنه سمعه في ذلك الزمان، وإذا سمعه في ذلك الزمان ولم يوصف بالتدليس اقتضى ذلك سماعه ممن عنعنه عنه وهو عثمان رضي الله عنه ولا سيما مع ما اشتهر بين القراء أنه قرأ القرآن على عثمان، وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره، فكان هذا أولى من قول من قال إنه لم يسمع منه. قوله :" خيركم من تعلم القرآن وعلمه" كذا للأكثر وللسرخسي " أو علمه" وهي للتنويع لا للشك، وكذا لأحمد عن غندر عن شعبة وزاد في أوله" إن" وأكثر الرواة عن شعبة يقولونه بالواو، وكذا وقع عند أحمد عن بهز وعند أبي داود عن حفص بن عمر كلاهما عن شعبة وكذا أخرجه الترمذي من حديث علي وهي أظهر من حيث المعنى لأن التي بأو تقتضي إثبات الخيرية المذكورة لمن فعل أحد الأمرين فيلزم أن من تعلم القرآن ولو لم يعلمه غيره. أن يكون خيرا ممن عمل بما فيه مثلا وإن لم يتعلمه، ولا يقال يلزم على رواية الواو أيضا أن من تعلمه وعلمه غيره أن يكون أفضل ممن عمل بما فيه من غير أن يتعلمه ولم يعلمه غيره، لأنا نقول يحتمل أن يكون المراد بالخيرية من جهة حصول التعليم بعد العلم، والذي يعلم غيره يحصل له النفع المتعدي بخلاف من يعمل فقط، بل من أشرف العمل تعليم الغير، فمعلم غيره يستلزم أن يكون تعلمه، وتعليمه لغيره عمل وتحصيل نفع متعد، ولا يقال لو كان المعنى حول النفع المتعدي لاشترك كل من علم غيره علما ما في ذلك، لأنا نقول القرآن أشرف العلوم فيكون من تعلمه وعلمه لغيره أشرف ممن تعلم غير القرآن وإن علمه فيثبت المدعي. ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام كما قال تعالى :{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه قلنا: لا، لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدريها من بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك، لا من كان قارئا أو مقرئا محضا لا يفهم شيئا من معاني ما يقرؤه أو يقرئه. فإن قيل فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم غناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا، قلنا حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل، فلعل" من" مضمرة في الخبر، ولا بد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل صنف منهم. ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك كان اللائق بحالهم ذلك، أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيفما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عينا. قوله:" قال وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج" أي حتى ولى الحجاج على العراق قلت: بين أول خلافة عثمان وآخر ولاية الحجاج اثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة أشهر وبين آخر خلافة عثمان وأول ولاية الحجاج العراق ثمان وثلاثون سنة، ولم أقف على تعيين ابتداء إقراء

(9/76)


أبي عبد الرحمن وآخره فالله أعلم بمقدار ذلك، ويعرف من الذي ذكرته أقصى المدة وأدناها، والقائل" وأقرأ إلخ" هو سعد بن عبيدة فإنني لم أر هذه الزيادة إلا من رواية شعبة عن علقمة، وقائل" وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا" هو أبو عبد الرحمن، وحكى الكرماني أنه وقع في بعض نسخ البخاري" قال سعد بن عبيدة وأقرأني أبو عبد الرحمن" قال وهي أنسب لقوله:" وذاك الذي أقعدني إلخ" أي أن إقراءه إياي هو الذي حملني على أن قعدت هذا المقعد الجليل ا هـ. والذي في معظم النسخ" وأقرأ: {بحذف المفعول وهو الصواب، وكأن الكرماني ظن أن قائل" وذاك الذي أقعدني" هو سعد بن عبيدة، وليس كذلك بل قائله أبو عبد الرحمن، ولو كان كما ظن للزم أن تكون المدة الطويلة سيقت لبيان زمان إقراء أبي عبد الرحمن لسعد بن عبيدة، وليس كذلك بل إنما سيقت لبيان طول مدته لإقراء الناس القرآن، وأيضا فكان يلزم أن يكون سعد بن عبيدة قرأ على أبي عبد الرحمن من زمن عثمان، وسعد لم يدرك زمان عثمان، فإن أكبر شيخ له المغيرة بن شعبة وقد عاش بعد عثمان خمس عشرة سنة، وكان يلزم أيضا أن تكون الإشارة بقوله:" وذلك" إلى صنيع أبي عبد الرحمن، وليس كذلك بل الإشارة بقوله ذلك إلى الحديث المرفوع، أي أن الحديث الذي حدث به عثمان في أفضلية من تعلم القرآن وعلمه حمل أبا عبد الرحمن أن قعد يعلم الناس القرآن لتحصيل تلك الفضيلة، وقد وقع الذي حملنا كلامه عليه صريحا في رواية أحمد عن محمد بن جعفر وحجاج بن محمد جميعا عن شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة قال:" قال أبو عبد الرحمن فذاك الذي أقعدني هذا المقعد" وكذا أخرجه الترمذي من رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة وقال فيه:" مقعدي هذا"، قال وعلم أبو عبد الرحمن القرآن في زمن عثمان حتى بلغ الحجاج، وعند أبي عوانة من طريق بشر بن أبي عمرو وأبي غياث وأبي الوليد ثلاثتهم عن شعبة بلفظ:" قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا، وكان يعلم القرآن" والإشارة بذلك إلى الحديث كما قررته، وإسناده إليه إسناد مجازي، ويحتمل أن تكون الإشارة به إلى عثمان وقد وقع رواية أبي عوانة أيضا عن يوسف بن مسلم عن حجاج بن محمد بلفظ:" قال أبو عبد الرحمن: وهو الذي أجلسني هذا المجلس" وهو محتمل أيضا. قوله:" حدثنا سفيان" هو الثوري، وعلقمة بن مرثد بمثلثة بوزن جعفر، ومنهم من ضبطه بكسر المثلثة، وهو من ثقات أهل الكوفة من طبقة الأعمش، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر في الجنائز من روايته عن سعد بن عبيدة أيضا، وثالث في مناقب الصحابة وقد تقدما. قوله :" إن أفضلكم من تعلم القرآن أو علمه" كذا ثبت عندهم بلفظ:" أو" وفي رواية الترمذي من طريق بشر بن السري عن سفيان" خيركم أو أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه" فاختلف في رواية سفيان أيضا في أن الرواية بأو أو بالواو، وقد تقدم توجيهه. وفي الحديث الحث على تعليم القرآن، وقد سئل الثوري عن الجهاد وإقراء القرآن فرجح الثاني واحتج بهذا الحديث أخرجه ابن أبي داود. وأخرج عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرئ القرآن خمس آيات خمس آيات، وأسند من وجه آخر عن أبي العالية مثل ذلك وذكر أن جبريل كان ينزل به كذلك، وهو مرسل جيد، وشاهده ما قدمته في تفسير المدثر وفي تفسير سورة اقرأ. ثم ذكر المصنف طرفا من حديث سهل بن سعد في قصة التي وهبت نفسها، قال ابن بطال: وجه إدخاله في هذا الباب أنه صلى الله عليه وسلم زوجه المرأة لحرمة القرآن؛ وتعقبه ابن التين بأن السياق يدل على أنه زوجها له على أن يعلمها، وسيأتي البحث فيه مع استيفاء شرحه في كتاب النكاح. وقال غيره وجه دخوله أن فضل القرآن ظهر على صاحبه في العاجل بأن قام له مقام المال الذي يتوصل به إلى بلوغ

(9/77)


الغرض، وأما نفعه في الآجل فظاهر لا خفاء به. قوله:" وهبت نفسها لله ولرسوله" في رواية الحموي" وللرسول". قوله :" ما معك من القرآن؟ قال: كذا وكذا" ووقع في الباب الذي يلي هذا" سورة كذا وسورة كذا" وسيأتي بيان ذلك عند شرحه إن شاء الله تعالى

(9/78)


22 - باب الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ
5030- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال : هل عندك من شيء فقال لا والله يا رسول الله قال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئا قال: انظر ولو خاتما من حديد فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد ولكن هذا إزاري قال سهل ما له رداء فلها نصفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك شيء والحاصل الرجل حتى طال مجلسه ثم قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي فلما جاء قال ماذا معك من القرآن قال: معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا عدها قال أتقرؤهن عن ظهر قلبك قال: نعم قال اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن"
قوله:" باب القراءة عن ظهر القلب" ذكر فيه حديث سهل في الواهبة مطولا، وهو ظاهر فيما ترجم له لقوله فيه:" أتقرأهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم" فدل على فضل القراءة عن ظهر القلب لأنها أمكن في التوصل إلى التعليم وقال ابن كثير: إن كان البخاري أراد بهذا الحديث الدلالة على أن تلاوة القرآن عن ظهر قلب أفضل من تلاوته نظرا من المصحف ففيه نظر، لأنها قضية عين فيحتمل أن يكون الرجل كان لا يحسن الكتابة وعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلا يدل ذلك على أن التلاوة عن ظهر قلب أفضل في حق من يحسن ومن لا يحسن، وأيضا فإن سياق هذا الحديث إنما هو لاستثبات أنه يحفظ تلك السور عن ظهر قلب ليتمكن من تعليمه لزوجته، وليس المراد أن هذا أفضل من التلاوة نظرا ولا عدمه. قلت: ولا يرد على البخاري شيء مما ذكر، لأن المراد بقوله:" باب القراءة عن ظهر قلب" مشروعيتها أو استحبابها، والحديث مطابق لما ترجم به، ولم يتعرض لكونها أفضل من القراءة نظرا. وقد صرح كثير من العلماء بأن القراءة من المصحف نظرا أفضل من القراءة عن ظهر قلب. وأخرج أبو عبيد في" فضائل القرآن" من طريق عبيد الله بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رفعه قال:" فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرؤه ظهرا كفضل الفريضة على النافلة" وإسناده ضعيف، ومن طريق ابن مسعود موقوفا" أديموا النظر في المصحف" وإسناده صحيح، ومن حيث المعنى أن القراءة في المصحف أسلم من الغلط، لكن القراءة عن ظهر قلب

(9/78)


أبعد من الرياء وأمكن للخشوع. والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. وأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة" اقرءوا القرآن، ولا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة، فإن الله لا يعذب قلبا وعى القرآن" وزعم ابن بطال أن في قوله :" أتقرأهن عن ظهر قلب" ؟ ردا لما تأوله الشافعي في إنكاح الرجل على أن صداقها أجرة تعليمها، كذا قال: ولا دلالة فيه لما ذكر، بل ظاهر سياقه أنه استثبته كما تقدم. والله أعلم

(9/79)


23 - باب اسْتِذْكَارِ الْقُرْآنِ وَتَعَاهُدِهِ
5031- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ"
5032- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ نُسِّيَ وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ"
[الحديث 5023- طرفه في: 5039]
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ مِثْلَهُ تَابَعَهُ بِشْرٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ شُعْبَةَ وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدَةَ عَنْ شَقِيقٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
5033- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا"
قوله:" باب استذكار القرآن" أي طلب ذكره بضم الذال" وتعاهده" أي تجديد العهد به بملازمة تلاوته. وذكر في الباب ثلاثة أحاديث: الأول. قوله :" إنما مثل صاحب القرآن" أي مع القرآن، والمراد بالصاحب الذي ألفه، قال عياض: المؤالفة المصاحبة، وهو كقوله أصحاب الجنة، وقوله ألفه أي ألف تلاوته، وهو أعم من أن يألفها نظرا من المصحف أو عن ظهر قلب، فإن الذي يداوم على ذلك يذل له لسانه ويسهل عليه قراءته، فإذا هجره ثقلت عليه القراءة وشقت عليه، وقوله :" إنما" يقتضي الحصر على الراجح، لكنه حصر مخصوص بالنسبة إلى الحفظ والنسيان بالتلاوة والترك. قوله:" كمثل صاحب الإبل المعقلة" أي مع الإبل المعقلة. والمعقلة بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد القاف أي المشدودة بالعقال وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير، شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه الشراد، فما زال التعاهد موجودا فالحفظ موجود، كما أن البعير ما دام مشدودا بالعقال فهو محفوظ. وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوان الإنسي نفورا، وفي تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة. قوله :" إن عاهد عليها أمسكها" أي استمر إمساكه لها. وفي رواية أيوب عن نافع عند مسلم:" فإن عقلها حفظها". قوله :" وإن أطلقها ذهبت" أي انفلتت. وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عند مسلم :" إن تعاهدها صاحبها فعقلها أمسكها، وإن أطلق عقلها ذهبت" وفي رواية موسى بن عقبة عن نافع إذا قام

(9/79)


صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه. قوله:" حدثنا محمد بن عرعرة" بعين مهملة مفتوحة وراء ساكنة مكررتين، ومنصور هو ابن المعتمر، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة، وعبد الله هو ابن مسعود، وسيأتي في الرواية المعلقة التصريح بسماع شقيق له من ابن مسعود. قوله:" بئس ما لأحدهم أن يقول" قال القرطبي: بئس هي أخت نعم، فالأولى للذم والأخرى للمدح، وهما فعلان غير متصرفين يرفعان الفاعل ظاهرا أو مضمرا إلا أنه إذا كان ظاهرا لم يكن في الأمر العام إلا بالألف واللام للجنس أو مضاف إلى ما هما فيه حتى يشتمل على الموصوف بأحدهما، ولا بد من ذكره تعينا كقوله نعم الرجل زيد وبئس الرجل عمرو، فإن كان الفاعل مضمرا فلا بد من ذكر اسم نكرة ينصب على التفسير للضمير كقوله نعم رجلا زيد، وقد يكون هذا التفسير" ما" على ما نص عليه سيبويه كما في هذا الحديث وكما في قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ} . وقال الطيبي: و" ما" نكرة موصوفة و" أن يقول:" مخصوص بالذم، أي بئس شيئا كان الرجل يقول. قوله:" نسيت" بفتح النون وتخفيف السين اتفاقا. قوله:" آية كيت وكيت" قال القرطبي: كيت وكيت يعبر بهما عن الجمل الكثيرة والحديث الطويل، ومثلهما ذيت وذيت. وقال ثعلب: كيت للأفعال وذيت للأسماء. وحكى ابن التين عن الداودي أن هذه الكلمة مثل كذا إلا أنها خاصة بالمؤنث، وهذا من مفردات الداودي. قوله:" بل هو نسي" بضم النون وتشديد المهملة المكسورة، قال القرطبي: رواه بعض رواة مسلم مخففا. قلت: وكذا هو في مسند أبي يعلى، وكذا أخرجه ابن أبي داود في" كتاب الشريعة" من طرق متعددة مضبوطة بخط موثوق به على سين علامة التخفيف وقال عياض: كان الكناني - يعني أبا الوليد الوقشي - لا يجيز في هذا غير التخفيف. قلت: والتثقيل هو الذي وقع في جميع الروايات في البخاري، وكذا في أكثر الروايات في غيره، ويؤيده ما وقع في رواية أبي عبيد في" الغريب" بعد قوله كيت وكيت: ليس هو نسي ولكنه نسي. الأول بفتح النون وتخفيف السين والثاني بضم النون وتثقيل السين، قال القرطبي: التثقيل معناه أنه عوقب بوقوع النسيان عليه لتفريطه في معاهدته واستذكاره، قال: ومعنى التخفيف أن الرجل ترك غير ملتفت إليه، وهو كقوله تعالى :{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أي تركهم في العذاب أو تركهم من الرحمة. واختلف في متعلق الذم من قوله:" بئس" على أوجه: الأول قيل هو على نسبة الإنسان إلى نفسه النسيان وهو لا صنع له فيه فإذا نسبه إلى نفسه أوهم أنه انفرد بفعله، فكان ينبغي أن يقول آنسيت أو نسيت بالتثقيل على البناء للمجهول فيهما، أي أن الله هو الذي أنساني كما قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وقال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؟ وبهذا الوجه جزم ابن بطال فقال: أراد أن يجري على ألسن العباد نسبة الأفعال إلى خالقها لما في ذلك من الإقرار له بالعبودية والاستسلام لقدرته، وذلك أولى من نسبة الأفعال إلى مكتسبها مع أن نسبتها إلى مكتسبنها جائز بدليل الكتاب والسنة. ثم ذكر الحديث الآتي في" باب نسيان القرآن" قال: وقد أضاف موسى عليه السلام النسيان مرة إلى نفسه ومرة إلى الشيطان فقال : {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} ولكل إضافة منها معنى صحيح، فالإضافة إلى الله بمعنى أنه خالق الأفعال كلها، وإلى النفس لأن الإنسان هو المكتسب لها، وإلى الشيطان بمعنى الوسوسة ا هـ. ووقع له ذهول فيما نسبه لموسى، وإنما هو كلام فتاه. وقال القرطبي: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب النسيان إلى نفسه يعني كما سيأتي في" باب نسيان القرآن" وكذا نسبه يوشع إلى نفسه حيث قال: {نسِيتُ الْحُوتَ} وموسى إلى نفسه حيث قال:

(9/80)


{لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} وقد سبق قول الصحابة {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} مساق المدح، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فالذي يظهر أن ذلك ليس متعلق الذم وجنح إلى اختيار الوجه الثاني وهو كالأول لكن سبب الذم ما فيه من الإشعار بعدم الاعتناء بالقرآن إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بتلاوته والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكره، فإذا قال الإنسان نسيت الآية الفلانية فكأنه شهد على نفسه بالتفريط فيكون متعلق الذم ترك الاستذكار والتعاهد لأنه الذي يورث النسيان. الوجه الثالث، قال الإسماعيلي: يحتمل أن يكون كره له أن يقول نسيت بمعنى تركت لا بمعنى السهو العارض، كما قال تعالى :{نسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} وهذا اختيار أبي عبيد وطائفة. الوجه الرابع، قال الإسماعيلي أيضا: يحتمل أن يكون فاعل نسيت النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قال: لا يقل أحد عني إني نسيت آية كذا، فإن الله هو الذي نساني ذلك لحكمة نسخه ورفع تلاوته، وليس لي في ذلك صنع بل الله هو الذي ينسيني لما تنسخ تلاوته؛ وهو كقوله تعالى :{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فإن المراد بالمنسي ما ينسخ تلاوته فينسى الله نبيه ما يريد نسخ تلاوته. الوجه الخامس، قال الخطابي: يحتمل أن يكون ذلك خاصا بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من ضروب النسخ نسيان الشيء الذي ينزل ثم ينسخ منه بعد نزوله الشيء فيذهب رسمه وترفع تلاوته ويسقط حفظه عن حملته، فيقول القائل نسيت آية كذا فنهوا عن ذلك لئلا يتوهم على محكم القرآن الضياع، وأشار لهم إلى أن الذي يقع من ذلك إنما هو بإذن الله لما رآه من الحكمة والمصلحة. الوجه السادس، قال الإسماعيلي: وفيه وجه آخر وهو أن النسيان الذي هو خلاف الذكر إضافته إلى صاحبه مجاز لأنه عارض له لا عن قصد منه، لأنه لو قصد نسيان الشيء لكان ذاكرا له في حال قصده، فهو كما قال ما مات فلان ولكن أميت. قلت: وهو قريب من الوجه الأول. وأرجح الأوجه الوجه الثاني، ويؤيده عطف الأمر باستذكار القرآن عليه. وقال عياض: أول ما يتأول عليه ذم الحال لا ذم القول، أي بئس الحال حال من حفظه ثم غفل عنه حتى نسيه. وقال النووي: الكراهة فيه للتنزيه. قوله :" واستذكروا القرآن" أي واظبوا على تلاوته واطلبوا من أنفسكم المذاكرة به، قال الطيبي: وهو عطف من حيث المعنى على قوله:" بئس ما لأحدكم" أي لا تقصروا في معاهدته واستذكروه، وزاد ابن أبي داود من طريق عاصم عن أبي وائل في هذا الموضع" فإن هذا القرآن وحشي". وكذا أخرجها من طريق المسيب بن رافع عن ابن مسعود. قوله:" فإنه أشد تفصيا" بفتح الفاء وكسر الصاد المهملة الثقيلة بعدها تحتانية خفيفة أي تفلتا وتخلصا، تقول تفصيت كذا أي أحطت بتفاصيله. والاسم الفصة، ووقع في حديث عقبة بن عامر بلفظ:" تفلتا" وكذا وقعت عند مسلم في حديث أبي موسى ثالث أحاديث الباب، ونصب على التمييز. وفي هذا الحديث زيادة على حديث ابن عمر، لأن في حديث ابن عمر تشبيه أحد الأمرين بالآخر وفي هذا أن هذا أبلغ في النفور من الإبل، ولذا أفصح به في الحديث الثالث حيث قال :" لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها" لأن من شأن الإبل تطلب التفلت ما أمكنها فمتى لم يتعاهدها برباطها تفلتت، فكذلك حافظ القرآن إن لم يتعاهده تفلت بل هو أشد في ذلك. وقال ابن بطال: هذا الحديث يوافق الآيتين قوله تعالى :{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} وقوله تعالى :{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}، فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسر له، ومن أعرض عنه تفلت منه. قوله:" حدثنا عثمان" هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو المذكور في الإسناد الذي قبله. وهذه الطريق عند الكشميهني وحده،

(9/81)


وثبتت أيضا في رواية النسفي، وقوله:" مثله" الضمير للحديث الذي قبله، وهو يشعر بأن سياق جرير مساو لسياق شعبة. وقد أخرجه مسلم عن عثمان بن أبي شيبة مقرونا بإسحاق بن راهويه وزهير بن حرب ثلاثتهم عن جرير ولفظه مساو للفظ شعبة المذكور إلا أنه قال :" استذكروا" بغير واو. وقال:" فلو أشد" بدل قوله :" فإنه" وزاد بعد قوله من النعم " بعقلها" وقد أخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن عثمان بن أبي شيبة بإثبات الواو وقال في آخره :" من عقله" وهذه الزيادة ثابتة عنده في حديث شعبة أيضا من رواية غندر عنه بلفظ:" بئسما لأحدكم - أو لأحدهم - أن يقول: إني نسيت آية كيت وكيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو نسي، ويقول استذكروا القرآن إلخ" وكذا ثبتت عنده في رواية الأعمش عن شقيق بن سلمة عن ابن مسعود. قوله:" تابعه بشر عن ابن المبارك عن شعبة" يريد أن عبد الله بن المبارك تابع محمد بن عرعرة في رواية هذا الحديث عن شعبة وبشر هو ابن محمد المروزي شيخ البخاري، قد أخرج عنه في بدء الوحي وغيره، ونسبة المتابعة إليه مجازية، وقد يوهم أنه تفرد بذلك عن ابن المبارك وليس كذلك. فإن الإسماعيلي أخرج الحديث من طريق حبان بن موسى عن ابن المبارك، ويوهم أيضا أن ابن عرعرة وابن المبارك انفردا بذلك عن شعبة وليس كذلك لما ذكر فيه من رواية غندر وقد أخرجها أحمد أيضا عنه، وأخرجه عن حجاج بن محمد وأبي داود الطيالسي كلاهما عن شعبة، وكذا أخرجه الترمذي من رواية الطيالسي. قوله:" وتابعه ابن جريج عن عبدة عن شقيق سمعت عبد الله" أما عبدة فهو بسكون الموحدة وهو ابن أبي لبابة بضم اللام وموحدتين مخففا، وشقيق هو أبو وائل، وعبد الله هو ابن مسعود، وهذه المتابعة وصلها مسلم من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج قال:" حدثني عبدة بن أبي لبابة عن شقيق بن سلمة سمعت عبد الله بن مسعود" فذكر الحديث إلى قوله :" بل هو نسي" ولم يذكر ما بعده. وكذا أخرجه أحمد عن عبد الرزاق، وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق محمد بن جحادة عن عبدة، وكأن البخاري أراد بإيراد هذه المتابعة دفع تعليل من أعل الخبر برواية حماد بن زيد وأبي الأحوص له عن منصور موقوفة على ابن مسعود، قال الإسماعيلي: روى حماد بن زيد عن منصور وعاصم الحديثين معا موقوفين، وكذا رواهما أبو الأحوص عن منصور. وأما ابن عيينة فأسند الأول ووقف الثاني، قال ورفعهما جميعا إبراهيم بن طهمان وعبيدة بن حميد عن منصور، وهو ظاهر سياق سفيان الثوري. قلت: ورواية عبيدة أخرجها ابن أبي داود. ورواية سفيان ستأتي عند المصنف قريبا مرفوعا لكن اقتصر على الحديث الأول. وأخرج ابن أبي داود من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله مرفوعا الحديثين معا. وفي رواية عبدة بن أبي لبابة تصريح ابن مسعود بقوله:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وذلك يقوي رواية من رفعه عن منصور والله أعلم. قوله:" عن بريد" بالموحدة هو ابن عبد الله بن أبي بردة، وشيخه أبو بردة هو جده المذكور، وأبو موسى هو الأشعري. قوله :" في عقلها" بضمتين ويجوز سكون القاف جمع عقال بكسر أوله وهو الحبل، ووقع في رواية الكشميهني :" من عقلها" وذكر الكرماني أنه وقع في بعض النسخ" من عللها" بلامين؛ ولم أقف على هذه الرواية، بل هي تصحيف. ووقع في رواية الإسماعيلي :" بعقلها" قال القرطبي: من رواه " من عقلها" فهو على الأصل الذي يقتضيه التعدي من لفظ التفلت، وأما من رواه بالباء أو بالفاء فيحتمل أن يكون بمعنى" من" أو للمصاحبة أو الظرفية، والحاصل تشبيه من يتفلت منه القرآن بالناقة التي تفلتت من عقالها وبقيت متعلقة به، كذا قال، والتحرير أن التشبيه وقع بين

(9/82)


ثلاثة بثلاثة: فحامل القرآن شبه بصاحب الناقة، والقرآن بالناقة، والحفظ بالربط. قال الطيبي: ليس بين القرآن والناقة مناسبة لأنه قديم وهي حادثة، لكن وقع التشبيه في المعنى. وفي هذه الأحاديث الحض على محافظة القرآن بدوام دراسته وتكرار تلاوته، وضرب الأمثال لإيضاح المقاصد، وفي الأخير القسم عند الخبر المقطوع بصدقه مبالغة في تثبيته في صدور سامعيه وحكى ابن التين عن الداودي أن في حديث ابن مسعود حجة لمن قال فيمن ادعى عليه بمال فأنكر وحلف ثم قامت عليه البينة فقال: كنت نسيت، أو ادعى بينة أو إبراء، أو التمس يمين المدعي أن ذلك يكون له ويعذر في ذلك، كذا قال.

(9/83)


24- باب الْقِرَاءَةِ عَلَى الدَّابَّةِ
5034- حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة قال أخبرني أبو إياس قال سمعت عبد الله بن مغفل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يقرأ على راحلته سورة الفتح"
قوله:" باب القراءة على الدابة" أي لراكبها، وكأنه أشار إلى الرد على من كره ذلك، وقد نقله ابن أبي داود عن بعض السلف، وتقدم البحث في كتاب الطهارة في قراءة القرآن في الحمام وغيرها. وقال ابن بطال: إنما أراد بهذه الترجمة أن في القراءة على الدابة سنة موجودة، وأصل هذه السنة قوله تعالى :{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} الآية. ثم ذكر المصنف حديث عبد الله بن مغفل مختصرا، وقد تقدم بتمامه في تفسير سورة الفتح، ويأتي بعد أبواب

(9/83)


باب تعليم الصبيان للقرآن
...
25- باب تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ
5035- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُفَصَّلَ هُوَ الْمُحْكَمُ قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَقَدْ قَرَأْتُ الْمُحْكَمَ"
[الحديث 5025- طرفه في: 5036]
قوله:" باب تعليم الصبيان القرآن" كأنه أشار إلى الرد على من كره ذلك، وقد جاءت كراهية ذلك عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وأسنده ابن أبي داود عنهما، ولفظ إبراهيم" كانوا يكرهون أن يعلموا الغلام القرآن حتى يعقل" وكلام سعيد بن جبير يدل على أن كراهة ذلك من جهة حصول الملال له، ولفظه عند ابن أبي داود أيضا:" كانوا يحبون أن يكون يقرأ الصبي بعد حين" وأخرج بإسناد صحيح عن الأشعث بن قيس أنه قدم غلاما صغيرا، فعابوا عليه فقال: ما قدمته، ولكن قدمه القرآن. وحجة من أجاز ذلك أنه أدعى إلى ثبوته ورسوخه عنده، كما يقال التعلم في الصغر كالنقش في الحجر. وكلام سعيد بن جبير يدل على أنه يستحب أن يترك الصبي أولا مرفها ثم

(9/83)


26- باب نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَهَلْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ}
5037- حَدَّثَنَا رَبِيعُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ

(9/84)


سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً مِنْ سُورَةِ كَذَا"
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنْ هِشَامٍ وَقَالَ أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وَعَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ"
5038- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ بِاللَّيْلِ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا"
5039- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ هُوَ نُسِّيَ"
قوله:" باب نسيان القرآن، وهل يقول نسيت آية كذا وكذا" ؟ كأنه يريد أن النهي عن قول نسيت آية كذا وكذا ليس للزجر عن هذا اللفظ، بل للزجر عن تعاطي أسباب النسيان المقتضية لقول هذا اللفظ، ويحتمل أن ينزل المنع والإباحة على حالتين: فمن نشأ نسيانه عن اشتغاله بأمر ديني كالجهاد لم يمتنع عليه قول ذلك لأن النسيان لم ينشأ عن إهمال ديني، وعلى ذلك يحمل ما ورد من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسبة النسيان إلى نفسه. ومن نشأ نسيانه عن اشتغاله بأمر دنيوي - ولا سيما إن كان محظورا - امتنع عليه لتعاطيه أسباب النسيان. قوله:" وقول الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} هو مصير منه إلى اختيار ما عليه الأكثر أن" لا" في قوله: {فَلاَ تَنْسَى} نافية، وأن الله أخبره أنه لا ينسى ما أقرأه إياه، وقد قيل إن" لا" ناهية، وإنما وقع الإشباع في السين لتناسب رءوس الآي، والأول أكثر. واختلف في الاستثناء فقال الفراء: هو للتبرك وليس هناك شيء استثنى، وعن الحسن وقتادة {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} أي قضى أن ترفع تلاوته. وعن ابن عباس: إلا ما أراد الله أن ينسيكه لتسن، وقيل لما جبلت عليه من الطباع البشرية لكن سنذكره بعد، وقيل المعنى {فَلاَ تَنْسَى} أي لا تترك العمل به إلا ما أراد الله أن ينسخه فتترك العمل به. قوله:" سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا" أي صوت رجل، وقد تقدم بيان اسمه في كتاب الشهادات. قوله :" لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا" لم أقف على تعيين الآيات المذكورة، وأغرب من زعم أن المراد بذلك إحدى وعشرون آية، لأن ابن عبد الحكم قال فيمن أقر أن عليه كذا وكذا درهما أنه يلزمه أحد وعشرون درهما. وقال الداودي: يكون مقرأ بدرهمين لأنه أقل ما يقع عليه ذلك. قال: فإن قال له علي كذا درهما كان مقرا بدرهم واحد. قوله في الطريق الثانية" حدثنا عيسى" هو ابن يونس بن أبي إسحاق. قوله:" عن هشام وقال أسقطتهن" يعني عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بالمتن المذكور وزاد فيه هذه اللفظة وهي" أسقطتهن وقد تقدم في الشهادات من هذا الوجه بلفظ:" فقال: رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا وكذا". قوله:" تابعه علي بن مسهر وعبدة عن هشام" كذا للأكثر، ولأبي ذر عن الكشميهني:" تابعه علي بن مسهر عن عبدة" وهو غلط، فإن عبدة رفيق علي بن مسهر لا شيخه. وقد أخرج

(9/85)


المصنف طريق علي بن مسهر في آخر الباب الذي يلي هذا بلفظ:" أسقطتها" وأخرج طريق عبدة وهو ابن سليمان في الدعوات ولفظه مثل لفظ علي بن مسهر سواء. قوله في الرواية الثالثة " كنت أنسيتها" هي مفسرة لقوله :" أسقطتها" فكأنه قال أسقطتها نسيانا لا عمدا. وفي رواية معمر عن هشام عند الإسماعيلي :" كنت نسيتها" بفتح النون ليس قبلها همزة قال الإسماعيلي: النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم لشيء من القرآن يكون على قسمين: أحدهما نسيانه الذي يتذكره عن قرب، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود في السهو " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون" والثاني أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو المشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} قال: فإما القسم الأول فعارض سريع الزوال لظاهر قوله تعالى :{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وأما الثاني فداخل في قوله تعالى :{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} على قراءة من قرأ بضم أوله من غير همزة. قلت: وقد تقدم توجيه هذه القراءة وبيان من قرأ بها في تفسير لبقرة. وفي الحديث حجة لمن أجاز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم فيما ليس طريقه البلاغ مطلقا، وكذا فيما طريقه البلاغ لكن بشرطين: أحدهما أنه بعدما يقع منه تبليغه، والآخر أنه لا يستمر على نسيانه بل يحصل له تذكره إما بنفسه وإما بغيره. وهل يشترط في هذا الفور؟ قولان، فأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلا. وزعم بعض الأصولين وبعض الصوفية أنه لا يقع منه نسيان أصلا وإنما يقع منه صورته ليسن، قال عياض: لم يقل به من الأصوليين أحد إلا أبا المظفر الأسفرايني، وهو قول ضعيف. وفي الحديث أيضا جواز رفع الصوت بالقراءة في الليل وفي المسجد والدعاء لمن حصل له من جهته خير وإن لم يقصد المحصول منه ذلك، واختلف السلف في نسيان القرآن فمنهم من جعل ذلك من الكبائر. وأخرج أبو عبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفا قال: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه، لأن الله يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ونسيان القرآن من أعظم المصائب واحتجوا أيضا بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنس مرفوعا :" عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها" في إسناده ضعف. وقد أخرج ابن أبي داود من وجه آخر مرسل نحوه ولفظه:" أعظم من حامل القرآن وتاركه" ومن طريق أبي العالية موقوفا" كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه" وإسناده جيد. ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح الذي ينسى القرآن كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولا شديدا ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعا:" من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم" وفي إسناده أيضا مقال، وقد قال به من الشافعية أبو المكارم والروياني واحتج بأن الإعراض عن التلاوة يتسبب عنه نسيان القرآن، ونسيانه يدل على عدم الاعتناء به والتهاون بأمره. وقال القرطبي: من حفظ القرآن أو بعضه فقد علت رتبته بالنسبة إلى من لم يحفظه، فإذا أخل بهذه الرتبة الدينية حتى تزحزح عنها ناسب أن يعاقب على ذلك، فإن ترك معاهدة القرآن يفضي إلى الرجوع إلى الجهل، والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد. وقال إسحاق بن راهويه: يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوما لا يقرأ فيها القرآن. ثم ذكر حديث عبد الله وهو ابن مسعود" بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت" وقد تقدم شرحه قريبا. وسفيان في السند هو الثوري. واختلف في معنى" أجذم" فقيل مقطوع اليد، وقيل مقطوع الحجة، وقيل مقطوع السبب من الخير وقيل خالي اليد من الخير، وهي متقاربة. وقيل يحشر مجذوما حقيقة. ويؤيده أن في رواية زائدة بن قدامة عند

(9/86)


عبد بن حميد " أتى الله يوم القيامة وهو مجذوم" وفيه جواز قول المرء أسقطت آية كذا من سورة كذا إذا وقع ذلك منه. وقد أخرج ابن أبي داود من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال: لا تقل أسقطت كذا؛ بل قل أغفلت. وهو أدب حسن وليس واجبا.

(9/87)


باب من لم يرى بأساً أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا
...
27- باب مَنْ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَقُولَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ كَذَا وَكَذَا
5040- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَ بِهِمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ"
5041- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَبْتُهُ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ كَذَبْتَ فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُوَ أَقْرَأَنِي هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقُودُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا وَإِنَّكَ أَقْرَأْتَنِي سُورَةَ الْفُرْقَانِ فَقَالَ يَا هِشَامُ اقْرَأْهَا فَقَرَأَهَا الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هَكَذَا أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُهَا الَّتِي أَقْرَأَنِيهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هَكَذَا أُنْزِلَتْ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"
5042- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِئًا يَقْرَأُ مِنْ اللَّيْلِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا"
قوله:" باب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا" أشار بذلك إلى الرد على من كره ذلك وقال: لا يقال إلا السورة التي يذكر فيها كذا، وقد تقدم في الحج من طريق الأعمش أنه سمع الحجاج بن يوسف على المنبر يقول: السورة التي يذكر فيها كذا، وأنه رد عليه بحديث أبي مسعود، قال عياض: حديث أبي مسعود حجة في جواز قول سورة البقرة ونحوها، وقد اختلف في هذا فأجازه بعضهم وكرهه بعضهم وقال: تقول السورة التي تذكر فيها البقرة. قلت: وقد تقدم في أبواب الرمي من كتاب الحج أن إبراهيم النخعي أنكر قول الحجاج لا تقولوا سورة البقرة. وفي رواية مسلم أنها سنة، وأورد حديث أبي مسعود، وأقوى من هذا في الحجة ما أورده

(9/87)


المصنف من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت فيه أحاديث كثيرة صحيحة من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، قال النووي في" الأذكار" : يجوز أن يقول سورة البقرة - إلى أن قال - وسورة العنكبوت وكذلك الباقي ولا كراهة في ذلك. وقال بعض السلف: يكره ذلك، والصواب الأول، وهو قول الجماهير، والأحاديث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، وكذلك عن الصحابة فمن بعدهم. قلت: وقد جاء فيما يوافق ما ذهب إليه حديث المشار إليه حديث مرفوع عن أنس رفعه :" لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذلك القرآن كله" أخرجه" أبو الحسين بن قانع في فوائده" والطبراني" الأوسط"، وفي سنده عبيس بن ميمون العطار وهو ضعيف. وأورد ابن الجوزي في" الموضوعات" ونقل عن أحمد أنه قال: هو حديث منكر. قلت: وقد تقدم في" باب تأليف القرآن" حديث يزيد الفارسي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا" قال ابن كثير في تفسيره: ولا شك أن ذلك أحوط، ولكن استقر الإجماع على الجواز في المصاحف والتفاسير قلت: وقد تمسك بالاحتياط المذكور جماعة من المفسرين منهم أبو محمد بن أبي حاتم ومن المتقدمين الكلبي وعبد الرزاق، ونقله القرطبي في تفسيره عن الحكيم الترمذي أن من حرمة القرآن أن لا يقال سورة كذا كقولك سورة البقرة وسورة النحل وسورة النساء، وإنما يقال السورة التي يذكر فيها كذا. وتعقبه القرطبي بأن حديث أبي مسعود يعارضه، ويمكن أن يقال لا معارضة مع إمكان، فيكون حديث أبي مسعود ومن وافقه دالا على الجواز، وحديث أنس إن ثبت محمود على أنه خلاف الأولى والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث تشهد لما ترجم له: أحدها حديث أبي مسعود في الآيتين من آخر سورة البقرة، وقد تقدم شرحه قريبا. الثاني حديث عمر" سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان" وقد تقدم شرحه في" باب أنزل القرآن على سبعة أحرف". الثالث حديث عائشة المذكور في الباب قبله، وقد تقدم التنبيه عليه

(9/88)


28- باب التَّرْتِيلِ فِي الْقِرَاءَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}
وَقَوْلِهِ: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}
وَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُهَذَّ كَهَذِّ الشِّعْرِ فِيهَا يُفْرَقُ يُفَصَّلُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَقْنَاهُ فَصَّلْنَاهُ
5043- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ رَجُلٌ قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ فَقَالَ هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ إِنَّا قَدْ سَمِعْنَا الْقِرَاءَةَ وَإِنِّي لاَحْفَظُ الْقُرَنَاءَ الَّتِي كَانَ يَقْرَأُ بِهِنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم"
5044- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ : {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي فِي {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} فَإِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي

(9/88)


صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قَالَ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ قَالَ وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ"
قوله:" باب الترتيل في القراءة" أي تبيين حروفها والتأني في أدائها ليكون أدعى إلى فهم معانيها. قوله:" وقوله تعالى {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}" كأنه يشير إلى ما ورد عن السلف في تفسيرها، فعند الطبري بسند صحيح عن مجاهد في قوله تعالى {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ}" قال: بعضه إثر بعض على تؤدة. وعن قتادة قال: بينه بيانا. والأمر بذلك إن لم يكن للوجوب يكون مستحبا. قوله:" وقوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}" سيأتي توجيهه. قوله:" وما يكره أن يهذ كهذ الشعر" كأنه يشير إلى أن استحباب الترتيل لا يستلزم كراهة الإسراع، وإنما الذي يكره الهذ وهو الإسراع المفرط بحيث يخفى كثير من الحروف أو لا تخرج من مخارجها. وقد ذكر في الباب إنكار ابن مسعود على من يهذ القراءة كهذ الشعر، ودليل جواز الإسراع ما تقدم في أحاديث الأنبياء من حديث أبي هريرة رفعه :" خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيفرغ من القرآن قبل أن تسرج". قوله فيها" يفرق يفصل" هو تفسير أبي عبيدة. قوله:" قال ابن عباس {فَرَقْنَاهُ} فصلناه" وصله ابن جريج من طريق، علي بن أبي طلحة عنه، وعند أبي عبيد من طريق مجاهد أن رجلا سأله عن رجل قرأ البقرة وآل عمران ورجل قرأ البقرة فقط قيامهما واحد ركوعهما واحد وسجودهما واحد، فقال: الذي قرأ البقرة فقط أفضل. ثم تلا : {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} ومن طريق أبي حمزة" قلت لابن عباس إني سريع القراءة، وإني لأقرأ القرآن في ثلاث فقال: لأن أقرأ البقرة أرتلها فأتدبرها خير من أن أقرأ كما تقول" وعند ابن أبي داود من طريق أخرى عن أبي حمزة" قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ليلة. فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة أحب إلي. إن كنت لا بد فاعلا فاقرأ قراءة تسمعها أذنيك ويوعها قلبك" والتحقيق أن لكل من الإسراع والترتيل جهة فضل، بشرط أن يكون المسرع لا يخل بشيء من الحروف والحركات والسكون الواجبات، فلا يمتنع أن يفضل أحدهما الآخر وأن يستويا، فإن من رتل وتأمل كمن تصدق بجوهرة واحدة مثمنة، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمة الواحدة، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات، وقد يكون بالعكس. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: قوله:" حدثنا واصل" هو ابن حيان بمهملة وتحتانية ثقيلة الأحدب الكوفي، ووقع صريحا عند الإسماعيلي، وزعم خلف في" الأطراف" أنه واصل مولى أبي عينة بن المهلب، وغلطوه في ذلك فإن مولى أبي عيينة بصري وروايته عن البصريين، وليست له رواية عن الكوفيين وأبو وائل شيخ واصل هذا كوفي. قوله:" عن أبي وائل عن عبد الله قال: غدونا على عبد الله" أي ابن مسعود" فقال رجل: قرأت المفصل" كذا أورده مختصرا، وقد أخرجه مسلم من الوجه الذي أخرجه معه البخاري فزاد في أوله" غدونا على عبد الله بن مسعود يوما بعدما صلينا الغداة، فسلمنا بالباب فأذن لنا، فمكثنا بالباب هنيهة، فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخلون؟ فدخلنا، فإذا هو جالس يسبح فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أذن لكم؟ قلنا: ظننا أن بعض أهل البيت نائم، قال: ظننتم بآل أم عبد غفلة. فقال رجل من القوم: قرأت المفصل البارحة كله، فقال عبد الله: هذا كهذ الشعر" ولأحمد من طريق الأسود بن يزيد" عن عبد الله بن مسعود أن رجلا أتاه

(9/89)


فقال: قرأت المفصل في ركعة، فقال: بل هذذت كهذ الشعر وكنثر الدقل" وهذا الرجل هو نهيك بن سنان كما أخرجه مسلم من طريق منصور عن أبي وائل في هذا الحديث. وقوله:" هذا" بفتح الهاء وبالذال المعجمة المنوبة قال الحطابي معناه سرعة القراءة بغير تأمل كما ينشد الشعر، وأصل الهذ سرعة الدفع. وعند سعيد بن منصور من طريق يسار عن أبي وائل عن عبد الله أنه قال في هذه القصة" إنما فصل لتفصلوه". قوله:" ثماني عشرة" تقدم في" باب تأليف القرآن" من طريق الأعمش عن شقيق فقال فيه:" عشرين سورة من أول المفصل" والجمع بينهما أن الثمان عشرة غير سورة الدخان والتي معها، وإطلاق المفصل على الجميع تغليبا، وإلا فالدخان ليست من المفصل على المرجح، لكن يحتمل أن يكون تأليف ابن مسعود على خلاف تأليف غيره، فإن في آخر رواية الأعمش على تأليف ابن مسعود آخر من حم الدخان وعم، فعلى هذا لا تغليب. قوله:" من آل حاميم" أي السورة التي أولها حم، وقيل: يريد حم نفسها كما في حديث أبي موسى" أنه أوتى مزمارا من مزامير آل داود" يعني داود نفسه، قال الخطابي: قوله:" آل داود" يريد به داود نفسه، وهو كقوله تعالى :{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وتعقبه ابن التين بأن دليله يخالف تأويله، قال: وإنما يتم مراده لو كان الذي يدخل أشد العذاب فرعون وحده. وقال الكرماني: لولا أن هذا الحرف ورد في الكتابة منفصلا يعني" آل" وحدها و" حم" وحدها لجاز أن تكون الألف واللام التي لتعريف الجنس، والتقدير: وسورتين من الحواميم. قلت: لكن الرواية أيضا ليست فيها واو، نعم في رواية الأعمش المذكورة" آخرهن من الحواميم" وهو يؤيد الاحتمال المذكور والله أعلم. وأغرب الداودي فقال: قوله:" من آل حاميم" من كلام أبي وائل، وإلا فإن أول المفصل عند ابن مسعود من أول الجاثية ا هـ، وهذا إنما يرد لو كان ترتيب مصحف ابن مسعود كترتيب المصحف العثماني، والأمر بخلاف ذلك فإن ترتيب السور في مصحف ابن مسعود يغاير الترتيب في المصحف العثماني، فلعل هذا منها ويكون أول المفصل عنده أول الجاثية والدخان متأخرة في ترتيبه عن الجاثية لا مانع من ذلك. وقد أجاب النووي على طريق التنزل بأن المراد بقوله عشرين من أول المفصل أي معظم العشرين. حديث ابن عباس في نزول قوله تعالى :{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وقد تقدم شرحه مستوفى في تفسير القيامة، وجرير المذكور في إسناده هو ابن عبد الحميد بخلاف الذي في الباب بعده، وقوله فيه:" وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه" كذا للأكثر وتقدم توجيهه في بدء الوحي، ووقع عند المستملي هنا" وكان ممن يحرك" ويتعين أن يكون" من" فيه للتبعيض و" من" موصولة والله أعلم. وشاهد الترجمة منه النهي عن تعجيله بالتلاوة، فإنه يقتضي استحباب التأني فيه وهو المناسب للترتيل. وفي الباب حديث حفصة أم المؤمنين أخرجه مسلم في أثناء حديث وفيه:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها" وقد تقدم في أواخر المغازي حديث علقمة أنه قرأ على ابن مسعود فقال:" رتل فداك أبي وأمي فإنه زينة القرآن" وأن هذه الزيادة وقعت عند أبي نعيم في" المستخرج" وأخرجها ابن أبي داود أيضا. والله أعلم

(9/90)


29- باب مَدِّ الْقِرَاءَةِ
5045- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ الأَزْدِيُّ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ

(9/90)


مَالِكٍ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَانَ يَمُدُّ مَدًّا"
[الحديث 5045- طرفه في: 5046]
5046- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ"
قوله:" باب مد القراءة" المد عند القراءة على ضربين: أصلي وهو إشباع الحرف الذي بعده ألف أو واو أو ياء، وغير أصلي وهو ما إذا أعقب الحرف الذي هذه صفته همزة. وهو متصل ومنفصل، فالمتصل ما كان من نفس الكلمة والمنفصل ما كان بكلمة أخرى، فالأول يؤتى فيه بالألف والواو والياء ممكنات من غير زيادة، والثاني يزاد في تمكين الألف. والواو والياء زيادة على المد الذي لا يمكن النطق بها إلا به من غير إسراف، والمذهب الأعدل أنه يمد كل حرف منها ضعفي ما كان يمده أولا وقد يزاد على ذلك قليلا، وما أفرط فهو غير محمود، والمراد من الترجمة الضرب الأول. وقوله في الرواية الأولى 1كأن يمد مدا بين في الرواية الثانية المراد بقوله:" يمد" بسم الله إلخ يمد اللام التي قبل الهاء من الجلالة، والميم التي قبل النون من الرحمن، والحاء من الرحيم. قوله في الرواية الثانية" حدثنا عمرو بن عاصم" وقع في بعض النسخ عمرو بن حفص وهو غلط ظاهر. قوله:" سئل أنس" ظهر من الرواية الأولى أن قتادة الراوي هو السائل، وقوله الرواية الثانية" كانت مدا" أي كانت ذات مد، ووقع عند أبي نعيم من طريق أبي النعمان عن جرير بن حازم في هذه الرواية:" كان يمد صوته مدا" وكذا أخرجه الإسماعيلي من ثلاثة طرق أخرى عن جرير بن حازم، وكذا أخرجه ابن أبي داود من وجه آخر عن جرير. وفي رواية له" كان يمد قراءته" وأفاد أنه لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا جرير بن حازم وهمام بن يحيى، وقوله في الثانية" يمد ببسم الله" كذا وقع بموحدة قبل الموحدة التي في بسم الله، كأنه حكى لفظ بسم الله كما حكى لفظ الرحمن في قوله:" ويمد بالرحمن" أو جعله كالكلمة الواحدة علما لذلك. ووقع عند أبي نعيم من طريق الحسن الحلواني عن عمرو بن عاصم شيخ البخاري فيه:" يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم" من غير موحدة في الثلاثة وأخرجه ابن أبي داود عن يعقوب بن إسحاق عن عمرو بن عاصم عن همام وجرير جميعا عن قتادة بلفظ:" يمد ببسم الله الرحمن الرحيم" بإثبات الموحدة في أوله أيضا، وزاد في الإسناد جريرا مع همام في رواية عمرو بن عاصم. وأخرج ابن أبي داود من طريق قطبة بن مالك" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر ق فمر بهذا الحرف {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} فمد نضيد" وهو شاهد جيد لحديث أنس، وأصله عند مسلم والترمذي والنسائي من حديث قطبة نفسه." تنبيه": استدل بعضهم بهذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، ورام بذلك معارضة حديث أنس أيضا المخرج في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يقرؤها في الصلاة، وفي الاستدلال لذلك بحديث الباب نظر، وقد أوضحته فيما كتبته من النكت على علوم الحديث لابن الصلاح، وحاصله أنه لا يلزم من وصفه بأنه كان إذا قرأ البسملة يمد فيها أن يكون قرأ البسملة في أول الفاتحة في كل ركعة، ولأنه إنما ورد بصورة المثال فلا تتعين البسملة، والعلم عند الله تعالى.
ـــــــ
1) )الصواب" في الرواية الثانية"

(9/91)


باب الترجيح
...
30- باب التَّرْجِيعِ
حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة حدثنا أبو إياس قال سمعت عبد الله بن مغفل قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو على ناقته، أو جمله، وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح، أو من سورة الفتح قراءة لينة يقرأ وهو يرجع"
قوله:" باب الترجيع" هو تقارب ضروب الحركات في القراءة، وأصله الترديد، وترجيع الصوت ترديده في الحلق، وقد فسره كما سيأتي في حديث عبد الله بن مغفل المذكور في هذا الباب في كتاب التوحيد بقوله:" أ ا أ بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثم همزة أخرى" ثم قالوا: يحتمل أمرين: أحدهما أن ذلك حدث من هز الناقة، والآخر أنه أشبع المد في موضعه فحدث ذلك، وهذا الثاني أشبه بالسياق فإن في بعض طرقه:" لولا أن يجتمع الناس لقرأت لكم بذلك اللحن" أي النغم. وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع، فأخرج الترمذي في" الشمائل" والنسائي وابن ماجه وابن أبي داود واللفظ له من حديث أم هانئ" كنت أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وأنا نائمة على فراشي يرجع القرآن" والذي يظهر أن في الترجيع قدرا زائدا على الترتيل، فعند ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن علقمة قال:" بت مع عبد الله بن مسعود في داره، فنام ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيه لا يرفع صوته ويسمع من حوله، ويرتل ولا يرجع" وقال الشيخ أبو محمد بن أبي، جمرة: معنى الترجيع تحسين التلاوة لا ترجيع الغناء، لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة. قال: وفي الحديث ملازمته صلى الله عليه وسلم للعبادة لأنه حالة ركوبه الناقة وهو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة، وفي جهره بذلك إرشاد إلى أن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار، وهو عند التعليم وإيقاظ الغافل ونحو ذلك

(9/92)


31- باب حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ
5048- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَهُ يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ"
قوله" باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن" كذا لأبي ذر، وسقط قوله:" للقرآن" لغيره. وقد تقدم في" باب من لم يتغن بالقرآن" نقل الإجماع على استحباب سماع القرآن من ذي الصوت الحسن. وأخرج ابن أبي داود من طريق ابن أبي مسجعة قال:" كان عمر يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي القوم". قوله:" حدثنا محمد بن خلف أبو بكر" هو الحدادي بالمهملات وفتح أوله والتثقيل، بغدادي مقرئ من صغار شيوخ البخاري، وعاش بعد البخاري خمس سنين. وأبو يحيى الحماني بكسر المهملة وتشديد الميم اسمه عبد الحميد بن عبد الرحمن الكوفي وهو والد يحيى بن عبد الحميد الكوفي الحافظ صاحب المسند. وليس لمحمد ابن خلف ولا لشيخه أبي يحيى في البخاري إلا هذا الموضع، وقد أدرك البخاري أبا يحيى بالسن، لكنه لم يلقه. قوله:" حدثني بريد" في رواية الكشميهني:

(9/92)


"سمعت بريد بن عبد الله" قوله:" يا أبا موسى، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود" كذا وقع عنده مختصرا من طريق بريد، وأخرجه مسلم من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة بلفظ:" لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة" الحديث. وأخرجه أبو يعلى من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه بزيادة فيه:" أن النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة مرا بأبي موسى وهو يقرأ في بيته، فقاما يستمعان لقراءته، ثم إنهما مضيا. فلما أصبح لقي أبو موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا موسى، مررت بك" فذكر الحديث فقال:" أما إني لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيرا" ولابن سعد من حديث أنس بإسناد على شرط مسلم:" أن أبا موسى قام ليلة يصلي، فسمع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم صوته - وكان حلو الصوت - فقمن يستمعن، فلما أصبح قيل له، فقال: لو علمت لحبرته لهن تحبيرا" وللروياني من طريق مالك بن مغول عن عبد الله بن بريدة عن أبيه نحو سياق سعيد بن أبي بردة وقال فيه:" لو علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع قراءتي لحبرتها تحبيرا" وأصلها عند أحمد، وعند الدارمي من طريق الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لأبي موسى - وكان حسن الصوت بالقرآن - لقد أوتي هذا من مزامير آل داود" فكأن المصنف أشار إلى هذه الطريق في الترجمة، وأصل هذا الحديث عند النسائي من طريق عمرو بن الحارث عن الزهري موصولا بذكر أبي هريرة فيه ولفظه:" أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع قراءة أبي موسى فقال: لقد أوتي من مزامير آل داود" وقد اختلف فيه على الزهري، فقال معمر وسفيان" عن الزهري عن عروة عن عائشة" أخرجه النسائي. وقال الليث" عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب" مرسلا، ولأبي يعلى من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء" سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت أبي موسى فقال: كأن صوت هذا من مزامير آل داود" وأخرج ابن أبي داود من طريق، أبي عثمان النهدي قال:" دخلت دار أبي موسى الأشعري فما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا ناي أحسن من صوته" سنده صحيح وهو في" الحلية لأبي نعيم" والصنج بفتح المهملة وسكون النون بعدها جيم هو آلة تتخذ من نحاس كالطبقين يضرب أحدهما بالآخر، والبربط بالموحدتين بينهما راء ساكنة ثم طاء مهملة بوزن جعفر هو آلة تشبه العود فارسي معرب، والناي بنون بغير همز هو المزمار. قال الخطابي: قوله :" آل داود" يريد داود نفسه، لأنه لم ينقل أن أحدا من أولاد داود ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي. قلت: ويؤيده ما أورده من الطريق الأخرى، وقد تقدم في" باب من لم يتغن بالقرآن" ما نقل عن السلف في صفة صوت داود، والمراد بالمزمار الصوت الحسن، وأصله الآلة أطلق اسمه على الصوت للمشابهة. وفي الحديث دلالة بينة على أن القراءة غير المقروء وسيأتي مزيد بحث في ذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى

(9/93)


32- باب مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ
5049- حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي عن الأعمش قال حدثني إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليّ القرآن. قلت: آقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري"
قوله:" باب من أحب أن يستمع القرآن من غيره" في رواية الكشميهني:" القراءة" ذكر فيه حديث ابن مسعود" قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي القرآن" أورده مختصرا، ثم أورده مطولا في الباب الذي بعده" باب قول المقرئ

(9/93)


للقارئ حسبك" والمراد بالقرآن بعض القرآن، والذي في معظم الروايات " اقرأ علي" ليس فيه لفظ:" القرآن" بل أطلق فيصدق بالبعض، قال ابن بطال: يحتمل أن يكون أحب أن يسمعه من غيره ليكون عرض؛ القرآن سنة، ويحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه، وذلك أن المستمع أقوى على التدبر ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القارئ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها، وهذا بخلاف قراءته هو صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب كما تقدم في المناقب وغيرها فإنه، أراد أن يعلمه كيفية أداء القراءة ومخارج الحروف ونحو ذلك، ويأتي شرح الحديث بعد أبواب في" باب البكاء عند قراءة القرآن"

(9/94)


باب قول المقريء للقاريء :حسبك
...
33- بَاب قَوْلِ الْمُقْرِئِ لِلْقَارِئِ حَسْبُكَ
5050- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ نَعَمْ فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا قَالَ حَسْبُكَ الْآنَ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ"

(9/94)


34- باب فِي كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ؟ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}
5051- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ لِي ابْنُ شُبْرُمَةَ نَظَرْتُ كَمْ يَكْفِي الرَّجُلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَلَمْ أَجِدْ سُورَةً أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثِ آيَاتٍ فَقُلْتُ لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثِ آيَاتٍ قَالَ عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ عَلْقَمَةُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ وَلَقِيتُهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ"
5052- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا فَتَقُولُ نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْقَنِي بِهِ فَلَقِيتُهُ بَعْدُ فَقَالَ كَيْفَ تَصُومُ قَالَ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ وَكَيْفَ تَخْتِمُ قَالَ كُلَّ لَيْلَةٍ قَالَ صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةً وَاقْرَئِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا قَالَ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَاكَ أَنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ السُّبْعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِالنَّهَارِ وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ مِنْ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ

(9/94)


باب البكاء عند قراءة القرآن
...
عمرو بن مرة من هذا الحديث من قوله:" فقرأت النساء" إلى آخر الحديث، وأما ما قبله إلى قوله :" أن أسمعه من غيري" فهو عند الأعمش عن إبراهيم هو في الطريق الثانية في هذا الباب، وكذا أخرجه المصنف من وجه آخر عن الأعمش قبل ببابين، وتقدم قبل بباب واحد عن محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان الثوري مقتصرا على طريق الأعمش عن إبراهيم من غير تبيين التفصيل الذي في رواية يحيى القطان عن الثوري، وهو يقتضي أن في رواية الفريابي إدراجا. وقوله في هذه الرواية:" عن أبيه" هو معطوف على قوله:" عن سليمان" وهو الأعمش، وحاصله أن سفيان الثوري روى هذا الحديث عن الأعمش، ورواه أيضا عن أبيه وهو سعيد بن مسروق الثوري عن أبي الضحى، ورواية إبراهيم عن عبيدة بن عمرة عن ابن مسعود موصولة، ورواية أبي الضحى عن عبد الله بن مسعود منقطعة، ووقع في رواية أبي الأحوص عن سعيد بن مسروق عن أبي الضحى" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود" فذكره، وهذا أشد انقطاعا أخرجه سعيد بن منصور، وقوله :" اقرأ علي" وقع في رواية علي بن مسهر عن الأعمش بلفظ: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر اقرأ علي" ووقع في رواية محمد بن فضالة الظفري أن ذلك كان وهو صلى الله عليه وسلم في بني ظفر أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني وغيرهما من طريق يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه" أن النبي صلى الله عليه وسلم آتاهم في بني طفر ومعه ابن مسعود وناس من أصحابه، فأمر قارئا فقرأ، فأتى على هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} فبكى حتى ضرب لحياه ووجنتاه فقال : يا رب، هذا على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أره. وأخرج ابن المبارك في الزهد من طريق سعيد بن المسيب قال:" ليس من يوم إلا يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم. فلذلك يشهد عليهم" ففي هذا المرسل ما يرفع الإشكال الذي تضمنه حديث ابن فضالة والله أعلم. قال ابن بطال: إنما بكى صلى الله عليه وسلم عند تلاوته هذه الآية لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بالتصديق وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف، وهو أمر بحق له طول البكاء انتهى. والذي يظهر أنه بكى رحمة لأمته، لأنه علم أنه لا بد أن يشهد عليهم بعملهم وعملهم قد لا يكون مستقيما فقد يفضي إلى تعذيبهم، والله أعلم

(9/99)


باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به أو قجر به
...
36- باب إِثْمُ مَنْ رَاءَى بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ تَأَكَّلَ بِهِ أَوْ فَخَرَ بِهِ
5057- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
5058- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :" يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ وَيَقْرَءُونَ

(9/99)


الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ"
5059- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ أَوْ خَبِيثٌ وَرِيحُهَا مُرٌّ"
قوله:" باب إثم من راءى بقراءة القرآن، أو تأكل به" كذا للأكثر. وفي رواية:" رايا" بتحتانية بدل المعجمة، وتأكل أي طلب الأكل، وقوله:" أو فجر به" للأكثر بالجيم، وحكى ابن التين أن في رواية بالخاء المعجمة. حديث علي في ذكر الخوارج، وقد تقدم في علامات النبوة. وأغرب الداودي فزعم أنه وقع هنا" عن سويد بن غفلة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم:" قال واختلف في صحبة سويد، والصحيح ما هنا أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال معتمدا على الغلط الذي نشأ له عن السقط، والذي في جميع نسخ صحيح البخاري" عن سويد بن غفلة عن علي رضي الله عنه قال: سمعت" وكذا في جميع المسانيد، وهو حديث مشهور لسويد بن غفلة عن علي، ولم يسمع سويد من النبي صلى الله عليه وسلم على الصحيح، وقد قيل إنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح، والذي يصح أنه قدم المدينة حين نفضت الأيدي من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح سماعه من الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة، وصح أنه أدى صدقة ماله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو نعيم: مات سنة ثمانين. وقال أبو عبيد سنة إحدى. وقال عمرو بن علي سنة اثنتين، وبلغ مائة وثلاثين سنة. وهو جعفي يكنى أبا أمية، نزل الكوفة ومات بها. وسيأتي البحث في قتال الخوارج في كتاب المحاربين، وقوله :" الأحلام" أي العقول، وقوله :" يقولون من خير قول البرية" هو من المقلوب والمراد من" قول خير البرية" أي من قول الله، وهو المناسب للترجمة، وقوله: " لا يجاوز حناجرهم" قال الداودي: يريد أنهم تعلقوا بشيء منه. قلت: إن كان مراده بالتعلق الحفظ فقط دون العلم بمدلوله فعسى أن يتم له مراده، وإلا فالذي فهمه الأئمة من السياق أن المراد أن الإيمان لم يرسخ في قلوبهم لأن ما وقف عند الحلقوم فلم يتجاوزه لا يصل إلى القلب. وقد وقع في حديث حذيفة نحو حديث أبي سعيد من الزيادة " لا يجاوز تراقيهم ولا تعيه قلوبهم". حديث أبي سلمة عن أبي سعيد في ذكر الخوارج أيضا، وسيأتي شرحه أيضا في استتابة المرتدين، وتقدم من وجه آخر في علامات النبوة. ومناسبة هذين الحديثين للترجمة أن القراءة إذا كانت لغير الله فهي للرياء أو للتأكل به ونحو ذلك، فالأحاديث الثلاثة دالة لأركان الترجمة لأن منهم من رايا به وإليه الإشارة في حديث أبي موسى، ومنهم من تأكل به وهو مخرج من حديثه أيضا، ومنهم من فجر به وهو مخرج من حديث علي وأبي سعيد. وقد أخرج أبو عبيد في" فضائل القرآن" من وجه آخر عن أبي سعيد وصححه الحاكم رفعه :" تعلموا القرآن واسألوا الله به قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة نفر: رجل يباهى به، ورجل يستأكل به. ورجل يقرؤه لله" وعند ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس موقوفا " لا تضربوا

(9/100)


كتاب الله بعضه ببعض، فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم" وأخرج أحمد وأبو يعلى من حديث عبد الرحمن بن شبل رفعه: " اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تحفوا عنه ولا تأكلوا به" الحديث وسنده قوي. وأخرج أبو عبيد عن عبد الله بن مسعود " سيجيء زمان يسأل فيه بالقرآن، فإذا سألوكم فلا تعطوهم". حديث أبي موسى الذي تقدم مشروحا في" باب فضل القرآن على سائر الكلام" وهو ظاهر فيما ترجم له. ووقع هنا عند الإسماعيلي من طريق معاذ بن معاذ عن شعبة بسنده" قال شعبة وحدثني شبل يعني ابن عزرة أنه سمع أنس بن مالك" بهذا. قلت: وهو حديث آخر أخرجه أبو داود في مثل الجليس الصالح والجليس السوء.

(9/101)


أقرءوا القرآن ماائتلفت عليه قلوبكم
...
37- باب اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ
5060- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ"
[الحديث 5060- أطرافه في: 5061، 7364، 7365]
5061- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سَلاَمُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ جُنْدَبٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم :" اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ تَابَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبَانُ وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَوْلَهُ وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ عُمَرَ قَوْلَهُ وَجُنْدَبٌ أَصَحُّ وَأَكْثَرُ"
5062- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ آيَةً سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلاَفَهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ فَاقْرَأَا أَكْبَرُ عِلْمِي قَالَ فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَأُهْلِكُوا"
قوله :" باب اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم" أي اجتمعت. قوله :" فإذا اختلفتم" أي في فهم معانيه " فقوموا عنه" أي تفرقوا لئلا يتمادى بكم الاختلاف إلى الشر، قال عياض: يحتمل أن يكون النهي خاصا بزمنه صلى الله عليه وسلم لئلا يكون ذلك سببا لنزول ما يسوؤهم كما في قوله تعالى :{لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ، ويحتمل أن يكون المعنى اقرءوا والزموا الائتلاف على ما دل عليه وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق فاتركوا القراءة، وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة واعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم :" فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم" ويحتمل أنه ينهي عن القراءة إذا وقع الاختلاف في كيفية الأداء بأن يتفرقوا عند الاختلاف ويستمر كل منهم على قراءته، ومثله ما تقدم عن ابن مسعود لما وقع بينه وبين الصحابيين الآخرين الاختلاف في الأداء، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" كلكم محسن"

(9/101)


وبهذه النكتة تظهر الحكمة في ذكر حديث ابن مسعود عقيب حديث جندب. قوله:" تابعه الحارث بن عبيد وسعيد بن زيد عن أبي عمران" أي في رفع الحديث، فأما متابعة الحارث وهو ابن قدامة الإيادي فوصلها الدارمي عن أبي غسان مالك بن إسماعيل عنه، ولفظه مثل رواية حماد بن زيد، وأما متابعة سعيد بن زيد وهو أخو حماد بن زيد فوصلها الحسن بن سفيان في مسنده من طريق أبي هشام المخزومي عنه قال:" سمعت أبا عمران قال حدثنا جندب" فذكر الحديث مرفوعا وفي آخره :" فإذا اختلفتم فيه فقوموا". قوله:" ولم يرفعه حماد بن سلمة وأبان" يعني ابن سعيد العطار، أما رواية حماد بن سلمة فلم تقع لي موصولة، وأما رواية أبان فوقعت في صحيح مسلم من طريق حبان بن هلال عنه ولفظه:" قال لنا جندب ونحن غلمان" فذكره لكن مرفوعا أيضا، فلعله وقع للمصنف من وجه آخر عنه موقوفا. قوله:" وقال غندر عن شعبة عن أبي عمران سمعت جندبا قوله" وصله الإسماعيلي من طريق بندار عن غندر. قوله:" وقال ابن عون عن أبي عمران عن عبد الله بن الصامت عن عمر قوله" ابن عون هو عبد الله البصري الإمام المشهور وهو من أقران أبي عمران، وروايته هذه وصلها أبو عبيد عن معاذ بن معاذ عنه، وأخرجها النسائي من وجه آخر عنه. قوله:" وجندب أصح وأكثر" أي أصح إسنادا وأكثر طوقا، وهو كما قال فإن الجم الغفير رووه عن أبي عمران عن جندب، إلا أنهم اختلفوا عليه في رفعه ووقفه، والذين رفعوه ثقات حفاظ فالحكم لهم. وأما رواية ابن عون فشاذة لم يتابع عليها، قال أبو بكر بن أبي داود: لم يخطئ ابن عون قط إلا في هذا، والصواب عن جندب انتهى. ويحتمل أن يكون ابن عون حفظه ويكون لأبي عمران فيه شيخ آخر وإنما توارد الرواة على طريق جندب لعلوها والتصريح برفعها، وقد أخرج مسلم من وجه آخر عن أبي عمران هذا حديثا آخر في المعنى أخرجه من طريق حماد عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن رباح عن عبد الله بن عمر قال:" هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع رجلين اختلفا في آية فخرج يعرف الغضب في وجهه فقال. إنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف في الكتاب" وهذا مما يقوي أن يكون لطريق ابن عون أصل والله أعلم. قوله:" النزال" بفتح النون وتشديد الزاي وآخره لام" ابن سبرة" بفتح المهملة وسكون الموحدة الهلالي، تابعي كبير، وقد قيل إنه له صحبه، وذهل المزي فجزم في" الأطراف" بأن له صحبة، وجزم في" التهذيب" بأن له رواية عن أبي بكر الصديق مرسلة. قوله:" أنه سمع رجلا يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرأ خلافها" هذا الرجل يحتمل أن يكون هو أبي بن كعب، فقد أخرج الطبري من حديث أبي بن كعب أنه سمع ابن مسعود يقرأ آية قرأ خلافها وفيه:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كلاكما محسن" الحديث، وقد تقدم في" باب أنزل القرآن على سبعة أحرف" بيان عدة ألفاظ لهذا الحديث. قوله:" فاقرا" بصيغة الأمر للاثنين. قوله:" أكبر علمي" هذا الشك من شعبة، وقد أخرجه أبو عبيد عن حجاج بن محمد عن شعبة قال:" أكبر علمي أني سمعته وحدثني عنه مسعود" فذكره. قوله:" فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم" في رواية المستملي :" فأهلكوا" بضم أوله، وعند ابن حبان والحاكم من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه القصة " فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف" وقد تقدم القول في معنى الاختلاف في حديث جندب الذي قبله. وفي رواية زر المذكورة من الفائدة أن السورة التي اختلف فيها أبي وابن مسعود كانت من آل حم، وفي" المبهمات" للخطيب أنها الأحقاف، ووقع عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند في هذا الحديث أن اختلافهم كان في عددها هل هي خمس وثلاثون آية أو ست وثلاثون الحديث، وفي هذا الحديث والذي قبله الحض على الجماعة والألفة

(9/102)


والتحذير من الفرقة والاختلاف والنهي عن المراء في القرآن بغير حق، ومن شر ذلك أن تظهر دلالة الآية على شيء يخالف الرأي فيتوسل بالنظر وتدقيقه إلى تأويلها وحملها على ذلك الرأي ويقع اللجاج في ذلك والمناضلة عليه" خاتمة" اشتمل كتاب فضائل القرآن من الأحاديث المرفوعة على تسعة وتسعين حديثا، المعلق منها وما التحق به من المتابعات تسعة عشر حديثا والباقي موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثة وسبعون حديثا والباقي خالص، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أنس فيمن جمع القرآن، وحديث قتادة بن النعمان في فضل قل هو الله أحد، وحديث أبي سعيد في ذلك، وحديثه أيضا: " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن" وحديث عائشة في قراءة المعوذات عند النوم، وحديث ابن عباس في قراءته المفصل، وحديثه" لم يترك إلا ما بين الدفتين" وحديث أبي هريرة" لا حسد إلا في اثنتين" وحديث عثمان" إن خيركم من تعلم القرآن" وحديث أنس" كانت قراءته مدا" وحديث عبد الله بن مسعود" أنه سمع رجلا يقرأ آية". وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة آثار. والله أعلم.

(9/103)


كتاب النكاح
مدخل
...
2- كِتَاب النِّكَاحِ
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ- كتاب النكاح" كذا النسفي، وعن رواية الفربري تأخير البسملة. و" النكاح" في اللغة الضم والتداخل، وتجوز من قال إنه الضم. وقال الفراء: النكح بضم ثم سكون اسم الفرج، ويجوز كسر أوله وكثر استعماله في الوطء، وسمى به العقد لكونه سببه. قال أبو القاسم الزجاجي: هو حقيقة فيهما. وقال الفارسي: إذا قالوا نكح فلانة أو بنت فلان فالمراد العقد، وإذا قالوا نكح زوجته فالمراد الوطء. وقال آخرون أصله لزوم شيء لشيء مستعليا عليه، ويكون في المحسوسات وفي المعاني، قالوا نكح المطر الأرض ونكح النعاس عينه ونكحت القمح في الأرض إذا حرثتها وبذرته فيها ونكحت الحصاة أخفاف الإبل. وفي الشرع حقيقة في العقد مجاز في الوطء على الصحيح، والحجة في ذلك كثيرة وروده في الكتاب والسنة للعقد حتى قيل إنه لم يرد في القرآن إلا للعقد ولا يرد مثل قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} لأن شرط الوطء في التحليل إنما ثبت بالسنة، وإلا فالعقد لا بد منه لأن قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ} معناه حتى تتزوج أي يعقد عليها، ومفهومه أن ذلك كاف بمجرده لكن بينت السنة أن لا عبرة بمفهوم الغاية، بل لا بد بعد العقد من ذوق العسيلة، كما أنه لا بد بعد ذلك من التطليق ثم العدة. نعم أفاد أبو الحسين ابن فارس أن النكاح لم يرد في القرآن إلا للتزويج، إلا في قوله تعالى :{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فإن المراد به الحلم والله أعلم. وفي وجه للشافعية - كقول الحنفية - أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وقيل مقول بالاشتراك على كل منهما، وبه جزم الزجاجي، وهذا الذي يترجح في نظري وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد، ورجح بعضهم الأول بأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباح ذكره، فيبعد أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعه لما لا يستفظعه، فدل على أنه في الأصل للعقد، وهذا يتوقف على تسليم المدعى أنها كلها كنايات. وقد جمع اسم النكاح ابن القطاع فزادت على الألف.

(9/103)


1- باب التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} الْآيَةَ
5063- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لاَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"
5064- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَ تَعُولُوا قَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ"
قوله:" باب الترغيب في النكاح" لقوله تعالى : {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} زاد الأصيلي وأبو الوقت "الآية" ووجه الاستدلال أنها صيغة أمر تقتضي الطلب، وأقل درجاته الندب فثبت الترغيب. وقال القرطبي: لا دلالة فيه، لأن الآية سيقت لبيان ما يجوز الجمع بينه من أعداد النساء. ويحتمل أن يكون البخاري انتزع ذلك من الأمر بنكاح الطيب مع ورود النهي عن ترك الطيب ونسبة فاعله إلى الاعتداء في قوله تعالى :{لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} وقد اختلف في النكاح، فقال الشافعية: ليس عبادة، ولهذا لو نذره لم ينعقد. وقال الحنفية: هو عبادة. والتحقيق أن الصورة التي يستحب فيها النكاح - كما سيأتي بيانه - تستلزم أن يكون حينئذ عبادة، فمن نفي نظر إليه في حد ذاته ومن أثبت نظر إلى الصورة المخصوصة. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين. حديث أنس، وهو من المتفق عليه لكن من طريقين إلى أنس. قوله: "جاء ثلاثة رهط" كذا في رواية حميد. وفي رواية ثابت عند مسلم: "أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:" ولا منافاة بينهما فالرهط من ثلاثة إلى عشرة، والنفر من ثلاثة إلى تسعة، وكل منهما اسم جمع لا واحد له من لفظه. ووقع في مرسل سعيد بن المسيب عند عبد الرزاق أن الثلاثة المذكورين هم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعثمان بن مظعون وعند ابن مردويه من طريق الحسن العدني "كان علي في أناس ممن أرادوا أن يحرموا الشهوات فنزلت الآية في المائدة "ووقع في "أسباب الواحدي" بغير إسناد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم، فاجتمع عشرة من الصحابة - وهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسلمان وعبد الله بن

(9/104)


عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن - في بيت عثمان بن مظعون، فاتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا يقربوا النساء ويجبوا مذاكيرهم" فإن كان هذا محفوظا احتمل أن يكون الرهط الثلاثة هم الذين باشروا السؤال فنسب ذلك إليهم بخصوصهم تارة ونسب تارة للجميع لاشتراكهم في طلبه، ويؤيد أنهم كانوا أكثر من ثلاثة في الجملة ما روى مسلم من طريق سعيد بن هشام أنه "قدم المدينة، فأراد أن يبيع عقاره فيجعله في سبيل الله، ويجاهد الروم حتى يموت، فلقي ناسا بالمدينة فنهوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم، فلما حدثوه ذلك راجع امرأته وكان قد طلقها" يعني بسبب ذلك، لكن في عد عبد الله بن عمرو معهم نظر، لأن عثمان بن مظعون مات قبل أن يهاجر عبد الله فيما أحسب. قوله: "يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم عن علقمة "في السر". قوله: "كأنهم تقالوها" بتشديد اللام المضمومة أي استقلوها، وأصل تقالوها تقاللوها أي رأى كل منهم أنها قليلة. قوله: "فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له" في رواية الحموي والكشميهني: "قد غفر له" بضم أوله. والمعنى أن من لم يعلم بحصول ذلك له يحتاج إلى المبالغة في العبادة عسى أن يحصل، بخلاف من حصل له، لكن قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس بلازم، فأشار إلى هذا بأنه أشدهم خشية وذلك بالنسبة لمقام العبودية في جانب الربوبية، وأشار في حديث عائشة والمغيرة - كما تقدم في صلاة الليل - إلى معنى آخر بقوله: "أفلا أكون عبدا شكورا". قوله: "فقال أحدهم أما أنا فأنا أصلي الليل أبدا" هو قيد لليل لا لأصلي، وقوله: "فلا أتزوج أبدا" أكد المصلي ومعتزل النساء بالتأبيد ولم يؤكد الصيام لأنه لا بد له من فطر الليالي وكذا أيام العيد، ووقع في رواية مسلم: "فقال بعضهم لا أتزوج النساء. وقال بعضهم لا آكل اللحم. وقال بعضهم لا أنام على الفراش، وظاهره مما يؤكد زيادة عدد القائلين. لأن ترك أكل اللحم أخص من مداومة الصيام، واستغراق الليل بالصلاة أخص من ترك النوم على الفراش. ويمكن التوفيق بضروب من التجوز. قوله: "فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم" في رواية مسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال أقوام قالوا كذا؟ ويجمع بأنه منع من ذلك عموما جهرا مع عدم تعيينهم وخصوصا فيما بينه وبينهم رفقا بهم وسترا لهم. قوله: "أما والله" بتخفيف الميم حرف تنبيه بخلاف قوله في أول الخبر أما أنا فإنها بتشديد الميم للتقسيم. قوله: "إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره، فاعلمهم أنه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشددون وإنما كان كذلك لأن المشدد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد فأنه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه، وقد أرشد إلى ذلك في قوله في الحديث الآخر "المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى، وتقدم في كتاب العلم شيء منه. قوله: "لكنى" استدراك من شيء محذوف دل عليه السياق أي أنا وأنتم بالنسبة إلي العبودية سواء، لكن أنا أعمل كذا. قوله: "فمن رغب عن سنتي فليس مني" المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم وينام ليتقوى على القيام ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل. وقوله فليس مني إن كانت الرغبة

(9/105)


بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه فمعنى "فليس منى" أي على طريقتي ولا يلزم أن يخرج عن الملة وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله فمعنى فليس مني ليس على ملتي لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر. وفي الحديث دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه، وفيه تتبع أحول الأكابر للتأسي بأفعالهم وأنه إذا تعذرت معرفته من الرجال جاز استكشافه من النساء، وأن من عزم على عمل بر واحتاج إلى إظهاره حيث يأمن الرياء لم يكن ذلك ممنوعا. وفيه تقديم الحمد والثناء على الله عند إلقاء مسائل العلم وبيان الأحكام للمكلفين وإزالة الشبهة عن المجتهدين، وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة والاستحباب. وقال الطبري: فيه الرد على من منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس وآثر غليظ الثياب وخشن المأكل. قال عياض هذا مما اختلف فيه السلف فمنهم من نحا إلى ما قال الطبري ومنهم من عكس واحتج بقوله تعالى :{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} قال والحق أن هذه الآية في الكفار وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأمرين. قلت: لا يدل ذلك لأحد الفريقين أن كان المراد المداومة على إحدى الصفتين، والحق إن ملازمة استعمال الطيبات تفضي إلى الترفه والبطر ولا يأمن من الوقوع في الشبهات لأن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانا فلا يستطيع الانتقال عنه فيقع في المحظور كما أن منع تناول ذلك أحيانا يفضي إلي التنطع المنهي عنه ويرد عليه صريح قوله تعالى :{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة وخير الأمور الوسط. وفي قوله إني لأخشاكم لله مع ما انضم إليه إشارة إلى ذلك، وفيه أيضا إشارة إلى أن العلم بالله ومعرفة ما يجب من حقه أعظم قدرا من مجرد العبادة البدنية، والله أعلم. قوله: "حدثنا علي سمع حسان بن إبراهيم" لم أر عليا هذا منسوبا في شيء من الروايات، ولا نبه عليه أبو علي الغساني ولا نسبه أبو نعيم كعادته، لكن جزم المزي تبعا لأبي مسعود بأنه علي بن المديني، وكأن الحامل على ذلك شهرة علي بن المديني في شيوخ البخاري فإذا أطلق اسمه كان الحمل عليه أولى من غيره، وإلا فقد روى عن حسان - ممن يسمى عليا - علي بن حجر وهو من شيوخ البخاري أيضا، وكان حسان المذكور قاضي كرمان، ووثقه ابن معين وغيره، ولكن له أفراد، قال ابن عدي: هو من أهل الصدق إلا أنه ربما غلط. قلت: ولم أر له في البخاري شيئا انفرد به، وقد أدركه بالسن إلا أنه لم يلقه لأنه مات سنة ست ومائتين قبل أن يرتحل البخاري، وقد تقدم شرح الحديث المذكور فيه مستوفى في تفسير سورة النساء.

(9/106)


باب قول النبي صلى الله عليه سلم : من استطاع منكم الباءه فليتزوج
...
3- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فِأَنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ "وَهَلْ يَتَزَوَّجُ مَنْ لاَ أَرَبَ لَهُ فِي النِّكَاحِ؟
5065- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَخَلَوَا فَقَالَ عُثْمَانُ هَلْ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي أَنْ نُزَوِّجَكَ بِكْرًا تُذَكِّرُكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا أَشَارَ إِلَيَّ فَقَالَ يَا عَلْقَمَةُ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" ==

  كتاب :29 فتح الباري : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 
 ==قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" وقع في رواية السرخسي "لأنه" والأول أولى لأنه بقية لفظ الحديث، وإن كان تصرف فيه فاختصر منه لفظ: "منكم" وكأنه أشار إلى أن الشفاهي لا يخص، وهو كذلك اتفاقا، وإنما الخلاف هل يعم نصا أو استنباطا؟ ثم رأيته في الصيام أخرجه من وجه آخر عن الأعمش بلفظ: "من استطاع الباءة" كما ترجم به ليس فيه: "منكم". قوله:" وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح" كأنه يشير إلى ما وقع بين ابن مسعود وعثمان، فعرض عليه عثمان فأجابه بالحديث، فاحتمل أن يكون لا أرب فيه له فلم يوافقه، واحتمل أن يكون وافقه وإن لم ينقل ذلك، ولعله رمز إلى ما بين العلماء فيمن لا يتوق إلى النكاح هل يندب إليه أم لا؟ وسأذكر ذلك بعد. قوله: "حدثني إبراهيم" هو النخعي، وهذا الإسناد مما ذكر أنه أصح الأسانيد، وهي ترجمة الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود، وللأعمش في هذا الحديث إسناد آخر ذكره المصنف في الباب الذي يليه بإسناده بعينه إلى الأعمش. قوله: "كنت مع عبد الله" يعني ابن مسعود. قوله: "فلقيه عثمان بمنى" كذا وقع في أكثر الروايات. وفي رواية زيد بن أبي أنيسة عن الأعمش عند ابن حبان: "بالمدينة" وهي شاذة. قوله: "فقال: يا أبا عبد الرحمن" هي كنية ابن مسعود، وظن ابن المنير أن المخاطب بذلك ابن عمر لأنها كنيته المشهورة، وأكد ذلك عنده أنه وقع في نسخته من "شرح ابن بطال" عقب الترجمة "فيه ابن عمر، لقيه عثمان بمنى" وقص الحديث. فكتب ابن المنير في حاشيته: هذا يدل على أن ابن عمر شدد على نفسه في زمن الشباب، لأنه كان في زمن عثمان شابا، كذا قال، ولا مدخل لابن عمر في هذه القصة أصلا، بل القصة والحديث لابن مسعود، مع أن دعوى أن ابن عمر كان شابا إذ ذاك فيه نظر لما سأبينه قريبا. فإنه كان إذ ذاك جاوز الثلاثين. قوله: "فخليا" كذا للأكثر. وفي رواية الأصيلي: "فخلوا" قال ابن التين: وهي الصواب، لأنه واوي يعني من الخلوة مثل "دعوا" قال الله تعالى :{فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ} انتهى. ووقع في رواية جرير عن الأعمش عند مسلم. "إذ لقيه عثمان فقال: هلم يا أبا عبد الرحمن، فاستخلاه". قوله: "فقال عثمان: هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوجك بكرا تذكرك ما كنت تعهد" لعل عثمان رأى به قشفا ورثاثة هيئة فحمل ذلك على فقده الزوجة التي ترفهه، ووقع في رواية أبي معاوية عند أحمد ومسلم: "ولعلها أن تذكر ما مضى من زمانك" وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم: "لعلك يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد" وفي رواية زيد بن أبي أنيسة عند ابن حبان: "لعلها أن تذكرك ما فاتك" ويؤخذ منه أن معاشرة الزوجة الشابة تزيد في القوة والنشاط، بخلاف عكسها فبالعكس. قوله: "فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة إلى هذا أشار إلي فقال: يا علقمة فانتهيت إليه وهو يقول أما لئن قلت ذلك لقد "هكذا عند الأكثر أن مراجعة عثمان لابن مسعود في أمر التزويج كانت قبل استدعائه لعلقمة. ووقع في رواية جرير عند مسلم وزيد بن أبي أنيسة عند ابن حبان بالعكس، ولفظ جرير بعد قوله فاستخلاه" فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة قال لي: تعال يا علقمة، قال فجئت، فقال له عثمان: ألا نزوجك"وفي رواية زيد "فلقي عثمان، فأخذ بيده فقاما، وتنحيت عنهما، فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة يسرها قال: ادن يا علقمة، فانتهيت إليه وهو يقول: ألا نزوجك" ويحتمل في الجمع بين الروايتين أن يكون عثمان أعاد علي ابن مسعود ما كان قال له بعد أن استدعى علقمة، لكونه فهم منه إرادة إعلام علقمة بما كان فيه. قوله: "لقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب" في رواية زيد "لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شبابا فقال لنا" وفي

(9/107)


رواية عبد الرحمن بن يزيد في الباب الذي يليه "دخلت مع علقمة والأسود على عبد الله، فقال عبد الله: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا، فقال لنا: يا معشر الشباب" وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم في هذه الطريق "قال عبد الرحمن وأنا يومئذ شاب، فحدث بحديث رأيت أنه حدث به من أجلي" وفي رواية وكيع عن الأعمش "وأنا أحدث القوم". قوله: "يا معشر الشباب" المعشر جماعة يشملهم وصف ما، والشباب جمع شاب ويجمع أيضا على شببة وشبان بضم أوله والتثقيل، وذكر الأزهري أنه لم يجمع فاعل على فعال غيره، وأصله الحركة والنشاط، وهو اسم لمن بلغ إلى أن يكمل ثلاثين، هكذا أطلق الشافعية. وقال القرطبي في "المفهم" يقال له حدث إلى ستة عشر سنة، ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين ثم كهل، وكذا ذكر الزمخشري في الشباب أنه من لدن البلوغ إلى اثنتين وثلاثين. وقال ابن شاس المالكي في "الجواهر" إلى أربعين. وقال النووي: الأصح المختار أن الشاب من بلغ ولم يجاوز الثلاثين، ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثم هو شيخ. وقال الروياني وطائفة: من جاوز الثلاثين سمى شيخا، زاد ابن قتيبة: إلى أن يبلغ الخمسين. وقال أبو إسحاق الأسفرايني عن الأصحاب: المرجع في ذلك إلى اللغة، وأما بياض الشعر فيختلف باختلاف الأمزجة. قوله: "من استطاع منكم الباءة" خص الشباب بالخطاب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح بخلاف الشيوخ. وإن كان المعنى معتبرا إذا وجد السبب في الكهول والشيوخ أيضا. قوله: "الباءة" بالهمز وتاء تأنيث ممدود، وفيها لغة أخرى بغير همز ولا مد، وقد يهمز ويمد بلا هاء، ويقال لها أيضا الباهة كالأول لكن بهاء بدل الهمزة، وقيل بالمد القدرة على مؤن النكاح وبالقصر الوطء، قال الخطابي: المراد بالباءة النكاح، وأصله الموضع الذي يتبوؤه ويأوي إليه. وقال المازري: اشتق العقد على المرأة من أصل الباءة، لأن من شأن من يتزوج المرأة أن يبوءها منزلا. وقال النووي: اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد: أصحهما أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع، فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه - وهي مؤن النكاح - فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء ولا ينفكون عنها غالبا. والقول الثاني أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح، سميت باسم ما يلازمها، وتقديره من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع فليصم لدفع شهوته. والذي حمل القائلين بهذا على ما قالوه قوله: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن. وانفصل القائلون بالأول عن ذلك بالتقدير المذكور انتهى. والتعليل المذكور للمازري. وأجاب عنه عياض بأنه لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان، فيكون المراد بقوله: "من استطاع الباءة" أي بلغ الجماع وقدر عليه فليتزوج. ويكون قوله: "ومن لم يستطع" أي من لم يقدر على التزويج. قلت: وتهيأ له هذا لحذف المفعول في المنفي، فيحتمل أن يكون المراد ومن لم يستطع الباءة أو من لم يستطع التزويج، وقد وقع كل منهما صريحا، فعند الترمذي في رواية عبد الرحمن بن يزيد من طريق الثوري عن الأعمش "ومن لم يستطع منكم الباءة" وعند الإسماعيلي من هذا الوجه من طريق أبي عوانة عن الأعمش "من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج" ويؤيده ما وقع في رواية للنسائي من طريق أبي معشر عن إبراهيم النخعي "من كان ذا طول فلينكح" ومثله لابن ماجه من حديث عائشة، وللبزار من حديث أنس وأما تعليل المازري فيعكر عليه قوله في الرواية الأخرى التي في الباب

(9/108)


الذي يليه بلفظ: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا" فإنه يدل على أن المراد بالباءة الجماع، ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم بأن يراد بالباءة القدرة على الوطء ومؤن التزويج، والجواب عما استشكله المازري أنه يجوز أن يرشد من لا يستطيع الجماع من الشباب لفرط حياء أو عدم شهوة أو عنة مثلا إلى ما يهيئ له استمرار تلك الحالة، لأن الشباب مظنة ثوران الشهوة الداعية إلى الجماع فلا يلزم من كسرها في حالة أن يستمر كسرها، فلهذا أرشد إلى ما يستمر به الكسر المذكور، فيكون قسم الشباب إلى قسمين: قسم يتوقون إليه ولهم اقتدار عليه فندبهم إلى التزويج دفعا للمحذور، بخلاف الآخرين فندبهم إلى أمر تستمر به حالتهم، لأن ذلك أرفق بهم للعلة التي ذكرت في رواية عبد الرحمن بن يزيد وهي أنهم كانوا لا يجدون شيئا، ويستفاد منه أن الذي لا يجد أهبة النكاح وهو تائق إليه يندب له التزويج دفعا للمحذور. قوله: " فليتزوج" زاد في كتاب الصيام من طريق أبي حمزة عن الأعمش هنا "فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" وكذا ثبتت هذه الزيادة عند جميع من أخرج الحديث المذكور من طريق الأعمش بهذا الإسناد، وكذا ثبت بإسناده الآخر في الباب الذي يليه، ويغلب على ظني أن حذفها من قبل حفص بن غياث شيخ شيخ البخاري. وإنما آثر البخاري روايته على رواية غيره لوقوع التصريح فيها من الأعمش بالتحديث، فاغتفر له اختصار المتن لهذه المصلحة. وقوله: "أغض" أي أشد غضا "وأحصن" أي أشد إحصانا له ومنعا من الوقوع في الفاحشة. وما ألطف ما وقع لمسلم حيث ذكر عقب حديث ابن مسعود هذا بيسير حديث جابر رفعه: "إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه" فإن فيه إشارة إلى المراد من حديث الباب. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن تكون أفعل على بابها، فإن التقوى سبب لغض البصر وتحصين الفرج، وفي معارضتها الشهوية الداعية، وبعد حصول التزويج يضعف هذا العارض فيكون أغض وأحصن مما لم يكن، لأن وقوع الفعل مع ضعف الداعي أندر من وقوعه من وجود الداعي. ويحتمل أن يكون أفعل فيه لغير المبالغة بل إخبار عن الواقع فقط. قوله: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" في رواية مغيرة عن إبراهيم عند الطبراني "ومن لم يقدر على ذلك فعليه بالصوم" قال المازري: فيه إغراء بالغائب، ومن أصول النحويين أن لا يغري الغائب، وقد جاء شاذا قول بعضهم عليه رجلا ليسني على جهة الإغراء. وتعقبه عياض بأن هذا الكلام موجود لابن قتيبة والزجاجي، ولكن فيه غلط من أوجه: أما أولا فمن التعبير بقوله لا إغراء بالغائب، والصواب فيه إغراء الغائب، فأما الإغراء بالغائب فجائز، ونص سيبويه أنه لا يجوز دونه زيدا ولا يجوز عليه زيدا عند إرادة غير المخاطب، وإنما جاز للحاضر لما فيه من دلالة الحال، بخلاف الغائب فلا يجوز لعدم حضوره ومعرفته بالحالة الدالة على المراد. وأما ثانيا فإن المثال ما فيه حقيقة الإغراء وأن كانت صورته، فلم يرد القائل تبليغ الغائب وإنما أراد الإخبار عن نفسه بأنه قليل المبالاة بالغائب، ومثله قولهم: إليك عني، أي اجعل شغلك بنفسك، ولم يرد أن يغريه به وإنما مراده دعني وكن كمن شغل عني. وأما ثالثا فليس في الحديث إغراء الغائب بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولا بقوله: "من استطاع منكم" فالخصاء في قوله: "فعليه" ليست لغائب وإنما هي للحاضر المبهم، إذ لا يصح خطابه بالكاف، ونظير هذا قوله: {كتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى أن قال {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ومثله لو قلت لاثنين من قام منكما فله درهم فالهاء للمبهم من المخاطبين لا لغائب ا ه ملخصا. وقد استحسنه القرطبي. وهو حسن بالغ، وقد تفطن له الطيبي فقال: قال أبو عبيد قوله

(9/109)


فعليه بالصوم إغراء غائب، ولا تكاد العرب تغري إلا الشاهد تقول عليك زيدا ولا تقول عليه زيدا إلا في هذا الحديث، قال: وجوابه أنه لما كان الضمير الغائب راجعا إلى لفظة "من" وهي عبارة عن المخاطبين في قوله: "يا معشر الشباب" وبيان لقوله: "منكم" جاز قوله: "عليه" لأنه بمنزلة الخطاب. وقد أجاب بعضهم بأن إيراد هذا اللفظ في مثال إغراء الغائب هو باعتبار اللفظ، وجواب عياض باعتبار المعنى، وأكثر كلام العرب اعتبار اللفظ. كذا قال، والحق مع عياض، فإن الألفاظ توابع للمعاني، ولا معنى لاعتبار اللفظ مجردا هنا. قوله: "بالصوم" عدل عن قوله فعليه بالجوع وقلة ما يثير الشهوة ويستدعي طغيان الماء من الطعام والشراب إلى ذكر الصوم إذ ما جاء لتحصيل عبادة هي برأسها مطلوبة. وفيه إشارة إلى أن المطلوب من الصوم في الأصل كسر الشهوة. قوله: "فإنه" أي الصوم. قوله: "له وجاء" بكسر الواو والمد، أصله الغمز، ومنه وجأه في عنقه إذا غمزه دافعا له، ووجأه بالسيف إذا طعنه به، ووجأ أنثييه غمزهما حتى رضهما. ووقع في رواية ابن حبان المذكورة "فإنه له وجاء وهو الإخصاء" وهي زيادة مدرجة في الخبر لم تقع إلا في طريق زيد بن أبي أنيسة هذه، وتفسير الوجاء بالإخصاء فيه نظر. فإن الوجاء رض الأنثيين والإخصاء سلهما، وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة. وقال أبو عبيد قال بعضهم وجا بفتح الواو مقصور، والأول أكثر. وقال أبو زيد لا يقال وجاء إلا فيما لم يبرأ وكان قريب العهد بذلك. واستدل بهذا الحديث على أن من لم يستطع الجماع فالمطلوب منه ترك التزويج لأنه أرشده إلى ما ينافيه ويضعف دواعيه. وأطلق بعضهم أنه يكره في حقه. وقد قسم العلماء الرجل في الترويج إلى أقسام: الأول التائق إليه القادر على مؤنه الخائف على نفسه، فهذا يندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية أنه يجب وبذلك قال أبو عوانة الأسفرايني من الشافعية وصرح به في صحيحه، ونقله المصيصي في "شرح مختصر الجويني" وجها، وهو قول داود وأتباعه. ورد عليهم عياض ومن تبعه بوجهين: أحدهما أن الآية التي احتجوا بها خيرت بين النكاح والتسري - يعني قوله تعالى :{فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالوا والتسري ليس واجبا اتفاقا فيكون التزويج غير واجب إذ لا يقع التخيير بين واجب ومندوب، وهذا الرد متعقب، فإن الذين قالوا بوجوبه قيدوه بما إذا لم يندفع التوقان بالتسري، فإذا لم يندفع تعين التزويج، وقد صرح بذلك ابن حزم فقال: وفرض على كل قادر على الوطء إن وجد ما يتزوج به أو يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف. الوجه الثاني أن الواجب عندهم العقد لا الوطء، والعقد بمجرده لا يدفع مشقة التوقان قال: فما ذهبوا إليه لم يتناوله الحديث، وما تناوله الحديث لم يذهبوا إليه، كذا قال، وقد صرح أكثر المخالفين بوجوب الوطء فاندفع الإيراد. وقال ابن بطال: احتج من لم يوجبه بقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" قال: فلما كان الصوم الذي هو بدله ليس بواجب فمبدله مثله. وتعقب بأن الأمر بالصوم مرتب على عدم الاستطاعة ولا استحالة أن يقول القائل أوجبت عليك كذا فإن لم تستطع فأندبك إلى كذا. والمشهور عن أحمد أنه لا يجب للقادر التائق إلا إذا خشي العنت، وعلى هذه الرواية اقتصر ابن هبيرة. وقال المازري: الذي نطق به مذهب مالك أنه مندوب، وقد يجب عندنا في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به. وقال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة بحيث لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزويج لا يختلف في وجوب التزويج عليه. ونبه ابن الرفعة على صورة يجب فيها، وهي ما إذا نذره حيث كان مستحبا. وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح

(9/110)


إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري - وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم وهو المازري قال: فالوجوب في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به كما تقدم. قال والتحريم في حق من يخل بالزوجة في الوطء والإنفاق مع عدم قدرته عليه وتوقانه إليه. والكراهة في حق مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة، فإن انقطع بذلك عن شيء من أفعال الطاعة من عبادة أو اشتغال بالعلم اشتدت الكراهة، وقيل الكراهة فيما إذا كان ذلك في حال العزوبة أجمع منه في حال التزويج. والاستحباب فيما إذا حصل به معنى مقصودا من كثر شهوة وإعفاف نفس وتحصين فرج ونحو ذلك. والإباحة فيما انتفت الدواعي والموانع. ومنهم من استمر بدعوى الاستحباب فيمن هذه صفته للظواهر الواردة في الترغيب فيه، قال عياض: هو مندوب في حق كل من يرجى منه النسل ولو لم يكن له في الوطء شهوة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإني مكاثر بكم" ولظواهر الحض على النكاح والأمر به، وكذا في حق من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطء، فأما من لا ينسل ولا أرب له في النساء ولا في الاستمتاع فهذا مباح في حقه إذا علمت المرأة بذلك ورضيت. وقد يقال: إنه مندوب أيضا لعموم قوله: "لا رهبانية في الإسلام". وقال الغزالي في الإحياء: من اجتمعت له فوائد النكاح وانتفت عنه آفاته فالمستحب في حقه التزويج، ومن لا فالترك له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقه فليجتهد ويعمل بالراجح. قلت: الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، فأما حديث :" فإني مكاثر بكم" فصح من حديث أنس بلفظ: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم يوم القيامة" أخرجه ابن حبان، وذكره الشافعي بلاغا عن ابن عمر بلفظ: "تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم" وللبيهقي من حديث أبي إمامة "تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى" وورد "فإني مكاثر بكم" أيضا من حديث الصنابحي وابن الأعسر ومعقل بن يسار وسهل بن حنيف وحرملة بن النعمان وعائشة وعياض بن غنم ومعاوية بن حيدة وغيرهم، وأما حديث: "لا رهبانية في الإسلام" فلم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني "إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة" وعن ابن عباس رفعه: "لا صرورة في الإسلام" أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم، وفي الباب حديث النهي عن التبتل وسيأتي في باب مفرد، وحديث: "من موسرا فلم ينكح فليس منا" أخرجه الدارمي والبيهقي من حديث ابن أبا نجيح وجزم بأنه مرسل، وقد أورده البغوي في "معجم الصحابة" وحديث طاوس "قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد: إنما يمنعك من التزويج عجز أو فجور، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وقد تقدم في الباب الأول الإشارة إلى حديث عائشة "النكاح سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني" وأخرج الحاكم من حديث أنس رفعه: "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني" وهذه الأحاديث وإن كان في الكثير منها ضعف فمجموعها يدل على أن لما يحصل به المقصود من الترغيب في التزويج أصلا، لكن في حق من يتأتى منه النسل كما تقدم، والله أعلم. وفي الحديث أيضا إرشاد العاجز عن مؤن النكاح إلى الصوم، لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوته وتضعف بضعفه، واستدل به الخطابي على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغوي في "شرح السنة"، وينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعها أصالة لأنه قد يقدر بعد فيندم لفوات ذلك في حقه، وقد صرح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه، والحجة فيه أنهم اتفقوا على منع الجب والخصاه فيلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلا، واستدل به الخطابي

(9/111)


أيضا على أن المقصود من النكاح الوطء ولهذا شرع الخيار في العنة. وفيه الحث على غض البصر وتحصين الفرج بكل ممكن وعدم التكليف بغير المستطاع، ويؤخذ منه أن حظوظ النفوس والشهوات لا تتقدم على أحكام الشرع بل هي دائرة معها، واستنبط القرافي من قوله: "فإنه له وجاء" أن التشريك في العبادة لا يقدح فيها بخلاف الرياء، لأنه أمر بالصوم الذي هو قربة وهو بهذا القصد صحيح مثاب عليه، ومع ذلك فأرشد إليه لتحصيل غض البصر وكف الفرج عن الوقوع في المحرم ا ه. فإن أراد تشريك عبادة بعبادة أخرى فهو كذلك وليس محل النزاع. وإن أراد تشريك العبادة بأمر مباح فليس في الحديث ما يساعده. واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحا لكان الإرشاد إليه أسهل. وتعقب دعوى كونه أسهل لأن الترك أسهل من الفعل. وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة، وفي قول عثمان لابن مسعود "ألا نزوجك شابة" استحباب نكاح الشابة ولا سيما إن كانت بكرا، وسيأتي بسط القول فيه بعد أبواب.

(9/112)


4- باب مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْبَاءَةَ فَلْيَصُمْ
5066- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لاَ نَجِدُ شَيْئًا فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"
قوله: "باب من لم يستطع الباءة فليصم" أورد فيه حديث ابن مسعود المذكور في الباب قبله، وهذا اللفظ ورد في رواية الثوري عن الأعمش في حديث الباب، فعند الترمذي عنه بلفظ: "فمن لم يستطع الباءة فعليه بالصوم" وعند النسائي عنه بلفظ: "ومن لا فليصم" وقد تقدمت مباحثه في الباب الذي قبله.

(9/112)


5- باب كَثْرَةِ النِّسَاءِ
5067- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلاَ تُزَعْزِعُوهَا وَلاَ تُزَلْزِلُوهَا وَارْفُقُوا فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعٌ كَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ وَلاَ يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ"
5068- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ و قَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"

(9/112)


باب من هاجر أو عمل خيراً لتزويج امرأة فله مانوى
...
6- باب مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى
5070- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"
قوله: "باب من هاجر أو عمل خيرا لتزويج امرأة فله ما نوى" ذكر فيه حديث عمر بلفظ: "العمل بالنية، وإنما لامرئ ما نوى" وقد تقدم شرحه مستوفى في أول الكتاب، وما ترجم به من الهجرة منصوص في الحديث، ومن عمل الخير مستنبط لأن الهجرة من جملة أعمال الخير، فكما عمم في الخير في شق المطلوب وتممه بلفظ: "فهجرته إلي ما هاجر إليه" فكذلك شق الطلب يشمل أعمال الخير هجرة أو حجا مثلا أو صلاة أو صدقة، وقصة مهاجر أم قيس أوردها الطبراني مسندة والآجري في كتاب الشريعة بغير إسناد، ويدخل في قوله: "أو عمل خيرا" ما وقع من أم سليم في امتناعها من التزويج بأبي طلحة حتى يسلم، وهو في الحديث الذي أخرجه النسائي بسند صحيح عن أنس قال: "خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد، ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري، فأسلم فكان ذلك مهرها" الحديث. ووجه دخوله أن أم سليم رغبت في تزويج أبي طلحة ومنعها من ذلك كفره، فتوصلت إلى بلوغ غرضها ببذل نفسها فظفرت بالخيرين، وقد استشكله

(9/115)


بعضهم بأن تحريم المسلمات على الكفار إنما وقع في زمن الحديبية وهو بعد قصة تزوج أبي طلحة بأم سليم بمدة، ويمكن الجواب بأن ابتداء تزوج الكافر بالمسلمة كان سابقا على الآية، والذي دلت عليه الآية الاستمرار، فلذلك وقع التفريق بعد أن لم يكن، ولا يحفظ بعد الهجرة أن مسلمة ابتدأت بتزوج كافر، والله أعلم

(9/116)


7- باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ الَّذِي مَعَهُ الْقُرْآنُ وَالإِسْلاَمُ. فِيهِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5071- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَسْتَخْصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ"
قوله: "باب تزويج المعسر الذي معه القرآن والإسلام. فيه سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني حديث سهل بن سعد في قصة التي وهبت نفسها. وما ترجم به مأخوذ من قوله: "التمس ولو خاتما من حديد" فالتمس فلم يجد شيئا ومع ذلك زوجه. قال الكرماني: لم يسق حديث سهل هنا لأنه ساقه قبل وبعد اكتفاء بذكره، أو لأن شيخه لم يروه له في سياق هذه الترجمة ا ه. والثاني بعيد جدا فلم أجد من قال إن البخاري يتقيد في تراجم كتابه بما يترجم به مشايخه، بل الذي صرح به الجمهور أن غالب تراجمه من تصرفه فلا وجه لهذا الاحتمال، وقد لهج الكرماني به في مواضع وليس بشيء. ثم ذكر طرفا من حديث ابن مسعود "كنا نغزو وليس لنا نساء، فقلنا: يا رسول الله نستخصي؟ فنهانا عن ذلك. وقد تلطف المصنف في استنباطه الحكم كأنه يقول: لما نهاهم عن الاختصاء مع احتياجهم إلى النساء - وهم مع ذلك لا شيء لهم كما صرح به في نفس هذا الخبر كما سيأتي تاما بعد باب واحد - وكان كل منهم لا بد وأن يكون حفظ شيئا من القرآن، فتعين التزويج بما معهم من القرآن، فحكمة الترجمة من حديث سهل بالتنصيص، ومن حديث ابن مسعود بالاستدلال. وقد أعرب المهلب فقال: في قوله تزويج المعسر دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزوج الرجل على أن يعلم المرأة القرآن، إذ لو كان كذلك ما سماه معسرا. قال: وكذلك قوله: "والإسلام" لأن الواهبة كانت مسلمة ا ه. والذي يظهر أن مراد البخاري المعسر من المال بدليل قول ابن مسعود "وليس لنا شيء" والله أعلم.

(9/116)


8- باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ انْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ شِئْتَ حَتَّى أَنْزِلَ لَكَ عَنْهَا، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
5072- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ وَعِنْدَ الأَنْصَارِيِّ امْرَأَتَانِ فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ فَأَتَى السُّوقَ فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَشَيْئًا مِنْ سَمْنٍ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ فَقَالَ مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَ تَزَوَّجْتُ أَنْصَارِيَّةً قَالَ فَمَا سُقْتَ إِلَيْهَا قَالَ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"

(9/116)


باب مايكره من التبتل والخصاء
...
9- باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ
5083- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا"
[الحديث 5073- طرفه في: 5074]
5074- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ لَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَلَوْ أَجَازَ لَهُ التَّبَتُّلَ لاَخْتَصَيْنَا"
5075- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ فَقُلْنَا أَلاَ نَسْتَخْصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
5076- وَقَالَ أَصْبَغُ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَأَنَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ وَلاَ أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاَقٍ فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ"

(9/117)


قوله: "باب ما يكره من التبتل" المراد بالتبتل هنا الانقطاع عن النكاح وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة. وأما المأمور به في قوله تعالى :{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} فقد فسره مجاهد فقال: أخلص له إخلاصا، وهو تفسير معنى، وإلا فأصل التبتل الانقطاع، والمعنى انقطع إليه انقطاعا. لكن لما كانت حقيقة الانقطاع إلى الله إنما تقع بإخلاص العبادة له فسرها بذلك، ومنه "صدقة بتلة" أي منقطعة عن الملك، ومريم البتول لانقطاعها عن التزويج إلى العبادة وقيل لفاطمة البتول إما لانقطاعها عن الأزواج غير على أو لانقطاعها عن نظرائها في الحسن والشرف. قوله: "والخصاء" هو الشق على الأنثيين وانتزاعهما، وإنما قال: "ما يكره من التبتل والخصاء للإشارة إلى أن الذي يكره من التبتل هو الذي يفضي إلى التنطع وتحريم ما أحل الله وليس التبتل من أصله مكرها، وعطف الخصاء عليه لأن بعضه يجوز في الحيوان المأكول، ثم أورد المصنف ثلاثة أحاديث. حديث سعد بن أبي وقاص في قصة عثمان بن مظعون أورده من طريقين إلى ابن شهاب الزهري، وقد أورده مسلم من طريق عقيل عن ابن شهاب بلفظ: "أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فعرف أن معنى قوله: "رد على عثمان" أي لم يأذن له بل نهاه. وأخرج الطبراني من حديث عثمان بن مظعون نفسه "أنه قال يا رسول الله إني رجل يشق على العزوبة، فأذن لي في الخصاء. قال: لا، ولكن عليك بالصيام" الحديث. ومن طريق سعيد ابن العاص "أن عثمان قال: يا رسول الله ائذن لي في الاختصاء، فقال : إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة" فيحتمل أن يكون الذي طلبه عثمان هو الاختصاء حقيقة فعبر عنه الراوي بالتبتل لأنه ينشأ عنه، فلذلك قال: "ولو أذن له لاختصينا" ويحتمل عكسه وهو أن المراد بقول سعد "ولو أذن له لاختصينا" لفعلنا فعل من يختصي وهو الانقطاع عن النساء. قال الطبري: التبتل الذي أراده عثمان بن مظعون تحريم النساء والطيب وكل ما يلتذ به، فلهذا أنزل في حقه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وقد تقدم في الباب الأول من كتاب النكاح تسمية من أراد ذلك مع عثمان بن مظعون ومن وافقه، وكان عثمان من السابقين إلى الإسلام، وقد تقدمت قصته مع لبيد بن ربيعة في كتاب المبعث، وتقدمت قصة وفاته في كتاب الجنائز، وكانت في ذي الحجة سنة اثنتين من الهجرة، وهو أول من دفن بالبقيع. وقال الطيبي: قوله: "ولو أذن له لاختصينا" كان الظاهر أن يقول ولو أذن له لتبتلنا، لكنه عدل عن هذا الظاهر إلى قوله: "لاختصينا" لإرادة المبالغة، أي لبالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الأمر إلى الاختصاء، ولم يرد به حقيقة الاختصاء لأنه حرام، وقيل بل هو على ظاهره، وكان ذلك قبل النهي عن الاختصاء، ويؤيده توارد استئذان جماعة من الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كأبي هريرة وابن مسعود وغيرهما، وإنما كان التعبير بالخصاء أبلغ من التعبير بالتبتلي لأن وجود الآلة يقتضي استمرار وجود الشهوة، موجود الشهوة ينافي المراد من التبتل، فيتعين الخصاء طريقا إلى تحصيل المطلوب، وغايته أن فيه ألما عظيما في العاجل يغتفر في جنب ما يندفع به الآجل، فهو كقطع الإصبع إذا وقعت في اليد الأكلة صيانة لبقية اليد، وليس الهلاك بالخصاء محققا بل هو نادر، ويشهد له كثرة وجوده في البهائم مع بقائها، وعلى هذا فلعل الراوي عبر بالخصاء عن الجب لأنه هو الذي يحصل المقصود. والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النسل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النسل فيقل المسلمون بانقطاعه ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد وإسماعيل هو ابن أبي خالد وقيس هو ابن أبي حازم وعبد الله هو ابن

(9/118)


مسعود. وقد تقدم قبل بباب من وجه آخر عن إسماعيل بلفظ: "عن ابن مسعود" ووقع عند الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن جرير بلفظ: "سمعت عبد الله"، وكذا لمسلم من وجه آخر عن إسماعيل. قوله: "ألا نستخصي" أي ألا نستدعي من يفعل لنا الخصاء أو نعالج ذلك أنفسنا. وقوله: "فنهانا عن ذلك" هو نهى تحريم بلا خلاف في بني آدم، لما تقدم. وفيه أيضا من المفاسد تعذيب النفس والتشويه مع إدخال الضرر الذي قد يفضي إلى الهلاك. وفيه إبطال معنى الرجولية وتغيير خلق الله وكفر النعمة، لأن خلق الشخص رجلا من النعم العظيمة فإذا أزال ذلك فقد تشبه بالمرأة واختار النقص على الكمال. قال القرطبي: الخصاء في غير بني آدم ممنوع في الحيوان إلا لمنفعة حاصلة في ذلك كتطييب اللحم أو قطع ضرر عنه. وقال النووي: يحرم خصاء الحيوان غير المأكول مطلقا، وأما المأكول فيجوز في صغيره دون كبيره. وما أظنه يدفع ما ذكره القرطبي من إباحة ذلك في الحيوان الكبير عند إزالة الضرر. قوله: "ثم رخص لنا" في الرواية السابقة في تفسير المائدة "ثم رخص لنا بعد ذلك". قوله: "أن ننكح المرأة بالثوب" أي إلى أجل في نكاح المتعة. قوله: "ثم قرأ" في رواية مسلم: "ثم قرأ علينا عبد الله" وكذا وقع عند الإسماعيلي في تفسير المائدة. قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. الآية" ساق الإسماعيلي إلى قوله: {الْمُعْتَدِينَ} وظاهر استشهاد ابن مسعود بهذه الآية هنا يشعر بأنه كان يرى بجواز المتعة، فقال القرطبي: لعله لم يكن حينئذ بلغه الناسخ، ثم بلغه فرجع بعد. قلت: يؤيده ما ذكره الإسماعيلي أنه وقع في رواية أبي معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد "ففعله ثم ترك ذلك" قال: وفي رواية لابن عيينة عن إسماعيل "ثم جاء تحريمها بعد" وفي رواية معمر عن إسماعيل "ثم نسخ" وسيأتي مزيد البحث في حكم المتعة بعد أربعة وعشرين بابا. و قوله: "وقال أصبغ" كذا في جميع الروايات التي وقفت عليها، وكلام أبي نعيم في "المستخرج" يشعر بأنه قال فيه حديثا، وقد وصله جعفر الفريابي في كتاب القدر والجوزقي في "الجمع بين الصحيحين" والإسماعيلي من طرق عن أصبغ، وأخرجه أبو نعيم من طريق حرملة عن ابن وهب، وذكر مغلطاي أنه وقع عند الطبري رواه البخاري عن أصبغ بن محمد وهو غلط، هو أصبغ بن الفرج ليس في آبائه محمد. قوله: "إني رجل شاب وأنا أخاف" في رواية الكشميهني: "وإني أخاف" وكذا في رواية حرملة. قوله: "العنت" بفتح المهملة والنون ثم مثناة هو الزنا هنا، ويطلق الإثم والفجور والأمر الشاق والمكروه. وقال ابن الأنباري: أصل العنت الشدة. قوله: "ولا أجد ما أتزوج النساء، فسكت عني" كذا وقع. وفي رواية حرملة "ولا أجد ما أتزوج النساء، فائذن لي أختصي" وبهذا يرتفع الإشكال عن مطابقة الجواب للسؤال. قوله: "جف القلم بما أنت لاق" أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ فبقي القلم الذي كتب به جافا لا مداد فيه لفراغ ما كتب به، قال عياض: كتابة الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به ونكل علمه إليه. قوله: "فاختص على ذلك أو ذر" في رواية الطبري وحكاها الحميدي في الجمع ووقعت في المصابيح "فاقتصر على ذلك أو ذر" قال الطيبي: معناه اقتصر على الذي أمرتك به أو اتركه وافعل ما ذكرت من الخصاء ا ه. وأما اللفظ الذي وقع في الأصل فمعناه فافعل ما ذكرت أو اتركه واتبع ما أمرتك به، وعلى الروايتين فليس الأمر فيه لطلب الفعل بل هو للتهديد، وهو كقوله تعالى :{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} والمعنى إن فعلت أو لم تفعل فلا بد من نفوذ القدر، وليس فيه تعرض لحكم الخصاء. ومحصل الجواب أن جميع الأمور بتقدير الله في الأزل، فالخصاء وتركه سواء، فإن الذي

(9/119)


قدر لا بد أن يقع. وقوله: "على ذلك" هي متعلقة بمقدر أي اختص حال استعلائك على العلم بأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وليس إذنا في الخصاء، بل فيه إشارة إلى النهى عن ذلك، كأنه قال إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله فلا فائدة في الاختصاء، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عثمان بن مظعون لما استأذنه في ذلك. وكانت وفاته قبل هجرة أبي هريرة بمدة. وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: "شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العزوبة فقال ألا أختصي؟ قال: ليس منا من خصى أو اختصى" وفي الحديث ذم الاختصاء، وقد تقدم ما فيه وأن القدر إذا نفذ لا تنفع الحيل. وفيه مشروعية شكوى الشخص ما يقع له للكبير ولو كان مما يستهجن ويستقبح. وفيه إشارة إلى أن من لم يجد الصداق لا يتعرض للتزويج. وفيه جواز تكرار الشكوى إلى ثلاث، والجواب لمن لا يقنع بالسكوت، وجواز السكوت عن الجواب لمن يظن به أنه يفهم المراد من مجرد السكوت. وفيه استحباب أن يقدم طالب الحاجة بين يدي حاجته عذره في السؤال. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به: ويؤخذ منه أن مهما أمكن المكلف فعل شيء من الأسباب المشروعة لا يتوكل إلا بعد عملها لئلا يخالف الحكمة، فإذا لم يقدر عليه وطن نفسه على الرضا بما قدره عليه مولاه ولا يتكلف من الأسباب ما لا طاقة به له. وفيه أن الأسباب إذا لم تصادف القدر لا تجدي. فإن قيل: لم لم يؤمر أبو هريرة بالصيام لكسر شهوته كما أمر غيره؟ فالجواب أن أبا هريرة كان الغالب من حاله ملازمة الصيام لأنه كان من أهل الصفة. قلت: ويحتمل أن يكون أبو هريرة سمع "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" الحديث، لكنه إنما سأل عن ذلك في حال الغزو كما وقع لابن مسعود، وكانوا في حال الغزو يؤثرون الفطر على الصيام للتقوى على القتال، فأداه اجتهاده إلى حسم مادة الشهوة بالاختصاء كما ظهر لعثمان فمنعه صلى الله عليه وسلم من ذلك. وإنما لم يرشده إلى المتعة التي رخص فيها لغيره لأنه ذكر أنه لا يجد شيئا، ومن لم يجد شيئا أصلا لا ثوبا ولا غيره فكيف يستمتع والتي يستمتع بها لا بد لها من شيء.

(9/120)


10 - باب نِكَاحِ الأَبْكَارِ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ لَمْ يَنْكِحْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا غَيْرَكِ
5077- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا وَوَجَدْتَ شَجَرًا لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا فِي أَيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ قَالَ فِي الَّذِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا تَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا"
5078- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةِ حَرِيرٍ فَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"
قوله: "باب نكاح الأبكار" جمع بكر، وهي التي لم توطأ واستمرت على حالتها الأولى. قوله: "وقال ابن أبي

(9/120)


مليكة قال ابن عباس لعائشة: لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرك" هذا طرف من حديث وصله المصنف في تفسير سورة النور. وقد تقدم الكلام عليه هناك. قوله: "حدثني أخي" هو عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال. قوله: "فيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرا لم يؤكل منها" كذا لأبي ذر، ولغيره: "ووجدت شجرة" وذكره الحميدي بلفظ: "فيه شجرة قد أكل منها" وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" بصيغة الجمع وهو أصوب لقوله بعد "في أيها" أي في أي الشجر، ولو أراد الموضعين لقال في أيهما. قوله: "ترتع" بضم أوله، أرتع بعيره إذا تركه يرعى ما شاء ورتع البعير في المرعى إذا أكل ما شاء ورتعه الله أي أنبت له ما يرعاه على سعة. قوله: "قال في التي لم يرتع منها" في رواية أبي نعيم "قال في الشجرة التي" وهو أوضح. وقوله: "يعني إلخ" زاد أبو نعيم قبل هذا "قالت فأنا هيه" بكسر الهاء وفتح التحتانية فسكون الهاء وهي للسكت، وفي هذا الحديث مشروعية ضرب المثل وتشبيه شيء موصوف بصفة بمثله مسلوب الصفة، وفيه بلاغة عائشة وحسن تأتيها في الأمور، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "في التي لم يرتع منها" أي أوثر ذلك في الاختيار على غيره، فلا يرد على ذلك كون الواقع منه أن الذي تزوج من الثيبات أكثر، ويحتمل أن تكون عائشة كنت بذلك عن المحبة بل عن أدق من ذلك. ذكر المصنف حديث عائشة "أريتك في المنام" سيأتي شرحه بعد ستة وعشرين بابا، ووقع في رواية الترمذي أن الملك الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصورتها جبريل

(9/121)


11- باب تَزْوِيجِ الثَّيِّبَاتِ وَقَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ
5079- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَفَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةٍ فَتَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ فَانْطَلَقَ بَعِيرِي كَأَجْوَدِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ الإِبِلِ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا يُعْجِلُكَ قُلْتُ كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُسٍ قَالَ أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ قَالَ فَلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ قَالَ أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا أَيْ عِشَاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ"
5080- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَارِبٌ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ تَزَوَّجْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَزَوَّجْتَ فَقُلْتُ تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا فَقَالَ مَا لَكَ وَلِلْعَذَارَى وَلِعَابِهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَقَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ"
قوله: "باب تزويج الثيبات" جمع ثيبة بمثلثة ثم تحتانية ثقيلة مكسورة ثم موحدة، ضد البكر. قوله: "وقالت أم حبيبة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن" هذا طرف من حديث سيأتي موصولا بعد عشرة أبواب، واستنبط المصنف الترجمة من قوله: "بناتكن" لأنه خاطب بذلك نساءه فاقتضى أن لهن بنات من غيره

(9/121)


فيستلزم أنهن ثيبات كما هو الأكثر الغالب. ذكر المصنف حديث جابر في قصة بعيره، وقد تقدم شرحه في الشروط فيما يتعلق بذلك. قوله: "ما يعجلك" بضم أوله، أي ما سبب إسراعك؟ قوله: "كنت حديث عهد بعرس" أي قريب عهد بالدخول على الزوجة. وفي رواية عطاء عن جابر في الوكالة "فلما دنونا من المدينة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام - أخذت أرتحل، قال: أين تريد؟ قلت: تزوجت" وفي رواية أبي عقيل عن أبي المتوكل عن جابر "من أحب أن يتعجل إلى أهله فليتعجل" أخرجه مسلم. قوله: "قال أبكرا ثيبا؟ قلت: ثيبا" هو منصوب بفعل محذوف تقديره أتزوجت وتزوجت، وكذا وقع في ثاني حديث الباب: "فقلت تزوجت ثيبا" في رواية الكشميهني في الوكالة من طريق وهب بن كيسان عن جابر قال أتزوجت؟ قلت: نعم. قال بكرا أم ثيبا؟ قلت ثيبا. وفي المغازي عن قتيبة عن سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر بلفظ: "هل نكحت يا جابر؟ قلت نعم قال: ماذا، أبكرا أم ثيبا؟ قلت: لا بل ثيبا" ووقع عند أحمد عن سفيان في هذا الحديث: "قلت: ثيب" وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره التي تزوجتها ثيب، وكذا وقع لمسلم من طريق عطاء عن جابر. قوله: "فهلا جارية" في رواية وهب بن كيسان "أفلا جارية" وهما بالنصب أي فهلا تزوجت؟ وفي رواية يعقوب الدورقي عن هشام بإسناد حديث الباب: "هلا بكرا" ؟ وسيأتي قبيل أبواب الطلاق، وكذا لمسلم من طريق عطاء عن جابر، وهو معنى رواية محارب المذكورة في الباب بلفظ: "العذارى" وهو جمع عذراء بالمد. قوله: "تلاعبها وتلاعبك" زاد في رواية النفقات "وتضاحكها وتضاحكك" وهو مما يؤيد أنه من اللعب ووقع عند الطبراني من حديث كعب بن عجرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل" فذكر نحو حديث جابر وقال فيه: "وتعضها وتعضك" ووقع في رواية لأبي عبيدة "تداعبها وتداعبك" بالذال المعجمة بدل اللام، وأما ما وقع في رواية محارب بن دثار عن جابر ثاني حديثي الباب بلفظ: "مالك وللعذارى ولعابها" فقد ضبطه الأكثر بكسر اللام وهو مصدر من الملاعبة أيضا، يقال لاعب لعابا وملاعبة مثل قاتل قتالا ومقاتلة. ووقع في رواية المستملي بضم اللام والمراد به الريق، وفيه إشارة إلى مص لسانها ورشف شفتيها، وذلك يقع عند الملاعبة والتقبيل، وليس هو ببعيد كما قال القرطبي، ويؤيد أنه بمعنى آخر غير المعنى الأول قول شعبة في الباب أنه عرض ذلك على عمرو بن دينار فقال اللفظ الموافق للجماعة وفي رواية مسلم التلويح بإنكار عمرو رواية محارب بهذا اللفظ ولفظ: "إنما قال جابر تلاعبها وتلاعبك" فلو كانت الروايتان متحدتين في المعنى لما أنكر عمرو ذلك لأنه كان ممن يجيز الرواية بالمعنى، ووقع في رواية وهب بن كيسان من الزيادة "قلت كن لي أخوات فأحببت أن أتزوج امرأة تجمعهن وتمشطهن وتقوم عليهن" أي في غير ذلك من مصالحهن، وهو من العام بعد الخاص. وفي رواية عمرو عن جابر الآتية في النفقات "هلك أبي وترك سبع بنات - أو تسع بنات - فتزوجت ثيبا، كرهت أن أجيئهن بمثلهن. فقال: بارك الله لك" أو "قال خيرا" وفي رواية سفيان عن عمرو في المغازي "وترك تسع بنات كن لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تقوم عليهن وتمشطهن. قال: أصبت" وفي رواية ابن جريج عن عطاء وغيره عن جابر "فأردت أن أنكح امرأة قد جربت خلا منها، قال فذلك" وقد تقدم التوفيق بين مختلف الروايات في عدد أخوات جابر في المغازي، ولم أقف على تسميتهن. وأما امرأة جابر المذكورة فاسمها سهلة بنت مسعود بن أوس بن مالك الأنصارية الأوسية ذكره ابن سعد. قوله: "فلما ذهبنا لندخل قال: امهلوا حتى تدخلوا ليلا أي عشاء" كذا هنا، ويعارضه الحديث الآخر الآتي

(9/122)


قبل أبواب الطلاق "لا يطرق أحدكم أهله ليلا" وهو من طريق الشعبي عن جابر أيضا، ويجمع بينهما أن الذي في الباب لمن علم مجيئه والعلم بوصوله، والآتي لمن قدم بغتة. ويؤيده قوله في الطريق الأخرى "يتخونهم بذلك" وسيأتي مزيد بحث فيه هناك. وفي الحديث الحث على نكاح البكر، وقد ورد بأصرح من ذلك عند ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جده بلفظ: "عليكم بالأبكار، فإنهن أعذب أفواها وأنتق أرحاما" أي أكثر حركة، والنتق بنون ومثناة الحركة، ويقال أيضا للرمي، فلعله يريد أنها كثيرة الأولاد. وأخرج الطبراني من حديث ابن مسعود نحوه وزاد: "وأرضى باليسير" ولا يعارضه الحديث السابق، "عليكم بالولود" من جهة أن كونها بكرا لا يعرف به كونها كثيرة الولادة، فإن الجواب عن ذلك أن البكر مظنة فيكون المراد بالولود من هي كثيرة الولادة بالتجربة أو بالمظنة، وأما من جربت فظهرت عقيما وكذا الآيسة فالخبران متفقان على مرجوحيتهما. وفيه فضيلة لجابر لشفقته على أخواته وإيثاره مصلحتهن على حظ نفسه. ويؤخذ منه أنه إذا تزاحمت مصلحتان قدم أهمهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم صوب فعل جابر ودعا له لأجل ذلك. ويؤخذ منه الدعاء لمن فعل خيرا وإن لم يتعلق بالداعي. وفيه سؤال الإمام أصحابه عن أمورهم، وتفقده أحوالهم، وإرشاده إلى مصالحهم وتنبيههم على وجه المصلحة ولو كان في باب النكاح وفيما يستحيا من ذكره. وفيه مشروعية خدمة المرأة زوجها ومن كان منه بسبيل من ولد وأخ وعائلة، وأنه لا حرج على الرجل في قصده ذلك من امرأته وإن كان ذلك لا يجب عليها، لكن يؤخذ منه أن العادة جارية بذلك، فلذلك لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله في الرواية المتقدمة "خرقاء" بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها قاف، هي التي لا تعمل بيدها شيئا، وهي تأنيث الأخرق وهو الجاهل بمصلحة نفسه وغيره. قوله: "تمتشط الشعثة" بفتح المعجمة وكسر العين المهملة ثم مثلثة، أطلق عليها ذلك لأن التي يغيب زوجها في مظنة عدم التزين. قوله: "تستحد" بحاء مهملة أي تستعمل الحديدة وهي الموسى. والمغيبة بضم الميم وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم موحدة مفتوحة أي التي غاب عنها زوجها، والمراد إزالة الشعر عنها وعبر بالاستحداد لأنه الغالب استعماله في إزالة الشعر، وليس في ذلك منع إزالته بغير الموسى، والله أعلم. قوله: "تزوجت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تزوجت" ؟ هذا ظاهره أن السؤال وقع عقب تزوجه، وليس كذلك لما دل عليه سياق الحديث الذي قبله، وقد تقدم في الكلام على حديث جمل جابر في كتاب الشروط في آخره أن بين تزوجه والسؤال الذي دار بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك مدة طويلة

(9/123)


12 - باب تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنْ الْكِبَارِ
5081- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَائِشَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ فَقَالَ أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَهِيَ لِي حَلاَلٌ"
قوله: "باب تزويج الصغار من الكبار" أي السن. قوله: "عن يزيد" هو ابن أبي حبيب، وعراك بكسر المهملة وتخفيف الراء ثم كاف هو ابن مالك تابعي شهير، وعروة هو ابن الزبير. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب

(9/123)


عائشة" قال الإسماعيلي: ليس في الرواية ما ترجم به الباب، وصغر عائشة عن كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم من غير هذا الخبر، ثم الخبر الذي أورده مرسل، فإن كان يدخل مثل هذا في الصحيح فيلزمه في غيره من المراسيل. قلت: الجواب عن الأول يمكن أن يؤخذ من قول أبي بكر "إنما أنا أخوك" فإن الغالب في بنت الأخ أن تكون أصغر من عمها، وأيضا فيكفي ما ذكر في مطابقة الحديث للترجمة ولو كان معلوما من خارج. وعن الثاني أنه وإن كان صورة سياقه الإرسال فهو من رواية عروة في قصة وقعت لخالته عائشة وجده لأمه أبي بكر، فالظاهر أنه حمل ذلك عن خالته عائشة أو عن أمه أسماء بنت أبي بكر، وقد قال ابن عبد البر: إذا علم لقاء الراوي لمن أخبر عنه ولم يكن مدلسا حمل ذلك على سماعه ممن أخبر عنه ولو لم يأت بصيغة تدل على ذلك، ومن أمثلة ذلك رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة في قصة سالم مولى أبي حذيفة، قال ابن عبد البر: هذا يدخل في المسند للقاء عروة عائشة وغيرها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم وللقائه سهلة زوج أبي حذيفة أيضا. وأما الإلزام فالجواب عنه أن القصة المذكورة لا تشتمل على حكم متأصل، فوقع فيها التساهل في صريح الاتصال، فلا يلزم من ذلك إيراد جميع المراسيل في الكتاب الصحيح. نعم الجمهور على أن السياق المذكور مرسل، وقد صرح بذلك الدار قطني وأبو مسعود وأبو نعيم والحميدي. وقال ابن بطال. يجوز تزويج الصغيرة بالكبير إجماعا ولو كانت في المهد، لكن لا يمكن منها حتى تصلح للوطء، فرمز بهذا إلى أن لا فائدة للترجمة لأنه أمر مجمع عليه. قال: ويؤخذ من الحديث أن الأب يزوج البكر الصغيرة بغير استئذانها. قلت: كأنه أخذ ذلك من عدم ذكره، وليس بواضح الدلالة، بل يحتمل أن يكون ذلك قبل ورود الأمر باستئذان البكر وهو الظاهر، فإن القصة وقعت بمكة قبل الهجرة. وقول أبي بكر "إنما أنا أخوك" حصر مخصوص بالنسبة إلى تحريم نكاح بنت الأخ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الجواب "أنت أخي في دين الله وكتابه" إشارة إلى قوله تعالى :{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ونحو ذلك، وقوله: "وهي لي حلال" معناه وهي مع كونها بنت أخي يحل لي نكاحها لأن الأخوة المانعة من ذلك أخوة النسب والرضاع لا أخوة الدين. وقال مغلطاي: في صحة هذا الحديث نظر، لأن الخلة لأبي بكر إنما كانت بالمدينة، وخطبة عائشة كانت بمكة، فكيف يلتئم قوله: "إنما أنا أخوك". وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم ما باشر الخطبة بنفسه كما أخرجه ابن أبي عاصم من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خولة بنت حكيم إلى أبي بكر يخطب عائشة، فقال لها أبو بكر: وهل تصلح له؟ إنما هي بنت أخيه، فرجعت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: أرجعي فقولي له أنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: ادعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأنكحه" قلت: اعتراضه الثاني يرد الاعتراض الأول من وجهين، إذ المذكور في الحديث الأخوة وهي أخوة الدين، والذي اعترض به الخلة وهي أخص من الأخوة. ثم الذي وقع بالمدينة إنما هو قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا" الحديث الماضي في المناقب من رواية أبي سعيد، فليس فيه إثبات الخلة إلا بالقوة لا بالفعل. الوجه الثاني أن في الثاني إثبات ما نفاه في الأول، والجواب عن اعتراضه بالمباشرة إمكان الجمع بأنه خاطب بذلك بعد أن راسله

(9/124)


13- باب إِلَى مَنْ يَنْكِحُ وَأَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟
وَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطَفِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ

(9/124)


5082- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ"
قوله: "باب إلى من ينكح، وأي النساء خير؟ وما يستحب أن يتخير لنطفه من غير إيجاب" اشتملت الترجمة على ثلاثة أحكام، وتناول الأول والثاني من حديث الباب واضح، وأن الذي يريد التزويج ينبغي أن ينكح إلى قريش لأن نساءهن خير النساء وهو الحكم الثاني، وأما الثالث فيؤخذ منه بطريق اللزوم لأن من ثبت أنهن خير من غيرهن استحب تخيرهن للأولاد، وقد ورد في الحكم الثالث حديث صريح أخرجه ابن ماجة وصححه الحاكم من حديث عائشة مرفوعا: "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء" وأخرجه أبو نعيم من حديث عمر أيضا وفي إسناده مقال، ويقوى أحد الإسنادين بالآخر. قوله: "خير نساء ركبن الإبل" تقدم في أواخر أحاديث الأنبياء في ذكر مريم عليها السلام قول أبي هريرة في آخره: "ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط" فكأنه أراد إخراج مريم من هذا التفضيل لأنها لم تركب بعيرا قط، فلا يكون فيه تفضيل نساء قريش عليها، ولا يشك أن لمريم فضلا وأنها أفضل من جميع نساء قريش إن ثبت أنها نبية أو من أكثرهن إن لم تكن نبية، وقد تقدم بيان ذلك في المناقب في حديث: "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة" وأن معناها أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، ويحتمل أن لا يحتاج في إخراج مريم من هذا التفضيل إلى الاستنباط من قوله: "ركبن الإبل" لأن تفضيل الجملة لا يستلزم ثبوت كل فرد فرد منها، فإن قوله: "ركبن الإبل" إشارة إلى العرب لأنهم الذين يكثر منهم ركوب الإبل، وقد عرف أن العرب خير من غيرهم مطلقا في الجملة فيستفاد منه تفضيلهن مطلقا على نساء غيرهن مطلقا، ويمكن أن يقال أيضا: إن الظاهر أن الحديث سيق في معرض الترغيب في نكاح القرشيات، فليس فيه التعرض لمريم ولا لغيرها ممن انقضى زمنهن. قوله: "صالح نساء قريش" كذا للأكثر بالإفراد. وفي رواية غير الكشميهني: "صلح" بضم أوله وتشديد اللام بصيغة الجمع، وسيأتي في أواخر النفقات من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: "نساء قريش" والمطلق محمول على المقيد. فالمحكوم له بالخيرية الصالحات من نساء قريش لا على العموم، والمراد بالصلاح هنا صلاح الدين، وحسن المخالطة مع الزوج ونحو ذلك. قوله: "أحناه" بسكون المهملة بعدها نون: أكثره شفقة، والحانية على ولدها هي التي تقوم عليهم في حال يتمهم فلا تتزوج، فإن تزوجت فليست بحانية قاله الهروي؛ وجاء الضمير مذكرا وكان القياس أحناهن، وكأنه ذكر باعتبار اللفظ والجنس أو الشخص أو الإنسان، وجاء نحو ذلك في حديث أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنه خلقا، بالإفراد في الثاني وحديث ابن عباس في قول أبي سفيان عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بالإفراد في الثاني أيضا، قال أبو حاتم السجستاني: لا يكادون يتكلمون به إلا مفردا. قوله: "على ولده" في رواية الكشميهني: "على ولد" بلا ضمير وهو أوجه، ووقع في رواية لمسلم: "على يتيم" وفي أخرى "على طفل" والتقييد باليتم والصغر يحتمل أن يكون معتبرا من ذكر بعض أفراد العموم، لأن صفة الحنو على الولد ثابتة لها، لكن ذكرت الحالتان لكونهما أظهر في ذلك قوله: "وأرعاه على زوج" أي أحفظ وأصون لماله بالأمانة فيه والصيانة له وترك التبذير في الإنفاق. قوله: "في

(9/125)


ذات يده" أي في ماله المضاف إليه، ومنه قولهم فلان قليل ذات اليد أي قليل المال، وفي الحديث الحث على النكاح الأشراف خصوصا القرشيات، ومقتضاه أنه كلما كان نسبها أعلى تأكد الاستحباب. ويؤخذ منه اعتبار الكفاءة في النسب، وأن غير القرشيات ليس كفأ لهن، وفضل الحنو والشفقة وحسن التربية والقيام على الأولاد وحفظ مال الزوج وحسن التدبير فيه. ويؤخذ منه مشروعية إنفاق الزوج على زوجته، وسيأتي في أواخر النفقات بيان سبب هذا الحديث.

(9/126)


باب اتخاذ السراري ومن أعتق جارية ثم تزوجها
...
14- باب اتِّخَاذِ السَّرَارِيِّ وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
5083- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيُّ حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ وَأَيُّمَا مَمْلُوكٍ أَدَّى حَقَّ مَوَالِيهِ وَحَقَّ رَبِّهِ فَلَهُ أَجْرَانِ قَالَ الشَّعْبِيُّ خُذْهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ قَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَهَا ثُمَّ أَصْدَقَهَا"
5084- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ح حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلاَّ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ بَيْنَمَا إِبْرَاهِيمُ مَرَّ بِجَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَعْطَاهَا هَاجَرَ قَالَتْ كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْكَافِرِ وَأَخْدَمَنِي هآجَرَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ"
5085- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاَثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلاَ لَحْمٍ أُمِرَ بِالأَنْطَاعِ فَأَلْقَى فِيهَا مِنْ التَّمْرِ وَالأَقِطِ وَالسَّمْنِ فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَقَالُوا إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ"
قوله: "باب اتخاذ السراري" جمع سرية بضم السين وكسر الراء الثقيلة ثم تحتانية ثقيلة وقد تكسر السين أيضا سميت بذلك لأنها مشتقة من التسرر، وأصله من السر وهو من أسماء الجماع، ويقال له الاستسرار أيضا، أو أطلق عليها ذلك لأنها في الغالب يكتم أمرها عن الزوجة. والمراد بالاتخاذ الاقتناء، وقد ورد الأمر بذلك صريحا

(9/126)


في حديث أبي الدرداء مرفوعا: "عليكم بالسراري فإنهن مباركات الأرحام" أخرجه الطبراني وإسناده واه ولأحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "انكحوا أمهات الأولاد فإني أباهي بكم يوم القيامة" وإسناده أصلح من الأول. لكنه ليس بصريح في التسري. قوله: "ومن أعتق جارية ثم تزوجها" عطف هذا الحكم على الاقتناء لأنه قد يقع بعد التسري وقبله، وأول أحاديث الباب منطبق على هذا الشق الثاني. ثم ذكر في الباب ثلاثة أحاديث. حديث أبي موسى، قد تقدم شرحه في كتاب العلم. وقوله في هذه الطريق "أيما رجل كانت عنده وليدة" أي أمة، وأصلها ما ولد من الإماء في ملك الرجل، ثم أطلق ذلك على كل أمة. قوله: "فله أجران" ذكر ممن يحصل لهم تضعيف الأجر مرتين ثلاثة أصناف: متزوج الأمة بعد عتقها، ومؤمن أهل الكتاب وقد تقدم البحث فيه في كتاب العلم، والمملوك الذي يؤدي حق الله وحق مواليه وقد تقدم في العتق. ووقع في حديث أبي أمامة رفعه عند الطبراني "أربعة يؤتون أجرهم مرتين" فذكر الثلاثة كالذي هنا وزاد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم في التفسير حديث الماهر بالقرآن، والذي يقرأ وهو عليه شاق، وحديث زينب امرأة ابن مسعود في التي تتصدق على قريبها لها أجران أجر الصدقة وأجر الصلة، وقد تقدم في الزكاة. وحديث عمرو بن العاص في الحاكم إذا أصاب له أجران وسيأتي في الأحكام؛ وحديث جرير "من سن سنة حسنة" وحديث أبي هريرة "من دعا إلى هدى" وحديث أبي مسعود "من دل على خير" والثلاثة بمعنى وهن في الصحيحين. ومن ذلك حديث أبي سعيد في الذي تيمم ثم وجد الماء فأعاد الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لك الأجر مرتين" أخرجه أبو داود. وقد يحصل بمزيد التتبع أكثر من ذلك. وكل هذا دال على أن لا مفهوم للعدد المذكور في حديث أبي موسى. وفيه دليل على مزيد فضل من أعتق أمته ثم تزوجها سواء أعتقها ابتداء لله أو لسبب. وقد بالغ قوم فكرهوه فكأنهم لم يبلغهم الخبر، فمن ذلك ما وقع في رواية هشيم عن صالح بن صالح الراوي المذكور وفيه قال: "رأيت رجلا من أهل خراسان سأل الشعبي فقال: إن من قبلنا من أهل خراسان يقولون في الرجل إذا أعتق أمته ثم تزوجها فهو كالراكب بدنته. فقال الشعبي" فذكر هذا الحديث. وأخرج الطبراني بإسناد رجاله ثقات عن ابن مسعود أنه كان يقول ذلك. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر مثله: وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أنس أنه سئل عنه فقال: "إذا أعتق أمته لله فلا يعود فيها" ومن طريق سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي أنهما كرها ذلك. وأخرج أيضا من طريق عطاء والحسن أنهما كانا لا يريان بذلك بأسا. قوله: "وقال أبو بكر" هو ابن عياش بتحتانية وآخره معجمة، وأبو حصين هو عثمان بن عاصم "عن أبي بردة" هو ابن أبي موسى. وهذا الإسناد مسلسل بالكوفيين وبالكنى. قوله: "عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها ثم أصدقها" كأنه أشار بهذه الرواية إلى أن المراد بالتزويج في الرواية الأخرى أن يقع بمهر جديد سوى العتق، لا كما وقع في قصة صفية كما سيأتي في الباب الذي بعده، فأفادت هذه الطريق ثبوت الصداق، فإنه لم يقع التصريح به في الطريق الأولى بل ظاهرها أن يكون العتق نفس المهر. وقد وصل طريق أبي بكر بن عياش هذه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه فقال: "حدثنا أبو بكر الخياط" فذكره بإسناده بلفظ: "إذا أعتق الرجل أمته ثم أمهرها مهرا جديدا كان له أجران، وكأن أبا بكر كان يتعانى الخياطة في وقت، وهو أحد الحفاظ المشهورين في الحديث، والقراء المذكورين في القراءة، وأحد الرواة عن عاصم وله اختيار. وقد احتج به البخاري ووصله من طريقه أيضا الحسن بن سفيان وأبو بكر البزار في مسنديهما عنه، وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن

(9/127)


ولفظه عنده "ثم تزوجها بمهر جديد" وكذا أخرجه يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده عن أبي بكر بهذا اللفظ، ولم يقع لابن حزم إلا من رواية الحماني فضعف هذه الزيادة به ولم يصب. وذكر أبو نعيم أن أبا بكر تفرد بها عن أبي حصين، وذكر الإسماعيلي أن فيه اضطرابا على أبي بكر بن عياش، كأنه عنى في سياق المتن لا في الإسناد، وليس ذلك الاختلاف اضطرابا لأنه يرجع إلى معنى واحد وهو ذكر المهر، واستدل به على أن عتق الأمة لا يكون نفس الصداق، ولا دلالة فيه، بل هو شرط لما يترتب عليه الأجران المذكوران، وليس قيدا في الجواز. "تنبيه": وقع في رواية أبي زيد المروزي "عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى" والصواب ما عند الجماعة "عن أبيه أبي موسى" بحذف عن التي قبل أبي موسى. قوله: "حدثنا سعد بن تليد" بفتح المثناة وكسر اللام الخفيفة وسكون التحتانية بعدها مهملة، مصري مشهور، وكذا شيخه، وبقية الإسناد إلى أبي هريرة من أهل البصرة، ومحمد هو ابن سيرين. وقوله في الرواية الثانية "عن أيوب عن محمد" كذا للأكثر، ووقع لأبي ذر بدله "عن مجاهد" وهو خطأ، وقد تقدم في أحاديث الأنبياء "عن محمد بن محبوب عن حماد بن زيد" على الصواب لكنه ساقه هناك موقوفا، واختلف هنا الرواة: فوقع في رواية كريمة والنسفي موقوفا أيضا، ولغيرهما مرفوعا، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه موقوفا، وكذا ذكر أبو نعيم أنه وقع هنا للبخاري موقوفا، وبذلك جزم الحميدي، وأظنه الصواب في رواية حماد عن أيوب، وأن ذلك هو السر في إيراد رواية جرير بن حازم مع كونها نازلة، ولكن الحديث في الأصل ثابت الرفع، لكن ابن سيرين كان يقف كثيرا من حديثه تخفيفا. وأغرب المزي فعزا رواية حماد هذه هنا إلى رواية ابن رميح عن الفربري، وغفل عن ثبوتها في رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما من الرواة من طريق الفربري حتى في رواية أبي الوقت، وهي ثابتة أيضا في رواية النسفي. فما أدرى ما وجه تخصيص ذلك برواية ابن رميح. قوله: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات الحديث "ساقه مختصرا هنا، وقد تقدم شرحه مستوفى في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، قال ابن المنير: مطابقة حديث هاجر للترجمة أنها كانت مملوكة، وقد صح أن إبراهيم أولدها بعد أن ملكها فهي سرية. قلت: إن أراد أن ذلك وقع صريحا في الصحيح فليس بصحيح، وإنما الذي في الصحيح أن سارة ملكتها وأن إبراهيم أولدها إسماعيل، وكونه ما كان بالذي يستولد أمة امرأته إلا بملك مأخوذ من خارج الحديث غير الذي في الصحيح، وقد ساقه أبو يعلي في مسنده من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة في هذا الحديث قال في آخره: "فاستوهبها إبراهيم من سارة، فوهبتها له" ووقع في حديث حارثة بن مضرب عن علي عند الفاكهي "إن إبراهيم استوهب هاجر من سارة فوهبتها له وشرطت عليه أن لا يسرها فالتزم ذلك، ثم غارت منها فكان ذلك السبب في تحويلها مع ابنها إلى مكة" وقد تقدم شيء من ذلك في أحاديث الأنبياء. حديث أنس قال: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاثا" الحديث، وفيه "فقال المسلمون إحدى أمهات المؤمنين، أو مما ملكت يمينه" ووقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند مسلم: "فقال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد" وشاهد الترجمة منه تردد الصحابة في صفية هل هي زوجة أو سرية فيطابق أحد ركني الترجمة، قال بعض الشراح: دل تردد الصحابة في صفية هل هي زوجة أو سرية على أن عتقها لم يكن نفس الصداق، كذا قال: وهو متعقب بأن التردد إنما كان في أول الحال ثم ظهر بعد ذلك أنها زوجة، وليس فيه دلالة لما ذكر. واستدل به على صحة النكاح بغير

(9/128)


شهود لأنه لو حضر في تزويج صفية شهود لما خفي عن الصحابة حتى يترددوا، ولا دلالة فيه أيضا لاحتمال أن الذين حضروا التزويج غير الذين ترددوا، وعلى تسليم أن يكون الجميع ترددوا فذلك مذكور من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يتزوج بلا ولي ولا شهود كما وقع في قصة زينب بنت جحش، وقد سبق شرح أول الحديث في غزوة خيبر من كتاب المغازي، ويأتي ما يتعلق بالعتق في الذي بعده

(9/129)


15- باب مَنْ جَعَلَ عِتْقَ الأَمَةِ صَدَاقَهَا
5086- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ وَشُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا"
قوله: "باب من جعل عتق الأمة صداقها" كذا أورده غير جازم بالحكم، وقد أخذ بظاهره من القدماء سعيد بن المسيب وإبراهيم وطاوس والزهري، ومن فقهاء الأمصار الثوري وأبو يوسف وأحمد وإسحاق، قالوا إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها صح العقد والعتق والمهر على ظاهر الحديث. وأجاب الباقون عن ظاهر الحديث بأجوبة أقربها أي لفظ الحديث أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها فوجبت له عليها قيمتها وكانت معلومة فتزوجها بها. ويؤيده قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب "سمعت أنسا قال: سبى النبي صلى الله عليه وسلم صفية فأعتقها وتزوجها. فقال ثابت لأنس: ما أصدقها قال نفسها، فأعتقها" هكذا أخرجه المصنف في المغازي. وفي رواية حماد عن ثابت وعبد العزيز عن أنس في حديث: "قال وصارت صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها، فقال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد، أنت سألت أنسا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها. فتبسم. فهو ظاهر جدا في أن المجهول مهرا هو نفس العتق، فالتأويل الأول لا بأس به، فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد حتى لو كانت القيمة مجهولة، فإن في صحة العقد بالشرط المذكور وجها عند الشافعية. وقال آخرون: بل جعل نفس العتق المهر، ولكنه من خصائصه وممن جزم بذلك الماوردي. وقال آخرون: قوله:" أعتقها وتزوجها، معناه أعتقها ثم تزوجها، فلما لم يعلم أنه ساق لها صداقا قال أصدقها نفسها، أي لم يصدقها شيئا فيما أعلم، ولم ينف أصل الصداق، ومن ثم قال أبو الطيب الطبري من الشافعية وابن المرابط من المالكية ومن تبغهما: أنه قول أنس، قاله ظنا من قبل نفسه ولم يرفعه. وربما تأيد ذلك عندهم بما أخرجه البيهقي من حديث أميمة - ويقال أمة الله - بنت رزينة عن أمها "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وخطبها وتزوجها وأمهرها رزينة، وكان أتى بها مسبية من قريظة والنضير" وهذا لا يقوم به حجة لضعف إسناده، ويعارضه ما أخرجه الطبراني وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها قالت: "أعتقني النبي صلى الله عليه وسلم وحصل عتقي صداقي" وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال إن أنسا قال ذلك بناء على ما ظنه. وقد خالف هذا الحديث أيضا ما عليه كافة أهل السير أن صفية من سبى خيبر. ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها بغير مهر فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم غيره. وقيل يحتمل أنه أعتقها بغير عوض وتزوجها بغير مهر في الحال ولا في المال، قال ابن الصلاح: معناه أن العتق يحل محل الصداق وإن لم يكن صداقا، قال: وهذا كقولهم "الجوع زاد من لا زاد له" قال وهذا الوجه أصح الأوجه وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه النووي في "الروضة". ومن المستغربات قول الترمذي بعد أن أخرج الحديث: وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق،

(9/129)


قال: وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقها صداقها حتى يجعل لها مهرا سوى العتق، والقول الأول أصح. وكذا نقل ابن حزم عن الشافعي. والمعروف عند الشافعية أن ذلك لا يصح، لكن لعل مراد من نقله عنه صورة الاحتمال الأول، ولا سيما نص الشافعي على أن من أعتق أمته على أن يتزوجها فقبلت عتقت ولم يلزمها أن تتزوج به، لكن يلزمها له قيمتها، لأنه لم يرض بعتقها مجانا فصار كسائر الشروط الفاسدة، فإن رضيت وتزوجته على مهر يتفقان عليه كان لها ذلك المسمى وعليها له قيمتها. فإن اتحدا تقاصا. وممن قال بقول أحمد من الشافعية ابن حبان صرح بذلك في صحيحه، قال ابن دقيق العيد: الظاهر مع أحمد ومن وافقه، والقياس مع الآخرين؛ فيتردد الحال بين ظن نشأ عن قياس وبين ظن نشأ عن ظاهر الخبر مع ما تحتمله الواقعة من الخصوصية، وهي وإن كانت على خلاف الأصل لكن يتقوى ذلك بكثرة خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح، وخصوصا خصوصيته بتزويج الواهبة من قوله تعالى :{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية. وممن جزم بأن ذلك كان من الخصائص يحيى بن أكثم فيما أخرجه البيهقي قال: وكذا نقله المزني عن الشافعي. قال: وموضع الخصوصية أنه أعتقها مطلقا وتزوجها بغير مهر ولا ولي ولا شهود، وهذا بخلاف غيره. وقد أخرج عبد الرزاق جواز ذلك عن علي وجماعة من التابعين. ومن طريق إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون أن يعتق أمته ثم يتزوجها، ولا يرون بأسا أن يجعل عتقها صداقها. وقال القرطبي: منع من ذلك مالك وأبو حنيفة لاستحالته، وتقرر استحالته بوجهين: أحدهما أن عقدها على نفسها إما أن يقع قبل عتقها وهو محال لتناقض الحكمين الحرية والرق، فإن الحرية حكمها الاستقلال والرق ضده، وأما بعد العتق فلزوال حكم الجبر عنها بالعتق، فيجوز أن لا ترضي وحينئذ لا تنكح إلا برضاها. الوجه الثاني أنا إذا جعلنا العتق صداقا فإما أن يتقرر العتق حالة الرق وهو محال لتناقضهما، أو حالة الحرية فيلزم أسبقيته على العقد، فيلزم وجود العتق حالة فرض عدمه وهو محال، لأن الصداق لا بد أن يتقدم تقرره على الزوج إما نصا وإما حكما حتى تملك الزوجة طلبه. فإن اعتلوا بنكاح التفويض فقد تحرزنا عنه بقولنا حكما، فإنها وإن لم يتعين لها حالة العقد شيء لكنها تملك المطالبة فثبت أنه يثبت لها حالة العقد شيء تطالب به الزوج، ولا يتأتى مثل ذلك في العتق فاستحال أن يكون صداقا. وتعقب ما ادعاه من الاستحالة بجواز تعليق الصداق على شرط إذا وجد استحقته المرأة كأن يقول تزوجتك على ما سيستحق لي عند فلان وهو كذا، فإذا حل المال الذي وقع العقد عليه استحقته. وقد أخرج الطحاوي من طريق نافع عن ابن عمر في قصة جويرية بنت الحارث "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عتقها صداقها" وهو مما يتأيد به حديث أنس، لكن أخرج أبو داود من طريق عروة عن عائشة في قصة جويرية "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها لما جاءت تستعين به في كتابتها: هل لك أن أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؟ قالت: قد فعلت" وقد استشكله ابن حزم بأنه يلزم منه إن كان أدى عنها كتابتها أن يصير ولاؤها لمكاتبها. وأجيب بأنه ليس في الحديث التصريح بذلك، لأن معنى قولها "قد فعلت" رضيت، فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عوض ثابت بن قيس عنها فصارت له فأعتقها وتزوجها كما صنع في قصة صفية، أو يكون ثابت لما بلغته رغبة النبي صلى الله عليه وسلم وهبها له، وفي الحديث: للسيد تزويج أمته إذا أعتقها من نفسه ولا يحتاج إلى ولي ولا حاكم. وفيه اختلاف يأتي في "باب إذا كان الولي هو الخاطب" بعد نيف وعشرين بابا. قال ابن الجوزي: فإن قيل ثواب العتق عظيم، فكيف فوته حيث جعله مهرا؟ وكان يمكن جعل المهر غيره، فالجواب أن صفية بنت ملك، ومثلها لا يقنع إلا بالمهر الكثير،

(9/130)


ولم يكن عنده صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ما يرضيها به، ولم ير أن يقتصر، فجعل صداقها نفسها، وذلك عندها أشرف من المال الكثير

(9/131)


15 -باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
5087- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا فَقَالَ وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي قَالَ سَهْلٌ مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّيًا فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عَدَّدَهَا فَقَالَ تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب تزويج المعسر" تقدم في أوائل كتاب النكاح "باب تزويج المعسر الذي معه القرآن والإسلام، وهذه الترجمة أخص من تلك، وعلق هناك حديث سهل الذي أورده في هذا الباب مبسوطا، وسيأتي شرحه بعد ثلاثين بابا. قوله: "لقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} هو تعليل لحكم الترجمة، ومحصله أن الفقر في الحال لا يمنع التزويج، لاحتمال حصول المال في المآل، والله أعلم

(9/131)


17- باب الأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}
5088- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ كَمَا تَبَنَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ:

(9/131)


18- باب الأَكْفَاءِ فِي الْمَالِ وَتَزْوِيجِ الْمُقِلِّ الْمُثْرِيَةَ
5092- حدثني يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب قال أخبرني عروة أنه ثم سأل عائشة رضي الله عنها {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قالت يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينتقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال

(9/136)


الصداق وامروا بنكاح من سواهن قالت واستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فأنزل الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ونسبها في إكمال الصداق وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها وأخذوا غيرها من النساء يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق"
قوله: "باب الأكفاء في المال، وتزوج المقل المثرية" أما اعتبار الكفاءة بالمال فمختلف فيه عند من يشترط الكفاءة، والأشهر عند الشافعية أنه لا يعتبر، ونقل صاحب "الإفصاح" عن الشافعي أنه قال: الكفاءة في الدين والمال والنسب. وجزم باعتباره أبو الطيب والصيمري وجماعة. واعتبره الماوردي في أهل الأمصار، وخص الخلاف بأهل البوادي والقرى المتفاخرين بالنسب دون المال. وأما المثرية فبضم الميم وسكون المثلثة وكسر الراء وفتح التحتانية هي التي لها ثراء بفتح أوله والمد وهو الغني، ويؤخذ ذلك من حديث عائشة الذي في الباب من عموم التقسيم فيه لاشتماله على المثري والمقل من الرجال والمثرية والمقلة من النساء فدل على جواز ذلك، ولكنه لا يرد على من يشترطه لاحتمال إضمار رضا المرأة ورضا الأولياء، وقد تقدم شرح الحديث في تفسير سورة النساء، ومضى من وجه آخر في أوائل النكاح، واستدل به على أن للولي أن يزوج محجورته من نفسه، وسيأتي البحث فيه قريبا. وفيه أن للولي حقا في التزويج لأن الله خاطب الأولياء بذلك، والله أعلم

(9/137)


19- باب مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ الْمَرْأَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}
5093- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ وَسَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ"
5094- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ذَكَرُوا الشُّؤْمَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ"
5095- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَسْكَنِ"
5096- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرجال من النساء"
قوله: "باب ما يتقى من شؤم المرأة" الشؤم بضم المعجمة بعدها واو ساكنة وقد تهمز وهو ضد اليمن، يقال تشاءمت بكذا وتيمنت بكذا. قوله: "وقوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} كأنه يشير إلى اختصاص

(9/137)


الشؤم ببعض النساء دون بعض مما دلت عليه الآية من التبعيض، وذكر في الباب حديث ابن عمر من وجهين وحديث سهل من وجه آخر وقد تقدم شرحهما مبسوطا في كتاب الجهاد. وقد جاء في بعض الأحاديث ما لعله يفسر ذلك وهو ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم من حديث سعد مرفوعا: "من سعادة ابن آدم ثلاثة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح. ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء" وفي رواية لابن حبان: "المركب الهني، والمسكن الواسع" وفي رواية للحاكم "وثلاثة من الشقاء: المرأة تراها فتسوؤك وتحمل لسانها عليك، والدابة تكون قطوفا فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحق أصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق". وللطبراني من حديث أسماء "إن من شقاء المرء في الدنيا سوء الدار والمرأة والدابة" وفيه سوء الدار ضيق مساحتها وخبث جيرانها وسوء الدابة منعها ظهرها وسوء طبعها، وسوء المرأة عقم رحمها وسوء خلقها. قوله: "عن أسامة بن زيد" زاد مسلم من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه مع أسامة سعيد بن زيد، وقد قال الترمذي لا نعلم أحدا قال فيه: "عن سعيد بن زيد" غير معتمر بن سليمان. قوله: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" قال الشيخ تقي الدين السبكي: في إيراد البخاري هذا الحديث عقب حديثي ابن عمر وسهل بعد ذكر الآية في الترجمة إشارة إلى تخصيص الشؤم بمن تحصل منها العداوة والفتنة، لا كما يفهمه بعض الناس من التشاؤم بكعبها أو أن لها تأثيرا في ذلك، وهو شيء لا يقول به أحد من العلماء، ومن قال إنها سبب في ذلك فهو جاهل، وقد أطلق الشارع على من ينسب المطر إلى النوء الكفر فكيف بمن ينسب ما يقع من الشر إلى المرأة مما ليس لها فيه مدخل، وإنما يتفق موافقة قضاء وقدر فتنفر النفس من ذلك، فمن وقع له ذلك فلا يضره أن يتركها من غير أن يعتقد نسبة الفعل إليها. قلت: وقد تقدم تقرير ذلك في كتاب الجهاد، وفي الحديث أن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن، ويشهد له قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} فجعلهن من حب الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك، ويقع في المشاهدة حب الرجل ولد من امرأته التي هي عنده أكثر من حبه ولده من غيرها، ومن أمثلة ذلك قصة النعمان بن بشير في الهبة، وقد قال بعض الحكماء: النساء شر كلهن وأشر ما فيهن عدم الاستغناء عنهن ومع أنها ناقصة العقل والدين تحمل الرجل على تعاطي ما فيه نقص العقل والدين كشغله عن طلب أمور الدين وحمله على التهالك على طلب الدنيا وذلك أشد الفساد وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد في أثناء حديث : "واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.

(9/138)


20 - باب الْحُرَّةِ تَحْتَ الْعَبْدِ
5097- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاَثُ سُنَنٍ عَتَقَتْ فَخُيِّرَتْ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُرْمَةٌ عَلَى النَّارِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فَقِيلَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ قَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ"

(9/138)


قوله: "باب الحرة تحت العبد" أي جواز تزويج العبد الحرة إن رضيت به، وأورد فيه طرفا من قصة بريرة حيث خيرت حين عتقت، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الطلاق، وهو مصير من المصنف إلى أن زوج بريرة حين عتقت كان عبدا، وسيأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى.

(9/139)


21- باب لاَ يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَم: يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلاَثَ أَوْ رُبَاعَ
وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلاَثَ أَوْ رُبَاعَ
5098- حدثنا محمد أخبرنا عبدة عن هشام عن أبيه" عن عائشة {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}
قالت :هي اليتيمة تكون عند الرجل وهو وليها فيتزوجها على مالها ويسيء صحبتها ولا يعدل في مالها فليزوج ما طاب له من النساء سواها مثنى وثلاث ورباع"
قوله: "باب لا يتزوج أكثر من أربع لقوله تعالى :{مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} أما حكم الترجمة فبالإجماع، إلا قول من لا يعتد بخلافه من رافضي ونحوه، وأما انتزاعه من الآية فلأن الظاهر منها التخيير بين الأعداد المذكورة بدليل قوله تعالى في الآية نفسها {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ولأن من قال جاء القوم مثنى وثلاث ورباع أراد أنهم جاءوا اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فالمراد تبيين حقيقة مجيئهم وأنهم لم يجيئوا جملة ولا فرادى، وعلى هذا فمعنى الآية انكحوا اثنتين اثنتين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فالمراد الجميع لا المجموع، ولو أريد مجموع العدد المذكور لكان قوله مثلا تسعا أرشق وأبلغ، وأيضا فإن لفظ: "مثنى" معدول عن اثنين اثنين كما تقدم تقريره في تفسير سورة النساء، فدل إيراده أن المراد التخيير بين الأعداد المذكورة، واحتجاجهم بأن الواو للجمع لا يفيد مع وجود القرينة الدالة على عدم الجمع، وبكونه صلى الله عليه وسلم جمع بين تسع معارض بأمره صلى الله عليه وسلم من أسلم على أكثر من أربع بمفارقة من زاد على الأربع، وقد وقع ذلك لغيلان بن سلمة وغيره كما خرج في كتب السنن فدل على خصوصيته صلى الله عليه وسلم بذلك، وقوله :{أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} تقدم الكلام عليه في تفسير فاطر، وهو ظاهر في أن المراد به تنويع الأعداد لا أن لكل واحد من الملائكة مجموع العدد المذكور. قوله: "وقال علي بن الحسين" أي ابن علي بن أبي طالب "يعني مثنى أو ثلاث أو رباع" أراد أن الواو بمعنى أو، فهي للتنوع، أو هي عاطفة على العامل والتقدير فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وانكحوا ما طاب من النساء ثلاث إلخ، وهذا من أحسن الأدلة في الرد على الرافضة لكونه من تفسير زين العابدين وهو من أئمتهم الذين يرجعون إلى قولهم ويعتقدون عصمتهم. ثم ساق المصنف طرفا من حديث عائشة في تفسير قوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وقد سبق قبل هذا بباب أتم سياقا من الذي هنا وبالله التوفيق

(9/139)


باب (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
...
22- باب {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ"
5099- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ

(9/139)


23- باب مَنْ قَالَ لاَ رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ
5102- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَشْعَثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فَقَالَتْ إِنَّهُ أَخِي فَقَالَ انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ"
قوله: "باب من قال لا رضاع بعد حولين، لقوله عز وجل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أشار بهذا إلى قول الحنفية إن أقصى مدة الرضاع ثلاثون شهرا وحجتهم قوله تعالى :{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} أي المدة المذكورة لكل من الحمل والفصال، وهذا تأويل غريب. والمشهور عند الجمهور أنها تقدير مدة أقل الحمل وأكثر مدة الرضاع، وإلى ذلك صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ويؤيد ذلك أن أبا حنيفة لا يقول إن أقصى الحمل سنتان ونصف. وعند المالكية رواية توافق قول الحنفية لكن منزعهم في ذلك أنه يغتفر بعد الحولين مدة يدمن الطفل فيها على الفطام، لأن العادة أن الصبي لا يفطم دفعة واحدة بل على التدريج في أيام قليلات، فللأيام التي يحاول فيها فطامه حكم الحولين. ثم اختلفوا في تقدير تلك المدة قيل يغتفر نصف سنة، وقيل شهران، وقيل شهر ونحوه، وقيل أيام يسيرة، وقيل شهر، وقيل لا يزاد على الحولين وهي رواية ابن وهب عن مالك وبه قال الجمهور ومن حجتهم حديث ابن عباس رفعه: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" أخرجه الدار قطني. وقال: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. وأخرجه ابن عدي. وقال غير الهيثم يوقفه على ابن عباس وهو المحفوظ، وعندهم متى وقع الرضاع بعد الحولين ولو بلحظة لم يترتب عليه حكم، وعند الشافعية لو ابتدأ الوضع في أثناء الشهر جبر المنكسر من شهر آخر ثلاثين يوما. وقال زفر: يستمر إلى ثلاث سنسن إذا كان يجتزئ باللبن ولا يجتزئ بالطعام، وحكى ابن عبد البر عنه أنه يشترط مع ذلك أن يكون يجتزئ باللبن، وحكى عن الأوزاعي مثله لكن قال. بشرط أن لا يفطم، فمتى فطم ولو قبل الحولين فما رضع بعده لا يكون رضاعا. قوله: "وما يحرم من قليل الرضاع وكثيره" هذا مصير منه إلى التمسك بالعموم الوارد في الأخبار مثل حديث الباب وغيره، وهذا قول مالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث، وهو المشهور عند أحمد. وذهب آخرون إلى أن الذي يحرم ما زاد على الرضعة الواحدة. ثم اختلفوا فجاء عن عائشة عشر رضعات أخرجه مالك في "الموطأ"، وعن حفصة كذلك، وجاء عن عائشة أيضا سبع رضعات أخرجه ابن أبي خيثمة بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير عنها،

(9/146)


وعبد الرزاق من طريق عروة" كانت عائشة تقول لا يحرم دون سبع رضعات أو خمس رضعات "وجاء عن عائشة أيضا خمس رضعات، فعند مسلم عنها" كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نسخت بخمس رضعات معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ: {وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عنها قالت: لا يحرم دون خمس رضعات معلومات، وإلى هذا ذهب الشافعي، وهي رواية عن أحمد. وقال به ابن حزم، وذهب أحمد في رواية وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر وداود وأتباعه - إلا ابن حزم - إلى أن الذي يحرم ثلاث رضعات لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة والرضعتان" فإن مفهومه أن الثلاث تحرم، وأغرب القرطبي. فقال: لم يقل به إلا داود. ويخرج مما أخرجه البيهقي عن زيد بن ثابت بإسناد صحيح أنه يقول لا تحرم الرضعة والرضعتان والثلاث، وأن الأربع هي التي تحرم. والثابت من الأحاديث حديث عائشة في الخمس، وأما حديث: "لا تحرم الرضعة والرضعتان" فلعله مثال لما دون الخمس، وإلا فالتحريم بالثلاث فما فوقها إنما يؤخذ من الحديث بالمفهوم، وقد عارضه مفهوم الحديث الآخر المخرج عند مسلم وهو الخمس، فمفهوم "لا تحرم المصة ولا المصتان" أن الثلاث تحرم، ومفهوم خمس رضعات أن الذي دون الأربع لا يحرم فتعارضا، فيرجع إلى الترجيح بين المفهومين، وحديث الخمس جاء من طرق صحيحة، وحديث المصتان جاء أيضا من طرق صحيحة، لكن قد قال بعضهم إنه مضطرب لأنه اختلف فيه هل هو عن عائشة أو عن الزبير أو عن ابن الزبير أو عن أم الفضل، لكن لم يقدح الاضطراب عند مسلم فأخرجه من حديث أم الفضل زوج العباس "أن رجلا من بني عامر قال: يا رسول الله هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال لا" وفي رواية له عنها "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ولا المصة ولا المصتان" قال القرطبي: هو أنص ما في الباب، إلا أنه يمكن حمله على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضيع، وقوى مذهب الجمهور بأن الأخبار اختلفت في العدد، وعائشة التي روت ذلك قد اختلف عليها فيما يعتبر من ذلك فوجب الرجوع إلى أقل ما ينطلق عليه الاسم، ويعضده من حيث النظر أنه معنى طارئ يقتضي تأييد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر، أو يقال مائع يلج الباطن فيحرم فلا يشترط فيه العدد كالمني، والله أعلم. وأيضا فقول عائشة "عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ: {لا ينتهض للاحتجاج على الأصح من قولي الأصوليين، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والراوي روى هذا على أنه قرآن لا خبر فلم يثبت كونه قرآنا ولا ذكر الراوي أنه خبر ليقبل قوله فيه، والله أعلم. قوله:" عن الأشعث" هو ابن أبي الشعثاء واسمه سليم بن الأسود المحاربي الكوفي. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل" لم أقف على اسمه وأظنه ابنا لأبي القعيس، وغلط من قال هو عبد الله بن يزيد رضيع عائشة لأن عبد الله هذا تابعي باتفاق الأئمة، وكأن أمه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم فولدته فلهذا قيل له رضيع عائشة. قوله: "فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك" كذا فيه، ووقع في رواية مسلم من طريق أبي الأحوص عن أشعث "وعندي رجل قاعد فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه" وفي رواية أبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة "فشق ذلك عليه وتغير وجهه" وتقدم من رواية سفيان الماضية في الشهادات "فقال: يا عائشة من هذا" ؟. قوله: "فقالت إنه أخي" في رواية غندر عن شعبة "إنه أخي من الرضاعة" أخرجه الإسماعيلي، وقد أخرجه أحمد عن غندر بدونها، وتقدم في الشهادات من طريق سفيان الثوري عن أشعث فذكرها، وكذا ذكرها أبو داود في روايته من طريق شعبة وسفيان جميعا عن الأشعث. قوله: "انظرن ما إخوانكن" في رواية الكشميهني: "من إخوانكن" وهي

(9/147)


أوجه، والمعنى تأملن ما وقع من ذلك هل هو رضاع صحيح بشرطه: من وقوعه في زمن الرضاعة، ومقدار الارتضاع فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط. قال المهلب: معناه انظرن ما سبب هذه الأخوة، فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسد الرضاعة المجاعة. وقال أبو عبيد: معناه أن الذي جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع. قوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة" فيه تعليل الباعث على إمعان النظر والفكر، لأن الرضاعة تثبت النسب وتجعل الرضيع محرما. وقوله: "من المجاعة" أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلا لسد اللبن جوعته، لأن معتده ضعيفة يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة أو المطعمة من المجاعة، كقوله تعالى:{أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} ومن شواهده حديث ابن مسعود "لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم" أخرجه أبو داود مرفوعا وموقوفا، وحديث أم سلمة "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء" أخرجه الترمذي وصححه. ويمكن أن يستدل به على أن الرضعة الواحدة لا تحرم لأنها لا تغني من جوع، وإذا كان يحتاج إلى تقدير فأولى ما يؤخذ به ما قدرته الشريعة وهو خمس رضعات، واستدل به على أن التغذية بلبن المرضعة يحرم سواء كان بشرب أم أكل بأي صفة كان، حتى الوجور والسعوط والثرد والطبخ وغير ذلك إذا وقع ذلك بالشرط المذكور من العدد لأن ذلك يطرد الجوع، وهو موجود في جميع ما ذكر فيوافق الخبر والمعنى وبهذا قال الجمهور. لكن استثنى الحنفية الحقنة وخالف في ذلك الليث وأهل الظاهر فقالوا إن الرضاعة المحرمة إنما تكون بالتقام الثدي ومص اللبن منه، وأورد على ابن حزم أنه يلزم على قولهم إشكال في التقام سالم ثدي سهلة وهي أجنبية منه، فإن عياضا أجاب عن الإشكال باحتمال أنها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها، قال النووي: وهو احتمال حسن، لكنه لا يفيد ابن حزم، لأنه لا يكتفي في الرضاع إلا بالتقام الثدي، لكن أجاب النووي بأنه عفي عن ذلك للحاجة. وأما ابن حزم فاستدل بقصة سالم على جواز مس الأجنبي ثدي الأجنبية والتقام ثديها إذا أراد أن يرتضع منها مطلقا؛ واستدل به على أن الرضاعة إنما تعتبر في حال الصغر لأنها الحال الذي يمكن طرد الجوع فيها باللبن بخلاف حال الكبر، وضابط ذلك تمام الحولين كما تقدم في الترجمة، وعليه دل حديث ابن عباس المذكور وحديث أم سلمة "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام" وصححه الترمذي وابن حبان، قال القرطبي: في قوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة" تثبيت قاعدة كلية صريحة في اعتبار الرضاع في الزمن الذي يستغنى به الرضيع عن الطعام باللبن، ويعتضد بقوله تعالى :{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فأنه يدل على أن هذه المدة أقصى مدة الرضاع المحتاج إليه عادة المعتبر شرعا، فما زاد عليه لا يحتاج إليه عادة فلا يعتبر شرعا، إذ لا حكم للنادر وفي اعتبار إرضاع الكبير انتهاك حرمة المرأة بارتضاع الأجنبي منها لاطلاعه على عورتها ولو بالتقامه ثديها. قلت: وهذا الأخير على الغالب وعلى مذهب من يشترط التقام الثدي، وقد تقدم قبل خمسة أبواب أن عائشة كانت لا تفرق في حكم الرضاع بين حال الصغر والكبر، وقد استشكل ذلك مع كون هذا الحديث من روايتها واحتجت هي بقصة سالم موالي أبي حذيفة فلعلها فهمت من قوله: "إنما الرضاعة من المجاعة اعتبار مقدار ما يسد الجوعة من لبن المرضعة لمن يرتضع منها، وذلك أعم من أن يكون المرتضع صغيرا أو كبيرا فلا يكون الحديث نصا في منع اعتبار رضاع الكبير، وحديث ابن عباس مع تقدير ثبوته ليس نصا في ذلك ولا حديث أم سلمة

(9/148)


لجواز أن يكون المراد أن الرضاع بعد الفطام ممنوع، ثم لو وقع رتب عليه حكم التحريم، فما في الأحاديث المذكورة ما يدفع هذا الاحتمال، فلهذا عملت عائشة بذلك، وحكاه النووي تبعا لابن الصباغ وغيره عن داود. وفيه نظر. وكذا نقل القرطبي عن داود أن رضاع الكبير يفيد رفع الاحتجاب منه، ومال إلى هذا القول ابن المواز من المالكية. وفي نسبة لداود نظر فإن ابن حزم ذكر عن داود أنه مع الجمهور، وكذا نقل غيره من أهل الظاهر وهم أخبر بمذهب صاحبهم، وإنما الذي نصر مذهب عائشة هذا وبالغ في ذلك هو ابن حزم ونقله عن علي، وهو من رواية الحارث الأعور عنه، ولذلك ضعفه ابن عبد البر. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: قال رجل لعطاء أن امرأة سقتني من لبنها بعدما كبرت أفأنكحها؟ قال: لا. قال ابن جريج: فقلت له: هذا رأيك؟ قال: نعم. كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها، وهو قول الليث بن سعد. وقال ابن عبد البر: لم يختلف عنه في ذلك. قلت: وذكر الطبري في" تهذيب الآثار" في مسند على هذه المسألة وساق بإسناده الصحيح عن حفصة مثل قول عائشة، وهو مما يخص به عموم قول أم سلمة "أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحدا" أخرجه مسلم وغيره، ونقله الطبري أيضا عن عبد الله بن الزبير والقاسم بن محمد وعروة في آخرين، وفيه تعقب على القرطبي حيث خص الجواز بعد عائشة بداود، وذهب الجمهور إلى اعتبار الصغر في الرضاع المحرم وقد تقدم ضبطه، وأجابوا عن قصة سالم بأجوبة: منها أنه حكم منسوخ وبه جزم المحب الطبري في أحكامه، وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة فدل على تأخرها، وهو مستند ضعيف إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ولا صغره أن لا يكون ما رواه متقدما، وأيضا ففي سياق قصة سالم ما يشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين لقول امرأة أبي حذيفة في بعض طرقه حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت أنه رجل كبير" وفي رواية لمسلم قالت: "إنه ذو لحية، قال: أرضعيه" وهذا يشعر بأنها كانت تعرف أن الصغر معتبر في الرضاع المحرم. ومنها دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة، والأصل فيه قول أم سلمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة، وقرره ابن الصباغ وغيره بأن أصل قصة سالم ما كان وقع من التبني الذي أدى إلى اختلاط سالم بسهلة، فلما نزل الاحتجاب ومنعوا من التبني شق ذلك على سهلة فوقع الترخيص لها في ذلك لرفع ما حصل لها من المشقة، وهذا فيه نظر لأنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقة والاحتجاج بها فتنفي الخصوصية ويثبت مذهب المخالف، لكن يفيد الاحتجاج. وقرره آخرون بأن الأصل أن الرضاع لا يحرم، فلما ثبت ذلك في الصغر خولف الأصل له وبقي ما عداه على الأصل، وقصة سالم واقعة عين يطرقها احتمال الخصوصية فيجب الوقوف عن الاحتجاج بها. ورأيت بخط تاج الدين السبكي أنه رأى في تصنيف لمحمد بن خليل الأندلسي في هذه المسألة أنه توقف في أن عائشة وإن صح عنها الفتيا بذلك لكن لم يقع منها إدخال أحد من الأجانب بتلك الرضاعة، قال تاج الدين: ظاهر الأحاديث ترد عليه، وليس عندي فيه قول جازم لا من قطع ولا من ظن غالب، كذا قال، وفيه غفلة عما ثبت عند أبي داود في هذه القصة "فكانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها ويراها وإن كان كبيرا خمس رضعات ثم يدخل عليها" وإسناده صحيح، وهو صريح، فأي ظن غالب وراء هذا؟ والله سبحانه وتعالى أعلم. وفي الحديث أيضا جواز

(9/149)


دخول من اعترفت المرأة بالرضاعة معه عليها وأنه يصير أخا لها وقبول قولها فيمن اعترفت به، وأن الزوج يسأل زوجته عن سبب إدخال الرجال بيته والاحتياط في ذلك والنظر فيه، وفي قصة سالم جواز الإرشاد إلى الحيل. وقال ابن الرفعة يؤخذ منه جواز تعاطي ما يحصل الحل في المستقبل وإن كان ليس حلالا في الحال.

(9/150)


24 - باب لَبَنِ الْفَحْلِ
5103- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا وَهُوَ عَمُّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ"
قوله: "باب لبن الفحل" بفتح الفاء وسكون المهملة، أي الرجل، ونسبة اللبن إليه مجازية لكونه السبب فيه. قوله: "عن ابن شهاب" لمالك فيه شيخ آخر وهو هشام بن عروة، وسياقه للحديث عن عروة أتم، وسيأتي قبيل كتاب الطلاق. قوله: "إن أفلح أخا أبي القعيس" بقاف وعين وسين مهملتين مصغر، وتقدم في الشهادات من طريق الحكم عن عروة "استأذن علي أفلح فلم آذن له" وفي رواية مسلم من هذا الوجه أفلح بن قعيس والمحفوظ أفلح أخو أبي القعيس، ويحتمل أن يكون اسم أبيه قعيسا أو اسم جده فنسب إليه فتكون كنية أبي القعيس وافقت اسم أبيه أو اسم جده، ويؤيده ما وقع في الأدب من طريق عقيل عن الزهري بلفظ: "فإن أخا بني القعيس" وكذا وقع عند النسائي من طريق وهب بن كيسان عن عروة، وقد مضى في تفسير الأحزاب من طريق شعيب عن ابن شهاب بلفظ: "إن أفلح أخا أبي القعيس" وكذا لمسلم من طريق يونس ومعمر عن الزهري، وهو المحفوظ عن أصحاب الزهري، لكن وقع عند مسلم من رواية ابن عيينة عن الزهري أفلح بن أبي القعيس، وكذا لأبي داود من طريق الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه، ولمسلم من طريق ابن جريج عن عطاء "أخبرني عروة أن عائشة قالت استأذن علي عمي من الرضاعة أبو الجعد" قال فقال لي هشام: إنما هو أبو القعيس. وكذا وقع عند مسلم من طريق أبي معاوية عن هشام "استأذن عليها أبو القعيس" وسائر الرواة عن هشام قالوا أفلح أخو أبي القعيس كما هو المشهور، وكذا قال سائر أصحاب عروة، ووقع عند سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد "أن أبا قعيس أتى عائشة يستأذن عليها" وأخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق القاسم عن أبي قعيس، والمحفوظ أن الذي استأذن هو أفلح وأبو القعيس هو أخوه، قال القرطبي: كل ما جاء من الروايات وهم إلا من قال أفلح أخو أبي القعيس أو قال أبو الجعد لأنها كنية أفلح. قلت: وإذا تدبرت ما حررت عرفت أن كثيرا من الروايات لا وهم فيه ولم يخطئ عطاء في قوله أبو الجعد فإنه يحتمل أن يكون حفظ كنية أفلح، وأما اسم أبي القعيس فلم أقف عليه إلا في كلام الدار قطني فقال: هو وائل بن أفلح الأشعري، وحكى هذا ابن عبد البر ثم حكى أيضا أن اسمه الجعد، فعلى هذا يكون أخوه وافق اسمه اسم أبيه، ويحتمل أن يكون أبو القعيس نسب لجده ويكون اسمه وائل بن قعيس بن أفلح بن القعيس، وأخوه أفلح بن قعيس بن أفلح أبو الجعد، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" : لا أعلم لأبي القعيس ذكرا إلا في هذا الحديث. قوله: "وهو عمها من الرضاعة" فيه التفات، وكان السياق يقتضي أن يقول: "وهو

(9/150)


عمي" وكذا وقع عند النسائي من طريق معن عن مالك. وفي رواية يونس عن الزهري عند مسلم: "وكان أبو القعيس أخا عائشة من الرضاعة". قوله: "فأبيت أن آذن له" في رواية عراك الماضية في الشهادات "فقال أتحتجبين مني وأنا عمك" ؟ وفي رواية شعيب عن الزهري كما مضى في تفسير سورة الأحزاب "فقلت: لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس" وفي رواية معمر عن الزهري عن مسلم: "وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة". قوله: "فأمرني أن آذن له" في رواية شعيب "ائذني له فإنه عمك تربت يمينك" وفي رواية سفيان يداك أو يمينك، وقد تقدم شرح هذه اللفظة في "باب الأكفاء في الدين" وفي رواية مالك عن هشام بن عروة "إنه عمك فليلج عليك" وفي رواية الحكم "صدق أفلح، ائذني له" ووقع في رواية سفيان الثوري عن هشام عند أبي داود "دخل علي أفلح فاستترت منه فقال أتستترين مني وأنا عمك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي، قلت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل" الحديث، ويجمع بأنه دخل عليها أولا فاستترت ودار بينهما الكلام، ثم جاء يستأذن ظنا منه أنها قبلت قوله فلم تأذن له حتى تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووقع في رواية شعيب في آخره من الزيادة "قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب" ووقع في رواية سفيان بن عيينة "ما تحرمون من النسب" وهذا ظاهره الوقف، وقد أخرجه مسلم من طريق يزيد بن أبي حبيب عن عراك عن عروة في هذه القصة "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحتجبي منه، فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" وقد تقدمت هذه الزيادة عن عائشة أيضا مرفوعة من وجه آخر في أول أبواب الرضاع. وفي الحديث أن لبن الفحل يحرم فتنتشر الحرمة من ارتضع الصغير بلبنه، فلا تحل له بنت زوج المرأة التي أرضعته من غيرها مثلا، وفيه خلاف قديم حكي عن ابن عمر وابن الزبير ورافع بن خديج وزينب بنت أم سلمة وغيرهم، ونقله ابن بطال عن عائشة وفيه نظر، ومن التابعين عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والشعبي وإبراهيم النخعي وأبي قلابة وإياس بن معاوية أخرجها ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر، وعن ابن سيرين "نبئت أن ناسا من أهل المدينة اختلفوا فيه:" وعن زينب بنت أبي سلمة أنها سألت والصحابة متوافرون وأمهات المؤمنين فقالوا الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا. وقال به من الفقهاء ربيعة الرأي وإبراهيم بن عليه وابن بنت الشافعي وداود وأتباعه، وأغرب عياض ومن تبعه في تخصيصهم ذلك بداود وإبراهيم مع وجود الرواية عمن ذكرنا بذلك، وحجتهم في ذلك قوله تعالى :{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ولم يذكر العمة ولا البنت كما ذكرهما في النسب، وأجيبوا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، ولا سيما وقد جاءت الأحاديث الصحيحة. واحتج بعضهم من حيث النظر بأن اللبن لا ينفصل من الرجل وإنما ينفصل من المرأة فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل؟ والجواب أنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه، وأيضا فإن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معا فوجب أن يكون الرضاع منهما كالجد لما كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده، وإلى هذا أشار ابن عباس بقوله في هذه المسألة "اللقاح واحد" أخرجه ابن أبي شيبة. وأيضا فإن الوطء يدر اللبن فللفحل فيه نصيب. وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار كالأوزاعي في أهل الشام والثوري وأبي حنيفة وصاحبيه في أهل الكوفة وابن جريج في أهل مكة ومالك في أهل المدينة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأتباعهم إلى أن لبن الفحل يحرم وحجتهم هذا الحديث

(9/151)


الصحيح، وألزم الشافعي المالكية في هذه المسألة برد أصلهم بتقديم عمل أهل المدينة ولو خالف الحديث الصحيح إذا كان من الآحاد لما رواه عن عبد العزيز بن محمد عن ربيعة من أن لبن الفحل لا يحرم، قال عبد العزيز بن محمد: وهذا رأي فقهائنا إلا الزهري فقال الشافعي: لا نعلم شيئا من علم الخاصة أولى بأن يكون عاما ظاهرا من هذا، وقد تركوه للخبر الوارد، فيلزمهم على هذا إما أن يردوا هذا الخبر وهم ولم يردوه أو يردوا ما خالف الخبر، وعلى كل حال هو المطلوب. قال القاضي عبد الوهاب: يتصور تجريد لبن الفحل برجل له امرأتان ترضع إحداهما صبيا والأخرى صبية فالجمهور قالوا يحرم على الصبي تزويج الصبية. وقال من خالفهم: يجوز، واستدل به على أن من ادعى الرضاع وصدقه الرضيع يثبت حكم الرضاع بينهما ولا يحتاج إلى بينه، لأن أفلح ادعى وصدقته عائشة وأذن الشارع بمجرد ذلك. وتعقب باحتمال أن يكون الشارع اطلع على ذلك من غير دعوى أفلح وتسليم عائشة، واستدل به على أن قليل الرضاع يحرم كما يحرم كثيره لعدم الاستفصال فيه، ولا حجة فيه لأن عدم الذكر لا يدل على العدم المحض وفيه أن من شك في حكم يتوقف عن العمل حتى يسأل العلماء عنه، وأن من اشتبه عليه الشيء طالب المدعي ببيانه ليرجع إليه أحدهما، وأن العالم إذا سئل يصدق من قال الصواب فيها، وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب ومشروعية استئذان المحرم على محرمه، وأن المرأة لا تأذن في بيت الرجل إلا بإذنه، وفيه جواز التسمية بأفلح، ويؤخذ منه أن المستفتي إذا بادر بالتعليل قبل سماع الفتوى أنكر عليه لقوله لها "تربت يمينك" فإن فيه إشارة إلى أنه كان من حقها أن تسأل عن الحكم فقط ولا تعلل، وألزم به بعضهم من أطلق من الحنفية القائلين أن الصحابي إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا وصح عنه ثم صح عنه العمل بخلافه أن العمل بما رأى لا بما روى، لأن عائشة صح عنها أن لا اعتبار بلبن الفحل ذكره مالك في الموطأ وسعيد بن منصور في السنن وأبو عبيد في كتاب النكاح بإسناد حسن، وأخذ الجمهور ومنهم الحنفية بخلاف ذلك وعملوا بروايتها في قصة أخي أبي القعيس وحرموه بلبن الفحل فكان يلزمهم على قاعدتهم أن يتبعوا عمل عائشة ويعرضوا عن روايتها، ولو كان روى هذا الحكم غير عائشة لكان لهم معذرة لكنه لم يروه غيرها، وهو إلزام قوي

(9/152)


25- باب شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ
5104- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قالَ وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ عُقْبَةَ لَكِنِّي لِحَدِيثِ عُبَيْدٍ أَحْفَظُ قَالَ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ أَرْضَعْتُكُمَا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ تَزَوَّجْتُ فُلاَنَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ لِي إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا وَهِيَ كَاذِبَةٌ فَأَعْرَضَ عَنِّي فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ قُلْتُ إِنَّهَا كَاذِبَةٌ قَالَ كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا دَعْهَا عَنْكَ وَأَشَارَ إِسْمَاعِيلُ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى يَحْكِي أَيُّوبَ"
قوله: "باب شهادة المرضعة" أي وحدها، وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك في كتاب الشهادات. وأغرب ابن بطال هنا فنقل الإجماع على أن شهادة المرأة وحدها لا تجوز في الرضاع وشبهه، وهو عجيب منه فإنه قول جماعة

(9/152)


من السلف حتى إن عند المالكية رواية أنها تقبل وحدها لكن بشرط فشو ذلك في الجيران. قوله: "علي بن عبد الله" هو ابن المديني، وإسماعيل بن إبراهيم هو المعروف بابن علية، وعبيد بن أبي مريم مكي ماله في الصحيح سوى هذا الحديث، ولا أعرف من حاله شيئا إلا أن ابن حبان ذكره في ثقات التابعين، وقد أوضحت في الشهادات بيان الاختلاف في إسناده على ابن أبي مليكة، وأن العمدة فيه على سماع ابن أبي مليكة له من عقبة بن الحارث نفسه، وتقدم تسمية المرأة المعبر عنها هنا بفلانة بنت فلان وتسمية أبيها، وأما المرضعة السوداء فما عرفت اسمها بعد. قوله: "فأعرض عني" في رواية المستملي: "فأعرض عنه" وفيه التفات. قوله : "دعها عنك، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى يحكي أيوب" يعني يحكي إشارة أيوب، والقائل علي والحاكي إسماعيل، والمراد حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث أشار بيده وقال بلسانه "دعها عنك" فحكى ذلك كل راو لمن دونه. واستدل به على أن الرضاعة لا يشترط فيها عدد الرضعات وفيه نظر لأنه لا يلزم من عدم ذكرها عدم الاشتراط لاحتمال أن يكون ذلك قبل تقرير حكم اشتراط العدد، أو بعد اشتهاره فلم يحتج لذكره في كل واقعة، وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك. ويؤخذ من الحديث عند من يقول أن الأمر بفراقها لم يكن لتحريمها عليه بقول المرضعة بل للاحتياط أن يحتاط من يريد أن يتزوج أو يزوج ثم اطلع على أمر فيه خلاف بين العلماء كمن زنى بها أو باشرها بشهوة أو زنى بها أصله أو فرعه أو خلقت من زناه بأمها أو شك في تحريمها عليه بصهر أو قرابة ونحو ذلك، والله أعلم

(9/153)


باب مايحل من النساء وما يحرم
...
26- باب مَا يَحِلُّ مِنْ النِّسَاءِ وَمَا يَحْرُمُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وَقَالَ أَنَسٌ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ} ذَوَاتُ الأَزْوَاجِ الْحَرَائِرُ حَرَامٌ {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَنْزِعَ الرَّجُلُ جَارِيَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ وَقَالَ {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ فَهُوَ حَرَامٌ كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ
5105- وَقَالَ لَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي حَبِيبٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَرُمَ مِنْ النَّسَبِ سَبْعٌ وَمِنْ الصِّهْرِ سَبْعٌ ثُمَّ قَرَأَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الْآيَةَ وَجَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِيٍّ وَامْرَأَةِ عَلِيٍّ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لاَ بَأْسَ بِهِ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرَّةً ثُمَّ قَالَ لاَ بَأْسَ بِهِ وَجَمَعَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمٍّ فِي لَيْلَةٍ وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا زَنَى بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى الْكِنْدِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ وأَبِي جَعْفَرٍ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالصَّبِيِّ إِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَلاَ يَتَزَوَّجَنَّ أُمَّهُ وَيَحْيَى هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا زَنَى بِهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي نَصْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَرَّمَهُ وَأَبُو نَصْرٍ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ بِسَمَاعِهِ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُرْوَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ

(9/153)


حُصَيْنٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لاَ تَحْرُمُ حَتَّى يُلْزِقَ بِالأَرْضِ يَعْنِي يُجَامِعَ وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ عَلِيٌّ لاَ تَحْرُمُ وَهَذَا مُرْسَلٌ
قوله: "باب ما يحل من النساء وما يحرم، وقوله تعالى :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الآية إلى {عَلِيماً حَكِيماً} كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى قوله: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} ثم قال إلى قوله: {عَلِيماً حَكِيماً} وذلك يشمل الآيتين، فإن الأول إلى قوله: {غَفُوراً رَحِيماً}. قوله: "وقال أنس {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ذوات الأزواج الحرائر حرام {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، لا يرى بأسا أن ينزع الرجل جاريته" وفي رواية الكشميهني جارية "من عبده" وصله إسماعيل القاضي في كتاب "أحكام القرآن" بإسناد صحيح من طريق سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أنس بن مالك أنه قال في قوله تعالى :{وَالْمُحْصَنَاتُ} ذوات الأزواج الحرائر {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فإذا هو لا يرى بما ملك اليمين بأسا أن ينزع الرجل الجارية من عبده فيطأها، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق أخرى عن التيمي بلفظ ذوات البعول وكان يقول بيعها طلاقها، والأكثر على أن المراد بالمحصنات ذوات الأزواج يعني أنهن حرام وأن المراد بالاستثناء في قوله : {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} المسبيات إذا كن متزوجات فإنهن حلال لمن سباهن. قوله: "وقال" أي قال الله عز وجل: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أشار بهذا إلى التنبيه على من حرم نكاحها زائدا على ما في الآيتين فذكر المشركة وقد استثنيت الكتابية والزائدة على الرابعة فدل ذلك على أن العدد الذي في قول ابن العباس الذي بعده لا مفهوم له وإنما أراد حصر ما في الآيتين. قوله: "وقال ابن عباس: ما زاد على أربع فهو حرام كأمه وابنته وأخته" وصله الفريابي وعبد بن حميد بإسناد صحيح عنه ولفظه في قوله تعالى :{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: لا يحل له أن يتزوج فوق أربع نسوة، فما زاد منهن عليه حرام، والباقي مثله، وأخرجه البيهقي. قوله: "وقال لنا أحمد بن حنبل" هذا فيما قيل أخذه المصنف عن الإمام أحمد في المذاكرة أو الإجازة، والذي ظهر لي بالاستقراء أنه إنما استعمل هذه الصيغة في الموقوفات، وربما استعملها فيما فيه قصور ما عن شرطه، والذي هنا من الشق الأول، وليس للمصنف في هذا الكتاب رواية عن أحمد إلا في هذا الموضع. وأخرج عنه في آخر المغازي حديثا بواسطة وكأنه لم يكثر عنه لأنه في رحلته القديمة لقي كثيرا من مشايخ أحمد فاستغنى بهم، وفي رحلته الأخيرة كان أحمد قد قطع التحديث فكان لا يحدث إلا نادرا فمن ثم أكثر البخاري عن علي بن المديني دون أحمد، وسفيان المذكور هذا الإسناد هو الثوري، وحبيب هو ابن أبي ثابت. قوله: "حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع" في رواية ابن مهدي عن سفيان عن الإسماعيلي: "حرم عليكم" وفي لفظ: "حرمت عليكم". قوله: "ثم قرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية" في رواية يزيد بن هارون عن سفيان عند الإسماعيلي: "قرأ الآيتين" وإلى هذه الرواية أشار المصنف بقوله في الترجمة "إلى {عَلِيماً حَكِيماً}" فإنها آخر الآيتين، ووقع عند الطبراني من طريق عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس في آخر الحديث: "ثم قرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} حتى بلغ: {وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} ، ثم قال: هذا النسب. ثم قرأ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} حتى بلغ : {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ، وقرأ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فقال: هذا الصهر" انتهى، فإذا جمع بين الروايتين كانت الجملة خمس عشرة امرأة، وفي تسمية ما هو بالرضاع صهرا تجوز، وكذلك امرأة الغير، وجميعهن على التأبيد إلا الجمع بين الأختين وامرأة الغير، ويلتحق بمن ذكر

(9/154)


موطوءة الجد وإن علا وأم الأم ولو علت وكذا أم الأب وبنت الابن ولو سفلت وكذا بنت البنت وبنت بنت الأخت ولو سفلت وكذا بنت بنت الأخ وبنت ابن الأخ والأخت وعمة الأب ولو علت وكذا عمة الأم وخالة الأم ولو علت وكذا خالة الأب وجدة الزوجة ولو علت وبنت الربيبة ولو سفلت وكذا بنت الربيب وزوجة ابن الابن وابن البنت والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وسيأتي في باب مفرد "ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وتقدم في باب مفرد، وبيان ما قيل إنه يستثنى من ذلك قوله: "وجمع عبد الله بن جعفر" أي ابن أبي طالب "بين بنت علي وامرأة علي" كأنه أشار بذلك إلى دفع من يتخيل أن العلة في منع الجمع بين الأختين ما يقع بينهما من القطيعة فيطرده إلى كل قريبتين ولو بالصهارة فمن ذلك الجمع بين المرأة وبنت زوجها، والأثر المذكور وصله البغوي في "الجعديات" من طريق عبد الرحمن بن مهران أنه قال: "جمع عبد الله بن جعفر بين زينب بنت علي وامرأة علي ليلى بنت مسعود" وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر فقال: "ليلى بنت مسعود النهشلية وأم كلثوم بنت علي لفاطمة فكانتا امرأتيه" وقوله لفاطمة أي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعارض بين الروايتين في زينب وأم كلثوم لأنه تزوجهما واحدة بعد أخرى مع بقاء ليلى في عصمته، وقد وقع ذلك مبينا عند ابن سعد. قوله: "وقال ابن سيرين لا بأس به" وصله سعيد بن منصور عنه بسند صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة مطولا من طريق أيوب عن عكرمة بن خالد "أن عبد الله بن صفوان تزوج امرأة رجل من ثقيف وابنته - أي من غيرها - قال أيوب: فسئل عن ذلك ابن سيرين فلم ير به بأسا وقال: نبئت أن رجل كان بمصر اسمه جبلة جمع بين امرأة رجل وبنته من غيرها" وأخرج الدار قطني من طريق أيوب أيضا عن ابن سيرين أن "رجلا من أهل مصر كانت له صحبة يقال له جبلة" فذكره قوله: "وكرهه الحسن مرة ثم قال لا بأس به" وصله الدار قطني في آخر الأثر الذي قبله بلفظ: "وكان الحسن يكرهه" وأخرجه أبو عبيد في كتاب النكاح من طريق سلمة بن علقمة قال: "إني لجالس عند الحسن إذ سأله رجل عن الجمع بين البنت وامرأة زوجها فكرهه، فقال له بعضهم: يا أبا سعيد، هل ترى به بأسا؟ فنظر ساعة ثم قال: ما أرى به بأسا" وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه كرهه، وعن سليمان بن يسار ومجاهد والشعبي أنهم قالوا لا بأس به. قوله: "وجمع الحسن بن الحسن بن علي بين بنتي عم في ليلة" وصله عبد الرزاق وأبو عبيد من طريق عمرو ابن دينار بهذا وزاد: "في ليلة واحدة بنت محمد بن علي وبنت عمر بن علي، فقال محمد بن علي هو أحب إلينا منهما" وأخرج عبد الرزاق أيضا والشافعي من وجه آخر عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد بن علي فلم ينسب المرأتين ولم يذكر قول محمد بن علي وزاد: "فأصبح النساء لا يدرين أين يذهبن". قوله: "وكرهه جابر بن زيد للقطيعة" وصله أبو عبيد من طريقه. وأخرج عبد الرزاق نحوه عن قتادة وزاد وليس بحرام. قوله: "وليس فيه تحريم" لقوله تعالى :{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} هذا من تفقه المصنف، وقد صرح به قتادة قبله كما ترى، وقد قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا أبطل هذا النكاح، قال: وكان يلزم من يقول بدخول القياس في مثل هذا أن يحرمه، وقد أشار جابر بن زيد إلى العلة بقوله: "للقطيعة" أي لأجل وقوع القطيعة بينهما، لما يوجبه التنافس بين الضرتين في العادة، وسيأتي التصريح بهذه العلة في حديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، بل جاء ذلك منصوصا في جميع القرابات، فأخرج أبو داود وابن أبي شيبة من مرسل عيسى بن طلحة "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة" وأخرج الخلال من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن أبي بكر وعمر وعثمان

(9/155)


أنهم كانوا يكرهون الجمع بين القرابة مخافة الضغائن، وقد نقل العمل بذلك عن ابن أبي ليلى وعن زفر أيضا ولكن انعقد الإجماع على خلافه وقاله ابن عبد البر وابن حزم وغيرهما. قوله: "وقال عكرمة عن ابن عباس: إذا زنى بأخت امرأته لم تحرم عليه امرأته" هذا مصير من ابن عباس إلى أن المراد بالنهي عن الجمع بين الأختين إذا كان الجمع بعقد التزويج وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء "عن ابن عباس في رجل زنى بأخت امرأته قال: تخطى حرمة إلى حرمة ولم تحرم عليه امرأته" قال ابن جريج وبلغني عن عكرمة مثله، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق قيس بن سعد عن عطاء عن ابن عباس قال: "جاوز حرمتين إلى حرمة ولم تحرم عليه امرأته" وهذا قول الجمهور، وخالفت فيه طائفة كما سيجيء. قوله: "ويروى عن يحيى الكندي عن الشعبي وأبي جعفر فيمن يلعب بالصبي أن أدخله فيه فلا يتزوجن أمه" في رواية أبي ذر عن المستملي: "وابن جعفر" يدل قوله وأبي جعفر، والأول هو المعتمد، وكذا وقع في رواية ابن نصر بن مهدي عن المستملي كالجماعة، وهكذا وصله وكيع في مصنفه عن سفيان الثوري عن يحيى. قوله: "ويحيى هذا غير معروف ولم يتابع عليه" انتهى وهو ابن قيس، روى أيضا عن شريح روى عنه الثوري وأبو عوانة وشريك. فقول المصنف "غير معروف" أي غير معروف العدالة وإلا فاسم الجهالة ارتفع عنه برواية هؤلاء، وقد ذكره البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات كعادته فيمن لم يجرح، والقول الذي رواه يحيى هذا قد نسب إلى سفيان الثوري والأوزاعي وبه قال أحمد وزاد: وكذا لو تلوط بأبي امرأته أو بأخيها أو بشخص ثم ولد للشخص بنت فإن كلا منهن تحرم على الواطئ لكونها بنت أو أخت من نكحه، وخالف ذلك الجمهور فخصوه بالمرأة المعقود عليها، وهو ظاهر القرآن لقوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} والذكر ليس من النساء ولا أختا، وعند الشافعية فيمن تزوج امرأة فلاط بها هل تحرم عليه بنتها أم لا؟ وجهان. والله أعلم. قوله: "وقال عكرمة عن ابن عباس: إذا زنى بها لا تحرم عليه امرأته" وصله البيهقي من طريق هشام عن قتادة عن عكرمة بلفظ في رجل غشى أم امرأته قال: "تخطى حرمتين ولا تحرم عليه امرأته" وإسناده صحيح. وفي الباب حديث مرفوع أخرجه الدار قطني والطبراني من حديث عائشة "إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يتبع المرأة حراما ثم ينكح ابنتها أو البنت ثم ينكح أمها، قال : لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح حلال" وفي إسنادهما عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي وهو متروك، وقد أخرج ابن ماجه طرفا منه من حديث ابن عمر لا يحرم الحرام الحلال، وإسناده أصلح من الأول. قوله: "ويذكر عن أبي نصر عن ابن عباس أنه حرمه" وصله الثوري في جامعه من طريقه ولفظه أن رجلا قال أنه أصاب أم امرأته، فقال له ابن عباس: حرمت عليك امرأتك، وذلك بعد أن ولدت منه سبعة أولاد كلهم بلغ مبالغ الرجال". قوله: "وأبو نصر هذا لم يعرف بسماعه من ابن عباس" كذا للأكثر. وفي رواية ابن المهدي عن المستملي لا يعرف سماعه وهي أوجه وأبو نصر هذا بصري أسدي، وثقه أبو زرعة. وفي الباب حديث ضعيف أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أم هانئ مرفوعا: "من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا بنتها" وإسناده مجهول قاله البيهقي. قوله: "ويروى عن عمران بن حصين والحسن وجابر بن زيد وبعض أهل العراق أنها تحرم عليه" أما قول عمران فوصله عبد الرزاق من طريق الحسن البصري عنه، قال فيمن فجر بأم امرأته حرمتا عليه جميعا، ولا بأس بإسناده، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة عن عمران وهو منقطع، وأما قول جابر بن زيد والحسن فوصله ابن أبي شيبة من طريق قتادة

(9/156)


عنهما قال: حرمت عليه امرأته. قال قتادة: لا تحرم غير أنه لا يغشى امرأته حتى تنقضي عدة التي زنى بها. وأخرجه أبو عبيد من وجه آخر عن الحسن بلفظ: إذا فجر بأم امرأته أو ابنة امرأته حرمت عليه امرأته. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال يحيى بن يعمر للشعبي: والله ما حرم حرام قط حلالا قط، فقال الشعبي: بلى لو صببت خمرا على ماء حرم شرب ذلك الماء. قال قتادة: وكان الحسن يقول مثل قول الشعبي. وأما قوله: "وقال بعض أهل العراق" فلعله عنى به الثوري، فإنه ممن قال بذلك من أهل العراق. وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال: لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وبنتها. ومن طريق مغيرة عن إبراهيم وعامر هو الشعبي في رجل وقع على أم امرأته قال: حرمتا عليه كلتاهما، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، قالوا إذا زنى بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها، وبه قال من غير أهل العراق عطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وهي رواية عن مالك، وأبى ذلك الجمهور وحجتهم أن النكاح في الشرع إنما يطلق على المعقود عليها لا على مجرد الوطء، وأيضا فالزنا لا صداق فيه ولا عدة ولا ميراث، قال ابن عبد البر: وقد أجمع أهل الفتوى من الأمصار على أنه لا يحرم على الزاني تزوج من زنى بها، فنكاح أمها وابنتها أجوز. قوله: "وقال أبو هريرة: لا تحرم عليه حتى يلزق بالأرض، يعني حتى يجامع" قال ابن التين يلزق بفتح أوله وضبطه غيره بالضم وهو أوجه، وبالفتح لازم وبالضم متعد يقال لزق به لزوقا وألزقه بغيره، وهو كناية عن الجماع كما قال المصنف وكأنه أشار إلى خلاف الحنفية فأنهم قالوا: تحرم عليه امرأته بمجرد لمس أمها والنظر إلى فرجها، فالحاصل أن ظاهر كلام أبي هريرة أنها لا تحرم إلا إن وقع الجماع، فيكون في المسألة ثلاثة آراء: فمذهب الجمهور لا تحرم إلا بالجماع مع العقد، والحنفية وهو قول عن الشافعي تلتحق المباشرة بشهوة بالجماع لكونه استمتاعا ومحل ذلك إذا كانت المباشرة بسبب مباح أما المحرم فلا يؤثر كالزنا، والمذهب الثالث إذا وقع الجماع حلالا أو زنا أثر بخلاف مقدماته. قوله: "وجوزه سعيد بن المسيب وعروة والزهري" أي أجازوا للرجل أن يقيم مع امرأته ولو زنى بأمها أو أختها سواء فعل مقدمات الجماع أو جامع ولذلك أجازوا له أن يتزوج بنت أو أم من فعل بها ذلك، وقد روى عبد الرزاق من طريق الحارث بن عبد الرحمن قال: سألت سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير عن الرجل يزني بالمرأة هل تحل له أمها؟ فقالا: لا يحرم الحرام الحلال، وعن معمر عن الزهري مثله، وعند البيهقي من طريق يونس بن يزيد عن الزهري أنه سئل عن الرجل يفجر بالمرأة أيتزوج ابنتها؟ فقال: قال بعض العلماء لا يفسد الله حلالا بحرام. قوله: "وقال الزهري قال علي: لا يحرم وهذا مرسل" أما قول الزهري فوصله البيهقي من طريق يحيى بن أيوب عن عقيل عنه أنه سئل عن رجل وطئ أم امرأته، فقال: قال علي بن أبي طالب لا يحرم الحرام الحلال. وأما قوله: وهذا مرسل، ففي رواية الكشميهني وهو مرسل أي منقطع، فأطلق المرسل على المنقطع كما تقدم في فضائل القرآن والخطب فيه سهل، والله أعلم

(9/157)


27- باب {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الدُّخُولُ وَالْمَسِيسُ وَاللِّمَاسُ هُوَ الْجِمَاعُ وَمَنْ قَالَ بَنَاتُ وَلَدِهَا مِنْ بَنَاتِهِ فِي التَّحْرِيمِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ لاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ وَكَذَلِكَ حَلاَئِلُ وَلَدِ الأَبْنَاءِ هُنَّ حَلاَئِلُ الأَبْنَاءِ وَهَلْ تُسَمَّى الرَّبِيبَةَ

(9/157)


وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِهِ وَدَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبِيبَةً لَهُ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهَا وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ ابْنَتِهِ ابْنًا"
5106- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ فَأَفْعَلُ مَاذَا قُلْتُ تَنْكِحُ قَالَ أَتُحِبِّينَ قُلْتُ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِيكَ أُخْتِي قَالَ إِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِي قُلْتُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَخْطُبُ قَالَ ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي مَا حَلَّتْ لِي أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ"
قوله: "باب {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} هذه الترجمة معقودة لتفسير الربيبة وتفسير المراد بالدخول. فأما الربيبة فهي بنت امرأة الرجل، قيل لها ذلك لأنها مربوبة، وغلط من قال هو من التربية. وأما الدخول ففيه قولان: أحدهما أن المراد به الجماع وهو أصح قولي الشافعي، والقول الآخر وهو قول الأئمة الثلاثة المراد به الخلوة. قوله: "وقال ابن عباس: الدخول والمسيس واللماس هو الجماع" تقدم ذكر من وصله عنه في تفسير المائدة، وفيه زيادة. وروى عبد الرزاق من طريق بكر بن عبد الله المزني قال قال ابن عباس: الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس الجماع، إلا أن الله حيي كريم يكنى بما شاء عما شاء. قوله: "ومن قال بنات ولدها هن من بناتها في التحريم" سقط من هنا إلى آخر الترجمة من رواية أبي ذر عن السرخسي، وقد تقدم حكم ذلك في الباب الذي قبله. قوله: "لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة إلخ" قد وصله في الباب، ووجه الدلالة من عموم قوله: "بناتكن" لأن الابن بنت. قوله: "وكذلك حلائل ولد الأبناء هن حلائل الأبناء" أي مثلهن في التحريم، وهذا بالاتفاق، فكذلك بنات الأبناء وبنات البنات. قوله: "وهل تسمى الربيبة وإن لم تكن في حجره" أشار بهذا إلى أن التقييد بقوله: "في حجوركم" هل هو للغالب، أو يعتبر فيه مفهوم المخالفة؟ وقد ذهب الجمهور إلى الأول، وفيه خلاف قديم أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما من طريق إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس قال: كانت عندي امرأة قد ولدت لي، فماتت فوجدت عليها، فلقيت علي بن أبي طالب فقال لي: مالك؟ فأخبرته، فقال: ألها ابنة؟ يعني من غيرك، قلت: نعم قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي في الطائف، قال: فانكحها، قلت: فأين قوله تعالى :{وَرَبَائِبُكُمُ} قال إنها لم تكن في حجرك. وقد دفع بعض المتأخرين هذا الأثر وادعى نفي ثبوته بأن إبراهيم بن عبيد لا يعرف، وهو عجيب، فإن الأثر المذكور عند ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، وإبراهيم ثقة تابعي معروف، وأبوه وجده صحابيان، والأثر صحيح عن علي. وكذا صح عن عمر أنه أفتى من سأله إذ تزوج بنت رجل كانت تحته جدتها ولم تكن البنت في حجره أخرجه أبو عبيد، وهذا وإن كان الجمهور على خلافه فقد احتج أبو عبيد للجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "فلا تعرضن علي بناتكن" قال نعم ولم يقيد بالحجر، وهذا فيه نظر لأن المطلق محمول على المقيد، ولولا الإجماع الحادث في المسألة وندرة المخالف لكان الأخذ به أولى. لأن التحريم جاء مشروطا بأمرين: أن تكون في الحجر وأن يكون الذي يريد التزويج قد دخل بالأم، فلا تحرم بوجود أحد الشرطين.

(9/158)


واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تكن ربيبتي ما حلت لي" وهذا وقع في بعض طرق الحديث ما تقدم، وفي أكثر طرقه: "لو لم تكن ربيبتي في حجري" فقيد بالحجر كما قيد به القرآن فقوي اعتباره، والله أعلم. قوله: "ودفع النبي صلى الله عليه وسلم ربيبة له إلى من يكفلها" هذا طرف من حديث وصله البزار والحاكم من طريق أبي إسحاق عن فروة بن نوفل الأشجعي عن أبيه "وكان النبي صلى الله عليه وسلم دفع إليه زينب بنت أم سلمة وقال: إنما أنت ظئري، قال فذهب بها ثم جاء، فقال: ما فعلت الجويرة به؟ قال: عند أمها - يعني من الرضاعة - وجئت لتعلمني" فذكر حديثا فيما يقرأ عند النوم، وأصله عند أصحاب السنن الثلاثة بدون القصة، وأصل قصة زينب بنت أم سلمة عند أحمد وصححه ابن حبان من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث أن أم سلمة أخبرته أنها "لما قدمت المدينة - فذكرت القصة في هجرتها ثم موت أبي سلمة - قالت فلما وضعت زينب جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبني - الحديث وفيه - فجعل يأتينا فيقول أين زناب؟ حتى جاء عمار هو ابن ياسر فاختلجها وقال: هذه تمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته، وكانت ترضعها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال أين زناب؟ فقالت قريبة بنت أبي أمية وهي أخت أم سلمة: وافقتها عندما أخذها عمار بن ياسر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني آتيكم الليلة" وفي رواية لأحمد "فجاء عمار وكان أخاها لأمها - يعني أم سلمة - فدخل علها فانتشطها من حجرها وقال: دعي هذه المقبوحة" الحديث. قوله: "وسمى النبي صلى الله عليه وسلم ابن ابنته ابنا" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في المناقب من حديث أبي بكرة وفيه: "إن ابني هذا سيد" يعني الحسن بن علي، وأشار المصنف بهذا إلى تقوية ما تقدم ذكره في الترجمة أن بنت ابن الزوجة في حكم بنت الزوجة ثم ساق حديث أم حبيبة "قلت يا رسول الله هل لك في بنت أبي سفيان" وقد تقدم شرحه مستوفى قبل هذا، وقوله: "أرضعتني وأباها ثويبة" هو بفتح الهمزة والموحدة الخفيفة، وثويبة بالرفع الفاعل والضمير لبنت أم سلمة، والمعنى أرضعتني ثويبة وأرضعت والد درة بنت أبي سلمة، وقد تقدم في الباب الماضي التصريح بذلك فقال: "أرضعتني وأبا سلمة" وإنما نبهت على ذلك لأن صاحب "المشارق" نقل أن بعض الرواة عن أبي ذر رواها بكسر الهمزة وتشديد التحتانية فصحف، ويكفي في الرد عليه قوله الرواية في الأخرى "إنها ابنة أخي من الرضاعة" ووقع في رواية لمسلم: "أرضعتني وأباها أبا سلمة". قوله:" وقال الليث حدثنا هشام درة بنت أم سلمة "يعني أن الليث رواه عن هشام بن عروة بالإسناد المذكور فسمى بنت أم سلمة درة، وكأنه رمز بذلك إلى غلط من سماها زينب، وقد قدمت أنها في رواية الحميدي عن سفيان؛ وأن المصنف أخرجه عن الحميدي فلم يسمها، وقد ذكر المصنف الحديث أيضا في الباب الذي بعده من طريق الليث أيضا عن ابن شهاب عن عروة فسماها أيضا درة

(9/159)


باب وأن تجمعوا بين الأختين إلا ماقد سلف
...
28- باب {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ }
5107- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ وَتُحِبِّينَ قُلْتُ نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ ذَلِكِ لاَ يَحِلُّ لِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ

(9/159)


فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا لاَبْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ"
قوله: "باب {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} أورد فيه حديث أم حبيبة المذكور لقوله: "فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن" والجمع بين الأختين في التزويج حرام بالإجماع، سواء كانتا شقيقتين أم من أب أم من أم، وسواء النسب والرضاع. واختلف فيما إذا كانتا بملك اليمين، فأجازه بعض السلف وهو رواية عن أحمد والجمهور، وفقهاء الأمصار على المنع، ونظيره الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وحكاه الثوري عن الشيعة.

(9/160)


29 - باب لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا
5108- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا وَقَالَ دَاوُدُ وَابْنُ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ"
5109- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلاَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا"
[الحديث 5109- طرفه في: 5110]
5110- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَالْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا فَنُرَى خَالَةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ"
5111- لِأَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ"
قوله: "باب لا تنكح المرأة على عمتها" أي ولا على خالتها وهذا اللفظ رواية أبي بكر ابن أبي شيبة عن عبد الله ابن المبارك بإسناد حديث الباب، وكذا هو عند مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومن طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة. قوله: "عاصم" هو ابن سليمان البصري الأحول. قوله: "الشعبي سمع جابرا" كذا قال عاصم وحده. قوله: "وقال داود وابن عون عن الشعبي عن أبي هريرة" أما رواية داود وهو ابن أبي هند فوصلها أبو داود والترمذي والدارمي من طريقه قال: "حدثنا عامر هو الشعبي أنبأنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح المرأة على عمتها. أو المرأة على خالتها، أو العمة على بنت أخيها، أو الخالة على بنت أختها لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى" لفظ الدارمي والترمذي نحوه، ولفظ أبي داود "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" وأخرجه مسلم من وجه آخر عن داود بن أبي هند فقال: "عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة فكان لداود فيه شيخين، وهو محفوظ لابن سيرين عن أبي هريرة من غير هذا الوجه. وأما رواية ابن عون وهو عبد الله فوصلها النسائي من طريق خالد بن الحارث

(9/160)


عنه بلفظ :" لا تزوج المرأة على عمتها ولا على خالتها" ووقع لنا في "فوائد أبي محمد بن أبي شريح" من وجه آخر عن ابن عون بلفظ: "نهى أن تنكح المرأة على ابنة أخيها أو ابنة أختها" والذي يظهر أن الطريقين محفوظان، وقد رواه حماد بن سلمة عن عاصم عن الشعبي عن جابر أو أبي هريرة لكن نقل البيهقي عن الشافعي أن هذا الحديث لم يرو من وجه يثبته أهل الحديث إلا عن أبي هريرة، وروى من وجوه لا يثبتها أهل العلم بالحديث، قال البيهقي هو كما قال، قد جاء من حديث علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأنس وأبي سعيد وعائشة، وليس فيها شيء على شرط الصحيح، وإنما اتفقا على إثبات حديث أبي هريرة. وأخرج البخاري رواية عاصم عن الشعبي عن جابر وبين الاختلاف على الشعبي فيه، قال: والحفاظ يرون رواية عاصم خطأ، والصواب رواية ابن عون وداود بن أبي هند ا هـ. وهذا الاختلاف لم يقدح عند البخاري، لأن الشعبي أشهر بجابر منه بأبي هريرة، وللحديث طرق أخرى عن جابر بشرط الصحيح أخرجها النسائي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، والحديث محفوظ أيضا من أوجه عن أبي هريرة، فلكل من الطريقين ما يعضده، وقول من نقل البيهقي عنهم تضعيف حديث جابر معارض بتصحيح الترمذي وابن حبان وغيرهما له، وكفى بتخريج البخاري له موصولا قوة. قال ابن عبد البر: كان بعض أهل الحديث يزعم أنه لم يرو هذا الحديث غير أبي هريرة - يعني من وجه يصح - وكأنه لم يصحح حديث الشعبي عن جابر وصححه عن أبي هريرة، والحديثان جميعا صحيحان. وأما من نقل البيهقي أنهم رووه من الصحابة غير هذين فقد ذكر مثل ذلك الترمذي بقوله: "وفي الباب:" لكن لم يذكر ابن مسعود ولا ابن عباس ولا أنسا، وزاد بدلهم أبا موسى وأبا أمامة وسمرة. ووقع لي أيضا من حديث أبي الدرداء ومن حديث عتاب بن أسيد ومن حديث سعد بن أبي وقاص ومن حديث زينب امرأة ابن مسعود فصار عدة من رواه غير الأولين ثلاثة عشر نفسا، وأحاديثهم موجودة عند ابن أبي شيبة وأحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه وأبي يعلى والبزار والطبراني وابن حبان وغيرهم، ولولا خشية التطويل لأوردتها مفصلة، لكن في لفظ حديث ابن عباس عند ابن أبي داود أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين العمتين والخالتين، وفي روايته عند ابن حبان: "نهي أن تزوج المرأة على العمة والخالة. وقال: إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن، قال الشافعي: تحريم الجمع بين من ذكر هو قول من لقيته من المفتين لا اختلاف بينهم في ذلك. وقال الترمذي بعد تخريجه: العمل على هذا عند عامة أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافا أنه لا يحل للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ولا أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم، وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الحكم بالسنة واتفق أهل العلم على القول به لم يضره خلاف من خالفه، وكذا نقل الإجماع ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي والنووي، لكن استثنى ابن حزم عثمان البتي وهو أحد الفقهاء القدماء من أهل البصرة وهو بفتح الموحدة وتشديد المثناة، واستثنى النووي طائفة من الخوارج والشيعة، واستثنى القرطبي الخوارج ولفظه: اختار الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها، ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين ا هـ. وفي نقله عنهم جواز الجمع بين الأختين غلط بين، فإن عمدتهم التمسك بأدلة القرآن لا يخالفونها البتة وإنما يردون الأحاديث لاعتقادهم عدم الثقة بنقلتها، وتحريم الجمع بين الأختين بنصوص القرآن. ونقل ابن دقيق العيد تحريم الجمع بين المرأة وعمتها عن جمهور العلماء ولم يعين المخالف. قوله: "لا يجمع ولا ينكح" كله في الروايات بالرفع على الخبر عن المشروعية وهو يتضمن النهي

(9/161)


قاله القرطبي. قوله: "على عمتها" ظاهره تخصيص المنع بما إذا تزوج إحداهما على الأخرى، ويؤخذ منه منع تزويجهما معا، فإن جمع بينهما بعقد بطلا أو مرتبا بطل الثاني. قوله في الرواية الأخيرة "فنرى" بضم النون أي نظن، وبفتحها أي نعتقد. قوله: "خالة أبيها بتلك المنزلة" أي من التحريم. قوله: "لأن عروة حدثني إلخ" في أخذ هذا الحكم من هذا الحديث نظر، وكأنه أراد إلحاق ما يحرم بالصهر بما يحرم بالنسب كما يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، ولما كانت خالة الأب من الرضاع لا يحل نكاحها فكذلك خالة الأب لا يجمع بينها وبين بنت ابن أخيها، وقد تقدم شرح حديث عائشة المذكور. قال النووي: احتج الجمهور بهذه الأحاديث وخصوا بها عموم القرآن في قوله تعالى :{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقد ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد، وانفصل صاحب الهداية من الحنفية عن ذلك بأن هذا من الأحاديث المشهورة التي تجوز الزيادة على الكتاب بمثلها، والله أعلم

(9/162)


30- باب الشِّغَارِ
5112- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الشِّغَارِ وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ"
[الحديث 5112- طرفه في: 6960]
قوله: "باب الشغار" بمعجمتين مكسور الأول. قوله: "نهى عن الشغار" في رواية ابن وهب عن مالك "نهى عن نكاح الشغار، ذكره ابن عبد البر، وهو مراد من حذفه. قوله: "والشغار أن يزوج الرجل ابنته إلخ" قال ابن عبد البر: ذكر تفسير الشغار جميع رواة مالك عنه. قلت: ولا يرد على إطلاقه أن أبا داود أخرجه عن القعنبي فلم يذكر التفسير، وكذا أخرجه الترمذي من طريق معن بن عيسى لأنهما اختصرا ذلك في تصنيفهما، وإلا فقد أخرجه النسائي من طريق معن بالتفسير، وكذا أخرجه الخطيب في "المدرج" من طريق القعنبي. نعم اختلف الرواة عن مالك فيمن ينسب إليه تفسير الشغار، فالأكثر لم ينسبوه لأحد، ولهذا قال الشافعي فيما حكاه البيهقي في "المعرفة" : لا أدري التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك، ونسبه محرز بن عون وغيره لمالك. قال الخطيب: تفسير الشغار ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول مالك وصل بالمتن المرفوع، وقد بين ذلك ابن مهدي والقعنبي ومحرز بن عون، ثم ساقه كذلك عنهم، ورواية محرز بن عون عند الإسماعيلي والدار قطني في "الموطآت" وأخرجه الدار قطني أيضا من طريق خالد بن مخلد عن مالك قال: سمعت أن الشغار أن يزوج الرجل إلخ، وهذا دال على أن التفسير من منقول مالك لا من مقوله. ووقع عند المصنف - كما سيأتي في كتاب ترك الحيل - من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث تفسير الشغار من قول نافع ولفظه: "قال عبيد الله بن عمر قلت لنافع: ما الشغار؟ فذكره" فلعل مالكا أيضا نقله عن نافع. وقال أبو الوليد الباجي: الظاهر أنه من جملة الحديث، وعليه يحمل حتى يتبين أنه من قول الراوي وهو نافع. قلت: قد تبين ذلك، ولكن لا يلزم من كونه لم يرفعه أن لا يكون في نفس الأمر مرفوعا، فقد ثبت ذلك من غير روايته، فعند مسلم من رواية أبي أسامة وابن نمير عن عبيد الله بن عمر أيضا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مثله سواء، قال: وزاد ابن نمير

(9/162)


"والشغار أن يقول الرجل للرجل زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي وزوجني أختك وأزوجك أختي" وهذا يحتمل أن يكون من كلام عبيد الله بن عمر فيرجع إلى نافع، ويحتمل أن يكون تلقاه عن أبي الزناد، ويؤيد الاحتمال الثاني وروده في حديث أنس وجابر وغيرهما أيضا، فأخرج عبد الرزاق عن معمر عن ثابت وأبان عن أنس مرفوعا: "لا شغار في الإسلام، والشغار أن يزوج الرجل الرجل أخته بأخته" وروى البيهقي من طريق نافع بن يزيد عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: "نهي عن الشغار، والشغار أن ينكح هذه بهذه بغير صداق، بضع هذه صداق هذه وبضع هذه صداق هذه. وأخرج أبو الشيخ في كتاب النكاح من حديث أبي ريحانة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المشاغرة، والمشاغرة أن يقول زوج هذا من هذه وهذه من هذا بلا مهر" قال القرطبي: تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة فإن كان مرفوعا فهو المقصود، وإن كان من قول الصحابي فمقبول أيضا لأنه أعلم بالمقال وأقعد بالحال ا هـ. وقد اختلف الفقهاء هل يعتبر في الشغار الممنوع ظاهر الحديث في تفسيره، فإن فيه وصفين أحدهما تزويج من الوليين وليته للآخر بشرط أن يزوجه وليته، والثاني خلو بضع كل منهما من الصداق، فمنهم من اعتبرهما معا حتى لا يمنع مثلا إذا زوج كل منهما الآخر بغير شرط وإن لم يذكر الصداق، أو زوج كل منهما الآخر بالشرط وذكر الصداق. وذهب أكثر الشافعية إلى أن علة النهي الاشتراك في البضع لأن بضع كل منهما يصير مورد العقد، وجعل البضع صداقا مخالف لا يراد عقد النكاح، وليس المقتضي للبطلان ترك ذكر الصداق لأن النكاح يصح بدون تسمية الصداق. واختلفوا فيما إذا لم يصرحا بذكر البضع فالأصح عندهم الصحة، ولكن وجد نص الشافعي على خلافه ولفظه: إذا زوج الرجل ابنته أو المرأة يلي أمرها من كانت لآخر على أن صداق كل واحدة بضع الأخرى أو على أن ينكحه الأخرى ولم يسم أحد منهما لواحدة منهما صداقا فهذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منسوخ، هكذا ساقه البيهقي بإسناده الصحيح عن الشافعي، قال: وهو الموافق للتفسير المنقول في الحديث، واختلف نص الشافعي فيما إذا سمي مع ذلك مهرا فنص في "الإملاء" على البطلان، وظاهر نصه في "المختصر" الصحة، وعلى ذلك اقتصر في النقل عن الشافعي من ينقل الخلاف من أهل المذاهب. وقال القفال: العلة في البطلان التعليق والتوقيف، فكأنه يقول لا ينعقد لك نكاح بنتي حتى ينعقد لي نكاح بنتك. وقال الخطابي: كان ابن أبي هريرة يشبه برجل تزوج امرأة ويستثنى عضوا من أعضائها وهو مما لا خلاف في فساده، وتقرير ذلك أنه يزوج وليته ويستثنى بضعها حيث يجعله صداقا للأخرى. وقال الغزالي في "الوسيط" : صورته الكاملة أن يقول زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك على أن يكون بضع كل واحدة منهما صداقا للأخرى، ومهما انعقد نكاح ابنتي انعقد نكاح ابنتك. قال شيخنا في "شرح الترمذي" ينبغي أن يزاد: ولا يكون مع البضع شيء آخر ليكون متفقا على تحريمه في المذهب. ونقل الخرقي أن أحمد نص على أن علة البطلان ترك ذكر المهر، ورجح ابن تيمية في "المحرر" أن العلة التشريك في البضع. وقال ابن دقيق العيد: ما نص عليه أحمد هو ظاهر التفسير المذكور في الحديث لقوله فيه ولا صداق بينهما، فإنه يشعر بأن جهة الفساد ذلك، وإن كان يحتمل أن يكون ذلك ذكر لملازمته لجهة الفساد، ثم قال: وعلى الجملة ففيه شعور بأن عدم الصداق له مدخل في النهي، ويؤيده حديث أبي ريحانة الذي تقدم ذكره. وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته فالجمهور على البطلان. وفي رواية عن مالك يفسخ قبل الدخول لا بعده، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي. وذهب الحنفية

(9/163)


إلى صحته ووجوب مهر المثل، وهو قول الزهري ومكحول والثوري والليث ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول على مذهب الشافعي، لاختلاف الجهة. لكن قال الشافعي: إن النساء محرمات إلا ما أحل الله أو ملك يمين، فإذا ورد النهي عن نكاح تأكد التحريم.
"تنبيه": ذكر البنت في تفسير الشغار مثال، وقد تقدم في رواية أخرى ذكر الأخت، قال النووي: أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات وبنات الأخ وغيرهن كالبنات في ذلك، والله أعلم

(9/164)


31- باب هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِأَحَدٍ
5113- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ مِنْ اللاَئِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَمَا تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ فَلَمَّا نَزَلَتْ {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلاَّ يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَعَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ"
قوله: "باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد" أي فيحل له نكاحها بذلك، وهذا يتناول صورتين: إحداهما مجرد الهبة من غير ذكر مهر، والثاني العقد بلفظ الهبة. فالصورة الأولى ذهب الجمهور إلى بطلان النكاح، وأجازه الحنفية والأوزاعي، ولكن قالوا يجب مهر المثل. وقال الأوزاعي: إن تزوج بلفظ الهبة وشرط أن لا مهر لم يصح النكاح. وحجة الجمهور قوله تعالى :{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فعدوا ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم وأنه يتزوج بلفظ الهبة بغير مهر في الحال ولا في المآل. وأجاب المجيزون عن ذلك بأن المراد أن الواهبة تختص به لا مطلق الهبة. والصورة الثانية ذهب الشافعية وطائفة إلى أن النكاح لا يصح إلا بلفظ النكاح أو التزويج، لأنهما الصريحان اللذان ورد بهما القرآن والحديث. وذهب الأكثر إلى أنه يصح بالكنايات، واحتج الطحاوي لهم بالقياس على الطلاق فإنه يجوز بصرائحه وبكناياته مع القصد. قوله: "حدثنا هشام" هو ابن عروة عن أبيه "قال كانت خولة" هذا مرسل، لأن عروة لم يدرك زمن القصة، لكن السياق يشعر بأنه حمله عن عائشة. وقد ذكر المصنف عقب هذه الطريق رواية من صرح فيه بذكر عائشة تعليقا، وقد تقدم في تفسير الأحزاب من طريق أبي أسامة عن هشام كذلك موصولا. قوله: "بنت حكيم" أي ابن أمية بن الأوقص السلمية، وكانت زوج عثمان بن مظعون، وهي من السابقات إلى الإسلام، وأمها من بني أمية. قوله: "من اللائي وهبن" وكذا وقع في رواية أبي أسامة المذكورة "قالت كنت أغار من اللائي وهبن أنفسهن" وهذا يشعر بتعدد الواهبات وقد تقدم تفسيرهن في تفسير سورة الأحزاب، ووقع في رواية أبي سعيد المؤدب الآتي ذكرها في المعلقات عن عروة عن عائشة "قالت التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم" وهذا محمول على تأويل أنها السابقة إلى ذلك، أو نحو ذلك من الوجوه التي لا تقتضي الحصر المطلق. قوله: "فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها" وفي رواية محمد بن بشر الموصولة عن عائشة أنها كانت تعير اللائي التقبيح وهبن أنفسهن. قوله: "أن تهب نفسها" زاد في رواية محمد بن بشر "بغير صداق". قوله: "فلما نزلت: ترجئ من تشاء" في رواية عبدة بن سليمان" فأنزل الله ترجئ" وهذا

(9/164)


أظهر في أن نزول الآية بهذا السبب، قال القرطبي حملت عائشة على هذا القبيح الغيرة التي طبعت عليها النساء وإلا فقد علمت أن الله أباح لنبيه ذلك وأن جميع النساء لو ملكن له رقهن لكان قليلا. قوله: "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" في رواية محمد بن بشر "إني لأرى ربك يسارع لك في هواك" أي في رضاك، قال القرطبي: هذا قول أبرزه الدلال والغيرة، وهو من نوع قولها ما أحمدكما ولا أحمد إلا الله، وإلا فإضافة الهوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تحمل على ظاهره، لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يفعل بالهوى، ولو قالت إلى مرضاتك لكان أليق، ولكن الغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك. قوله: "رواه أبو سعيد المؤدب ومحمد بن بشر وعبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة يزيد بعضهم على بعض" أما رواية أبي سعيد واسمه محمد بن مسلم بن أبي الوضاح فوصلها ابن مردويه في التفسير والبيهقي من طريق منصور بن أبي مزاحم عنه مختصرا كما نبهت عليه "قالت التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم" حسب، وأما رواية محمد بن بشر فوصلها الإمام أحمد عنه بتمام الحديث، وقد بينت ما فيه من زيادة وفائدة، وأما رواية عبدة وهو ابن سليمان فوصلها مسلم وابن ماجه من طريقه وهي نحو رواية محمد بن بشر.

(9/165)


32- باب نِكَاحِ الْمُحْرِمِ
5114- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ"
قوله: "باب نكاح المحرم" كأنه يحتج إلى الجواز، لأنه لم يذكر في الباب شيئا غير حديث ابن عباس في ذلك، ولم يخرج حديث المنع كأنه لم يصح عنده على شرطه. قوله: "أخبرنا عمرو" هو ابن دينار، وجابر بن زيد هو أبو الشعثاء. قوله: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم" تقدم في أواخر الحج من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس بلفظ: "تزوج ميمونة وهو محرم" وفي رواية عطاء المذكورة عن ابن عباس عند النسائي: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها إياه" وتقدم في عمرة القضاء من رواية عكرمة بلفظ حديث الأوزاعي وزاد: "وبنا بها وهي حلال" وماتت بسرف، قال الأثرم: قلت لأحمد إن أبا ثور يقول بأي شيء يدفع حديث ابن عباس - أي مع صحته - قال فقال: الله المستعان، ابن المسيب يقول: وهم ابن عباس، وميمونة تقول تزوجني وهو حلال ا هـ. وقد عارض حديث ابن عباس حديث عثمان "لا ينكح المحرم ولا ينكح" أخرجه مسلم، ويجمع بينه وبين حديث ابن عباس يحمل حديث ابن عباس على أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عبد البر: اختلفت الآثار في هذا الحكم؛ لكن الرواية أنه تزوجها وهو حلال، جاءت من طرق شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإسناد، لكن الوهم إلى الواحد أقرب إلى الوهم من الجماعة فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا فتطلب الحجة من غيرهما وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم فهو المعتمد ا هـ، وقد تقدم في أواخر كتاب الحج البحث في ذلك ملخصا وأن منهم من حمل حديث عثمان على الوطء، وتعقب بأنه ثبت فيه: "لا ينكح بفتح أوله ولا ينكح بضم أوله ولا يخطب" ووقع في صحيح ابن حبان زيادة "ولا يخطب عليه" ويترجح حديث عثمان بأنه تقعيد قاعدة، وحديث ابن عباس واقعة عين تحتمل أنواعا من الاحتمالات: فمنها أن ابن عباس كان يرى أن من قلد الهدي يصير محرما كما تقدم تقرير ذلك عنه في كتاب الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قلد الهدي في عمرته تلك التي تزوج فيها ميمونة، فيكون

(9/165)


إطلاقه أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم أي عقد عليها بعد أن قلد الهدي وإن لم يكن تلبس بالإحرام، وذلك أنه كان أرسل إليها أبا رافع يخطبها فجعلت أمرها إلى العباس فزوجها من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج الترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من طريق مطر الوراق عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما" قال الترمذي: لا نعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر، ورواه مالك عن ربيعة عن سليمان مرسلا. ومنها أن قول ابن عباس تزوج ميمونة وهو محرم أي داخل الحرام أو في الشهر الحرام، قال الأعشى "قتلوا كسرى بليل محرما" أي في الشهر الحرام.وقال آخر "قتلوا ابن عفان الخليفة محرما" أي في البلد الحرام، وإلى هذا التأويل جنح ابن حبان فجزم به في صحيحه. وعارض حديث ابن عباس أيضا حديث يزيد بن الأصم "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال" أخرجه مسلم من طريق الزهري قال: "وكانت خالته كما كانت خالة ابن عباس" وأخرج مسلم من وجه آخر عن يزيد ابن الأصم قال: "حدثتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس" وأما أثر ابن المسيب الذي أشار إليه أحمد فأخرجه أبو داود. وأخرج البيهقي من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس الحديث قال: وقال سعيد بن المسيب ذهل ابن عباس وإن كانت خالته ما تزوجها إلا بعدما أحل، قال الطبري: الصواب من القول عندنا أن نكاح المحرم فاسد لصحة حديث عثمان، وأما قصة ميمونة فتعارضت الأخبار فيها ثم ساق من طريق أيوب قال: أنبئت أن الاختلاف في زواج ميمونة إنما وقع لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعث إلى العباس لينكحها إياه فأنكحه، فقال بعضهم أنكحها قبل أن يحرم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم بعدما أحرم، وقد ثبت أن عمر وعليا وغيرهما من الصحابة فرقوا بين محرم نكح وبين امرأته ولا يكون هذا إلا عن ثبت. "تنبيه": قدمت في الحج أن حديث ابن عباس جاء مثله صحيحا عن عائشة وأبي هريرة، فأما حديث عائشة فأخرجه النسائي من طريق أبي سلمة عنه، وأخرجه الطحاوي والبزار من طريق مسروق عنها وصححه ابن حبان، وأكثر ما أعل بالإرسال وليس ذلك بقادح فيه. وقال النسائي: "أخبرنا عمرو بن علي أنبأنا أبو عاصم عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة مثله" قال عمرو بن علي قلت لأبي عاصم: أنت أمليت علينا من الرقعة ليس فيه عائشة، فقال: دع عائشة حتى أنظر فيه، وهذا إسناد صحيح لولا هذه القصة، لكن هو شاهد قوي أيضا وأما حديث أبي هريرة أخرجه الدار قطني وفي إسناده كامل أبو العلاء وفيه ضعف، لكنه يعتضد بحديثي ابن عباس وعائشة، وفيه رد على قول ابن عبد البر أن ابن عباس تفرد من بين الصحابة بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وهو محرم، وجاء عن الشعبي ومجاهد مرسلا مثله أخرجهما ابن أبي شيبة. وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن محمد بن أبي بكر قال: سألت أنسا عن نكاح المحرم فقال: لا بأس به وهل هو [إلا] كالبيع وإسناده قوي لكنه قياس في مقابل النص فلا عبرة به، وكان أنسا لم يبلغه حديث عثمان

(9/166)


باب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيراً
...
33- باب نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ آخِرًا
5115- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ

(9/166)


الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ"
5116- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَالِ الشَّدِيدِ وَفِي النِّسَاءِ قِلَّةٌ أَوْ نَحْوَهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَعَمْ"
5117، 5118- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالاَ كُنَّا فِي جَيْشٍ فَأَتَانَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا"
5119- وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا فَعِشْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلاَثُ لَيَالٍ فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَزَايَدَا أَوْ يَتَتَارَكَا تَتَارَكَا فَمَا أَدْرِي أَشَيْءٌ كَانَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَبَيَّنَهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ"
قوله: "باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيرا" يعني تزويج المرأة إلى أجل فإذا انقضى وقعت الفرقة. وقوله في الترجمة "أخيرا" يفهم منه أنه كان مباحا وأن النهي عنه وقع في آخر الأمر. وليس في أحاديث الباب التي أوردها التصريح بذلك، لكن قال في آخر الباب: "أن عليا بين أنه منسوخ" وقد وردت عدة أحاديث صحيحة صريحة بالنهي عنها بعد الإذن فيها، وأقرب ما فيها عهدا بالوفاة النبوية ما أخرجه أبو داود من طريق الزهري قال: "كنا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكرنا متعة النساء، فقال رجل يقال له ربيع بن سبرة" أشهد على أبي أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حجة الوداع، وسأذكر الاختلاف في حديث سبرة هذا - وهو ابن معبد - بعد هذا. قوله: "أخبرني الحسن بن محمد بن علي" أي ابن أبي طالب، وأبوه محمد هو الذي يعرف بابن الحنفية، وأخوه عبد الله بن محمد. أما الحسن فأخرج له البخاري غير هذا، منها ما تقدم له في الغسل من روايته عن جابر، ويأتي له في هذا الباب آخر عن جابر وسلمة بن الأكوع، وأما أخوه عبد الله بن محمد فكنيته أبو هاشم وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، ووثقه ابن سعد والنسائي والعجلي، وقد تقدمت له طريق أخرى في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وتأتي أخرى في كتاب الذبائح، وأخرى في ترك الحيل؛ وقرنه في المواضع الثلاثة بأخيه الحسن، وذكر في التاريخ عن ابن عيينة عن الزهري "أخبرنا الحسن وعبد الله ابنا محمد بن علي وكان الحسن أوثقهما" ولأحمد عن سفيان "وكان الحسن أرضاهما إلى أنفسنا، وكان عبد الله يتبع السبئية" ا هـ والسبئية بمهملة ثم موحدة ينسبون إلى عبد الله بن سبأ، وهو من رؤساء الروافض، وكان المختار بن أبي عبيد على رأيه، ولما غلب على الكوفة وتتبع قتلة الحسين فقتلهم أحبته الشيعة ثم فارقه أكثرهم لما ظهر منه من الأكاذيب، وكان من رأي السبئية موالاة محمد بن علي بن أبي طالب. وكانوا يزعمون أنه المهدي وأنه لا يموت حتى يخرج في آخر الزمان. ومنهم من أقر بموته وزعم أن الأمر بعده صار إلى ابنه أبي هاشم هذا. ومات أبو هاشم في آخر ولاية سليمان بن

(9/167)


عبد الملك سنة ثمان أو تسع وتسعين. قوله: "عن أبيهما" في رواية الدار قطني في "الموطآت" من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري "عن مالك عن الزهري أن عبد الله والحسن ابني محمد أخبراه أن أباهما محمد بن علي بن أبي طالب أخبرهما". قوله: "أن عليا قال لابن عباس" سيأتي بيان تحديثه له بهذا الحديث في ترك الحيل بلفظ: "أن عليا قيل له أن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأسا" وفي رواية الثوري ويحيى بن سعيد كلاهما عن مالك عند الدار قطني "أن عليا سمع ابن عباس وهو يفتي في متعة النساء فقال: أما علمت" وأخرجه سعيد بن منصور عن هشيم "عن يحيى بن سعيد عن الزهري بدون ذكر مالك ولفظه: "أن عليا مر بابن عباس وهو يفتي في متعة النساء أنه لا بأس بها"، ولمسلم من طريق جويرية عن مالك يسنده أنه "سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان إنك رجل تائه" وفي رواية الدار قطني من طريق الثوري أيضا: "تكلم علي وابن عباس في متعة النساء فقال له علي: إنك امرؤ تائه" ولمسلم من وجه آخر أنه "سمع ابن عباس يلين في متعة النساء فقال له: مهلا يا ابن عباس" ولأحمد من طريق معمر "رخص في متعة النساء". قوله:" أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة" في رواية أحمد عن سفيان نهى عن نكاح المتعة. قوله: "وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر" هكذا لجميع الرواة عن الزهري "خيبر" بالمعجمة أوله والراء آخره إلا ما رواه عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد عن مالك في هذا الحديث فإنه قال: "حنين" بمهملة أوله ونونين أخرجه النسائي والدار قطني ونبها على أنه وهم تفرد به عبد الوهاب، وأخرجه الدار قطني من طريق أخرى عن يحيى بن سعيد فقال خيبر على الصواب، وأغرب من ذلك رواية إسحاق بن راشد عن الزهري عنه بلفظ: "نهى في غزوة تبوك عن نكاح المتعة" وهو خطأ أيضا. قوله: "زمن خيبر" الظاهر أنه ظرف للأمرين، وحكى البيهقي عن الحميدي أن سفيان بن عيينة كان يقول: قوله: "يوم خيبر" يتعلق بالحمر الأهلية لا بالمتعة، قال البيهقي: وما قاله محتمل يعني في روايته هذه، وأما غيره فصرح أن الظرف يتعلق بالمتعة، وقد مضى في غزوة خيبر من كتاب المغازي ويأتي في الذبائح من طريق مالك بلفظ: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية" وهكذا أخرجه مسلم من رواية ابن عيينة أيضا، وسيأتي في ترك الحيل في رواية عبيد الله بن عمر عن الزهري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر" وكذا أخرجه مسلم وزاد من طريقه "فقال مهلا يا ابن عباس "ولأحمد من طريق معمر بسنده أنه "بلغه أن ابن عباس رخص في متعة النساء، فقال له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية" وأخرجه مسلم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري مثل رواية مالك، والدار قطني من طريق ابن وهب عن مالك ويونس وأسامة بن زيد ثلاثتهم عن الزهري كذلك، وذكر السهيلي أن ابن عيينة رواه عن الزهري بلفظ: "نهى عن أكل الحمر الأهلية عام خيبر، وعن المتعة بعد ذلك أو في غير ذلك اليوم" ا هـ وهذا اللفظ الذي ذكره لم أره من رواية ابن عيينة، فقد أخرجه أحمد وابن أبي عمر والحميدي وإسحاق في مسانيدهم عن ابن عيينة باللفظ الذي أخرجه البخاري من طريقه، لكن منهم من زاد لفظ: "نكاح" كما بينته، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وإبراهيم بن موسى والعباس بن الوليد، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب جميعا عن ابن عيينة بمثل لفظ مالك، وكذا أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة لكن قال: "زمن" بدل "يوم" قال السهيلي: ويتصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر، قال: فالذي يظهر

(9/168)


أنه وقع تقديم وتأخير لفظ الزهري، وهذا الذي قاله سبقه إليه غيره في النقل عن ابن عيينة، فذكر ابن عبد البر من طريق قاسم بن أصبغ أن الحميدي ذكر عن ابن عيينة أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر، ثم راجعت "مسند الحميدي" من طريق قاسم بن أصبغ عن أبي إسماعيل السلمي عنه فقال بعد سياق الحديث: "قال ابن عيينة: يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، ولا يعني نكاح المتعة" قال ابن عبد البر: وعلى هذا أكثر الناس. وقال البيهقي: يشبه أن يكون كما قال لصحة الحديث في أنه صلى الله عليه وسلم رخص فيها بعد ذلك ثم نهى عنها، فلا يتم احتجاج علي إلا إذا وقع النهي أخيرا لتقوم به الحجة على ابن عباس. وقال أبو عوانة في صحيحه سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة فسكت عنها وإنما نهى عنها يوم الفتح ا هـ. والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرخصة فيها بعد زمن خيبر كما أشار إليه البيهقي، لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليا لم تبلغه الرخصة فيها يوم الفتح لوقوع النهي عنها عن قرب كما سيأتي بيانه، ويؤيد ظاهر حديث على ما أخرجه أبو عوانة وصححه من طريق سالم بن عبد الله "أن رجلا سأل ابن عمر عن المتعة فقال: حرام. فقال: إن فلانا يقول فيها. فقال: والله لقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمها يوم خيبر وما كنا مسافحين" قال السهيلي: وقد اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة فأغرب ما روي في ذلك رواية من قال في غزوة تبوك، ثم رواية الحسن أن ذلك كان في عمرة القضاء، والمشهور في تحريمها أن ذلك في غزوة الفتح كما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه وفي رواية عن الربيع أخرجها أبو داود أنه كان في حجة الوداع، قال ومن قال من الرواة كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح ا هـ. فتحصل مما أشار إليه ستة مواطن: خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم الفتح، ثم أوطاس، ثم تبوك، ثم حجة الوداع. وبقي عليه حنين لأنها وقعت في رواية قد نبهت عليها قبل، فأما أن يكون ذهل عنها أو تركها عمدا لخطأ رواتها، أو لكون غزوة أوطاس وحنين واحدة. فأما رواية تبوك فأخرجها إسحاق بن راهويه وابن حبان من طريقه من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بثنية الوداع رأى مصابيح وسمع نساء يبكين، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسول الله، نساء كانوا تمتعوا منهن. فقال: هدم المتعة النكاح والطلاق والميراث" وأخرجه الحازمي من حديث جابر قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة قد كنا تمتعنا بهن يطفن برحالنا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، قال فغضب وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ فسميت ثنية الوداع". وأما رواية الحسن وهو البصري فأخرجها عبد الرزاق من طريقه وزاد: "ما كانت قبلها ولا بعدها" وهذه الزيادة منكرة من راويها عمرو بن عبيد، وهو ساقط الحديث، وقد أخرجه سعيد بن منصور من طريق صحيحة عن الحسن بدون هذه الزيادة. وأما غزوة الفتح فثبتت في صحيح مسلم كما قال: وأما أوطاس فثبتت في مسلم أيضا من حديث سلمة بن الأكوع. وأما حجة الوداع فوقع عند أبي داود من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه. وأما قوله لا مخالفة بين أوطاس والفتح ففيه نظر، لأن الفتح كان في رمضان ثم خرجوا إلى أوطاس في شوال، وفي سياق مسلم أنهم لم يخرجوا من مكة حتى حرمت، ولفظة "إنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح، فأذن لنا في متعة النساء، فخرجت أنا ورجل من قومي - فذكر قصة المرأة، إلى أن قال - ثم استمتعت منها، فلم أخرج حتى حرمها" وفي لفظ له "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بين الركن والباب وهو يقول: "بمثل حديث ابن نمير وكان تقدم في حديث

(9/169)


ابن نمير أنه قال: يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة" وفي رواية: "أمرنا بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج حتى نهانا عنها" وفي رواية له "أمر أصحابه بالتمتع من النساء - فذكر القصة قال - فكن معنا ثلاثا، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقهن" وفي لفظ: "فقال إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة" فأما أوطاس فلفظ مسلم: "رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها" وظاهر الحديثين المغايرة، لكن يحتمل أن يكون أطلق على عام الفتح عام أوطاس لتقاربهما، ولو وقع في سياقه أنهم تمتعوا من النساء في غزوة أوطاس لما حسن هذا الجمع، نعم ويبعد أن يقع الإذن في غزوة أوطاس بعد أن يقع التصريح قبلها في غزوة الفتح بأنها حرمت إلى يوم القيامة، وإذا تقرر ذلك فلا يصح من الروايات شيء بغير علة إلا غزوة الفتح. وأما غزوة خيبر وإن كانت طرق الحديث فيها صحيحة ففيها من كلام أهل العلم ما تقدم. وأما عمرة القضاء فلا يصح الأثر فيها لكونه من مرسل الحسن ومراسيله ضعيفة لأنه كان يأخذ عن كل أحد، وعلى تقدير ثبوته فلعله أراد أيام خيبر لأنهما كانا في سنة واحدة في الفتح وأوطاس سواء. وأما قصة تبوك فليس في حديث أبي هريرة التصريح بأنهم استمتعوا منهن في تلك الحالة، فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديما ثم وقع التوديع منهن حينئذ والنهي، أو كان النهي وقع قديما فلم يبلغ بعضهم فاستمر على الرخصة، فلذلك قرن النهي بالغضب لتقدم النهي في ذلك، على أن في حديث أبي هريرة مقالا، فإنه من رواية مؤمل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمار وفي كل منهما مقال. وأما حديث جابر فلا يصح فإنه من طريق عباد بن كثير وهو متروك. وأما حجة الوداع فهو اختلاف على الربيع بن سبرة، والرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر، فإن كان حفظه فليس في سياق أبي داود سوى مجرد النهي، فلعله صلى الله عليه وسلم أراد إعادة النهي ليشيع ويسمعه من لم يسمعه قبل ذلك. فلم يبق من المواطن كما قلنا صحيحا صريحا سوى غزوة خيبر وغزوة الفتح، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدم، وزاد ابن القيم في "الهدي" أن الصحابة لم يكونوا يستمتعون باليهوديات، يعني فيقوى أن النهي لم يقع يوم خيبر أو لم يقع هناك نكاح متعة، لكن يمكن أن يجاب بأن يهود خيبر كانوا يصاهرون الأوس والخزرج قبل الإسلام فيجوز أن يكون هناك من نسائهم من وقع التمتع بهن فلا ينهض الاستدلال بما قال، قال الماوردي في "الحاوي" : في تعيين موضع تحريم المتعة وجهان أحدهما أن التحريم تكرر ليكون أظهر وأنشر حتى يعلمه من لم يكن علمه لأنه قد يحضر في بعض المواطن من لا يحضر في غيرها، والثاني أنها أبيحت مرارا، ولهذا قال في المرة الأخيرة "إلى يوم القيامة" إشارة إلى أن التحريم الماضي كان مؤذنا بأن الإباحة تعقبه، بخلاف هذا فإنه تحريم مؤبد لا تعقبه إباحة أصلا، وهذا الثاني هو المعتمد، ويرد الأول التصريح بالأذن فيها في الموطن المتأخر عن الموطن الذي وقع التصريح فيه بتحريمها كما في غزوة خيبر ثم الفتح. وقال النووي: الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين فكانت مباحة قبل خيبر ثم حرمت فيها ثم أبيحت عام الفتح وهو عام أوطاس ثم حرمت تحريما مؤبدا، قال: ولا مانع من تكرير الإباحة. ونقل غيره عن الشافعي أن المتعة نسخت مرتين، وقد تقدم في أوائل النكاح حديث ابن مسعود في سبب الإذن في نكاح المتعة وأنهم كانوا إذا غزوا اشتدت عليهم العزبة فأذن لهم في الاستمتاع فلعل النهي كان يتكرر في كل مواطن بعد الإذن، فلما وقع في المرة الأخيرة أنها حرمت إلى يوم القيامة لم يقع بعد ذلك إذن والله أعلم. والحكمة في جمع علي بين النهي عن الحمر والمتعة أن ابن عباس كان يرخص في الأمرين معا،

(9/170)


وسيأتي النقل عنه في الرخصة في الحمر الأهلية في أوائل كتاب الأطعمة، فرد عليه علي في الأمرين معا وأن ذلك يوم خيبر، فإما أن يكون على ظاهره وأن النهي عنهما وقع في زمن واحد. وإما أن يكون الإذن الذي وقع عام الفتح لم يبلغ عليا لقصر مدة الإذن وهو ثلاثة أيام كما تقدم. والحديث في قصة تبوك على نسخ الجواز في السفر لأنه نهى عنها في أوائل إنشاء السفر مع أنه كان سفرا بعيدا والمشقة فيه شديدة كما صرح به في الحديث في توبة كعب، وكان علة الإباحة وهي الحاجة الشديدة انتهت من بعد فتح خيبر وما بعدها والله أعلم. والجواب عن قول السهيلي أنه لم يكن في خيبر نساء يستمتع بهن ظاهر مما بينته من الجواب عن قول ابن القيم لم تكن الصحابة يتمتعون باليهوديات، وأيضا فيقال كما تقدم لم يقع في الحديث التصريح بأنهم استمتعوا في خيبر، وإنما فيه مجرد النهي، فيؤخذ منه أن التمتع من النساء كان حلالا وسبب تحليله ما تقدم في حديث ابن مسعود حيث قال: "كنا نغزو وليس لنا شيء - ثم قال - فرخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب" فأشار إلى سبب ذلك وهو الحاجة مع قلة الشيء، وكذا في حديث سهل بن سعد الذي أخرجه ابن عبد البر بلفظ: "إنما رخص النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة لعزبة كانت بالناس شديدة، ثم نهى عنها" فلما فتحت خيبر وسع عليهم من المال ومن السبي فناسب النهي عن المتعة لارتفاع سبب الإباحة، وكان ذلك من تمام شكر نعمة الله على التوسعة بعد الضيق، أو كانت الإباحة إنما تقع في المغازي التي يكون في المسافة إليها بعد ومشقة، وخيبر بخلاف ذلك لأنها بقرب المدينة فوقع النهي عن المتعة فيها إشارة إلى ذلك من غير تقدم إذن فيها، ثم لما عادوا إلى سفرة بعيدة المدة وهي غزاة الفتح وشقت عليهم العزوبة أذن لهم في المتعة لكن مقيدا بثلاثة أيام فقط دفعا للحاجة، ثم نهاهم بعد انقضائها عنها كما سيأتي من رواية سلمة، وهكذا يجاب عن كل سفرة ثبت فيها النهي بعد الإذن، وأما حجة الوداع فالذي يظهر أنه وقع فيها النهي مجردا إن ثبت الخبر في ذلك، لأن الصحابة حجوا فيها بنسائهم بعد أن وسع عليهم فلم يكونوا في شدة ولا طول عزبة، وإلا فمخرج حديث سبرة راوية هو من طريق ابنه الربيع عنه، وقد اختلف عليه في تعيينها؛ والحديث واحد في قصة واحدة فتعين الترجيح، والطريق التي أخرجها مسلم مصرحة بأنها في زمن الفتح أرجح فتعين المصير إليها والله أعلم. قوله: "عن أبي جمرة" هو الضبعي بالجيم والراء، ورأيته بخط بعض من شرح هذا الكتاب بالمهملة والزاي وهو تصحيف. قوله: "سمعت ابن عباس يسأل" بضم أوله. قوله: "فرخص" أي فيا، وثبتت في رواية الإسماعيلي. قوله: "فقال له مولى له" لم أقف على اسمه صريحا، وأظنه عكرمة. قوله: "إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه" في رواية الإسماعيلي: "إنما كان ذلك في الجهاد والنساء قليل". قوله: "فقال ابن عباس نعم" في رواية الإسماعيلي: "صدق". وعند مسلم من طريق الزهري عن خالد بن المهاجر أو ابن أبي عمرة الأنصاري "قال رجل - يعني لابن عباس، وصرح به البيهقي في روايته - إنما كانت - يعني المتعة - رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها كالميتة والدم ولحم الخنزير" ويؤيده ما أخرجه الخطابي والفاكهي من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس لقد سارت بفتياك الركبان. وقال فيها الشعراء، يعني في المتعة. فقال: والله ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة لا تحل إلا للمضطر. وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن سعيد بن جبير وزاد في آخره: ألا إنما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير. وأخرجه محمد بن خلف المعروف بوكيع في كتاب "الغرر من الأخبار" بإسناد أحسن منه عن سعيد بن جبير بالقصة، لكن ليس في آخره قول ابن عباس المذكور. وفي حديث سهل بن سعد الذي أشرت

(9/171)


إليه قريبا نحوه فهذه أخبار يقوي بعضها ببعض، وحاصلها أن المتعة إنما رخص فيها بسبب العزبة في حال السفر وهو يوافق حديث ابن مسعود الماضي في أوائل النكاح. وأخرج البيهقي من حديث أبي ذر بإسناد حسن "إنما كانت المتعة لحربنا وخوفنا" وأما ما أخرجه الترمذي من طريق محمد بن كعب عن ابن عباس قال: "إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلد ليس له فيها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يقيم فتحفظ له متاعه" فإسناده ضعيف، وهو شاذ مخالف لما تقدم من علة إباحتها. قوله: "قال عمرو" هو ابن دينار، في رواية الإسماعيلي من طريق ابن أبي الوزير عن سفيان "عن عمرو بن دينار" وهو غريب من حديث ابن عيينة قل من رواه من أصحابه عنه، وإنما أخرجه البخاري مع كونه معنعنا لوروده عن عمرو بن دينار من غير طريق سفيان، نبه على ذلك الإسماعيلي، وهو كما قال قد أخرجه مسلم من طريق شعبة وروح بن القاسم، وأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج كلهم عن عمرو. قوله: "عن الحسن بن محمد" أي ابن علي بن أبي طالب، ووقع في رواية ابن جريج "الحسن بن محمد بن علي، وهو الماضي ذكره في الحديث الأول. وفي رواية شعبة المذكورة عن عمرو" سمعت الحسن بن محمد". قوله: "عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع" في رواية روح بن القاسم تقديم سلمة على جابر، وقد أدركهما الحسن بن محمد جميعا لكن روايته عن جابر أشهر. قوله: "كنا في جيش" لم أقف على تعيينه، لكن عند مسلم من طريق أبي العميس عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها". "تنبيه": ضبط جيش في جميع الروايات بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة، وحكى الكرماني أن في بعض الروايات "حنين" بالمهملة ونونين باسم مكان الوقعة المشهورة ولم أقف عليه. قوله: "فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم" لم أقف على اسمه، لكن في رواية شعبة "خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فيشبه أن يكون هو بلال. قوله: "إنه قد إذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا" زاد شعبة في روايته: "يعني متعة النساء" وضبط فاستمتعوا بفتح المثناة وكسرها بلفظ الأمر وبلفظ الفعل الماضي. وقد أخرج مسلم حديث جابر من طرق أخرى، منها عن أبي نضرة عن جابر أنه سئل عن المتعة فقال: "فعلناها مع سول الله صلى الله عليه وسلم:" ومن طريق عطاء عن جابر "استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر" وأخرج عن محمد ابن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج "أخبرني أبو الزبير سمعت جابرا" نحوه وزاد: "حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث" وقصة عمرو بن حريث أخرجها عبد الرزاق في مصنفه بهذا الإسناد عن جابر قال: "قدم عمرو ابن حريث الكوفة فاستمتع بمولاة فأتى بها عمرو حبلى، فسأله فاعترف، قال فذلك حين نهى عنها عمر" قال البيهقي في رواية سلمة بن الأكوع التي حكيناها عن تخريج مسلم: "ثم نهى عنها" ضبطناه "نهى" بفتح النون ورأيته في رواية معتمدة "نها" بالألف قال: فإن قيل بل هي بضم النون والمراد بالناهي في حديث سلمة عمر كما في حديث جابر قلنا هو محتمل، لكن ثبت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها في حديث الربيع بن سبرة ابن معبد عن أبيه بعد الإذن فيه، ولم نجد عنه الإذن فيه بعد النهي عنه، فنهى عمر موافق لنهيه صلى الله عليه وسلم. قلت: وتمامه أن يقال: لعل جابرا ومن نقل عنه استمرارهم على ذلك بعده صلى الله عليه وسلم إلى أن نهى عنها عمر لم يبلغهم النهي. ومما يستفاد أيضا أن عمر لم ينه عنها اجتهادا وإنما نهى عنها مستندا إلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح عنه بذلك فيما أخرجه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال: "لما ولي عمر خطب فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها"

(9/172)


وأخرج ابن المنذر والبيهقي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "صعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة بعد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها"، وفي حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه في صحيح ابن حبان: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث" وله شاهد صحيح عن سعيد بن المسيب أخرجه البيهقي. قوله: "وقال ابن أبي ذئب إلخ" وصله الطبراني والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عن ابن أبي ذئب. قوله: "أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال" وقع في رواية المستملي: "بعشرة" بالموحدة المكسورة بدل الفاء المفتوحة، وبالفاء أصح، وهي رواية الإسماعيلي وغيره. والمعنى أن إطلاق الأجل محمول على التقييد بثلاثة أيام بلياليهن. قوله: "فإن أحبا" أي بعد انقضاء الثلاث "أن يتزايدا" أي في المدة؛ يعني تزايدا. ووقع في رواية الإسماعيلي التصريح بذلك، وكذا في قوله أن يتتاركا أي يتفارقا تتاركا. وفي رواية أبي نعيم "أن يتناقضا تناقضا" والمراد به التفارق. قوله: "فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة" ووقع في حديث أبي ذر التصريح بالاختصاص أخرجه البيهقي عنه قال: "إنما أحلت لنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متعة النساء ثلاثة أيام، ثم نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "وقد بينه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ" يريد بذلك تصريح علي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها بعد الإذن فيها، وقد بسطناه في الحد الأول. وأخرج عبد الرزاق من وجه آخر عن علي قال: "نسخ رمضان كل صوم، ونسخ المتعة الطلاق والعدة والميراث" وقد اختلف السلف في نكاح المتعة، قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة فيها، ولا أعلم اليوم أحدا يجيزها إلا بعض الرافضة، ولا معنى لقول يخالف كتاب الله وسنة رسوله. وقال عياض: ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض. وأما ابن عباس فروي عنه أنه أباحها، وروي عنه أنه رجع عن ذلك. قال ابن بطال: روى أهل مكة واليمن عن ابن عباس إباحة المتعة، وروي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة وإجازة المتعة عنه أصح، وهو مذهب الشيعة. قال: وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أبطل سواء كان قبل الدخول أم بعده، إلا قول زفر إنه جعلها كالشروط الفاسدة، ويرده قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها". قلت: وهو في حديث الربيع بن سبرة عن أبيه عند مسلم. وقال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته فقد صح عن علي أنها نسخت. ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: "هي الزنا بعينه" قال الخطابي: ويحكى عن ابن جريج جوازها ا هـ. وقد نقل أبو عوانة في صحيحه عن ابن جريج أنه رجع عنها بعد أن روى بالبصرة في إباحتها ثمانية عشر حديثا. وقال ابن دقيق العيد: ما حكاه بعض الحنفية عن مالك من الجواز خطأ، فقد بالغ المالكية في منع النكاح المؤقت حتى أبطلوا توقيت الحل بسببه فقالوا: لو علق على وقت لا بد من مجيئه وقع الطلاق الآن لأنه توقيت للحل فيكون في معنى نكاح المتعة. قال عياض: وأجمعوا على أن شرط البطلان التصريح بالشرط، فلو نوى عند العقد أن يفارق بعد مدة صح نكاحه، إلا الأوزاعي فأبطله. واختلفوا هل يحد ناكح المتعة أو يعزر؟ على قولين مأخذهما أن الاتفاق بعد الخلاف هل يرفع الخلاف المتقدم. وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض. وجزم جماعة من الأئمة بتفرد ابن عباس بإباحتها فهي من المسألة المشهورة وهي ندرة المخالف، ولكن قال ابن عبد البر: أصحاب ابن عباس

(9/173)


من أهل مكة واليمن على إباحتها، ثم اتفق فقهاء الأمصار على تحريمها. وقال ابن حزم: ثبت على إباحتها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ومعاوية وأبو سعيد وابن عباس وسلمة ومعبد ابنا أمية بن خلف وجابر وعمرو ابن حريث ورواه جابر عن جميع الصحابة مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر، قال: ومن التابعين طاوس وسعيد بن جبير وعطاء وسائر فقهاء مكة. قلت: وفي جميع ما أطلقه نظر، أما ابن مسعود فمستنده فيه الحديث الماضي في أوائل النكاح، وقد بينت فيه ما نقله الإسماعيلي من الزيادة فيه المصرحة عنه بالتحريم، وقد أخرجه أبو عوانة من طريق أبي معاوية عن إسماعيلي بن أبي خالد وفي آخره: "ففعلنا ثم ترك ذلك". وأما معاوية فأخرجه عبد الرزاق من طريق صفوان بن يعلى بن أمية "أخبرني يعلى أن معاوية استمتع بامرأة بالطائف" وإسناده صحيح، لكن في رواية أبي الزبير عن جابر عند عبد الرزاق أيضا أن ذلك كان قديما ولفظه: "استمتع معاوية مقدمه الطائف بمولاة لبني الحضرمي يقال لها معانة، قال جابر: ثم عاشت معانة إلى خلافة معاوية فكان يرسل إليها بجائزة كل عام" وقد كان معاوية متبعا لعمر مقتديا به فلا يشك أنه عمل بقوله بعد النهي، ومن ثم قال الطحاوي: خطب عمر فنهى عن المتعة، ونقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ذلك منكر، وفي هذا دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه. وأما أبو سعيد فأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أن عطاء قال: "أخبرني من شئت عن أبي سعيد قال: لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سويقا" وهذا - مع كونه ضعيفا للجهل بأحد رواته - ليس فيه التصريح بأنه كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وأما ابن عباس فتقدم النقل عنه والاختلاف هل رجع أو لا. وأما سلمة ومعبد فقصتهما واحدة اختلف فيها هل وقعت لهذا أو لهذا، فروى عبد الرزاق بسند صحيح عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: "لم يرع عمر إلا أم أراكة قد خرجت حبلى، فسألها عمر فقالت: استمتع بي سلمة بن أمية" وأخرج من طريق أبي الزبير عن طاوس فسماه معبد بن أمية. وأما جابر فمستنده قوله: "فعلناها" وقد بينته قبل، ووقع في رواية أبي نصرة عن جابر عند مسلم: "فنهانا عمر فلم نفعله بعد" فإن كان قوله فعلنا يعم جميع الصحابة فقوله ثم لم نعد يعم جميع الصحابة فيكون إجماعا، وقد ظهر أن مستنده الأحاديث الصحيحة التي بيناها. وأما عمرو بن حريث وكذا قوله رواه جابر عن جميع الصحابة فعجيب، وإنما قال جابر "فعلناها" وذلك لا يقتضي تعميم جميع الصحابة بل يصدق على فعل نفسه وحده، وأما ما ذكره عن التابعين فهو عند عبد الرزاق عنهم بأسانيد صحيحة، وقد ثبت عن جابر عند مسلم: "فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهانا عمر فلم نعد لها" فهذا يرد عده جابرا فيمن ثبت على تحليلها، وقد اعترف ابن حزم مع ذلك بتحريمها لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها حرام إلى يوم القيامة" قال فأمنا بهذا القول نسخ التحريم. والله أعلم

(9/174)


34- باب عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ
5120- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ قَالَ أَنَسٌ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ بِي حَاجَةٌ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا وَا سَوْأَتَاهْ وَا سَوْأَتَاهْ قَالَ هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا"
[الحديث 5120- طرفه في: 6123]

(9/174)


5121- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا فَقَالَ مَا عِنْدَكَ قَالَ مَا عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي وَلَهَا نِصْفُهُ قَالَ سَهْلٌ وَمَا لَهُ رِدَاءٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَمَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ أَوْ دُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ يُعَدِّدُهَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمْلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح" قال ابن المنير في الحاشية، من لطائف البخاري أنه لما علم الخصوصية في قصة الواهبة استنبط من الحديث ما لا خصوصية فيه وهو جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح رغبة في صلاحه فيجوز لها ذلك، وإذا رغب فيها تزوجها بشرطه. قوله: "حدثنا مرحوم" زاد أبو ذر "ابن عبد العزيز بن مهران" وهو بصري مولى آل أبي سفيان ثقة مات سنة سبع وثمانين ومائة، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد أورده عنه في كتاب الأدب أيضا، وذكر البزار أنه تفرد به عن ثابت. قوله: "وعنده ابنة له" لم أقف على اسمها وأظنها أمينة بالتصغير. قوله: "جاءت امرأة" لم أقف على تعينها، وأشبه من رأيت بقصتها ممن تقدم ذكر اسمهن في الواهبات ليلى بنت قيس بن الخطيم، ويظهر لي أن صاحبة هذه القصة غير التي في حديث سهل. قوله: "واسوأتاه" أصل السوءة - وهي بفتح المهملة وسكون الواو بعدها همزة - الفعلة القبيحة، وتطلق على الفرج، والمراد هنا الأول، والألف للندبة والهاء للسكت. ذكر المصنف حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة مطولا، وسيأتي شرحه بعد ستة عشر بابا، وفي الحديثين جواز عرض المرأة نفسها على الرجل وتعريفه رغبتها فيه وأن لا غضاضة عليها في ذلك، وأن الذي تعرض المرأة نفسها عليه بالاختيار لكن لا ينبغي أن يصرح لها بالرد بل يكفي السكوت. وقال المهلب: فيه أن على الرجل أن ينكحها إلا إذا وجد في نفسه رغبة فيها، ولذلك صعد النظر فيها وصوبه انتهى. وليس في القصة دلالة لما ذكره قال: وفيه جواز سكوت العالم ومن سئل حاجة إذا لم يرد الإسعاف، وأن ذلك ألين في صرف السائل وأأدب من الرد بالقول

(9/175)


35- باب عَرْضِ الإِنْسَانِ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ
5122- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقَالَ سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ

(9/175)


قَدْ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا قَالَ عُمَرُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلاَّ أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلْتُهَا"
5123- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لَوْ لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِي إِنَّ أَبَاهَا أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ"
قوله: "باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير" أورد عرض البنت في الحديث الأول، وعرض الأخت في الحديث الثاني. قوله: "حين تأيمت" بهمزة مفتوحة وتحتانية ثقيلة أي صارت أيما، وهي التي يموت زوجها أو تبين منه وتنقضي عدتها، وأكثر ما تطلق على من مات زوجها. وقال ابن بطال: العرب تطلق على كل امرأة لا زوج لها وكل رجل لا امرأة له أيما، زاد في "المشارق" وإن كان بكرا. وسيأتي مزيدا لهذا في "باب لا ينكح الأب وغيره البكر ولا الثيب إلا برضاها". قوله: "من خنيس" بخاء معجمة ونون وسين مهملة مصغر. قوله: "ابن حذافة" عند أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب وهي رواية يونس عن الزهري "ابن حذافة أو حذيفة" والصواب حذافة، وهو أخو عبد الله بن حذافة الذي تقدم ذكره في المغازي. ومن الرواة من فتح أول خنيس وكسر ثانيه، والأول هو المشهور بالتصغير، وعند معمر كالأول لكن بحاء مهملة وموحدة وشين معجمة. وقال الدار قطني: اختلف على عبد الرزاق فروى عنه علي الصواب وروى عنه بالشك. قوله: "وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية معمر كما سيأتي بعد أبواب "من أهل بدر". قوله: "فتوفي بالمدينة" قالوا مات بعد غزوة أحد من جراحة أصابته بها، وقيل بل بعد بدر ولعله أولى، فإنهم قالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد خمسة وعشرين شهرا من الهجرة. وفي رواية بعد ثلاثين شهرا. وفي رواية بعد عشرين شهرا، وكانت أحد بعد بدر بأكثر من ثلاثين شهرا، ولكنه يصح على قول من قال بعد ثلاثين على إلغاء الكسر، وجزم ابن سعد بأنه مات عقب قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من بدر وبه جزم ابن سيد الناس، وهو قول ابن عبد البر أنه شهد أحدا ومات من جراحة بها، وكانت حفصة أسن من أخيها عبد الله فإنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين وعبد الله ولد بعد البعثة بثلاث أو أربع. قوله: "فقال عمر بن الخطاب" أعاد ذلك لوقوع الفصل، وإلا فقوله أولا "إن عمر بن الخطاب" لا بد له من تقدير، قال ووقع في رواية معمر عند النسائي وأحمد عن ابن عمر عن عمر قال: "تأيمت حفصة". قوله:" أتيت عثمان فعرضت عليه حفصة؟ فقال: سأنظر في أمري، إلى أن قال قد بدا لي أن لا أتزوج "هذا هو الصحيح، ووقع في رواية

(9/176)


ربعي بن حراش عن عثمان عند الطبري وصححه هو والحاكم "أن عثمان خطب إلى عمر بنته فرده، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راح إليه عمر قال: يا عمر ألا أدلك على ختن خير من عثمان، وأدل عثمان على ختن خير منك؟ قال: نعم يا نبي الله. قال: تزوجني بنتك وأزوج عثمان بنتي" قال الحافظ الضياء: إسناده لا بأس به، لكن في الصحيح أن عمر عرض على عثمان حفصة فرد عليه "قد بدا لي أن لا أتزوج". قلت: أخرج ابن سعد من مرسل الحسن نحو حديث ربعي، ومن مرسل سعيد بن المسيب أتم منه، وزاد في آخره: "فخار الله لهما جميعا". ويحتمل في الجمع بينهما أن يكون عثمان خطب أولا إلى عمر فرده كما في رواية ربعي، وسبب رده يحتمل أن يكون من جهتها وهي أنها لم ترغب في التزوج عن قرب من وفاة زوجها، ويحتمل غير ذلك من الأسباب التي لا غضاضة فيها على عثمان في رد عمر له، ثم لما ارتفع السبب بادر عمر فعرضها على عثمان رعاية لخاطره كما في حديث الباب، ولعل عثمان بلغه ما بلغ أبا بكر من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها فصنع كما صنع من ترك إفشاء ذلك، ورد على عمر بجميل. ووقع في رواية ابن سعد "فقال عثمان: مالي في النساء من حاجة" وذكر ابن سعد عن الواقدي بسند له "أن عمر عرض حفصة على عثمان حين توفيت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعثمان يومئذ يريد أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا مما يؤيد أن موت خنيس كان بعد بدر فإن رقية ماتت ليالي بدر وتخلف عثمان عن بدر لتمريضها. وقد أخرج إسحاق في مسنده وابن سعد من مرسل سعيد بن المسيب قال: "تأيمت حفصة من زوجها وتأيم عثمان من رقية، فمر عمر بعثمان وهو حزين فقال: هل لك في حفصة؟ فقد انقضت عدتها من فلان" واستشكل أيضا بأنه لو كان مات بعد أحد للزم أن لا تنقضي عدتها إلا في سنة أربع، وأجيب باحتمال أن تكون وضعت عقب وفاته ولو سقطا فحلت. قوله: "سأنظر في أمري" أي أتفكر، ويستعمل النظر أيضا بمعنى الرأفة لكن تعديته باللام، وبمعنى الرؤية وهو الأصل ويعدى بإلى. وقد يأتي بغير صلة وهو بمعنى الانتظار. قوله: "قال عمر فلقيت أبا بكر" هذا يشعر بأنه عقب رد عثمان له بعرضها على أبي بكر. قوله: "فصمت أبو بكر" أي سكت وزنا ومعنى، وقوله بعد ذلك "فلم يرجع إلي شيئا" تأكيد لرفع المجاز، لاحتمال أن يظن أنه صمت زمانا ثم تكلم وهو بفتح الياء من يرجع. قوله: "وكنت أوجد عليه" أي أشد موجدة أي غضبا على أبى بكر من غضبي على عثمان، وذلك لأمرين: أحدهما ما كان بينهما من أكيد المودة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بينهما، وأما عثمان فلعله كان تقدم من عمر رده فلم يعتب عليه حيث لم يجبه لما سبق منه في حقه، والثاني لكون عثمان أجابه أولا ثم اعتذر له ثانيا، ولكون أبي بكر لم يعد عليه جوابا. ووقع في رواية ابن سعد "فغضب على أبي بكر وقال فيها: كنت أشد غضبا حين سكت مني على عثمان". قوله: "لقد وجدت علي" في رواية الكشميهني: "لعلك وجدت" وهي أوجه. قوله: "فلم أرجع" بكسر الجيم أي أعد عليك الجواب. قوله: "إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها" في رواية ابن سعد "فقال أبو بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان ذكر منها شيئا وكان سرا. قوله: "فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن سعد "وكرهت أن أفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها" في رواية معمر المذكورة "نكحتها". وفيه أنه لولا هذا العذر لقبلها، فيستفاد منه عذره في كونه لم يقل كما قال عثمان قد بدا لي أن لا أتزوج، وفيه فضل كتمان السر فإذا أظهره صاحبه ارتفع الحرج عمن سمعه. وفيه عتاب الرجل لأخيه وعتبة عليه واعتذاره إليه وقد جبلت الطباع البشرية على ذلك، ويحتمل أن يكون سبب كتمان أبي بكر ذلك أنه خشي أن يبدو لرسول

(9/177)


الله صلى الله عليه وسلم أن لا يتزوجها فيقع في قلب عمر انكسار، ولعل اطلاع أبي بكر على أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد خطبة حفصة كان بإخباره له صلى الله عليه وسلم إما على سبيل الاستشارة وإما لأنه كان لا يكتم عنه شيئا مما يريده حتى ولا ما في العادة عليه غضاضة وهو كون ابنته عائشة عنده، ولم يمنعه ذلك من اطلاعه على ما يريد لوثوقه بإيثاره إياه على نفسه، ولهذا اطلع أبو بكر على ذلك قبل اطلاع عمر الذي يقع الكلام معه في الخطبة. ويؤخذ منه أن الصغير لا ينبغي له أن يخطب امرأة أراد الكبير أن يتزوجها ولو لم تقع الخطبة فضلا عن الركون. وفيه الرخصة في تزويج من عرض النبي صلى الله عليه وسلم بخطبتها أو أراد أن يتزوجها لقول الصديق: لو تركها لقبلتها. وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه، وأنه لا استحياء في ذلك. وفيه أنه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوجا لأن أبا بكر كان حينئذ متزوجا. وفيه أن من حلف لا يفشي سر فلان فأفشى فلان سر نفسه ثم تحدث به الحالف لا يحنث لأن صاحب السر هو الذي أفشاه فلم يكن الإفشاء من قبل الحالف، وهذا بخلاف ما لو حدث واحد آخر بشيء واستحلفه ليكتمه فلقيه رجل فذكر له أن صاحب الحديث حدثه بمثل ما حدثه به فأظهر التعجب وقال ما ظننت أنه حدث بذلك غيري فإن هذا يحنث، لأن تحليفه وقع على أنه يكتم أنه حدثه وقد أفشاه. وفيه أن الأب يخطب إليه بنته الثيب كما يخطب إليه البكر ولا تخطب إلى نفسها كذا قال ابن بطال، وقوله لا تخطب إلى نفسها ليس في الخبر ما يدل عليه. قال وفيه أنه يزوج بنته الثيب من غير أن يستأمرها إذا علم أنها لا تكره ذلك وكان الخاطب كفوا لها، وليس في الحديث تصريح بالنفي المذكور إلا أنه يؤخذ من غيره، وقد ترجم له النسائي: "أنكاح الرجل بنته الكبيرة" فإن أراد بالرضا لم يخالف القواعد، وأن أراد بالإخبار فقد يمنع، والله أعلم. ذكر المصنف طرفا من حديث أم حبيبة في قصة بنت أم سلمة، وقد تقدم شرحه قريبا ولم يذكر فيه هنا مقصود الترجمة استغناء بالإشارة إليه وهو قولها "انكح أختي بنت أبي سفيان" والله أعلم

(9/178)


باب قول الله عز وجل (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء )الآية
...
36- باب قَوْلِ اللَّهِ عز وجَلَّ : {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ حَلِيمٌ} أَوْ أَكْنَنْتُمْ أَضْمَرْتُمْ وَكُلُّ شَيْءٍ صُنْتَهُ وَأَضْمَرْتَهُ فَهُوَ مَكْنُونٌ.
5124- وَقَالَ لِي طَلْقٌ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} يَقُولُ إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ تَيَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ وَقَالَ الْقَاسِمُ يَقُولُ إِنَّكِ عَلَيَّ كَرِيمَةٌ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا أَوْ نَحْوَ هَذَا وَقَالَ عَطَاءٌ يُعَرِّضُ وَلاَ يَبُوحُ يَقُولُ إِنَّ لِي حَاجَةً وَأَبْشِرِي وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ نَافِقَةٌ وَتَقُولُ هِيَ قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ وَلاَ تَعِدُ شَيْئًا وَلاَ يُوَاعِدُ وَلِيُّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا وَإِنْ وَاعَدَتْ رَجُلًا فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَقَالَ الْحَسَنُ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا الزِّنَا وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ}

(9/178)


الآية إلى قوله: {غَفُورٌ حَلِيمٌ} كذا للأكثر، وحذف ما بعد {أَكْنَنْتُمْ} من رواية أبي ذر، ووقع في شرح ابن بطال سياق الآية والتي بعدها إلى قوله: "أجله" الآية. قال ابن التين: تضمنت الآية أربعة أحكام: اثنان مباحان التعريض والإكنان، واثنان ممنوعان النكاح في العدة والمواعدة فيها. قوله: "أضمرتم في أنفسكم، وكل شيء صنته وأضمرته فهو مكنون" كذا للجميع، وعند أبي ذر بعده إلى آخر الآية. والتفسير المذكور لأبي عبيدة. قوله: "وقال لي طلق" هو ابن غنام بفتح المعجمة وتشديد النون. قوله: "عن ابن عباس فيما عرضتم" أي أنه قال في تفسير هذه الآية. قوله: "يقول إني أريد التزويج إلخ" وهو تفسير للتعريض المذكور في الآية، قال الزمخشري: التعريض أن يذكر المتكلم شيئا يدل به على شيء لم يذكره. وتعقب بأن هذا التعريف لا يخرج المجاز، وأجاب سعد الدين بأنه لم يقصد التعريف، ثم حقق التعريض بأنه ذكر شيء مقصود بلفظ حقيقي أو مجازي أو كنائي ليدل به على شيء آخر لم يذكر في الكلام، مثل أن يذكر المجيء للتسليم ومراده التقاضي، فالسلام مقصوده والتقاضي عرض، أي أميل إليه الكلام عن عرض أي جانب. وامتاز عن الكناية فلم يشتمل على جميع أقسامها. والحاصل أنهما يجتمعان ويفترقان، فمثل جئت لأسلم عليك كناية وتعريض، ومثل طويل النجاد كناية لا تعريض، ومثل آذيتني فستعرف خطابا لغير المؤذى تعريض بتهديد المؤذى لا كناية انتهى ملخصا. وهو تحقيق بالغ. قوله: "ولوددت أنه ييسر" بضم التحتانية وفتح أخرى مثلها بعدها وفتح المهملة. وفي رواية الكشميهني: "يسر" بتحتانية واحدة وكسر المهملة، وهكذا اقتصر المصنف في هذا الباب على حديث ابن عباس الموقوف. وفي الباب حديث صحيح مرفوع وهو قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس "إذا حللت فآذنيني" وهو عند مسلم، وفي لفظ: "لا تفوتينا بنفسك" أخرجه أبو داود. واتفق العلماء على أن المراد بهذا الحكم من مات عنها زوجها، واختلفوا في المعتدة من الطلاق البائن، وكذا من وقف نكاحها، وأما الرجعية فقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها. والحاصل أن التسريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات والتعريض مباح للأولى، حرام في الأخيرة، مختلف فيه في البائن. قوله: "وقال القاسم" يعني ابن محمد "إنك على كريمة" أي يقول ذلك، وهو تفسير آخر للتعريض، وكلها أمثلة، ولهذا قال في آخره أو نحو وهذا الأثر وصله مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه كان يقول قول الله عز وجل :{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها: إن إلى آخره. وقوله في الأمثلة إني فيك لراغب يدل على أن تصريحه بالرغبة فيها لا يمتنع ولا يكون صريحا في خطبتها حتى يصرح بمتعلق الرغبة كأن يقول: إنى في نكاحك لراغب، وقد نص الشافعي على أن ذلك من صور التعريض أعنى ما ذكره القاسم، وأما ما مثلت به فحكى الروياني فيه وجها، وعبر النووي في الروضة بقوله رب راغب فيك، فأوهم أنه لا يصرح بالرغبة مطلقا، وليس كذلك. وأخرج البيهقي من طريق مجاهد من صور التصريح: لا تسبقيني بنفسك فإني ناكحك، ولو لم يقل فإني ناكحك فهو من صور التعريض لحديث فاطمة بنت قيس كما بينته قريبا. وقد ذكر الرافعي من صور التصريح لا تفوتي على نفسك وتعقبوه. وروى الدار قطني من طريق عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن عمته سكينة قالت: استأذن على أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على وموضعي في العرب فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أنت رجل يؤخذ عنك تخطبني في عدتي؟ قال: إنما أخبرتك بقرابتي من

(9/179)


رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على. قوله: "وقال عطاء يعرض ولا يبوح" أي لا يصرح "يقول إن لي حاجة وأبشري". قوله: "نافقة" بنون وفاء وقاف أي رائجة بالتحتانية والجيم. قوله: "ولا تعد شيئا" بكسر المهملة وتخفيف الدال، وأثر عطاء هذا وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه مفرقا، وأخرجه الطبري من طريق ابن المبارك عن ابن جريج قال: قلت لعطاء كيف يقول الخاطب؟ قال يعرض تعريضا ولا يبوح بشيء، فذكر مثله إلى قوله ولا تعد شيئا. قوله: "وإن واعدت رجلا في عدتها ثم نكحها" أي تزوجها "بعد" أي عند انقضاء العدة "لم يفرق بينهما" أي لم يقدح ذلك في صحة النكاح وإن وقع الإثم. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عقب أثر عطاء قال: وبلغني عن ابن عباس قال خير لك أن تفارقها. واختلف فيمن صرح بالخطبة في العدة لكن لم يعقد إلا بعد انقضائها "فقال مالك: يفارقها دخل بها أو لم يدخل. وقال الشافعي: صح العقد وإن ارتكب النهي بالتصريح المذكور لاختلاف الجهة. وقال المهلب: علة المنع من التصريح في العدة أن ذلك ذريعة إلى الموافقة في العدة التي هي محبوسة فيها على ماء الميت أو المطلق ا هـ. وتعقب بأن هذه العلة تصلح أن تكون لمنع العقد لا لمجرد التصريح، إلا أن يقال التصريح ذريعة إلى العقد والعقد ذريعة إلى الوقاع. وقد اختلفوا لو وقع العقد في العدة ودخل فاتفقوا على أنه يفرق بينهما. وقال مالك والليث والأوزاعي: لا يحل له نكاحها بعد. وقال الباقون بل يحل له إذا انقضت العدة أن يتزوجها إذا شاء. قوله: "وقال الحسن لا تواعدوهن سرا الزنا" وصله عبد بن حميد من طريق عمران بن حدير عنه بلفظه، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: هو الفاحشة. قال قتادة قوله: "سرا" أي لا تأخذ عهدها في عدتها أن لا تتزوج غيره. وأخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام" وقال: هذا أحسن من قول من فسره بالزنا، لأن ما قبل الكلام وما بعده لا يدل عليه، ويجوز في اللغة أن يسمى الجماع سرا فلذلك ويجوز إطلاقه على العقد، ولا شك أن المواعدة على ذلك تزيد على التعريض المأذون فيه، واستدل بالآية على أن التعريض في القذف لا يوجب الحد لأن خطة المعتدة حرام، وفرق فيها بين التصريح والتعريض فمنع التصريح وأجيز التعريض، مع أن المقصود مفهوم منهما، فكذلك فرق في إيجاب حد القذف بين التصريح والتعريض. واعترض ابن بطال فقال: يلزم الشافعية على هذا أن يقولوا بإباحة التعريض بالقذف، وهذا ليس بلازم لأن المراد أن التعريض دون التصريح في الإفهام فلا يلتحق به في إيجاب الحد، لأن للذي يعرض أن يقول لم أرد القذف بخلاف المصرح. قوله: "ويذكر عن ابن عباس حتى يبلغ الكتاب أجله انقضاء العدة" وصله الطبري من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى :{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يقول: حتى تنقضي العدة

(9/180)


37- باب النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ
5125- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُكِ فِي الْمَنَامِ يَجِيءُ بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَقَالَ لِي هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ فَإِذَا أَنْتِ هِيَ فَقُلْتُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"
5126- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ

(9/180)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ لِأَهَبَ لَكَ نَفْسِي فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا فَقَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا قَالَ انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي قَالَ سَهْلٌ مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّيًا فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عَدَّدَهَا قَالَ أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب النظر إلى المرأة قبل التزويج" استنبط البخاري جواز ذلك من حديثي الباب، لكون التصريح الوارد في ذلك ليس على شرطه، وقد ورد ذلك في أحاديث أصحها حديث أبي هريرة "قال رجل إنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ قال: لا. قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا" أخرجه مسلم والنسائي. وفي لفظ له صحيح "أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة" فذكره قال الغزالي في "الإحياء" : اختلف في المراد بقوله شيئا فقيل عمش وقيل صغر. قلت: الثاني وقع في رواية أبي عوانة في مستخرجه فهو المعتمد وهذا الرجل يحتمل أن يكون المغيرة، فقد أخرج الترمذي والنسائي من حديثه أنه "خطب امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: انظر إليها، فإنه أحرى أن يدوم بينكما" وصححه ابن حبان. وأخرج أبو داود والحاكم من حديث جابر مرفوعا: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" وسنده حسن، وله شاهد من حديث محمد بن مسلمة، وصححه ابن حبان والحاكم، وأخرجه أحمد وابن ماجه. ومن حديث أبي حميد أخرجه أحمد والبزار. ثم ذكر المصنف فيه حديثين. حديث عائشة.قوله: "أريتك" بضم الهمزة "في المنام" زاد في رواية أبي أسامة في أوائل النكاح "مرتين". قوله: "يجيء بك الملك" وقع في رواية أبي أسامة "إذا رجل يحملك" فكأن الملك تمثل له حينئذ رجلا. ووقع في رواية ابن حبان من طريق أخرى عن عائشة "جاء بي جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "في سرقة من حرير" السرقة بفتح المهملة والراء والقاف هي القطعة، ووقع في رواية ابن حبان: "في خرقة حرير" وقال الداودي: السرقة الثوب، فإن أراد تفسيره هنا فصحيح، وإلا فالسرقة أعم. وأغرب المهلب فقال: السرقة كالكلة أو كالبرقع. وعند الآجري من وجه آخر عن عائشة "لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني" ويجمع بين هذا وبين ما قبله بأن المراد أن صورتها كانت في الخرقة والخرقة في راحته، ويحتمل أن يكون نزل بالكيفيتين لقولها في نفس الخبر "نزل مرتين" قوله: "فكشفت عن وجهك الثوب" في رواية أبي أسامة "فأكشفها" فعبر بلفظ المضارع استحضارا لصورة

(9/181)


الحال. قال ابن المنير: يحتمل أن يكون رأى منها ما يجوز للخاطب أن يراه، ويكون الضمير في "أكشفها" للسرقة أي أكشفها عن الوجه، وكأنه حمله على ذلك أن رؤيا الأنبياء وحي، وأن عصمتهم في المنام كاليقظة، وسيأتي في اللباس في الكلام على تحريم التصوير ما يتعلق بشيء من هذا: وقال أيضا: في الاحتجاج بهذا الحديث للترجمة نظر، لأن عائشة كانت إذ ذاك في سن الطفولية فلا عورة فيها البتة، ولكن يستأنس به في الجملة في أن النظر إلى المرأة قبل العقد فيه مصلحة ترجع إلى العقد. قوله: "فإذا أنت هي" في رواية الكشميهني: "فإذا هي أنت" وكذا تقدم من رواية أبي أسامة. قوله: "يمضه" بضم أوله، قال عياض: يحتمل أن يكون ذلك قبل البعثة فلا إشكال فيه، وإن كان بعدها ففيه ثلاث احتمالات: أحدها التردد هل هي زوجته في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط، ثانيها أنه لفظ شك لا يراد به ظاهره وهو أبلغ في التحقق، ويسمى في البلاغة مزج الشك باليقين، ثالثها وجه التردد هل هي رؤيا وحي على ظاهرها وحقيقتها أو هي رؤيا وحي لها تعبير؟ وكلا الأمرين جائز في حق الأنبياء. قلت: الأخير هو المعتمد، وبه جزم السهيلي عن ابن العربي، ثم قال: وتفسيره باحتمال غيرها لا أرضاه، والأول يرده أن السياق يقتضي أنها كانت قد وجدت فإن ظاهر قوله: "فإذا هي أنت" مشعر بأنه كان قد رآها وعرفها قبل ذلك، والواقع أنها ولدت بعد البعثة. ويرد أول الاحتمالات الثلاث رواية ابن حبان في آخر حديث الباب: "هي زوجتك في الدنيا والآخرة" والثاني بعيد، والله أعلم. حديث سهل في قصة الواهبة، والشاهد منه للترجمة قوله فيه: "فصعد النظر إليها وصوبه" وسيأتي شرحه في "باب التزويج على القرآن وبغير صداق". قوله: "ثم طأطأ رأسه" وذكر الحديث كله، كذا في رواية أبي ذر عن السرخسي، وساق الباقون الحديث بطوله، قال الجمهور: لا بأس أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة. قالوا: ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها. وقال الأوزاعي: يجتهد وينظر إلى ما يريد منها إلا العورة. وقال ابن حزم. ينظر إلى ما أقبل وما أدبر منها. وعن أحمد ثلاث روايات: الأولى كالجمهور، والثانية ينظر إلى ما يظهر غالبا، والثالثة ينظر إليها متجردة وقال الجمهور أيضا: يجوز أن ينظر إليها إذا أراد ذلك بغير إذنها. وعن مالك رواية يشترط إذنها. ونقل الطحاوي عن قوم أنه لا يجوز النظر إلى المخطوبة قبل العقد بحال لأنها حينئذ أجنبية، ورد عليهم بالأحاديث المذكورة

(9/182)


38- باب مَنْ قَالَ لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ وَقَالَ {وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَقَالَ {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}
5127- قَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ ح و حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا

(9/182)


زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا تَقُولُ لَهُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلاَنُ تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ وَنِكَاحُ الرَّابِعِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لاَ تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمْ الْقَافَةَ ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِيَ ابْنَهُ لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلاَّ نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ"
5128- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ هَذَا فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ شَرِيكَتَهُ فِي مَالِهِ وَهُوَ أَوْلَى بِهَا فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَنْكِحَهَا فَيَعْضُلَهَا لِمَالِهَا وَلاَ يُنْكِحَهَا غَيْرَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَشْرَكَهُ أَحَدٌ فِي مَالِهَا"
5129- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ ابْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ عُمَرُ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ فَقَالَ سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ"
5130- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ قَالَ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا لاَ وَاللَّهِ لاَ تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَكَانَ رَجُلًا لاَ بَأْسَ بِهِ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فَقُلْتُ الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ"
قوله: "باب من قال لا نكاح إلا بولي" استنبط المصنف هذا الحكم من الآيات والأحاديث التي ساقها،

(9/183)


لكون الحديث الوارد بلفظ الترجمة على غير شرطه، والمشهور فيه حديث أبي موسى مرفوعا بلفظه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم، لكن قال الترمذي بعد أن ذكر الاختلاف فيه: وأن من جملة من وصله إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه، ومن جملة من أرسله شعبة وسفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة ليس فيه أبو موسى رواية، ومن رواه موصولا أصح لأنهم سمعوه في أوقات مختلفة، وشعبة وسفيان وإن كان أحفظ وأثبت من جميع من رواه عن أبي إسحاق لكنهما سمعاه في وقت واحد. ثم ساق من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة قال: "سمعت سفيان الثوري يسأل أبا إسحاق أسمعت أبا بردة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي؟ قال نعم" قال: وإسرائيل ثبت في أبي إسحاق. ثم ساق من طريق ابن مهدى قال: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلا لما اتكلت به على إسرائيل لأنه كان يأتي به أتم. وأخرج ابن عدي عن عبد الرحمن بن مهدي قال: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة وسفيان. وأسند الحاكم من طريق علي بن المديني ومن طريق البخاري والذهلي وغيرهم أنهم صححوا حديث إسرائيل. ومن تأمل ما ذكرته عرف أن الذين صححوا وصله لم يستندوا ذلك إني كونه زيادة ثقة فقط، بل للقرائن المذكورة المقتضية لترجيح رواية إسرائيل الذي وصله على غيره، وسأشير إلى بقية طرق هذا الحديث بعد ثلاثة أبواب. على أن في الاستدلال بهذه الصيغة في منع النكاح بغير ولي نظرا، لأنها تحتاج إلى تقدير: فمن قدره نفي الصحة استقام له، ومن قدره نفي الكمال عكر عليه، فيحتاج إلى تأييد الاحتمال الأول بالأدلة المذكورة في الباب وما بعده. قوله: "لقول الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أي لا تمنعوهن. وسيأتي في حديث معقل آخر أحاديث الباب بيان سبب نزول هذه الآية، ووجه الاحتجاج منها للترجمة. قوله: "فدخل فيه الثيب وكذلك البكر" ثبت هذا في رواية الكشميهني وعليه شرح ابن بطال، وهو ظاهر لعموم لفظ النساء. قوله: "وقال: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} ووجه الاحتجاج من الآية والتي بعدها أنه تعالى خاطب بإنكاح الرجال ولم يخاطب به النساء، فكأنه قال: لا تنكحوا أيها الأولياء مولياتكم للمشركين. قوله: "وقال {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} والأيامى جمع أيم، وسيأتي القول فيه بعد ثلاثة أبواب. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث. حديث عائشة ذكره من طريق ابن وهب ومن طريق عنبسة بن خالد جميعا عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري، وقوله: "وقال، يحيى بن سليمان" هو الجعفي من شيوخ البخاري، وقد ساقه المصنف على لفظ عنبسة. وأما لفظ ابن وهب فلم أره من رواية يحيى بن سليمان إلى الآن لكن أخرجه الدار قطني من طريق أصبغ وأبو نعيم في "المستخرج" من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن وهب والإسماعيلي والجوزقي من طريق عثمان بن صالح ثلاثتهم عن ابن وهب. قوله: "على أربعة أنحاء" جمع نحو أي ضرب وزنا ومعنى، ويطلق النحو أيضا على الجهة والنوع، وعلى العلم المعروف اصطلاحا. قوله: "أربعة" قال الداودي وغيره بقي عليها أنحاء لم تذكرها: الأول نكاح الخدن وهو في قوله تعالى :{وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} كانوا يقولون: ما استتر فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم. الثاني نكاح المتعة وقد تقدم بيانه. الثالث نكاح البدل، وقد أخرج الدار قطني من حديث أبي هريرة "كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل أنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك" ولكن إسناده ضعيف جدا. قلت والأول لا يرد لأنها أرادت ذكر بيان نكاح من لا زوج لها أو من أذن لها زوجها في ذلك، والثاني يحتمل أن لا يرد لأن الممنوع منه كونه مقدرا بوقت

(9/184)


لا أن عدم الولي فيه شرط وعدم ورود الثالث أظهر من الجميع. قوله: "وليته أو ابنته" هو للتنويع لا للشك. قوله: "فيصدقها" بضم أوله "ثم ينكحها" أي يعين صداقها ويسمى مقداره ثم يعقد عليها. قوله: "ونكاح الآخر" كذا لأبي ذر بالإضافة أي ونكاح المصنف الآخر، وهو من إضافة الشيء لنفسه على رأي الكوفيين. ووقع في رواية الباقين "ونكاح آخر" بالتنوين بغير لام وهو الأشهر في الاستعمال. قوله: "إذا طهرت من طمثها" بفتح المهملة وسكون الميم بعدها مثلثة أي حيضها، وكأن السر في ذلك أن يسرع علوقها منه. قوله: "فاستبضعي منه" بموحدة بعدها ضاد معجمة أي اطلبي منه المباضعة وهو الجماع. ووقع في رواية أصبغ عند الدار قطني استرضعي "براء بدل الموحدة. قال راوية محمد بن إسحاق الصغاني: الأول هو الصواب يعني بالموحدة، والمعنى اطلبي منه الجماع لتحملي منه، والمباضعة المجامعة مشتقة من البضع وهو الفرج. قوله: "وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد" أي اكتسابا من ماء الفحل لأنهم كانوا يطلبون ذلك من أكابرهم ورؤسائهم في الشجاعة أو الكرم أو غير ذلك. قوله: "فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع" بالنصب والتقدير يسمى وبالرفع أي هو. قوله: "ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة" تقدم تفسير الرهط في أوائل الكتاب، ولما كان هذا النكاح يجتمع عليه أكثر من واحد كان لا بد من ضبط العدد الزائد لئلا ينتشر. قوله: "كلهم يصيبها" أي يطؤها، والظاهر أن ذلك إنما يكون عن رضا منها وتواطؤ بينهم وبينها. قوله: "ومر ليال" كذا لأبي ذر. وفي رواية غيره: "ومر عليها ليال". قوله: "قد عرفتم" كذا للأكثر بصيغة الجمع. وفي رواية الكشميهني: "عرفت" على خطاب الواحد. قوله: "وقد ولدت" بالضم لأنه كلامها. قوله: "فهو ابنك" أي إن كان ذكرا، فلو كانت أنثى لقالت هي ابنتك، لكن يحتمل أن يكون لا تفعل ذلك إلا إذا كان ذكرا لما عرف من كراهتهم في البنت، وقد كان منهم من يقتل بنته التي يتحقق أنها بنت فضلا عمن تجيء بهذه الصفة. قوله: "فيلحق به ولدها" كذا لأبي ذر، ولغيره: "فيلتحق" بزيادة مثناة. قوله: "لا يستطيع أن يمتنع به" في رواية الكشميهني منه. قوله: "ونكاح الرابع" تقدم توجيهه. قوله: "لا تمنع من جاءها" وللأكثر لا تمتنع ممن جاءها. قوله: "وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما" بفتح اللام أي علامة. وأخرج الفاكهي من طريق ابن أبي مليكة قال: "تبرز عمر بأجياد، فدعا بماء، فأتته أم مهزول - وهي من البغايا التسع اللاتي كن في الجاهلية - فقالت: هذا ماء ولكنه في إناء لم يدبغ، فقال: هلم فإن الله جعل الماء طهورا" ومن طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمر "أن امرأة كانت يقال لها أم مهزول تسافح في الجاهلية، فأراد بعض الصحابة أن يتزوجها فنزلت: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة" ومن طريق مجاهد في هذه الآية قال: "هن بغايا، كن في الجاهلية معلومات لهن رايات يعرفن بها" ومن طريق عاصم بن المنذر عن عروة بن الزبير مثله وزاد: "كرايات البيطار" وقد ساق هشام بن الكلبي في "كتاب المثالب" أسامي صواحبات الرايات في الجاهلية فسمى منهن أكثر من عشر نسوة مشهورات تركت ذكرهن اختيارا. قوله: "لمن أرادهن" في رواية الكشميهني: "فمن أرادهن". قوله: "القافة" جمع قائف بقاف ثم فاء وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد بالآثار الخفية. قوله: "فالتاطته" في رواية الكشميهني: "فالتاط" بغير مثناة أي استلحقته به، وأصل اللوط بفتح اللام اللصوق. قوله: "هدم نكاح الجاهلية" في رواية الدار قطني "نكاح أهل الجاهلية". قوله: "كله" دخل فيه ما ذكرت وما استدرك عليها. قوله: "إلا نكاح الناس اليوم" أي الذي بدأت بذكره، وهو أن يخطب الرجل إلى الرجل فيزوجه. احتج بهذا على

(9/185)


اشتراط الولي، وتعقب بأن عائشة وهي التي روت هذا الحديث كانت تجيز النكاح بغير ولي، كما روى مالك أنها زوجت بنت عبد الرحمن أخيها وهو غائب فلما قدم قال: مثلي يفتات عليه في بناته؟ وأجيب بأنه لم يرد في الخبر التصريح بأنها باشرت العقد، فقد يحتمل أن تكون البنت المذكورة ثيبا ودعت إلى كفء وأبوها غائب فانتقلت الولاية إلا الولي الأبعد أو إلى السلطان. وقد صح عن عائشة أنها "أنكحت رجلا من بني أخيها فضربت بينهم بستر ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا العقد أمرت رجلا فأنكح ثم قالت: ليس إلى النساء نكاح" أخرجه عبد الرزاق. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن موسى أو ابن جعفر كما بينته في المقدمة، وساق الحديث عن عائشة مختصرا وقد تقدم شرحه في كتاب التفسير. حديث ابن عمر "تأيمت حفصة" تقدم شرحه قريبا ووجه الدلالة منه اعتبار الولي في الجملة. حديث معقل بن يسار. قوله: "حدثنا أحمد بن أبي عمرو" وهو النيسابوري قاضيها يكنى أبا علي، واسم أبي عمرو حفص بن عبد الله بن راشد. قوله: "حدثني إبراهيم" هو ابن طهمان: ويونس هو ابن عبيد، والحسن هو البصري. قوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أي في تفسير هذه الآية. ووقع في تفسير الطبري من حديث ابن عباس أنها نزلت في ولي النكاح أن يضار وليته فيمنعها من النكاح. قوله: "حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه" هذا صريح في رفع هذا الحديث ووصله، وقد تقدم في تفسير البقرة معلقا لإبراهيم بن طهمان، وموصولا أيضا لعباد بن راشد عن الحسن، وبصورة الإرسال من طريق عبد الوارث بن سعيد عن يونس، وقويت رواية إبراهيم بن طهمان بوصله بمتابعة عباد بن راشد على تصريح الحسن بقوله: "حدثني معقل بن يسار". قوله: "زوجت أختا لي" اسمها جميل بالجيم مصغر بنت يسار، وقع في تفسير الطبري من طريق ابن جريج وبه جزم ابن ماكولا، وسماها ابن فتحون كذلك لكن بغير تصغير وسيأتي مستنده، وقيل اسمها ليلى حكاه السهيلي في "مبهمات القرآن" وتبعه البدري، وقيل فاطمة وقع ذلك عند ابن إسحاق، ويحتمل التعدد بأن يكون لها اسمان ولقب أو لقبان واسم. قوله: "من رجل" قيل هو أبو البداح بن عاصم الأنصاري، هكذا وقع في "أحكام القرآن لإسماعيلي القاضي" من طريق ابن جريج "أخبرني عبد الله بن معقل أن جميل بنت يسار أخت معقل كانت تحت أبي البداح بن عاصم فطلقها فانقضت عدتها. فخطبها" وذكر ذلك أبو موسى في "ذيل الصحابة" وذكره أيضا الثعلبي ولفظه: "نزلت في جميلة بنت يسار أخت معقل وكانت تحت أبي البداح بن عاصم بن عدي بن العجلان" واستشكله الذهلي بأن البداح تابعي على الصواب، فيحتمل أن يكون صحابيا آخر. وجزم بعض المتأخرين بأنه البداح بن عاصم وكنيته أبو عمرو فإن كان محفوظا فهو أخو البداح التابعي. ووقع لنا في "كتاب المجاز" للشيخ عز الدين بن عبد السلام أن اسم زوجها عبد الله بن رواحة، ووقع في رواية عباد بن راشد عن الحسن عن البزار والدار قطني "فأتاني ابن عم لي فخطبها مع الخطاب "وفي هذا نظر لأن معقل بن يسار مزني وأبو البداح أنصاري فيحتمل أنه ابن عمه لأمه أو من الرضاعة. قوله: "حتى إذا انقضت عدتها" في رواية عباد بن راشد "فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا له رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها فخطبها. قوله: "فجاء يخطبها" أي من وليها وهو أخوها كما قال أولا "زوجت أختا لي من رجل". قوله: "وأفرشتك" أي جعلتها لك فراشا، في رواية الثعلبي "وأفرشتك كريمتي وآثرتك بها على قومي". وهذا مما يبعد أنه ابن عمه. قوله: "لا والله لا تعود إليك أبدا" في رواية عباد بن راشد "لا أزوجك أبدا" زاد الثعلبي وحمزة "آنفا" وهو بفتح الهمزة والنون والفاء. قوله: "وكان رجلا لا بأس

(9/186)


به" في رواية الثعلبي "وكان رجل صدق" قال ابن التين: أي كان جيدا. وهذا مما غيرته العامة فكنوا به عمن لا خير فيه كذا قال. ووقع في رواية مبارك بن فضالة عن الحسن عند أبي مسلم الكجي "قال الحسن علم الله حاجة الرجل إلى امرأته وحاجة المرأة إلى زوجها، فأنزل الله هذه الآية". قوله: "فأنزل الله هذه الآية: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} هذا صريح في نزول هذه الآية في هذه القصة، ولا يمنع ذلك كون ظاهر الخطاب في السياق للأزواج حيث وقع فيها {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ، لكن قوله في بقيتها {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ظاهر في أن العضل يتعلق بالأولياء، وقد تقدم التفسير بيان العضل الذي يتعلق بالأولياء في قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} فيستدل في كل مكان بما يليق به. قوله: "فقلت الآن أفعل يا رسول الله. قال فزوجها إياه" أي أعادها إليه بعقد جديد. وفي رواية أبي نعيم في المستخرج "فقلت الآن أقبل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وفي رواية أبي مسلم الكجي من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن "فسمع ذلك معقل بن يسار فقال: سمعا لربي وطاعة، فدعا زوجها فزوجها إياه" ومن رواية الثعلبي "فإني أومن بالله" فأنكحها إياه وكفر عن يمينه "وفي رواية عباد بن راشد "فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه" قال الثعلبي: ثم هذا قول أكثر المفسرين. وعن السدي: نزلت في جابر بن عبد الله زوج بنت عمه فطلقها زوجها تطليقة وانقضت عدتها ثم أراد تزويجها، وكانت المرأة تريده فأبي جابر، فنزلت، قال ابن بطال: اختلفوا في الولي فقال الجمهور ومنهم مالك والثوري والليث والشافعي وغيرهم: الأولياء في النكاح هم العصبة، وليس للخال ولا والد الأم ولا الإخوة من الأم ونحو هؤلاء ولاية. وعن الحنفية هم من الأولياء، واحتج الأبهري بأن الذي يرث الولاء هم العصبة دون ذوي الأرحام قال: فذلك عقدة النكاح. واختلفوا فيما إذا مات الأب فأوصى رجلا على أولاده هل يكون أولى من الولي القريب في عقدة النكاح أو مثله أو لا ولاية له؟ فقال ربيعة وأبو حنيفة ومالك: الوصي أولى، واحتج لهم بأن الأب لو جعل ذلك لرجل بعينه في حياته لم يكن لأحد من الأولياء أن يعترض عليه، فكذلك بعد موته. وتعقب بأن الولاية انتقلت بالموت فلا يقاس بحال الحياة وقد اختلف العلماء اشتراط الولي في النكاح فذهب الجمهور إلى ذلك وقالوا: لا تزوج المرأة نفسها أصلا، واحتجوا بالأحاديث المذكورة، ومن أقواها هذا السبب المذكور في نزول الآية المذكورة، وهي أصرح دليل على اعتبار الولي وإلا لما كان لعضله معنى، ولأنها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها، ومن كان أمره إليه لا يقال إن غيره منعه منه. وذكر ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، وعن مالك رواية أنها إن كانت غيره شريفة زوجت نفسها. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يشترط الولي أصلا، ويجوز أن تزوج نفسها ولو بغير إذن وليها إذا تزوجت كفؤا، واحتج بالقياس على البيع فإنها تستقل به، وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولي على الصغيرة وخص بهذا القيام عمومها، وهو عمل سائغ في الأصول، وهو جواز تخصيص العموم بالقياس، لكن حديث معقل المذكور رفع هذا القياس، ويدل على اشتراط الولي في النكاح دون غيره ليندفع عن موليته العار باختيار الكفء، وانفصل بعضهم عن هذا الإيراد بالتزامهم اشتراط الولي ولكن لا يمنع ذلك تزويجها نفسها، ويتوقف ذلك إجازة الولي كما قالوا لما في البيع، وهو مذهب الأوزاعي. وقال أبو ثور نحوه لكن قال: يشترط إذن الولي لها في تزويج نفسها. وتعقب بأن إذن الولي لا يصح إلا لمن ينوب عنه والمرأة لا تنوب عنه في ذلك لأن الحق لها، ولو أذن لها في إنكاح نفسها صارت كمن أذن لها في البيع من نفسها ولا

(9/187)


يصح. وفي حديث معقل أن الولي إذا عضل لا يزوج السلطان إلا بعد أن يأمره بالرجوع عن العضل، فإن أجاب فذاك، وإن أصر زوج عليه الحاكم، والله أعلم.
37- باب إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْخَاطِبَ وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا فَأَمَرَ رَجُلًا فَزَوَّجَهُ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِأُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ قَارِظٍ أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَيَّ قَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ قَدْ زَوَّجْتُكِ وَقَالَ عَطَاءٌ لِيُشْهِدْ أَنِّي قَدْ نَكَحْتُكِ أَوْ لِيَأْمُرْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهَا وَقَالَ سَهْلٌ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا.
5131- حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تعالى " وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ " إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَتْ هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ الرَّجُلِ قَدْ شَرِكَتْهُ فِي مَالِهِ فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فَيَحْبِسُهَا فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ"
5132- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسًا فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فَخَفَّضَ فِيهَا النَّظَرَ وَرَفَعَهُ فَلَمْ يُرِدْهَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَعِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ قَالَ وَلاَ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ وَلاَ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ أَشُقُّ بُرْدَتِي هَذِهِ فَأُعْطِيهَا النِّصْفَ وَآخُذُ النِّصْفَ قَالَ لاَ هَلْ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب إذا كان الولي" أي النكاح "هو الخاطب" أي هل يزوج نفسه، أو يحتاج إلى ولي آخر؟ قال ابن المنير: ذكر في الترجمة ما يدل على الجواز والمنع معا ليكل الأمر ذلك إلى نظر المجتهد. كذا قال، وكأنه أخذه من تركه الجزم بالحكم، لكن الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز، فإن الآثار التي فيها أمر الولي غيره أن يزوجه ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه. وقد أورد في الترجمة أثر عطاء الدال على الجواز، وإن كان الأولى عنده أن لا يتولى أحد طرفي العقد. وقد اختلف السلف في ذلك، فقال الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة أكثر أصحابه والليث: يزوج الولي نفسه، ووافقهم أبو ثور. وعن مالك لو قالت الثيب لوليها زوجني بمن رأيت فزوجها من نفسه أو ممن اختار لزمها ذلك ولو لم تعلم عين الزوج. وقال الشافعي: يزوجهما السلطان أو ولي آخر مثله أو أقعد منه. ووافقه زفر وداود. وحجتهم أن الولاية شرط في العقد، فلا يكون الناكح منكحا كما لا يبيع من نفسه. قوله: "وخطب المغيرة بن شعبة امرأة هو أولى الناس بها فأمر رجلا فزوجه" هذا الأثر وصله وكيع في مصنفه والبيهقي من طريقه عن الثوري عن عبد الملك بن عمير "أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة وهو وليها، فجعل أمرها إلى رجل المغيرة أولى منه فزوجه" وأخرجه عبد الرزاق عن الثوري وقال فيه: "فأمر أبعد منه فزوجه" وأخرجه سعيد بن منصور من طريق الشعبي ولفظه: "إن المغيرة خطب بنت عمه عروة بن مسعود،

(9/188)


فأرسل إلى عبد الله بن أبي عقيل فقال: زوجنيها، فقال: ما كنت لأفعل، أنت أمير البلد وابن عمها، فأرسل المغيرة إلى عثمان بن أبي العاص فزوجها منه" انتهى. والمغيرة هو ابن شعبة بن مسعود بن معتب من ولد عوف بن ثقيف فهي بنت عمه لحا. وعبد الله بن أبي عقيل هو ابن عمهما معا أيضا لأن جده هو مسعود المذكور. وأما عثمان بن أبي العاص فهو وإن كان ثقفيا أيضا لكنه لا يجتمع معهم إلا في جدهم الأعلى ثقيف لأنه من ولد جشم بن ثقيف، فوضح المراد بقوله هو أولى الناس، وعرف اسم الرجل المبهم في الأثر المعلق. قوله: "وقال عبد الرحمن بن عوف لأم حكيم بنت قارظ: أتجعلين أمرك إلى؟ قالت: نعم فقال: فقد تزوجتك" وصله ابن سعد من طريق ابن أبي ذئب "عن سعيد بن خالد أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف: إنه قد خطبني غير واحد، فزوجني أيهم رأيت. قال: وتجعلين ذلك إلي؟ فقالت: نعم. قال قد تزوجتك" قال ابن أبي ذئب: فجاز نكاحه. وقد ذكر ابن سعد أم حكيم في النساء اللواتي لم يروين عن النبي صلى الله عليه وسلم وروين عن أزواجه، ولم يزد في التعريف بها على ما في هذا الخبر، وذكرها في تسمية أزواج عبد الرحمن بن عوف ترجمته فنسبها فقال: أم حكيم بنت قارظ بن خالد بن عبيد حليف بني زهرة. قوله: "وقال عطاء: ليشهد أني قد نكحتك، أو ليأمر رجلا من عشيرتها" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: امرأة خطبها ابن عم لها لا رجل لها غيره، قال: فلتشهد أن فلانا حطبها وإني أشهدكم أني قد نكحته، أو لتأمر رجلا من عشيرتها". قوله: "وقال سهل: قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم أهب لك نفسي، فقال رجل: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها" هذا طرف من حديث الواهية، وقد تقدم موصولا في "باب تزويج المعسر" وفي "باب النظر إلى المرأة قبل التزويج" وغيرها، ووصله في الباب بلفظ آخبر، وأقربها إلى لفظ هذا التعليق رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم بلفظ: "إن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي وفيه - فقام رجل من أصحابه فقال: أي رسول الله" مثله. ذكر المصنف حديث عائشة في قوله تعالى :{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} أورده مختصرا، وقد تقدم شرحه مستوفى في التفسير، ووجه الدلالة منه أن قوله: "فرغب عنها أن يتزوجها" أعم من أن يتولى ذلك بنفسه أو يأمر غيره فيزوجه، وبه احتج محمد بن الحسن على الجواز، لأن الله لما عاتب الأولياء في تزويج من كانت من أهل المال والجمال بدون سنتها من الصداق وعاتبهم على ترك تزويج من كانت قليلة المال والجمال دل على أن الولي يصح منه. تزويجها من نفسه، إذ لا يعاتب أحد على ترك ما هو حرام عليه، ودل ذلك أيضا على أنه يتزوجها ولو كانت صغيرة لأنه أمر أن يقسط لها في الصداق، ولو كانت بالغا لما منع أن يتزوجها بما تراضيا عليه، فعلم أن المراد من لا أمر لها في نفسها. وقد أجيب باحتمال أن يكون المراد بذلك السفيهة فلا أثر لرضاها بدون مهر مثلها كالبكر. ذكر المصنف حديث سهل بن سعد في الواهبة، وسيأتي شرحه قريبا، ووجه الأخذ منه الإطلاق أيضا، لكن انفصل من منع ذلك بأنه معدود من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن يزوج نفسه وبغير ولي ولا شهود. ولا استئذان وبلفظ الهبة كما يأتي تقريره، وقوله فيه: "فلم يردها" بسكون الدال من الإرادة، وحكى بعض الشراح تشديد الدال وفتح أوله وهو محتمل

(9/189)


39- باب إِنْكَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ الصِّغَارَ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَئِي لَمْ يَحِضْنَ} فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ

(9/189)


5133- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا"
قوله: "باب إنكاح الرجل ولده الصغار" ضبط ولده بضم الواو وسكون اللام على الجمع وهو واضح، وبفتحهما على أنه اسم جنس، وهو أعم من الذكور والإناث. قوله: "لقول الله تعالى: {وَاللاَئِي لَمْ يَحِضْنَ} ، فجعل عدتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ" أي فدل على أن نكاحها قبل البلوغ جائز، وهو استنباط حسن، لكن ليس في الآية تخصيص ذلك بالوالد ولا بالبكر. ويمكن أن يقال الأصل في الإيضاع التحريم إلا ما دل عليه الدليل، وقد ورد حديث عائشة في تزويج أبي بكر لها وهي دون البلوغ فبقي ما عداه على الأصل، ولهذا السر أورد حديث عائشة، قال المهلب: أجمعوا أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر ولو كانت لا يوطأ مثلها، إلا أن الطحاوي حكى عن ابن شبرمة منعه فيمن لا توطأ، وحكى ابن حزم عن ابن شبرمة مطلقا أن الأب لا يزوج بنته البكر الصغيرة حتى تبلغ وتأذن، وزعم أن تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين كان من خصائصه، ومقابله وتجويز الحسن والنخعي للأب إجبار بنته كبيرة كانت أو صغيرة بكرا كانت أو ثيبا. "تنبيه": وقع في حديث عائشة من هذا الوجه إدراج يظهر من الطريق التي في الباب الذي بعده.

(9/190)


40- باب تَزْوِيجِ الأَبِ ابْنَتَهُ مِنْ الإِمَامِ وَقَالَ عُمَرُ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ حَفْصَةَ فَأَنْكَحْتُهُ
5134- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ قَالَ هِشَامٌ وَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ"
قوله: "باب تزويج الأب ابنته من الإمام" في هذه الترجمة إشارة إلى أن الولي الخاص يقدم على الولي العام، وقد اختلف فيه عن المالكية. قوله: "وقال عمر إلخ" هو طرف من حديثه الذي تقدم موصولا قريبا. ذكر حديث عائشة وقوله فيه: "قال هشام" يعني ابن عروة، وهو موصول بالإسناد المذكور. وقوله وأنبئت إلخ لم يسم من أنبأه بذلك، ويشبه أن يكون حمله عن امرأته فاطمة بنت المنذر عن جدتها أسماء، قال ابن بطال: دل حديث الباب على أن الأب أولى في تزويج ابنته من الإمام، وأن السلطان ولى من لا ولي لها، وأن الولي من شروط النكاح. قلت: ولا دلالة في الحديثين على اشتراط شيء من ذلك، وإنما فيهما وقوع ذلك، ولا يلزم منه منع ما عداه، وإنما يؤخذ ذلك من أدلة أخرى. وقال: وفيه أن النهي عن إنكاح البكر حتى تستأذن مخصوص بالبالغ حتى يتصور منها الإذن، وأما الصغرة فلا إذن لها، وسيأتي الكلام على ذلك في باب مفرد.

(9/190)


41- باب السُّلْطَانُ وَلِيٌّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ
5135- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي وَهَبْتُ مِنْ نَفْسِي فَقَامَتْ طَوِيلًا فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ قَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا قَالَ مَا عِنْدِي إِلاَّ إِزَارِي فَقَالَ إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ

(9/190)


42- باب لاَ يُنْكِحُ الأَبُ وَغَيْرُهُ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ إِلاَّ بِرِضَاهَا
5136- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا قَالَ أَنْ تَسْكُتَ"
[الحديث 5136- طرفاه في: 6968، 6970]
5137- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ قَالَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي قَالَ رِضَاهَا صَمْتُهَا"
[الحديث 5137- طرفاه في: 6946، 6971]
قوله: "باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما" في هذه الترجمة أربع صور: تزويج الأب البكر، وتزويج الأب الثيب، وتزويج غير الأب البكر، وتزويج غير الأب الثيب. وإذا اعتبرت الكبر والصغر زادت الصور، فالثيب البالغ لا يزوجها الأب ولا غيره إلا برضاها اتفاقا إلا من شذ كما تقدم، والبكر الصغيرة يزوجها أبوها اتفاقا إلا من شذ كما تقدم، والثيب غير البالغ اختلف فيها فقال مالك وأبو حنيفة: يزوجها أبوها كما يزوج البكر. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: لا يزوجها إذا زالت البكارة بالوطء لا بغيره، والعلة عندهم أن إزالة البكارة تزيل الحياء الذي في البكر، والبكر البالغ يزوجها أبوها وكذا غيره من الأولياء، واختلف في استئمارها والحديث دال على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. وسأذكر مزيد بحث فيه. وقد ألحق الشافعي الجد بالأب. وقال أبو حنيفة والأوزاعي في الثيب الصغيرة يزوجها كل ولي، فإذا بلغت ثبت الخيار. وقال أحمد: إذا بلغت تسعا جاز للأولياء غير الأب نكاحها، وكأنه أقام المظنة مقام المئنة، وعن مالك يلتحق بالأب في ذلك وصى الأب دون بقية الأولياء لأنه إقامة مقامه كما تقدمت الإشارة إليه. ثم إن الترجمة معقودة

(9/191)


لاشتراط رضا المزوجة بكرا كانت أو ثيبا صغيرة كانت أو كبيرة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الحديث، لكن تستثنى الصغيرة من حيث المعنى لأنها لا عبارة لها. قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية مسلم من طريق خالد بن الحارث عن هشام عن يحيى "حدثنا أبو سلمة". قوله: "لا تنكح "بكسر الحاء للنهي، وبرفعها للخبر وهو أبلغ في المنع، وتقدم تفسير الأيم في "باب عرض الإنسان ابنته "وظاهر هذا الحدث أن الأيم هي الثيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق لمقابلتها بالبكر، وهذا هو الأصل في الأيم، ومنه قولهم "الغزو مأيمة "أي يقتل الرجال فتصير النساء أيامى، وقد تطلق على من لا زوج لها أصلا، ونقله عياض عن إبراهيم الحربي وإسماعيل القاضي وغيرهما أنه يطلق على كل من لا زوج لها صغيرة كانت أو كبيرة بكرا كانت أو ثيبا، وحكى الماوردي القولين لأهل اللغة. وقد وقع في رواية الأوزاعي عن يحيى في هذا الحديث عند ابن المنذر والدارمي والدار قطني "لا تنكح الثيب "ووقع عند ابن المنذر في رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه في هذا الحديث الثيب تشاور. قوله: "حتى تستأمر" أصل الاستئمار طلب الأمر، فالمعنى لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها، ويؤخذ من قوله تستأمر أنه لا يعقد إلا بعد أن تأمر بذلك، وليس فيه دلالة على عدم اشتراط الولي في حقها، بل فيه إشعار باشتراطه. قوله: "ولا تنكح البكر حتى تستأذن" كذا وقع في هذه الرواية التفرقة بين الثيب والبكر، فعبر للثيب بالاستئمار وللبكر بالاستئذان، فيؤخذ منه فرق بينهما من جهة أن الاستئمار يدل على تأكيد المشاورة وجعل الأمر إلى المستأمرة، ولهذا يحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقا والبكر بخلاف ذلك، والإذن دائر بين القول والسكوت بخلاف الأمر فإنه صريح في القول وإنما جعل السكوت إذنا في حق البكر لأنها قد تستحي أن تفصح. قوله: "قالوا يا رسول الله" في رواية عمر بن أبي سلمة "قلنا" وحديث عائشة صريح في أنها هي السائلة عن ذلك. قوله: "كيف إذنها" في حديث عائشة "قلت إن البكر تستحي" وستأتي ألفاظه. قوله: "حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق" أي ابن قرة الهلالي أبو حفص المصري وأصله كوفي سمع من مالك والليث ويحيى بن أيوب وغيرهم، روى عنه القدماء مثل يحيى بن معين وإسحاق الكوسج وأبي عبيد وإبراهيم بن هانئ، وهو من قدماء شيوخ البخاري ولم أر له عنه في الجامع إلا هذا الحديث، وقد وثقه العجلي والدار قطني ومات سننه تسع عشرة ومائتين. قوله: "حدثنا الليث" في رواية الكشميهني: "أنبأنا". قوله:" عن أبي عمرو مولى عائشة "في رواية ابن جريج" عن ابن أبي مليكة عن ذكوان" وسيأتي في ترك الحيل، ويأتي في الإكراه من هذا الوجه بلفظ: "عن أبي عمرو هو ذكوان". قوله: "أنها قالت: يا رسول الله إن البكر تستحي" هكذا أورده من طريق الليث مختصرا، ووقع في رواية ابن جريج في ترك الحيل "قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البكر تستأذن، قلت" فذكر مثله. وفي الإكراه بلفظ: "قلت: يا رسول الله، تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم. قلت: فإن البكر تستأمر فتستحي فتسكت" وفي رواية مسلم من هذا الوجه "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها، أتستأمر أم لا؟ قال : نعم تستأمر. قلت: فإنها تستحي". قوله: "قال رضاها صمتها" في رواية ابن جريج "قال سكاتها إذنها" وفي لفظ له "قال إذنها صماتها" وفي رواية مسلم من طريق ابن جريج أيضا: "قال فذلك إذنها إذا هي سكتت" ودلت رواية البخاري على أن المراد بالجارية في رواية مسلم البكر دون الثيب. وعند مسلم أيضا من حديث ابن عباس والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها "وفي لفظ له" والبكر يستأذنها أبوها في نقسها "قال ابن المنذر:

(9/192)


يستحب إعلام البكر أن سكوتها إذن، لكن لو قالت بعد العقد ما علمت أن صمتي إذن لم يبطل العقد بذلك عند الجمهور، وأبطله بعض المالكية. وقال ابن شعبان منهم: يقال لها ذلك ثلاثا إن رضيت فاسكتي وإن كرهت فانطقي. وقال بعضهم: يطال المقام عندها لئلا تخجل فيمنعها ذلك من المسارعة. واختلفوا فيما إذا لم تتكلم بل ظهرت منها قرينة السخط أو الرضا بالتبسم مثلا أو البكاء، فعند المالكية إن نفرت أو بكت أو قامت أو ظهر منها ما يدل على الكراهة لم تزوج، وعند الشافعية لا أثر لشيء من ذلك في المنع إلا إن قرنت مع البكاء الصياح ونحوه، وفرق بعضهم بين الدمع فإن كان حارا دل على المنع وإن كان باردا دل على الرضا. قال: وفي هذا الحديث إشارة إلى أن البكر التي أمر باستئذانها هي البالغ، إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها. ونقل ابن عبد البر عن مالك أن سكوت البكر اليتيمة قبل إذنها وتفويضها لا يكون رضا منها، بخلاف ما إذا كان بعد تقويضها إلى وليها. وخص بعض الشافعية الاكتفاء بسكوت البكر البالغ بالنسبة إلى الأب والجد دون غيرهما، لأنها تستحي منهما أكثر من غيرهما. والصحيح الذي عليه الجمهور استعمال الحديث في جميع الأبكار بالنسبة لجميع الأولياء، واختلفوا في الأب يزوج البكر البالغ بغير إذنها فقال الأوزاعي والثوري والحنفية ووافقهم أبو ثور: يشترط استئذانها، فلو عقد عليها بغير استئذان لم يصح. وقال الآخرون: يجوز للأب أن يزوجها ولو كانت بالغا بغير استئذان، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق، ومن حجتهم مفهوم حديث الباب لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها. واحتج بعضهم بحديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها" قال فقيد ذلك باليتيمة فيحمل المطلق عليه، وفيه نظر لحديث ابن عباس الذي ذكرته بلفظ: "يستأذنها أبوها" فنص على ذكر الأب. وأجاب الشافعي بأن المؤامرة قد تكون عن استطابة النفس، ويؤيده حديث ابن عمر رفعه: "وأمروا النساء في بناتهن" أخرجه أبو داود، قال الشافعي: لا خلاف أنه ليس للأم أمر، لكنه على معنى استطابة النفس. وقال البيهقي: زيادة ذكر الأب في حديث ابن عباس غير محفوظة، قال الشافعي: زادها ابن عيينة في حديثه، وكان ابن عمر والقاسم وسالم يزوجون الأبكار لا يستأمرونهن؛ قال البيهقي: والمحفوظ في حديث ابن عباس "البكر تستأمر" ورواه صالح بن كيسان بلفظ: "واليتيمة تستأمر" وكذلك رواه أبو بردة عن أبي موسى ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فدل على أن المراد بالبكر اليتيمة. قلت. وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ بلفظ الأب، ولو قال قائل: بل المراد باليتيمة البكر لم يدفع. وتستأمر بضم أوله يدخل فيه الأب وغيره فلا تعارض بين الروايات، ويبقى النظر في أن الاستئمار هل هو شرط في صحة العقد أو مستحب على معنى استطابة النفس كما قال الشافعي؟ كل من الأمرين محتمل، وسيأتي مزيد بحث فيه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. واستدل به على أن الصغيرة الثيب لا إجبار عليها لعموم كونها أحق بنفسها من وليها، وعلى أن من زالت بكارتها بوطء ولو كان زنا لا إجبار عليها لأب ولا غيره لعموم قوله: "الثيب أحق بنفسها" وقال أبو حنيفة: هي كالبكر، وخالفه حتى صاحباه، واحتج له بأن علة الاكتفاء بسكوت البكر هو الحياء وهو باق في هذه لأن المسألة مفروضة فيمن زالت بكارتها بوطء لا فيمن اتخذت الزنا ديدنا وعادة وأجيب بأن الحديث نص على أن الحياء يتعلق بالبكر وقابلها بالثيب فدل على أن حكمهما مختلف، وهذه ثيب لغة وشرعا بدليل أنه لو أوصى بعتق كل ثيب في ملكه دخلت إجماعا، وأما بقاء حيائها

(9/193)


كالبكر فممنوع لأنها تستحي من ذكر وقوع الفجور منها، وأما ثبوت الحياء من أصل النكاح فليست فيه كالبكر التي لم تجربه قط، والله أعلم. واستدل به لمن قال: إن للثيب أن تتزوج بغير ولي، ولكنها لا تزوج نفسها بل تجعل أمرها إلى رجل فيزوجها، حكاه ابن حزم عن داود، وتعقبه بحديث عائشة "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" وهو حديث صحيح كما تقدم، وهو يبين أن معنى قوله: "أحق بنفسها من وليها أنه لا ينفذ عليها أمره بغير إذنها ولا يجبرها، فإذا أرادت أن تتزوج لم يجز لها إلا بإذن وليها واستدل به على أن البكر إذا أعلنت بالمنع لم يجز النكاح، وإلى هذا أشار المصنف في الترجمة، وإن أعلنت بالرضا فيجوز بطريق الأولى، وشذ بعض أهل الظاهر فقال: لا يجوز أيضا وقوفا عند ظاهر قوله: "وإذنها أن تسكت"

(9/194)


43- باب إِذَا زَوَّجَ الرجل ابْنَتَهُ وَهِيَ كَارِهَةٌ فَنِكَاحُهُ مَرْدُودٌ
5138- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ عَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأَنْصَارِيَّةِ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ نِكَاحَهُ"
[الحديث 5138- أطرافه في: 5139، 6945، 6969]
5139- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا يَحْيَى أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ وَمُجَمِّعَ بْنَ يَزِيدَ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَجُلًا يُدْعَى خِذَامًا أَنْكَحَ ابْنَةً لَهُ نَحْوَهُ"
قوله: "باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود" هكذا أطلق، فشمل البكر والثيب، لكن حديث الباب مصرح فيه بالثيوبة، فكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما سأبينه، ورد النكاح إذا كانت ثيبا فزوجت بغير رضاها إجماع، إلا ما نقل عن الحسن أنه أجاز إجبار الأب للثيب ولو كرهت كما تقدم. وعن النخعي إن كانت في عياله جاز وإلا رد، واختلفوا إذا وقع العقد بغير رضاها، فقالت الحنفية إن أجازته جاز، وعن المالكية إن أجازته عن قرب جاز وإلا فلا، ورده الباقون مطلقا.
قوله: "ومجمع" بضم الميم وفتح الجيم وكسر الميم الثقيلة ثم عين مهملة. قوله: "ابني يزيد بن جارية" بالجيم أي ابن عامر بن العطاف الأنصاري الأوسي من بني عمرو بن عوف، وهو ابن أخي مجمع بن جارية الصحابي الذي جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأخرج له أصحاب السنن، وقد وهم من زعم أنهما واحد، ومنه قيل إن لمجمع بن يزيد صحبة ليس كذلك، وإنما الصحبة لعمه مجمع بن جارية، وليس لمجمع بن يزيد في البخاري سوى هذا الحديث، وقد قرنه فيه بأخيه عبد الرحمن بن يزيد، وعبد الرحمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيما جزم به العسكري وغيره، وهو أخو عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه، قال ابن سعد: ولي القضاء لعمر بن عبد العزيز يعني لما كان أمير المدينة، ومات سنة ثلاث وتسعين وقيل سنة ثمان، ووثقه جماعة، وما له في البخاري أيضا سوى هذا الحديث. وقد وافق مالكا على إسناد هذا الحديث سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم وإن اختلف الرواة عنهما في وصل هذا الحديث عن خنساء وفي إرساله حيث قال بعضهم عن عبد الرحمن ومجمع أن خنساء زوجت، وكذا اختلفوا عنهما في نسب عبد الرحمن ومجمع: فمنهم من أسقط يزيد وقال

(9/194)


ابني جارية والصواب وصله وإثبات يزيد في نسبهما، وقد أخرج طريق ابن عيينة المصنف في ترك الحيل بصورة الإرسال كما سيأتي، وأخرجها أحمد عنه كذلك، وأوردها الطبراني من طريقه موصولة، وأخرجه الدار قطني في "الموطئات" من طريق معلى بن منصور عن مالك بصورة الإرسال أيضا والأكثر وصلوه عنه، وخالفهما معا سفيان الثوري في راو من السند فقال: "عن عبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن يزبد بن وديعة عن خنساء" أخرجه النسائي في "الكبرى" والطبراني من طريق ابن المبارك عنه، وهي رواية شاذة لكن يبعد أن ويكون لعبد الرحمن بن القاسم فيه شيخان، وعبد الله بن يزيد بن وديعة هذا لم أر من ترجم له، ولم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم ولا ابن حبان إلا عبد الله بن وديعة بن خدام الذي روى عن سلمان الفارسي في غسل الجمعة وعنه المقبري، وهو تابعي غير مشهور إلا في هذا الحديث، ووثقه الدار قطني وابن حبان، وقد ذكره ابن منده في "الصحابة" وخطاه أبو نعيم في ذلك، وأظن شيخ عبد الرحمن بن القاسم ابن أخيه، وعبد الله بن يزيد بن وديعة هذا ممن أغفله المزي ومن تبعه فلم يذكروه في رجال الكتب الستة. قوله: "عن خنساء بنت خدام" بمعجمة ثم نون ثم مهملة وزن حمراء، وأبوها بكسر المعجمة وتخفيف المهملة، قيل اسم أبيه وديعة، والصحيح أن اسم أبيه خالد ووديعة اسم جده فيما أحسب، وقع ذلك في رواية لأحمد من طريق محمد بن إسحاق عن الحجاج بن السائب مرسلا في هذه القصة، ولكن قال في تسميتها خناس بتخفيف النون وزن فلان، ووقع في رواية الدار قطني والطبراني وابن السكن خنساء، ووصل الحديث عنها فقال: "عن حجاج بن السائب بن أبي لبابة عن أبيه عن جدته خنساء" وخناس مشتق من خنساء كما يقال في زينب زناب، وكنية خدام والد خنساء أبو وديعة كناه أبو نعيم، وقد وقع ذلك عند عبد الرزاق من حديث ابن عباس "أن خداما أبا وديعة أنكح ابنته رجلا" الحديث، ووقع عند المستغفري من طريق ربيعة بن عبد الرحمن بن يزيد ابن جارية أن وديعة بن خدام زوج ابنته، وهو وهم في اسمه، ولعله كان: أن خداما أبا وديعة، فانقلب. وقد ذكرت في كتاب الصحابة ما يدل على أن لوديعة بن خدام أيضا صحبة، وله قصة مع عمر في ميراث سالم مولى أبي حذيفة ذكرها البخاري في تاريخه، وقد أطلت في هذا الموضع، لكن جر الكلام بعضه بعضا ولا يخلو من فائدة. قوله: "إن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك" ووقع في رواية الثوري المذكورة "قالت أنكحني أبي وأنا كارهة وأنا بكر" والأول أرجح، فقد ذكر الحديث الإسماعيلي من طرق شعبة عن يحيى بن سعيد عن القاسم فقال في روايته: "وأنا أريد أن أتزوج عم ولدي" وكذا أخرج عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي عن أبي بكر بن محمد "أن رجلا من الأنصار تزوج خنساء بنت خدام فقتل عنها يوم أحد، فأنكحها أبوها رجلا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي أنكحني، وإن عم ولدي أحب إلي" فهذا يدل على أنها كانت ولدت من زوجها الأول، واستفدنا من هذه الرواية نسبة زوجها الأول واسمه أنيس بن قتادة سماه الواقدي في روايته من وجه آخر عن خنساء، ووقع في "المبهمات للقطب القسطلاني" أن اسمه أسير وأنه استشهد ببدر ولم يذكر له مستندا، وأما الثاني الذي كرهته فلم أقف على اسمه إلا أن الواقدي ذكر بإسناد له أنه من بني مزينة، ووقع في رواية ابن إسحاق عن الحجاج بن السائب بن أبي لبابة عن أبيه عنها أنه من بني عمرو بن عوف، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس "أن خداما أبا وديعة أنكح ابنته رجلا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تكرهوهن، فنكحت بعد ذلك أبا لبابة وكانت ثيبا" وروى الطبراني بإسناد آخر عن ابن عباس فذكر نحو

(9/195)


القصة قال فيه: "فنزعها من زوجها وكانت ثيبا، فنكحت بعده أبا لبابة" وروى عبد الرزاق أيضا عن الثوري عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال: "تأيمت خنساء، فزوجها أبوها" الحديث نحوه وفيه: "فرد نكاحه، ونكحت أبا لبابة" وهذه أسانيد يقوى بعضها ببعض. كلها دالة على أنها كانت ثيبا. نعم أخرج النسائي من طريق الأوزاعي عن عطاء عن جابر "أن رجلا زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما" وهذا سند ظاهره الصحة، ولكن له علة أخرجه النسائي من وجه آخر عن الأوزاعي فأدخل بينه وبين عطاء إبراهيم بن مرة وفيه مقال، وأرسله فلم يذكر في إسناده جابرا. وأخرج النسائي أيضا وابن ماجه من طريق جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس "أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها" ورجاله ثقات، لكن قال أبو حاتم وأبو زرعة إنه خطأ وأن الصواب إرساله. وقد أخرجه الطبراني والدار قطني من وجه آخر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر وثيب أنكحهما أبوهما وهما كارهتان" قال الدار قطني: تفرد به عبد الملك الدماري وفيه ضعف، والصواب عن يحيى بن أبي كثير عن المهاجر بن عكرمة مرسل. وقال البيهقي: إن ثبت الحديث في البكر حمل على أنها زوجت بغير كفء والله أعلم قلت: وهذا الجواب هو المعتمد، فإنها واقعة عين فلا يثبت الحكم فيها تعميما، وأما الطعن في الحديث فلا معنى له فإن طرقه يقوى بعضها ببعض، ولقصة خنساء بنت خدام طريق أخرى أخرجها الدار قطني والطبراني من طريق هشيم عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة "أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها" ولم يقل فيه بكرا ولا ثيبا، قال الدار قطني: رواه أبو عوانة عن عمر مرسلا لم يذكر أبا هريرة. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه ويزيد هو ابن هارون ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري. قوله: "إن رجلا يدعى خداما أنكح ابنه له نحوه" ساق أحمد لفظه عن يزيد بن هارون بهذا الإسناد "أن رجلا منهم يدعى خداما أنكح ابنته، فكرهت نكاح أبيها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فرد عنها نكاح أبيها، فتزوجت أبا لبابة بن عبد المنذر" فذكر يحيى بن سعيد أنه بلغه أنها كانت ثيبا، وهذا يوافق ما تقدم. وكذا أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن شيبة عن يزيد بن هارون، وأخرجه الإسماعيلي من طرق عن يزيد كذلك، وأخرجه الطبراني والإسماعيلي من طريق محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد نحوه. وأخرجه الطبراني من طريق عيسى بن يونس عن يحيى كذلك. وأخرجه أحمد عن أبي معاوية عن يحيى كذلك، لكن اقتصر على ذكر مجمع بن يزيد، والذي بلغ يحيى ذلك يحتمل أن يكون عبد الرحمن بن القاسم، فسيأتي في ترك الحيل من طريق ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن القاسم "إن امرأة من ولد جعفر تخوفت أن يزوجها وليها وهي كارهة فأرسلت إلى شيخين من الأنصار عبد الرحمن ومجمع ابني جارية قالا: فلا تخشين فإن خنساء بنت خدام أنكحها أبوها وهي كارهة فرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال سفيان: وأما عبد الرحمن بن القاسم فسمعته يقول عن أبيه أن خنساء انتهى، وقد أخرجه الطبراني من وجه آخر عن سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن عن أبيه عن خنساء موصولا، والمرأة التي من ولد جعفر هي أم جعفر بنت القاسم بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ووليها هو عم أبيها معاوية بن عبد الله بن جعفر، أخرجه المستغفري من طريق يزيد بن الهاد عن ربيعة بإسناده أنها تأيمت من زوجها حمزة بن عبد الله بن الزبير، فأرسلت إلى القاسم بن محمد وإلى عبد الرحمن بن يزيد فقالت: إني لا آمن معاوية أن يضعني حيث لا يوافقني، فقال لها عبد الرحمن: ليس له ذلك

(9/196)


ولو صنع ذلك لم يجز، فذكر الحديث إلا أنه لم يضبط اسم والد خنساء ولا سمي بنته كما قدمته. وكنت ذكرت في المقدمة في تسمية المرأة من ولد جعفر ومن ذكر معها غير الذي هنا، والمذكور هنا هو المعتمد، وقد حصل من تحرير ذلك ما لا أظن أنه يزاد عليه، فلله الحمد على جميع مننه

(9/197)


44- باب تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ لِقَوْلِهِ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا} وَإِذَا قَالَ لِلْوَلِيِّ زَوِّجْنِي فُلاَنَةَ فَمَكُثَ سَاعَةً أَوْ قَالَ مَا مَعَكَ فَقَالَ مَعِي كَذَا وَكَذَا أَوْ لَبِثَا ثُمَّ قَالَ زَوَّجْتُكَهَا فَهُوَ جَائِزٌ فِيهِ سَهْلٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5140- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ لَهَا يَا أُمَّتَاهْ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} إِلَى قَوْلِهِ {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَتْ عَائِشَةُ يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ صَدَاقِهَا فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَجَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا وَنَسَبِهَا وَالصَّدَاقِ وَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبًا عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ تَرَكُوهَا وَأَخَذُوا غَيْرَهَا مِنْ النِّسَاءِ قَالَتْ فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا الأَوْفَى مِنْ الصَّدَاقِ"
قوله: "باب تزويج اليتيمة" لقول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا} ذكر فيه حديث عائشة في تفسير الآية المذكورة، وقد تقدم شرحه في التفسير، وفي دلالة على تزويج الولي غير الأب التي دون البلوغ بكرا كانت أو ثيبا، لأن حقيقة اليتيمة من كانت دون البلوغ ولا أب لها، وقد أذن في تزويجها بشرط أن لا يبخس من صداقها، فيحتاج من منع ذلك إلى دليل قوي. وقد احتج بعض الشافعية بحديث: "لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر" قال فإن قيل الصغيرة لا تستأمر، قلنا فيه إشارة إلى تأخير تزويجها حتى تبلغ فتصير أهلا للاستثمار، فإن قيل لا تكون بعد البلوغ يتيمة قلنا التقدير لا تنكح اليتيمة حتى تبلغ فتستأمر، جمعا بين الأدلة. قوله: "وإذا قال للولي زوجني فلانة فمكث ساعة أو قال ما معك؟ فقال معي كذا وكذا أو لبثا، ثم قال زوجتكها فهو جائز، فيه سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني حديث الواهبة، وقد تقدم مرارا ويأتي شرحه قريبا، ومراده منه أن التفريق بين الإيجاب والقبول إذا كان في المجلس لا يضر ولو تخلل بينهما كلام آخر، وفي أخذه من هذا الحديث نظر لأنها واقعة عين يطرقها احتمال أن يكون قبل عقب الإيجاب قوله: "حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري. وقال الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب" تقدم طريق الليث موصولا في "باب الأكفاء في المال" وساق المتن هناك على لفظه

(9/197)


وهنا على لفظ شعيب، وقد أفرده بالذكر في كتاب الوصايا كما تقدم، والله أعلم.

(9/198)


45- باب إِذَا قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِيِّ زَوِّجْنِي فُلاَنَةَ فَقَالَ قَدْ زَوَّجْتُكَ بِكَذَا وَكَذَا
جَازَ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِلزَّوْجِ أَرَضِيتَ أَوْ قَبِلْتَ.
5141- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا فَقَالَ مَا لِي الْيَوْمَ فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا قَالَ مَا عِنْدَكَ قَالَ مَا عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ قَالَ مَا عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ فَمَا عِنْدَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب إذا قال الخاطب زوجني فلانة فقال قد زوجتك بكذا وكذا جاز النكاح وإن لم يقل للزوج أرضيت أو قبلت" في رواية الكشميهني: "إذا قال الخاطب للولي" وبه يتم الكلام، وهو الفاعل في قوله: "وإن لم يقل" وأورد المصنف فيه حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة أيضا وهذه الترجمة معقودة لمسألة هل يقوم الالتماس مقام القبول فيصير كما لو تقدم القبول على الإيجاب كأن يقول تزوجت فلانة على كذا فيقول الولي زوجتكها بذلك، أو لا بد من إعادة القبول؟ فاستنبط المصنف من قصة الواهبة أنه لم ينقل بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "زوجتكها بما معك من القرآن" أن الرجل قال قد قبلت، لكن اعترضه المهلب فقال: بساط الكلام في هذه القصة أغني عن توقيف الخاطب على القبول لما تقدم من المراوضة والطلب والمعاودة في ذلك، فمن كان في مثل حال هذا الرجل الراغب لم يحتج إلى تصريح منه بالقبول لسبق العلم برغبته، بخلاف غيره ممن لم تقم القرائن على رضاه انتهى. وغايته أنه يسلم الاستدلال لكن يخصه بخاطب دون خاطب، وقد قدمت في الذي قبله وجه الخدش في أصل الاستدلال. قوله في هذه الرواية "فقال مالي اليوم في النساء من حاجة" فيه إشكال من جهة أن في حديث: "فصعد النظر إليها وصوبه" فهذا دال على أنه كان يريد التزويج لو أعجبته، فكان معنى الحديث مالي في النساء إذا كن بهذه الصفة من حاجة. ويحتمل أن يكون جواز النظر مطلقا من خصائصه وإن لم يرد التزويج، وتكون فائدته احتمال أنها تعجبه فيتزوجها مع استغنائه حينئذ عن زيادة على من عنده من النساء صلى الله عليه وسلم.

(9/198)


46- باب لاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَدَعَ
5142- حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ نَافِعًا يُحَدِّثُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلاَ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ"
5143- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الأَعْرَجِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَأْثُرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا

(9/198)


47- باب تَفْسِيرِ تَرْكِ الْخِطْبَةِ
5145- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ قَالَ عُمَرُ لَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ إِلاَّ أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا تَابَعَهُ يُونُسُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ"
قوله: "باب تفسير ترك الخطبة" ذكر فيه طرفا من حديث عمر حين تأيمت حفصة، وفي آخره قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه "ولو تركها لقبلتها" وقد تقدم شرحه مستوفي قبل أبواب. قال ابن بطال ما ملخصه: تقدم في الباب الذي قبله تفسير ترك الخطبة صريحا في قوله: "حتى ينكح أو يترك" وحديث عمر في قصة حفصة لا يظهر منه تفسير ترك الخطبة لأن عمر لم يكن علم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب حفصة، قال: ولكنه قصد معنى دقيقا يدل على ثقوب ذهنه ورسوخه في الاستنباط، وذل أن أبا بكر علم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب إلى عمر أنه لا يرده بل يرغب فيه ويشكر الله على ما أنعم عليه به من ذلك، فقام علم أبي بكر بهذا الحال مقام الركون والتراضي، فكأنه يقول: كل من علم أنه لا يصرف إذا خطب لا ينبغي لأحد أن يخطب على خطبته. وقال ابن المنير الذي يظهر لي أن البخاري أراد أن يحقق امتناع الخطبة على الخطبة مطلقا، لأن أبا بكر امتنع ولم يكن انبرم الأمر بين الخاطب والولي فكيف لو انبرم وتركنا فكأنه استدلال منه بالأولى. قلت: وما أبداه ابن بطال أدق وأولى والله أعلم. قوله: "تابعه يونس وموسى بن عقبة وابن أبي عتيق عن الزهري" أي بإسناده، أما متابعة يونس وهو ابن يزيد فوصلها الدار قطني في "العلل" من طريق أصبغ عن ابن وهب عنه، وأما متابعة الآخرين فوصلها الذهلي في "الزهريات" من طريق سليمان بن بلال عنهما، وقد تقدم للمصنف هذا الحديث من رواية معمر من رواية صالح بن كيسان أيضا عن الزهري أيضا.

(9/201)


48- باب الْخُطْبَةِ
5146- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ جَاءَ رَجُلاَنِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا"
[الحديث 5146، طرفه في: 5767]

(9/201)


49- باب ضَرْبِ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ وَالْوَلِيمَةِ
5147- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ قَالَ قَالَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ دَعِي هَذِهِ وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ"
قوله: "باب ضرب الدف في النكاح والوليمة" يجوز في الدف ضم الدال وفتحها، وقوله: "والوليمة" معطوف على النكاح أي ضرب الدف في الوليمة وهو من العام بعد الخاص، ويحتمل أن يريد وليمة النكاح خاصة وأن ضرب الدف يشرع في النكاح عند العقد وعند الدخول مثلا وعند الوليمة كذلك، والأول أشبه، وكأنه أشار بذلك إلى ما في بعض طرقه على ما سأبينه. قوله: "حدثنا خالد بن ذكوان" هو المدني يكنى أبا الحسن، وهو من صغار التابعين قوله: "جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على" في رواية الكشميهني: "فدخل على" ووقع عند ابن ماجه في أوله قصة من طريق

(9/202)


حماد بن سلمة عن أبي، الحسين واسمه خالد المدني قال: "كنا بالمدينة يوم عاشوراء والجواري يضربن بالدف ويتغنين، فدخلنا على الربيع بنت معوذ فذكرنا ذلك لها، فقالت: دخل على" الحديث، هكذا أخرجه من طريق يزيد بن هارون عنه، وأخرجه الطبراني من طريق عن حماد بن سلمة فقال: "عن أبي جعفر الخطمي" بدل أبي الحسين. قوله: "حين بنى على" في رواية حماد بن سلمة صبيحة عرسي، والبناء الدخول بالزوجة، وبين ابن سعد أنها تزوجت حينئذ إياس بن البكير الليثي وأنها ولدت له محمد بن إياس قيل له صحبة. قوله: "كمجلسك" بكسر اللام أي مكانك. قال الكرماني: هو محمول على أن ذلك كان من وراء حجاب، أو كان قبل نزول آية الحجاب، أو جاز النظر للحاجة أو عند الأمن من الفتنة ا هـ. والأخير هو المعتمد، والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها، وهو الجواب الصحيح عن قصة أم حرام بنت ملحان في دخوله عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية، وجوز الكرماني أن تكون الرواية: "مجلسك" بفتح اللام أي جلوسك ولا إشكال فيها. قوله: "فجعلت جويريات لنا" لم أقف على اسمهن، ووقع في رواية حماد بن سلمة بلفظ جاريتان تغنيان، فيحتمل أن كون الثنتان هما المغنيتان ومعهما من يتبعهما أو يساعدهما في ضرب الدف من غير غناء، وسيأتي في "باب النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها" زيادة في هذا. قوله: "ويندبن" من الندبة بضم النون وهي ذكر أوصاف الميت بالثناء عليه وتعديد محاسنه بالكرم والشجاعة ونحوها. قوله: "من قتل من آبائي يوم بدر" تقدم بيان ذلك في المغازي وإن الذي قتل من آبائها إنما قتل بأحد، وآباؤها الذين شهدوا بدرا معوذ ومعاذ وعوف وأحدهم أبوها والآخران عماها أطلقت الأبوة عليهما تغليبا. قوله: "فقال دعي هذه" أي اتركي ما يتعلق بمدحي الذي فيه الإطراء المنهي عنه، زاد في رواية حماد بن سلمة "لا يعلم ما في غد إلا الله" فأشار إلى علة المنع. قوله: "وقولي بالذي كنت تقولين" فيه إشارة إلى جواز سماع المدح والمرثية مما ليس فيه مبالغة تفضي إلى الغلو. وأخرج الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن من حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنساء من الأنصار في عرس لهن وهن يغنين:
وأهدى لها كبشا تنحنح في المربد
وزوجك في البادي وتعلم ما في غد
فقال: لا يعلم ما في غد إلا الله" قال المهلب: في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف وبالغناء المباح، وفيه إقبال الإمام إلى العرس وإن كان فيه لهو ما لم يخرج عن حد المباح. وفيه جواز مدح الرجل في وجهه ما لم يخرج إلى ما ليس فيه. وأغرب ابن التين فقال: إنما نهاها لأن مدحه حق والمطلوب في النكاح اللهو فما أدخلت الجد في اللهو منعها، كذا قال، وتمام الخبر الذي أشرت إليه يرد عليه، وسياق القصة يشعر بأنهما لو استمرتا على المرائي لم ينههما، وغالب حسن المرائي جد لا لهو، وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حيث أطلق علم الغيب له وهو صفة تختص بالله تعالى قال تعالى :{قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} وقوله لنبيه {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} وسائر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر به من الغيوب بإعلام الله تعالى إياه لا أنه يستقل بعلم ذلك كما قال تعالى :{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} وسيأتي مزيد بحث مسألة الغناء في العرس بعد اثنى عشر بابا

(9/203)


50- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}
وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ وَأَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنْ الصَّدَاقِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} وَقَالَ سَهْلٌ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ
5148- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ فَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَاشَةَ الْعُرْسِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ"
قوله: "باب قول الله تعالى :{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وكثرة المهر، وأدنى ما يجوز من الصداق، وقوله تعالى :{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} وقوله جل ذكره: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}. هذه الترجمة معقودة لأن المهر لا يتقدر أقله، والمخالف في ذلك المالكية والحنفية، ووجه الاستدلال مما ذكره الإطلاق من قوله: "صدقاتهن" ومن قوله: "فريضة" وقوله في حديث سهل "ولو خاتما من حديد". وأما قوله: "وكثرة المهر" فهو بالجر عطف على قول الله في الآية التي تلاها وهو قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} فيه إشارة إلى جواز كثرة المهر. وقد استدلت بذلك المرأة التي نازعت عمر رضي الله تعالى عنه في ذلك، وهو ما أخرجه عبد الرزاق من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال قال عمر: لا تغالوا في مهور النساء: فقالت امرأة ليس ذلك لك يا عمر، إن الله يقول وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب، قال وكذلك هي في قراءة ابن مسعود "فقال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته" وأخرجه الزبير بن بكار من وجه آخر منقطع "فقال عمر: امرأة أصابت رجل أخطأ" وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن مسروق عن عمر فذكره متصلا مطولا، وأصل قول عمر "لا تغالوا في صدقات النساء" عند أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم، لكن ليس فيه قصة المرأة، ومحصل الاختلاف أنه أقل ما يتمول، وقيل أقله ما يجب فيه القطع، وقيل أربعون وقيل خمسون، وأقل ما يجب فيه القطع مختلف فيه فقيل ثلاثة دراهم وقيل خمسة وقيل عشرة. قوله: "وقال سهل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولو خاتما من حديد" هذا طرف من حديث الواهبة وسيأتي شرحه مستوفى بعد هذا، ويأتي مزيد في هذه المسألة بعد قليل أيضا، ثم ذكر حديث أنس في قصة تزويج عبد الرحمن بن عوف وفيه قوله: "تزوجت امرأة على وزن نواة" وسيأتي شرحه مستوفى في "باب الوليمة ولو بشاة" بعد بضعة عشر بابا. قوله: "وعن قتادة عن أنس" هو معطوف على قوله عن عبد العزيز بن صهيب، وهو من رواية شعبة عنهما، فبين أن عبد العزيز بن صهيب أطلق عن أنس النواة وقتادة زاد أنها من ذهب، ويحتمل أن يكون قوله: "وعن قتادة" معلقا. وقد أخرج الإسماعيلي الحديث عن يوسف القاضي عن سليمان بن حرب بطريق عبد العزيز فقط. وأخرج طريق قتادة من رواية علي بن الجعد وعاصم بن علي كلاهما عن شعبة، وكذا صنع أبو نعيم أخرج من رواية سليمان طريق عبد العزيز وحده وأخرج طريق قتادة من رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة، والله أعلم

(9/204)


51- باب التَّزْوِيجِ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ
5149- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ يَقُولُ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ يَقُولُ إِنِّي لَفِي الْقَوْمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَامَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا ثُمَّ قَامَتْ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا ثُمَّ قَامَتْ الثَّالِثَةَ فَقَالَتْ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحْنِيهَا قَالَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ لاَ قَالَ اذْهَبْ فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ فَطَلَبَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ هَلْ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ"
قوله: "باب التزويج على القران وبغير صداق" أي على تعليم القرآن وبغير صداق مالي عيني، ويحتمل غير ذلك كما سيأتي البحث فيه. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، وقد ذكره المصنف من رواية سفيان الثوري بعد هذا لكن باختصار، وأخرجه ابن ماجه من روايته أتم منه، والإسماعيلي أتم من ابن ماجه، والطبراني مقرونا برواية معمر؛ وأخرج رواية ابن عيينة أيضا مسلم والنسائي. وهذا الحديث مداره على أبي حازم سلمة بن دينار المدني وهو من صغار التابعين، حدث به كبار الأئمة عنه مثل مالك، وقد تقدمت روايته في الوكالة وقبل أبواب هنا، ويأتي في التوحيد، وأخرجه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي والثوري كما ذكرته، وحماد بن زيد وروايته في فضائل القرآن، وتقدمت قبل أبواب هنا أيضا وأخرجها مسلم، وفضيل بن سليمان ومحمد بن مطرف أبي غسان، وقد تقدمت روايتهما قريبا في النكاح ولم يخرجهما مسلم، ويعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني وعبد العزيز بن أبي حازم وروايتهما في النكاح أيضا، ويعقوب أيضا في فضائل القرآن وعبد العزيز يأتي في اللباس وأخرجها مسلم، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي وزائدة بن قدامة وروايتهما عند مسلم، ومعمر وروايته عند أحمد والطبراني، وهشام بن سعد وروايته في "صحيح أبي عوانة" والطبراني، ومبشر بن مبشر وروايته عند الطبراني، وعبد الملك بن جريج وروايته عند أبي الشيخ في كتاب النكاح، وقد روى طرفا منه سعيد بن المسيب عن سهل بن سعد أخرجه الطبراني. وجاءت القصة أيضا من حديث أبي هريرة عند أبي داود باختصار والنسائي مطولا، وابن مسعود عند الدار قطني، ومن حديث ابن عباس عند أبي عمر بن حيوة في فوائده، وضميرة جد حسين بن عبد الله عند الطبراني، وجاءت مختصرة من حديث أنس كما تقدم قبل أبواب، وعند الترمذي طرف منه آخر، ومن حديث أبي أمامة عند تمام في فوائده، ومن حديث جابر وابن عباس عند أبي الشيخ في كتاب النكاح، وسأذكر ما في هذه الروايات من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى. قوله: "عن سهل بن سعد" في رواية ابن جريج حدثني أبو حازم أن سهل بن سعد أخبره. قوله: "إني لفي القوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قامت امرأة" في رواية فضيل بن سليمان "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسا فجاءته امرأة. وفي رواية هشام بن سعد "بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم أتت إليه امرأة" وكذا

(9/205)


في معظم الروايات "أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم:" ويمكن رد رواية سفيان إليها بأن يكون معنى قوله: "قامت" وقفت، والمراد أنها جاءت إلى أن وقفت عندهم، لا أنها كانت جالسة في المجلس فقامت. وفي رواية سفيان الثوري عند الإسماعيلي: "جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد" فأفاد تعيين المكان الذي وقعت فيه القصة. وهذه المرأة لم أقف على اسمها، ووقع في "الأحكام لابن القصاع" أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك، وهذا نقل من اسم الواهبة الوارد في قوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وقد تقدم بيان اسمها في تفسير الأحزاب وما يدل على تعدد الواهبة. قوله: "فقالت يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك" كذا فيه على طريق الالتفات، وكذا في رواية حماد ابن زيد لكن قال: "إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله" وكان السياق يقتضي أن تقول إني قد وهبت نفسي لك، وبهذا اللفظ وقع في رواية مالك، وكذا في رواية زائدة عند الطبراني. وفي رواية يعقوب، وكذا الثوري عند الإسماعيلي: "فقالت يا رسول الله جئت أهب نفسي لك" وفي رواية فضيل بن سليمان "فجاءته امرأة تعرض نفسها عليه" وفي كل هذه الروايات حذف مضاف تقديره أمر نفسي أو نحوه، وإلا فالحقيقة غير مرادة لأن رقبة الحر لا تملك، فكأنها قالت أتزوجك من غير عوض. قوله: "فر فيها رأيك" كذا للأكثر براء واحدة مفتوحة بعدها فاء التعقيب، وهي فعل أمر من الرأي، ولبعضهم بهمزة ساكنة بعد الراء وكل صواب، ووقع بإثبات الهمزة في حديث ابن مسعود أيضا. قوله: "فلم يجبها شيئا" في رواية معمر والثوري وزائدة "فصمت". وفي رواية يعقوب وابن حازم وهشام بن سعد "فنظر إليها فصعد النظر إليها وصوبه" وهو بتشديد العين من صعد والواو من صوب، والمراد أنه نظر أعلاها وأسفلها، والتشديد إما للمبالغة في التأمل وإما للتكرير، وبالثاني جزم القرطبي في "المفهم" قال: أي نظر أعلاها وأسفلها مرارا. ووقع في رواية فضيل بن سليمان "فخفض فيها البصر ورفعه:" وهما بالتشديد أيضا ووقع في رواية الكشميهني من هذا الوجه "النظر" بدل البصر. وقال في هذه الرواية: "ثم طأطأ رأسه" وهو بمعنى قوله: "فصمت" وقال في رواية فضيل بن سليمان "فلم يردها" وقد قدمت ضبط هذه اللفظة في "باب إذا كان الولي هو الخاطب". قوله: "ثم قامت فقالت" وقع هذا في رواية المستملي والكشميهني وسياق لفظها كالأول، وعندهما أيضا: "ثم قامت الثالثة" وسياقها كذلك. وفي رواية معمر والثوري معا عند الطبراني "فصمت، ثم عرضت نفسها عليه فصمت، فلقد رأيتها قائمة مليا تعرض نفسها عليه وهو صامت" وفي رواية مالك "فقامت طويلا" ومثله للثوري عنه وهو نعت مصدر محذوف أي قياما طولا، أو لظرف محذوف أي زمانا طويلا. وفي رواية مبشر "فقامت حتى رئينا لها من طول القيام، زاد في رواية يعقوب وابن أبي حازم "فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست" ووقع في رواية حماد بن زيد أنها "وهبت نفسها لله ولرسوله فقال: مالي في النساء حاجة" ويجمع بينها وبين ما تقدم أنه قال ذلك في آخر الحال، فكأنه صمت أولا لتفهم أنه لم يردها، فلما أعادت الطلب أفصح لها بالواقع. ووقع في حديث أبي هريرة عند النسائي: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها عليه، فقال لها اجلسي، فجلست ساعة ثم قامت، فقال : اجلسي بارك الله فيك، أما نحن فلا حاجة لنا فيك" فيؤخذ منه وفور أدب المرأة مع شدة رغبتها لأنها لم تبالغ في الإلحاح في الطلب، وفهمت من السكوت عدم الرغبة، لكنها لما لم تيأس من الرد جلست تنتظر الفرج، وسكوته صلى الله عليه وسلم إما حياء من مواجهتها بالرد وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحياء جدا كما تقدم في صفته أنه كان أشد حياء

(9/206)


لشركها النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وهذا بعيد إذ ليس في كلام النبي ولا الرجل ما يدل على شيء من ذلك، قال ويمكن أن يقال أن مراد سهل أنه لو كان عليه رداء مضاف إلى الإزار لكان للمرأة نصف ما عليه الذي هو إما الرداء وإما الإزار لتعليله المنع بقوله: "إن لبسته لم يكن عليك منه شيء" فكأنه قال لو كان عليك ثوب تنفرد أنت بلبسه وثوب آخر تأخذه هي تنفرد بلبسه لكان لها أخذه، فإما إذا لم يكن ذلك فلا انتهى. وقد أخذ كلامه هذا بعض المتأخرين فذكره ملخصا، وهو كلام صحيح لكنه مبني على الفهم الذي دخله الوهم، والذي قال: "فلها نصفه" هو الرجل صاحب القصة، وكلام سهل إنما هو قوله: "ماله رداء فقط" وهي جملة معترضة، وتقدير الكلام: ولكن هذا إزاري فلها نصفه، وقد جاء ذلك صريحا في رواية أبي غسان محمد بن مطرف ولفظه: "ولكن هذا إزاري ولها نصفه" قال سهل: وماله رداء. ووقع في رواية الثوري عند الإسماعيلي: "فقام رجل عليه إزار وليس عليه رداء" ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لبسته إلخ" أي إن لبسته كاملا وإلا فمن المعلوم من ضيق حالهم وقلة الثياب عندهم أنها لو لبسته بعد أن تشقه لم يسترها، ويحتمل أن يكون المراد بالنفي نفي الكمال لأن العرب قد تنفي جملة الشيء إذا انتفى كماله والمعنى لو شققته بينكما نصفين لم يحصل كمال سترك بالنصف إذا لبسته ولا هي. وفي رواية معمر عند الطبراني ما وجدت والله شيئا غير ثوبي هذا اشققه بيني وبينها قال ما في ثوبك فضل عنك. وفي رواية فضيل بن سليمان "ولكني أشق بردتي هذه فأعطيها النصف وآخذ النصف" وفي رواية الدراوردي "قال ما أملك إلا إزاري هذا، قال: أرأيت إن لبسته فأي شيء تلبس" وفي رواية مبشر" هذه الشملة التي علي ليس عندي غيرها" وفي رواية هشام بن سعد "ما عليه إلا ثوب وأحد عاقد طرفيه على عنقه" وفي حديث ابن عباس وجابر "والله ما لي ثوب إلا هذا الذي علي" وكل هذا مما يرجح الاحتمال الأول والله أعلم. ووقع في رواية حماد بن زيد "فقال أعطها ثوبا، قال لا أجد، قال أعطها ولو خاتما من حديد فاعتل له" ومعنى قوله: "فاعتل له" أي اعتذر بعدم وجدانه كما دلت عليه رواية غيره، ووقع في رواية أبي غسان قبل قوله: هل معك من القرآن شيء "فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه أو دعي له" وفي رواية الثوري عند الإسماعيلي: "فقام طويلا ثم ولي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علي الرجل" وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم ويعقوب مثله لكن قال: "فرآه النبي صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي له، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟" ويحتمل أن كون هذا بعد قوله كما في رواية مالك "هل معك من القرآن شيء" فاستفهمه حينئذ عن كميته، ووقع الأمران في رواية معمر قال: "فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال: سورة كذا" وعرف بهذا المراد بالمعية وأن معناها الحفظ عن ظهر قلبه، وقد تقدم تقرير ذلك في فضائل القرآن وبيان من زاد فيه: "أتقرؤهن عن ظهر قلبك" وكذا وقع في رواية الثوري عند الإسماعيلي: "قال معي سورة كذا ومعي سورة كذا، قال عن ظهر قلبك؟ قال نعم". قوله: "سورة كذا وسورة كذا" زاد مالك تسميتها. وفي رواية يعقوب وابن أبي حازم "عدهن" وفي رواية أبي غسان "لسور يعددها" وفي رواية سعيد بن المسيب عن سهل بن سعد "أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا امرأة على سورتين من القرآن يعلمها إياهما" ووقع في حديث أبي هريرة قال: "ما تحفظ من القرآن؟ قال: سورة البقرة أو التي تليها" كذا في كتابي أبي داود والنسائي بلفظ: "أو" وزعم بعض من لقيناه أنه عند أبي داود بالواو وعند النسائي بلفظ: "أو" ووقع في حديث ابن مسعود "قال نعم سورة البقرة وسورة المفصل" وفي حديث ضميرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا على سورة البقرة لم يكن عنده شيء" وفي حديث

(9/208)


أبي أمامة "زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه امرأة على سورة من المفصل جعلها مهرها وأدخلها عليه وقال: علمها" وفي حديث أبي هريرة المذكور "فعلمها عشرين آية وهي امرأتك" وفي حديث ابن عباس "أزوجها منك على أن تعلمها أربع - أو خمس - سور من كتاب الله" وفي مرسل أبي النعمان الأزدي عند سعيد بن منصور "زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن" وفي حديث ابن عباس وجابر "هل تقرأ من لقرآن شيئا؟ قال: نعم، إنا أعطيناك الكوثر. قال: أصدقها إياها" ويجمع بين هذه الألفاظ بأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض، أو أن القصص متعددة. قوله: "اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن" في رواية زائدة مثله، لكن قال في آخره: "فعلمها من القرآن" وفي رواية مالك "قال له قد زوجتكها بما معك من القرآن" ومثله في رواية الدراوردي عن إسحاق بن راهويه، وكذا في رواية فضيل بن سليمان ومبشر. وفي رواية الثوري عند ابن ماجه: "قد زوجتكها على ما معك من القرآن" ومثله في رواية هشام بن سعد وفي رواية الثوري عند الإسماعيلي: "أنكحتكها بما معك من القرآن" وفي رواية الثوري ومعمر عند الطبراني "قد ملكتكها بما معك من القرآن"، وكذا في رواية يعقوب وابن أبي حازم وابن جريج وحماد بن زيد في إحدى الروايتين عنه. وفي رواية معمر عند أحمد "قد أملكتكها" والباقي مثله. وقال في أخرى "فرأيته يمضي وهي تتبعه" وفي رواية أبي غسان "أمكناكها" والباقي مثله، وفي حديث ابن مسعود "قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها، وإذا رزقك الله عوضتها، فتزوجها الرجل على ذلك". وفي هذا الحديث من الفوائد أشياء غير ما ترجم به البخاري في كتاب الوكالة وفضائل القرآن وعدة تراجم في كتاب النكاح، وقد بينت في كل واحد توجيه الترجمة ومطابقتها للحديث ووجه الاستنباط منها. وترجم عليه أيضا في كتاب اللباس والتوحيد كما سيأتي تقريره. وفيه أيضا أن لا حد لأقل المهر، قال ابن المنذر: فيه رد على من زعم أن أقل المهر عشرة دراهم وكذا من قال ربع دينار، قال: لأن خاتما من حديد لا يساوي ذلك. وقال المازري تعلق به من أجاز النكاح بأقل من ربع دينار لأنه خرج مخرج التعليل ولكن مالك قاسه على القطع في السرقة. قال عياض: تفرد بهذا مالك عن الحجازيين، لكن مستنده الالتفات إلى قوله تعالى :{انْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وبقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} فإنه يدل على أن المراد ماله بال من المال وأقله ما استبيح به قطع العضو المحترم، قال: وأجازه الكافة بما تراضى عليه الزوجان أو من العقد إليه بما فيه منفعة كالسوط والنعل إن كانت قيمته أقل من درهم، وبه قال يحيى ابن سعيد الأنصاري وأبو الزناد وربيعة وابن أبي ذئب وغيرهم من أهل المدينة غير مالك ومن تبعه وابن جريج ومسلم بن خالد وغيرهما من أهل مكة والأوزاعي في أهل الشام والليث في أهل مصر والثوري وابن أبي ليلى وغيرهما من العراقيين غير أبي حنيفة ومن تبعه والشافعي وداود وفقهاء أصحاب الحديث وابن وهب من المالكية. وقال أبو حنيفة: أقله عشرة، وابن شبرمة أقله خمسة، ومالك أقله ثلاثة أو ربع دينار بناء على اختلافهم في مقدار ما يجب فيه القطع. وقد قال الدراوردي لمالك لما سمعه يذكر هذه المسألة: تعرقت يا أبا عبد الله، أي سلكت سبيل أهل العراق في قياسهم مقدار الصداق على مقدار نصاب السرقة وقال القرطبي: استدل من قاسه بنصاب السرقة بأنه عضو آدمي محترم فلا يستباح بأقل من كذا قياسا على يد السارق، وتعقبه الجمهور بأنه قياس في مقابل النص فلا يصح، وبأن اليد تقطع وتبين ولا كذلك الفرج، وبأن القدر المسروق يجب على السارق رده مع القطع ولا كذلك الصداق. وقد ضعف جماعة من المالكية أيضا هذا

(9/209)


القياس، فقال أبو الحسن اللخمي: قياس قدر الصداق بنصاب السرقة ليس بالبين، لأن اليد إنما قطعت في ربع دينار نكالا للمعصية، والنكاح مستباح بوجه جائز، ونحوه لأبي عبد الله بن الفخار منهم. نعم قوله تعالى : {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} يدل على أن صداق الحرة لا بد وأن يكون ما ينطلق عليه اسم مال له قدر ليحصل الفرق بينه وبين مهر الأمة، وأما قوله تعالى :{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فإنه يدل على اشتراط ما يسمى مالا في الجملة قل أو كثر وقد حده بعض المالكية بما تجب فيه الزكاة، وهو أقوى من قياسه على نصاب السرقة، وأقوى من ذلك رده إلى المتعارف. وقال ابن العربي: وزن الخاتم من الحديد لا يساوي ربع دينار، وهو مما لا جواب عنه ولا عذر فيه، لكن المحققين من أصحابنا نظروا إلى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} فمنع الله القادر على الطول من نكاح الأمة، فلو كان الطول درهما ما تعذر على أحد. ثم تعقبه بأن ثلاثة دراهم كذلك، يعني فلا حجة فيه للتحديد ولا سيما مع الاختلاف في المراد بالطول. وفيه أن الهبة النكاح خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم لقول الرجل "زوجنيها" ولم يقل هبها لي. ولقولها هي "وهبت نفسي لك" وسكت صلى الله عليه وسلم على ذلك، فدل على جوازه له خاصة، مع قوله تعالى :{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وفيه جواز انعقاد نكاحه صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة دون غيره من الأمة على أحد الوجهين للشافعية، والآخر لا بد من لفظ النكاح أو التزويج. وسيأتي البحث فيه. وفيه أن الإمام يزوج من ليس لها ولي خاص لمن يراه كفؤا لها ولكن لا بد من رضاها بذلك. وقال الداودي: ليس في الخبر أنه استأذنها ولا أنها وكلته وإنما هو من قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يعني فيكون خاصا به صلى الله عليه وسلم أنه يزوج من شاء من النساء بغير استئذانها لمن شاء، وبنحوه قال ابن أبي زيد. وأجاب ابن بطال بأنها لما قالت له "وهبت نفسي لك" كان كالأذن منها في تزويجها لمن أراد، لأنها لا تملك حقيقة، فيصير المعنى جعلت لك أن تتصرف في تزويجي ا هـ. ولو راجعا حديث أبي هريرة لما احتاجا إلى هذا التكلف، فإن فيه كما قدمته "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: إني أريد أن أزوجك هذا إن رضيت، فقالت: ما رضيت لي فقد رضيت. وفيه جواز تأمل محاسن المرأة لإرادة تزويجها وإن لم تتقدم الرغبة في تزويجها ولا وقعت خطبتها، لأنه صلى الله عليه وسلم صعد فيها النظر وصوبه، وفي الصيغة ما يدل على المبالغة في ذلك ولم يتقدم منه رغبة فيها ولا خطبة، ثم قال: "لا حاجة لي في النساء" ولو لم يقصد أنه إذا رأى منها ما يعجبه أنه يقبلها ما كان للمبالغة في تأملها فائدة. ويمكن الانفصال عن ذلك بدعوى الخصوصية له لمحل العصمة. والذي تحرر عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره. وسلك ابن العربي في الجواب مسلكا آخر فقال: يحتمل أن ذلك قبل الحجاب، أو بعده لكنها كانت متلففة، وسياق الحديث يبعد ما قال. وفيه أن الهبة لا تتم إلا بالقبول، لأنها لما قالت: "وهبت نفسي لك" ولم يقل قبلت لم يتم مقصودها ولو قبلها لصارت زوجا له ولذلك لم ينكر على القائل "زوجنيها" وفيه جواز الخطبة على خطبة من خطب إذا لم يقع بينهما ركون ولا سيما إذا لاحت مخايل الرد، قاله أبو الوليد الباجي، وتعقبه عياض وغيره بأنه لم يتقدم عليها خطبة لأحد ولا ميل، بل هي أرادت أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها مجانا مبالغة منها في تحصيل مقصودها فلم يقبل، ولما قال: "ليس لي حاجة في النساء" عرف الرجل أنه لم يقبلها فقال: "زوجنيها" ثم بالغ في الاحتراز فقال: "إن لم يكن لك بها حاجة" وإنما قال ذلك بعد تصريحه بنفي الحاجة لاحتمال أن يبدو له بعد ذلك ما يدعوه إلى إجابتها، فكان ذلك دالا على وفور فطنة الصحابي المذكور وحسن أدبه. قلت: ويحتمل أن يكون الباجي أشار إلى أن الحكم

(9/210)


الذي ذكره يستنبط من هذه القصة، لأن الصحابي لو فهم أن للنبي صلى الله عليه وسلم فيها رغبة لم يطلبها، فكذلك من فهم أن له رغبة في تزويج امرأة لا يصلح لغيره أن يزاحمه فيها حتى يظهر عدم رغبته فيها إما بالتصريح أو ما في حكمه. وفيه أن النكاح لا بد فيه من الصداق لقوله : "هل عندك من شيء تصدقها" ؟ وقد أجمعوا على أنه لا يجوز لأحد أن يطأ فرحا وهب له دون الرقبة بغير صداق. وفيه أن الأولى أن يذكر الصداق في العقد لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة، فلو عقد بغير ذكر صداق صح ووجب لها مهر المثل بالدخول على الصحيح، وقيل بالعقد. ووجه كونه أنفع لها أنه يثبت لها نصف المسمى أن لو طلقت قبل الدخول. وفيه استحباب تعجيل تسليم المهر. وفيه جواز الحلف بغير استحلاف للتأكيد، لكنه يكره لغير ضرورة وفي قوله: "أعندك شيء؟ فقال: لا" دليل على تخصيص العموم بالقرينة، لأن لفظ شيء يشمل الخطير والتافه، وهو كان لا يعدم شيئا تافها كالنواة ونحوها، لكنه فهم أن المراد ما له قيمة في الجملة، فلذلك نفي أن يكون عنده. ونقل عياض الإجماع على أن مثل الشيء الذي لا يتمول ولا له قيمة لا يكون صداقا ولا يحل به النكاح، فإن ثبت نقله فقد خرق هذا الإجماع أبو محمد بن حزم فقال: يجوز بكل ما يسمى شيئا ولو كان حبة من شعير، ويؤيد ما ذهب إليه الكافة قوله صلى الله عليه وسلم: "التمس ولو خاتما من حديد" لأنه أورده مورد التقليل بالنسبة لما فوقه، ولا شك أن الخاتم من الحديد له قيمة وهو أعلى خطرا من النواة وحبة الشعير، ومساق الخبر يدل على أنه لا شيء دونه يستحل به البضع، وقد وردت أحاديث في أقل الصداق لا يثبت منها شيء، منها عند ابن أبي شيبة من طريق أبي لبيبة رفعه: "من استحل بدرهم في النكاح فقد استحل ومنها عند أبي داود عن جابر رفعه: "من أعطى في صداق امرأة سويقا أو تمرا فقد استحل"، وعند الترمذي من حديث عامر بن ربيعة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز نكاح امرأة على نعلين" وعند الدار قطني من حديث أبي سعيد في أثناء حديث المهر "ولو على سواك من أراك" وأقوى شيء ورد في ذلك حديث جابر عند مسلم كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نهى عنها عمر" قال البيهقي: إنما نهى عمر عن النكاح إلى أجل لا عن قدر الصداق، وهو كما قال. وفيه دليل للجمهور لجواز النكاح بالخاتم الحديد وما هو نظير قيمته، قال ابن العربي من المالكية كما تقدم: لا شك أن خاتم الحديد لا يساوي ربع دينار، وهذا لا جواب عنه لأحد ولا عذر فيه، وانفصل بعض المالكية عن هذا الإيراد مع قوته بأجوبة: منها أن قوله: "ولو خاتما من حديد". خرج مخرج المبالغة في طلب التيسير عليه ولم يرد عين الخاتم الحديد ولا قدر قيمته حقيقة، لأنه لما قال لا أجد شيئا عرف أنه فهم أن المراد بالشيء ما له قيمة فقيل له ولو أقل ما له قيمة كخاتم الحديد، ومثله "تصدقوا ولو بظلف محرق ولو بفرسن شاة" مع أن الظلف والفرسن لا ينتفع به ولا يتصدق به، ومنها احتمال أنه طلب منه ما يعجل نقده قبل الدخول لا أن ذلك جميع الصداق، وهذا جواب ابن القصار، وهذا يلزم منه الرد عليهم حيث استحبوا تقديم ربع دينار أو قيمته قبل الدخول لا أقل، ومنها دعوى اختصاص الرجل المذكور بهذا القدر دون غيره وهذا جواب الأبهري، وتعقب بأن الخصوصية تحتاج إلى دليل خاص. ومنها احتمال أن تكون قيمته إذ ذاك ثلاثة دراهم أو ربع دينار. وقد وقع عند الحاكم والطبراني من طريق الثوري عن أبي حازم عن سهل بن سعد "أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا بخاتم من حديد فصه فضة" واستدل به على جواز اتخاذ الخاتم من الحديد، وسيأتي البحث فيه في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى، وعلى وجوب تعجيل الصداق قبل الدخول، إذ لو ساغ تأخيره لسأله هل يقدر

(9/211)


على تحصيل ما يمهرها بعد أن يدخل عليها ويتقرر ذلك في ذمته، ويمكن الانفصال عن ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم أشار بالأولى، والحامل على هذا التأويل ثبوت جواز نكاح المفوضة وثبوت جواز النكاح على مسمى في الذمة والله أعلم. وفيه أن إصداق ما يتمول يخرجه عن يد مالكه حتى أن من أصدق جارية مثلا حرم عليه وطؤها وكذا استخدامها بغير إذن من أصدقها، وأن صحة المبيع تتوقف على صحة تسليمه فلا يصح ما تعذر إما حسا كالطير في الهواء وإما شرعا كالمرهون، وكذا الذي لو زال إزاره لانكشفت عورته، كذا قال عياض وفيه نظر، واستدل به على جواز جعل المنفعة صداقا ولو كان تعليم القرآن، قال المازري: هذا ينبني على أن الباء للتعويض كقولك بعتك ثوبي بدينار وهذا هو الظاهر وإلا لو كانت بمعنى اللام على معنى تكريمه لكونه حاملا للقرآن لصارت المرأة بمعنى الموهوبة والموهوبة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ا هـ. وانفصل الأبهري - وقبله الطحاوي ومن تبعهما كأبي محمد بن أبي زيد - عن ذلك بأن هذا خاص بذلك الرجل، لكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوز له نكاح الواهبة فكذلك يجوز له أن ينكحها لمن شاء بغير صداق، ونحوه للداودي وقال: إنكاحها إياه بغير صداق لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وقواه بعضهم بأنه لما قال له "ملكتكها" لم يشاورها ولا استأذنها، وهذا ضعيف لأنها هي أولا فوضت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في رواية الباب: "فر في رأيك" وغير ذلك من ألفاظ الخبر التي ذكرناها، فلذلك لم يحتج إلى مراجعتها في تقدير المهر وصارت كمن قالت لوليها زوجني بما ترى من قليل الصداق وكثيره، واحتج لهذا القول بما أخرجه سعيد بن منصور من مرسل أبي النعمان الأزدي قال: "زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن وقال: لا تكون لأحد بعدك مهرا" وهذا مع إرساله فيه من لا يعرف. وأخرج أبو داود من طريق مكحول قال. ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو عوانة من طريق الليث بن سعد نحوه. وقال عياض: يحتمل قوله: "بما معك من القرآن" وجهين أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقدارا معينا منه ويكون ذلك صداقها وقد جاء هذا التفسير عن مالك، ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة "فعلمها من القرآن" كما تقدم، وعين في حديث أبي هريرة مقدار ما يعلمها وهو عشرون آية، ويحتمل أن تكون الباء بمعنى اللام أي لأجل ما معك من القرآن فأكرمه بأن زوجه المرأة بلا مهر لأجل كونه حافظا للقرآن أو لبعضه، ونظيره قصة أبي طلحة مع أم سليم وذلك فيما أخرجه النسائي وصححه من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: "خطب أبو طلحة مع أم سليم، فقالت والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر وأنا مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسليم فذاك مهري ولا أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها". وأخرج النسائي من طريق عبد الله بن عبيد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: "تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، فذكر القصة وقال في آخره: فكان ذلك صداق ما بينهما ترجم عليه النسائي: "التزويج على الإسلام" ثم ترجم على حديث سهل "التزويج على سورة من القرآن" فكأنه مال إلى ترجيح الاحتمال الثاني. ويؤيد أن الباء للتعويض لا للسببية ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من أصحابه: يا فلان هل تزوجت؟ قال: لا، وليس عندي ما أتزوج به، قال: أليس معك قل هو الله أحد" الحديث. واستدل الطحاوي للقول الثاني من طريق النظر بأن النكاح إذا وقع على مجهول كان كما لم يسم فيحتاج إلى الرجوع إلى المعلوم، قال: والأصل المجمع عليه لو أن رجلا استأجر رجلا على أن يعلمه سورة من القرآن بدرهم لم يصح لأن الإجازة لا تصح إلا على عمل معين كغسل الثوب أو وقت معين،

(9/212)


والتعليم قد لا يعلم مقدار وقته، فقد يتعلم في زمان يسير وقد يحتاج إلى زمان طويل، ولهذا لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يصح، قال: فإذا كان التعليم لا تملك به الأعيان لا تملك به المنافع. والجواب عما ذكره أن المشروط تعليمه معين كما تقدم في بعض طرقه، وأما الاحتجاج بالجهل بمدة التعليم فيحتمل أن يقال اغتفر ذلك في باب الزوجين لأن الأصل استمرار عشرتهما، ولأن مقدار تعليم عشرين آية لا تختلف فيه أفهام النساء غالبا، خصوصا مع كونها عربية من أهل لسان الذي يتزوجها كما تقدم. وانفصل بعضهم بأنه زوجها إياه لأجل ما معه من القرآن الذي حفظه وسكت عن المهر فيكون ثابتا لها في ذمته إذا أيسر كنكاح التفويض، وإن ثبت حديث ابن عباس المتقدم حيث قال فيه: "فإذا رزقك الله فعوضها" كان فيه تقوية لهذا القول، لكنه غير ثابت. وقال بعضهم يحتمل أن يكون زوجه لأجل ما حفظه من القرآن وأصدق عنه كما كفر عن الذي وقع على امرأته في رمضان ويكون ذكر القرآن وتعليمه على سبيل التحريض؛ على تعلم القرآن وتعليمه وتنويها بفضل أهله، قالوا: ومما يدل على أنه لم يجعل التعليم صداقا أنه لم يقع معرفة الزوج بفهم المرأة وهل فيها قابلية التعليم بسرعة أو ببطء، ونحو ذلك مما تتفاوت فيه الأغراض، والجواب عن ذلك قد تقدم في بحث الطحاوي، ويؤيد قول الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم أولا "هل معك شيء تصدقها" ولو قصد استكشاف فضله لسأله عن نسبه وطريقته ونحو ذلك. فإن قيل: كيف يصح جعل تعليمها القرآن مهرا وقد لا تتعلم؟ أجيب: كما يصح جعل تعليمها الكتابة مهرا وقد لا تتعلم، وإنما وقع الاختلاف عند من أجاز جعل المنفعة مهرا هل يشترط أن يعلم حذق المتعلم أو لا كما تقدم، وفيه جواز كون الإجارة صداقا ولو كانت المصدوقة المستأجرة، فتقوم المنفعة من الإجارة مقام الصداق، وهو قول الشافعي وإسحاق والحسن بن صالح، وعند المالكية فيه خلاف، ومنعه الحنفية في الحر وأجازوه العبد إلا في الإجارة في تعليم القرآن فمنعوه مطلقا بناء على أصلهم في أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا يجوز، وقد نقل عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة إلا الحنفية. وقال ابن العربي: من العلماء من قال زوجه على أن يعلمها من القرآن فكأنها كانت إجارة، وهذا كرهه مالك ومنعه أبو حنيفة وقال ابن القاسم: يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، قال: والصحيح جوازه بالتعليم. وقد روى يحيى بن مضر عن مالك في هذه القصة أن ذلك أجرة على تعليمها وبذلك جاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وبالوجهين قال الشافعي وإسحاق، وإذا جاز أن يؤخذ عنه العوض جاز أن يكون عوضا، وقد أجازه مالك من إحدى الجهتين فيلزم أن يجيزه من الجهة الأخرى وقال القرطبي: قوله: "علمها" نص في الأمر بالتعليم، والسياق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح فلا يلتفت لقول من قال إن ذلك كان إكراما للرجل فإن الحديث يصرح بخلافه، وقولهم أن الباء بمعنى اللام ليس بصحيح لغة ولا مساقا، واستدل به على أن من قال زوجني فلانة فقال زوجتكها بكذا كفى ذلك ولا يحتاج إلى قول الزوج قبلت قاله أبو بكر الرازي من الحنفية وذكره الرافعي من الشافعية، وقد استشكل من جهة طول الفصل بين الاستيجاب والإيجاب وفراق الرجل المجلس لالتماس ما يصدقها إياه، وأجاب المهلب بأن بساط القصة أغنى عن ذلك، وكذا كل راغب في التزويج إذا استوجب فأجيب بشيء معين وسكت كفى إذا ظهر قرينة القبول، وإلا فيشترط معرفة رضاه بالقدر المذكور. واستدل به على جواز ثبوت العقد بدون لفظ النكاح والتزويج، وخالف ذلك الشافعي ومن المالكية ابن دينار وغيره. والمشهور عن المالكية جوازه بكل لفظ دل على معناه إذا قرن بذكر الصداق أو قصد النكاح كالتمليك

(9/213)


والهبة والصدقة والبيع، ولا يصح عندهم بلفظ الإجارة ولا العارية ولا الوصية، واختلف عندهم في الإحلال والإباحة، وأجازه الحنفية بكل لفظ يقتضي التأبيد مع القصد، وموضع الدليل من هذا الحديث ورود قوله صلى الله عليه وسلم: "ملكتكها" ، لكن ورد أيضا بلفظ: "زوجتكها" قال ابن دقيق العيد: هذه لفظة واحدة في قصة واحدة واختلف فيها مع اتحاد مخرج الحديث، فالظاهر أن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم أحد الألفاظ المذكورة، فالصواب في مثل هذا النظر إلى الترجيح، وقد نقل عن الدار قطني أن الصواب رواية من روى "زوجتكها" وأنهم أكثر وأحفظ، قال: وقال بعض المتأخرين يحتمل صحة اللفظين ويكون قال لفظ التزويج أولا ثم قال اذهب فقد ملكتكها بالتزويج السابق، قال ابن دقيق العيد: وهذا بعيد لأن سياق الحديث يقتضي تعيين لفظة قبلت لا تعددها وأنها هي التي انعقد بها النكاح، وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النكاح، والذي قاله بعيد جدا، وأيضا فلخصمه أن يعكس ويدعى أن العقد وقع بلفظ التمليك ثم قال زوجتكها بالتمليك السابق. قال ثم إنه لم يتعرض لرواية: "أمكناكها" مع ثبوتها، وكل هذا يقتضي تعين المصير إلى الترجيح ا هـ. وأشار بالمتأخر إلى النووي فإنه كذلك قال في شرح مسلم، وقد قال ابن التين لا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عقد بلفظ التمليك والتزويج معا في وقت واحد فليس أحد اللفظين بأولى من الآخر فسقط الاحتجاج به، هذا على تقدير تساوي الروايتين فكيف مع الترجيح؟ قال: ومن زعم أن معمرا وهم فيه ورد عليه أن البخاري أخرجه في غير موضع من رواية غير معمر مثل معمر ا هـ. وزعم ابن الجوزي في "التحقيق" أن رواية أبي غسان "أنكحتكها" ورواية الباقين "زوجتكها" إلا ثلاثة أنفس وهم معمر ويعقوب وابن أبي حازم، قال ومعمر كثير الغلط والآخران لم يكونا حافظين ا هـ. وقد غلط في رواية أبي غسان فإنها بلفظ: "أمكناكها" في جميع نسخ البخاري، نعم وقعت بلفظ: "زوجتكها" عند الإسماعيلي من طريق حسين بن محمد عن أبي غسان، والبخاري أخرجه عن سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان بلفظ: "أمكناكها"، وقد أخرجه أبو نعيم في" المستخرج "من طريق يحيى بن عثمان بن صالح عن سعيد شيخ البخاري فيه بلفظ: "أنكحتكها" فهذه ثلاثة ألفاظ عن أبي غسان، ورواية: "أنكحتكها" في البخاري لابن عيينة كما حررته، وما ذكره من الطعن في الثلاثة مردود ولا سيما عبد العزيز فإن روايته تترجح يكون الحديث عن أبيه وآل المرء أعرف بحديثه من غيرهم، نعم الذي تحرر مما قدمته أن الذين رووه بلفظ التزويج أكثر عددا ممن رواه بغير لفظ التزويج، ولا سيما وفيهم من الحفاظ مثل مالك، ورواية سفيان بن عيينة "أنكحتكها" مساوية لروايتهم، ومثلها رواية زائدة، وعد ابن الجوزي فيمن رواه بلفظ التزويج حماد بن زيد وروايته بهذا اللفظ في فضائل القرآن، وأما في النكاح فبلفظ: "ملكتكها" وقد تبع الحافظ صلاح الدين العلائي ابن الجوزي فقال في ترجيح رواية التزويج: ولا سيما وفيهم مالك وحماد بن زيد ا هـ. وقد تحرر أنه اختلف على حماد فيها كما اختلف على الثوري فظهر أن رواية التمليك وقعت في إحدى الروايتين عن الثوري وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن وحماد بن زيد. وفي رواية معمر "ملكتكها" وهي بمعناها، وانفرد أبو غسان برواية: "أمكناكها" وأخلق بها أن تكون تصحيفا من ملكناكها فرواية التزويج أو الإنكاح أرجح، وعلى تقدير أن تساوي الروايات يقف الاستدلال بها لكل من الفريقين، وقد قال البغوي في "شرح السنة" لا حجة في هذا الحديث لمن أجاز انعقاد النكاح بلفظ التمليك لأن العقد كان واحدا فلم يكن اللفظ إلا واحدا، واختلف الرواة في

(9/214)


اللفظ الواقع، والذي يظهر أنه كان بلفظ التزويج على وفق قول الخاطب زوجنيها إذ هو الغالب في أمر العقود إذ قلما يختلف فيه لفظ المتعاقدين؛ وم روى بلفظ غير لفظ التزويج لم يقصد مراعاة اللفظ الذي انعقد به العقد، وإنما أراد الخبر عن جريان العقد على تعليم القرآن. وقيل إن بعضهم رواه بلفظ الإمكان، وقد اتفقوا على أن هذا العقد بهذا اللفظ لا يصح، كذا قال، وما ذكر كاف في دفع احتجاج المخالف بانعقاد النكاح بالتمليك ونحوه. وقال العلائي: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذه الألفاظ كلها تلك الساعة، فلم يبق إلا أن يكون قال لفظة منها وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى، فمن قال بأن النكاح ينعقد بلفظ التمليك ثم احتج بمجيئه في هذا الحديث إذا عورض ببقية الألفاظ لم ينتهض احتجاجه، فإن جزم بأنه هو الذي تلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم ومن قال غيره ذكره بالمعنى قلبه عليه مخالفه وادعى ضد دعواه فلم يبق إلا الترجيح بأمر خارجي، ولكن القلب إلى ترجيح رواية التزويج أميل لكونها رواية الأكثرين، ولقرينة قول الرجل الخاطب "زوجنيها يا رسول الله"، قلت: وقد تقدم النقل عن الدار قطني أنه رجح رواية من قال زوجتكها، وبالغ ابن التين فقال. أجمع أهل الحديث على أن الصحيح رواية زوجتكها وأن رواية ملكتكها وهم، وتعلق بعض المتأخرين بأن الذين اختلفوا في هذه اللفظة أئمة فلولا أن هذه الألفاظ عندهم مترادفة ما عبروا بها فدل على أن كان لفظ منها يقوم مقام الآخر عند ذلك الإمام، وهذا لا يكفي في الاحتجاج بجواز انعقاد النكاح بكل لفظة منها، إلا أن ذلك لا يدفع مطالبهم بدليل الحصر في اللفظين مع الاتفاق على إيقاع الطلاق بالكنايات بشرطها ولا حصر في الصريح، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن النكاح ينعقد بكل لفظ يدل عليه وهو قول الحنفية والمالكية وإحدى الروايتين عن أحمد، واختلف الترجيح في مذهبه فأكثر نصوصه تدل على موافقة الجمهور، واختار ابن حامد وأتباعه الرواية الأخرى الموافقة للشافعية، واستدل ابن عقيل منهم لصحة الرواية الأولى بحديث: "أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" فإن أحمد نص على أن من قال عتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها أنه ينعقد نكاحها بذلك، واشترط من ذهب إلى الرواية الأخرى بأنه لا بد أن يقول في مثل هذه الصورة تزوجتها، وهي زيادة على ما في الخبر وعلى نص أحمد، وأصوله تشهد بأن العقود تنعقد بما يدل على مقصودها من قول أو فعل. وفيه أن من رغب تزويج من هو أعلى قدرا منه لا لوم عليه لأنه بصدد أن يجاب إلا إن كان مما تقطع العادة برده كالسوقي يخطب من السلطان بنته أو أخته. وأن من رغبت في تزويج من هو أعلى منها لا عار عليها أصلا ولا سيما إن كان هناك غرض صحيح أو قصد صالح إما لفضل ديني في المخطوب أو لهوى فيه يخشى من السكوت عنه الوقوع في محذور. واستدل به على صحة قول من جعل عتق الأمة عوضا عن بضعها، كذا ذكره الخطابي، ولفظه: إن من أعتق أمة كان له أن يتزوجها ويجعل عتقها عوضا عن بضعها، وفي أخذه من هذا الحديث بعد، وقد تقدم البحث فيه مفصلا قبل هذا. وفيه أن سكوت من عقد عليها وهي ساكتة لازم إذا لم يمنع من كلامها خوف أو حياء أو غيرهما. وفيه جواز نكاح المرأة دون أن تسأل هل لها ولي خاص أو لا، ودون أن تسأل هل هي في عصمه رجل أو في عدته، قال الخطابي: ذهب إلى ذلك جماعة حملا على ظاهر الحال، ولكن الحكام يحتاطون في ذلك ويسألونها قلت: وفي أخذ هذا الحكم م هذه القصة نظر، لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على جلية أمرها أو أخبره بذلك من حضر مجلسه ممن يعرفها ومع هذا الاحتمال لا ينتهض الاستدلال به، وقد نص الشافعي على أنه ليس للحاكم أن يزوج امرأة حتى يشهد عدلان أنها ليس لها ولي خاص

(9/215)


ولا أنها في عصمة رجل ولا في عدته، لكن اختلف أصحابه هل هذا على سبيل الاشتراط أو الاحتياط، والثاني المصحح عندهم. وفيه أنه لا يشترط في صحة العقد تقدم الخطبة إذ لم يقع في شيء من طريق هذا الحديث وقوع حمد ولا تشهد ولا غيرهما من أركان الخطبة، وخالف في ذلك الظاهرية فجعلوها واجبة، ووافقهم من الشافعية أبو عوانة فترجم في صحيحه "باب وجوب الخطبة عند العقد" وفيه أن الكفاءة في الحرية وفي الدين وفي النسب لا في المال، لأن الرجل كان لا شيء له وقد رضيت به، كذا قاله ابن بطال، وما أدري من أين له أن المرأة كانت ذات مال. وفيه أن طالب الحاجة لا ينبغي له أن يلح في طلبها بل يطلبها برفق وتأن، ويدخل في ذلك طالب الدنيا والدين من مستفت وسائل وباحث عن علم. وفيه أن الفقير يجوز له نكاح من علمت بحاله ورضيت به إذا كان واجدا للمهر وكان عاجزا عن غيره من الحقوق، لأن المراجعة وقعت في وجدان المهر وفقده لا في قدر زائد قاله الباجي، وتعقب باحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع من حال الرجل على أنه يقدر على اكتساب قوته وقوت امرأته، ولا سيما مع ما كان عليه أهل ذلك العصر من قلة الشيء والقناعة باليسير. واستدل به على صحة النكاح بغير شهود، ورد بأن ذلك وقع بحضرة جماعة من الصحابة كما تقدم ظاهرا في أول الحديث. وقال ابن حبيب: هو منسوخ بحديث: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" وتعقب. واستدل به على صحة النكاح بغير ولي وتعقب باحتمال أنه لم يكن لها ولي خاص والإمام ولي من لا ولي له. واستدل به على جواز استمتاع الرجل بشورة امرأته وما يشتري بصداقها لقوله: "إن لبسته" من أن النصف لها، ولم يمنعه مع ذلك من الاستمتاع بنصفه الذي وجب لها بل جوز له لبسه كله، وإنما وقع المنع لكونه لم يكن له ثوب آخر قاله أبو محمد بن أبي زيد، وتعقبه عياض وغيره بأن السياق يرشد إلى أن المراد تعذر الاكتفاء بنصف الإزار لا في إباحة لبسه كله، وما المانع أن يكون المراد أن كلا منهما يلبسه مهايأة لثبوت حقه فيه، لكن لما لم يكن للرجل ما يستتر به إذا جاءت نوبتها في لبسه قال له "إن لبسته جلست ولا إزار لك" وفيه نظر الإمام في مصالح رعيته وإرشاده إلى ما يصلحهم. وفي الحديث أيضا المراوضة في الصداق، وخطبة المرء لنفسه، وأنه لا يجب إعفاف المسلم بالنكاح كوجوب إطعامه الطعام والشراب؛ قال ابن التين بعد أن ذكر فوائد الحديث: فهذه إحدى وعشرون فائدة بوب البخاري على أكثرها. قلت: وقد فصلت ما ترجم به البخاري من غيره، ومن تأمل ما جمعته هنا علم أنه يزيد على ما ذكره مقدار ما ذكر أو أكثر. ووقع التنصيص على أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا امرأة بخاتم من حديد، وهذا هو النكتة في ذكر الخاتم دون غيره من العروض أخرجه البغوي في "معجم الصحابة" من طريق القعنبي عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده "أن رجلا قال يا رسول الله أنكحني فلانة، قال: ما تصدقها؟ قال: ما معي شيء. قال: لمن هذا الخاتم؟ قال: لي، قال: فأعطها إياه، فأنكحه" وهذا وإن كان ضعيف السند لكنه يدخل في مثل هذه الأمهات.

(9/216)


52- باب الْمَهْرِ بِالْعُرُوضِ وَخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ
5150- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ"
قوله: "باب المهر بالعروض وخاتم من حديد" العروض بضم العين والراء المهملتين جمع عرض بفتح أوله

(9/216)


وسكون ثانيه والضاد معجمة: ما يقابل النقد، وقوله بعده "وخاتم من حديد" هو من الخاص بعد العام، فإن الخاتم من حديد من جملة العروض، والترجمة مأخوذة من حديث الباب للخاتم بالتنصيص والعروض بالإلحاق، وتقدم في أوائل النكاح حديث ابن مسعود "فأرخص لنا أن تنكح المرأة بالثوب" وتقدم في الباب قبله عدة أحاديث في ذلك. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن موسى كما صح به ابن السكن وسفيان هو الثوري. قوله: "قال الرجل: تزوج ولو بخاتم من حديد" هذا مختصر من الحديث الطويل الذي قبله، وقد ذكرت من ساقه عن الثوري مطولا وهو عبد الرزاق، لكنه قرنه في روايته بمعمر، وأخرجه ابن ماجه من رواية سفيان الثوري أتم مما هنا، وقد ذكرت ما في روايته من فائدة زائده في الحديث الذي قبله، وتقدم من الكلام فيه ما يغني عن إعادته، والله أعلم.

(9/217)


53- باب الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ
وَقَالَ عُمَرُ مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ فَأَحْسَنَ قَالَ حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي"
5151- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ"
قوله: "باب الشروط في النكاح" أي التي تحل وتعتبر، وقد ترجم في كتاب الشروط "الشروط في المهر عند عقدة النكاح" وأورد الأثر المعلق، والحديث الموصول المذكور هنا. قوله: "وقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط" وصله سعيد بن منصور من طريق إسماعيل بن عبيد الله وهو ابن أبي المهاجر عن عبد الرحمن بن غنم قال: "كنت مع عمر حيث تمس ركبتي ركبته. فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين تزوجت هذه وشرطت لها دارها، وإني أجمع لأمري - أو لشأني - أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا، فقال: لها شرطها. فقال الرجل: هلك الرجال إذ لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت. فقال عمر: المؤمنون على شروطهم، عند مقاطع حقوقهم" وتقدم في الشروط من وجه آخر عن ابن أبي المهاجر نحوه وقال في آخر "فقال عمر: إن مقاطع الحقوق عند الشروط، ولها ما اشترطت". قوله:" وقال المسور بن مخرمة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صهرا له فأثنى عليه" تقدم موصولا في المناقب في ذكر أبي العاص بن الربيع وهو الصهر المذكور وبينت هناك نسبه والمراد بقوله حدثني فصدقني" وسيأتي شرحه مستوفى في أبواب الغيرة في أواخر كتاب النكاح، والغرض منه هنا ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه لأجل وفائه بما شرط له. قوله: "حدثنا أبو الوليد" هو الطيالسي. قوله: "عن يزيد بن أبي حبيب" تقدم في الشروط عن عبد الله بن يوسف عن الليث "حدثني يزيد بن أبي حبيب". قوله: "عن أبي الخير" هو مرثد بن عبد الله اليزني، وعقبة هو ابن عامر الجهني. قوله: "أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به" في رواية عبد الله بن يوسف "أحق الشروط أن توفوا به" وفي رواية مسلم من طريق عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب أنه "أحق الشروط أن يوفى به". قوله: "ما استحللتم به الفروج" أي أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح لأن أمره أحوط وبابه أضيق. وقال الخطابي: الشروط في النكاح مختلفة، فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقا وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف

(9/217)


أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث. ومنها ما لا يوفى به اتفاقا كسؤال طلاق أختها، وسيأتي حكمه في الباب الذي يليه. ومنها ما اختلف فيه كاشتراط أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله. وعند الشافعية الشروط في النكاح على ضربين: منها ما يرجع إلى الصداق فيجب الوفاء به، وما يكون خارجا عنه فيختلف الحكم فيه، فمنه ما يتعلق الزوج وسيأتي بيانه، ومنه ما يشترطه العاقد لنفسه خارجا عن الصداق وبعضهم يسميه الحلوان، فقيل هو للمرأة مطلقا وهو قول عطاء وجماعة من التابعين وبه قال الثوري وأبو عبيد، وقيل هو لمن شرطه قاله مسروق وعلي بن الحسين، وقيل يختص ذلك بالأب دون غيره من الأولياء. وقال الشافعي إن وقع نفس العقد وجب للمرأة مهر مثلها، وإن وقع خارجا عنه لم يجب. وقال مالك إن وقع في حال العقد فهو من جملة المهر، أو خارجا عنه فهو لمن وهب له، وجاء ذلك في حديث مرفوع أخرجه النسائي من طريق ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة نكحت على صداق أو حياء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، فما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أكرم به الرجل ابنته أو أخته، وأخرجه البيهقي من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن عروة عن عائشة نحوه. وقال الترمذي بعد تخريجه: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة منهم عمر قال: "إذا تزوج الرجل المرأة وشرط أن لا يخرجها لزم" وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، كذا قال، والنقل في هذا عن الشافعي غريب، بل الحديث عندهم محمول على الشرط التي لا تنافي مقتضى النكاح بل تكون من مقتضياته ومقاصده كاشتراطه العشرة بالمعروف والإنفاق والكسوة والسكنى وأن لا يقصر في شيء من حقها من قسمة ونحوها، وكشرطه عليها ألا تخرج إلا بإذنه ولا تمنعه نفسها ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه ونحو ذلك، وأما شرط ينافي مقتضى النكاح كأن لا يقسم لها أو لا يتسرى عليها أو لا ينفق أو نحو ذلك فلا يجب الوفاء به بل إن وقع في صلب العقد كفى وصح النكاح بمهر المثل، وفي وجه يجب المسمى ولا أثر للشرط، وفي قول للشافعي يبطل النكاح. وقال أحمد وجماعة: يجب الوفاء بالشرط مطلقا. وقد استشكل ابن دقيق العيد حمل الحديث على الشروط التي هي من مقتضيات النكاح قال: تلك الأمور لا تؤثر الشروط في إيجابها، فلا تشتد الحاجة إلى تعليق الحكم باشتراطها، وسياق الحديث يقتضي خلاف ذلك، لأن لفظ: "أحق الشروط" "يقتضي أن يكون بعض الشروط يقتضي الوفاء بها وبعضها أشد اقتضاء، والشروط هي من مقتضى العقد مستوية في وجوب الوفاء بها. قال الترمذي: وقال علي سبق شرط الله شرطها، قال: وهو قول الثوري وبعض أهل الكوفة، والمراد في الحديث الشروط الجائزة لا المنهي عنها ا هـ. وقد اختلف عن عمر، فروى ابن وهب بإسناد جيد عن عبيد بن السباق "أن رجلا تزوج امرأة فشرط لها أن لا يخرجها من دارها، فارتفعوا إلى عمر فوضع الشرط وقال: المرأة مع زوجها" قال أبو عبيد: تضادت الروايات عن عمر في هذا، وقد قال بالقول الأول عمرو بن العاص، ومن التابعين طاوس وأبو الشعثاء وهو قول الأوزاعي وقال الليث والثوري والجمهور بقول علي حتى لو كان صداق مثلها مائة مثلا فرضيت بخمسين على أن لا يخرجها فله إخراجها ولا يلزمه إلا المسمى وقالت الحنفية: لها أن ترجع عليه بما نقصته له من الصداق. وقال الشافعي: يصح النكاح ويلغو الشرط ويلزمه مهر المثل وعنه يصح وتستحق الكل. وقال أبو عبيد: والذي نأخذ به أنا نأمره بالوفاء بشرطه من غير أن يحكم عليه بذلك. قال: وقد أجمعوا على أنها لو اشترطت عليه أن لا يطأها لم يجب الوفاء بذلك الشرط فكذلك هذا

(9/218)


ومما يقوي حمل حديث عقبة على الندب ما سيأتي في حديث عائشة في قصة بريرة "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" والوطء والإسكان وغيرهما من حقوق الزوج إذا شرط عليه إسقاط شيء منها كان شرطا ليس في كتاب الله فيبطل، وقد تقدم في البيوع الإشارة إلى حديث: "المسلمون عند شروطهم، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا" وحديث: "المسلمون عند شرطهم ما وافق الحق" وأخرج الطبراني في "الصغير" بإسناد حسن عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم مبشر بنت البراء بن معرور فقالت: إني شرطت لزوجي أن لا أتزوج بعده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا لا يصلح" وقد ترجم المحب الطبري على هذا الحديث: "استحباب تقدمة شيء من المهر قبل الدخول" وفي انتزاعه من الحديث المذكور غموض، والله أعلم.

(9/219)


54- باب الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ تَحِلُّ فِي النِّكَاحِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لاَ تَشْتَرِطْ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا
5152- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ زَكَرِيَّاءَ هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا"
قوله: "باب الشروط التي لا تحل في النكاح" في هذه الترجمة إشارة إلى تخصيص الحديث الماضي في عموم الحث على الوفاء بالشرط بما يباح لا بما نهى عنه، لأن الشروط الفاسدة لا يحل الوفاء بها فلا يناسب الحث عليها. قوله: "وقال ابن مسعود لا تشترط المرأة طلاق أختها" كذا أورده معلقا عن ابن مسعود، وسأبين أن هذا اللفظ بعينه وقع في بعض طرق الحديث المرفوع عن أبي هريرة، ولعله لما لم يقع له اللفظ مرفوعا أشار إليه في المعلق إيذانا بأن المعنى واحد. قوله: "لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، فإنما لها ما قدر لها" هكذا أورده البخاري بهذا اللفظ، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق ابن الجنيد عن عبيد الله بن موسى شيخ البخاري فيه بلفظ: "لا يصلح لامرأة أن تشترط طلاق أختها لتكفئ إناءها" وكذلك أخرجه البيهقي من طريق أبي حاتم الرازي عن عبيد الله بن موسى لكن قال: "لا ينبغي" بدل "لا يصلح" وقال: "لتكفئ"، وأخرجه الإسماعيلي من طريق يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة عن أبيه بلفظ ابن الجنيد لكن قال: "لتكفئ" فهذا هو المحفوظ من هذا الوجه من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة. وأخرج البيهقي من طريق أحمد بن إبراهيم بن ملحان عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة في حديث طويل أوله "إياكم والظن - وفيه - ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ إناء صاحبتها ولتنكح، فإنما لها ما قدر لها" وهذا قريب من اللفظ الذي أورده البخاري هنا. وقد أخرج البخاري من أول الحديث إلى قوله: "حتى ينكح أو يترك" ونبهت على ذلك فيما تقدم قريبا في "باب لا يخطب على خطبة أخيه" فإما أن يكون عبيد الله بن موسى حدث به على اللفظين أو انتقل الذهن من متن إلى متن، وسيأتي في كتاب القدر من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح، فإنما لها ما قدر لها" وتقدم في البيوع من رواية الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة في حديث أوله "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد - وفي آخره - ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في إنائها".

(9/219)


قوله: "لا يحل" ظاهر في تحريم ذلك، وهو محمول على ما إذا لم يكن هناك سبب يجوز ذلك كريبة في المرأة لا ينبغي معها أن تستمر في عصمة الزوج ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة أو لضرر يحصل لها من الزوج أو للزوج منها أو يكون سؤالها ذلك بعوض وللزوج رغبة في ذلك فيكون كالخلع مع الأجنبي إلى غير ذلك من المقاصد المختلفة. وقال ابن حبيب: حمل العلماء هذا النهي على الندب، فلو فعل ذلك لم يفسخ النكاح وتعقبه ابن بطال بأن نفي الحل صريح في التحريم، ولكن لا يلزم منه فسخ النكاح، وإنما فيه التغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى، ولترض بما قسم الله لها. قوله: "أختها" قال النووي: معنى هذا الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلا طلاق زوجته وأن يتزوجها هي فيصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بقوله: "تكفئ ما في صحفتها، قال والمراد بأختها غيرها سواء كانت أختها من النسب أو الرضاع أو الدين، ويلحق بذلك الكافرة في الحكم وإن لم تكن أختا في الدين إما لأن المراد الغالب أو أنها أختها في الجنس الآدمي، وحمل ابن عبد البر الأخت هنا على الضرة فقال: فيه من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به، وهذا يمكن في الرواية التي وقعت بلفظ: "لا تسأل المرأة طلاق أختها"، وأما الرواية التي فيها لفظ الشرط فظاهرها أنها في الأجنبية ويؤيده قوله فيها "ولتنكح" أي ولتتزوج الزوج المذكور من غير أن يشترط أن يطلق التي قبلها، وعلى هذا فالمراد هنا بالأخت الأخت في الدين؛ ويؤيده زيادة ابن حبان في آخره من طريق أبي كثير عن أبي هريرة بلفظ: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإن المسلمة أخت المسلمة" وقد تقدم في "باب لا يخطب الرجل على خطبة أخيه" نقل الخلاف عن الأوزاعي وبعض الشافعية أن ذلك مخصوص بالمسلمة، وبه جزم أبو الشيخ في كتاب النكاح، ويأتي مثله هنا، ويجيء على رأي ابن القاسم أن يستثنى ما إذا كان المسئول طلاقها فاسقة، وعند الجمهور لا فرق. قوله: "لتستفرغ صحفتها" يفسر المراد بقوله: "تكتفئ" وهو بالهمز افتعال من كفأت الإناء إذا قلبته وأفرغت ما فيه، وكذا يكفأ وهو بفتح أوله وسكون الكاف وبالهمز، وجاء أكفأت الإناء إذا أملته وهو في رواية ابن المسيب "لتكفئ" بضم أوله من أكفأت وهي بمعنى أملته ويقال بمعنى أكببته أيضا، والمراد بالصحفة ما يحصل من الزوج كما تقدم من كلام النووي. وقال صاحب النهاية: الصحفة إناء كالقصعة المبسوطة، قال: وهذا مثل، يريد الاستئثار عليها بحظها فيكون كمن قلب إناء غيره في إنائه. وقال الطيبي: هذه استعارة مستملحة تمثيلية، شبه النصيب والبخت بالصحفة وحظوظها وتمتعاتها بما يوضع في الصحفة من الأطعمة اللذيذة، وشبه الافتراق المسبب عن الطلاق باستفراغ الصحفة عن تلك الأطعمة، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به واستعمل في المشبه ما كان مستعملا في المشبه به. قوله: "ولتنكح" بكسر اللام وبإسكانها وبسكون الحاء على الأمر، ويحتمل النصب عطفا على قوله: "لتكتفئ" فيكون تعليلا لسؤال طلاقها، ويتعين على هذا كسر اللام، ثم يحتمل أن المراد ولتنكح ذلك الرجل من غير أن تتعرض لإخراج الضرة من عصمته بل تكل الأمر في ذلك إلى ما يقدره الله، ولهذا ختم بقوله: "فإنما لها ما قدر لها" إشارة إلى أنها وإن سألت ذلك وألحت فيه واشترطته فإنه لا يقع من ذلك إلا ما قدره الله، فينبغي أن لا تتعرض هي لهذا المحذور الذي لا يقع منه شيء بمجرد إرادتها، وهذا مما يؤيد أن الأخت من النسب أو الرضاع لا تدخل في هذا، ويحتمل أن يكون المراد ولتنكح غيره وتعرض عن هذا الرجل، أو المراد ما يشمل الأمرين، والمعنى ولتنكح من تيسر لها فإن كانت التي قبلها أجنبية فلتنكح

(9/220)


الرجل المذكور وإن كانت أختها فلتنكح غيره، والله أعلم.

(9/221)


55- باب الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5153- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا قَالَ زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"
قوله: "باب الصفرة للمتزوج" كذا قيده بالمتزوج إشارة إلى الجمع بين حديث الباب وحديث النهي عن التزعفر للرجال، وسيأتي البحث فيه بعد أبواب. قوله: "رواه عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى حديثه الذي تقدم موصولا في أول البيوع قال: "لما قدمنا المدينة - فذكر الحديث بطوله وفيه - جاء عبد الرحمن بن عوف وعليه أثر صفرة فقال: تزوجت؟ قال نعم". أورد المصنف هذه القصة في هذا الباب من طريق مالك عن حميد مختصرة، وسيأتي شرحها في "باب الوليمة ولو بشاة" مستوفى إن شاء الله تعالى.

(9/221)


باب أولم النبي صلى الله عليه وسلم بزينب فأوسع المسلمين خيراً
...
56- باب 5154- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَوْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ فَأَوْسَعَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا فَخَرَجَ كَمَا يَصْنَعُ إِذَا تَزَوَّجَ فَأَتَى حُجَرَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُو وَيَدْعُونَ لَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ فَرَأَى رَجُلَيْنِ فَرَجَعَ لاَ أَدْرِي آخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ بِخُرُوجِهِمَا"
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة "وسقط لفظ باب من رواية النسفي، وكذا من شرح ابن بطال، ثم استشكله بأن الحديث المذكور لا يتعلق بترجمة الصفرة للمتزوج، وأجيب بما ثبت في أكثر الروايات من لفظ: "باب" والسؤال باق فإن الإتيان بلفظ باب وإن كان بغير ترجمة لكنه كالفصل من الباب الذي قبله كما تقرر غير مرة، والحديث المذكور هنا حديث أنس "أولم النبي صلى الله عليه وسلم بزينب" يعني بنت جحش أورده مختصرا، وقد تقدم مطولا في تفسير سورة الأحزاب مع شرحه، ومناسبته للترجمة من جهة أنه لم يقع في قصة تزويج زينب بنت جحش ذكر للصفرة، فكأنه يقول: الصفرة للمتزوج من الجائز لا من المشروط لكل متزوج

(9/221)


57- باب كَيْفَ يُدْعَى لِلْمُتَزَوِّجِ
5155- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ قَالَ مَا هَذَا قَالَ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"
قوله: "باب كيف يدعى للمتزوج" ذكر فيه قصة تزويج عبد الرحمن بن عوف مختصرة من طريق ثابت عن أنس وفيه: "قال بارك الله لك" قال ابن بطال: إنما أراد بهذا الباب والله أعلم رد قول العامة عند العرس بالرفاء والبنين

(9/221)


58- باب الدُّعَاءِ لِلنِّسَاءِ اللاَتِي يَهْدِينَ الْعَرُوسَ وَلِلْعَرُوسِ
5156- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْنِي أُمِّي فَأَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ فَقُلْنَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ"
قوله: "باب الدعاء للنسوة اللاتي يهدين العروس وللعروس" في رواية الكشميهني للنساء بدل النسوة، وأورد

(9/222)


فيه حديث عائشة "تزوجني صلى الله عليه وسلم فأتتني أمي فأدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار فقلن: على الخير والبركة" وهو مختصر من حديث مطول تقدم بتمامه بهذا السند بعينه في "باب تزويج عائشة" قبيل أبواب الهجرة إلى المدينة، وظاهر هذا الحديث مخالف للترجمة فإن فيه دعاء النسوة لمن أهدى العروس لا الدعاء لهن، وقد استشكله ابن التين فقال: لم يذكر في الباب الدعاء للنسوة، ولعله أراد كيف صفة دعائهن للعروس، لكن اللفظ لا يساعد على ذلك. وقال الكرماني: الأم هي الهادية للعروس المجهزة فهن دعون لها ولمن معها وللعروس حيث قلن على الخير جئتن أو قدمتن على الخير، قال: ويحتمل أن تكون اللام في النسوة للاختصاص أي الدعاء المختص بالنسوة اللاتي يهدين، ولكن يلزم منه المخالفة بين اللام التي للعروس لأنها بمعنى المدعو لها والتي في النسوة لأنها الداعية، وفي جواز مثله خلاف، انتهى. والجواب الأول أحسن ما توجه به الترجمة، وحاصله أن مراد البخاري بالنسوة من يهدي العروس سواء كن قليلا أو كثيرا وأن من حضر ذلك يدعو لمن أحضر العروس، ولم يرد الدعاء للنسوة الحاضرات في البيت قبل أن تأتي العروس، ويحتمل أن تكون اللام بمعنى الباء على حذف أي المختص بالنسوة، ويحتمل أن الألف واللام بدل من المضاف إليه والتقدير دعاء النسوة الداعيات للنسوة المهديات، ويحتمل أن تكون بمعنى من أي الدعاء الصادر من النسوة، وعند أبي الشيخ في كتاب النكاح من طريق يزيد بن حفصة عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجوار بناحية بني جدرة وهن يقلن: فحيونا نحييكم، فقال: قلن حيانا الله وحياكم" فهذا فيه دعاء للنسوة اللاتي يهدين العروس وقوله: "يهدين" بفتح أوله من الهداية وبضمه من الهدية، ولما كانت العروس تجهز من عند أهلها إلى الزوج احتاجت إلى من يهديها الطريق إليه أو أطلقت عليها أنها هدية فالضبط بالوجهين على هذين المعنيين وأما قوله: "وللعروس" فهو اسم للزوجين عند أول اجتماعهما يشمل الرجل والمرأة، وهو داخل في قول النسوة على الخير والبركة فإن ذلك يشمل المرأة وزوجها، ولعله أشار إلى ما ورد في بعض طرق حديث عائشة كما نبهت عليه هناك، وفيه أن أمها لما أجلستها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله، بارك الله لك فيهم. وقوله في حديث الباب: "فإذا نسوة من الأنصار" سمى منهن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية فقد أخرج جعفر المستغفري من طريق يحيى بن أبي كثير عن كلاب بن تلاد عن تلاد عن أسماء مقينة عائشة قالت: "لما أقعدنا عائشة لنجليها على رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا فقرب إلينا تمرا ولبنا الحديث". وأخرج أحمد والطبراني هذه القصة من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن، ووقع في رواية للطبراني أسماء بنت عميس ولا يصح لأنها حينئذ كانت مع زوجها جعفر بن أبي طالب بالحبشة، والمقينة بقاف ونون التي تزين العروس عند دخولها على زوجها.

(9/223)


59- باب مَنْ أَحَبَّ الْبِنَاءَ قَبْلَ الْغَزْوِ
5157- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا"
قوله: "باب من أحب البناء" أي بزوجته التي لم يدخل بها "قبل الغزو" أي إذا حضر الجهاد ليكون فكره

(9/223)


مجتمعا. حديث أبي هريرة الماضي في كتاب الجهاد ثم في فرض الخمس، وقد شرحته فيه وبينت الاختلاف في اسم النبي الذي غزا هل هو يوشع أو داود، قال ابن المنير. يستفاد منه الرد على العامة في تقديمهم الحج على الزواج ظنا منهم أن التعفف إنما يتأكد بعد الحج، بل الأولى أن يتعفف ثم يحج.

(9/224)


60- باب مَنْ بَنَى بِامْرَأَةٍ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ
5158- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا"
قوله: "باب من بنى بامرأة وهي بنت تسع سنين" ذكر فيه حديث عائشة في ذلك، وقد تقدم شرحه في مناقبها حديث عائشة في ذلك، قد تقدم شرحه في مناقبها"

(9/224)


61 - باب الْبِنَاءِ فِي السَّفَرِ
5159- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاَثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلاَ لَحْمٍ أَمَرَ بِالأَنْطَاعِ فَأُلْقِيَ فِيهَا مِنْ التَّمْرِ وَالأَقِطِ وَالسَّمْنِ فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَقَالُوا إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ"
قوله: "باب البناء" أي بالمرأة "في السفر" ذكر فيه حديث أنس في قصة صفية بنت حيي، وقد تقدم في أول النكاح. حديث أنس في قصة صفية بنت حيي، وقد تقدم في أول النكاح. وقوله: "ثلاثا يبنى عليه بصفية" أي تجلى عليه، وفيه إشارة إلى أن سنة الإقامة عند الثيب لا تختص بالحضر ولا تتقيد بمن له امرأة غيرها. ويؤخذ منه جواز تأخير الأشغال العامة للشغل الخاص إذا كان لا يفوت به غرض، والاهتمام بوليمة العرس وإقامة سنة النكاح بإعلامه وغير ذلك مما تقدم ويأتي إن شاء الله تعالى.

(9/224)


62- باب الْبِنَاءِ بِالنَّهَارِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ وَلاَ نِيرَانٍ
5160- حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْنِي أُمِّي فَأَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى"
قوله: "باب البناء بالنهار بغير مركب ولا نيران" ذكر فيه طرفا من حديث عائشة في تزويج النبي بها، وأشار بقوله بالنهار إلى أن الدخول على الزوجة لا يختص بالليل، وبقوله: "وبغير مركب ولا نيران" إلى ما أخرجه سعيد بن منصور - ومن طريقه أبو الشيخ في كتاب النكاح - من طريق عروة بن رويم "أن عبد الله بن قرظ الثمالي وكان عامل عمر على حمص مرت به عروس وهم يوقدون النيران بين يديها فضربهم بدرته حتى تفرقوا عن عروسهم، ثم خطب فقال: أن عروسكم أوقدوا النيران وتشبهوا بالكفرة والله مطفئ نورهم

(9/224)


63- باب الأَنْمَاطِ وَنَحْوِهَا لِلنِّسَاءِ
5161- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ اتَّخَذْتُمْ أَنْمَاطًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَّى لَنَا أَنْمَاطٌ قَالَ إِنَّهَا سَتَكُونُ"
قوله: "باب الأنماط ونحوه للنساء" أي من الكلل والأستار والفرش وما في معناه، والأنماط جمع نمط بفتح النون والميم تقدم بيانه في علامات النبوة، وقوله: "ونحوه" أعاد الضمير مفردا على مفرد الأنماط، وتقدم بيان وجه الاستدلال على الجواز من هذا الحديث، ولعل المصنف أشار إلى ما أخرجه مسلم من حديث عائشة قالت: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاته فأخذت نمطا فنشرته على الباب فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهة في وجهه فجذبه حتى هتكه فقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين، قال فقطعت منه وسادتين فلم يعب ذلك علي" فيؤخذ منه أن الأنماط لا يكره اتخاذها لذاتها بل لما يصنع بها، وسيأتي البحث في ستر الجدر في "باب هل يرجع إذا رأى منكرا" من أبواب الوليمة قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث إن المشورة للمرأة دون الرجل، لقول جابر لامرأته "أخري عني أنماطك" كذا قال، ولا دلالة في ذلك لأنها كانت لامرأة جابر حقيقة فلذلك أضافها لها، وإلا ففي نفس الحديث أنه "ستكون لكم أنماط" فأضافها إلى أعم من ذلك، وهو الذي استدلت به امرأة جابر على الجواز، قال: وفيه أن مشورة النساء للبيوت من الأمر القديم المتعارف، كذا قال، وبعكر عليه حديث عائشة وسيأتي البحث فيه.

(9/225)


باب النسوة التي يهدين المرأة إلى زوجها ودعائهن بالبركة
...
64- باب النِّسْوَةِ اللاَتِي يَهْدِينَ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا وَدُعَائِهِنَّ بِالْبَرَكَةِ
5162- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَفَّتْ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ"
قوله: "باب النسوة التي يهدين المرأة إلى زوجها" في رواية الكشميهني: "اللاتي" بصيغة الجمع وهو أولى. قوله: "ودعائهن بالبركة" ثبتت هذه الزيادة في رواية أبي ذر وحده وسقطت لغيره، ولم يذكر هنا الإسماعيلي ولا أبو نعيم ولا وقع في حديث عائشة الذي ذكره المصنف في الباب ما يتعلق بها، لكن إن كانت محفوظة فلعله أشار إلى ما ورد في بعض طرق حديث عائشة، وذلك فيما أخرجه أبو الشيخ في كتاب النكاح من طريق بهية "عن عائشة أنها زوجت يتيمة كانت في حجرها رجلا من الأنصار، قالت وكنت فيمن أهداها إلى زوجها، فلما رجعنا قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلتم يا عائشة؟ قالت قلت سلمنا ودعونا الله بالبركة ثم انصرفنا". قوله: "إنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار" لم أقف على اسمها صريحا وقد تقدم أن المرأة كانت يتيمة في حجر عائشة، وكذا للطبراني في "الأوسط" من طريق شريك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ووقع عند ابن ماجه من حديث ابن عباس "أنكحت عائشة قرابة لها" ولأبي الشيخ من حديث جابر "أن عائشة زوجت بنت أخيها أو ذات قرابة منها" وفي "أمالي

(9/225)


المحاملي" من وجه آخر عن جابر "نكح بعض أهل الأنصار بعض أهل عائشة فأهدتها إلى قباء" وكنت ذكرت في المقدمة تبعا لابن الأثير في "أسد الغابة" فإنه قال إن اسم هذه اليتيمة المذكورة في حديث عائشة الفارعة بنت أسعد بن زرارة، وأن اسم زوجها نبيط بن جابر الأنصاري. وقال في ترجمة الفارعة: أن أباها أسعد بن زرارة أوصى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيط بن جابر، ثم ساق من طريق المعافى بن عمران الموصلي حديث عائشة الذي ذكرته أولا من طريق بهية عنها ثم قال: "هذه اليتيمة هي الفارعة المذكورة" كذا قال، وهو محتمل، لكن منع من تفسيرها بها ما وقع من الزيادة أنها كانت قرابة عائشة فيجوز التعدد، ولا يبعد تفسير المبهمة في حديث الباب بالفارعة إذ ليس فيه تقييد بكونها قرابة عائشة. قوله: "ما كان معكم لهو" في رواية شريك فقال: فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟ قلت: تقول ماذا؟ قال تقول:
أتيناكم أتيناكم
فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحم
ر ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمرا
ء ما سمنت عذاريكم
وفي حديث جابر بعضه، وفي حديث ابن عباس أوله إلى قوله: "وحياكم". قوله: "فإن الأنصار يعجبهم اللهو" في حديث ابن عباس وجابر "قوم فيهم غزل" وفي حديث جابر عند المحاملي" أدركيها يا زينب، امرأة كانت تغني بالمدينة، ويستفاد منه تسمية المغنية الثانية في القصة التي وقعت في حديث عائشة الماضي في العيدين حيث جاء فيه: "دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان" وكنت ذكرت هناك أن اسم إحداهما حمامة كما ذكره ابن أبي الدنيا في "كتاب العيدين" له بإسناد حسن، وأني لم أقف على اسم الأخرى، وقد جوزت الآن أن تكون هي زينب هذه. وأخرج النسائي من طريق عامر بن سعد عن قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاريين قال: "أنه رخص لنا في اللهو عند العرس" الحديث وصححه الحاكم، وللطبراني من حديث السائب بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وقيل له أترخص في هذا؟ قال: نعم، إنه نكاح لا سفاح، أشيدوا النكاح" وفي حديث عبد الله بن الزبير عند أحمد وصححه ابن حبان والحاكم "أعلنوا النكاح" زاد الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة "واضربوا عليه بالدف" وسنده ضعيف، ولأحمد والترمذي والنسائي من حديث محمد بن حاطب "فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف" واستدل بقوله: "واضربوا" على أن ذلك لا يختص بالنساء لكنه ضعيف، والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن.

(9/226)


65- باب الْهَدِيَّةِ لِلْعَرُوسِ
5163- وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ واسْمُهُ الْجَعْدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَرَّ بِنَا فِي مَسْجِدِ بَنِي رِفَاعَةَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرُوسًا بِزَيْنَبَ فَقَالَتْ لِي أُمُّ سُلَيْمٍ لَوْ أَهْدَيْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً فَقُلْتُ لَهَا افْعَلِي فَعَمَدَتْ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ فَاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِي بُرْمَةٍ فَأَرْسَلَتْ بِهَا مَعِي إِلَيْهِ فَانْطَلَقْتُ بِهَا إِلَيْهِ فَقَالَ لِي ضَعْهَا ثُمَّ أَمَرَنِي فَقَالَ:

(9/226)


ادْعُ لِي رِجَالًا سَمَّاهُمْ وَادْعُ لِي مَنْ لَقِيتَ قَالَ فَفَعَلْتُ الَّذِي أَمَرَنِي فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَقُولُ لَهُمْ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ قَالَ حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ وَبَقِيَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ قَالَ وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ الْحُجُرَاتِ وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ فَقُلْتُ إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَإِنِّي لَفِي الْحُجْرَةِ وَهُوَ يَقُولُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ} قَالَ أَبُو عُثْمَانَ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ"
قوله: "باب الهدية للعروس" أي صبيحة بنائه بأهله. قوله: "وقال إبراهيم" ابن طهمان "عن أبي عثمان واسمه الجعد عن أنس بن مالك قال: مر بنا في مسجد بني رفاعة" يعني بالبصرة قال: "فسمعته يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بجنبات أم سليم" كذا فيه، والجنبات بفتح الجيم والنون ثم موحدة جمع جنبة وهي الناحية. قوله: "دخل عليها فسلم عليها" هذا القدر من هذا الحديث مما تفرد به إبراهيم بن طهمان عن أبي عثمان في هذا الحديث، وشاركه في بقيته جعفر بن سليمان ومعمر بن راشد كلاهما عن أبي عثمان أخرجه مسلم من حديثهما، ولم يقع لي موصولا من حديث إبراهيم بن طهمان إلا أن بعض من لقيناه من الشراح زعم أن النسائي أخرجه عن أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد عن أبيه عنه، ولم أقف على ذلك بعد. قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب" يعني بنت جحش، وقد تقدم بيان آيته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام واضحا في علامات النبوة، وقد استشكل عياض ما وقع في هذا الحديث من أن الوليمة بزينب بنت جحش كانت من الحيس الذي أهدته أم سليم، وأن المشهور من الروايات أنه أولم عليها بالخبز واللحم، ولم يقع في القصة تكثير ذلك الطعام وإنما فيه: "أشبع المسلمين خبزا ولحما" وذكر في حديث الباب أن أنسا قال: "فقال لي ادع رجالا سماهم وادع من لقيت، وأنه أدخلهم ووضع صلى الله عليه وسلم يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرة عشرة حتى تصدعوا كلهم عنها" يعني تفرقوا، قال عياض: هذا وهم من راويه وتركيب قصة على أخرى. وتعقبه القرطبي بأنه لا مانع من الجمع بين الروايتين، والأولى أن يقال لا وهم في ذلك، فلعل الذين دعوا إلى الخبز واللحم فأكلوا حتى شبعوا وذهبوا لم يرجعوا، ولما بقي النفر الذين كانوا يتحدثون جاء أنس بالحيسة فأمر بأن يدعو ناسا آخرين ومن لقي فدخلوا فأكلوا أيضا حتى شبعوا، واستمر أولئك النفر يتحدثون. وهو جمع لا بأس به، وأولى منه أن يقال إن حضور الحيسة صادف حضور الخبز واللحم فأكلوا كلهم من كل ذلك. وعجبت من إنكار عياض وقوع تكثير الطعام في قصة الخبز واللحم مع أن أنسا يقول إنه أولم عليها بشاة كما سيأتي قريبا ويقول إنه أشبع المسلمين خبزا ولحما. وما الذي يكون قدر الشاة حتى يشبع المسلمين جميعا وهم يومئذ نحو الألف لولا البركة التي حصلت من جملة آياته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام. وقوله فيه: "وبقي نفر يتحدثون"

(9/227)


تقدم بيان عدتهم في تفسير سورة الأحزاب. وقوله: "وجعلت أغتم" هو من الغم، وسببه ما فهمه من النبي صلى الله عليه وسلم من حيائه من أن يأمرهم بالقيام ومن غفلتهم بالتحدث عن العمل عما يليق من التخفيف حينئذ، وقوله في آخره: "قال أبو عثمان قال أنس: إنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين" تقدم بيانه قبل قليل، وسيأتي الإلمام به أيضا في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى.

(9/228)


66- باب اسْتِعَارَةِ الثِّيَابِ لِلْعَرُوسِ وَغَيْرِهَا
5164- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلاَدَةً فَهَلَكَتْ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلاَةُ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَلَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا وَجُعِلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةٌ"
قوله: "باب استعارة الثياب للعروس وغيرها" أي وغير الثياب، ذكر فيه حديث عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب التيمم، ووجه الاستدلال به من جهة المعنى الجامع بين القلادة وغيرها من أنواع الملبوس الذي يتزين به للزوج أعم من أن يكون عند العرس أو بعده، وقد تقدم في كتاب الهبة لعائشة حديث أخص من هذا وهو قولها "كان لي منهن - أي من الدروع القطنية - درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين بالمدينة - أي تتزين - إلا أرسلت إلى تستعيره" وترجم عليه "الاستعارة للعرس عند البناء" وينبغي استحضار هذه الترجمة وحديثها هنا. حديث عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة، قد تقدم شرحه مستوفى في كتاب التيمم، ووجه الاستدلال به من جهة المعنى الجامع بين القلادة وغيرها من أنواع الملبوس الذي يتزين به للزوج أعم من أن يكون عند العرس أو بعده، وقد تقدم في كتاب الهبة لعائشة حديث أخص من هذا وهو قولها "كان لي منهن - أي من الدروع القطنية - درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين بالمدينة - أي تتزين - إلا أرسلت إلى تستعيره" وترجم عليه "الاستعارة للعرس عند البناء" وينبغي استحضار هذه الترجمة وحديثها هنا.

(9/228)


باب مايقول الرجل إذا أتى أهله
...
67- باب مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ
5165- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِي أَهْلَهُ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ أَوْ قُضِيَ وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا"
قوله: "باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله" أي جامع. قوله: "عن شيبان" هو ابن عبد الرحمن النحوي، ومنصور هو ابن المعتمر، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق هو أولهم. قوله: "أما لو أن أحدهم" كذا للكشميهني هنا، ولغيره بحذف "أن" وتقدم في بدء الخلق من رواية همام عن منصور بحذف "لو" ولفظه: "أما أن أحدكم إذا أتى أهله" وفي رواية جرير عن منصور عند أبي داود وغيره: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله" وهي مفسرة لغيرها من الروايات دالة على أن القول قبل الشروع. قوله: "حين يأتي أهله" في رواية إسرائيل عن منصور عند الإسماعيلي: "أما أن أحدكم لو يقول حين يجامع أهله" وهو ظاهر أن القول يكون مع الفعل، لكن يمكن حمله على المجاز، وعنده في رواية روح بن القاسم عن منصور "لو أن أحدهم إذا جامع امرأته ذكر الله". قوله:

(9/228)


68- باب الْوَلِيمَةُ حَقٌّ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"

(9/229)


5166- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَكَانَ أُمَّهَاتِي يُوَاظِبْنَنِي عَلَى خِدْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً فَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ وَكَانَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا عَرُوسًا فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنْ الطَّعَامِ ثُمَّ خَرَجُوا وَبَقِيَ رَهْطٌ مِنْهُمْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالُوا الْمُكْثَ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ لِكَيْ يَخْرُجُوا فَمَشَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَشَيْتُ حَتَّى جَاءَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَقُومُوا فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ بِالسِّتْرِ وَأُنْزِلَ الْحِجَابُ"
قوله: "باب الوليمة حق" هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الطبراني من حديث وحشي بن حرب رفعه: "الوليمة حق، والثانية معروف، والثالثة فخر" ولمسلم من طريق الزهري عن الأعرج وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى الغني ويترك المسكين وهي حق" الحديث. ولأبي الشيخ والطبراني في "الأوسط" من طريق، مجاهد عن أبي هريرة رفعه: "الوليمة حق وسنة، فمن دعي فلم يجب فقد عصى" الحديث، وسأذكر حديث زهير ابن عثمان في ذلك وشواهده بعد ثلاثة أبواب. وروى أحمد من حديث بريدة قال: "لما خطب علي فاطمة قال رسول صلى الله عليه وسلم: أنه لا بد للعروس من وليمة" وسنده لا بأس به، قال ابن بطال قوله: "الوليمة حق" أي ليست بباطل بل يندب إليها وهي سنة فضيلة، وليس المراد بالحق الوجوب. ثم قال: ولا أعلم أحدا أوجبها. كذا قال، وغفل عن رواية في مذهبه بوجوبها نقلها القرطبي وقال: إن مشهور المذهب أنها مندوبة. وابن التين عن أحمد لكن الذي في "المغني" أنها سنة، بل وافق ابن بطال في نفي الخلاف بين أهل العلم في ذلك، قال وقال بعض الشافعية: هي واجبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها عبد الرحمن بن عوف، ولأن الإجابة إليها واجبة فكانت واجبة. وأجاب بأنه طعام لسرور حادث فأشبه سائر الأطعمة، والأمر محمول على الاستحباب بدليل ما ذكرناه، ولكونه أمره بشاة وهي غير واجبة اتفاقا، وأما البناء فلا أصل له. قلت: وسأذكر مزيدا في "باب إجابة الداعي" قريبا. والبعض الذي أشار إليه من الشافعية هو وجه معروف عندهم، وقد جزم به سليم الرازي وقال: إنه ظاهر نص "الأم" ونقله عن النص أيضا الشيخ أبو إسحاق في المهذب، وهو قول أهل الظاهر كما صرح به ابن حزم، وأما سائر الدعوات غيرها فسيأتي البحث فيه بعد ثلاثة أبواب. قوله: "وقال عبد الرحمن بن عوف قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة" هذا طرف من حديث طويل وصله المصنف في أول البيوع من حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه، ومن حديث أنس أيضا وسأذكر شرحه مستوفى إن شاء الله تعالى في الباب الذي يليه، والمراد منه ورود صيغة الأمر بالوليمة، وأنه لو رخص في تركها لما وقع الأمر باستدراكها بعد انقضاء الدخول. وقد اختلف السلف في وقتها هل هو عند العقد

(9/230)


أو عقبه أو عند الدخول أو عقبه أو موسع من ابتداء العقد إلى انتهاء الدخول على أقوال: قال النووي: اختلفوا فحكى عياض أن الأصح عند المالكية استحبابه بعد الدخول، وعن جماعة منهم أنه عند العقد، وعند ابن حبيب عند العقد وبعد الدخول. وقال له موضع آخر: يجوز قبل الدخول وبعده. وذكر ابن السبكي أن أباه قال: لم أر في كلام الأصحاب تعين وقتها، وأنه استنبط من قول البغوي: ضرب الدف في النكاح جائز في العقد والزفاف قبل وبعد قريبا منه، أن وقتها موسع من حين العقد، قال: والمنقول من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول كأنه يشير إلى قصة زينب بنت جحش، وقد ترجم عليه البيهقي في وقت الوليمة ا هـ، وما نفاه من تصريح الأصحاب متعقب بأن الماوردي صرح بأنها عند الدخول، وحديث أنس في هذا الباب صريح في أنها بعد الدخول لقوله فيه: "أصبح عروسا بزينب فدعا القوم" واستحب بعض المالكية أن تكون عند البناء ويقع الدخول عقبها وعليه عمل الناس اليوم، ويؤيد كونها للدخول لا للإملاك أن الصحابة بعد الوليمة ترددوا هل هي زوجة أو سرية، فلو كانت الوليمة عند الإملاك لعرفوا أنها زوجة لأن السرية لا وليمة لها فدل على أنها عند الدخول أو بعده. قوله في حديث أنس "مقدم النبي صلى الله عليه وسلم" بالنصب على الظرف أي زمان قدومه، وسيأتي في الأشربة من طريق شعيب عن الزهري عن أنس "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين، ومات وأنا ابن عشرين" وتقدم قبل بابين في الحديث المعلق عن أبي عثمان عن أنس أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ويأتي في كتاب الآداب من طريق سلام بن مسكين عن ثابت عن أنس قال: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أف قط" الحديث. ولمسلم من رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس في حديث آخره: "قال أنس والله لقد خدمته تسع سنين" ولا منافاة بين الروايتين، فإن مدة خدمته كانت تسع سنين وبعض أشهر فألغى الزيادة تارة وجبر الكسر أخرى. قوله: "فكن أمهاتي" يعني أمه وخالته ومن في معناهما، وإن ثبت كون مليكة جدته فهي مرادة هنا لا محالة. قوله: "يواظبنني" كذا للأكثر بظاء مشالة وموحدة ثم نونين من المواظبة، وللكشميهني بطاء مهملة بعدها تحتانية مهموزة بدل الموحدة من المواطأة وهي الموافقة. وفي رواية الإسماعيلي يوطنني بتشديد الطاء المهملة ونونين الأولى مشددة بغير ألف بعد الواو ولا حرف آخر بعد الطاء من التوطين، وفي لفظ له مثله لكن بهمزة ساكنة بعدها النونان من التوطئة تقول وطأته على كذا أي حرضته عليه. قوله: "وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب" تقدم البحث فيه وبسط شرحه في تفسير سورة الأحزاب

(9/231)


69- باب الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ
5167- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ كَمْ أَصْدَقْتَهَا قَالَ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَعَنْ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ نَزَلَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الأَنْصَارِ فَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ أُقَاسِمُكَ مَالِي وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَيَّ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ فَتَزَوَّجَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"

(9/231)


5168- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مَا أَوْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ أَوْلَمَ بِشَاةٍ"
5169- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ"
5170- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ بَيَانٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ بَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ فَأَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا إِلَى الطَّعَامِ"
قوله: "باب الوليمة ولو بشاة" أي لمن كان موسرا كما سيأتي البحث فيه، وذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث كلها عن أنس: الأول والثاني قصة عبد الرحمن بن عوف، قطعها قطعتين. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وقد صرح بتحديث حميد له وسماع حميد عن أنس فأمن تدليسهما، لكنه فرقه حديثين: فذكر في الأول سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن عن قدر الصداق، وفي الثاني أول القصة قال: "لما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار" وعبر في هذا بقوله: "وعن حميد قال سمعت أنسا" وفي رواية الكشميهني أنه سمع أنسا كما قال في الذي قبله، وهذا معطوف فيما جزم به المزي وغيره على الأول، ويحتمل أن يكون معلقا والأول هو المعتمد. وقد أخرجه الإسماعيلي: "عن الحسن بن سفيان عن محمد بن خلاد عن سفيان حدثنا حميد سمعت أنسا" وساق الحديثين معا، وأخرجه الحميدي في مسنده ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج" عن سفيان بالحديث كله مفرقا وقال في كل منهما "حدثنا حميد أنه سمع أنسا" وقد أخرجه ابن أبي عمر في مسنده عن سفيان، ومن طريقه الإسماعيلي فقال عن حميد عن أنس وساق الجميع حديثا واحدا، وقدم القصة الثانية على الأولى كما في وراية غير سفيان؛ فقد تقدم في أوائل النكاح من طريق الثوري وفي "باب الصفرة للمتزوج" من رواية مالك وفي "فضل الأنصار" من طريق إسماعيل بن جعفر، وفي أول البيوع من رواية زهير بن معاوية، ويأتي في الأدب من رواية يحيى القطان كلهم عن حميد. وأخرجه محمد بن سعد في "الطبقات" عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن حميد، وتقدم في "باب ما يدعى للمتزوج" من رواية ثابت، وفي "باب وآتوا النساء صدقاتهن" من رواية عبد العزيز بن صهيب وقتادة كلهم عن أنس، وأورده في أول كتاب البيوع من حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه، وسأذكر ما في رواياتهم من فائدة زائدة. وتقدم في البيوع في الكلام على حديث أنس بيان من زاد في روايته فجعله من حديث أنس عن عبد الرحمن بن عوف، وأكثر الطرق تجعله من مسند أنس، والذي يظهر من مجموع الطرق أنه حضر القصة وإنما نقل عن عبد الرحمن منها ما لم يقع له عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "لما قدموا المدينة" أي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وفي رواية ابن سعد "لما قدم عبد الرحمن ابن عوف المدينة". قوله: "نزل المهاجرون على الأنصار" تقدم بيان ذلك في أول الهجرة. قوله: "فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع" في رواية زهير "لما قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري" وفي رواية إسماعيل بن جعفر "قدم علينا عبد الرحمن فآخى" ونحوه في حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه. وفي رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن حميد عند النسائي والطبراني "آخى

(9/232)


"سأل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف وتزوج امرأة من الأنصار "هذه الجملة حالية أي سأله حين تزوج، وهذه المرأة جزم الزبير بن بكار في "كتاب النسب" أنها بنت أبي الحيسر أنس بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وفي ترجمة عبد الرحمن بن عوف من "طبقات ابن سعد" أنها بنت أبي الحشاش وساق نسبه، وأظنهما ثنتين، فإن في رواية الزبير قال: "ولدت لعبد الرحمن القاسم وعبد الله" وفي رواية ابن سعد "ولدت له إسماعيل وعبد الله" وذكر ابن القداح في "نسب الأوس" أنها أم إياس بنت أبي الحيسر بفتح المهملتين بينهما تحتانية ساكنة وآخره راء واسمه أنس بن رافع الأوسي. وفي رواية مالك "فسأله فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار" وفي رواية زهير وابن علية وابن سعد وغيرهم "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مهيم" ؟ ومعناه ما شأنك أو ما هذا؟ وهي كلمة استفهام مبنية على السكون، وهل هي بسيطة أو مركبة؟ قولان لأهل اللغة. وقال ابن مالك: هي اسم فعل بمعنى أخبر، ووقع في رواية للطبراني في الأوسط "فقال له مهيم؟ وكانت كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشيء" ووقع في رواية ابن السكن "مهين" بنون آخره بدل الميم والأول هو المعروف. ووقع في رواية حماد بن زيد عن ثابت عند المصنف وكذا في رواية عبد العزيز بن صهيب عند أبي عوانة "قال ما هذا" وقال في جوابه "تزوجت امرأة من الأنصار" وللطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة بسند فيه ضعف "أن عبد الرحمن بن عوف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خضب بالصفرة فقال: ما هذا الخضاب، أعرست؟ قال نعم" الحديث. قوله: "كم أصدقتها" كذا في رواية حماد بن سلمة ومعمر عن ثابت وفي رواية الطبراني "على كم". وفي رواية الثوري وزهير "ما سقت إليها" وكذا في رواية عبد الرحمن نفسه. وفي رواية مالك "كم سقت إليها". قوله: "وزن نواة" بنصب النون على تقدير فعل أي أصدقتها، ويجوز الرفع على تقدير مبتدأ أي الذي أصدقتها هو. قوله: "من ذهب" كذا وقع الجزم به في رواية ابن عيينة والثوري، وكذا في رواية حماد بن سلمة عن ثابت وحميد. وفي رواية زهير وابن علية "نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب" وكذا في رواية عبد الرحمن نفسه بالشك. وفي رواية شعبة عن عبد العزيز بن صهيب "على وزن نواة" وعن قتادة "على وزن نواة من ذهب" ومثل الأخير في رواية حماد بن زيد عن ثابت، وكذا أخرجه مسلم من طريق أبي عوانة عن قتادة، ولمسلم من رواية شعبة عن أبي حمزة عن أنس "على وزن نواة. قال فقال رجل من ولد عبد الرحمن: من ذهب" ورجح الداودي رواية من قال: "على نواة من ذهب" واستنكر رواية من روى "وزن نواة" واستنكاره هو المنكر لأن الذين جزموا بذلك أئمة حفاظ، قال عياض لا وهم في الرواية لأنها إن كانت نواة تمر أو غيره أو كان للنواة قدر معلوم صلح أن يقال في كل ذلك وزن نواة، واختلف في المراد بقوله: "نواة" فقيل المراد واحدة نوى التمر كما يوزن بنوى الخروب وأن القيمة عنها يومئذ كانت خمسة دراهم، وقيل كان قدرها يومئذ ربع دينار، ورد بأن نوى التمر يختلف في الوزن فكيف يجعل معيارا لما يوزن به؟ وقيل: لفظ النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق، وجزم به الخطابي واختاره الأزهري ونقله عياض عن أكثر العلماء، ويؤيده أن في رواية للبيهقي من طريق سعيد بن بشر عن قتادة "وزن نواة من ذهب قومت خمسة دراهم" وقيل وزنها من الذهب خمسة دراهم حكاه ابن قتيبة وجزم به ابن فارس، وجعله البيضاوي الظاهر، واستبعد لأنه يستلزم أن يكون ثلاثة مثاقيل ونصفا. ووقع في رواية حجاج بن أرطاة عن قتادة عند البيهقي "قومت ثلاثة دراهم وثلثا "وإسناده

(9/234)


ضعيف، ولكن جزم به أحمد، وقيل ثلاثة ونصف، وقيل ثلاثة وربع، وعن بعض المالكية النواة عند أهل المدينة ربع دينار، ويؤيد هذا ما وقع عند الطبراني في الأوسط في آخر حديث قال أنس جاء وزنها ربع دينار، وقد قال الشافعي: النواة ربع النش والنش نصف أوقية والأوقية أربعون درهما فيكون خمسة دراهم، وكذا قال أبو عبيد: إن عبد الرحمن بن عوف دفع خمسة دراهم، وهي تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية، وبه جزم أبو عوانة وآخرون. قوله آخر الرواية الثانية "فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أولم ولو بشاة" ليست "لو" هذه الامتناعية وإنما هي التي للتقليل، وزاد في رواية حماد بن زيد "فقال بارك الله لك" قبل قوله: "أولم" ، وكذا في رواية حماد بن سلمة عن ثابت وحميد وزاد في آخر الحديث: "قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا أو فضة، فكأنه قال ذلك إشارة إلى إجابة الدعوة النبوية بأن يبارك الله له. ووقع في حديث أبي هريرة بعد قوله أعرست" قال نعم. قال: أولمت؟ قال: لا. فرمى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنواة من ذهب فقال: أولم ولو بشاة" وهذا لو صح كان فيه أن الشاة من إعانة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعكر على من استدل به على أن الشاة أقل ما يشرع للموسر، ولكن الإسناد ضعيف كما تقدم. وفي رواية معمر عن ثابت "قال أنس: فلقد رأيته قسم لكل امرأة من نسائه بعد موته مائة ألف". قلت: مات عن أربع نسوة فيكون جميع تركته ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف، وهذا بالنسبة لتركة الزبير التي تقدم شرحها في فرض الخمس قليل جدا، فيحتمل أن تكون هذه دنانير وتلك دراهم لأن كثرة مال عبد الرحمن مشهورة جدا، واستدل به على توكيد أمر الوليمة وقد تقدم البحث فيه. وعلى أنها تكون بعد الدخول، ولا دلالة فيه وإنما فيه أنها تستدرك إذا فاتت بعد الدخول، وعلى أن الشاة أقل ما تجزئ عن الموسر، ولولا ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه كما سيأتي بأقل من الشاة لكان يمكن أن يستدل به على أن الشاة أقل ما تجزئ في الوليمة، ومع ذلك فلا بد من تقييده بالقادر عليها، وأيضا فيعكر على الاستدلال أنه خطاب واحد، وفيه اختلاف هل يستلزم العموم أو لا، وقد أشار إلى ذلك الشافعي فيما نقله البيهقي عنه قال: لا أعمله أمر بذلك غير عبد الرحمن، ولا أعلمه أنه صلى الله عليه وسلم ترك الوليمة فجعل ذلك مستندا في كون الوليمة ليست بحتم، ويستفاد من السياق طلب تكثير الوليمة لمن يقدر، قال عياض: وأجمعوا على أن لا حد لأكثرها، وأما أقلها فكذلك، ومهما تيسر أجزأ، والمستحب أنها على قدر حال الزوج، وقد تيسر على الموسر الشاة فما فوقها، وسيأتي البحث في تكرارها في الأيام بعد قليل. وفي الحديث أيضا منقبة لسعد بن الربيع في إيثاره على نفسه بما ذكر، ولعبد الرحمن بن عوف في تنزهه عن شيء يستلزم الحياء والمروءة اجتنابه ولو كان محتاجا إليه. وفيه استحباب المؤاخاة وحسن الإيثار من الغني للفقير حتى بإحدى زوجتيه، واستحباب رد مثل ذلك على من آثر به لما يغلب في العادة من تكلف مثل ذلك، فلو تحقق أنه لم يتكلف جاز. وفيه أن من ترك ذلك بقصد صحيح عوضه الله خيرا منه وفيه استحباب التكسب، وأن لا نقص على من يتعاطى من ذلك ما يليق بمروءة مثله، وكراهة قبول ما يتوقع منه الذل من هبة وغيرها، وأن العيش من عمل المرء بتجارة أو حرفة أولى لنزاهة الأخلاق من العيش بالهبة ونحوها. وفيه استحباب الدعاء للمتزوج، وسؤال الإمام والكبير أصحابه وأتباعه عن أحوالهم، ولا سيما إذا رأى منهم ما لم يعهد. وجواز خروج العروس وعليه أثر العرس من خلوق وغيره، واستدل به على جواز التزعفر للعروس، وخص به عموم النهي عن التزعفر للرجال كما سيأتي بيانه في كتاب اللباس، وتعقب باحتمال أن تكون تلك الصفرة

(9/235)


كانت في ثيابه دون جسده، وهذا الجواب للمالكية على طريقتهم في جوازه في الثوب دون البدن، وقد نقل ذلك مالك عن علماء المدينة، وفيه حديث أبي موسى رفعه: "لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق" أخرجه أبو داود، فإن مفهومه أن ماعدا الجسد لا يتناوله الوعيد، ومنع من ذلك أبو حنيفة والشافعي ومن تبعهما في الثوب أيضا، وتمسكوا بالأحاديث في ذلك وهي صحيحة، وفيها ما هو صريح في المدعي كما سيأتي بيانه، وعلى هذا فأجيب عن قصة عبد الرحمن بأجوبة: أحدها أن ذلك كان قبل النهي وهذا يحتاج إلى تاريخ، ويؤيده أن سياق قصة عبد الرحمن يشعر بأنها كانت في أوائل الهجرة، وأكثر من روى النهي ممن تأخرت هجرته. ثانيها أن أثر الصفرة التي كانت على عبد الرحمن تعلقت به من جهة زوجته فكان ذلك غير مقصود له، ورجحه النووي وعزاه للمحققين، وجعله البيضاوي أصلا رد إليه أحد الاحتمالين أبداهما في قوله: "مهيم" فقال: معناه ما السبب في الذي أراه عليك؟ فلذلك أجاب بأنه تزوج قال ويحتمل أن يكون استفهام إنكار لما تقدم من النهي عن التضمخ بالخلوق، فأجاب بقوله تزوجت، أي فتعلق بي منها ولم أقصد إليه. ثالثها أنه كان قد احتاج إلى التطيب للدخول على أهله فلم يجد من طيب الرجال حينئذ شيئا فتطيب من طيب المرأة، وصادف أنه كان فيه صفرة فاستباح القليل منه عند عدم غيره جمعا بين الدليلين، وقد ورد الأمر في التطيب للجمعة ولو من طيب المرأة فبقي أثر ذلك عليه. رابعها كان يسيرا ولم يبق إلا أثره فلذلك لم ينكر. خامسها وبه جزم الباجي أن الذي يكره من ذلك ما كان من زعفران وغيره من أنواع الطيب، وأما ما كان ليس بطيب فهو جائز. سادسها أن النهي عن التزعفر للرجال ليس على التحريم بدلالة تقريره لعبد الرحمن بن عوف في هذا الحديث. سابعها أن العروس يستثنى من ذلك ولا سيما إذا كان شابا، ذكر ذلك أبو عبيد قال: وكانوا يرخصون للشاب في ذلك أيام عرسه، قال وقيل: كان في أول الإسلام من تزوج لبس ثوبا مصبوغا علامة لزواجه ليعان على وليمة عرسه، قال وهذا غير معروف. قلت: وفي استفهام النبي صلى الله عليه وسلم له عن ذلك دلالة على أنه لا يختص بالتزويج، لكن وقع في بعض طرقه عند أبي عوانة من طريق شعبة عن حميد بلفظ: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأى علي بشاشة العرس فقال: أتزوجت؟ قلت: تزوجت امرأة من الأنصار" فقد يتمسك بهذا السياق للمدعي ولكن القصة واحدة، وفي أكثر الروايات أنه قال له "مهيم أو ما هذا" فهو المعتمد، وبشاشة العرس أثره وحسنه أو فرحه وسروره، يقال بش فلان بفلان أي أقبل عليه فرحا به ملطفا به، واستدل به على أن النكاح لا بد فيه من صداق لاستفهامه على الكمية، ولم يقل هل أصدقها أو لا؟ ويشعر ظاهره بأنه يحتاج إلى تقدير لإطلاق لفظ: "كم" الموضوعة للتقدير، كذا قال بعض المالكية، وفيه نظر لاحتمال أن يكون المراد الاستخبار عن الكثرة أو القلة فيخبره بعد ذلك بما يليق بحال مثله، فلما قال له القدر لم ينكر عليه بل أقره، واستدل به على استحباب تقليل الصداق لأن عبد الرحمن بن عوف كان من مياسير الصحابة وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على إصداقه وزن نواة من ذهب، وتعقب بأن ذلك كان في أول الأمر حين قدم المدينة وإنما حصل له اليسار بعد ذلك من ملازمة التجارة حتى ظهرت منه من الإعانة في بعض الغزوات ما اشتهر، وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له كما تقدم. واستدل به على جواز المواعدة لمن يريد أن يتزوج بها إذا طلقها زوجها وأوفت العدة، لقول سعد بن الربيع "انظر أي زوجتي أعجب إليك حتى أطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجتها" ووقع تقرير ذلك، ويعكر على هذا أنه لم ينقل أن المرأة علمت بذلك ولا سيما ولم يقع تعيينها، لكن الاطلاع على أحوالهم إذ ذاك يقتضي أنهما علمتا معا لأن ذلك كان قبل نزول آية الحجاب

(9/236)


فكانوا يجتمعون، ولولا وثوق سعد بن الربيع من كل منهما بالرضا ما جزم بذلك. وقال ابن المنير: لا يستلزم المواعدة بين الرجلين وقوع المواعدة بين الأجنبي والمرأة، لأنها إذا منع وهي في العدة من خطبتها تصريحا ففي هذا يكون بطريق الأولى لأنها إذا طلقت دخلت العدة قطعا، قال: ولكنها وإن اطلعت على ذلك فهي بعد انقضاء عدتها بالخيار، والنهي إنما وقع عن المواعدة بين الأجنبي والمرأة أو وليها لا مع أجنبي آخر. وفيه جواز نظر الرجل إلى المرأة قبل أن يتزوجها. "تنبيه": حقه أن يذكر في مكانه من كتاب الأدب، لكن تعجلته هنا لتكميل فوائد الحديث، وذلك أن البخاري ترجم في كتاب الأدب "باب الإخاء والحلف" ثم ساق حديث الباب من طريق يحيى بن سعيد القطان عن حميد واختصره فاقتصر منه على قوله: "عن أنس قال: لما قدم علينا عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة" فرأى ذلك المحب الطبري فظن أنه حديث مستقل فترجم في أبواب الوليمة: ذكر الوليمة للإخاء، ثم ساق هذا الحديث بهذا اللفظ وقال: أخرجه البخاري. وكون هذا طرفا من حديث الباب لا يخفى على من له أدنى ممارسة بهذا الفن، والبخاري يصنع ذلك كثيرا، والأمر لعبد الرحمن بن عوف بالوليمة إنما كان لأجل الزواج لا لأجل الإخاء، وقد تعرض المحب لشيء من ذلك لكنه أبداه احتمالا، ولا يحتمل جريان هذا الاحتمال ممن يكون محدثا، فالله أعلم بالصواب. حديث: "ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب" هي بنت جحش كما في الباب الذي بعده، وحماد المذكور في إسناده هو ابن زيد وهذا الذي ذكره بحسب الاتفاق لا التحديد كما سأبينه في الباب الذي بعد، وقد يؤخذ من عبارة صاحب "التنبيه" من الشافعية أن الشاة حد لأكثر الوليمة لأنه قال: وأكملها شاة، لكن نقل عياض الإجماع على أنه لا حد لأكثرها. وقال ابن أبي عصرون: أقلها للموسر شاة، وهذا موافق لحديث عبد الرحمن بن عوف الماضي وقد تقدم ما فيه. قوله: "حدثنا عبد الوارث" في رواية الكشميهني: "عن عبد الوارث" وشعيب هو ابن الحبحاب، وقد تقدم شرح الحديث في "باب من جعل عتق الأمة صداقها" وقوله في آخره: "وأولم عليها بحيس" تقدم في "باب اتخاذ السراري" من طريق حميد عن أنس "أنه أمر بالأنطاع فألقى فيها من التمر والأقط والسمن فكانت وليمته" ولا مخالفة بينهما لأن هذه من أجزاء الحيس، قال أهل اللغة: الحيس يؤخذ التمر فينزع نواه ويخلط بالأقط أو الدقيق أو السويق ا ه. ولو جعل فيه السمن لم يخرج عن كونه حيسا. قوله: "زهير" هو ابن معاوية الجعفي. قوله: "عن بيان" هو ابن بشر الأحمسي، ووقع في رواية ابن خزيمة عن موسى بن عبد الرحمن المسروقي عن مالك بن إسماعيل شيخ البخاري فيه عن زهير "حدثنا بيان". قوله: "بامرأة" يغلب على الظن أنها زينب بنت جحش لما تقدم قريبا في رواية أبي عثمان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه يدعو رجالا إلى الطعام، ثم تبين ذلك واضحا من رواية الترمذي لهذا الحديث تاما من طريق أخرى عن بيان بن بشر فزاد بعد قوله إلى الطعام "فلما أكلوا وخرجوا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلين جالسين" فذكر قصة نزول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية، وهذا في قصة زينب بنت جحش لا محالة كما تقدم سياقه مطولا وشرحه في تفسير الأحزاب

(9/237)


70- باب مَنْ أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ
5171- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ ذُكِرَ تَزْوِيجُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ عِنْدَ أَنَسٍ

(9/237)


فَقَالَ مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَيْهَا أَوْلَمَ بِشَاةٍ"
قوله: "باب من أولم على بعض نسائه أكثر من بعض" ذكر فيه حديث أنس في زينب بنت جحش أولم عليها بشاة، وهو ظاهر فيما ترجم لما يقتضيه سياقه، وأشار ابن بطال إلى أن ذلك لم يقع قصدا لتفضيل بعض النساء على بعض بل باعتبار ما اتفق، وأنه لو وجد الشاة في كل منهن لأولم بها، لأنه كان أجود الناس، ولكن كان لا يبالغ فيما يتعلق بأمور الدنيا في التأنق، وجوز غيره أن يكون فعل ذلك لبيان الجواز. وقال الكرماني: لعل السبب في تفضيل زينب في الوليمة على غيرها كان للشكر لله على ما أنعم به عليه من تزويجه إياها بالوحي. قلت: ونفى أنس أن يكون لم يولم على غير زينب بأكثر مما أولم عليها محمول على ما انتهى إليه علمه، أو لما وقع من البركة في وليمتها حيث أشبع المسلمين خبزا ولحما من الشاة الواحدة، وإلا فالذي يظهر أنه لما أولم على ميمونة بنت الحارث لما تزوجها في عمرة القضية بمكة وطلب من أهل مكة أن يحضروا وليمتها فامتنعوا أن يكون ما أولم به عليها أكثر من شاة لوجود التوسعة عليه في تلك الحالة لأن ذلك كان بعد فتح خيبر، وقد وسع الله على المسلمين منذ فتحها عليهم. وقال ابن المنير: يؤخذ من تفضيل بعض النساء على بعض في الوليمة جواز تخصيص بعضهن دون بعض بالأتحاف والألطاف والهدايا. قلت: وقد تقدم البحث في ذلك في كتاب الهبة.

(9/238)


71- باب مَنْ أَوْلَمَ بِأَقَلَّ مِنْ شَاةٍ
5172- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ أَوْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ"
قوله: "باب من أولم بأقل من شاة" هذه الترجمة وإن كان حكمها مستفادا من التي قبلها، لكن الذي وقع في هذه بالتنصيص. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي كما جزم به الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما ومن تبعهما، وسفيان هو الثوري لما سيأتي من كلام أهل النقد، وجوز الكرماني أن يكون سفيان هو ابن عيينة ومحمد ابن يوسف هو البيكندي، وأيد ذلك أن السفيانين رويا عن منصور بن عبد الرحمن، والمجزوم به عندنا أنه الفريابي عن الثوري. قال البرقاني: روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي ووكيع والفريابي وروح بن عبادة عن الثوري فجعلوه من رواية صفية بنت شيبة، ورواه أبو أحمد الزبيري ومؤمل بن إسماعيل ويحيى بن اليمان عن الثوري فقالوا فيه عن صفية بنت شيبة عن عائشة، قال: والأول أصح، وصفية ليست بصحابية وحديثها مرسل، قال: وقد نصر النسائي قول من لم يقل عن عائشة، وأورده عن بندار عن ابن مهدي وقال إنه مرسل ا هـ. ورواية وكيع أخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه عنه، وأصلح في بعض النسخ بذكر عائشة، وهو وهم من فاعله. وأخرجه الإسماعيلي من رواية يزيد بن أبي حكيم العدني، وأخرجه إسماعيل القاضي في "كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم:" عن محمد بن كثير العبدي كلاهما عن الثوري كما قال الفريابي، وأخرجه الإسماعيلي أيضا من رواية يحيى ابن زكريا بن أبي زائدة عن الثوري بذكر عائشة فيه، وزعم ابن المواق أن النسائي أخرجه من رواية يحيى بن آدم عن الثوري وقال: ليس هو بدون الفريابي، كذا قال، ولم يخرجه النسائي إلا من رواية يحيى بن اليمان وهو ضعيف، وكذلك مؤمل

(9/238)


ابن إسماعيل في حديثه عن الثوري ضعف، وأقوى من زاد فيه عائشة أبو أحمد الزبيري أخرجه أحمد في مسنده عنه ويحيى بن أبي زائدة، والذين لم يذكروا فيه عائشة أكثر عددا وأحفظ وأعرف بحديث الثوري ممن زاد، فالذي يظهر على قواعد المحدثين أنه من المزيد في متصل الأسانيد، وذكر الإسماعيلي أن عمر بن محمد بن الحسن بن التل رواه عن أبيه عن الثوري فقال فيه: "عن منصور بن صفية عن صفية بنت حيي" قال وهو غلط لا شك فيه، ويحتمل أن يكون مراد بعض من أطلق أنه مرسل يعني من مراسيل الصحابة، لأن صفية بنت شيبة ما حضرت قصة زواج المرأة المذكورة في الحديث لأنها كانت بمكة طفلة أو لم تولد بعد؛ وتزويج المرأة كان بالمدينة كما سيأتي بيانه، وأما جزم البرقاني بأنه إذا كان بدون ذكر عائشة يكون مرسلا فسبقه إلى ذلك النسائي ثم الدار قطني فقال هذا من الأحاديث التي تعد فيما أخرج البخاري من المراسيل وكذا جزم ابن سعد وابن حبان بأن صفية بنت شيبة تابعية، لكن ذكر المزي في "الأطراف" أن البخاري أخرج في كتاب الحج عقب حديث أبي هريرة وابن عباس في تحريم مكة قال: "وقال أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مثله، قال: ووصله ابن ماجه من هذا الوجه. قلت: وكذا وصله البخاري في التاريخ. ثم قال المزي: لو صح هذا لكان صريحا في صحبتها، لكن أبان بن صالح ضعيف، كذا أطلق هنا ولم ينقل في ترجمة أبان بن صالح في التهذيب تضعيفه عن أحد، بل نقل توثيقه عن يحيى بن معين وأبي حاتم وأبي زرعة وغيرهم. وقال الذهبي في "مختصر التهذيب" : ما رأيت أحدا ضعف أبان بن صالح، وكأنه لم يقف على قول ابن عبد البر في "التمهيد" لما ذكر حديث جابر في استقبال قاضي الحاجة القبلة من رواية أبان بن صالح المذكور: هذا ليس صحيحا لأن أبان بن صالح ضعيف، كذا قال وكأنه التبس عليه بأبان بن أبي عياش البصري صاحب أنس فإنه ضعيف باتفاق، وهو أشهر وأكثر حديثا ورواة من أبان بن صالح؛ ولهذا لما ذكر ابن حزم الحديث المذكور عن جابر قال: أبان بن صالح ليس بالمشهور. قلت: ولكن يكفي توثيق ابن معين ومن ذكر له، وقد روى عنه أيضا ابن جريج وأسامة بن زيد الليثي وغيرهما، وأشهر من روى عنه محمد بن إسحاق. وقد ذكر المزي أيضا حديث صفية بنت شيبة قالت: "طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير يستلم الحجر بمحجن وأنا أنظر إليه" أخرجه أبو داود وابن ماجه، قال المزي: هذا يضعف قول من أنكر أن يكون لها رؤية، فإن إسناده حسن. قلت: وإذا ثبتت رؤيتها له صلى الله عليه وسلم وضبطت ذلك فما المانع أن تسمع خطبته ولو كانت صغيرة. قوله: "عن منصور بن صفية" هي أمه واسم أبيه عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث بن طلحة بن أبي طلحة القرشي العبدري الحجبي، قتل جده الأعلى الحارث يوم أحد كافرا وكذا أبوه طلحة بن أبي طلحة، ولجده الأدنى طلحة بن الحارث رؤية، وقد أغفل ذكره من صنف في الصحابة وهو وارد عليهم، ووقع في "رجال البخاري للكلاباذي" أنه منصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن عمر بن عبد الرحمن التيمي، ووهم في ذلك كما نبه عليه الرضى الشاطبي فيما قرأت بخطه. قوله: "أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه" لم أقف على تعيين اسمها صريحا، وأقرب ما يفسر به أم سلمة، فقد أخرج ابن سعد عن شيخه الواقدي بسند له إلى أم سلمة قالت: "لما خطبني النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر قصة تزويجه بها - فأدخلني بيت زينت بنت خزيمة، فإذا جرة فيها شيء من شعير، فأخذته فطحنته ثم عصدته في البرمة وأخذت شيئا من إهالة فأدمته فكان ذلك طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وأخرج ابن سعد أيضا وأحمد بإسناد صحيح إلى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن أم سلمة أخبرته فذكر قصة خطبتها وتزويجها وفيه قالت: "فأخذت

(9/239)


ثفالي وأخرجت حبات من شعير كانت في جرتي وأخرجت شحما فعصدته له ثم بات ثم أصبح" الحديث، وأخرجه النسائي أيضا لكن لم يذكر المقصود هنا وأصله في مسلم من وجه آخر بدونه، وأما ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق شريك عن حميد عن أنس قال: "أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة بتمر وسمن" فهو وهم من شريك لأنه كان سيء الحفظ، أو من الراوي عنه وهو جندل بن والق فإن مسلما والبزار ضعفاه وقواه أبو حاتم الرازي والبستي، وإنما هو المحفوظ من حديث حميد عن أنس أن ذلك قصة صفية كذلك أخرجه النسائي من رواية سليمان بن بلال وغيره عن حميد عن أنس مختصرا، وقد تقدم مطولا في أوائل النكاح للبخاري من وجه آخر عن حميد عن أنس. وأخرج أصحاب السنن من رواية الزهري عن أنس نحوه في قصة صفية ويحتمل أن يكون المراد بنسائه ما هو أعم من أزواجه، أي من ينسب إليه من النساء في الجملة، فقد أخرج الطبراني من حديث أسماء بنت عميس قالت : "لقد أولم علي بفاطمة فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته، رهن درعه عند يهودي بشطر شعير" ولا شك أن المدين نصف الصاع؛ فكأنه قال: شطر صاع، فينطبق على القصة التي في الباب، وتكون نسبه الوليمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجازية إما لكونه الذي وفى اليهودي ثمن شعيره أو لغير ذلك. قوله: "بمدين من شعير" كذا وقع في رواية كل من رواه عن الثوري فيما وقفت عليه ممن قدمت ذكره، إلا عبد الرحمن بن مهدي فوقع في روايته: "بصاعين من شعير" أخرجه النسائي والإسماعيلي من روايته، وهو وإن كان أحفظ من رواه عن الثوري لكن العدد الكثير أولى بالضبط من الواحد كما قال الشافعي في غير هذا، والله أعلم.

(9/240)


72- باب حَقِّ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ وَالدَّعْوَةِ
وَمَنْ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهُ وَلَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَلاَ يَوْمَيْنِ
5173- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا"
[الحديث 5173- طرفه في: 5179]
5174- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "فُكُّوا الْعَانِيَ وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ"
5175- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ الأَشْعَثِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَعَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَالْقَسِّيَّةِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَالشَّيْبَانِيُّ عَنْ أَشْعَثَ فِي إِفْشَاءِ السَّلاَمِ"
5176- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ دَعَا

(9/240)


أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُرْسِهِ وَكَانَتْ امْرَأَتُهُ يَوْمَئِذٍ خَادِمَهُمْ وَهِيَ الْعَرُوسُ قَالَ سَهْلٌ تَدْرُونَ مَا سَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ إِيَّاهُ"
[الحديث 5176- أطرافه في: 5182، 5183، 5591، 5597، 6685]
قوله: "باب حق إجابة الوليمة والدعوة" كذا عطف الدعوة على الوليمة فأشار بذلك إلى أن الوليمة مختصة بطعام العرس ويكون عطف الدعوة عليها من العام بعد الخاص، وقد تقدم بيان الاختلاف في وقته، وأما اختصاص اسم الوليمة به فهو قول أهل اللغة فيما نقله عنهم ابن عبد البر، وهو المنقول عن الخليل بن أحمد وثعلب وغيرهما وجزم به الجوهري وابن الأثير. وقال صاحب "المحكم" : الوليمة طعام العرس والإملاك وقيل كل طعام صنع لعرس وغيره. وقال عياض في "المشارق" : الوليمة طعام النكاح، وقيل الإملاك وقيل طعام العرس خاصة. وقال الشافعي وأصحابه: تقع الوليمة على كل دعوة تتخذ لسرور حادث من نكاح أو ختان وغيرهما، لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح وتقيد في غيره فيقال وليمة الختان ونحو ذلك. وقال الأزهري: الوليمة مأخوذة من الولم وهو الجمع وزنا ومعنى لأن الزوجين يجتمعان. وقال ابن الأعرابي: أصلها من تتميم الشيء واجتماعه، وجزم الماوردي ثم القرطبي بأنها لا تطلق في غير طعام العرس إلا بقرينة، وأما الدعوة فهي أعم من الوليمة، وهي بفتح الدال على المشهور، وضمها قطرب في مثلثته وغلطوه في ذلك على ما قال النووي، قال ودعوة النسب بكسر الدال وعكس ذلك بنو تيم الرباب ففتحوا دال دعوة النسب وكسروا دال دعوة الطعام ا ه. وما نسبه لبني تيم الرباب نسبه صاحبا "الصحاح" و "المحكم" لبني عدي الرباب. فالله أعلم. وذكر النووي تبعا لعياض أن الولائم ثمانية: الإعذار بعين مهملة وذال معجمة للختان، والعقيقة للولادة، والخرس بضم المعجمة وسكون الراء ثم سين مهملة لسلامة المرأة من الطلق وقيل هو طعام الولادة، والعقيقة تختص بيوم السابع. والنقيعة لقدوم المسافر مشتقة من النقع وهو الغبار. والوكيرة للسكن المتجدد، مأخوذ من الوكر وهو المأوى والمستقر. والوضيمة بضاد معجمة لما يتخذ عند المصيبة، والمأدبة لما يتخذ بلا سبب ودالها مضمومة ويجوز فتحها، انتهى. والإعذار يقال فيه أيضا العذرة بضم ثم سكون، والخرس يقال فيه أيضا بالصاد المهملة بدل السين، وقد تزاد في آخرها هاء فيقال خرسة وخرصة وقيل إنها لسلامة المرأة من الطلق، وأما التي للولادة بمعنى الفرح بالمولود فهي العقيقة. واختلف في النقيعة هل التي يصنعها القادم من السفر أو تصنع له؟ قولان. وقيل النقيعة التي يصنعها القادم، والتي تصنع له تسمى التحفة. وقيل إن الوليمة خاص بطعام الدخول، وأما طعام الإملاك فيسمى الشندخ بضم المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة وقد تضم وآخره خاء معجمة مأخوذ من قولهم فرس شندخ أي يتقدم غيره سمي طعام الإملاك بذلك لأنه يتقدم الدخول. وأغرب شيخنا في "التدريب" فقال: الولائم سبع وهو وليمة الإملاك وهو التزوج ويقال لها النقيعة بنون وقاف، ووليمة الدخول وهو العرس وقل من غاير بينهما انتهى. وموضع إغرابه تسمية وليمة الإملاك نقيعة، ثم رأيته تبع في ذلك المنذري في حواشيه وقد شذ بذلك. وقد فاتهم ذكر الحذاق بكسر المهملة وتخفيف الدال المعجمة وآخره قاف: الطعام الذي يتخذ عند حذق الصبي ذكره ابن الصباغ في "الشامل". وقال ابن الرفعة هو الذي يصنع عند الختم أي ختم القرآن كذا قيده، ويحتمل ختم ختم قدر مقصود منه، ويحتمل أن يطرد ذلك

(9/241)


في حذقه لكل صناعة. وذكر المحاملي في "الرونق" في الولائم العتيرة بفتح المهملة ثم مثناة مكسورة وهي شاة تذبح في أول رجب وتعقب بأنها في معنى الأضحية فلا معنى لذكرها مع الولائم، وسيأتي حكمها في أواخر كتاب العقيقة وإلا فلتذكر في الأضحية، وأما المأدبة ففيها تفصيل لأنها إن كانت لقوم مخصوصين فهي النقري بفتح النون والقاف مقصور، وإن كانت عامة فهي الجفلى بجيم وفاء بوزن الأول، قال الشاعر:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب منا ينتقر
وصف قومه بالجود وأنهم إذا صنعوا مأدبة دعوا إليها عموما لا خصوصا، وخص الشتاء لأنها مظنة قلة الشيء وكثرة احتياج من يدعي، والآدب بوزن اسم الفاعل من المأدبة، وينتقر مشتق من النقري. وقد وقع في آخر حديث أبي هريرة الذي أوله "الوليمة حق وسنة" كما أشرت في "باب الوليمة حق" قال: والخرس والإعذار والتوكير أنت فيه بالخيار وفيه تفسير ذلك، وظاهر سياقه الرفع ويحتمل الوقف. وفي مسند أحمد من حديث عثمان بن أبي العاص في وليمة الختان "لم يكن يدعى لها" وأما قول المصنف "حق إجابة" فيشير إلى وجوب الإجابة، وقد نقل ابن عبد البر ثم عياض ثم النووي الاتفاق على القول بوجوب الإجابة لوليمة العرس وفيه نظر، نعم المشهور من أقوال العلماء الوجوب، وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين ونص عليه مالك، وعن بعض الشافعية والحنابلة أنها مستحبة، وذكر اللخمي من المالكية أنه المذهب، وكلام صاحب الهداية يقتضي الوجوب مع تصريحه بأنها سنة، فكأنه أراد أنها وجبت بالسنة وليست فرضا كما عرف من قاعدتهم، وعن بعض الشافعية والحنابلة هي فرض كفاية، وحكى ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" أن محل ذلك إذا عمت الدعوة أما لو خص كل واحد بالدعوة فإن الإجابة تتعين، وشرط وجوبها أن يكون الداعي مكلفا حرا رشيدا، وأن لا يخص الأغنياء دون الفقراء، وسيأتي البحث فيه في الباب الذي يليه، وأن لا يظهر قصد التودد لشخص بعينه لرغبة فيه أو رهبة منه، وأن يكون الداعي مسلما على الأصح وأن يختص باليوم الأول على المشهور، وسيأتي البحث فيه، وأن لا يسبق فمن سبق تعينت الإجابة له دون الثاني، وإن جاءا معا قدم الأقرب رحما على الأقرب جوارا على الأصح، فإن استويا أقرع، وأن لا يكون هناك من يتأذى بحضوره من منكر وغيره كما سيأتي البحث فيه بعد أربعة أبواب وأن لا يكون له عذر وضبطه الماوردي بما يرخص به في ترك الجماعة، هذا كله في وليمة العرس فإما الدعوة في غير العرس فسيأتي البحث فيها بعد بابين. قوله: "ومن أولم سبعة أيام ونحوه" يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق حفصة بنت سيرين قالت: "لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة أيام، فلما كان يوم الأنصار دعا أبي بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهما فكان أبي صائما فلما طعموا دعا أبي وأثنى" وأخرجه البيهقي من وجه آخر أتم سياقا منه، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر إلى حفصة وقال فيه ثمانية أيام، وإليه أشار المصنف بقوله: "ونحوه" لأن القصة واحدة وهذا وإن لم يذكره المصنف لكنه جنح إلى ترجيحه لإطلاق الأمر بإجابة الدعوة بغير تقييد كما سيظهر من كلامه الذي سأذكره، وقد نبه على ذلك ابن المنير. قوله: "ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم يوما ولا يومين" أي لم يجعل للوليمة وقتا معينا يختص به الإيجاب أو الاستحباب وأخذ ذلك من الإطلاق، وقد أفصح بمراده في تاريخه فإنه أورد في ترجمة زهير بن عثمان الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عبد الله بن عثمان الثقفي عن رجل من ثقيف كان

(9/242)


يثنى عليه إن لم يكن اسمه زهير بن عثمان فلا أدري ما اسمه يقوله قتادة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة" قال البخاري: لا يصح إسناده ولا يصح له صحبة يعني لزهير، قال وقال ابن عمر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجب" ولم يخص ثلاثة أيام ولا غيرها وهذا أصح، قال وقال ابن سيرين عن أبيه "أنه لما بنى بأهله أولم سبعة أيام فدعا في ذلك أبي بن كعب فأجابه" ا هـ. وقد خالف يونس بن عبيد قتادة في إسناده فرواه عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا أو معضلا لم يذكر عبد الله بن عثمان ولا زهيرا أخرجه النسائي ورجحه على الموصول، وأشار أبو حاتم إلى ترجيحه، ثم أخرج النسائي عقبه حديث أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام على صفية ثلاثة أيام حتى أعرس بها" فأشار إلى تضعيفه أو إلى تخصيصه، وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو يعلى بسند حسن عن أنس قال: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية وجعل عتقها صداقها، وجعل الوليمة ثلاثة أيام" الحديث. وقد وجدنا لحديث زهير بن عثمان شواهد، منها عن أبي هريرة مثله أخرجه ابن ماجه وفيه عبد الملك بن حسين وهو ضعيف جدا، وله طريق أخرى عن أبي هريرة أشرت إليها في "باب الوليمة حق" وعن أنس مثله أخرجه ابن عدي والبيهقي وفيه بكر بن خنيس وهو ضعيف، وله طريق أخرى ذكر ابن أبي حاتم أنه سأل أباه عن حديث رواه مروان بن معاوية عن عوف عن الحسن عن أنس نحوه فقال إنما هو عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل، وعن ابن مسعود أخرجه الترمذي بلفظ: "طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سمعة، ومن سمع سمع الله به" وقال لا نعرفه إلا من حديث زياد بن عبد الله البكائي وهو كثير الغرائب والمناكير. قلت: وشيخه فيه عطاء بن السائب وسماع زياد منه بعد اختلاطه فهذه علته. وعن ابن عباس رفعه: "طعام في العرس يوم سنة، وطعام يومين فضل، وطعام ثلاثة أيام رياء وسمعة" أخرجه الطبراني بسند ضعيف، وهذه الأحاديث وإن كان كل منها لا يخلو عن مقال فمجموعها يدل على أن للحديث أصلا، وقد وقع في رواية أبي داود والدارمي في آخر حديث زهير بن عثمان "قال قتادة: بلغني عن سعيد بن المسيب أنه دعي أول يوم وأجاب، ودعي ثاني يوم فأجاب، ودعي ثالث يوم فلم يجب وقال: أهل رياء وسمعة. فكأنه بلغه الحديث فعمل بظاهره إن ثبت ذلك عنه، وقد عمل به الشافعية والحنابلة، قال النووي إذا أولم ثلاثا فالإجابة في اليوم الثالث مكروهة وفي الثاني لا تجب قطعا ولا يكون استحبابها فيه كاستحبابها في اليوم الأول، وقد حكى صاحب "التعجيز" في وجوبها في اليوم الثاني وجهين وقال في شرحه: أصحهما الوجوب، وبه قطع الجرجاني لوصفه بأنه معروف أو سنة، واعتبر الحنابلة الوجوب في اليوم الأول وأما الثاني فقالوا سنة تمسكا بظاهر لفظ حديث ابن مسعود وفيه بحث، وأما الكراهة في اليوم الثالث فأطلقه بعضهم لظاهر الخبر. وقال العمراني: إنما تكره إذا كان المدعو في الثالث هو المدعو في الأول، وكذا صوره الروياني واستبعده بعض المتأخرين وليس ببعيد لأن إطلاق كونه رياء وسمعة يشعر بأن ذلك صنع للمباهاة وإذا كثر الناس فدعا في كل يوم فرقة لم يكن في ذلك مباهاة غالبا، وإلى ما جنح إليه البخاري ذهب المالكية، قال عياض استحب أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعا، قال وقال بعضهم محله إذا دعا في كل يوم من لم يدع قبله ولم يكرر عليهم، وهذا شبيه بما تقدم عن الروياني، وإذا حملنا الأمر في كراهة الثالث على ما إذا كان هناك رياء وسمعة ومباهاة كان الرابع وما بعده كذلك فيمكن حمل ما وقع من السلف من الزيادة على اليومين عند الأمن من ذلك وإنما أطلق ذلك على الثالث لكونه الغالب والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث. حديث ابن عمر أورده

(9/243)


من طريق مالك عن نافع بلفظ: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" سيأتي البحث فيه بعد بابين، وقوله: "فليأتها" أي فليأت مكانها، والتقدير إذا دعي إلى مكان وليمة فليأتها ولا يضر إعادة الضمير مؤنثا. حديث أبي موسى أورده لقوله فيه: "وأجيبوا الداعي" قد تقدم في الجهاد، قال ابن التين: قوله: "وأجيبوا الداعي" يريد إلى وليمة العرس كما دل عليه حديث ابن عمر الذي قبله يعني في تخصيص الأمر بالإتيان بالدعاء إلى الوليمة. وقال الكرماني: قوله: "الداعي" عام، وقد قال الجمهور تجب في وليمة النكاح وتستحب في غيرها فيلزم استعمال اللفظ في الإيجاب والندب وهو ممتنع قال والجواب أن الشافعي أجازه، وحمله غيره على عموم المجاز ا ه. ويحتمل أن يكون هذا اللفظ وإن كان عاما فالمراد به خاص، وأما استحباب إجابة طعام غير العرس فمن دليل آخر. حديث البراء بن عازب "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا - وفي آخره - وإجابة الداعي" أورده من طريق أبي الأحوص عن الأشعث وهو ابن أبي الشعثاء سليم المحاربي ثم قال بعده "تابعه أبو عوانة والشيباني عن أشعث في إفشاء السلام" فأما متابعة أبي عوانة فوصلها المؤلف في الأشربة عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة عن أشعث بن سليم به، وأما متابعة الشيباني وهو أبو إسحاق فوصلها المؤلف في كتاب الاستئذان عن قتيبة عن جرير عن الشيباني عن أشعث بن أبي الشعثاء به، وسيأتي شرحه مستوفى في أواخر كتاب الأدب إن شاء الله تعالى، وقد أخرجه في مواضع أخرى من غير رواية هؤلاء الثلاثة فذكره بلفظ: "رد السلام" بدل إفشاء السلام فهذه نكتة الاقتصار. حديث سهل بن سعد. قوله: "حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه" في رواية المستملي عن أبي حازم، وذكر الكرماني أنه وقع في رواية عن عبد العزيز بن أبي حازم عن سهل، وهو سهو إذ لا بد من واسطة بينهما إما أبوه أو غيره، قلت: لعل الرواية عن عبد العزيز عن أبي حازم فتصحفت "عن" فصارت "ابن" وسيأتي شرح الحديث بعد خمسة أبواب.

(9/244)


73- باب مَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ
5177- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله" أورد فيه حديث ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أنه كان يقول: "شر الطعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله" حديث ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أنه كان يقول: "شر الطعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله" ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق معن بن عنسي عن مالك "المساكين" بدل الفقراء، وأول هذا الحديث موقوف ولكن آخره يقتضي رفعه، ذكر ذلك ابن بطال قال: ومثله حديث أبي الشعثاء "أن أبا هريرة أبصر رجلا خارجا من المسجد بعد الأذان فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم" قال: ومثل هذا لا يكون رأيا، ولهذا أدخله الأئمة في مسانيدهم انتهى. وذكر ابن عبد البر أن جل رواة مالك لم يصرحوا برفعه. وقال فيه روح بن القاسم عن مالك بسنده "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" انتهى. وكذا أخرجه الدار قطني في "غرائب مالك" من طريق إسماعيل بن مسلمة ابن قعنب عن مالك، وقد أخرجه مسلم من رواية معمر وسفيان بن عيينة عن الزهري شيخ مالك كما قال مالك ومن

(9/244)


رواية أبي الزناد عن الأعرج كذلك، والأعرج شيخ الزهري فيه هو عبد الرحمن كما وقع في رواية سفيان قال: "سألت الزهري فقال: حدثني عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة" فذكره. ولسفيان فيه شيخ آخر بإسناد آخر إلى أبي هريرة صرح فيه برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم أيضا من طريق سفيان "سمعت زياد بن سعد يقول سمعت ثابتا الأعرج يحدث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" فذكر نحوه، وكذا أخرجه أبو الشيخ من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا صريحا. وأخرج له شاهدا من حديث ابن عمر كذلك، والذي يظهر أن اللام في "الدعوة" للعهد من الوليمة المذكورة أولا، وقد نقدم أن الوليمة إذا أطلقت حملت على طعام العرس بخلاف سائر الولائم فإنها تقيد، وقوله: "يدعى لها الأغنياء" أي أنها تكون شر الطعام إذا كانت بهذه الصفة، ولهذا قال ابن مسعود "إذا خص الغني وترك الفقير أمرنا أن لا نجيب" قال قال ابن بطال: وإذا ميز الداعي بين الأغنياء والفقراء فأطعم كلا على حدة لم يكن به بأس، وقد فعله ابن عمر. وقال البيضاوي "من" مقدرة كما يقال: "شر الناس من أكل وحده" أي من شرهم، وإنما سماه شرا لما ذكر عقبه فكأنه قال: شر الطعام الذي شأنه كذا. وقال الطيبي: اللام في الوليمة للعهد الخارجي، إذ كان من عادة الجاهلية أن يدعوا الأغنياء ويتركوا الفقراء. وقوله: "يدعى إلخ" استئناف وبيان لكونها شر الطعام، وقوله: "ومن ترك إلخ" حال والعامل يدعى، أي يدعى الأغنياء والحال أن الإجابة واجبة فيكون دعاؤه سببا لأكل المدعو شر الطعام، ويشهد له ما ذكره ابن بطال أن ابن حبيب روى عن أبي هريرة أنه كان يقول: أنتم العاصون في الدعوة، تدعون من لا يأتي وتدعون من يأتي، يعني بالأول الأغنياء وبالثاني الفقراء. قوله: "شر الطعام" في رواية مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك "بئس الطعام" والأول رواية الأكثر، وكذا في بقية الطرق. قوله: "يدعى لها الأغنياء" في رواية ثابت الأعرج "يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها" والجملة في موضع الحال لطعام الوليمة؛ فلو دعا الداعي عاما لم يكن طعامه شر الطعام. ووقع في رواية للطبراني من حديث ابن عباس "بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الشبعان ويحبس عنه الجيعان". قوله: "ومن ترك الدعوة" أي ترك إجابة الدعوة. وفي رواية ابن عمر المذكورة "ومن دعي فلم يجب" وهو تفسير للرواية الأخرى. قوله: "فقد عصى الله ورسوله" هذا دليل وجوب الإجابة، لأن العصيان لا يطلق إلا على ترك الواجب. ووقع في رواية لابن عمر عند أبي عوانة "من دعي إلى وليمة فلم يأتها فقد عصى الله ورسوله"

(9/245)


باب من دعى الى كراع
...
74- باب مَنْ أَجَابَ إِلَى كُرَاعٍ
5178- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لاَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ"
قوله: "باب من أجاب إلى كراع" بضم الكاف وتخفيف الراء وآخره عين مهملة: هو مستدق الساق من الرجل ومن حد الرسغ من اليد، وهو من البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس والبعير، وقيل الكراع ما دون الكعب من الدواب. وقال ابن فارس: كراع كل شيء طرفه. قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان، وأبو حمزة بالمهملة والزاي هو اليشكري. قوله: "عن أبي حازم" تقدم في الهبة من رواية شعبة عن الأعمش، وهو لا يروي عن مشايخه إلا ما ظهر له سماعهم فيه وأبو حازم هذا هو سلمان بسكون اللام مولى عزة بفتح المهملة وتشديد

(9/245)


الزاي، ووهم من زعم أنه سلمة بن دينار الراوي عن سهل بن سعد المقدم ذكره قريبا، فإنهما وإن كانا مدنيين لكن راوي حديث الباب أكبر من ابن دينار. قوله: "ولو أهدي إلي كراع لقبلت" كذا للأكثر من أصحاب الأعمش، وتقدم في الهبة من طريق شعبة عن الأعمش بلفظ: "ذراع وكراع" بالتغيير، والذراع أفضل من الكراع، وفي المثل "أنفق العبد كراعا وطلب ذراعا" وقد زعم بعض الشراح وكذا وقع للغزالي أن المراد بالكراع في هذا الحديث المكان المعروف بكراع الغميم بفتح المعجمة هو موضع بين مكة والمدينة تقدم ذكره في المغازي، وزعم أنه أطلق ذلك على سبيل المبالغة في الإجابة ولو بعد المكان، لكن المبالغة في الإجابة مع حقارة الشيء أوضح في المراد، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن المراد بالكراع هنا كراع الشاة، وقد تقدم توجيه ذلك في أوائل الهبة في حديث: "يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" وأغرب الغزالي في "الإحياء" فذكر الحديث بلفظ: "ولو دعيت إلى كراع الغميم" ولا أصل لهذه الزيادة. وقد أخرج الترمذي من حديث أنس وصححه مرفوعا: "لو أهدي إلي كراع لقبلت، ولو دعيت لمثله لأجبت" وأخرج الطبراني من حديث أم حكيم بنت وادع أنها "قالت يا رسول الله أتكره الهدية؟ فقال: ما أقبح رد الهدية" فذكر الحديث، ويستفاد سببه من هذه الرواية. وفي الحديث دليل على حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وتواضعه وجبره لقلوب الناس، وعلى قبول الهدية وإجابة من يدعو الرجل إلى منزله ولو علم أن الذي يدعوه إليه شيء قليل، قال المهلب: لا يبعث على الدعوة إلى الطعام إلا صدق المحبة وسرور الداعي بأكل المدعو من طعامه والتحبب إليه بالمؤاكلة وتوكيد الذمام معه بها، فلذلك حض صلى الله عليه وسلم على الإجابة ولو نزر المدعو إليه. وفيه الحض على المواصلة والتحاب والتآلف، وإجابة الدعوة لما قل أو كثر، وقبول الهدية كذلك

(9/246)


75- باب إِجَابَةِ الدَّاعِي فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ
5179- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ لَهَا قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَأْتِي الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِ الْعُرْسِ وَهُوَ صَائِمٌ"
قوله: "باب إجابة الداعي في العرس وغيره" ذكر فيه حديث ابن عمر "أجيبوا هذه الدعوة" وهذه اللام يحتمل أن تكون للعهد، والمراد وليمة العرس، ويؤيده رواية ابن عمر الأخرى "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" وقد تقرر أن الحديث الواحد إذا تعددت ألفاظه وأمكن حمل بعضها على بعض تعين ذلك، ويحتمل أن تكون اللام للعموم وهو الذي فهمه راوي الحديث فكان يأتي الدعوة للعرس ولغيره. قوله: "حدثنا علي بن عبد الله بن إبراهيم" هو البغدادي، أخرج عنه البخاري هنا فقط، وقد تقدم في فضائل القرآن روايته عن علي بن إبراهيم عن روح بن عبادة فقيل: هو هذا نسبه إلى جده، وقيل غيره كما تقدم بيانه، وذكر أبو عمرو والمستملي أن البخاري لما حدث عن علي بن عبد الله بن إبراهيم هذا سئل عنه فقال: متقن. قوله: "عن نافع" في رواية فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة "حدثني نافع" أخرجه الإسماعيلي. قوله: "قال كان عبد الله" القائل هو نافع وقد أخرج مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن عبد الله ابن عمر العمري عن نافع بلفظ: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة

(9/246)


عرس فليجب" وأخرجه مسلم وأبو داود من طريق أيوب عن نافع بلفظ: "إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه" ولمسلم من طريق الزبيدي عن نافع بلفظ: "من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب" وهذا يؤيد ما فهمه ابن عمر وأن الأمر بالإجابة لا يختص بطعام العرس، وقد أخذ بظاهر الحديث بعض الشافعية فقال بوجوب الإجابة إلى الدعوة مطلقا عرسا كان أو غيره بشرطه؛ ونقله ابن عبد البر عن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين، ويعكر عليه ما نقلناه عن عثمان بن أبي العاص وهو من مشاهير الصحابة أنه قال في وليمة الختان لم يكن يدعى لها، لكن يمكن الانفصال عنه بأن ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دعوا، وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه دعا بالطعام فقال رجل من القوم: اعفني، فقال ابن عمر: إنه لا عافية لك من هذا، فقم. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عباس أن ابن صفوان دعاه فقال: إني مشغول، وإن لم تعفني جئته. وجزم بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح المالكية والحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية؛ وبالغ السرخسي منهم فنقل فيه الإجماع، ولفظ الشافعي: إتيان دعوة الوليمة حق، والوليمة التي تعرف وليمة العرس، وكل دعوة دعي إليها رجل وليمة فلا أرخص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبين أنه عاص في تركها كما تبين لي في وليمة العرس. قوله: "في العرس وغير العرس وهو صائم" في رواية مسلم عن هارون بن عبد الله عن حجاج بن محمد "ويأتيها وهو صائم" ولأبي عوانة من وجه آخر عن نافع "وكان ابن عمر يجيب صائما ومفطرا" ووقع عند أبي داود من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع في آخر الحديث المرفوع "فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما فليدع" ولمسلم من حديث أبي هريرة "فإن كان صائما فليصل" ووقع في رواية هشام بن حسان في آخره: "والصلاة الدعاء" وهو من تفسير هشام راويه، ويؤيده الرواية الأخرى، وحمله بعض الشراح على ظاهره فقال: إن كان صائما فليشتغل بالصلاة ليحصل له فضلها، ويحصل لأهل المنزل والحاضرين بركتها. وفيه نظر لعموم قوله: "لا صلاة بحضرة طعام" لكن يمكن تخصيصه بغير الصائم، وقد تقدم في "باب حق إجابة الوليمة" أن أبي بن كعب لما حضر الوليمة وهو صائم أثنى ودعا، وعند أبي عوانة من طريق عمر بن محمد عن نافع: كان ابن عمر إذ ادعى أجاب، فإن كان مفطرا أكل، إن كان صائما دعا لهم وبرك ثم انصرف. وفي الحضور فوائد أخرى كالتبرك بالمدعو والتجمل به والانتفاع بإشارته والصيانة عما لا يحصل له الصيانة لو لم يحضر، وفي الإخلال بالإجابة تفويت ذلك، ولا يخفى ما يقع للداعي من ذلك من التشويش، وعرف من قوله: "فليدع لهم" حصول المقصود من الإجابة بذلك وأن المدعو لا يجب عليه الأكل، وهل يستحب له أن يفطر إن كان صومه تطوعا؟ قال أكثر الشافعية وبعض الحنابلة: إن كان يشق على صاحب الدعوة صومه فالأفضل الفطر وإلا فالصوم، وأطلق الروياني وابن الفراء استحباب الفطر، وهذا على رأي من يجوز الخروج من صوم النفل، وأما من يوجبه فلا يجوز عنده الفطر كما في صوم الفرض، ويبعد إطلاق استحباب الفطر مع وجود الخلاف ولا سيما إن كان وقت الإفطار قد قرب. ويؤخذ من فعل ابن عمر أن الصوم ليس عذرا في ترك الإجابة ولا سيما مع ورود الأمر للصائم بالحضور والدعاء، نعم لو اعتذر به المدعو فقبل الداعي عذره لكونه يشق عليه أن لا يأكل إذا حضر أو لغير ذلك كان ذلك عذرا له في التأخر. ووقع في حديث جابر عند مسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك" فيؤخذ منه أن المفطر ولو حضر لا يجب عليه الأكل، وهو أصح الوجهين

(9/247)


عند الشافعية. وقال ابن الحاجب في مختصره: ووجوب أكل المفطر محتمل، وصرح الحنابلة بعدم الوجوب، واختار النووي الوجوب، وبه قال أهل الظاهر، والحجة لهم قوله في إحدى روايات ابن عمر عند مسلم: "فإن كان مفطرا فليطعم" قال النووي: وتحمل رواية جابر على من كان صائما، ويؤيده رواية ابن ماجه فيه بلفظ: "من دعي إلى طعام وهو صائم فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك" ويتعين حمله على من كان صائما نفلا، ويكون فيه حجة لمن استحب له أن يخرج من صيامه لذلك، ويؤيده ما أخرجه الطيالسي والطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد قال: "دعا رجل إلى طعام، فقال رجل: إني صائم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخاكم وتكلف لكم، أفطر وصم يوما مكانه إن شئت" في إسناده واو ضعيف لكنه توبع، والله أعلم.

(9/248)


76- باب ذَهَابِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِلَى الْعُرْسِ
5180- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَبْصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءً وَصِبْيَانًا مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ فَقَامَ مُمْتَنًّا فَقَالَ اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ"
قوله: "باب ذهاب النساء والصبيان إلى العرس" كأنه ترجم بهذا لئلا يتخيل أحد كراهة ذلك، فأراد أنه مشروع بغير كراهة. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن المبارك" هو العيشي بالتحتانية والشين، وليس هو أخا عبد الله بن المبارك المشهور، وعبد الوارث هو ابن سعيد، والإسناد كله بصريون. قوله : "فقام ممتنا" بضم الميم بعدها ميم ساكنة ومثناة مفتوحة ونون ثقيلة بعدها ألف، أي قام قياما قويا، مأخوذ من المنة بضم الميم وهي القوة، أي قام إليهم مسرعا مشتدا في ذلك فرحا بهم. وقال أبو مروان بن سراج ورجحه القرطبي أنه من الامتنان لأن من قام له النبي صلى الله عليه وسلم وأكرمه بذلك فقد امتن عليه بشيء لا أعظم منه، قال: ويؤيده قوله بعد ذلك "أنتم أحب الناس إلي" ونقل ابن بطال عن القابسي قال: قوله: "ممتنا" يعني متفضلا عليهم بذلك، فكأنه قال: يمتن عليهم بمحبته. ووقع في رواية أخرى "متينا" بوزن عظيم، أي قام قياما مستويا منتصبا طويلا، ووقع في رواية ابن السكن "فقام يمشي" قال عياض: وهو تصحيف. قلت: ويؤيد التأويل الأول ما تقدم في "فضائل الأنصار" عن أبي معمر عن عبد الوارث بسند حديث الباب بلفظ: "فقام ممثلا" بضم أوله وسكون الميم الثانية بعدها مثلثة مكسورة وقد تفتح، وضبط أيضا بفتح الميم الثانية وتشديد المثلثة والمعنى منتصبا قائما، قال ابن التين: كذا وقع في البخاري، والذي في اللغة: مثل بفتح أوله وضم المثلثة وبفتحها قائما يمثل بضم المثلثة مثولا فهو ماثل إذا انتصب قائما، قال عياض: وجاء هنا ممثلا يعني بالتشديد أي مكلفا نفسه ذلك ا هـ. ووقع في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن إبراهيم بن الحجاج عن عبد الوارث "فقام النبي صلى الله عليه وسلم لهم مثيلا" بوزن عظيم وهو فعيل من ماثل، وعن إبراهيم بن هاشم عن إبراهيم ابن الحجاج مثله وزاد: "يعني ماثلا". قوله: "اللهم أنتم من أحب الناس إلي" زاد في رواية أبي معمر "قالها ثلاث مرات" وتقديم لفظ اللهم يقع للتبرك أو للاستشهاد بالله في صدقه، ووقع في رواية مسلم من طريق ابن علية عن عبد العزيز "اللهم إنهم" والباقي مثله وأعادها ثلاث مرات، وقد اتفقا كما تقدم في

(9/248)


فضائل القرآن على رواية هشام بن زيد عن أنس "جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها صبي لها فكلمها وقال: والذي نفسي بيده إنكم لأحب الناس إلي مرتين" وفي رواية تأتي في كتاب النذور "ثلاث مرات" و "من" في هذه الرواية مقدرة بدليل رواية حديث الباب.

(9/249)


77 - باب هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِي الدَّعْوَةِ
وَرَأَى أَبُو مَسْعُودٍ صُورَةً فِي الْبَيْتِ فَرَجَعَ وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ أَبَا أَيُّوبَ فَرَأَى فِي الْبَيْتِ سِتْرًا عَلَى الْجِدَارِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ فَقَالَ مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا فَرَجَعَ
5181- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مَاذَا أَذْنَبْتُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ قَالَتْ فَقُلْتُ اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا" فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ وَقَالَ إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ الْمَلاَئِكَةُ"
قوله: "باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة" هكذا أورد الترجمة بصورة الاستفهام، ولم يبت الحكم لما قيها من الاحتمال كما سأبينه إن شاء الله تعالى. قوله: "ورأى ابن مسعود صورة في البيت فرجع" كذا في رواية المستملي والأصيلي والقابسي وعبدوس. وفي رواية الباقي "أبو مسعود" والأول تصحيف فيما أظن فإنني لم أر الأثر المعلق إلا عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، وأخرجه البيهقي من طريق عدي بن ثابت عن خالد بن سعد عن أبي مسعود "أن رجلا صنع طعاما فدعاه فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم. فأبى أن يدخل حتى تكسر الصورة" وسنده صحيح. وخالد بن سعد هو مولى أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري ولا أعرف له عن عبد الله بن مسعود رواية، ويحتمل أن يكون ذلك وقع لعبد الله بن مسعود أيضا لكن لم أقف عليه. قوله: "ودعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت سترا على الجدار فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء. فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاما. فرجع" وصله أحمد في "كتاب الورع" ومسدد في مسنده ومن طريقه الطبراني من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: "أعرست في عهد أبي، فآذن أبي الناس، فكان أبو أيوب فيمن آذنا وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه فقال: يا عبد الله أتسترون الجدر؟ فقال أبي واستحيا: غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب، فقال: من خشيت أن تغلبه النساء" فذكره ووقع لنا من وجه آخر من طريق الليث عن بكير ابن عبد الله بن الأشج عن سالم بمعناه وفيه: "فأقبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون الأول فالأول، حتى أقبل أبو أيوب" وفيه: "فقال عبد الله: أقسمت عليك لترجعن، فقال: وأنا أعزم على نفسي أن لا أدخل يومي هذا، ثم انصرف" وقد وقع نحو ذلك لابن عمر فيما بعد فأنكره وأزال ما أنكر ولم يرجع كما صنع أبو أيوب، فروينا في "كتاب الزهد لأحمد" من طريق عبد الله بن عتبة قال: "دخل ابن عمر

(9/249)


بيت رجل دعاه إلى عرس فإذا بيته قد ستر بالكرور، فقال ابن عمر: يا فلان متى تحولت الكعبة في بيتك؟ ثم قال لنفر معه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: ليهتك كل رجل ما يليه". وأخرج ابن وهب ومن طريقه البيهقي "أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر دعي لعرس فرأى البيت قد ستر فرجع، فسئل فذكر قصة أبي أيوب". ثم ذكر المصنف حديث عائشة في الصور وسيأتي شرحه وبيان حكم الصور مستوفى في كتاب اللباس، وموضع الترجمة منه قولها "قام على الباب فلم يدخل" قال ابن بطال: فيه أنه لا يجوز الدخول في الدعوة يكون فيها منكر مما نهى الله ورسوله عنه لما في ذلك من إظهار الرضا بها، ونقل مذاهب القدماء في ذلك، وحاصله إن كان هناك محرم وقدر على إزالته فأزاله فلا بأس، وإن لم يقدر فليرجع، وإن كان مما يكره كراهة تنزيه فلا يخفى الورع، ومما يؤيد ذلك ما وقع في قصة ابن عمر من اختلاف الصحابة في دخول البيت الذي سترت جدره، ولو كان حراما ما قعد الذين قعدوا ولا فعله ابن عمر، فيحمل فعل أبي أيوب على كراهة التنزيه جمعا بين الفعلين، ويحتمل أن يكون أبو أيوب كان يرى التحريم والذين لم ينكروا كانوا يرون الإباحة، وقد فصل العلماء ذلك على ما أشرت إليه، قالوا إن كان لهوا مما اختلف فيه فيجوز الحضور، والأولى الترك. وإن كان حراما كشرب الخمر نظر فإن كان المدعو ممن إذا حضر رفع لأجله فليحضر، وإن لم يكن كذلك ففيه للشافعية وجهان: أحدهما يحضر وينكر بحسب قدرته، وإن كان الأولى أن لا يحضر. قال البيهقي: وهو ظاهر نص الشافعي، وعليه جرى العراقيون من أصحابه. وقال صاحب "الهداية" من الحنفية: لا بأس أن يقعد ويأكل إذا لم يكن يقتدى به، فإن كان ولم يقدر على منعهم فليخرج لما فيه من شين الدين وفتح باب المعصية. وحكي عن أبي حنيفة أنه قعد، وهو محمول على أنه وقع له ذلك قبل أن يصير مقتدى به، قال: وهذا كله بعد الحضور، فإن علم قبله لم تلزمه الإجابة، والوجه الثاني للشافعية تحريم الحضور لأنه كالرضا بالمنكر وصححه المراوزة، فإن لم يعلم حتى حضر فلينههم، فإن لم ينتهوا فليخرج إلا إن خاف على نفسه من ذلك، وعلى ذلك جرى الحنابلة. وكذا اعتبر المالكية في وجوب الإجابة أن لا يكون هناك منكر، وإذا كان من أهل الهيئة لا ينبغي له أن يحضر موضعا فيه لهو أصلا حكاه ابن بطال وغيره عن مالك، ويؤيد منع الحضور حديث عمران بن حصين "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين" أخرجه الطبراني في "الأوسط"، ويؤيده مع وجود الأمر المحرم ما أخرجه النسائي من حديث جابر مرفوعا: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر" وإسناده جيد، وأخرجه الترمذي من وجه آخر فيه ضعف عن جابر، وأبو داود من حديث ابن عمر بسند فيه انقطاع، وأحمد من حديث عمر. وأما حكم ستر البيوت والجدران ففي جوازه اختلاف قديم، وجزم جمهور الشافعية بالكراهة، وصرح الشيخ أبو نصر المقدسي منهم بالتحريم، واحتج بحديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين، وجذب الستر حتى هتكه" وأخرجه مسلم. قال البيهقي هذه اللفظة تدل على كراهة ستر الجدار، وإن كان في بعض ألفاظ الحديث أن المنع كان بسبب الصورة. وقال غيره: ليس في السياق ما يدل على التحريم، وإنما فيه نفي الأمر لذلك، ونفي الأمر لا يستلزم ثبوت النهي، لكن يمكن أن يحتج بفعله صلى الله عليه وسلم في هتكه. وجاء النهي عن ستر الجدر صريحا، منها في حديث ابن عباس عند أبي داود وغيره: "ولا تستروا الجدر بالثياب" وفي إسناده ضعف، وله شاهد مرسل عن علي بن الحسين أخرجه ابن وهب ثم البيهقي من طريقه، وعند سعيد بن منصور من حديث سلمان موقوفا "أنه أنكر ستر البيت وقال: أمحموم بيتكم أو تحولت الكعبة

(9/250)


عندكم؟ قال لا أدخله حتى يهتك" وتقدم قريبا خبر أبي أيوب وابن عمر في ذلك. وأخرج الحاكم والبيهقي من حديث محمد بن كعب عن عبد الله بن يزيد الخطمي أنه رأى بيتا مستورا فقعد وبكى وذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "كيف بكم إذا سترتم بيوتكم" الحديث وأصله في النسائي.

(9/251)


78- باب قِيَامِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرِّجَالِ فِي الْعُرْسِ وَخِدْمَتِهِمْ بِالنَّفْسِ
5182- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ لَمَّا عَرَّسَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلاَ قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ إِلاَّ امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ بَلَّتْ تَمَرَاتٍ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الطَّعَامِ أَمَاثَتْهُ لَهُ فَسَقَتْهُ تُتْحِفُهُ بِذَلِكَ"
قوله: "باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس" أي بنفسها، ذكر فيه حديث سهل بن سعد في قصة عرس أبي أسيد، وترجم عليه في الذي بعده "النقيع والشراب الذي لا يسكر في العرس" وتقدم قبل أبواب في "إجابة الدعوة" قوله: "عن سهل" في الرواية التي بعدها "سمعت سهل بن سعد". قوله: "لما عرس" كذا وقع بتشديد الراء، وقد أنكره الجوهري فقال: أعرس ولا تقل عرس. قوله: "أبو أسيد" في الرواية الماضية "دعا أبو أسيد النبي صلى الله عليه وسلم في عرسه" وزاد في هذه الرواية: "وأصحابه" ولم يقع ذلك في الروايتين الأخريين. قوله: "فما صنع لهم طعاما ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد" بضم الهمزة، وهي ممن وافقت كنيتها كنية زوجها، واسمها سلامة بنت وهيب. قوله: "بلت تمرات" بموحدة ثم لام ثقيلة أي أنقعت كما في الرواية التي بعدها، وإنما ضبطته لأني رأيته في شرح ابن التين "ثلاث" بلفظ العدد وهو تصحيف، وزاد في الرواية التي بعدها "فقالت أو قال:" كذا بالشك لغير الكشميهني وله "فقالت أو ما تدرون" بالجزم وتقدم في الرواية الماضية "قال سهل" وهي المعتمدة، فالحديث من رواية سهل وليس لأم أسيد فيه رواية، وعلى هذا فقوله: "أتدرون ما أنقعت" يكون بفتح العين وسكون التاء في الموضعين، وعلى رواية الكشميهني يكون بسكون العين وضم التاء. قوله: "في تور" بالمثناة إناء يكون من نحاس وغيره، وقد بين هنا أنه كان من حجارة. قوله: "أماثته" بمثلثة ثم مثناة، قال ابن التين: كذا وقع رباعيا وأهل اللغة يقولونه ثلاثيا "ماثته" بغير ألف أي مرسته بيدها، يقال ماثه يموثه ويميثه بالواو وبالياء وقال الخليل: مثت الملح في الماء ميثا أذبته وقد انماث هو ا هـ، وقد أثبت الهروي اللغتين ماثه وأماثه ثلاثيا ورباعيا. قوله: "تحفة بذلك" كذا للمستملي والسرخسي تحفة بوزن لقمة، وللأصيلي مثله، وعنه بوزن تخصه، وهو كذلك لابن السكن بالخاء والصاد الثقيلة، وكذا هو لمسلم. وفي رواية الكشميهني أتحفته بذلك. في رواية. النسفي تتحفه بذلك. وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة ومراعاة ما يجب عليها من الستر، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك، وشرب ما لا يسكر في الوليمة، وفيه جواز إيثار كبير القوم في الوليمة بشيء دون من معه

(9/251)


79- باب النَّقِيعِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لاَ يُسْكِرُ فِي الْعُرْسِ
5183- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري عن أبي حازم قال سمعت سهل

(9/251)


80- بَاب الْمُدَارَاةِ مَعَ النِّسَاءِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ
5184- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا وَإِنْ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ"
قوله: "عن أبي الزناد عن الأعرج" في رواية سعيد بن داود عن الدار قطني في "الغرائب" عن مالك "أخبرني أبو الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز وهو الأعرج أخبره أنه سمع أبا هريرة" وساق المتن بنحو لفظ سفيان لكن قال: "على خليقة واحدة إنما هي كالضلع" الحديث. ووقع لنا بلفظ المداراة من حديث سمرة رفعه: "خلقت المرأة من ضلع، فإن تقمها تكسرها، فدارها تعش بها" أخرجه ابن حبان والحاكم والطبراني في الأوسط وقوله: "وفيها عوج" بكسر العين وفتح الواو بعدها جيم للأكثر وبالفتح لبعضهم. وقال أهل اللغة: العوج بالفتح في كل منتصب كالحائط والعود وشبهه، وبالكسر ما كان في بساط أو أرض أو معاش أو دين. ونقل ابن قرقول عن أهل اللغة أن الفتح في الشخص المرئي والكسر فيما ليس بمرئي. وقال القرطبي: بالفتح في الأجسام وبالكسر في المعاني، وهو نحو الذي قبله. وانفرد أبو عمرو الشيباني فقال: كلاهما بالكسر ومصدرهما بالفتح.

(9/252)


81- باب الْوَصَاةِ بِالنِّسَاءِ
5185- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلاَ يُؤْذِي جَارَهُ..."
[الحديث 5185- أطرافه في: 6018، 6136، 6138، 6475]

(9/252)


يسأل عما عهد قالت السادسة زوجي إن أكل لف وإن شرب اشتف وإن اضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البث قالت السابعة زوجي غياياء أو عياياء طباقاء كل داء له داء شجك أو فلك أو جمع كلا لك قالت الثامنة زوجي المس مس أرنب والريح ريح زرنب قالت التاسعة زوجي رفيع النجاد عظيم الرماد قريب البيت من الناد قالت العاشرة زوجي مالك وما مالك مالك خير من ذلك له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح وإذا المزهر أيقن أنهن هوالك قالت الحادية عشرة زوجي أبو زرع فما أبو زرع أناس من حلي أذني وملأ من شحم عضدي وبجحني فبجحت إلى نفسي وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق فعنده أقول فلا أقبح وأرقد فأتصبح وأشرب فأتقنح أم أبي زرع فما أم أبي زرع عكومها رداح وبيتها فساح بن أبي زرع فما بن أبي زرع مضجعه كمسل شطبة ويشبعه ذراع الجفرة بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها وملء كسائها وغيظ جارتها جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنفث ميرتنا تنقيثا ولا تملأ بيتنا تعشيشا قالت خرج أبو زرع والأوطاب تمخض فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين فطلقني ونكحها فنكحت بعده رجلا سريا ركب شريا وأخذ خطيا وأراح علي نعما ثريا وأعطاني من كل رائحة زوجا وقال كلي أم زرع وميري أهلك قالت فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت لك كأبي زرع لأم زرع قال أبو عبد الله قال سعيد بن سلمة عن هشام ولا تعشش بيتنا تعشيشا قال أبو عبد الله وقال بعضهم فأتقمح بالميم وهذا أصح"
5190- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فَسَتَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَنْظُرُ فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ تَسْمَعُ اللَّهْوَ"
قوله: "باب حسن المعاشرة مع الأهل" قال ابن المنير: نبه بهذه الترجمة على أن إيراد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحكاية - يعني حديث أم زرع - ليس خليا عن فائدة شرعية، وهي الإحسان في معاشرة الأهل. قلت: وليس فيما ساقه البخاري التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أورد الحكاية، وسيأتي بيان الاختلاف في رفعه ووقفه، وليست الفائدة من الحديث محصورة فيما ذكر، بل سيأتي له فوائد أخرى: منها ما ترجم عليه النسائي والترمذي، وقد شرح حديث أم زرع إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري، روينا ذلك في جزء إبراهيم ابن ديزيل الحافظ من روايته عنه، وأبو

(9/255)


عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث:" وذكر أنه نقل عن عدة من أهل العلم لا يحفظ عددهم، وتعقب عليه فيه مواضع أبو سعيد الضرير النيسابوري وأبو محمد بن قتيبة كل منهما في تأليف مفرد، والخطابي في "شرح البخاري" وثابت بن قاسم، وشرحه أيضا الزبير بن بكار ثم أحمد بن عبيد بن ناصح ثم أبو بكر بن الأنباري ثم إسحاق الكاذي في جزء مفرد وذكر أنه جمعه عن يعقوب بن السكيت وعن أبي عبيدة وعن غيرهما، ثم أبو القاسم عبد الحكيم بن حبان المصري ثم الزمخشري في "الفائق" ثم القاضي عياض وهو أجمعها وأوسعها، وأخذ منه غالب الشراح بعده وقد لخصت جميع ما ذكروه. قوله حدثنا سليمان بن عبد الرحمن في رواية أبي ذر حدثني وهو المعروف بابن بنت شرحبيل الدمشقي وعلى بن حجر بضم المهملة وسكون الجيم ونصف بن يونس أي بن أبي إسحاق السبيعي ووقع منسوبا كذلك عن الإسماعيلي قوله حدثنا هشام بن عروة عن عبد الله بن عروة في رواية مسلم وأبي يعلى عن أحمد بن جناب بجيم ونون خفيفة عن عيسى بن يونس عن هشام أخبرني أخي عبد الله بن عروة وهذا من نوادر ما وقع لهشام بن عروة في حديثه عن أبيه حيث ادخل بينهما أخا له واسطة ومثله ما سيأتي في اللباس من طريق وهيب عن هشام بن عروة عن أخيه عثمان عن عروة ومضت له في رواية بواسطة اثنين بينه وبين أبيه ولم يختلف علي عيسى بن يونس في إسناده وسياقه لكن حكى عياض عن أحمد بن داود الحراني أنه رواه عن عيسى فقال في أوله عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وساقه بطوله مرفوعا كله وكذا حكاه أبو عبيد أنه بلغه عن عيسى بن يونس وتابع عيسى بن يونس على رواية مفصلا فيما حكاه الخطيب سويد بن عبد العزيز وكذا سعيد بن سلمة عن أبي الحسام كلاهما عن هشام وستأتي روايته تعليقا وأذكر من وصلها من شرح الحديث وخالفهم الهيثم بن عدي فيما أخرجه الدارقطني في الجزء الثاني من الأفراد فرواه عن هشام بن عروة عن أخيه يحيى بن عروة عن أبيه وخطأه الدارقطني في العلل وصوب أنه عبد الله بن عروة وقال عقبة بن خالد وعباد بن منصور وروايتهما ثم النسائي والدراوردي وعبد الله بن مصعب وروايتهما ثم الزبير بن بكار وأبو أويس فيما أخرجه ابنه عنه وعبد الرحمن بن أبي الزناد وروايته ثم الطبراني وأبو معاوية وروايته ثم أبي عوانة في صحيحه كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه بغير واسطة وأدخل بينهما واسطة أيضا عقبة بن خالد أيضا فرواه عن هشام بن عروة عن يزيد بن رومان عن عروة لكن اقتصر على المرفوع وبين ذلك البزار قال الدارقطني وليس ذلك بمدفوع فقد رواه أبو أويس أيضا وإبراهيم بن أبي يحيى عن يزيد بن رومان اه ورواه عن عروة أيضا حفيده عمر بن عبد الله بن عروة وأبو الزناد وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الا أنه كان يقتصر على المرفوع منه وينكر على هشام بن عروة سياقه بطوله ويقول إنما كان عروة يحدثنا بذلك في السفر بقطعة منه ذكره أبو عبيد الآجري في اسئلته عن أبي داود قلت ولعل هذا هو السبب في ترك أحمد تخريجه في مسنده مع كبره وقد حدث به الطبراني عن عبد الله بن أحمد لكن أبيه وقال إذنه قال أبو الأسود لم يرفعه الا هشام بن عروة قلت المرفوع منه في الصحيحين "كنت لك كأبي زرع لام زرع" وباقيه من قول عائشة وجاء خارج الصحيح مرفوعا كله من رواية عباد بن منصور ثم النسائي وساقه بسياق لا يقبل التأويل ولفظه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت لك كأبي زرع لأم زرع قالت عائشة بأبي وأمي يا رسول الله ومن كان أبو زرع قال اجتمع نساء فساق الحديث كله وجاء مرفوعا أيضا من رواية عبد الله

(9/256)


بن مصعب والدراوردي ثم الزبير بن بكار وكذا رواه أبو معشر عن هشام وغيره من أهل المدينة عن عروة وهي رواية الهيثم بن عدي أيضا وكذا أخرجه النسائي من رواية القاسم بن عبد الواحد عن عمر بن عبد الله بن عروة وقد قدمت ذكر رواية أحمد بن داود عن عيسى بن يونس كذلك قال عياض وكذا ظاهر رواية حنبل بن إسحاق عن موسى بن إسماعيل عن سعيد بن سلمة بسنده المتقدم فإن أوله عنده قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "كنت لك كأبي زرع لام زرع" ثم أنشأ يحدث حديث أم زرع قال عياض يحتمل أن يكون فاعل أنشأ هو عروة فلا يكون مرفوعا وأخذ القرطبي هذا الاحتمال فجزم به وزعم أن ما عداه وهم وسبقه إلى ذلك بن الجوزي لكن يعكر عليه أن في بعض الإشارة الصحيحة ثم أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث وذلك في رواية القاسم بن عبد الواحد التي أشرت إليها ولفظه "كنت لك كأبي زرع لام زرع" ثم أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث فانتفي الاحتمال ويقوى رفع جميعه أن التشبيه المتفق على رفعه يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سمع القصة وعرفها فأقرها فيكون كله مرفوعا من هذه الحيثية ويكون المراد بقول الدارقطني والخطيب وغيرهما من النقاد أن المرفوع منه ما ثبت في الصحيحين والباقي موقوف من قول عائشة هو أن الذي تلفظ به النبي صلى الله وسلم لما سمع القصة من عائشة هو التشبيه فقط ولم يريدوا أنه ليس بمرفوع حكما ويكون من عكس ذلك فنسب قص القصة من ابتدائها إلى انتهائها إلي النبي صلى الله عليه وسلم واهما كما سيأتي بيانه قوله جلس إحدى عشرة قال بن التين التقدير جلس جماعة إحدى عشرة وهو مثل {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} وفي رواية أبي عوانة جلست وفي رواية أبي على الطبري في مسلم جلسن بالنون وفي رواية للنسائي اجتمع وفي رواية أبي عبيد اجتمعت وفي رواية أبي يعلى اجتمعن قال القرطبي زيادة النون على لغة اكلوني البراغيث وقد أثبتها جماعة من أئمة العربية واستشهدوا لها بقوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وقوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ} وحديث ملائكة وقول الشاعر: بحوران يعصرون السليط أقاربه وقوله:
يلومونني في اشتراء النخيـ ... ـل قومي فكلهم يعذل
وقد تكلف بعض النحاة رد هذه اللغة إلى اللغة المشهورة وهي أن لا يلحق علامة الجمع ولا التثنية ولا التأنيث في الفعل إذا تقدم على الأسماء وخرج لها وجوها وتقديرات في غالبها نظر ولا يحتاج إلى ذلك بعد ثبوتها نقلا وصحتها استعمالا والله أعلم وقال عياض الأشهر ما وقع في الصحيحين وهو توحيد الفعل مع الجمع قال سيبويه حذف اكتفاء بما ظهر تقول مثلا قام قومك فلو تقدم الاسم لم يحذف فتقول قومك قام بل قاموا ومما يوجه ما وقع هنا أن يكون إحدى عشرة بدلا من الضمير في اجتمعن والنون على هذا ضمير لا حرف علامة أو على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل من هن فقيل إحدى عشرة أو بإضمار أعني وذكر عياض أن في بعض الروايات إحدى عشرة نسوة قال فإن كان بالنصب أحتاج إلى إضمار أعني أو بالرفع فهو بدل من إحدى عشرة ومنه قوله تعالى وقطعناهم اثنتي عشرة اسباطا هو بدل من قطعناهم وليس بتمييز اه وقد لصاحب غيره أن يكون تمييزا بتأويل المطلوب شرحه ووقع لهذا الحديث سبب ثم انسائي من طريق عمر بن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة قالت فخرت بمال أبي في الجاهلية وكان ألف ألف أوقية وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم اسكتي " يا عائشة فإني كنت لك كأبي زرع لام زرع" ووقع له سبب آخر فيما أخرجه أبو القاسم عبد الحكيم بن حبان بسند

(9/257)


له مرسل من طريق سعيد بن عفير عن القاسم بن الحسن عن عمرو بن الحارث عن الأسود بن جبر المغافري1 قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وفاطمة وقد جرى بينهما كلام فقال ما أنت بمنتهية يا حميراء عن ابنتي أن مثلي ومثلك كأبي زرع مع أم زرع فقالت يا رسول الله حدثنا عنهما فقال كانت قرية فيها إحدى عشرة امرأة وكان الرجال خلوفا فقلن تعالين نتذاكر أزواجنا بما فيهم ولا نكذب ووقع في رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة ثم أبي عوانة في صحيحه بلفظ كان رجل الغرماء أبا زرع وامرأته أم زرع فتقول أحسن لي أبو زرع وأعطاني أبو زرع وأكرمني أبو زرع وفعل بي أبو زرع ووقع في رواية الزبير بن بكار دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي بعض نسائه فقال يخصني بذلك يا عائشة أنا لك كأبي زرع لام زرع قلت يا رسول الله ما حديث أبي زرع وأم زرع قال أن قرية من قرى اليمن كان بها بطن من بطون اليمن وكان منهن إحدى عشرة امرأة وإنهن خرجن إلى مجلس فقلن تعالين فلنذكر بعولتنا بما فيهم ولا نكذب فيستفاد من هذه الرواية معرفة جهة قبيلتهن وبلادهن لكن وقع في رواية الهيثم إنهن كن بمكة وأفاد أبو محمد بن حزم فيما نقله عياض انه نكن من خثعم وهو يوافق رواية الزبير إنهن من أهل اليمن ووقع في رواية بن أبي أويس عن أبيه إنهن كن في الجاهلية وكذا ثم النسائي في رواية عقبة بن خالد عن هشام وحكى عياض ثم النووي قول الخطيب في المبهمات لا أعلم أحدا سمي النسوة المذكورات في حديث أم زرع الا من الطريق الذي أذكره وهو غريب جدا ثم ساقه من طريق الزبير بن بكار قلت وقد ساقه أيضا أبو القاسم عبد الحكيم المذكور من الطريق المرسلة التي قدمت ذكرها فإنه ساقه من طريق الزبير بن بكار بسنده ثم ساقه من الطريق المرسلة وقال فذكر الحديث نحوه وسمي بن دريد في الوشاح أم زرع عاتكة ثم قال النووي وفيه يعني سياق الزبير بن بكار أن الثانية عدا عمرة بنت عمرو واسم الثالثة حبى بضم المهملة وتشديد الموحدة مقصور بنت كعب والرابعة مهدد بنت أبي هزومة والخامسة كبشة والسادسة هند والسابعة حبى بنت علقمة والثامنة بنت أوس بن عبد2 والعاشرة كبشة بنت الأرقم اه ولم يسم الأولى ولا التاسعة ولا أزواجهن ولا ابنة أبي زرع ولا أمه ولا الجارية ولا المرأة التي تزوجها أبو زرع ولا الرجل الذي تزوجته أم زرع وقد تبعه جماعة من الشراح بعده وكلامهم يوهم أن ترتيبهن في رواية الزبير كترتيب رواية الصحيحين وليس كذلك فإن الأولى ثم الزبير وهي التي لم يسمها هي الرابعة هنا والثانية في رواية الزبير هي الثامنة هنا والثالثة ثم الزبير هي العاشرة هنا والرابعة ثم الزبير هي الأولى هنا والخامسة عنده هي التاسعة هنا والسادسة عنده هي السابعة هنا والسابعة عنده هي الخامسة هنا والثامنة عنده هي السادسة هنا والتاسعة عنده هي الثانية هنا والعاشرة عنده هي الثالثة هنا وقد اختلف كثير من رواة الحديث في ترتيبهن ولا ضير في ذلك ولا أثر للتقديم والتأخير فيه إذ لم يقع تسميتهن نعم في رواية سعيد بن سلمة مناسبة وهي سياق الخمسة اللاتي ذممن أزواجهن على حدة والخمسة اللاتي مدحن أزواجهن على حدة وسأشير إلى ترتيبهن في الكلام على قول السادسة هنا وقد أشار إلى ذلك في قول عروة ثم ذكر الخامسة فهؤلاء خمس يشكون وإنما نبهت على رواية الزبير بخصوصها لما فيها من التسمية مع المخالفة في سياق الاعداد فيظن من
ـــــــ
1- الأسود بن جبير غير مذكور في الإصابة وسائر السند يحتاج إلى تحقيق.
(2 ) في نسخة أخرى: عبد ود.

(9/258)


لم يقف على حقيقة ذلك أن الثانية التي سميت عمرة بنت عمرو هي التي قالت زوجي لا أبث خبره وليس كذلك بل هي التي قالت زوجي المس مس أرنب وهكذا الخ فللتنبيه عليه فائدة من هذه الحيثية قوله "فتعاهدن وتعاقدن" أي ألزمن أنفسهن عهدا وعقدن على الصدق من ضمائرهن عقدا قوله أن لا يكتمن في رواية بن أبي أويس وعقبة أن يتصادقن بينهن ولا يكتمن وفي رواية سعيد بن سلمة ثم الطبراني أن ينعتن أزواجهن ويصدقن وفي رواية الزبير فتبايعن على ذلك قوله قالت الأولى زوجي لحم جمل غث بفتح المعجمة وتشديد المثلثة ويجوز جره صفة للجمل ورفعه صفة للحم قال بن الجوزي المشهور في الرواية الخفض وقال بن ناصر الجيد الرفع ونقله عن التبريزي وغيره والغث الهزيل الذي يستغث من هزاله أي يستترك ويستكره مأخوذ من قولهم غث الجرح غثا وغثيثا إذا سأل منه القيح واستغثه صاحبه ومنه اغث الحديث ومنه غث فلان في خلقه وكثر استعماله في مقابلة السمين فيقال للحديث المختلط فيه الغث والسمين قوله على رأس جبل في رواية أبي عبيد والترمذي وعر وفي رواية الزبير بن بكار وعث وهي اوفق للسجع والأول ظاهر أي كثير الضجر شديد الغلظة يصعب الرقي إليه والوعث بالمثلثة الصعب المرتقي بحيث توحل فيه الأقدام فلا يتخلص منه ويشق فيه المشي ومنه وعثاء السفر قوله لا سهل بالفتح بلا تنوين وكذا ولا سمين ويجوز فيهما الرفع على خبر مبتدأ مضمر أي لا هو سهل ولا سمين ويجوز الجر على إنهما صفة جمل وجبل ووقع في رواية عقبة بن خالد عن هشام ثم النسائي بالنصب منونا فيهما لا سهلا ولا سمينا وفي رواية عمر بن عبد الله بن عروة عنده لا بالسمين ولا بالسهل قال عياض أحسن الأوجه عندي الرفع في الكلمتين من جهة سياق الكلام وتصحيح المعنى لا من جهة تقويم اللفظ وذلك أنها أودعت كلامها تشبيه شيئين بشيئين شبهت زوجها باللحم الغث وشبهت سوء خلقه بالجبل الوعر ثم فسرت ما أجملت فكأنها قالت لا الجبل سهلا ارتقاؤه لأخذ اللحم ولو كان هزيلا لأن الشيء المزهود فيه أن يؤخذ إذا وجد بغير نصب ثم قالت ولا اللحم سمين فيتحمل المشقة في صعود الجبل لأجل تحصيله قوله فيرتقي أي فيصعد فيه وهو وصف للجبل وفي رواية للطبراني لا سهل فيرتقي إليه قوله ولا سمين فينتقل في رواية أبي عبيد فينتقي وهذا وصف اللحم والأول من الانتقال أي أنه لهزاله لا يرغب أحد فيه فينتقل إليه يقال انتقلت الشيء أي نقلته ومعنى ينتقي ليس له نقي يستخرج والنقى المخ يقال نقوت العظم ونقيته وأنتقيته إذا استخرجت مخه وقد كثر استعماله في اختيار الجيد من الرديء قال عياض أرادت أنه ليس له نقي فطلب لأجل ما فيه من النقي وليس المراد أنه فيه نقي يطلب استخراجه قالوا آخر ما يبقى في الجمل مخ عظم المفاصل ومخ العين وإذا نفدا لم يبق فيه خير قالوا وصفته بقلة الخير وبعده مع القلة فشبهته باللحم الذي صغرت عظامه من النقي وخبث طعمه وريحه مع كونه في الوصول إليه فلا يرغب أحدا في طلبه لينقله إليه مع توفر دواعي أكثر الناس على الراوي الشيء المبذول مجانا وقال النووي فسره الجمهور بأنه قليل الخير من أوجه منها كونه كلحم الجمل لا كلحم الضأن مثلا ومنها أنه مع ذلك مهزول رديء ويؤيده قول أبي سعيد الضرير ليس في اللحوم أشد غثاثة من لحم الجمل لأنه يجمع خبث الطعم وخبث الريح ومنه أنه صعب التناول لا يوصل إليه الا بمشقة شديدة وذهب الخطابي إلى أن تشبيهها بالجبل الوعر إشارة إلى سوء خلقة وأنه يترفع ويتكبر ويسمو بنفسه فوق موضعها في فيجمع البخل وسوء الخلق وقال عياض شبهت وعورة خلقه بالجبل

(9/259)


وبعد خيره ببعد اللحم على رأس الجبل والزهد فيما يرجى منه مع قلته وتعذره بالزهد في لحم الجمل الهزيل فأعطت التشبيه حقه ووفته قسطه قوله "قالت الثانية زوجي لا أبث خبره" بالموحدة ثم المثلثة وفي رواية حكاها عياض انث بالنون بدل الموحدة أي لا أظهر حديثه وعلى رواية النون فمرادها حديثه الذي لا خير فيه لأن النث بالنون أكثر ما يستعمل في الشر ووقع في رواية للطبراني لا أنم بنون وميم من النميمة قوله "إني أخاف أن لا أذره" أي أخاف أن لا أترك من خبره شيئا فالضمير للخبر أي أنه لطوله وكثرته أن بدأته لم أقدر على تكميله فاكتفت بالاشار إلى معيابه خشية أن المطلوب الخطب ووقع في رواية عباد بن منصور ثم النسائي أخشى أن لا أذره من سوء وهذا تفسير بن السكيت ويؤيده أن في رواية عقبة بن خالد أني أخاف أن لا أذره أذكره وأذكر عجره وبجره وقال غيره الضمير لزوجها وعليه يعود ضمير عجره وبجره بلا شك كأنها خشيت إذا ذكرت ما فيه أن يبلغه فيفارقها فكأنها قالت أخاف أن لا أقدر على تركه لعلاقتي به وأولادي منه وأذره بمعنى أفارقه فاكتفت بالإشارة إلى أنه له معايب وفاء بما التزمته من الصدق وسكتت عن تفسيرها للمعنى الذي اعتذرت به ووقع في رواية الزبير زوجي من لا أذكره ولا أبث خبره والأول أليق بالسجع قوله "عجره وبجره" بضم أوله وفتح الجيم فيهما الأول بعين مهملة والثاني بموحدة جمع عجرة وبجرة بضم ثم سكون فالعجر تعقد العصب والعروق في الجسد حتى تصير ناتئة والبجر مثلها الا أنها مختصة بالتي تكون في البطن قاله الأصمعي وغيره وقال بن الأعرابي العجرة نفخة في الظهر والبجرة نفخة في السرة وقال بن أبي أويس العجر العقد التي تكون في البطن واللسان والبجر العيوب وقيل العجر في الجنب والبطن والبجر في السرة هذا أصلهما ثم استعملا في الهموم والأحزان ومنه قول علي يوم الجمل اشكو إلى الله عجري وبجري وقال الأصمعي استعملا في المعايب وبه جزم بن حبيب وأبو عبيد الهروي وقال أبو عبيد بن سلام ثم بن السكيت استعملا فيما يكتمه المر ويخفيه عن غيره وبه جزم المبرد قال الخطاب أرادت عيوبه الظاهرة وأسراره الكامنة قال ولعله كان مستور الظاهر رديء الباطن وقال أبو سعيد الضرير عنت أن زوجها كثير المعايب متعقد النفس عن المكارم وقال الأخفش العجر العقد تكون في سائر البدن والبجر تكون في القلب وقال بن فارس يقال في المثل افضيت إليه بعجري وبجري أي بأمري كله قوله "قالت الثالثة زوجي العشنق" بفتح المهملة ثم المعجمة وتشديد النون المفتوحة وآخره قاف قال أبو عبيد وجماعة هو الطويل زاد الثعالبي المذموم الطول وقال الخليل هو الطويل العنق وقال بن أبي أويس الصقر من الرجال المقدام الجريء وحكى بن الدفع عن بن قتيبة انه قال هو القصير ثم قال كأنه عنده من الأضداد قال ولم أره لغيره انتهى والذي يظهر أنه تصحف عليه بما قال بن أبي أويس قاله عياض وقد قال بن حبيب هو المقدام على ما يريد الشرس في أموره وقيل السيء الخلق وقال الأصمعي أرادت أنه ليس عنده أكثر من طوله بغير نفع وقال غيره هو المستكره الطول وقيل ذمته بالطول لأن الطول في الغالب دليل السفه وعلل ببعد الدماغ عن القلب وأغرب من قال مدحته بالطول لأن العرب تتمدح بذلك وتعقب بأن سياقها يقتضي أنها ذمته وأجاب عنه بن الدفع باحتمال أن تكون أرادت مدح خلقه وذم خلقه فكأنها قالت له منظر بلا مخبر وهو محتمل وقال أبو سعيد الضرير الصحيح أن العشنق الطويل النجيب الذي يملك أمر نفسه ولا تحكم النساء فيه بل يحكم فيهن بما شاء فزوجته تهابه

(9/260)


أن تنطق بحضرته فهي تسكت على مضض قال الزمخشري وهي من الشكاية البليغة انتهى ويؤيده ما وقع في رواية يعقوب بن السكيت من الزيادة في آخره وهو على حد السنان المذلق بفتح المعجمة وتشديد اللام أي المجرد بوزنه ومعناه تشير إلى أنها منه على حذر ويحتمل أن تكون أرادت بهذا أنه أهوج لا يستقر على حال كالسنان الشديدة الحدة قوله إن أنطق أطلق وأن اسكت اعلق أي أن ذكرت عيوبه فيبلغه طلقني وأن سكت عنها فأنا عنده معلقة لا ذات زوج ولا أيم كما وقع في تفسير قوله تعالى :{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} فكأنها قالت أنا عنده لا ذات بعل فأنتفع به ولا مطلقة فاتفرغ لغيره فهمي كالمعلقة بين العلو والسفل لا تستقر بأحدهما هكذا توارد عليه أكثر الشراح تبعا لأبي عبيد وفي الشق الثاني عندي نظر لأنه لو كان ذلك مرادها لانطلقت ليطلقها فتستريح والذي يظهر لي أيضا أنها أرادت وصف سوء حالها عنده فأشارت إلى سوء خلقه وعدم احتماله لكلامها أن شكت له حالها وإنها تعلم أنهى متى ذكرت له شيئا من ذلك بادر إلى طلاقها وهي لا تؤثر تطليقه لمحبتها فيه ثم عبرت بالجملة الثانية إشارة إلى أنها أن سكتت صابرة على تلك الحال كانت عنده كالمعلقة التي لا ذات زوج ولا ايم ويحتمل أن يكون قولها اعلق مشتقا من علاقة الحب أو من علاقة الوصلة أي أن نطقت طلقني وأن سكت استمر لي زوجة وأنا لا أوثر تطليقه لي فلذلك اسكت قال عياض أوضحت بقولها على حد السنان المذلق مرادها بقولها قبل أن اسكت اعلق وأن أنطق أطلق أي أنها أن حادت عن السنان سقطت فهلكت وأن استمرت عليه أهلكها قوله "قالت الرابعة زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة" بالفتح بغير تنوين مبنية مع لا على الفتح وجاء الرفع مع التنوين فيها وهي رواية أبي عبيد قال أبو البقاء وكأنه أشبع بالمعنى أي ليس في حر فهو اسم ليس وخبرها محذوف قال ويقويه ما وقع من التكرير كذا قال وقد وقع في القراءات المشهورة البناء على الفتح في الجميع والرفع مع التوين وفتح البعض ورفع البعض وذلك في مثل قوله تعالى {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} ومثل {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ووقع في رواية عمر بن عبد الله ثم النسائي ولا برد بدل ولا قر زاد في رواية الهيثم ولا خامة بالخاء المعجمة أي لا ثقل عنده تصف زوجها بذلك وأنه لين الجانب خفيف الوطأة على الصاحب ويحتمل أن يكون ذلك من بقية صفة الليل وفي رواية الزبير بن بكار والغيث غيث غمامة قال أبو عبيد أرادت أنه لا شر فيه يخاف وقال بن الدفع أرادت بقولها ولا مخافة أي أن أهل تهامة لا يخافون لتحصنهم بجبالها أو أرادت وصف زوجها بأنه حامي الذمار مانع لداره وجاره ولا مخافة ثم من يأوي إليه ثم وصفته بالجود وقال غيره قد ضربوا المثل بليل تهامة في الطيب لأنها بلاد حارة في غالب الزمان وليس فيها رياح باردة فإذا كان الليل كان وهج الحر ساكنا فيطيب الليل لأهلها بالنسبة لما كانوا فيه من أذى حر النهار فوصفت زوجها بجميل العشرة واعتدال الحال وسلامة الباطن فكأنها قالت لا أذى عنده ولا مكروه وأنا آمنة منه فلا أخاف من شره ولا ملل عنده فيسأم من عشرتي أو ليس بسيء الخلق فأسأم من عشرته فأنا لذيذة العيش عنده كلذة أهل تهامة بليلهم المعتدل قوله "قالت الخامسة زوجي أن دخل فهد وأن خرج أسد ولا يسأل عما عهد" قال أبو عبيد فهد بفتح الفاء وكسر الهاء مشتق من الفهد وصفته بالغفلة ثم دخول البيت على وجه المدح له وقال بن حبيب شبهته في لينه وغفلته بالفهد لأنه يوصف بالحياء وقلة الشر وكثرة النوم وقوله أسد بفتح الالف وكسر السين مشتق من الأسد أي

(9/261)


يصير بين الناس مثل الأسد وقال بن السكيت تصفه بالنشاط في الغزو وقال بن أبي أويس معناه أن دخل البيت وثب علي وثوب الفهد وأن خرج كان في الأقدام مثل الأسد فعلى هذا يحتمل قوله وثب على المدح والذم فالأول تشير إلى كثرة جماعة لها إذا دخل فينطوي تحت ذلك تمدحها بأنها محبوبة لديه بحيث لا يصير عنها إذا رآها والذم أما من جهة أنه غليظ الطبع ليست عنده مداعبة ولا ملاعبة قبل المواقعة بل يثبت وثوبا كالوحش أو من جهة أنه كان سيء الخلق يبطش بها ويضربها وإذا خرج على الناس كان أمره أشد في الجرأة والإقدام والمهابة كالأسد قال عياض فيه مطابقة بين خرج ودخل لفظية وبين فهد وأسد معنوية ويسمى أيضا المقابلة وقولها ولا يسأل عما عهد يحتمل المدح والذم أيضا فالمدح بمعنى أنه شديد الكرم كثير التغاضي لا يتفقد ما ذهب من ماله وإذا جاء بشيء لبيته لا يسأل عنه بعد ذلك أو لا يلتفت إلى ما يرى في البيت من المعايب بل يسامح ويغضي ويحتمل الذم بمعنى مبال بحالها حتى لو عرف أنها مريضة أو معوزة وغاب ثم جاء لا يسأل عن شيء من ذلك ولا يتفقد حال أهله ولا بيته بل أن عرضت له بشيء من ذلك وثب عليها بالبطش والضرب وأكثر الشراح شرحوه على المدح فالتمثيل بالفهد من جهة كثرة التكرم أو الوثوب وبالأسد من جهة الشجاعة وبعدم السؤال من جهة المسامحة وقال عياض حمله الأكثر على الاشتقاق من خلق الفهد أما من جهة قوة وثوبه وأما من كثرة نومه ولهذا ضربوا المثل به فقالوا انوم من فهد قال ويحتمل أن يكون من جهة كثرة كسبه لأنهم قالوا في المثل أيضا اكسب من فهد وأصله أن الفهود الهرمة تجتمع على فهد منها فتي فيتصيد عليها كل يوم حتى يشبعها فكأنها قالت إذا دخل المنزل دخل معه بالكسب لأهله كما يجيء الفهد لمن يلوذ به من الفهود الهرمة ثم لما كان في وصفها له بخلق الفهد ما قد يحتمل الذم من جهة كثرة النوم رفعت اللبس بوصفها له بخلق الأسد فأفصحت أن الأول سجية كرم ونزاهة شمائل ومسامحة في العشرة لا سجية جبن وجور في الطبع قال عياض وقد قلب الوصف بعض الرواة يعني كما وقع في رواية الزبير بن بكار فقال إذا دخل أسد وإذا خرج فهد فإن كان محفوظا فمعناه أنه إذا خرج إلى مجلسه كان على غاية الرزانة والوقار وحسن السمت أو على الغاية من تحصيل الكسب وإذا دخل منزله كان متفضلا مواسيا لأن الأسد يوصف بأنه إذا افترس أكل من فريسته بعضا وترك الباقي لمن حوله من الوحوش ولم يهاوشهم عليها وزاد في رواية الزبير بن بكار في آخره ولا يرفع اليوم لغد يعني لا يدخر ما حصل عنده اليوم من أجل الغد فكنت بذلك عن غاية جوده ويحتمل أن يكون المراد أنه يأخذ بالحزم في جميع أموره فلا يؤخر ما يجب عمله اليوم إلى غده قوله "قالت السادسة زوجي أن أكل لف وأن شرب اشتف وأن اضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البث" في رواية عمر بن عبد الله ثم النسائي إذا أكل اقتف وفيه وإذا نام بدل اضجع وزاد وإذا ذبح اغتث أي تحرى الغث وهو الهزيل كما تقدم في شرح كلام الأولى وفي رواية الطبراني" ولا يدخل" بدل "يولج" وإذا رقد بدل "اضطجع" وفي رواية الترمذي والطبراني "فيعلم" بالفاء بدل اللام في رواية غيره والمراد باللف الإكثار منه واستقصاؤه حتى لا يترك منه شيئا وقال أبو عبيد الإكثار مع التخليط يقال لف الكتيبة بالأخرى إذا خلطها في الحرب ومنه اللفيف من الناس فأرادت أنه يخلط صنوف الطعام من نهمته وشرهه ثم لا يبقى منه شيئا وحكى عياض رواية من رواه رف بالراء بدل اللام قال وهي بمعناها ورواية من رواه اقتف بالقاف قال ومعناه التجميع قال الخليل قفاف

(9/262)


كل شيء جماعة واستيعابه ومنه سميت القفة لجمعها ما وضع فيها والاشتفاف في الشرب استقصاؤه مأخوذ من الشفافة بالضم والتخفيف وهي البقية تبقى في الإناء فإذا شربها الذي شرب الإناء قيل اشتفها ومنهم من رواها بالمهملة وهي بمعناها وقوله التف أي رقد ناحية وتلفف بكسائه وحده وانقبض عن أهله إعراضا فهي كئيبة حزينة لذلك ولذلك قالت ولا يولج الكف ليعلم البث أي لا يمد يده ليعلم ما هي عليه من الحزن فيزيله ويحتمل أن تكون أرادت أنه ينام نوم العاجز الفشل الكسل والمراد بالبث الحزن ويقال شدة الحزن ويطلق البث أيضا على الشكوى وعلى المرض وعلى الأمر الذي لا يصبر عليه فأرادت أنه لا يسأل عن الأمر الذي يقع اهتمامها به فوصفته بقلة الشفقة عليها وأنه أن لو رآها عليلة لم يدخل يده في ثوبها ليتفقد خبرها كعادة الأجانب فضلا عن الأزواج أو هو كناية عن ترك الملاعبة أو عن ترك الجماع كما سيأتي وقد اختلفوا في هذا فقال أبو عبيد كان في جسدها عيب فكان لا يدخل يده في ثوبها ليلمس ذلك العيب عليها فمدحته بذلك وقد تعقبه كل من جاء بعده الا النادر وقالوا إنما شكت منه وذمته واستقصرت حظها منه ودل على ذلك قولها قبل وإذا اضطجع التف كأنها قالت أنه يتجنبها ولا يدنيها منه ولا يدخل يده في جنبها فيلمسها ولا يباشرها ولا يكون منه ما يكون من الرجال فيعلم بذلك محبتها له وحزنها لقلة حظها منه وقد جمعت في وصفها له بين اللؤم والبخل والهمة والمهانة وسوء العشرة مع أهله فإن العرب تذم بكثرة الأكل والشرب وتتمدح بقلتهما وبكثرة الجماع لدلالتها على صحة الذكورية والفحولية وانتصر بن الدفع لأبي عبيد فقال لا مانع من أن تجمع المرأة بين مثالب زوجها ومناقبه لأنهن كن تعاهدن أن لا يكتمن من صفاتهم شيئا فمنهن من وصفت زوجها بالخير في جميع أموره ومنهن من وصفته بضد ذلك ومنهن من جمعت وارتضى القرطبي هذا الانتصار واستدل عياض للجمهور بما وقع في رواية سعيد بن سلمة عن أبي الحسام ان عروة ذكر هذه في الخمس اللاتي يشكون أزواجهن فإنه ذكر في روايته الثلاث المذكورات هنا أولا على الولاء ثم السابعة المذكورة عقب هذا ثم السادسة هذه فهي خامسة عنده والسابعة رابعة قال ويؤيد أيضا قول الجمهور كثرة استعمال العرب لهذه الكناية عن ترك الجماع والملاعبة وقد سبق في فضائل القرآن في قصة عمرو بن العاص مع زوج ابنه عبد الله بن عمرو حيث سألها عن حالها مع زوجها فقال هو كخير الرجال من رجل لم يفتش لنا كنفا وسبق أيضا في حديث الإفك قول صفوان بن المعطل ما كشفت كنف أنثى قط فعبر عن الاشتغال بالنساء بكشف الكتف وهو الغطاء ويحتمل أن يكون معنى قوله ولا يولج الكف كناية عن ترك تفقده أمورها وما تهتم به من مصالحها وهو كقولهم لم يدخل يده في الأمر أي لم يشتغل به ولم يتفقده وهذا الذي ذكره احتمالا بن أبي أويس فإنه قال معناه لا ينظر في أمر أهله ولا يبالي أن يجوعوا وقال أحمد بن عبيد بن ناصح معناه لا يتفقد أموري ليعلم ما أكرهه فيزيله يقال ما أدخل يده في الأمر أي لم يتفقده قوله "قالت السابعة زوجي غياياء أو عياياء" كذا في الصحيحين بفتح المعجمة بعدها تحتانية خفيفة ثم أخرى بعد الألف الأولى ملكا بعدها بمهملة وهو شك من راوي الخبر عيسى بن يونس وقد صرح بذلك أبو يعلى في روايته عن احمد بن خباب عنه ووقع في رواية عمر بن عبد الله ثم النسائي غياياء بمعجمة بغير شك والغياياء الطباقاء الأحمق الذي ينطبق عليه أمره وقال أبو عبيد العياياء بالمهلمة الذي لا يضرب ولا يلقح من الإبل وبالمعجمة ليس بشيء والطباقاء الأحمق الفدم وقال بن فارس الطباقاء الذي لا

(9/263)


يحسن الضراب فعلى هذا يكون تأكيدا لاختلاف اللفظ كقولهم بعدا وسحقا وقال الداودي قوله غياياء بالمعجمة مأخوذ من الغي بفتح المعجمة وبالمهملة مأخوذ من العي بكسر المهملة وقال أبو عبيد العياياء بالمهملة العي الذي تعيبه مباضعة النساء وأراه مبالغة من العي في ذلك وقال بن السكيت هو العي الذي لا يهتدي وقال عياض وغيره الغياياء بالمعجمة يحتمل أن يكون مشتقا من الغياية وهو كل شيء اظل الشخص فوق رأسه فكأنه مغطى عليه من جهله وهذا الذي ذكره احتمالا جزم به الزمخشري في الفائق وقال النووي قال عياض وغيره غياياء بالمعجمة صحيح وهو مأخوذ من الغياية وهي الظلمة وكل ما اظل الشخص ومعناه لا يهتدي إلى مسلك أو أنها وصفته بثقل الروح وأنه كالظل المتكاثف الظلمة الذي لا أشراق فيه أو أنها أرادت أنه غطيت عليه أموره أو يكون غياياء من الغي وهو الانهماك في الشر أو من الغي الذي هو الخيبة قال تعالى {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} وقال بن الأعرابي الطباقاء المطبق عليه حمقا وقال بن دريد الذي تنطبق عليه أموره وعن الجاحظ الثقيل الصدر عند الجماع ينطبق صدره على صدر المرأة فيرتفع سفله عنها وقد ذمت امرأة أمرا آلاف فقالت له ثقيل الصدر خفيف العجر سريع الإراقة بطيء الإفاقة قال عياض ولا منافاة بين وصفها له بالعجز ثم الجماع وبين وصفها بثقل الصدر فيه لاحتمال تنزيله على حالتين كل منهما مذموم أو يكون أطباق صدره من جملة عيبة وعجزه وتعاطيه ما لا قدرة له عليه لكن كل ذلك يرد على عياياء بأنه العنين وقولها كل داء له داء أي كل شيء تفرق في الناس من المعايب موجود فيه وقال الزمخشري يحتمل أن يكون قولها "له داء" خبرا لكل" أي أن كل داء تفرق في الناس فهو فيه ويحتمل أن يكون له صفة لداء و داء خير لكل أي كل داء فيه في غاية التناهي كما يقال أن زيدا لزيد وأن هذا الفرس لفرس قال عياض وفيه من لطيف الوحي والإشارة الغاية لأنه انطوى تحت هذه الكلمة كلام كثير وقولها "شجك" بمعجمة أوله وجيم ثقيله أي جرحك في رأسك وجراحات الرأس تسمى شجاجا وقولها أو فلك بفاء ثم لام ثقيلة أي جرح جسدك ومنه قول الشاعر بهن فلول أي ثلم جمع ثلمة ويحتمل أن يكون المراد نزع منك كل ما عندك أو كسرك بسلاطه لسانه وشدة خصومته زاد بن السكيت في روايته أو بجك بموحدة ثم جيم أي طعنك في جراحتك فشقتها والبج شق القرحة وقيل هو الطعنة وقولها أو جمع كلالك وقع في رواية الزبير "أن حدثته سبك"وأن مازحته فلك وإلا جمع كلا لك وهي توضح أن أو في رواية الأصيلي للتقسيم لا للتخيير وقال الزمخشري يحتمل أن تكون أرادت أنه ضروب للنساء فإذا ضرب إما أن يكسر عظما أو يشج رأسها أو يجمعهما ويحتمل أن يريد بالفل الطرد والابعاد وبالشج الكسر عند الضرب وأن كان الشج إنما يستعمل فر جراحة الرأس قال عياض وصفته بالحمق والتناهي في سوء العشرة وجمع النقائص بان يعجز عن قضاء وطرها مع الأذى فإذا حدثته سبها وإذا مازحته شجها وإذا اغضبته كسر عضوا من أعضائها أو شق جلدها أو أغار على مالها أو جمع كل ذلك من الضرب والجرح وكسر العضو وموجع الكلام وأخذ المال قوله "قالت الثامنة زوجي المس مس ارنب والريح ريح زرنب" زاد الزبير في روايته وأنا اغلبه والناس يغلب وكذا في رواية عقبة ثم النسائي وفي رواية عمر عنده وكذا الطبراني لكن بلفظ وتغلبه بنون الجمع والارنب دويبة لينة المس ناعمة الوبر جدا والزرنب بوزن الأرنب لكن أوله زاي وهو نبت طيب الريح وقيل هو شجرة عظيمة بالشام بجبل لبنان لا تثمر لها ينوي بين الخضرة والصفرة كذا ذكره

(9/264)


عياض واستنكره بن البيطار وغيره من أصحاب المفردات وقيل هو حشيشة دقيقة طيبة الرائحة وليست ببلاد العرب وأن كانوا ذكروها قال الشاعر:
يا بأبي أنت وفوك الاشنب ... كأنما ذر عليه الزرنب
وقيل هو الزعفران وليس بشيء واللام في المس والريح نائبة عن الضمير أي مسه وريحه أو فيهما حذف تقديره الريح منه والمس منه كقولهم السمن منوان بدرهم وصفته بأنه لين الجسد ناعمه ويحتمل أن تكون كنت بذلك عن حسن خلقه ولين عريكته بأنه طيب العرق لكثرة نظافته واستعماله الطيب تظرفا ويحتمل أن تكون كنت بذلك عن طيب حديثه أو طيب الثناء عليه لجميل معاشرته وأما قولها وأنا اغلبه والناس يغلب فوصفته مع جميل عشرته لها وصبره عليها بالشجاعة وهو كما قال معاوية يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام قال عياض هذا من التشبيه بغير أداة وفيه حسن المناسبة والموازنة والتسجيع وأما قولها والناس يغلب ففيه نوع من البديع يسمى التنميم لأنها لو اقتصرت على قولها وأنا اغلبه لظن أنه جبان ضعيف فلما قالت والناس يغلب دل على أن غلبها إياه إنما هو من كرم سجاياه فتممت بهذه الكلمة المبالغة في حسن اوصافه قوله "قالت التاسعة زوجي رفيع النجاد عظيم الرماد قريب البيت من الناد" زاد الزبير بن بكار في روايته لا يشبع ليله يضاف ولا ينام ليلة يخاف وصفته بطول البيت وعلوه فإن بيوت الأشراف كذلك يعلونها ويضربونها في المواضع المرتفعة ليقصدهم الطارقون والوافدون فطول بيوتهم أما لزيادة شرفهم أو لطول قاماتهم وبيوت غيرهم قصار وقد لهج الشعراء بمدح الأول وذم الثاني "كقوله قصار البيوت لا ترى صهواتها" وقال آخر:
إذا دخلوا بيوتهم اكبوا ... على الركبات من قصر العماد
ومن لازم طول البيت أن يكون متسعا فيدل على كثرة الحاشية والغاشية وقيل كنت بذلك عن شرفه ورفعه قدره والنجاد بكسر النون وجيم خفيفة حمالة السيف تريد القامة يحتاج إلى طول نجاده وفي ضمن كلامها أنه صاحب سيف فأشارت إلى شجاعته وكانت العرب تتمادح بالطول وتذم بالقصر وقولها عظيم الرماد تعني أن نار قراه للاضياف لا تطفأ لنهتدي الضيفان إليها فيصير رماد النار كثيرا لذلك وقولها قريب البيت من الناد وقفت عليها بالسكون لمؤاخاه السجع والنادي والندى مجلس القوم وصفته بالشرف في قومه فهم إذا تفاوضوا واتشوروا في أمر وأتوا فجلسوا قريبا من بيته فاعتمدوا على رأيه وامتثلوا أمره أو أنه وضع بيته في وسط الناس ليسهل لقاؤه ويكون أقرب إلى الوارد وطالب القرى قال زهير:
بسط البيوت لكي يكون مظنة ... من حيث توضع جفنة المسترفد
ويحتمل أن تريد أن أهل النادي إذا أتوه لم يصعب عليهم لقاؤه لكونه لا يحتجب عنهم ولا يتباعد منهم بل يقرب ويتلقاهم ويبادر لاكرامهم وضد من يتوارى بأطراف الحلل وأغوار المنازل ويبعد عن سمت الضيف لئلا يهتدوا إلى مكانه فإذا استبعدوا موضعه صدوا عنه ومالوا إلى غيره ومحصل كلامها أنه وصفته بالسيادة والكرم وحسن الخلق وطيب المعاشرة قوله "قالت العاشرة زوجي مالك وما مالك مالك خير من ذلك" له إبل

(9/265)


كثيرات المبارك قليلات المسارح وإذا المزهر ايقن انهن هوالك" وقع في رواية عمر بن عبد الله ثم النسائي والزبير المبارح بدل المبارك وفي رواية أبي يعلى المزاهر بصيغة الجمع وعند الزبير الضيف بدل المزهر والمبارك بفتحتين جمع مبرك وهو موضع نزول الإبل والمسارح جمع مسرح وهو الموضع الذي تطلق لترعى فيه والمزهر بكسر الميم وسكون الزاي وفتح الهاء آلة من الات اللهو وقيل هي العود وقيل دف مربع وأنكر أبو سعيد الضرير تفسير المزهر بالعود فقال ما كانت العرب تعرف العود الا من خالط الحضر منهم وإنما هو بضم الميم وكسر الهاء وهو الذي يوقد النار فيزهرها للضيف فإذا سمعت الإبل صوته ومعمعان النار عرفت أن ضيفا طرق فتيقنت الهلاك بالإجماع عياض بان الناس كلهم رووه بكسر الميم وفتح الهاء ثم قال ومن الذي أخبره أن مالكا المذكور لم يخالط الحضر ولا سيما مع ما جاء في بعض طرق هذا الحديث انهن كن من قرية من قرى اليمن وفي الأخرى انهن من أهل مكة وقد كثر ذكر المزهر في اشعار العرب جاهليتها واسلامها ببدويها وحضريها اه ويرد عليه أيضا وروده بصيغة الجمع فإنه بعينه للآلة ووقع في رواية يعقوب بن السكيت وابن الدفع من الزيادة وهو إمام القوم في المهالك فجمعت في وصفها له بين الثروة والكرم وكثرة القرى والاستعداد له والمبالغة في صفاته ووصفته أيضا مع ذلك بالشجاعة لأن المراد بالمهالك الحروب وهو لثقته بشجاعته يتقدم رفقته وقيل أرادت أنه هاد في السبل الخفية عالم بالطرق في البيداء فالمراد على هذا بالمهالك المفاوز والأول أليق والله أعلم و"ما" في قولها و"ما مالك" استفهامية يقال للتعظيم والتعجب والمعنى ونصف شيء هو مالك ما اعظمه واكرمه وتكرير الاسم ادخل في باب التعظيم وقولها مالك خير من ذلك زيادة في الاعظام وتفسير لبعض الإبهام وأنه خير مما اشير إليه من ثناء وطيب ذكر وفوق ما اعتقد فيه من سؤدد وفخر وهو أجل ممن اصفه لشهرة فضله وهذا بناء على أن الإشارة بقولها ذلك إلى ما تعتقده فيه من صفات المدح ويحتمل أن يكون المراد مالك خير من كل مالك والتعميم يستفاد من المقام كما قيل تمرة خير من جرادة أي كل تمرة خير من كل جرادة وهذا إشارة إلى ما في ذهن المخاطب أي مالك خير مما في ذهنك من مالك الأموال وهو خير مما سأصفه به ويحتمل أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من الثناء على الذين قبله وأن مالكا أجمع من الذين قبله لخصال السيادة والفضل ومعنى قولها قليلات المسارح أنه لاستعداده للضيفان بها لا يوجه منهن إلى المسارح الا قليلا ويترك سائرهن بفنائه فإن فاجأه ضيف وجد عنده ما يقريه به من لحومها وألبانها ومنه قول الشاعر:
حبسنا ولم نسرح لكي لا يلومنا ... على حكمه صبرا معودة الحبس
ويحتمل أن تريد بقولها قليلات المسارح الإشارة إلى كثرة طروق الضيفان فاليوم الذي يطرقه الضيف فيه لا تسرح حتى يأخذ منها حاجته للضيفان واليوم الذي لا يطرقه فيه أحد أو يكون هو فيه غائبا تسرح كلها فأيام الطروق أكثر من أيام عدمه فهي لذلك قليلات المسارح وبهذا يندفع اعتراض من قال لو كانت قليلات المسارح لكانت في غاية الهزال وقيل المراد بكثرة المبارك أنها كثيرا ما تثار فتحلب ثم تترك فتكثر مباركها لذلك وقال بن السكيت أن المراد أن مباركها على العطايا والحمالات وأداء الحقوق وقرى الاضياف كثيرة وإنما يسرح منها ما فضل عن ذلك فالحاصل أنها في الأصل كثيرة ولذلك كانت مباركها كثيرة ثم إذا سرحت

(9/266)


صارت قليلة لأجل ما ذهب منها وأما رواية من روى عظيمات المبارك فيحتمل أن يكون المعنى أنها من سمنها وعظم جثتها تعظم مباركها وقيل المراد أنها إذا بركت كانت كثيرة لكثر من ينضم إليها ممن يلتمس القرى وإذا سرحت سرحت وحدها فكانت قليلة بالنسبة لذلك ويحتمل أن يكون المراد بقلة مسارحها قلة الامكنة التي ترعى فيها من الأرض وإنها لا تمكن من الرعي الا بقرب المنازل طلبها إذا احتيج إليها ويكون ما قرب من المنزل كثير الخصب لئلا تهزل ووقع في رواية سعيد بن سلمة ثم الطبراني أبو مالك وما أبو مالك ذو إبل كثيرة المسالك قليلة المبارك قال عياض أن لم تكن هذه الرواية وهما فالمعنى أنها كثيرة في حال رعيها إذا ذهبت قليلة في حال مباركها إذا قامت لكثرة ما ينحر منها وما يسلك منها فيه من مسالك الجود من رفد ومعونة وحمل وحمالة ونحو ذلك وأما قولها ايقن انهن هوالك فالمعنى أنه الغرماء عادته بنحر الإبل لقرى الضيفان ومن عادته أن يسقيهم ويلهيهم أو يتلقاهم بالغناء مبالغة في الفرح بهم صارت الإبل إذا الغناء عرفت أنها تنحر ويحتمل أنها لم ترد فهم الإبل لهلاكها ولكن لما كان من يعقل اضيف إلى الإبل والأول أولي قوله "قالت الحادية عشرة" قال النووي وفي بعض النسخ الحادي عشرة وفي بعضها الحادية عشر والصحيح الأول وفي رواية الزبير وهي أم زرع بنت اكيمل بن ساعدة "قوله زوجي أبو زرع" في رواية النسائي "نكحت أبا زرع" قوله "فما أبو زرع" في رواية أبي ذر وما "أبو زرع" وهو المحفوظ للأكثر زاد الطبراني في رواية "صاحب نعم وزرع" قوله "أناس" بفتح الهمزة وتخفيف النون وبعد الألف مهملة أي حرك قوله "من حلى" بضم المهملة وكسر اللام "أذني" بالتثنية والمراد أنه ملأ أذنيها بما جرت عادة النساء من التحلي به من قرط وشنف من ذهب ولؤلؤ ونحو ذلك وقال بن السكيت أناس أي اثقل حتى تدلى واضطرب والنوس حركة كل شيء متدل وقد تقدم حديث بن عمر أنه دخل على حفصة وساتها تنطف مع شرح المراد به في المغازي ووقع في رواية بن السكيت أذني وفرعي بالتثنية قال عياض يحتمل أن تريد بالفرعين اليدين لأنهما كالفرعين من الجسد تعني أنه حلى اذنيها ومعصميها أو أرادت العنق واليدين وأقامت اليدين مقام فرع واحد أو أرادت اليدين والرجلين كذلك أو الغديرتين وقرني الرأس فقد جرت عادة المترفات بتنظيم غدائرهن وتحلية نواصيهن وقرونهن ووقع في رواية بن أبي أويس فرعى بالافراد أي حلى رأسي فصار يتدلى من كثرته وثقله والعرب تسمى شعر الرأس فرعا قال امرؤ آلاف وفرع يغشى المتن اسود فاحم قوله "وملأ من شحم عضدي" قال أبو عبيد لم ترد العضد وحده وإنما أرادت الجسد كله لأن العضد إذا سمنت سمن سائر الجسد وخصت العضد لأنه أقرب ما يلي بصر الإنسان من جسده قوله "وبجحنى" بموحدة ثم جيم خفيفة وفي رواية النسائي ثقيلة ثم مهملة قوله "فبجحت" بسكون الشاة وفي رواية لمسلم فتبجحت إلي بالتشديد نفسي هذا هو المشهور في الروايات وفي رواية النسائي وبجح نفسي فبجحت إلي وفي أخرى له ولأبي عبيد فبجحت بضم التاء وإلى بالتخفيف والمعنى أنه فرحها ففرحت وقال بن الدفع المعنى عظمني فعظمت إلى نفسي وقال بن السكيت المعنى فخرني ففخرت وقال بن أبي أويس معناه وسع علي وترفني قوله "وجدني في أهل غنيمة" بالمعجمة والنون مصغر قوله "بشق" بكسر المعجمة قال الخطابي هكذا الرواية والصواب بفتح الشين وهو موضع بعينه وكذا قال أبو عبيد وصوبه الهروي وقال بن الدفع هو بالفتح والكسر موضع

(9/267)


وقال بن أبي أويس وابن حبيب هو بالكسر والمراد شق جبل كانوا فيه لقلتهم وسعهم سكنى شق الجبل أي ناحيته وعلى رواية الفتح فالمراد شق في الجبل كالغار ونحوه وقال بن قتيبة وصوبه نفطويه المعنى بالشق بالكسر إنهم كانوا في شظف من العيش يقال هو بشق من العيش أي بشظف وجهد ومنه {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} وبهذا جزم الزمخشري وضعف غيره قوله "فجعلني في أهل صهيل" أي خيل "وأطيط" أي إبل زاد في رواية النسائي وجامل وهو جمع جمل والمراد اسم فاعل لمالك الجمال كقوله لابن وتأمر واصل أعواد المحامل والرجال على الجمال فأرادت إنهم أصحاب محامل تشير بذلك إلى رفاهيتهم ويطلق الاطيط على نشأ عن ضغط كما في حديث باب الجنة ليأتين عليه زمان وله اطيط ويقال المراد الجوف من الجوع قوله "ودائس" اسم فاعل من الدوس وفي رواية للنسائي ودياس قال بن السكيت الدائس الذي يدوس الطعام وقال أبو عبيد تأوله بعضهم من دياس الطعام وهو دراسه وأهل العراق يقولون الدياس وأهل الشام الدراس فكأنها أرادت إنهم أصحاب زرع وقال أبو سعيد المراد أن عندهم طعاما منتقى وهم في دياس شيء آخر فخيرهم متصل قوله "ومنق" بكسر النون وتشديد القاف قال أبو عبيد لا أدرى معناه وأظنه بالفتح من تنقى الطعام وقال بن أبي أويس المنق بالكسر نقيق أصوات المواشي تصف كثرة ماله وقال أبو سعيد الضرير هو بالكسر من نقيقة الدجاج يقال انق الرجل إذا كان له دجاج قال القرطبي لا يقال لشيء من أصوات المواشي نق وإنما يقال نق الضفدع والعقرب والدجاج ويقال في الهر بقلة وأما قول أبي سعيد فبعيد لأن العرب لا تتمدح بالدجاج ولا تذكرها في الأموال وهذا الذي أنكره القرطبي لم يرده أبو سعيد وإنما أراد ما فهمه الزمخشري فقال كأنها أرادت من يطرد الدجاج عن الحب فينق وحكى الهروي أن المنق بالفتح الغربال وعن بعض المغاربة يجوز أن يكون بسكون النون وتخفيف القاف أي له أنعام ذات نقي أي سمان والحاصل أنها ذكرت أنه نقلها من شظف عيش أهلها إلى الثروة الواسعة من الخيل والإبل والزرع وغير ذلك ومن أمثالهم أن كنت كاذبا فحلبت قاعدا أي صار مالك غنما يحلبها القاعد وبالضد أهل الإبل والخيل قوله "فعنده أقول" في رواية للنسائي "أنطق" وفي رواية الزبير "أتكلم" قوله "فلا أقبح" أي فلا يقال لي قبحك الله أو لا يقبح قولي ولا يرد علي أي لكثرة إكرامه لها وتدللها عليه لا يرد لها قولا ولا يقبح عليها ما تأتي به ووقع في رواية الزبير فبينما أنا عنده أنام الخ قوله "وأرقد فاتصبح" أي أنام الصبحة وهي نوم أول النهار فلا اوقظ إشارة إلى أن لها من بيتها ومهنة أهلها قوله "واشرب فاتقنح" كذا وقع بالقاف والنون الثقيلة ثم المهملة قال عياض لم يقع في الصحيحين الا بالنون ورواه الأكثر في غيرهما بالميم قلت وسيأتي بيان ذلك في آخر الكلام على هذا الحديث حيث نقل البخاري أن بعضهم رواه بالميم قال أبو عبيد اتقمح أي أروى حتى لا أحب الشرب مأخوذ من الناقة القامح وهي التي ترد الحوض فلا تشرب وترفع رأسها ريا وأما بالنون فلا أعرفه انتهى وأثبت بعضهم أن معنى اتقنح بمعنى اتقمح لأن النون والميم يتعاقبان مثل امتقع لونه وانتقع وحكى شمر عن أبي زيد التقنح الشرب بعد الري وقال بن حبيب الري بعد الري وقال أبو سعيد هو الشرب على مهل لكثرة اللبن لأنها كانت آمنة من قلته فلا تبادر إليه مخافة عجزه وقال أبو حنيفة الدينوري قنحت من الشراب تكارهت عليه بعد الري وحكى القالي قنحت الإبل تقنح بفتح النون في الماضي والمستقبل قنحا

(9/268)


بسكون النون وبفتحها أيضا إذا تكارهت الشرب بعد الري وقال أبو زيد وابن السكيت أكثر كلامهم تقنحت تقنحا بالتشديد وقال بن السكيت معنى قولها فأتقنح أي لا يقطع على شربي فتوارد هؤلاء كلهم على أن المعنى أنها تشرب حتى لا تجد مساغا أو أنها لا يقلل مشروبها ولا يقطع عليها حتى تتم شهوتها منه وأغرب أبو عبيد فقال لا أراها قالت ذلك الا لعزة الماء عندهم أي فلذلك فخرت بالري من الماء وتعقبوه بان السياق ليس فيه التقييد بالماء فيحتمل أن تريد أنواع الأشربة من لبن وخمر ونبيذ وسويق وغير ذلك ووقع في رواية الإسماعيلي عن البغوي فانفتح بالفاء والمثناة قال عياض أن لم يكن وهما فمعناه التكبر والزهو يقال في فلان فتحه إذا تاه وتكبر ويكون ذلك تحصل لها من نشأة الشراب أو يكون راجعا إلى جميع ما تقدم أشارت به إلى عزتها عنده وكثرة الخير لديها فهي تزهو لذلك أو معنى اتقنح كناية عن سمن جسمها ووقع في رواية الهيثم وآكل فاتمنح أي أطعم غيري يقال منحه يمنحه إذا أعطاه واتت بالألفاظ كلها بوزن اتفعل إشارة إلى تكرار الفعل وملازمته ومطالبة نفسها أو غيرها بذلك فإن ثبتت هذه الرواية وإلا ففي الاقتصار على ذكر الشرب إشارة إلى أن المراد به اللبن لأنه هو الذي يقوم مقام الشراب والطعام قوله "أم أبي زرع فما أم أبي زرع عكومها رداح وبيتها فساح" في رواية أبي عبيد "فياح" بتحتانية خفيفة من فاح يفيح إذا اتسع ووقع في رواية أبي العباس العذري فيما حكاه عياض أم زرع وما أم زرع بحذف أداة الكنية قال عياض وعلى هذا فتكون كنت بذلك عن نفسها قلت والأول هو الذي تضافرت به الروايات وهو المعتمد وأما قوله فما أم أبي زرع فتقدم بيانه في قول العاشرة والعكوم بضم المهملة جمع عكم بكسرها وسكون الكاف هي الاعدال والاحمال التي تجمع فيها الامتعة وقيل هي نمط تجعل المرأة فيها ذخيرتها حكاه الزمخشري ورداح بكسر الراء وبفتحها وآخره مهملة أي عظام كثيرة الحشو قاله أبو عبيد وقال الهروي معناه ثقيلة يقال للكتيبة الكبيرة رداح إذا كانت بطيئة السير لكثرة من فيها ويقال للمرأة إذا كانت عظيمة الكفل ثقيلة الورك رداح وقال بن حبيب إنما هو رداح أي ملأى قال عياض رأيته مضبوطا وذكر أنه سمعه من بن أبي أويس كذلك قال وليس كما قاله شراح العراقيين قال عياض وما أدري ما أنكره بن حبيب مع أنه فسره بما فسره به أبو عبيد مع مساعدة سائر الرواة له قال ويحتمل أن يكون مراده أن يضبطها بكسر الراء لا بفتحها جمع رادح كقائم وقيام ويصح أن يكون رداح خبر عكوم فيخبر عن الجمع بالجمع ويصح أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي عكومها كلها رداح على أن رداح واحد كم ردح بضمتين وقد سمع الخبر عن الجمع بالواحد مثل ادرع دلاص فيحتمل أن يكون هذا منه ومنه {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} أشار إلى ذلك عياض قال ويحتمل أن يكون مصدرا مثل طلاق وكمال أو على أي عكومها ذات رداح قال الزمخشري لو جاءت الرواية في عكوم بفتح العين لكان الوجه على أن يكون المراد بها الجفنة التي لا ينعقد عن مكانها أما لعظمها وأما لأن القرى متصل دائم من قولهم ورد ولم يعكم أي لم يقف أو التي كثر طعامها وتراكم كما يقال اعتكم الشيء وارتكم قال والرداح حينئذ تكون واقعة في مصابها من كون الجفنة موصوفة بها وفساح بفتح الفاء والمهملة أي واسع يقال بيت فسيح وفساح ومنهم من شدد الياء مبالغة والمعنى أنها وصفت والدة زوجها بأنها كثيرة الآلات والأثاث والقماش واسعة المال كبيرة البيت أما حقيقة فيدل ذلك على عظم الثروة وأما كناية عن كثرة الخير ورغد العيش والبر بمن ينزل بهم لأنهم يقولون فلان رحب المنزل أي يكرم من ينزل عليه

(9/269)


وأشارت بوصف والدة زوجها إلى أن زوجها كثير البر لأمه وأنه لم يطعن في السن لأن ذلك هو الغالب ممن يكون له والدة توصف بمثل ذلك قوله "ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع مضجعه كمسل شطبة ويشبعه ذراع الجفرة" زاد في رواية لابن الدفع وترويه فيقة اليعرة ويميس في حلق النترة فأما مسل الشطبة فقال أبو عبيد أصل الشطبة ما شطب من الجريد وهو سعفه فيشق منه قضبان رقاق تنسج منه الحصر وقال بن السكيت الشطبة من سدى الحصير وقال بن حبيب هي العود المحدد كالمسلة وقال بن الأعرابي أرادت بمسل الشطبة سيفا سل من غمده فمضجعه الذي ينام فيه في الصغر كقدر مسل شطبة واحدة أما على ما قال الأولون فعلى قدر ما يسل من الحصير فيبقى مكانه فارغا وأما على قول بن الأعرابي فيكون كغمد السيف وقال أبو سعيد الضرير شبهته بسيف مسلول ذي شطب وسيوف اليمن كلها ذات شطب وقد شبهت العرب الرجال بالسيوف أما لخشونة الجانب وشدة المهابة واما لجمال الرونق وكمال اللألاء وأما لكمال صورتها في اعتدالها واستوائها وقال الزمخشري المسل مصدر بمعنى السل يقام مقام المسلول والمعنى كمسلول الشطبة وأما الجفرة بفتح الجيم وسكون الفاء فهي الأنثى من ولد المعز إذا كان بن أربعة أشهر وفصل عن أمة وأخذ في الرعي قاله أبو عبيد وغيره وقال بن الدفع وابن دريد ويقال لولد الضأن أيضا إذا كان ثنيا وقال الخليل الجفر من أولاد الشاة ما استجفر أي صار له بطن والفيقة بكسر الفاء وسكون التحتانية بعدها قاف ما يجتمع في الضرع بين الحلبتين والفواق بضم الفاء الزمان الذي بين الحلبتين واليعرة بفتح التحتانية وسكون المهملة بعدها راء العناق ويميس بالمهملة أي يتبختر والمراد يحلق النترة وهي بالنون المفتوحة ثم الشاة الساكنة الدرع اللطيفة أو القصيرة وقيل اللينة الملمس وقيل الواسعة والحاصل أنها وصفته بهيف القد وأنه ليس ببطين ولا جاف قليل الأكل والشرب ملازم لآلة الحرب يختال في موضع القتال وكل ذلك مما تتمادح به العرب ويظهر لي أنها وصفته بأنه خفيف الوطأة عليها لأن زوج الأب غالبا يستثقل ولده من غيرها فكان هذا يخفف عنها فإذا دخل بيتها فانفق أنه قال فيه مثلا لم يضطجع الا قدر ما يسل السيف من غمده ثم يستيقظ مبالغة في التخفيف عنها وكذا قولها يشبعه ذراع الجفرة أنه لا يحتاج ما عندها بالأكل فضلا عن الأخذ بل لو طعم عندها لاقتنع باليسير الذي يسد الرمق من المأكول والمشروب قوله "بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع" في رواية مسلم "وما" بالواو بدل الفاء قوله "طوع أبيها وطوع أمها" أي انها بارة بهما زاد في رواية الزبير وزين أهلها ونسائها أي يتجملون بها وفي رواية للنسائي زين أمها وزين أبيها بدل طوع في الموضعين وفي رواية للطبراني وقرة عين لأمها وأبيها وزين لأهلها وزاد الكاذي في روايته عن بن السكيت وصفر ردائها وزاد في رواية قباء هضيمة الحشا جائلة الوشاح عكناء فعماء تجلاء دعجاء رجاء فنواء مؤنقة مفنقة قوله "وملء كسائها" كناية عن كمال شخصها ونعمة جسمها قوله "وغيظ جارتها" في رواية سعيد بن سلمة ثم مسلم "وعقر جارتها" بفتح المهملة وسكون القاف أي دهشها أو قتلها وفي رواية للنسائي والطبراني "وحير جارتها" بالمهملة ثم التحتانية من الحيرة وفي أخرى له وحين جارتها بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها نون أي هلاكها وفي رواية الهيثم بن عدي وعبر جارتها بضم المهملة وسكون الموحدة وهو من العبرة بالفتح أي تبكي حسدا لما تراه منها أو بالكسر أي تعتبر بذلك وفي رواية سعيد بن سلمة وحبر نسائها واختلف في ضبطه فقيل بالمهملة والموحدة من التحبير وقيل بالمعجمة والتحتانية من الخيرية والمراد

(9/270)


بجارتها ضرتها أو هو على حقيقته لأن الجارات من شأنهن ذلك ويؤيد الأول أن في رواية حنبل وغير جارتها بالغين المعجمة وسكون التحتانية من الغيرة وسيأتي قريبا قول عمر لحفصة "لا يغرنك أن كانت جارتك اضوأ منك" يعني عائشة وقولها "صفر" بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء أي خال فارغ والمعنى أن رداءها كالفارغ الخالي لأنه لا يمس من جسمها شيئا لأن ردفها وكتفيها يمنع مسه من خلفها شيئا من جسمها ونهدها يمنع مسه شيئا من مقدمها وفي كلام بن أبي أويس وغيره معنى قولها بنو ردائها تصفها بأنها خفيفة موضع التردية وهو أعلى بدنها ومعنى قوله "ملء كسائها" أي ممتلئة موضع الازرة وهو أسفل بدنها والصفر الشيء الفارغ قال عياض والأولى أنه أراد أن امتلاء منكبيها وقيام نهديها يرفعان الرداء عن أعلى جسدها فهو لا يمسه فيصير كالفارغ منها بخلاف أسفلها ومنه قول الشاعر:
أبت الروادف والنهود لقمصها ... من أن تمس بطونها وظهورها
وقولها قباء بفتح القاف وبتشديد الموحدة أي ضامرة البطن و هضيمة الحسا هو بمعنى الذي قبله و جائلة الوشاح أي يدور وشاحها و عكناء أي ذات اعكان و فعماء بالمهملة أي ممتلئة الجسم و نجلاء بنون وجين أي واسعة العين و دعجاء أي شديدة يخلو العين ورجاء بتشديد الجيم أي كبيرة الكفل ترتج من عظمة أن كانت الرواية بالراء فإن كانت بالزاي فالمراد في حاجبيها تقويس ومونقة بنون ثقيلة وقاف و مفنقة بوزنه أي مغذية بالعيش الناعم وكلها أوصاف حسان وفي رواية بن الدفع برود الظل أي أنها حسنة العشرة كريمة الجوار وفي الألي بتشديد التحتانية والالى بكسر الهمزة أي العهد أو القرابة كريم الخل بكسر المعجمة أي الصاحب زوجا كان أو غيره وإنما ذكرت هذه الأوصاف مع أن الموصوف مؤنث لأنها ذهبت به مذهب التشبيه أي هي كرجل في هذه الأوصاف أو حملته على المعنى كشخص أو شيء ومنه قول عروة بن حرام وعفراء عني الممرض المتواني قال الزمخشري ويحتمل أن يكون بعض الرواة نقل هذه الصفة من الابن إلى البنت وفي أكثر هذه الأوصاف رد على الزجاجي في إنكاره مثل قولهم مررت برجل حسن وجهه وزعم أن سيبويه انفرد باجازة مثل ذلك وهو ممتنع لأنه أضاف الشيء إلى نفسه قال القرطبي أخطأ الزجاجي في مواضع في منعه وتعليله وتخطئته ودعواه الشذوذ وقد نقل بن خروف أن القائلين به لا يحصى عددهم وكيف يخطىء من تمسك بالسماع الصحيح كما جاء في هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته وكما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم شئن أصابعه تنبيه سقط من رواية الزبير ذكر بن أبي زرع ووصف بنت أبي زرع فجعل وصف بن أبي زرع لبنت أبي زرع ورواية الجماعة أولي وأتم قوله جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع في رواية الطبراني خادم أي زرع وفي رواية الزبير وليد أبي زرع والوليد الخادم يطلق على الذكر والأنثى قوله لا تبث حديثنا تبثيثا بالموحدة ثم المثلثة وفي رواية بالنون بدل الموحدة وهما بمعنى بث الحديث ونث الحديث اظهره ويقال بالنون في الشر خاصة كما تقدم في كلام الأولى وقال بن الأعرابي النثاث المغتاب ووقع في رواية الزبير لولا تخرج قوله ولا تنفث بتشديد القاف بعدها مثلثة أي تسرع فيه بالخيانة تذهبه بالسرقة كذا في البخاري وضبطه عياض في مسلم بفتح أوله وسكون القاف قال وجاء تنقيثا مصدرا الأصل وهو جائز كما في قوله تعالى {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} ووقع ثم مسلم في

(9/271)


الطريق التي بعد هذه وهي رواية سعيد بن سلمة ولا تنقث بالتشديد كما في رواية البخاري انتهى وضبطه الزمخشري بالفاء الثقيلة بدل القاف وقال في شرحه النفث والتفل بمعنى وأرادت المبالغة في براءتها من الخيانة فيحتمل أن كان محفوظا أن تكون إحدى الروايتين في مسلم بالقاف كما في رواية البخاري والأخرى بالفاء والميرة بكسر الميم وسكون التحتانية بعدها راء الزاد وأصله ما يحصله البدوي من الحضر ويحمله إلى منزله لينتفع به أهله وقال أبو سعيد التنقيث إخراج ما أهلها إلى غيرهم وقال بن حبيب معناه لا تفسده ويؤيده أن رواية الزبير ولا تفسد وذكر مسلم أن في رواية سعيد بن سلمة بالفاء في الموضعين وفي رواية أبي عبيد ولا تنقل وكذا للزبير عن عمه مصعب ولأبي عوانة ولا تنتقل وفي رواية عن بن الدفع ولا تغث بمعجمة ومثلثة أي تفسد وأصله من الغثة بالضم وهي الوسوسة وفي رواية للنسائي ولا تفتش ميرتنا تفشيشا بفاء ومعجمتين من الافشاش طلب الأكل من هنا وهنا ويقال فش ما على الخوان إذا أكله أجمع ووقع ثم الخطابي ولا تفسد ميرتنا تغشيشا بمعجمات وقال مأخوذ من غشيش الخبر إذا فسد تريد أنها تحسن مراعاة الطعام وتتعاهده بأن تطعم منه أولا طريا ولا تغفله فيفسد وقال القرطبي فسره الخطابي بأنها لا تفسد الطعام المخبوز بل تتعهده بأن تطعمهم منه أولا المازري وهذا إنما يتمشى على الرواية التي وقعت للخطابي وأما على رواية الصحيح ولا تملأ فلا يستقيم وإنما معناه أنها تتعهده بالتنظيف والحاصل أن الرواية في الأولى كما في الأصل ولا تنقث ميرتنا تنقيثا وعند الخطابي ولا تفسد ميرتنا تغشيشا بالغين المعجمة واتفقتا في الثانية على ولا تملأ بيتنا تعشيشا وهي بالعين المهملة وعلى رواية الخطابي هي أقعد بالسجع أعني تعشيشا من تنقيثا والله أعلم قوله ولا تملأ بيتنا تعشيشا بالمهملة ثم معجمتين أي أنها مصلحة للبيت مهتمة بتنظيفه وإلقاء كناسته وابعادها منه وإنها لا تكتفي بقم كناسته وتركها في جوانبه كأنها الاعشاش وفي رواية الطبراني ولا تعش بدل ولا تملأ ووقع في رواية سعيد بن سلمة التي علقها البخاري بعد بالغين المعجمة بدل المهملة وهو من الغش ضد الخالص أي لا تملؤه بالخيانة بل هي ملازمة للنصيحة فيما هي فيه وقال بعضهم هو كناية عن عفة فرجها والمراد أنها لا تملأ البيت وسخا بأطفالها من الزنا وقال بعضهم كناية عن وصفها بأنها لا تأتيهم بشر ولا تهمة وقال الزمخشري في تعشيشا بالعين المهملة يحتمل أن يكون من عششت النخلة إذا قل سعفها أي لا تملؤه اختزالا وتقليلا لما فيه ووقع في رواية الهيثم ولا تنجث اخبارنا تنجيثا بنون وجيم ومثلثة أي تستخرجها وأصل التنجثة ما يخرج من البئر من تراب ويقال أيضا بالموحدة بدل الجيم زاد الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن جعفر الوكاني عن عيسى بن يونس قالت عائشة حتى ذكرت كلب أبي زرع وكذا ذكره الإسماعيلي عن البغوي عن الوركاني وزاد الهيثم بن عدي في روايته ضيف أبي زرع فما ضيف أبي زرع في شبع ورى ورتع طهاة أبي زرع فما طهاة أبي زرع لا تفتر ولا تعدى تقدح قدرا وتنصب أخرى فتلحق الآخرة بالأولى مال أبي زرع فما مال أبي زرع على الجمم معكوس وعلى العفاة محبوس وقوله ري ورتع بفتح الراء وبالمثناة أي تنعم ومسرة والطهاة بضم المهملة الطباخون وقوله لا تفتر بالفاء الساكنة ثم الشاة المضمومة
ـــــــ
(1) كذا، والصواب: في كلام الثانية.

(9/272)


أي لا تسكن ولا تضعف وقوله ولا تعدى بمهملة أي تصرف وتقدح بالقاف والحاء المهملة أي تفرق وتنصب أي ترفع على النار والجمم بالجيم جمع جمة هم القوم يسألون في الدية ومعكوس أي مردود والعفاة السائلون ومحبوس أي موقوف عليهم قوله "قالت خرج أبو زرع" في رواية النسائي خرج من عندي وفي رواية الحارث بن أبي أسامة ثم خرج من عندي قوله والأوطاب تمخض الاوطاب جمع وطب بفتح أوله وهو وعاء اللبن وذكر أبو سعيد أن كم على اوطاب على خلاف قياس العربية لأن فعلا لا يجمع على افعال بل على فعال وتعقب بأنه قال الخليل جمع الوطب وطاب وأوطاب وقد جمع فرد على افراد فبطل الحصر الذي ادعاه نعم القياس في فعل أفعل في القلة وفعال أو فعول في الكثرة قال عياض ورأيت في رواية حمزة عن النسائي والأوطاب بغير واو فإن كان مضبوطا فهو على إبدال الواو همزة كما قالوا اكاف ووكاف قال يعقوب بن السكيت أرادت أنه يبكر بخروجه من منزلها غدوة وقت قيام الخدم والعبيد لاشغالهم وانطوى في خبرها كثرة خير داره وغزر لبنه وأن عندهم ما يكفيهم ويفضل حتى يمخضوه ويستخرجوا زبده ويحتمل أن يكون أنها أرادت أن الوقت الذي خرج فيه كان في زمن الخصب وطيب الربيع قلت وكأن سبب ذكر ذلك توطئة للباعث على رؤية أبي زرع للمرأة على الحالة التي رآها عليها أي أنها من مخض اللبن تعبت فاستلقت تستريح فرآها أبو زرع على ذلك قوله فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين في رواية الطبراني فأبصر امرأة لها ابنان كالفهدين وفي رواية بن الدفع كالصقرين وفي رواية الكاذي كالشبلين ووقع في رواية إسماعيل بن أبي أويس سارين حسنين نفيسين وفائدة وصفها لهما التنبيه تزويج أبي زرع لها لأنهم كانوا يرغبون في أن تكون أولادهم من النساء المنجبات فلذلك حرص أبو زرع عليها لما رآها وفي رواية للنسائي فإذا هو بأم غلامين ووصفها لهما بذلك للإشارة إلى صغر سنهما واشداد خلقهما وتواردت الروايات على إنهما ابناها الا ما رواه أبو معاوية عن هشام فإنه قال فمر على جارية معها اخواها قال عياض يتأول بأن المراد إنهما ولداها ولكنهما جعلا اخويها في حسن الصورة وكمال الخلقة فإن حمل على ظاهره كان أدل على صغر سنها ويؤيده قوله في رواية غندر فمر بجارية شابة كذا قال وليس لغندر في هذا الحديث رواية وإنما هذه رواية الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن جعفر وهو الوركاني ولم يدرك الحارث محمد بن جعفر غندرا ويؤيد أنه الوركاني أن غندرا ما له رواية عن عيسى بن يونس وقد أخرجه الإسماعيلي عن البغوي عن محمد بن جعفر الوركاني ولكن لم يسق لفظه ثم أن كونهما اخويها يدل على صغر سنها فيه نظر لاحتمال أن يكونا من أبيها وولدا له بعد أن طعن في السن وهي بكر أولاده فلا تكون شابة ويمكن الجمع بين كونهما اخويها وولديها بأن تكون لما وضعت ولديها كانت أمها ترضع فأرضعتهما قوله يلعبان من تحت خصرها برمانتين في رواية الحارث من تحت درعها وفي رواية الهيثم من تحت صدرها قال أبو عبيد يريد أنها ذات كفل عظيم فإذا استلقت ارتفع كفلها بها من الأرض حتى يصير تحتها فجوة تجري فيها الرمانة قال وذهب بعض الناس إلى الثديين وليس هذا موضعه اه وأشار بذلك إلى ما جزم به إسماعيل بن أبي أويس ويؤيد قول أبي عبيد ما وقع في رواية أبي معاوية وهي مستلقية على قفاها ومعهما رمانة يرميان بها من تحتها فتخرج من الجانب الآخر من عظم اليتيها لكن رجح عياض تأويل الرمانتين بالنهدين من جهة أن سياق أبي معاوية هذا لا يشبه كلام أم زرع قال فلعله من كلام بعض رواته أورده على

(9/273)


سبيل التفسير الذي ظنه فأدرج في الخبر وإلا لم تجر العادة ورميهم الرمان تحت أصلاب أمهاتهم وما الحامل لها على الاستلقاء حتى يصفان ذلك ويرى الرجال منها ذلك بل الاشبه أن يكون قولها يلعبان من تحت خصرها أو صدرها أي أن ذلك مكان الولدين منها وأنهما كانا في حضنيها أو جنبيها وفي تشبيه النهدين بالرمانتين إشارة إلى صغر سنها وإنها لم تترهل حتى تنكسر ثدياها وتتدلى اه وما رده ليس ببعيد أما نفي العادة فمسلم لكن من أين له أن ذلك لم يقع اتفاقا بأن تكون لما استلقت وولداها معها شغلتهما عنها بالرمانة يلعبان بها ليتركاها تستريح فاتفق إنهما لعبا بالهيئة التي حكيت وأما الحامل لها على الاستلقاء فقد قدمت احتمال أن يكون من التعب الذي حصل لها من المخض وقد يقع ذلك للشخص فيستلقي موضع الاستلقاء والأصل عدم الادراج الذي تخيله وأن كان ما اختاره من أن المراد بالرمانة ثديها أولي لأنه ادخل في وصف المرأة بصغر سنها والله أعلم قوله فطلقني ونكحها في رواية الحارث فأعجبته فطلقني وفي رواية أبي معاوية فخطبها أبو زرع فتزوجها فلم تزل به حتى طلق أم زرع فأفاد السبب في رغبة أبي زرع فيها ثم في تطليقه أم زرع قوله فنكحت بعده رجلا في رواية النسائي فاستبدلت وكل بدل أعور وهو مثل معناه أن البدل من الشيء غالبا لا يقوم مقام المبدل منه بل هو دونه وأنزل منه والمراد بالاعور المعيب قال ثعلب الأعور الرديء من كل شيء كما يقال كلمة عوراء أي قبيحة وهذا إنما هو على الغالب وبالنسبة فأخبرت أم زرع أن الزوج الثاني لم يسد مسد أبي زرع قوله سريا بمهملة ثم راء ثم تحتانية ثقيلة أي من سراة الناس وهم كبراؤهم في حسن الصورة والهيئة والسري من كل شيء خياره وفسره الحربي بالسخى ووقع في رواية الزبير شابا سريا قوله ركب شريا بمعجمة ثم راء ثم تحتانية ثقيلة قال بن السكيت تعني فرسا خيارا فائقا وفي رواية الحارث ركب فرسا عربيا وفي رواية الزبير اعوجيا وهو منسوب إلى اعوج فرس مشهور تنسب إليه العرب جياد الخيل كان لبني كندة ثم لبني سليم ثم لبني هلال وقيل لبني غنى وقيل لبني كلاب وكل هذه القبائل بعد كندة من قيس قال بن خالويه كان لبعض ملوك كندة فغزا قوما من قيس فقتلوه وأخذوا فرسه وقيل أنه ركب صغيرا رطبا قبل أن يشتد فاعوج وكبر على ذلك والشرى الذي يستشرى في سيره أي يمضي فيه بلا فتور وشري الرجل في الأمر إذا لج فيه وتمادى وشري البرق إذا كثر لمعانه قوله وأخذ خطيا بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة نسبة إلى الخط صفة موصوف وهو الرمح ووقع في رواية الحارث وأخذ رمحا خطيا والخط موضع بنواحي البحرين تجلب منه الرماح ويقال أصلها من الهند تحمل في البحر إلى الخط المكان المذكور وقيل أن سفينة في أول الزمان كانت مملوءة رماحا قذفها البحر إلى الخط فخرجت رماحها فيها فنسبت إليها وقيل أن الرماح إذا كانت على جانب البحر تصير كالخط بين البر والبحر فقيل لها الخطية لذلك وقيل الخط منبت الرماح قال عياض ولا يصح وقيل الخط الساحل وكل ساحل خط قوله الرواح بمهملتين من الرواح ومعناه أتى بها إلى المراح وهو موضع مبيت الماشية قال بن أبي أويس معناه أنه غزا فغنم فأتى بالنعم الكثيرة قوله علي بالتشديد وفي رواية الطبراني وأراح على بيتي قوله نعما بفتحتين وهو جمع لا واحد له من لفظه وهو الإبل خاصة ويطلق على جميع المواشي إذا كان فيها إبل وفي رواية حكاها عياض نعما بكسر أوله جمع نعمة والاشهر الأول قوله ثريا بمثلثة أي كثيرة والثرى المال الكثير من الإبل وغيرها يقال اثرى فلان فلانا إذا كثره فكان

(9/274)


في شيء من الأشياء أكثر منه وذكر ثريا وأن كان وصف مؤنث لمراعاة السجع ولان كل ما ليس تأنيثه حقيقيا يجوز فيه التذكير والتأنيث قوله "وأعطاني من كل رائحة" براء وتحتانية ومهملة في رواية لمسلم ذابحة بمعجمة ثم موحدة ثم مهملة أي مذبوحة مثل عيشة راضية أي مرضية فالمعنى أعطاني من كل شيء يذبح زوجا وفي رواية الطبراني من كل سائمة والسائمة الراعية والرائحة الآتية وقت الرواح وهو آخر النهار قوله "زوجا" أي اثنين من كل شيء من الحيوان الذي يرعى والزوج يطلق على الإثنين وعلى الواحد أيضا وأرادت بذلك كثرة ما أعطاها وأنه لم يقتصر على الفرد من ذلك قوله "وقال كلي أم زرع وميرى أهلك" أي صليهم وأوسعي عليهم بالميرة بكسر الميم وهي الطعام والحاصل أنها وصفته بالسؤدد في ذاته والشجاعة والفضل والجود بكونه أباح لها أن تأكل ما شاءت من ماله وتهدي منه ما شاءت لأهلها مبالغة في اكرامها ومع ذلك فكانت أحواله عندها محتقرة بالنسبة لأبي زرع وكان سبب ذلك أن أبا زرع كان أول ازواجها فسكنت محبته في قلبها كما قيل ما الحب الا للحبيب الأول زاد أبي معاوية في روايته فتزوجها رجل آخر فأكرمها أيضا فكانت تقول أكرمني وفعل لي وتقول في آخر ذلك لو جمع ذلك كله قوله "قالت فلو جمعت" في رواية الهيثم فجمعت ذلك كله وفي رواية الطبراني فقلت لو كان هذا أجمع في أصغر قوله "كل شيء" في رواية للنسائي كل الذي قوله أعطانيه في رواية مسلم أعطاني بلا هاء قوله "ما بلغ أصغر آنية أبي زرع" في رواية بن أبي أويس ما ملأ إناء من آنية أبي زرع وفي رواية للنسائي ما بلغت إناء وفي رواية الطبراني فلو جمعت كل شيء أصبته منه فجعلته في أصغر وعاء من أوعية أبي زرع ما ملأه لأن الإناء أو الوعاء لا يسع ما ذكرت أنه أعطاها من أصناف النعم ويظهر لي حمله على مستحيل وهي أنها أرادت أن الذي أعطاها جملة أراد أنها توزعه على المدة إلى أن يجيء أوان الغزو فلو وزعته لكان حظ كل يوم مثلا لا يملأ أصغر آنية أبي زرع التي كان يطبخ فيها في كل يوم على الدوام والاستمرار بغير نقص ولا قطع قوله "قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الترمذي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد الكاذي في روايته يا عائش وفي رواية بن أبي أويس يا عائشة قوله "كنت لك" في رواية للنسائي فكنت لك وفي رواية الزبير أنا لك وهي تفسير المراد برواية كنت كما جاء في تفسير قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أي أنتم ومنه {مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ} أي من هو في المهد ويحتمل أن تكون كان هنا على بابها والمراد بها الاتصال كما في قوله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} إذ المراد بيان زمان ماض في الجملة أي كنت لك في سابق علم الله قوله كأبي زرع لام زرع زاد في رواية الهيثم بن عدي في الألفة والوفاء لا في الفرقة والجلاء وزاد الزبير في آخره الا أنه طلقها وإني لا اطلقك ومثله في رواية للطبراني وزاد النسائي في رواية له والطبراني قالت عائشة يا رسول الله بل أنت خير من أبي زرع وفي أول رواية للزبير بأبي وأمي لانت خير لي من أبي زرع لام زرع وكأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك تطييبا لها وطمأنينة لقلبها ودفعا لإيهام عموم التشبيه بجملة أحوال أبي زرع إذ لم يكن فيه ما تذمه النساء سوى ذلك وقد وقع الإفصاح بذلك وأجابت هي عن ذلك جواب مثلها في فضلها وعلمها تنبيه وقع ثم أبي يعلى عن سويد بن سعيد عن سفيان بن عيينة عن داود بن شابور عن عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عروة عن عائشة أنها حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي زرع وأم زرع وذكرت شعر أبي زرع في أم زرع كذا فيه ولم يسق لفظه ولم اقف في شيء من

(9/275)


طرقه على هذا الشعر وأخرجه أبو عوانة من طريق عبد الله بن عمران والطبراني من طريق بن أبي عمر كلاهما عن بن عيينة بإسناده ولم يسق لفظه أيضا قوله "قال سعيد بن سلمة" هو بن أبي الحسام وهو مدني صدوق ما له في البخاري الا هذا الموضع قوله قال هشام هو بن عروة يعني بهذا الإسناد وقد وصله مسلم عن الحسن بن علي عن موسى بن إسماعيل عنه ولم يسق لفظه بتمامه بل ذكر أن عنده عيانا ولم يشك وأنه قال وصفر ردائها وخير نسائها وعقر جارتها وقال ولا تنقث ميرتنا تنقيثا وقال وأعطاني من كل رائحة وقد بينت ذلك كله وهذا الذي نبه عليه البخاري من قوله ولا تعشش بيتنا تعشيشا اختلف في ضبطه فقيل بالغين المعجمة وقيل بالمهملة وقد تقدم بيانه وقد وصله أبو عوانة في صحيحه والطبراني بطوله وإسناده موافق لعيسى بن يونس وأشرت إلى ما في روايته من المخالفة فيما تقدم مفصلا وذكر الجياني أنه وقع ثم أبي زيد المروزي بلفظ قال سعيد بن سلمة عن أبي سلمة وعشش بيتنا تعشيشا وهو خطأ في السند والمتن والصواب ولا تعشش وقال موسى حدثنا سعيد عن هشام قوله "قال أبو عبد الله وقال بعضهم فانقمح بالميم وهذا أصح" أبو عبد الله المذكور هو البخاري المصنف وهو يوضح أن الذي وقع في أصل روايته انقنح بالنون وقد رواه انقمح بالميم من طريق عيسى بن يونس أيضا النسائي وأبو يعلى وابن حبان والجوزقي وغيرهم وكذا وقع في رواية سعيد بن سلمة المذكورة وفي رواية أبي عبيد أيضا وقد تقدم بيان الاختلاف في ضبطها ومعناها وفي هذا الحديث من ما تقدم حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى ما يمنع وفيه المزح أحيانا وبسط النفس به ومداعبة الرجل أهله واعلامه بمحبته لها ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة تترتب على ذلك من تجنيها عليه واعراضها عنه وفيه منع الفخر بالمال وبيان جواز ذكر الفضل بأمور الدين وأخبار الرجل أهله بصورة حاله معهم وتذكيرهم بذلك لا سيما ثم وجود ما طبعن عليه من كفر الإحسان وفيه ذكر المرأة إحسان زوجها وفيه إكرام الرجل بعض نسائه بحضور ضرائرها بما يخصها به من قول أو فعل ومحله ثم السلامة من الميل المفضي إلى الجور وقد تقدم في أبواب الهبة جواز تخصيص بعض الزوجات بالتحف واللطف إذا استوفى للأخرى حقها وفيه جواز تحدث الرجل مع زوجته نوبتها وفيه الحديث عن الأمم الخالية وضرب الأمثال بهم اعتبارا وجواز الانبساط بذكر طرف الأخبار ومستطابات النوادر تنشيطا للنفوس وفيه حض النساء على الوفاء لبعولتهن وقصر الطرف عليهم والشكر لجميلهم ووصف المرأة زوجها بما تعرفه من حسن وسوء وجواز المبالغة في الأوصاف ومحله إذا لم يصر ذلك ديدنا لأنه يفضي إلى خرم المروءة وفيه تفسير ما يجمله المخبر من الخبر أما بالسؤال عنه وأما ابتداء من تلقاء نفسه وفيه أن ذكر المرء بما فيه من العيب جائز إذا قصد التنفير عن ذلك الفعل ولا يكون ذلك غيبة أشار إلى ذلك الخطابي بالإجماع أبو عبد الله التميمي شيخ عياض بأن الاستدلال بذلك إنما يتم أن لو كان النبي صلى الله عليه وسلم سمع المرأة تغتاب زوجها فأقرها واما الحكاية عمن ليس بحاضر فليس كذلك وإنما هو نظير من قال في الناس شخص يسيء ولعل هذا هو الذي أراده الخطابي فلا تعقب عليه وقال المازري قال بعضهم ذكر بعض هؤلاء النسوة أزواجهن بما يكرهون ولم يكن ذلك غيبة لكونهم لا يعرفون بأعيانهم وأسمائهم قال المازري وإنما يحتاج إلى هذا الاعتذار لو كان من تحدث عنده بهذا الحديث سمع كلامهن في اغتياب أزواجهن فأقرهن على ذلك فأما والواقع خلاف ذلك وهو أن عائشة حكت قصة عن نساء مجهولات غائبات فلا ولو أن

(9/276)


امرأة وصفت زوجها بما يكرهه لكان غيبة مجرمة على من يقوله ويسمعه الا أن كانت في مقام الشكوى منه ثم الحاكم وهذا في حق المعين فأما المجهول الذي لا يعرف فلا حرج في سماع الكلام فيه لأنه لا يتأذى الا إذا عرف أن من ذكر ثم أن هؤلاء الرجال مجهولون لا تعرف أسماؤهم ولا أعيانهم فضلا عن أسمائهم ولم يثبت النسوة إسلام حتى يجري عليهم حكم الغيبة فبطل الاستدلال به لما ذكر وفيه تقوية لمن كره نكاح من كان لها زوج لما ظهر من اعتراف أم زرع بإكرام زوجها الثاني لها بقدر طاقته ومع ذلك فحقرته وصغرته بالنسبة إلى الزوج الأول وفيه أن الحب يستر الإساءة لأن أبا زرع مع اساءته لها بتطليقها لم يمنعها ذلك من المبالغة في وصفه إلى أن بلغت حد الأفراط والغلو وقد وقع في بعض الإشارة إشارة إلى أن أبا زرع ندم على طلاقها وقال في ذلك شعرا ففي رواية عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عن عائشة أنها حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي زرع وأم زرع وذكرت شعر أبي زرع على أم زرع وفيه جواز وصف النساء ومحاسنهن للرجل لكن محله إذا كن مجهولات والذي يمنع من ذلك وصف المرأة المعينة بحضرة الرجل أو أن يذكر من وصفها ما لا يجوز للرجال تعمد النظر إليه وفيه أن التشبيه لا يستلزم مساواة المشبه بالمشبه به من كل جهة لقوله صلى الله عليه وسلم كنت لك كأبي زرع والمراد ما بينه بقوله في رواية الهيثم في الألفة إلى آخره لا في جميع ما وصف به أبو زرع من الثروة الزائدة والابن والخادم وغير ذلك وما لم يذكر من أمور الدين كلها وفه أن كناية الطلاق لا توقعه الا مع مصاحبة النية فإنه صلى الله عليه وسلم تشبه بأبي زرع وأبو زرع قد طلق فلم يستلزم ذلك وقوع الطلاق لكونه لم يقصد إليه وفيه جواز التأسي بأهل الفضل من كل أمة لأن أم زرع أخبرت عن أبي زرع بجميل عشرته فامتثله النبي صلى الله عليه وسلم كذا قال المهلب واعترضه عياض فأجاد وهو أنه ليس في السياق ما يقتضي أنه تأسى به بل فيه أنه أخبر انحاله معها مثل حال أم زرع نعم ما استنبطه صحيح باعتبار أن الخبر إذا سيق وظهر من الشارع تقريره مع الاستحسان له جاز التأسي به ونحو مما قاله المهلب قول آخر أن فيه قبول خبر الواحد لأن أم زرع أخبرت بحال أبي زرع فامتثله النبي صلى الله عليه وسلم بالإجماع عياض أيضا فأجاد نعم يؤخذ منه القبول بطريق أن النبي صلى الله عليه وسلم اقره ولم ينكره وفيه جواز قول بأبي وأمي ومعناه فداك أبي وأمي وسيأتي تقريره في كتاب الأدب أن شاء الله تعالى وفيه مدح الرجل في وجهه إذا علم أن ذلك لا يفسده وفه جواز القول للمتزوج بالرفاء والبنين أن ثبتت اللفظة الزائدة أخيرا وقد تقدم البحث فيه قبل بأبواب وفيه أن من شأن النساء إذا تحدثن أن لا يكون حديثهن غالبا الا في الرجال وهذا بخلاف الرجال فإن غالب حديثهم إنما هو فيما يتعلق بأمور المعاش وفيه جواز الكلام بالألفاظ الغريبة واستعمال السجع في الكلام إذا لم يكن مكلفا قال عياض ما ملخصه في كلام هؤلاء النسوة من فصاحة الألفاظ وبلاغة العبارة والبديع ما لا مزيد عليه ولا سيما كلام أم زرع فإنه مع كثرة فصوله وقلة فضوله مختار الكلمات واضح السمات نير النسمات قد قدرت ألفاظه قدر معانيه وقررت قواعده وشيدت مبانيه وفي كلامهن ولا سيما الأولى والعاشرة أيضا من فنون التشبيه والاستعارة والكناية والإشارة والموازنة والترصيع والمناسبة والتوسيع والمبالغة والتسجيع والتوليد وضرب المثل وأنواع المجانسة والزام ما لا يلزم والايغال والمقابلة والمطابقة والاحتراس وحسن التفسير والترديد وغرابة التقسيم وغير ذلك أشياء ظاهرة لمن تأملها وقد اشرنا إلى بعضها فيما تقدم وكمل ذلك أن غالب ذلك افرغ في قالب الانسجام وأتى به الخاطر بغير تكلف وجاء لفظه تابعا لمعناه منقادا مستكره ولا منافر والله يمن على من يشاء بما شاء لا إله إلا هو قوله "حدثنا

(9/277)


هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "قدر الجارية الحديثة السن" أي القريبة العهد بالصغر، وقد بينت في شرح المتن في العيدين أنها كانت يومئذ بنت خمس عشرة سنة أو أزيد، ووقع عند مسلم من رواية عمرو بن الحارث عن الزهري "الجارية العربة" وهي بفتح المهملة كسر الراء بعدها موحدة، وتقدم تفسيره في صفة الجنة من بدء الخلق.

(9/278)


83- باب مَوْعِظَةِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ لِحَالِ زَوْجِهَا
5191- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} حَتَّى حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ وَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِإِدَاوَةٍ فَتَبَرَّزَ ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} قَالَ وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ هُمَا عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُمْ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي قَالَتْ وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُرَاجِعْنَهُ وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ فَأَفْزَعَنِي ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهَا قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكِ مِنْهُنَّ ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ قَالَتْ نَعَمْ فَقُلْتُ قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَهْلِكِي لاَ تَسْتَكْثِرِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ وَلاَ تَهْجُرِيهِ وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عَائِشَةَ قَالَ عُمَرُ وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِغَزْوِنَا فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ أَثَمَّ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ قُلْتُ مَا هُوَ أَجَاءَ غَسَّانُ قَالَ لاَ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْوَلُ طَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ فَقَالَ اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ فَقُلْتُ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْرُبَةً لَهُ فَاعْتَزَلَ

(9/278)


فِيهَا وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ مَا يُبْكِيكِ أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ هَذَا أَطَلَّقَكُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لاَ أَدْرِي هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي الْمَشْرُبَةِ فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ الْغُلاَمُ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ كَلَّمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَقُلْتُ لِلْغُلاَمِ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلاَمَ فَقُلْتُ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا قَالَ إِذَا الْغُلاَمُ يَدْعُونِي فَقَالَ قَدْ أَذِنَ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ فَرَفَعَ إِلَيَّ بَصَرَهُ فَقَالَ لاَ فَقُلْتُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عَائِشَةَ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَسُّمَةً أُخْرَى فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَوَفِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ قَالَ مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ أَقْسَمْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا وَإِنَّمَا أَصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا فَقَالَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخَيُّرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ فَاخْتَرْتُهُ ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ"
قوله: "باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها" أي لأجل زوجها. قوله: "عن ابن عباس قال لم أزل حريصا على أن أسأل عمر" في رواية عبيد بن حنين الماضية في تفسير التحريم عن ابن عباس "مكثت سنة أريد أن أسأل عمر". قوله:" عن

(9/279)


المرأتين" في رواية عبيد "عن آية". قوله: "اللتين" كذا في جميع النسخ، ووقع عند ابن التين "التي" بالإفراد وخطأها فقال: الصواب "اللتين" بالتثنية. قلت: ولو كانت محفوظة لأمكن توجيهها. قوله: "حتى حج وحججت معه" في رواية عبيد "فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا" وفي رواية يزيد بن رومان عند ابن مردويه عن ابن عباس "أردت أن أسأل عمر فكنت أهابه، حتى حججنا معه، فلما قضينا حجنا قال: مرحبا بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما حاجتك" ؟ قوله: "وعدل" أي عن الطريق الجادة المسلوكة إلى طريق لا يسلك غالبا ليقضي حاجته، ووقع في رواية عبيد "فخرجت معه، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له" وبين مسلم في رواية عبيد بن حنين من طريق حماد بن سلمة وابن عيينة أن المكان المذكور هو مر الظهران، وقد تقدم ضبطه في المغازي. قوله: "وعدلت معه بإداوة فتبرز" أي قضى حاجته، وتقدم ضبط الإداوة وتفسيرها في كتاب الطهارة، وأصل تبرز من البراز وهو الموضع الخالي البارز عن البيوت، ثم أطلق على نفس الفعل. وفي رواية حماد بن سلمة المذكورة عند الطيالسي "فدخل عمر الأراك فقضى حاجته، وقعدت له حتى خرج" فيؤخذ منه أن المسافر إذا يجد الفضاء لقضاء حاجته استتر بما يمكنه الستر به من شجر البادية. قوله: "فسكبت على يديه منها فتوضأ" في رواية عقيل عن الزهري الماضية في المظالم "فسكبت من الإداوة". قوله:" فقلت له: يا أمير المؤمنين من المرأتان "في رواية الطيالسي" فقلت يا أمير المؤمنين أريد أن أسألك عن حديث منذ سنة فتمنعني هيبتك أن أسألك "وتقدم في التفسير من رواية عبيد بن حنين" فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ قال: تلك حفصة وعائشة. فقلت: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فاسألني، فإن كان لي علم خبرتك به "وفي رواية يزيد بن رومان المذكورة فقال: "ما تسأل عنه أحدا أعلم بذلك مني". قوله: "اللتان" كذا في الأصول، وحكى ابن التين أنه وقع عنده "التي" بالإفراد، قال والصواب "اللتان" بالتثنية. وقوله قال الله تعالى :{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}" أي قال الله تعالى لهما إن تتوبا من التعاون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله بعد {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ}" أي تتعاونا كما تقدم تفسيره في تفسير السورة، ومعنى تظاهرهما أنهما تعاونتا حتى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه ما حرم كما سيأتي بيانه، وقوله: {قُلُوبُكُمَا}" كثر استعمالهم في موضع التثنية بلفظ الجمع كقولهم وضعا رحالهما أي رحلي راحلتيهما. قوله: "واعجبا لك يا ابن عباس" تقدم شرحه في العلم وأن عمر تعجب من ابن عباس مع شهرته بعلم التفسير كيف خفي عليه هذا القدر مع شهرته وعظمته في نفس عمر وتقدمه في العلم على غيره كما تقدم بيان ذلك واضحا في تفسير سورة النصر، ومع ما كان ابن عباس مشهورا به من الحرص على طلب العلم ومداخلة كبار الصحابة وأمهات المؤمنين فيه، أو تعجب من حرصه على طلب فنون التفسير حتى معرفة المبهم، ووقع في "الكشاف" كأنه كره ما سأله عنه. قلت: وقد جزم بذلك الزهري في هذه القصة بعينها فيما أخرجه مسلم من طريق معمر عنه قال بعد قوله: "قال عمر واعجبا لك يا ابن عباس" : قال الزهري كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه ولا يستبعد القرطبي ما فهمه الزهري، ولا بعد فيه. قلت: ويجوز في "عجبا" التنوين وعدمه، قال ابن مالك: "وا" في قوله: "وا عجبا" إن كان منونا فهو اسم فعل بمعنى أعجب، ومثله واها ووي، وقوله بعده عجبا جيء بها تعجبا توكيدا، وإن كان بغير تنوين فالأصل فيه وا عجبي فأبدلت الكسرة فتحة فصارت

(9/280)


قصة أخرى، فأخرج ابن سعد من طريق عمرة عن عائشة قالت: "أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه نصيبها، فلم ترض زينب بنت جحش بنصيها فزادها مرة أخرى، فلم ترض فقالت عائشة: لقد أقمأت وجهك ترد عليك الهدية، فقال: لأنتن أهون على الله من أن تقمئنني، لا أدخل عليكن شهرا" الحديث. ومن طريق الزهري عن عروة عن عائشة نحوه وفيه: "ذبح ذبحا فقسمه بين أزواجه، فأرسل إلى زينب بنصيبها فردته، فقال زيدوها ثلاثا، كل ذلك ترده" فذكر نحوه. وفيه قول قول آخر أخرجه مسلم من حديث جابر قال: "جاء أبو بكر والناس جلوس بباب النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن لأحد منهم فأذن لأبي بكر فدخل ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا وحوله نساؤه" فذكر الحديث وفيه: "هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة وقام عمر إلى حفصة، ثم اعتزلهن شهرا" فذكر نزول آية التخيير، ويحتمل أن يكون مجموع هذه الأشياء كان سببا لاعتزالهن. وهذا هو اللائق بمكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وسعة صدره وكثرة صفحه، وأن ذلك لم يقع منه حتى تكرر موجبه منهن صلى الله عليه وسلم ورضى عنهن. وقصر ابن الجوزي فنسب قصة الذبح لابن حبيب بغير إسناد وهي مسندة عند ابن سعد، وأبهم قصة النفقة وهي في صحيح مسلم، والراجح من الأقوال كلها قصة مارية لاختصاص عائشة وحفصة بها بخلاف العسل فإنه اجتمع فيه جماعة منهن كما سيأتي، ويحتمل أن تكون الأسباب جميعها اجتمعت فأشير إلى أهمها، ويؤيده شمول الحلف للجميع ولو كان مثلا في قصة مارية فقط لاختص بحفصة وعائشة. ومن اللطائف أن الحكمة في الشهر مع أن مشروعية الهجر ثلاثة أيام أن عدتهن كانت تسعة فإذا ضربت في ثلاثة كانت سبعة وعشرين واليومان لمارية لكونها كانت أمة فنقصت عن الحرائر والله أعلم. قوله: "فاعتزل النبي نساءه من أجل ذلك الحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة تسعا وعشرين ليلة" العدد متعلق بقوله فاعتزل نساءه. قوله: "وكان قال ما أنا بداخل عليهن شهرا" في رواية حماد بن سلمة عند مسلم في طريق عبيد بن حنين "وكان آلى منهن شهرا" أي حلف أو أقسم، وليس المراد به الإيلاء الذي في عرف الفقهاء اتفاقا، وسيأتي بعد سبعة أبواب من حديث أنس قال: "آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرا" وهذا موافق للفظ رواية حماد بن سلمة هنا، وإن كان أكثر الرواة في حديث عمر لم يعبروا بلفظ الإيلاء. قوله: "من شدة موجدته عليهن" أي غضبه. قوله: "دخل على عائشة" فيه أن من غاب عن أزواجه ثم حضر يبدأ بمن شاء منهن، ولا يلزمه أن يبدأ من حيث بلغ ولا أن يقرع، كذا قيل، ويحتمل أن تكون البداءة بعائشة لكونه اتفق أنه كان يومها. قوله: "فقالت له عائشة: يا رسول الله إنك كنت قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا" تقدم أن في رواية سماك بن الوليد أن عمر ذكره صلى الله عليه وسلم بذلك، ولا منافاة بينهما لأن في سياق حديث عمر أنه ذكره بذلك عند نزوله من الغرفة وعائشة ذكرته بذلك حين دخل عليها فكأنهما تواردا على ذلك، وقد أخرج مسلم من حديث جابر في هذه القصة قال: "فقلنا" فظاهر هذا السياق يوهم أنه من تتمة حديث عمر فيكون عمر حضر ذلك من عائشة، وهو محتمل عندي، لكن يقوى أن يكون هذا من تعاليق الزهري في هذه الطريق، فإن هذا القدر عنده عن عروة عن عائشة أخرجه مسلم من رواية معمر عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أنه لا يدخل على نسائه شهرا، قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة قالت. فذكره". قوله: "وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة" في رواية عقيل "لتسع" باللام. وفي رواية السرخسي فيها "بتسع" بالموحدة وهي متقاربة، قال الإسماعيلي: من هنا إلى آخر الحديث وقع مدرجا في رواية

(9/290)


شعيب عن الزهري، ووقع مفصلا في رواية معمر "قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت: لما مضت تسع وعشرون ليلة دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الحديث. قلت: ونسبة الإدراج إلى شعيب فيه نظر، فقد تقدم في المظالم من رواية عقيل عن الزهري كذلك. وأخرج مسلم طريق معمر كما قال الإسماعيلي مفصلة، والله أعلم. وقد تقدم في تفسير الأحزاب أن البخاري حكى الاختلاف على الزهري في قصة التخيير هل هي عن عروة عن عائشة أو عن أبي سلمة عن عائشة. قوله: "فقال: الشهر تسع وعشرون ليلة وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين ليلة" في هذا إشارة إلى تأويل الكلام الذي قبله وأنه لا يراد به الحصر، أو أن اللام في قوله: "الشهر" للعهد من الشهر المحلوف عليه ولا يلزم من ذلك أن تكون الشهور كلها كذلك، وقد أنكرت عائشة على ابن عمر روايته المطلقة أن الشهر تسع وعشرون، فأخرج أحمد من طريق يحيى بن عبد الرحمن عن ابن عمر رفعه: "الشهر تسع وعشرون" قال فذكروا ذلك لعائشة فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، إنما قال: الشهر يكون تسعا وعشرين. وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن عمر بهذا اللفظ الأخير الذي جزمت به عائشة وبينته قبل هذا عند الكلام على ما وقع في رواية سماك ابن الوليد من الإشكال. قوله: "قالت عائشة: ثم أنزل الله آية التخيير" في رواية عقيل "فأنزلت: وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. وفي الحديث سؤال العالم عن بعض أمور أهله وإن كان عليه فيه غضاضة إذا كان في ذلك سنة تنقل ومسألة تحفظ قاله المهلب، قال: وفيه توقير العالم ومهابته عن استفسار ما يخشى من تغيره عند ذكره، وترقب خلوات العالم يسأل عما لعله لو سئل عنه بحضرة الناس أنكره على السائل، ويؤخذ من ذلك مراعاة المروءة. وفيه أن شدة الوطأة على النساء مذموم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بسيرة الأنصار في نسائهم وترك سيرة قومه. وفيه تأديب الرجل ابنته وقرابته بالقول لأجل إصلاحها لزوجها، وفيه سياق القصة على وجهها وإن لم يسأل السائل عن ذلك إذا كان في ذلك مصلحة من زيادة شرح وبيان، وخصوصا إذا كان العالم يعلم أن الطالب يؤثر ذلك. وفيه مهابة الطالب للعالم وتواضع العالم له وصبره على مساءلته وإن كان عليه في شيء من ذلك غضاضة. وفيه جواز ضرب الباب ودقه إذا لم يسمع الداخل بغير ذلك. ودخول الآباء على البنات ولو كان بغير إذن الزوج، والتنقيب عن أحوالهن لا سيما ما يتعلق بالمتزوجات. وفيه حسن تلطف ابن عباس وشدة حرصه على الإطلاع على فنون التفسير. وفيه طلب علو الإسناد لأن ابن عباس أقام مدة طويلة ينتظر خلوة عمر ليأخذ عنه؛ وكان يمكنه أخذ ذلك بواسطة عنه ممن لا يهاب سؤاله كما كان يهاب عمر. وفيه حرص الصحابة على طلب العلم والضبط بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم. وفيه أن طالب العلم يجعل لنفسه وقتا يتفرغ فيه لأمر معاشه وحال أهله. وفيه البحث في العلم في الطرق والخلوات وفي حال القعود والمشي. وفيه إيثار الاستجمار في الأسفار وإبقاء الماء للوضوء. وفيه ذكر العالم ما يقع من نفسه وأهله بما يترتب عليه فائدة دينية وإن كان في ذلك حكاية ما يستهجن، وجواز ذكر العمل الصالح لسياق الحديث على وجهه، وبيان ذكر وقت التحمل. وفيه الصبر على الزوجات والإغضاء عن خطابهن والصفح عما يقع منهن من زلل في حق المرء دون ما يكون من حق الله تعالى. وفيه جواز اتخاذ الحاكم عند الخلوة بوابا يمنع من يدخل إليه بغير إذنه، ويكون قول أنس الماضي في كتاب الجنائز في المرأة التي وعظها النبي صلى الله عليه وسلم فلم تعرفه "ثم جاءت إليه فلم تجد له بوابين" محمولا على الأوقات التي يجلس فيها للناس، قال المهلب: وفيه أن للإمام أن يحتجب عن بطانته وخاصته عند الأمر بطرقه من جهة أهله حتى يذهب غيظه ويخرج إلى الناس وهو منبسط

(9/291)


إليهم، فإن الكبير إذا احتجب لم يحسن الدخول إليه بغير إذن ولو كان الذي يريد أن يدخل جليل القدر عظيم المنزلة عنده. وفيه الرفق بالأصهار والحياء منهم إذا وقع للرجل من أهله ما يقتضى معاتبتهم. وفيه أن السكوت قد يكون أبلغ من الكلام وأفضل في بعض الأحايين، لأنه عليه الصلاة والسلام لو أمر غلامه برد عمر لم يجز لعمر العود إلى الاستئذان مرة بعد أخرى، فلما سكت فهم عمر من ذلك أنه لم يؤثر رده مطلقا، أشار إلى ذلك المهلب. وفيه أن الحاجب إذا علم منع الإذن بسكوت المحجوب لم يأذن. وفيه مشروعية الاستئذان على الإنسان وإن كان وحده لاحتمال أن يكون على حالة يكره الاطلاع عليها. وفيه جواز تكرار الاستئذان لمن لم يؤذن له إذا رجا حصول الإذن، وأن لا يتجاوز به ثلاث مرات كما سيأتي إيضاحه في كتاب الاستئذان في قصة أبي موسى مع عمر، والاستدراك على عمر من هذه القصة لأن الذي وقع من الإذن له في المرة الثالثة وقع اتفاقا، ولو لم يؤذن له فالذي يظهر أنه كان يعود إلى الاستئذان لأنه صرح كما سيأتي بأنه لم يبلغه ذلك الحكم. وفيه أن كل لذة أو شهوة قضاها المرء في الدنيا فهو استعجال له من نعيم الآخرة، وأنه لو ترك ذلك لادخر له في الآخرة، أشار إلى ذلك الطبري واستنبط منه بعضهم إيثار الفقر على الغنى وخصه الطبري بمن لم يصرفه في وجوهه ويفرقه في سبله التي أمر الله بوضعه فيها، قال: وأما من فعل ذلك فهو من منازل الامتحان، والصبر على المحن مع الشكر أفضل من الصبر على الضراء وحده انتهى. قال عياض: هذه القصة مما يحتج به من يفضل الفقير على الغني لما في مفهوم قوله: "إن من تنعم في الدنيا يفوته في الآخرة بمقداره"، قال وحاوله الآخرون بأن المراد من الآية أن حظ الكفار هو ما نالوه من نعيم الدنيا إذ لا حظ لهم في الآخرة انتهى، وفي الجواب نظر، وهي مسألة اختلف فيها السلف والخلف، وهي طويلة الذيل سيكون لنا بها إلمام إن شاء الله تعالى في كتاب الرقاق. وفيه أن المرء إذا رأى صاحبه مهموما استحب له أن يحدثه بما يزيل همه ويطيب نفسه، لقول عمر: لأقولن شيئا يضحك النبي صلى الله عليه وسلم. ويستحب أن يكون ذلك بعد استئذان الكبير في ذلك كما فعل عمر. وفيه جواز الاستعانة في الوضوء بالصب على المتوضئ، وخدمة الصغير الكبير وإن كان الصغير أشرف نسبا من الكبير. وفيه التجمل بالثوب والعمامة عند لقاء الأكابر. وفيه تذكير الحالف بيمينه إذا وقع منه ما ظاهره نسيانها لا سيما ممن له تعلق بذلك، لأن عائشة خشيت أن يكون صلى الله عليه وسلم نسى مقدار ما حلف عليه وهو شهر والشهر ثلاثون يوما أو تسعة وعشرون يوما، فلما نزل في تسعة وعشرين ظنت أنه ذهل عن القدر أو أن الشهر لم يهل، فأعلمها أن الشهر استهل فإن الذي كان الحلف وقع فيه جاء تسعا وعشرين يوما. وفيه تقوية لقول من قال إن يمينه صلى الله عليه وسلم اتفق أنها كانت في أول الشهر ولهذا اقتصر على تسعة وعشرين وإلا فلو اتفق ذلك في أثناء الشهر فالجمهور على أنه لا يقع البر إلا بثلاثين، وذهبت طائفة في الاكتفاء بتسعة وعشرين أخذا بأقل ما ينطلق عليه الاسم، قال ابن بطال: يؤخذ منه أن من حلف على فعل شيء يبر بفعل أقل ما ينطلق عليه الاسم، والقصة محمولة عند الشافعي ومالك على أنه دخل أول الهلال وخرج به فلو دخل في أثناء الشهر لم يبر إلا بثلاثين. وفيه سكنى الغرفة ذات الدرج واتخاذ الخزانة لأثاث البيت والأمتعة. وفيه التناوب في مجلس العالم إذا لم تتيسر المواظبة على حضوره لشاغل شرعي من أمر ديني أو دنيوي. وفيه قبول خبر الواحد ولو كان الآخذ فاضلا والمأخوذ عنه مفضولا، ورواية الكبير عن الصغير، وأن الأخبار التي تشاع ولو كثر ناقلوها إن لم يكن مرجعها إلى أمر حسي من مشاهدة أو سماع لا تستلزم الصدق، فإن جزم الأنصاري في

(9/292)


رواية بوقوع التطليق وكذا جزم الناس الذين رآهم عمر عند المنبر بذلك محمول على أنهم شاع بينهم ذلك من شخص بناء على التوهم الذي توهمه من اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه فظن لكونه لم تجر عادته بذلك أنه طلقهن فأشاع أنه طلقهن فشاع ذلك فتحدث الناس به، وأخلق بهذا الذي ابتدأ بإشاعة ذلك أن يكون من المنافقين كما تقدم، وفيه الاكتفاء بمعرفة الحكم بأخذه عن القرين مع إمكان أخذه عاليا عمن أخذه عنه القرين، وأن الرغبة في العلو حيث لا يعوق عنه عائق شرعي، ويمكن أن يكون المراد بذلك أن يستفيد منه أصول ما يقع في غيبته ثم يسأل عنه بعد ذلك مشافهة، وهذا أحد فوائد كتابة أطراف الحديث. وفيه ما كان الصحابة عليه من محبة الاطلاع على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم جلت أو قلت، واهتمامهم بما يهتم له لإطلاق الأنصاري اعتزاله نساءه الذي أشعر عنده بأنه طلقهن المقتضي وقوع غمه صلى الله عليه وسلم بذلك أعظم من طروق ملك الشام الغساني بجيوشه المدينة لغزو من بها، وكان ذلك بالنظر إلى أن الأنصاري كان يتحقق أن عدوهم ولو طرقهم مغلوب ومهزوم واحتمال خلاف ذلك ضعيف، بخلاف الذي وقع بما توهمه من التطليق الذي يتحقق معه حصول الغم وكانوا في الطرف الأقصى من رعاية خاطره صلى الله عليه وسلم أن يحصل له تشويش ولو قل والقلق لما يقلقه والغضب لما يغضبه والهم لما يهمه رضي الله عنهم. وفيه أن الغضب والحزن يحمل الرجل الوقور على ترك التأني المألوف منه لقول عمر: ثم غلبني ما أجد ثلاث مرات. وفيه شدة الفزع والجزع للأمور المهمة، وجواز نظر الإنسان إلى نواحي بيت صاحبه وما فيه إذا علم أنه لا يكره ذلك، وبهذا يجمع بين ما وقع لعمر وبين ما ورد من النهي عن فضول النظر، أشار إلى ذلك النووي. ويحتمل أن يكون نظر عمر في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقع أولا اتفاقا فرأى الشعير والقرظ مثلا فاستقله فرفع رأسه لينظر هل هناك شيء أنفس منه فلم ير إلا الأهب فقال ما قال، ويكون النهي محمولا على من تعمد النظر في ذلك والتفتيش ابتداء. وفيه كراهة سخط النعمة واحتقار ما أنعم الله به ولو كان قليلا والاستغفار من وقوع ذلك وطلب الاستغفار من أهل الفضل وإيثار القناعة وعدم الالتفات إلى ما خص به الغير من أمور الدنيا الفانية. وفيه المعاقبة على إفشاء السر بما يليق بمن أفشاه.

(9/293)


84- باب صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا تَطَوُّعًا
5192- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ"
قوله: "باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعا" هذا الأصل لم يذكره البخاري في كتاب الصيام، وذكره أبو مسعود في أفراد البخاري من حديث أبى هريرة، وليس كذلك فإن مسلما ذكره في أثناء حديث في كتاب الزكاة، ووقع للمزي في "الأطراف" فيه وهم بينته فيما كتبته عليه. قوله: "لا تصوم" كذا للأكثر وهو بلفظ الخبر والمراد به النهي، وأغرب ابن التين والقرطبي فخطآ رواية الرفع، ووقع في رواية للمستملي: "لا تصومن" بزيادة نون التوكيد، ولمسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر بلفظ: "لا تصم" وسيأتي شرحه مستوفى بعد باب واحد.

(9/293)


85- باب إِذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا
5193- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

(9/293)


86- باب لاَ تَأْذَنِ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا لِأَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
5195- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ وَلاَ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ"
وَرَوَاهُ أَبُو الزِّنَادِ أَيْضًا عَنْ مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّوْمِ"
قوله: "باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه" المراد ببيت زوجها سكنه سواء كان ملكه أو لا. قوله: "عن الأعرج" كذا يقول شعيب عن أبي الزناد. وقال ابن عيينة عن أبي الزناد "عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة" وقد بينه المصنف بعد. قوله: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها" يلتحق به السيد بالنسبة لأمته التي يحل له وطؤها، ووقع في رواية همام "وبعلها" وهي أفيد لأن ابن حزم نقل عن أهل اللغة أن البعل اسم للزوج والسيد، فإن ثبت وإلا ألحق السيد بالزوج للاشتراك في المعنى. قوله: "شاهد" أي حاضر. قوله: "إلا بإذنه" يعني في غير صيام أيام رمضان، وكذا في غير رمضان من الواجب إذا تضيق الوقت، وقد خصه المصنف في الترجمة الماضية قبل باب بالتطوع، وكأنه تلقاه من رواية الحسن بن علي عن عبد الرزاق فإن فيها "لا تصوم المرأة غير رمضان" وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا في أثناء حديث: "ومن حق الزوج على زوجته أن لا

(9/295)


تصوم تطوعا إلا بإذنه، فإن فعلت لم يقبل منها" وقد قدمت اختلاف الروايات في لفظ: "ولا تصوم"، ودلت رواية الباب على تحريم الصوم المذكور عليها وهو قول الجمهور، قال النووي في "شرح المهذب" : وقال بعض أصحابنا يكره، والصحيح الأول، قال: فلو صامت بغير إذنه صح وأثمت لاختلاف الجهة وأمر قبوله إلى الله، قاله العمراني. قال النووي: ومقتضى المذهب عدم الثواب، ويؤكد التحريم ثبوت الخبر بلفظ النهي، ووروده بلفظ الخبر لا يمنع ذلك، بل هو أبلغ، لأنه يدل على تأكد الأمر فيه فيكون تأكده بحمله على التحريم. قال النووي في "شرح مسلم:" : وسبب هذا التحريم أن للزوج حق الاستمتاع بها في كل وقت، وحقه واجب على الفور فلا يفوته بالتطوع ولا بواجب على التراخي، وإنما لم يجز لها الصوم بغير إذنه وإذا أراد الاستمتاع بها جاز ويفسد صومها لأن العادة أن المسلم يهاب انتهاك الصوم بالإفساد، ولا شك أن الأولى له خلاف ذلك إن لم يثبت دليل كراهته، نعم لو كان مسافرا فمفهوم الحديث في تقييده بالشاهد يقتضي جواز التطوع لها إذا كان زوجها مسافرا، فلو صامت وقدم في أثناء الصيام فله إفساد صومها ذلك من غير كراهة، وفي معنى الغيبة أن يكون مريضا بحيث لا يستطيع الجماع، وحمل المهلب النهي المذكور على التنزيه فقال: هو من حسن المعاشرة، ولها أن تفعل من غير الفرائض بغير إذنه ما لا يضره ولا يمنعه من واجباته، وليس له أن يبطل شيئا من طاعة الله إذا دخلت فيه بغير إذنه ا هـ، وهو خلاف الظاهر. وفي الحديث أن حق الزوج آكد على المرأة من التطوع بالخير، لأن حقه واجب والقيام بالواجب مقدم على القيام بالتطوع. قوله: "ولا تأذن في بيته" زاد مسلم من طريق همام عن أبي هريرة "وهو شاهد إلا بإذنه" وهذا القيد لا مفهوم له بل خرج مخرج الغالب، وإلا فغيبة الزوج لا تقتضي الإباحة للمرأة أن تأذن لمن يدخل بيته، بل يتأكد حينئذ عليها المنع لثبوت الأحاديث الواردة في النهي عن الدخول على المغيبات أي من غاب عنها زوجها، ويحتمل أن يكون له مفهوم، وذلك أنه إذا حضر تيسر استئذانه وإذا غاب تعذر فلو دعت الضرورة إلى الدخول عليها لم تفتقر إلى استئذانه لتعذره. ثم هذا كله فيما يتعلق بالدخول عليها، أما مطلق دخول البيت بأن تأذن لشخص في دخول موضع من حقوق الدار التي هي فيها أو إلى دار منفردة عن سكنها فالذي يظهر أنه ملتحق بالأول. وقال النووي: في هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج بالإذن في بيته إلا بإذنه، وهو محمول على ما لا تعلم رضا الزوج به، أما لو علمت رضا الزوج بذلك فلا حرج عليها، كمن جرت عادته بإدخال الضيفان موضعا معدا لهم سواء كان حاضرا أم غائبا فلا يفتقر إدخالهم إلى إذن خاص لذلك، وحاصله أنه لا بد من اعتبار إذنه تفصيلا أو إجمالا. قوله: "إلا بإذنه" أي الصريح، وهل يقوم ما يقترن به علامة رضاه مقام التصريح بالرضا؟ فيه نظر. قوله: "وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدي إليه شطره" أي نصفه، والمراد نصف الأجر كما جاء واضحا في رواية همام عن أبي هريرة في البيوع، ويأتي في النفقات بلفظ: "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها عن غير أمره فله نصف أجره" في رواية أبي داود "فلها نصف أجره" وأغرب الخطابي فحمل قوله: "يؤدي إليه شطره" على المال المنفق، وأنه يلزم المرأة إذا أنفقت بغير أمر زوجها زيادة على الواجب لها أن تغرم القدر الزائد، وأن هذا هو المراد بالشطر في الخبر لأن الشطر يطلق على النصف وعلى الجزء، قال: ونفقتها معاوضة فتقدر بما يوازيها من الفرض وترد الفضل عن مقدار الواجب، وإنما جاز لها في قدر الواجب لقصة هند "خذي من ماله بالمعروف" ا هـ. وما ذكرناه من الرواية الأخرى يرد عليه. وقد استشعر الإيراد فحمل الحديث الآخر على معنى آخر وجعلهما حديثين

(9/296)


مختلفي الدلالة، والحق أنهما حديث واحد رويا بألفاظ مختلفة. وأما تقييده بقوله: "عن غير أمره" فقال النووي: عن غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين، ولا ينفي ذلك وجود إذا سابق عام يتناول هذا القدر وغيره إما بالصريح وإما بالعرف. قال: ويتعين هذا التأويل لجعل الأجر بينهما نصفين، ومعلوم أنها إذا أنفقت من ماله بغير إذنه لا الصريح ولا المأخوذ من العرف لا يكون لها أجر بل عليها وزر، فيتعين تأويله. قال: وأعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلم رضا المالك به عرفا، فإن زاد على ذلك لم يجز. ويؤيده قوله - يعني كما مر في حديث عائشة في كتاب الزكاة والبيوع - "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة" فأشار إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة، قال: ونبه بالطعام أيضا على ذلك لأنه مما يسمح به عادة، بخلاف النقدين في حق كثير من الناس وكثير من الأحوال. قلت: وقد تقدمت في شرح حديث عائشة في الزكاة مباحث لطيفة وأجوبة في هذا، ويحتمل أن يكون المراد بالتنصيف في حديث الباب الحمل على المال الذي يعطيه الرجل في نفقة المرأة، فإذا أنفقت منه بغير علمه كان الأجر بينهما: للرجل لكونه الأصل في اكتسابه ولكونه يؤجر على ما ينفقه على أهله كما ثبت من حديث سعد بن أبي وقاص وغيره، وللمرأة لكونه من النفقة التي تختص بها. ويؤيد هذا الحمل ما أخرجه أبو داود عقب حديث أبي هريرة هذا قال في المرأة تصدق من بيت زوجها؟ قال: لا إلا من قوتها والأجر بينهما، ولا يحل لها أن تصدق من مال زوجها إلا بإذنه. قال أبو داود في رواية أبي الحسن بن العبد عقبه: هذا يضعف حديث همام ا هـ، ومراده أنه يضعف حمله على التعميم، أما الجمع بينهما بما دل عليه هدا الثاني فلا، وأما ما أخرجه أبو داود وابن خزيمة من حديث سعد قال: "قالت امرأة يا نبي الله إنا كل على آبائنا وأزواجنا وأبنائنا، فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: الرطب تأكلنه وتهدينه". وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي أمامة رفعه:" لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذنه، قيل: ولا الطعام؟ قال: ذاك أفضل أموالنا" وظاهرهما التعارض، ويمكن الجمع بأن المراد بالرطب ما يتسارع إليه الفساد فأذن فيه، بخلاف غيره ولو كان طعاما والله أعلم. قوله: "ورواه أبو الزناد أيضا عن موسى عن أبيه عن أبي هريرة في الصوم" يشير إلى أن رواية شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج اشتملت على ثلاثة أحكام، وأن لأبي الزناد في أحد الثلاثة وهو صيام المرأة إسنادا آخر، وموسى المذكور هو ابن أبي عثمان، وأبوه أبو عثمان يقال له التبان بمثناة ثم موحدة ثقيلة واسمه سعد ويقال عمران، وهو مولى المغيرة بن شعبة، ليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وصل حديثه المذكور أحمد والنسائي والدارمي والحاكم من طريق الثوري عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان بقصة الصوم فقط، والدارمي أيضا وابن خزيمة وأبو عوانة وابن حبان من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج به، قال أبو عوانة في رواية على ابن المديني: حدثنا به سفيان بعد ذلك عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان، فراجعته فيه فثبت على موسى ورجع عن الأعرج. ورويناه عاليا في "جزء إسماعيل بن نجيد" من رواية المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد. وفي الحديث حجة على المالكية في تجويز دخول الأب ونحوه بيت المرأة بغير إذن زوجها، وأجابوا عن الحديث بأنه معارض بصلة الرحم، وإن بين الحديثين عموما وخصوصا وجهيا فيحتاج إلى مرجح، ويمكن أن يقال: صلة الرحم إنما تندب بما بملكه الواصل، والتصرف في بيت الزوج لا تملكه المرأة إلا بإذن الزوج، فكما لأهلها أن لا تصلهم بماله إلا بإذنه فإذنها لهم في دخول البيت كذلك.

(9/297)


باب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين....)
...
87- باب 5196- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ"
[الحديث 5196- طرفه في: 6547]
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة، وأورد فيه حديث أسامة لقوله فيه: "وقفت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء" وسقط للنسفي لفظ: "باب" فصار الحديث الذي فيه من جملة الباب الذي قبله، ومناسبته له من جهة الإشارة إلى أن النساء غالبا يرتكبن النهي المذكور، ومن ثم كن أكثر من دخل النار، والله أعلم.

(9/298)


88- باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَهُوَ الزَّوْجُ وَهُوَ الْخَلِيطُ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5197- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ فَقَالَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ أَوْ أُرِيتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا وَلَوْ أَخَذْتُهُ لاَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ قَالُوا لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ"
5198- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" تَابَعَهُ أَيُّوبُ وَسَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ
قوله: "باب كفران العشير وهو الزوج والعشير هو الخليط من المعاشرة" أي أن لفظ العشير يطلق بإزاء شيئين، فالمراد به هنا الزوج، والمراد به في الآية وهي قوله تعالى :{وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}" المخالط، وهذا تفسير أبي

(9/298)


عبيدة قال في قوله تعالى :{لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}": المولى هنا ابن العم والعشير المخالط المعاشر، وقد تقدم شيء من هذا في كتاب الإيمان. ذكر حديث ابن عباس في خسوف الشمس بطوله وقد تقدم شرحه مستوفى في آخر أبواب الكسوف، وقوله فيه: "لو أحسنت إلى إحداهن الدهر" فيه إشارة إلى وجود سبب التعذيب لأنها بذلك كالمصرة على كفر النعمة، والإصرار على المعصية من أسباب العذاب، أشار إلى ذلك المهلب. حديث عمران بن حصين بمعنى حديث أسامة الماضي في الباب قبله. وقوله: "تابعه أيوب وسلم بن زرير" يعني أنهما تابعا عوفا عن أبي رجاء وهو العطاردي في رواية هذا الحديث عن عمران بن حصين، وسيأتي في "باب فضل الفقر" من الرقاق أن حماد بن نجيح وصخر بن جويرية خالفا في ذلك عن أبي رجاء فقالا "عنه عن ابن عباس". ومتابعة أيوب وصلها النسائي واختلف فيه على أيوب فقال عبد الوارث عنه هكذا. وقال الثقفي وابن علية وغيرهما:" عن أيوب عن أبي رجاء عن ابن عباس". وأما متابعة سلم بن زرير فوصلها المصنف في صفة الجنة من بدء الخلق وفي "باب فضل الفقر" من الرقاق، ويأتي شرح الحديث مع حديث أسامة في "باب صفة الجنة والنار" من كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(9/299)


89- باب لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ قَالَهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5199- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَلاَ تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"
قوله: "باب لزوجك عليك حق، قاله أبو جحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم" وهو طرف من حديثه في قصة سلمان وأبي الدرداء، وقد مضى موصولا مشروحا في كتاب الصيام، ثم ذكر بعده حديث عبد الله بن عمرو في ذلك وقد تقدم شرحه أيضا قال ابن بطال: لما ذكر في الباب قبله حق الزوج على الزوجة ذكر في هذا عكسه وأنه لا ينبغي له أن يجهد بنفسه في العبادة حتى يضعف عن القيام بحقها من جماع واكتساب. واختلف العلماء فيمن كف عن جماع زوجته فقال مالك: إن كان بغير ضرورة ألزم به أو يفرق بينهما، ونحوه عن أحمد، والمشهور عند الشافعية أنه لا يجب عليه، وقيل يجب مرة، وعن بعض السلف في كل أربع ليلة، وعن بعضهم في كل طهر مرة.

(9/299)


90- باب الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
5200- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالأَمِيرُ رَاعٍ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"

(9/299)


باب قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء .....) الآية
...
91- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}
5201- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا وَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ آلَيْتَ عَلَى شَهْرٍ قَالَ إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ"
قوله: "باب قول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}" إلى هنا عند أبي ذر، زاد غيره {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله :{عَلِيّاً كَبِيراً}" وبسياق الآية تظهر مطابقة الترجمة، لأن المراد منها قوله تعالى :{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}" فهو الذي يطابق قوله: "آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرا" لأن مقتضاه أنه هجرهن. وخفي ذلك على الإسماعيلي فقال: لم يتضح لي دخول هذا الحديث في هذا الباب ولا تفسير الآية التي ذكرها. قد تقدم شرح حديث أنس المذكور قريبا في آخر حديث عمر الطويل وقوله فيه: "إنك آليت شهرا" في رواية المستملي والكشميهني: "آليت على شهر" وقوله: "فقيل يا رسول الله" قائل ذلك عائشة كما تقدم واضحا في آخر حديث عمر المذكور، وتقدم فيه أن عمر وغيره أيضا سألوه عن ذلك.

(9/300)


92- باب هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ فِي غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ
وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ رَفْعُهُ غَيْرَ أَنْ لاَ تُهْجَرَ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ وَالأَوَّلُ أَصَحُّ
5202- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَفَ لاَ يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا عَلَيْهِنَّ أَوْ رَاحَ فَقِيلَ لَهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ حَلَفْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا قَالَ إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا"
5203- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْفُورٍ قَالَ تَذَاكَرْنَا عِنْدَ أَبِي الضُّحَى فَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْكِينَ عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أَهْلُهَا فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مَلْآنُ مِنْ النَّاسِ فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَصَعِدَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي غُرْفَةٍ لَهُ فَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَنَادَاهُ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ فَقَالَ لاَ وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ"

(9/300)


باب مايكره من ضرب النساء
...
93 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ: {وَاضْرِبُوهُنَّ} أَيْ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ
5024- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ"
قوله: "باب ما يكره من ضرب النساء" فيه إشارة إلى أن ضربهن لا يباح مطلقا، بل فيه ما يكره كراهة تنزيه

(9/302)


أو تحريم على ما سنفصله. قوله: "وقول الله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}" أي ضربا غير مبرح" هذا التفسير منتزع من المفهوم من حديث الباب من قوله: "ضرب العبد" كما سأوضحه، وقد جاء ذلك صريحا في حديث عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا طويلا وفيه: "فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح" الحديث أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي واللفظ له، وفي حديث جابر الطويل عند مسلم: "فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح". قلت: وسبق التنصيص في حديث معاوية بن حيدة على النهي عن ضرب الوجه. قوله: "سفيان" هو الثوري، وهشام هو ابن عروة، وعبد الله بن زمعة تقدم بيان نسبه في تفسير سورة والشمس. قوله: "لا يجلد أحدكم" كذا في نسخ البخاري بصيغة النهي، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أحمد بن سفيان النسائي عن الفريابي - وهو محمد بن يوسف شيخ البخاري فيه - بصيغة الخبر وليس في أوله صيغة النهي، وكذا أخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن الفريابي، وكذا توارد عليه أصحاب هشام بن عروة، وتقدم في التفسير من رواية وهيب، ويأتي في الأدب من رواية ابن عيينة، وكذا أخرجه أحمد عن ابن عيينة وعن وكيع وعن أبي معاوية وعن ابن نمير، وأخرجه مسلم وابن ماجه من رواية ابن نمير، والترمذي والنسائي من رواية عبدة بن سليمان، ففي رواية أبي معاوية وعبدة "إلام يجلد" وفي رواية وكيع وابن نمير "علام يجلد" وفي رواية ابن عيينة "وعظهم في النساء فقال: يضرب أحدكم امرأته" وهو موافق لرواية أحمد بن سفيان، وليس عند واحد منهم صيغة النهي. قوله: "جلد العبد" أي مثل جلد العبد، وفي إحدى روايتي ابن نمير عند مسلم: "ضرب الأمة" وللنسائي من طريق ابن عيينة "كما يضرب العبد والأمة" وفي رواية أحمد بن سفيان "جلد البعير أو العبد" وسيأتي في الأدب من رواية ابن عيينة "ضرب الفحل أو العبد" والمراد بالفحل البعير، وفي حديث لقيط بن صبرة عند أبي داود "ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك". قوله: "ثم يجامعها" في رواية أبي معاوية "ولعله أن يضاجعها" وهي رواية الأكثر. وفي رواية لابن عيينة في الأدب "ثم لعله يعانقها". وقوله: "في آخر اليوم" في رواية ابن عيينة عند أحمد "من آخر الليل" وله عند النسائي: "آخر النهار" وفي رواية ابن نمير والأكثر "في آخر يومه" وفي رواية وكيع "آخر الليل أو من آخر الليل" وكلها متقاربة. وفي الحديث جواز تأديب الرقيق بالضرب الشديد، والإيماء إلى جواز ضرب النساء دون ذلك وإليه أشار المصنف بقوله: "غير مبرح"، وفي سياقه استبعاد وقوع الأمرين من العاقل: أن يبالغ في ضرب امرأته ثم يجامعها من بقية يومه أو ليلته، والمجامعة أو المضاجعة إنما تستحسن مع ميل النفس والرغبة في العشرة، والمجلود غالبا ينفر ممن جلده، فوقعت الإشارة إلى ذم ذلك وأنه إن كان ولا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير بحيث لا يحصل منه النفور التام فلا يفرط في الضرب ولا يفرط في التأديب، قال المهلب: بين صلى الله عليه وسلم بقوله: "جلد العبد" أن ضرب الرقيق فوق ضرب الحر لتباين حالتيهما، ولأن ضرب المرأة إنما أبيح من أجل عصيانها زوجها فيما يجب من حقه عليها ا هـ. وقد جاء النهي عن ضرب النساء مطلقا، فعند أحمد وأبي داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذباب بضم المعجمة وبموحدتين الأولى خفيفة "لا تضربوا إماء الله" فجاء عمر فقال: قد ذئر النساء على أزواجهن، فأذن لهم فضربوهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير فقال: لقد أطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة كلهن يشكين أزواجهن، ولا تجدون أولئك خياركم" وله شاهد من حديث ابن عباس في صحيح ابن حبان، وآخر مرسل من حديث أم كلثوم بنت أبي بكر عند =بعده=

===

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............