السبت، 7 مايو 2022

كتاب : 28 و29- من فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

  كتاب :28 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 
 =أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فإن فيه إشارة إلى سبب نزول أول هذه السورة، وإلى قوله فيها {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وقد وقع في بعض حديث ابن عباس عن عمر في القصة الآتية في الباب الذي يليه "فعاتبه الله في ذلك وجعل له كفارة اليمين" واختلف في المراد بتحريمه، ففي حديث عائشة ثاني حديثي الباب أن ذلك بسبب شربه صلى الله عليه وسلم العسل عند زينب بنت جحش، فإن في آخره: "ولن أعود له وقد حلفت " وسيأتي شرح حديث عائشة مستوفى في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. ووقع عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى مسروق قال: "حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة لا يقرب أمته وقال: هي علي حرام" . فنزلت الكفارة ليمينه، وأمر أن لا يحرم ما أحل الله" ووقعت هذه القصة مدرجة عند ابن إسحاق في حديث ابن عباس عن عمر الآتي في الباب الذي يليه كما سأبينه. وأخرج الضياء في "المختارة" من مسند الهيثم بن كليب ثم من طريق جرير بن حازم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لحفصة: لا تخبري أحدا أن أم إبراهيم علي حرام" ، قال فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل الله {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . وأخرج الطبراني في عشرة النساء وابن مردويه من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية بيت حفصة، فجاءت فوجدتها معه، فقالت: يا رسول الله في بيتي تفعل هذا معي دون نسائك "فذكر نحوه. وللطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: "دخلت حفصة بيتها فوجدته يطأ مارية، فعاتبته" فذكر نحوه. وهذه طرق يقوى بعضها بعضا، فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معا، وقد روي النسائي من طريق حماد عن ثابت عن أنس هذه القصة مختصرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية

(8/657)


باب {تبتغي مرضات أزواجك ... قد فرض الله لكم تحله أيمانكم}
...
2- باب {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ.... قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}
4913- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّهُ قَالَ مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ قَالَ فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجِهِ فَقَالَ تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ قَالَ فَقُلْتُ وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لاَرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ قَالَ فَلاَ تَفْعَلْ مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِي مِنْ عِلْمٍ فَاسْأَلْنِي فَإِنْ كَانَ لِي عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ بِهِ قَالَ: ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ قَالَ فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إِذْ قَالَتْ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَقُلْتُ لَهَا مَا لَكَ وَلِمَا هَا هُنَا وَفِيمَ تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ فَقَالَتْ لِي عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ فَقَالَتْ حَفْصَةُ وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ فَقُلْتُ تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ وَغَضَبَ

(8/657)


رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بُنَيَّةُ لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا يُرِيدُ عَائِشَةَ قَالَ ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا فَقَدْ امْتَلاَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ فَإِذَا صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ فَقَالَ افْتَحْ افْتَحْ فَقُلْتُ جَاءَ الْغَسَّانِيُّ فَقَالَ بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ فَقُلْتُ رَغَمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ فَأَخَذْتُ ثَوْبِي فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ وَغُلاَمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ فَقُلْتُ لَهُ قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَذِنَ لِي قَالَ عُمَرُ فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكَ" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَة"
قوله: "باب {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} كذا لهم بإسقاط بعض الآية الأولى وحذف بقية الثانية وكملها أبو ذر. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد الأنصاري، والإسناد كله مدنيون. قوله: "مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب" فذكر الحديث بطوله في قصة اللتين تظاهرتا، وقد ذكره في النكاح مختصرا من هذا الوجه ومطولا من وجه آخر، وتقدم طرف منه في كتاب العلم وفي هذه الطريق هنا من الزيادة مراجعة امرأة عمر له ودخوله على حفصة بسبب ذلك بطوله، ودخول عمر على أم سلمة. وذكر في آخر الأخرى قصة اعتزاله صلى الله عليه وسلم نساءه، وفي آخر حديث عائشة في التخيير، وسيأتي الكلام على ذلك كله مستوفى في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. وقوله في هذه الطريق "ثم قال عمر رضي الله عنه: والله أن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل" قرأت بخط أبي علي الصدفي في هامش نسخته: قيل لا بد من اللام للتأكيد. وقوله في هذه الطريق "لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو برفع حب على أنه بدل من فاعل أعجب، ويجوز النصب على أنه مفعول من أجله أي من أجل حبه لها، وقوله فيه: "قرظا مصبورا" أي مجموعا مثل الصبرة، وعند الإسماعيلي: "مصبوبا" بموحدتين.

(8/658)


3- باب {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} فِيهِ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(8/658)


4914- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ حُنَيْنٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَتْمَمْتُ كَلاَمِي حَتَّى قَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَة"
قوله: "باب {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} - إلى - {الخبير} " كذا لأبي ذر وساق غيره الآية. قوله: "فيه عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى حديثها المذكور قبل بباب. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، وذكر طرفا من الحديث الذي في الباب قبله

(8/659)


4- باب {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} صَغَوْتُ وَأَصْغَيْتُ مِلْتُ لِتَصْغَى لِتَمِيلَ {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} عَوْنٌ تَظَاهَرُونَ تَعَاوَنُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} أَوْصُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَدِّبُوهُمْ
4915- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ حُنَيْنٍ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَكَثْتُ سَنَةً فَلَمْ أَجِدْ لَهُ مَوْضِعًا حَتَّى خَرَجْتُ مَعَهُ حَاجًّا فَلَمَّا كُنَّا بِظَهْرَانَ ذَهَبَ عُمَرُ لِحَاجَتِهِ فَقَالَ أَدْرِكْنِي بِالْوَضُوءِ فَأَدْرَكْتُهُ بِالإِدَاوَةِ فَجَعَلْتُ أَسْكُبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَرَأَيْتُ مَوْضِعًا فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا أَتْمَمْتُ كَلاَمِي حَتَّى قَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَة"
قوله: "باب {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} صغوت وأصغيت ملت، لتصغى لتميل" سقط هذا لأبي ذر، وهو قول أبي عبيدة، قال في قوله: "ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة" : لتميل، من صغوت إليه ملت إليه، وأصغوت إليه مثله. وقال في قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي عدلت ومالت. قوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} عون" كذا لهم، واقتصر أبو ذر من سياق الآية على قوله: "ظهير: عون" وهو تفسير الفراء. قوله: "تظاهرون تعاونون" كذا لهم، وفي بعض النسخ تظاهرا تعاونا، وهو تفسير الفراء أيضا قال في قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} تعاونا عليه. قوله: "وقال مجاهد: {قُوا أَنْفُسَكُمْ} ، أوصوا أهليكم بتقوى الله وأدبوهم" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: "أوصوا أهليكم بتقوى الله" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "مروهم بطاعة الله وانهوهم عن معصيته" وعند سعيد بن منصور عن الحسن نحوه، وروى الحاكم من طريق ربعي بن حراش عن علي في قوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} قال: "علموا أهليكم خيرا" ورواته ثقات.
" تنبيه " : وقع في جميع النسخ التي وقفت عليها "أوصوا" بفتح الألف وسكون الواو بعدها صاد مهملة من الإيصاء، وسقطت هذه اللفظة للنسفي، وذكرها ابن التين بلفظ: "قوا أهليكم أو قفوا أهليكم" ونسب عياض هذه الرواية هكذا للقابسي وابن السكن، قال: وعند الأصيلي أوصوا أنفسكم وأهليكم انتهى. قال ابن التين: قال القابسي صوابه "أوفقوا" قال ونحو ذلك ذكر النحاس، ولا أعرف للألف من أو

(8/659)


ولا للفاء من قوله فقوا وجها، قال ابن التين: ولعل المعنى أوقفوا بتقديم القاف على الفاء أي أوقفوهم عن المعصية، قال: لكن الصواب على هذا حذف الألف لأنه ثلاثي من وقف، قال: ويحتمل أن يكون أوفقوا يعني بفتح الفاء وضم القاف لا تعصوا فيعصوا مثل لا تزن فيزن أهلك وتكون "أو" على هذا للتخيير، والمعنى إما أن تأمروا أهليكم بالتقوى أو فاتقوا أنتم فيتقوا هم تبعا لكم انتهى، وكل هذه التكلفات نشأت عن تحريف الكلمة، وإنما هي "أوصوا" بالصاد والله حديث ابن عباس عن عمر أيضا في قصة المتظاهرين، وسيأتي شرحه

(8/660)


باب {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا}
...
5 - بَاب {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}
4916- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ
قوله " {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الآية ذكر فيه طرفا من حديث أنس عن عمر في موافقاته، واقتصر منه على قصة الغيرة، وقد تقدم بهذا الإسناد في أوائل الصلاة تاما، وذكرنا كل موافقة منها في بابها، وسيأتي ما يتعلق بالغيرة في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.

(8/660)


67- سورة { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}
{التَّفَاوُتُ} الاخْتِلاَفُ وَالتَّفَاوُتُ وَالتَّفَوُّتُ وَاحِدٌ {تَمَيَّزُ} تَقَطَّعُ {مَنَاكِبِهَا} جَوَانِبِهَا {تَدَّعُونَ} وَتَدْعُونَ وَاحِدٌ مِثْلُ تَذَّكَّرُونَ وَتَذْكُرُونَ وَ {يَقْبِضْنَ} يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {صَافَّاتٍ} بَسْطُ أَجْنِحَتِهِنَّ وَنُفُورٌ الْكُفُورُ
قوله: "سورة {بَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} سقطت البسملة للجميع. قوله: "التفاوت الاختلاف، والتفاوت والتفوت واحد" هو قول الفراء قال: وهو مثل تعهدته وتعاهدته. وأخرج سعيد بن منصور من طريق إبراهيم عن علقمة أنه كان يقرأ: {من تفوت} وقال الفراء: هي قراءة ابن مسعود وأصحابه، والتفاوت الاختلاف يقول: هل ترى في خلق الرحمن من اختلاف؟ وقال ابن التين: قياس متفاوت فليس متباينا، وتفوت فات بعضه بعضا. قوله: "تميز تقطع" هو قول الفراء قال في قوله تكاد تميز من الغيظ أي تقطع عليهم غيظا. قوله: "مناكبها جوانبها" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي جوانبها، وكذا قال الفراء. قوله: "تدعون وتدعون واحد، مثل تذكرون وتذكرون" هو قول الفراء قال في قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} يريد تدعون بالتخفيف، وهو مثل تذكرون وتذكرون، قال والمعنى واحد، وأشار إلى أنه لم يقرأ بالتخفيف. وقال أبو عبيدة في قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي تدعون به وتكذبون. قوله: "يقال غورا غائرا، يقال لا تناله

(8/660)


سورة {ن والقلم وما يسطرون}
...
68- سورة ن وَالْقَلَمِ
بسم الله الرحمن الرحيم
وَقَالَ قَتَادَةُ {حَرْدٍ} جِدٍّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {يَتَخَافَتُونَ} يَنْتَجُونَ السِّرَارَ وَالْكَلاَمَ الْخَفِيَّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَضَالُّونَ} أَضْلَلْنَا مَكَانَ جَنَّتِنَا وَقَالَ غَيْرُهُ {كَالصَّرِيمِ} كَالصُّبْحِ انْصَرَمَ مِنْ اللَّيْلِ وَاللَّيْلِ انْصَرَمَ مِنْ النَّهَارِ وَهُوَ أَيْضًا كُلُّ رَمْلَةٍ انْصَرَمَتْ مِنْ مُعْظَمِ الرَّمْلِ وَالصَّرِيمُ أَيْضًا الْمَصْرُومُ مِثْلُ قَتِيلٍ وَمَقْتُولٍ
قوله: "سورة ن والقلم – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت سورة والبسملة لغير أبي ذر، والمشهور في ن أن حكمها حكم أوائل السور في الحروف المتقطعة، وبه جزم الفراء، وقيل: بل المراد بها الحوت، وجاء ذلك في حديث ابن عباس أخرجه الطبراني مرفوعا قال: "أول ما خلق الله القلم والحوت، قال اكتب قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كائن إلى يوم القيامة" . ثم قرأ ن والقلم، فالنون الحوت والقلم القلم" . قوله: "وقال قتادة حرد جد في أنفسهم" هو بكسر الجيم وتشديد الدال الاجتهاد والمبالغة في الأمر، قال ابن التين: وضبط في بعض الأصول بفتح الجيم، قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: كانت الجنة لشيخ، وكان يمسك قوته سنة ويتصدق بالفضل، وكان بنو ينهونه عن الصدقة، فلما مات أبوهم غدوا عليها فقالوا لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} يقول: على جد من أمرهم؛ قال معمر وقال الحسن: على فاقة. وأخرج سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عكرمة قال: هم ناس من الحبشة كانت لأبيهم جنة، فذكر نحوه إلى أن قال: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} قال: أمر مجتمع. وقد قيل في حرد إنها اسم الجنة، وقيل اسم قريتهم، وحكى أبو عبيدة فيه أقوالا أخرى: القصد والمنع والغضب والحقد. قوله: "وقال ابن عباس: يتخافتون ينتجون السرار والكلام الخفي" ثبت هذا لأبي ذر وحده هنا، وثبت

(8/661)


للباقين في كتاب التوحيد. قوله: "وقال ابن عباس: إنا لضالون أضللنا مكان جنتنا" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أضللنا مكان جنتنا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أخطأنا الطريق، ما هذه جنتنا. "تنبيه" : زعم بعض الشراح أن الصواب في هذا أن يقال ضللنا بغير ألف، تقول: ضللت الشيء إذا جعلته في مكان ثم لم تدر أين هو، وأضللت الشيء إذا ضيعته انتهى. والذي وقع في الرواية صحيح المعنى، عملنا عمل من ضيع، ويحتمل أن يكون بضم أول أضللنا. قوله: "وقال غيره: كالصريم، كالصبح انصرم من الليل والليل انصرم من النهار" قال أبو عبيدة: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} النهار انصرم من الليل والليل انصرم من النهار. وقال الفراء: الصريم الليل المسود. قوله: "وهو أيضا كل رملة انصرمت من معظم الرمل" هو قول أبي عبيدة أيضا قال: وكذلك الرملة تنصرم من معظم الرمل فيقال: صريمة، وصريمة أمرك قطعه. قوله: "والصريم أيضا المصروم مثل قتيل ومقتول" هو محصول ما أخرجه ابن المنذر من طريق شيبان عن قتادة في قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} : كأنها قد صرمت. والحاصل أن الصريم مقول بالاشتراك على معان يرجع جميعها إلى انفصال شيء عن شيء، ويطلق أيضا على الفعل فيقال: صريم بمعنى مصروم. "تكميل" : قال عبد الرزاق عن معمر: أخبرني تميم بن عبد الرحمن أنه سمع سعيد بن جبير يقول: هي يعني الجنة المذكورة أرض باليمن يقال لها: صرفان، بينها وبين صنعاء ستة أميال. قوله: {تدهن فيدهنون} ترخص فيرخصون" كذا للنسفي وحده هنا وسقط للباقين، وقد رأيته أيضا في "المستخرج" لأبي نعيم، وهو قول ابن عباس: أخرجه ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة ومن طريق عكرمة قال: تكفر فيكفرون. وقال الفراء: المعنى تلين فيلينون. وقال أبو عبيدة: هو من المداهنة. قوله: "مكظوم وكظيم مغموم" كذا للنسفي وحده هنا وسقط للباقين، ورأيته أيضا في "مستخرج أبي نعيم" ، وهو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} من الغم مثل كظيم. وأخرج ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله مكظوم قال: مغموم.

(8/662)


1- باب {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}
4917- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} قَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُ زَنَمَةٌ مِثْلُ زَنَمَةِ الشَّاة"
4918- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِر"
[الحديث 4918- طرفاه في: 6071، 6657]
قوله: "باب {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} اختلف في الذي نزلت فيه، فقيل: هو الوليد بن المغيرة وذكره يحيى بن سلام في تفسيره، وقيل: الأسود بن عبد يغوث ذكره سنيد بن داود في تفسيره، وقبل الأخنس بن شريق وذكره السهيلي عن القتيبي، وحكى هذين القولين الطبري فقال: يقال: هو الأخنس، وزعم قوم أنه الأسود وليس به، وأبعد

(8/662)


من قال إنه عبد الرحمن بن الأسود فإنه يصغر عن ذلك، وقد أسلم وذكر في الصحابة. قوله: "حدثنا محمود بن غيلان" في رواية المستملي: "محمد" وكأنه الذهلي. قوله: "حدثنا عبيد الله بن موسى" هو من شيوخ المصنف، وربما حدث عنه بواسطة كالذي هنا. قوله: "عن أبي حصين عن مجاهد" لإسرائيل فيه طريق أخرى أخرجها الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى أيضا والإسماعيلي من طريق وكيع كلاهما عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه. وأخرجه الطبري من طريق شريق عن أبي إسحاق بهذا الإسناد وقال: الذي يعرف بالشر. سعيد بن جبير المذكورة "يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها" وللطبري من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: نعت فلم يعرف حتى قيل زنيم فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها. وقال أبو عبيدة: الزنيم المعلق في القوم ليس منهم قال الشاعر: "زنيم ليس يعرف من أبوه" . وقال حسان "وأنت زنيم نيط في آل هاشم" قال: ويقال للتيس زنيم له زنمتان. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "عن معبد بن خالد" هو الجدلي بضم الجيم والمهملة وتخفيف اللام، كوفي ثقة، ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في كتاب الزكاة وثالث يأتي في الطب. قوله: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف" بكسر العين وبفتحها وهو أضعف. وفي رواية الإسماعيلي: "مستضعف" وفي حديث عبد الله بن عمرو عند الحاكم الضعفاء المغلوبون، وله من حديث سراقة بن مالك: الضعفاء المغلوبون. ولأحمد من حديث حذيفة: الضعيف المستضعف ذو الطمرين لا يؤبه له. والمراد بالضعيف من نفسه ضعيفة لتواضعه وضعف حاله في الدنيا، والمستضعف المحتقر لخموله في الدنيا. قوله: "عتل" بضم المهملة والمثناة بعدها لام ثقيلة قال الفراء: الشديد الخصومة. وقيل الجافي عن الموعظة. وقال أبو عبيدة: العتل الفظ الشديد من كل شيء، وهو هنا الكافر. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن: العتل الفاحش الآثم. وقال الخطابي: العتلي الغليظ العنيف. وقال الداودي: السمين العظيم العنق والبطن. وقال الهروي: الجموع المنوع. وقيل: القصير البطن قلت: وجاء فيه حديث عند أحمد من طريق عبد الرحمن بن غنم وهو مختلف في صحته قال: سئل رسول صلى الله عليه وسلم عن العتل الزنيم قال: هو الشديد الخلق المصحح، الأكول الشروب، الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس، الرحيب الجوف. قوله: "جواظ" بفتح الجيم وتشديد الواو وآخره معجمة الكثير اللحم المختال في مشيه حكاه الخطابي. وقال ابن فارس: قيل هو الأكول، وقيل الفاجر. وأخرج هذا الحديث أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بهذا الإسناد مختصرا. "لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري" قال: والجواظ الفظ الغليظ انتهى وتفسير الجواظ لعله من سفيان، والجعظري بفتح الجيم والظاء المعجمة بينهما عين مهملة وآخره راء مكسورة ثم تحتانية ثقيلة قيل: هو الفظ الغليظ، وقيل: الذي لا يمرض، وقيل: الذي يتمدح بما ليس فيه أو عنده. وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن عمر أنه تلا قوله تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} إلى {زَنِيمٍ} فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر"

(8/663)


2- باب {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}
حدثنا آدم حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "سمعت

(8/633)


69- سورة الْحَاقَّةِ
بسم الله الرحمن الرحيم
{عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} : يُرِيدُ فِيهَا الرِّضَا {الْقَاضِيَةَ} الْمَوْتَةَ الأُولَى الَّتِي مُتُّهَا لَمْ أُحْيَ بَعْدَهَا {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أَحَدٌ يَكُونُ لِلْجَمْعِ وَلِلْوَاحِدِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْوَتِينَ نِيَاطُ الْقَلْبِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَغَى كَثُرَ وَيُقَالُ بِالطَّاغِيَةِ بِطُغْيَانِهِمْ وَيُقَالُ طَغَتْ عَلَى الْخَزَّانِ كَمَا طَغَى الْمَاءُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ
قوله: "سورة الحاقة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر، والحاقة من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لأنها حقت لكل قوم أعمالهم. قال قتادة: أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه. قوله: "حسوما متتابعة" كذا للنسفي وحده هنا، وهو قول أبي عبيدة. وأخرج الطبراني ذلك عن ابن مسعود موقوفا بإسناد حسن وصححه الحاكم. قوله: "وقال ابن جبير" عيشة راضية" . يريد فيها الرضا" وقال أبو عبيدة: معناه مرضية، قال وهو مثل ليل نائم. قوله: "وقال ابن جبير أرجائها ما لم ينشق منها، فهم على حافتيه، كقولك على أرجاء البئر" كذا للنسفي وحده هنا، وهو عند أبي نعيم أيضا، وتقدم أيضا في بدء الخلق قوله: "واهية وهيها تشققها" كذا للنسفي وحده هنا وهو عند أبي نعيم أيضا، وتقدم أيضا في بدء الخلق. قوله: "والقاضية الموتة الأولى التي متها لم أحي بعدها" كذا لأبي ذر، ولغيره: "ثم أحيي بعدها" والأول أصح وهو قول الفراء، قال في قوله: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} يقول: ليت الموتة الأولى التي متها لم أحي بعدها. قوله: {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}، أحد يكون للجميع والواحد" هو قول الفراء، قال أبو عبيدة في قوله: {مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} جمع صفته على صفة الجميع لان أحدا يقع على الواحد والاثنين والجمع من الذكر والأنثى. قوله: "وقال ابن عباس: الوتين نياط القلب" بكسر النون وتخفيف التحتانية هو حبل الوريد، وهذا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، والفريابي والأشجعي والحاكم كلهم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإسناده قوي لأنه من رواية الثوري عن عطاء وسمعه منه قبل الاختلاط. وقال أبو عبيدة مثله. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: الوتين

(8/664)


حبل القلب. قوله: "قال ابن عباس: طغى كثر" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: بلغنا أنه طغى فوق كل شيء خمسة عشر ذراعا. قوله: "ويقال بالطاغية: بطغيانهم" هو قول أبي عبيدة وزاد: "كفرهم" . وأخرج الطبري من طريق مجاهد قال: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} بالذنوب. قوله: "ويقال طغت على الخزان كما طغى الماء على قوم نوح" لم يظهر لي فاعل طغت لأن الآية في حق ثمود وهم قد أهلكوا بالصيحة، ولو كانت عادا لكان الفاعل الريح وهي لها الخزان، وتقدم في أحاديث الأنبياء أنها عتت على الخزان. وأما الصيحة فلا خزان لها، فلعله انتقال من عتت إلى طغت. وأما قوله: {لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} فروى سعيد بن منصور من طريق السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس في قوله: {لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} قال: طغى على خزانه فنزل بغير كيل ولا وزن. قوله: "وغسلين ما يسيل من صديد أهل النار" كذا ثبت للنسفي وحده عقب قوله: "القاضية" وهو عند أبي نعيم أيضا، وهو كلام الفراء قال في قوله: {وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} يقال إنه ما يسيل من صديد أهل النار. قوله: "وقال غيره {مِنْ غِسْلِينٍ} كل شيء غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين، فعلين من الغسل مثل الجرح والدبر" كذا للنسفي وحده هنا وقد تقدم في بدء الخلق. أعجاز نخل أصولها كذا للنسفي وحده هنا وهو عند أبي نعيم أيضا؛ وقد تقدم أيضا في أحاديث الأنبياء. قوله: "باقية بقية" كذا للنسفي وحده وعند أبي نعيم أيضا، وقد تقدم أحاديث الأنبياء.
" تنبيه " : لم يذكر في تفسير الحاقة حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" أخرجه أبو داود وابن أبي حاتم من رواية إبراهيم بن طهمان عن محمد بن المنكدر وإسناده على شرط الصحيح.

(8/665)


70- سورة {سَأَلَ سَائِلٌ}
الْفَصِيلَةُ أَصْغَرُ آبَائِهِ الْقُرْبَى إِلَيْهِ يَنْتَمِي مَنْ انْتَمَى لِلشَّوَى الْيَدَانِ وَالرِّجْلاَنِ وَالأَطْرَافُ وَجِلْدَةُ الرَّأْسِ يُقَالُ لَهَا شَوَاةٌ وَمَا كَانَ غَيْرَ مَقْتَلٍ فَهُوَ شَوًى عِزِينَ وَالْعِزُونَ الْحِلَقُ وَالْجَمَاعَاتُ وَوَاحِدُهَا عِزَةٌ
قول "سورة {سَأَلَ سَائِلٌ} سقطت البسملة للجميع. قوله: "الفصيلة أصغر آبائه القربى إليه ينتمي" هو قول الفراء. وقال أبو عبيدة: الفصيلة دون القبيلة، ثم الفصيلة فخذه التي تؤويه. وقال عبد الرزاق عن معمر: بلغني أن فصيلته أمه التي أرضعته. وأغرب الداودي فحكى أن الفصيلة من أسماء النار. قوله: "للشوى: اليدان والرجلان والأطراف، وجلدة الرأس يقال لها شواة، وما كان غير مقتل فهو شوى" هو كلام الفراء بلفظه أيضا. وقال أبو عبيدة: الشوى واحدتها شواة وهي اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، قال: وسمعت رجلا من أهل المدينة يقول اقشعرت شواتي، قلت له ما معناه؟ قال: جلدة رأسي، والشوى قوائم الفرس يقال: عبل الشوى، ولا يراد في هذا الرأس لأنهم وصفوا الخيل بأسالة الخدين ورقة الوجه. قوله: "عزين والعزون الحلق والجماعات واحدها عزة" أي بالتخفيف كذا لأبي ذر، وسقط لفظ: "الحلق" لغير أبي ذر والصواب إثباته وهو كلام الفراء بلفظه، والحلق بفتح الحاء المهملة على المشهور ويجوز كسرها. وقال أبو عبيدة: عزين جماعة عزة مثل ثبة وثبين وهي جماعات في تفرقة. قوله: "يوفضون الإيفاض الإسراع" كذا للنسفي هنا وحده وهو كلام الفراء. وقد تقدم في

(8/665)


الجنائز. قوله: "وقرأ الأعمش وعاصم إلى نصب" أي إلى شيء منصوب يستبقون إليه، وقراءة زيد بن ثابت "إلى نصب" وكان النصب الآلهة التي كانت تعبد وكل صواب، والنصب واحد والنصب مصدر، ثبت هذا هنا للنسفي، وذكره أبو نعيم أيضا. وقد تقدم بعضه في الجنائز. وهو قول الفراء بلفظه وزاد: في قراءة بن ثابت برفع النون، وبعد قوله التي كانت تعبد من الأحجار قال: النصب والنصب واحد وهو مصدر والجمع أنصاب انتهى، يريد أن الذي بضمتين واحد لا جمع مثل حقب واحد الأحقاب.

(8/666)


71- سورة نُوحٍ
{أَطْوَارًا} طَوْرًا كَذَا وَطَوْرًا كَذَا يُقَالُ عَدَا طَوْرَهُ أَيْ قَدْرَهُ وَالْكُبَّارُ أَشَدُّ مِنْ الْكِبَارِ وَكَذَلِكَ جُمَّالٌ وَجَمِيلٌ لأَنَّهَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً وَكُبَّارٌ الْكَبِيرُ وَكُبَارًا أَيْضًا بِالتَّخْفِيفِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ رَجُلٌ حُسَّانٌ وَجُمَّالٌ وَحُسَانٌ مُخَفَّفٌ وَجُمَالٌ مُخَفَّفٌ دَيَّارًا مِنْ دَوْرٍ وَلَكِنَّهُ فَيْعَالٌ مِنْ الدَّوَرَانِ كَمَا قَرَأَ عُمَرُ الْحَيُّ الْقَيَّامُ وَهِيَ مِنْ قُمْتُ وَقَالَ غَيْرُهُ دَيَّارًا أَحَدًا {تَبَارًا} هَلاَكًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {مِدْرَارًا} يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَقَارًا عَظَمَةً
قوله: "سورة نوح" سقطت البسملة للجميع. قوله: "أطوارا طورا كذا وطورا كذا" تقدم في بدء الخلق. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} : نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر. قوله: "يقال عدا طوره أي قدره" تقدم في بدء الخلق أيضا. قوله: "والكبار أشد من الكبار، وكذلك جمال وجميل لأنها أشد مبالغة؛ وكذلك كبار الكبير، وكبار أيضا بالتخفيف" قال أبو عبيدة في قوله {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} قال مجازها كبير والعرب تحول لفظة كبير إلى فعال مخففة ثم يثقلون ليكون أشد مبالغة، فالكبار أشد من الكبار، وكذا يقال للرجل الجميل لأنه أشد مبالغة. قوله: "والعرب تقول رجل حسان وجمال وحسان مخفف وجمال مخفف" قال الفراء في قوله {مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} : الكبار الكبير وكبار أيضا بالتخفيف، والعرب تقول عجب وعجاب ورجل حسان وجمال بالتثقيل وحسان وجمال بالتخفيف في كثير من أشباهه. قوله: "ديارا من دور، ولكنه فيعال من الدوران" أي أصله ديوار فأدغم ولو كان أصله فعالا لكان دوارا، وهذا كلام الفراء بلفظه. وقال غيره: أصل ديار دوار، والواو إذا وقعت بعد تحتانية ساكنة بعدها فتحة قلبت ياء مثل أيام وقيام. قوله: "كما قرأ عمر الحي القيام وهي من قمت" هو من كلام الفراء أيضا، وقد أخرج أبو عبيدة في فضائل القرآن من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر أنه صلى العشاء الآخرة فاستفتح آل عمران فقرأ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طرق عن عمر أنه قرأها كذلك، وأخرجها عن ابن مسعود أيضا. قوله: "وقال غيره ديارا أحدا" هو قول أبي عبيدة وزاد: يقولون ليس بها ديار ولا عريب. "تنبيه" : لم يتقدم ذكر من يعطف عليه قوله: "وقال غيره:"فيحتمل أن يكون كان في الأصل منسوبا لقائل فحذف اختصارا من بعض النقلة، وقد عرفت أنه الفراء. قوله: "تبارا هلاكا" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "وقال ابن عباس مدرارا يتبع بعضه بعضا" وصله ابن أبي حاتم من علي بن أبي طلحة

(8/666)


عن ابن عباس به. قوله: "وقارا عظمة" وصله سعيد بن منصور وابن أبي حاتم من طريق مسلم البطين بن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} قال: ما تعرفون لله حق عظمته.

(8/667)


1- باب {وَدًّا وَلاَ سُواعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ}
4920- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَارَتْ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لآلِ ذِي الْكَلاَعِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَت"
قوله: "باب {وَدًّا وَلاَ سُواعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "ابن جريج وقال عطاء" كذا فيه وهو معطوف على كلام محذوف، وقد بينه الفاكهي من وجه آخر عن ابن جريج قال في قوله تعالى {وَدًّا وَلاَ سُواعًا} الآية قال: أوثان كان قوم نوح يعبدونهم وقال عطاء كان ابن عباس إلخ. قوله: "عن ابن عباس" قيل هذا منقطع لأن عطاء المذكور هو الخراساني ولم يلق ابن عباس، فقد أخرج عبد الرزاق هذا الحديث في تفسيره عن ابن جريج فقال: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس. وقال أبو مسعود: ثبت هذا الحديث في تفسير ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وإنما أخذه من ابنه عثمان بن عطاء فنظر فيه. وذكر صالح بن أحمد بن حنبل في "العلل" عن علي بن المديني قال: سألت يحيى القطان عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني فقال: ضعيف. فقلت: إنه يقول أخبرنا. قال: لا شيء، إنما هو كتاب دفعه إليه انتهى. وكان ابن جريج يستجيز إطلاق أخبرنا في المناولة والمكاتبة. وقال الإسماعيلي أخبرت عن علي بن المديني أنه ذكر عن "تفسير ابن جريج" كلاما معناه أنه كان يقول عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، فطال على الوراق أن يكتب الخراساني كل حديث فتركه فرواه من روى على أنه عطاء بن أبي رباح انتهى. وأشار بهذا إلى القصة التي ذكرها صالح بن أحمد عن علي بن المديني ونبه عليها أبو على الجياني في "تقييد المهمل" قال ابن المديني سمعت هشام بن يوسف يقول قال لي ابن جريج سألت عطاء عن التفسير من البقرة وآل عمران ثم قال: اعفني من هذا. قال قال هشام فكان بعد إذا قال قال عطاء عن ابن عباس قال عطاء الخراساني. قال هشام: فكتبنا ثم مللنا، يعني كتبنا الخراساني. قال ابن المديني وإنما بينت هذا لأن محمد بن ثور كان يجعلها - يعني في روايته عن ابن جريج - عن عطاء عن ابن عباس فيظن أنه عطاء بن أبي رباح. وقد أخرج الفاكهي الحديث المذكور من طريق محمد بن ثور عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ولم يقل الخراساني، وأخرجه عبد الرزاق كما تقدم فقال الخراساني. وهذا مما استعظم على البخاري أن يخفي عليه، لكن الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريج عن عطاء الخراساني وعن عطاء ابن أبي رباح جميعا؛ ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح من التحديث بالتفسير أن لا يحدث بهذا الحديث في

(8/667)


باب آخر من الأبواب أو في المذاكرة، وإلا فكيف يخفي على البخاري ذلك مع تشدده ما شرط الاتصال واعتماده غالبا في العلل على علي بن المديني شيخه وهو الذي نبه على هذه القصة. ومما يؤيد ذلك أنه لم يكثر من تخريج هذه النسخة وإنما ذكر بهذا الإسناد موضعين هذا وآخر في النكاح، ولو كان خفي عليه لاستكثر من إخراجها لأن ظاهرها أنها على شرطه. قوله: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد" في رواية عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: كانت آلهة تعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب بعد. وقال أبو عبيدة: وزعموا أنهم كانوا مجوسا وأنها غرقت في الطوفان، فلما نضب الماء عنها أخرجها إبليس فبثها في الأرض انتهى. وقوله كانوا مجوسا غلط، فإن المجوسية كلمة حدثت بعد ذلك بدهر طويل، وإن كان الفرس يدعون خلاف ذلك. وذكر السهيلي في "التعريف" أن يغوث هو ابن شيث بن آدم فيما قيل، وكذلك سواع وما بعده وكانوا يتبركون بدعائهم، فلما مات منهم أحد مثلوا صورته تمسحوا بها إلى زمن مهلائيل فعبدوها بتدريج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية، ولا أدري من أين سرت لهم تلك الأسماء؟ من قبل الهند فقد قيل إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح، أم الشيطان ألهم العرب ذلك انتهى. وما ذكر مما نقله تلقاه من "تفسير بقي بن مخلد1 فإنه ذكر فيه نحو ذلك على ما نبه عليه ابن عسكر في ذيله، وفيه أن تلك الأسماء وقعت إلى الهند فسموا بها أصنامهم ثم أدخلها إلى أرض العرب عمرو بن لحي، وعن عروة بن الزبير أنهم كانوا أولاد آدم لصلبه، وكان ود أكبرهم وأبرهم به، وهكذا أخرجه عمر بن شبة في "كتاب مكة" من طريق محمد بن كعب القرظي قال: كان لآدم خمس بنين فسماهم قال: وكانوا عبادا. فمات رجل منهم فحزنوا عليه. فجاء الشيطان فصوره لهم ثم قال للآخر إلى آخر القصة، وفيها: فعبدوها حتى بعث الله نوحا. ومن طريق أخرى أن الذي صوره لهم رجل من ولد قابيل بن آدم. وقد أخرج الفاكهي من طريق ابن الكلبي قال: كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن، فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة، وادخل بلا ملامة. ثم ائت سيف جدة، تجد بها أصناما معدة. ثم أوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب. قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفي عليها الرمل فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة وحضر الموسم فدعا إلى عبادتها فأجيب؛ وعمرو بن ربيعة هو عمرو بن لحي كما تقدم. قوله: "أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل" قال ابن إسحاق: وكان لكلب بن وبرة بن قضاعة. قلت: وبرة هو ابن تغلب بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ودومة بضم الدال، الجندل بفتح الجيم وسكون النون مدينة من الشام مما يلي العراق، وود بفتح الواو وقرأها نافع وحده بضمها "وأما سواع فكانت لهذيل" زاد أبو عبيدة بن مدركة بن إلياس بن مضر؛ وكانوا بقرب مكة. وقال ابن إسحاق: كان سواع بمكان لهم يقال له رهاط بضم الراء وتخفيف الهاء من أرض الحجاز من جهة الساحل. قوله: "وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف" في مرسل قتادة "فكانت لبني غطيف بن مراد" وهو غطيف بن عبد الله بن ناجية بن مراد. وروي الفاكهي من طريق ابن إسحاق قال: كانت أنعم من طيئ وجرش ابن مذحج اتخذوا يغوث لجرش. قوله: "بالجرف" في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني بفتح الحاء وسكون الواو، وله عن الكشميهني الجرف بضم الجيم والراء وكذا في مرسل قتادة، وللنسفي بالجون بجيم ثم واو ثم نون، زاد غير أبي ذر: عند سبأ. قوله: "وأما
ـــــــ
(1) كذا في نسخة، وفي أخرى: "ابن خالد".

(8/668)


يعوق فكانت لهمدان "قال أبو عبيدة: لهذا الحي من همدان ولمراد بن مذحج، وروي الفاكهي من طريق ابن إسحاق قال: كانت خيوان بطن من همدان اتخذوا يعوق بأرضهم1. قوله: "وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع" في مرسل قتادة "لذي الكلاع من حمير" زاد الفاكهي من طريق أبي إسحاق "اتخذوه بأرض حمير" . قوله: "ونسر، أسماء قوم صالحين من قوم نوح" كذا لهم، وسقط لفظ: "ونسر" لغير أبي ذر وهو أولى، وزعم بعض الشراح أن قوله: "ونسر" غلط، وكذا قرأت بخط الصدفي في هامش نسخته. ثم قال هذا الشارح: والصواب وهي قلت: ووقع في رواية محمد بن ثور بعد قوله: "وأما نسر فكانت لآل ذي الكلاع" قال: "ويقال هذه أسماء قوم صالحين" وهذا أوجه الكلام وصوابه؛ وقال بعض الشراح: محصل ما قيل في هذه الأصنام قولان: أحدهما أنها كانت في قوم نوح، والثاني أنها كانت أسماء رجال صالحين إلى آخر القصة. قلت: بل مرجع ذلك إلى قول واحد، وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام ثم تبعهم من بعدهم على ذلك. قوله: "فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم" كذا لهم، ولأبي ذر والكشميهني: "ونسخ العلم" أي علم تلك الصور بخصوصها. وأخرج الفاكهي من طريق عبيد الله بن عبيد بن عمير قال: أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح، وكانت الأبناء تبر الآباء، فمات رجل منهم فجزع عليه فجعل لا يصبر عنه؛ فاتخذ مثالا على صورته فكلما اشتاق إليه نظره ثم مات ففعل به كما فعل حتى تتابعوا على ذلك فمات الآباء، فقال الأبناء. ما أتخذ آباؤنا هذه إلا أنها كانت آلهتهم، فعبدوها. وحكى الواقدي قال: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة طائر، وهذا شاذ والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر، وهو مقتضى ما تقدم من الآثار في سبب عبادتها. والله أعلم
ـــــــ
(1) انظر الكتاب العاشر من (الإكليل لهمداني) ص56 فقيه آل خيوان بن زيد بن مالك بن جشم بن حاشد من همدان وعبادتهم للصنم يعوق، وكان في قرية ببلاد همدا باليمن.

(8/669)


72- سورة {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِبَدًا أَعْوَانًا
1- باب 4921 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ فَقَالُوا مَا لَكُمْ فَقَالُوا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالَ مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلاَّ مَا حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي حَدَثَ فَانْطَلَقُوا فَضَرَبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَنْظُرُونَ مَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ قَالَ فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَخْلَةَ وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَسَمَّعُوا لَهُ

(8/669)


فَقَالُوا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ} "
قوله: "سورة قل أوحى" كذا لهم. ويقال لها سورة الجن. قوله: "قال ابن عباس: لبدا أعوانا" هو عند الترمذي في آخر حديث ابن عباس المذكور في هذا الباب، ووصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هكذا، وقراءة الجمهور بكسر اللام وفتح الباء وهشام وحده بضم اللام وفتح الموحدة فالأولى جمع لبدة بكسر ثم سكون نحو قربة وقرب، واللبدة واللبد الشيء الملبد أي المتراكب بعضه على بعض وبه سمي اللبد المعروف والمعنى كادت الجن يكونون عليه جماعات متراكبة مزدحمين عليه كاللبدة، وأما التي بضم اللام فهي جمع لبدة بضم ثم سكون مثل غرفة وغرف والمعنى أنهم كانوا جمعا كثيرا كقوله تعالى {مَالاً لُبَداً} أي كثيرا وروى عن أبي عمرو أيضا بضمتين فقيل هي جمع لبود مثل صبر وصبور، وهو بناء مبالغة وقرأ ابن محيصن بضم ثم سكون فكأنها مخففة من التي قبلها. وقرأ الجحدري بضمة ثم فتحة مشددة جمع لا بد كسجد وساجد، وهذه القراءات كلها راجعة إلى معنى واحد وهو أن الجن تزاحموا على النبي صلى الله عليه وسلم لما استمعوا القرآن وهو المعتمد. وروي عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبدت الإنس والجن وحرصوا على أن يطفئوا هذا النور الذي أنزله الله تعالى، وهو لما اللفظ واضح القراءة المشهورة لكنه في المعنى مخالف. قوله: "بخسا نقصا" ثبت هذا للنسفي وحده، وتقدم في بدء الخلق. قوله: "عن أبي بشر" هو جعفر بن أبي وحشية. قوله: "انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا اختصره البخاري هنا وفي صفة الصلاة، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبراني عن معاذ بن المثنى عن مسدد شيخ البخاري فيه فزاد في أوله "ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق" إلخ، وهكذا أخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة بالسند الذي أخرجه به البخاري، فكأن البخاري حذف هذه اللفظة عمدا لأن ابن مسعود أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجن، فكان ذلك مقدما على نفي ابن عباس. وقد أشار إلى ذلك مسلم فأخرج عقب حديث ابن عباس هذا حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني داعي الجن فانطلقت معه فقرأت عليه القرآن" ويمكن الجمع بالتعدد كما سيأتي. قوله: "في طائفة من أصحابه" تقدم في أوائل المبعث في "باب ذكر الجن" أن ابن إسحاق وابن سعد ذكرا أن ذلك كان ذي القعدة سنة عشر من المبعث لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ثم رجع منها، ويؤيده قوله في هذا الحديث: "إن الجن رأوه يصلي بأصحابه صلاة الفجر" والصلاة المفروضة إنما شرعت ليلة الإسراء والإسراء كان على الراجح قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث فتكون القصة بعد الإسراء، لكنه مشكل من جهة أخرى، لأن محصل ما في الصحيح كما تقدم في بدء الخلق وما ذكره ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف لم يكن معه من أصحابه إلا زيد بن حارثة، وهنا قال أنه انطلق في طائفة من أصحابه، فلعلها كانت وجهة أخرى. ويمكن الجمع بأنه لما رجع لاقاه بعض أصحابه في أثناء الطريق فرافقوه. قوله: "عامدين" أي قاصدين. قوله: "إلى سوق عكاظ" بضم المهملة وتخفيف الكاف وآخره ظاء معجمة بالصرف وعدمه، قال اللحياني الصرف لأهل

(8/670)


الحجاز وعدمه لغة تميم، وهو موسم معروف للعرب. بل كان من أعظم مواسمهم، وهو نخل في واد بين مكة والطائف وهو إلى الطائف أقرب بينهما عشرة أميال، وهو وراء قرن المنازل بمرحلة من طريق صنعاء اليمن. وقال البكري: أول ما أحدثت قبل الفيل بخمس عشرة سنة، ولم تزل سوقا إلى سنة تسع وعشرين ومائة، فخرج الخوارج الحرورية فنهبوها فتركت إلى الآن، كانوا يقيمون به جميع شوال يتبايعون ويتفاخرون وتنشد الشعراء ما تجدد لهم، وقد كثر ذلك في أشعارهم كقول حسان:
سأنشر إن حييت لكم كلاما ... ينشر في المجامع من عكاظ
وكان المكان الذي يجتمعون به منه يقال له الابتداء، وكانت هناك صخور يطوفون حولها. ثم يأتون مجنة فيقيمون بها عشرين ليلة من ذي القعدة. ثم يأتون ذا المجاز، وهو خلف عرفة فيقيمون به إلى وقت الحج، وقد تقدم في كتاب الحج شيء من هذا. وقال ابن التين: سوق عكاظ من إضافة الشيء إلى نفسه، كذا قال، وعلى ما تقدم من أن السوق كانت تقام بمكان من عكاظ يقال له الابتداء لا يكون كذلك. قوله: "وقد حيل" بكسر الحاء المهملة وسكون التحتانية بعدها لام أي حجز ومنع على البناء للمجهول. قوله: "بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب" بضمتين جمع شهاب، وظاهر هذا أن الحيلولة وإرسال الشهب وقع في هذا الزمان المقدم ذكره والذي تضافرت به الأخبار أن ذلك وقع لهم من أول البعثة النبوية، وهذا مما يؤيد تغاير زمن القصتين، وأن مجيء الجن لاستماع القرآن كان قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بسنتين، ولا يعكر على ذلك إلا قوله في هذا الخبر إنهما رأوه يصلي بأصحابه صلاة الفجر، لأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل فرض الصلوات ليلة الإسراء فإنه صلى الله عليه وسلم كان قبل الإسراء يصلي قطعا، وكذلك أصحابه لكن اختلف هل افترض قبل الخمس شيء من الصلاة أم لا؟ فيصح على هذا قول من قال: إن الفرض أولا كان صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها، والحجة فيه قوله تعالى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} ونحوها من الآيات، فيكون إطلاق صلاة الفجر في حديث الباب باعتبار الزمان لا لكونها إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء، فتكون قصة الجن متقدمة من أول المبعث. وهذا الموضع مما لم ينبه عليه أحد ممن وقفت على كلامهم في شرح هذا الحديث. وقد أخرج الترمذي والطبري حديث الباب بسياق سالم من الإشكال الذي ذكرته من طريق أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كانت الجن تصعد إلى السماء الدنيا يستمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها أضعافا، فالكلمة تكون حقا وأما ما زادوا فيكون باطلا، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك" وأخرجه الطبري أيضا وابن مردويه وغيرها من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير مطولا وأوله "كان للجن مقاعد في السماء يستمعون الوحي" الحديث: "فبينما هم كذلك إذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فدحرت الشياطين من السماء، ورموا بالكواكب، فجعل لا يصعد أحد منهم إلا احترق، وفزع أهل الأرض لما رأوا من الكواكب ولم تكن قبل ذلك فقالوا: هلك أهل السماء كان أهل الطائف أول من تفطن لذلك فعمدوا إلى أموالهم فسيبوها وإلى عبيدهم فعتقوها، فقال لهم رجل: ويلكم لا تهلكوا أموالكم، فإن معالمكم من الكواكب التي تهتدون بها لم يسقط منها شيء، فأقلعوا. وقال إبليس: حدث في الأرض حدث، فأتى من كل أرض بتربة فشمها، فقال لتربة تهامة: هاهنا حدث الحدث، فصرف إليه نفرا من الجن، فهم الذين استمعوا القرآن" وعند أبي داود في" كتاب

(8/671)


المبعث "من طريق الشعبي أن الذي قال لأهل الطائف ما قال هو عبد ياليل ابن عمرو، وكان قد عمى، فقال لهم: لا تعجلوا وانظروا، فإن كانت النجوم التي يرمي بها هي التي تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو من حدث فنظروا فإذا هي نجوم لا تعرف، فلم يلبثوا أن سمعوا بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرجه الطبري من طريق السدي مطولا، وذكر ابن إسحاق نحوه مطولا بغير إسناد في "مختصر ابن هشام" ، زاد في رواية يونس بن بكير فساق سنده بذلك عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة ابن الأخنس أنه حدثه عن عبد الله بن عبد الله أنه حدثه أن رجلا من ثقيف يقال له عمرو بن أمية كان من أدهى العرب، وكان أول من فزع لما رمى بالنجوم من الناس، فذكر نحوه. وأخرجه ابن سعد من وجه آخر عن يعقوب ابن عتبة قال: أول العرب فزع من رمى النجوم ثقيف، فأتوا عمرو بن أمية. وذكر الزبير بن بكار في النسب نحوه بغير سياقه، ونسب القول المنسوب لعبد ياليل لعتبة بن ربيعه، فلعلهما تواردا على ذلك. فهذه الأخبار تدل على أن القصة وقعت أول البعثة وهو المعتمد، وقد استشكل عياض وتبعه القرطبي والنووي وغيرهما من حديث الباب موضعا آخر ولم يتعرضوا لما ذكرته، فقال عياض: ظاهر الحديث أن الرمي بالشهب لم يكن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لإنكار الشياطين له وطلبهم سببه، ولهذا كانت الكهانة فاشية في العرب ومرجوعا إليها في حكمهم، حتى قطع سببها بأن حيل بين الشياطين وبين استراق السمع، كما قال تعالى في هذه السورة {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} وقوله تعالى {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وقد جاءت أشعار العرب باستغراب رميها وإنكاره إذ لم يعهدوه قبل المبعث، وكان ذلك أحد دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم. يؤيده ما ذكر في الحديث من إنكار الشياطين. قال وقال بعضهم: لم تزل الشهب يرمي بها مد كانت الدنيا، واحتجوا بما جاء في أشعار العرب من ذلك قال: وهذا مروى عن ابن عباس والزهري، ورفع فيه ابن عباس حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال الزهري لمن اعترض عليه بقوله {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} قال: غلظ أمرها وشدد انتهى. وهذا الحديث الذي أشار إليه أخرجه مسلم من طريق الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن رجال من الأنصار قالوا "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ رمى بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون لهذا إذا رمى به في الجاهلية" ؟ الحديث. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: سئل الزهري عن النجوم أكان يرمي بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنه إذ جاء الإسلام غلظ وشدد. وهذا جمع حسن. ومحتمل أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رمى بها في الجاهلية" أي جاهلية المخاطبين، ولا يلزم أن يكون ذلك قبل المبعث فإن المخاطب بذلك الأنصار، وكانوا قبل إسلامهم في جاهلية، فإنهم لم يسلموا إلا بعد المبعث ثلاث عشرة سنة. وقال السهيلي: لم يزل القذف بالنجوم قديما، وهو موجود في أشعار قدماء الجاهلية كأوس بن حجر وبشر بن أبي حازم وغيرهما. وقال القرطبي: يجمع بأنها لم تكن يرمي بها قبل المبعث رميا يقطع الشياطين عن استراق السمع، ولكن كانت ترمى تارة ولا ترمى أخرى، وترمي من جانب ولا ترمي من جميع الجوانب، ولعل الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً} انتهى. ثم وجدت عن وهب بن منبه ما يرفع الإشكال ويجمع بين مختلف الأخبار قال: كان إبليس يصعد إلى السماوات كلهن يتقلب فيهن كيف شاء لا يمنع منذ أخرج آدم إلى أن رفع عيسى، فحجب حينئذ من أربع سماوات، فلما بعث نبينا حجب من الثلاث فصار يسترق السمع هو وجنوده ويقذفون بالكواكب. ويؤيده ما روى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لم تكن

(8/672)


السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد، فلما بعث محمد حرست حرسا شديدا ورجمت الشياطين، فأنكروا ذلك. ومن طريق السدي قال: إن السماء لم تكن تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين ظاهر، وكانت الشياطين قد اتخذت مقاعد يسمعون فيها ما يحدث، فلما بعث محمد رجموا. وقال الزين بن المنير: ظاهر الخبر أن الشهب لم تكن يرمى بها، وليس كذلك؛ لما دل عليه حديث مسلم. وأما قوله تعالى {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} فمعناه أن الشهب كانت ترمي فتصيب تارة ولا تصيب أخرى، وبعد البعثة أصابتهم إصابة مستمرة فوصفوها لذلك بالرصد، لأن الذي يرصد الشيء لا يخطئه، فيكون المتجدد دوام الإصابة لا أصلها. وأما قول السهيلي: لولا أن الشهاب قد يخطئ الشيطان لم يتعرض له مرة أخرى، فجوابه أنه يجوز أن يقع التعرض مع تحقق الإصابة لرجاء اختطاف الكلمة وإلقائها قبل إصابة الشهاب، ثم لا يبالي المختطف بالإصابة لما طبع عليه من الشر كما تقدم. وأخرج العقيلي وابن منده وغيرهما وذكره أبو عمر بغير سند من طريق لهب - بفتحتين ويقال بالتصغير - ابن مالك الليثي قال: ذكرت عن النبي صلى الله عليه وسلم لكهانة فقلت: نحن أول من عرف حراسة السماء ورجم الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك أنا اجتمعنا عند كاهن لنا يقال له خطر بن مالك - وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتان وستة وثمانون سنة - فقلنا: يا خطر، هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمي بها، فإنا فزعنا منها وحفنا سوء عاقبتها؟ الحديث، وفيه: فانقض نجم عظيم من السماء، فصرخ الكاهن رافعا صوته:
أصابه أصابه ... خامره عذابه ... أحرقه شهابه
الأبيات، وفي الخبر أنه قال أيضا:
قد منع السمع عتاة الجان ... بثاقب يتلف ذي سلطان ... من أجل مبعوث عظيم الشان
وفيه أنه قال:
أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير نبي الإنس
الحديث بطوله، قال أبو عمر: سنده ضعيف جدا، ولولا فيه حكم لما ذكرته لكونه علما من أعلام النبوة والأصول. فإن قيل إذا كان الرمي بها غلظ وشدد بسبب نزول الوحي فهلا انقطع بانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نشاهدها الآن يرمى بها؟ فالجواب يؤخذ من حديث الزهري المتقدم، ففيه عند مسلم قالوا: كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنها لا ترمي لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمرا أخبر أهل السماوات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون به إلى أوليائهم. فيؤخذ من ذلك أن سبب التغليظ والحفظ لم ينقطع لما يتجدد من الحوادث التي تلقي بأمره إلى الملائكة، فإن الشياطين مع شدة التغليظ عليهم في ذلك بعد المبعث لم ينقطع طمعهم في استراق السمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بما بعده، وقد قال عمر لغيلان بن سلمة لما طلق نساءه: إني أحسب أن الشياطين فيما تسترق السمع سمعت بأنك ستموت فألقت إليك ذلك الحديث، أخرجه عبد الرزاق وغيره. فهذا ظاهر في أن استراقهم السمع استمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقصدون استماع الشيء مما يحدث فلا يصلون إلى ذلك إلا إن اختطف أحدهم بخفة حركته خطفة فيتبعه الشهاب، فإن أصابه قبل أن يلقيها لأصحابه فاتت وإلا سمعوها وتداولوها، وهذا يرد على قول السهيلي

(8/673)


المقدم ذكره. قوله: "قال ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث" الذي قال لهم ذلك هو إبليس كما تقدم في رواية أبي إسحاق المتقدمة قريبا. قوله: "فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها" أي سيروا فيها كلها، ومنه قوله تعالى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وفي رواية نافع بن جبير عن ابن عباس عند أحمد "فشكوا ذلك إلى إبليس، فبث جنوده، فإذا هم بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي برحبة في نخلة" . قوله: "فانطلق الذين توجهوا" قيل كان هؤلاء المذكورون من الجن على دين اليهود، ولهذا قالوا "أنزل من بعد موسى" وأخرج ابن مردويه من طريق عمر بن قيس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم كانوا تسعة، ومن طريق النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس كانوا سبعة من أهل نصيبين، وعند ابن أبي حاتم من طريق مجاهد نحوه لكن قال: كانوا أربعة من نصيبين وثلاثة من حران، وهم حسا ونسا وشاصر وماضر والأدرس ووردان والأحقب. ونقل السهيلي في "التعريف" أن ابن دريد ذكر منهم خمسة: شاصر وماضر ومنشي وناشي والأحقب. قال وذكر يحيى بن سلام وغيره قصة عمرو بن جابر وقصة سرق وقصة زوبعة قال: فإن كانوا سبعة فالأحقب لقب أحدهم لا اسمه. واستدرك عليه ابن عسكر ما تقدم عن مجاهد قال: فإذا ضم إليهم عمرو وزوبعة وسرق وكان الأحقب لقبا كانوا تسعة. قلت: هو مطابق لرواية عمر بن قيس المذكورة. وقد روى ابن مردويه أيضا من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس: كانوا اثنى عشر ألفا من جزيرة الموصل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لابن مسعود: أنظرني حتى آتيك. وخط عليه خطا. الحديث. والجمع بين الروايتين تعدد القصة، فإن الذين جاءوا أولا كان سبب مجيئهم ما ذكر في الحديث من إرسال الشهب، وسبب مجيء الذين في قصة ابن مسعود أنهم جاءوا لقصد الإسلام وسماع القرآن والسؤال عن أحكام الدين، وقد بينت ذلك في أوائل المبعث في الكلام على حديث أبي هريرة، وهو من أقوى الأدلة على تعدد القصة فإن أبا هريرة إنما أسلم بعد الهجرة، والقصة الأولى كانت عقب المبعث، ولعل من ذكر في القصص المفرقة كانوا ممن وفد بعد، لأنه ليس في كل قصة منها إلا أنه كان ممن وفد، وقد ثبت تعدد وفودهم. وتقدم في بدء الخلق كثير مما يتعلق بأحكام الجن والله المستعان. قوله: "نحو تهامة" بكسر المثناة اسم لكل مكان غير عال من بلاد الحجاز، سميت بذلك لشدة حرها اشتقاقا من التهم بفتحتين وهو شدة الحر وسكون الريح، وقيل من تهم الشيء إذا تغير، قيل لها ذلك لتغير هوائها. قال البكري: حدها من جهة الشرق ذات عرق، ومن قبل الحجاز السرج بفتح المهملة وسكون الراء بعدها جيم قرية من عمل الفرع بينها وبين المدينة اثنان وسبعون ميلا. قوله: "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية أبي إسحاق: فانطلقوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وهو عامد" كذا هنا، وتقدم في صفة الصلاة بلفظ: "عامدين" ونصب على الحال من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه، أو ذكر بلفظ الجمع تعظيما له، وهو أظهر لمناسبة الرواية التي هنا. قوله: "بنخلة" بفتح النون وسكون المعجمة موضع بين مكة والطائف، قال البكري: على ليلة من مكة. وهي التي ينسب إليها بطن نخل. ووقع في رواية مسلم بنخل بلا هاء والصواب إثباتها. قوله: "يصلي بأصحابه صلاة الفجر" لم يختلف علي ابن عباس في ذلك، ووقع في رواية عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: قال الزبير - أو ابن الزبير - كان ذلك بنخلة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء، وخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة قال: قال الزبير فذكره، وزاد: فقرأ {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} . وكذا أخرجه ابن أبي حاتم، وهذا منقطع، والأول أصح. قوله: "تسمعوا له" أي قصدوا لسماع القرآن وأصغوا إليه. قوله: "فهنالك" هو

(8/674)


ظرف مكان والعامل فيه قالوا. وفي رواية: "فقالوا" والعامل فيه رجعوا. قوله: "رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا" قال الماوردي: ظاهر هذا أنهم آمنوا عند سماع القرآن، قال: والإيمان يقع بأحد أمرين: إما بأن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة فيقع له العلم بصدق الرسول، أو يكون عنده علم من الكتب الأولى فيها دلائل على أنه النبي المبشر به، وكلا الأمرين في الجن محتمل. والله أعلم. قوله: "وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم. {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} " زاد الترمذي "قال ابن عباس: وقول الجن لقومهم: لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا، قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته يسجدون بسجوده، قال فتعجبوا من طواعية أصحابه له قالوا لقومهم ذلك" . قوله: "وإنما أوحي إليه قول الجن" هذا كلام ابن عباس، كأنه تقرر فيه ما ذهب إليه أولا أنه صلى الله عليه وسلم لم يجتمع بهم، وإنما أوحى الله إليه بأنهم استمعوا، ومثله قوله تعالى {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} الآية. ولكن لا يلزم من عدم ذكر اجتماعه بهم حين استمعوا أن لا يكون اجتمع بهم بعد ذلك كما تقدم تقريره. وفي الحديث إثبات وجود الشياطين والجن وأنهما لمسمى واحد، وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان، فلا يقال لمن آمن منهم إنه شيطان. وفيه أن الصلاة في الجماعة شرعت قبل الهجرة. وفيه مشروعيتها في السفر. والجهر بالقراءة في صلاة الصبح، وأن الاعتبار بما قضى الله للعبد من حسن الخاتمة لا بما ظهر منه من الشر ولو بلغ ما بلغ، لأن هؤلاء الذين بادروا إلى الإيمان بمجرد استماع القرآن لو لم كونوا عند إبليس في أعلى مقامات الشر ما اختارهم للتوجه إلى الجهة التي ظهر له أن الحدث الحادث من جهتها. ومع ذلك فغلب عليهم ما قضى لهم من السعادة بحسن الخاتمة، ونحو ذلك قصة سحرة فرعون، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى.

(8/675)


73- سورة الْمُزَّمِّلِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَتَبَتَّلْ أَخْلِصْ وَقَالَ الْحَسَنُ {أنْكَالًا} قُيُودًا {مُنْفَطِرٌ بِهِ} مُثْقَلَةٌ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {كَثِيبًا مَهِيلاً} الرَّمْلُ السَّائِلُ {وَبِيلاً} شَدِيدًا
قوله: "سورة المزمل والمدثر" كذا لأبي ذر، واقتصر الباقون على المزمل وهو أولى، لأنه أفرد المدثر بعد بالترجمة. والمزمل بالتشديد أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، وقد جاءت قراءة أبي بن كعب على الأصل. قوله: "وقال مجاهد وتبتل أخلص" وصله الفريابي وغيره، وقد تقدم في كتاب قيام الليل. قوله: "وقال الحسن: أنكالا قيودا" وصله عبد بن حميد والطبري من طريق الحسن البصري. وقال أبو عبيدة: الأنكال واحدها نكل بكسر النون وهو القيد، وهذا هو المشهور. وقيل النكل الغل. قوله: {مُنْفَطِرٌ بِهِ} مثقلة به" وصله عبد بن حميد من وجه آخر عن الحسن البصري في قوله {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} قال: مثقلة به يوم القيامة ووصله الطبري وابن أبي حاتم من طريقه بلفظ: "مثقلة موقوة" ولابن أبي حاتم من طريق أخرى عن مجاهد {مُنْفَطِرٌ بِهِ} تنفطر من ثقل ربها تعالى. وعلى هذا فالضمير لله، ومحتمل أن يكون الضمير ليوم القيامة. وقال أبو عبيدة: أعاد الضمير مذكرا لأن مجاز السماء مجاز السقف، يريد قوله منفطر، ويحتمل أن يكو على حذف والتقدير شيء منفطر. قوله: "وقال ابن عباس: كثيبا مهيلا الرمل السائل" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، وأخرجه

(8/675)


الحاكم من وجه آخر عن ابن عباس ولفظه: المهيل إذا أخذت منه شيئا يتبعك آخره، والكثيب الرمل. وقال الفراء: الكثيب الرمل والمهيل الذي تحرك أسفله فينهال عليك أعلاه. قوله: "وبيلا شديدا" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة مثله.
" تنبيه " : لم يورد المصنف في سورة المزمل حديثا مرفوعا، وقد أخرج مسلم حديث سعيد بن هشام عن عائشة فيما يتعلق منها بقيام الليل وقولها فيه: "فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضته" ويمكن أن يدخل في قوله تعالى في آخرها {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} حديث ابن مسعود "إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر" وسيأتي في الرقاق.

(8/676)


74- سورة الْمُدَّثِّرِ
بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {عَسِيرٌ} شَدِيدٌ {قَسْوَرَةٌ} رِكْزُ النَّاسِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَكُلُّ شَدِيدٍ قَسْوَرَةٌ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ الْقَسْوَرَةُ قَسْوَرٌ الأَسَدُ الرِّكْزُ الصَّوْتُ {مُسْتَنْفِرَةٌ} نَافِرَةٌ مَذْعُورَةٌ
قوله: "سورة المدثر - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر، قرأ أبي بن كعب بإثبات المثناة المفتوحة بغير إدغام كما تقدم في المتزمل، وقرأ عكرمة فيهما بخفيف الزاي والدال اسم فاعل. قوله: "قال ابن عباس: عسير شديد" وصله ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس به. قوله: "قسورة ركز الناس وأصواتهم" وصله سفيان بن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} قال: هو ركز الناس، قال سفيان: يعني حسهم وأصواتهم. قوله: "وقال شديد قسورة" زاد النسفي: وقسور. وسيأتي القول فيه مبسوطا. قوله: "وقال أبو هريرة: القسور قسور الأسد، الركز الصوت" سقط قوله: "الركز الصوت" لغير أبي ذر، وقد وصله عبد بن حميد من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: كان أبو هريرة إذا قرأ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} قال: الأسد. وهذا منقطع بين زيد وأبي هريرة. وقد أخرجه من وجهين آخرين عن زيد بن أسلم عن ابن سيلان عن أبي هريرة وهو متصل، ومن هذا الوجه أخرجه البزار، وجاء عن ابن عباس أنه بالحبشية، أخرجه ابن جرير من طريق يوسف بن مهران عنه قال: القسورة الأسد بالعربية، وبالفارسية شير، وبالحبشية قسورة. وأخرج الفراء من طريق عكرمة أنه قيل له: القسورة بالحبشية الأسد، فقال: القسورة الرماة والأسد بالحبشية عنبسة. وأخرجه ابن أبي حازم عن ابن عباس، وتفسيره بالرماة أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم من حديث أبي موسى الأشعري، ولسعيد من طريق ابن أبي حمزة قلت لابن عباس: القسورة الأسد؟ قال: ما أعلمه بلغة أحد من العرب، هم عصب الرجال. قوله: "مستنفرة نافر مذعورة" قال أبو عبيدة في قوله تعالى {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} أي مذعورة، ومستنفرة نافرة، يريد أن لها معنيين وهما على القراءتين، فقد قرأها الجمهور بفتح الفاء وقرأها عاصم والأعمش بكسرها.
1- باب 4922- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} قُلْتُ يَقُولُونَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ فَقَالَ

(8/676)


جَابِرٌ: لاَ أُحَدِّثُكَ إِلاَّ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا قَالَ فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا قَالَ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
قوله: "حدثني يحيى" هو ابن موسى البلخي أو ابن جعفر. قوله: "عن علي بن المبارك" هو الهنائي بضم ثم نون خفيفة ومد. بصرى ثقة مشهور، ما بينه وبين عبد الله ابن المبارك المشهور قرابة.

(8/677)


2- بَاب {قُمْ فَأَنْذِرْ}
4923- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ قَالاَ حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ.." مِثْلَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَك"
قوله: "حدثني محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي وغيره" هو أبو داود الطيالسي أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي عروبة حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدى وأبو داود قالا حدثنا حرب بن شداد به. قوله: "عن أبي سلمة" كذا قال أكثر الرواة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. وقال شيبان بن عبد الرحمن: عن يحيى عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن جابر، أخرجه النسائي من طريق آدم بن أبي إياس عن شيبان، وهكذا ذكره البخاري في "التاريخ" عن آدم، ورواه سعد بن حفص عن شيبان كرواية الجماعة وهو المحفوظ. قوله: "مثل حديث عثمان بن عمر عن علي بن المبارك" لم يخرج البخاري رواية عثمان بن عمر التي أحال رواية حرب بن شداد عليها، وهي عند محمد بن بشار شيخ البخاري فيه أخرجه أبو عروبة في "كتاب الأوائل" قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عثمان بن عمر أنبأنا علي بن المبارك، وهكذا أخرجه مسلم والحسن بن سفيان جميعا عن أبي موسى محمد بن المثنى عن عثمان بن عمر

(8/677)


3- باب {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
4924- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا حَرْبٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ أَوَّلُ فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فَقُلْتُ أُنْبِئْتُ أَنَّهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ أَوَّلُ فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فَقُلْتُ أُنْبِئْتُ أَنَّهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ لاَ أُخْبِرُكَ إِلاَّ بِمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جَاوَرْتُ فِي حِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِيَ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَإِذَا

(8/677)


4- باب {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}
4925- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب .ح. وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري، فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن "عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحكي فقال في حديثه: فبينا أنا أمشي إّ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي فإّذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجئت منه

(8/678)


رعبا. فرجعت فقلت: زملوني زملوني. فدثروني. فأنزل الله تعالى : {يا أيها المدثر _ إلى _ والرجز فاهجر} قبل أن تفرض الصلاة. وهي الأوثان"
قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ذكر فيه حديث جابر المذكور، لكن من رواية الزهري عن أبي سلمة، وأورده بإسنادين من طريق عقيل ومعمر، وساقه على لفظ معمر، وساق لفظ عقيل في الباب الذي يليه. ووقع في آخر الحديث {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قبل أن تفرض الصلاة، وكأنه أشار بقوله: "قبل أن تفرض الصلاة" إلى أن تطهير الثياب كان مأمورا به قبل أن تفرض الصلاة وأخرج ابن المنذر من طريق محمد بن سيرين قال: اغسلها بالماء، وعلى هذا حمله ابن عباس فيما أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج من وجه آخر عنه قال: فطهر من الإثم. ومن طريق عن قتادة والشعبي وغيرهما نحوه. ومن وجه ثالث عن ابن عباس قال: لا تلبسها على غدرة ولا فجرة. ومن طريق طاوس قال: شمر. ومن طريق منصور - قال وعن مجاهد مثله - قال: أصلح عملك. وأخرجه سعيد بن منصور أيضا عن طريق منصور عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق منصور عن أبي رزين مثله. وأخرج ابن المنذر من طريق الحسن قال: خلقك فحسنه. وقال الشافعي رحمه الله: قبل في قوله {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} صل في ثياب طاهره، وقيل غير ذلك، والأول أشبه. انتهى. ويؤيد ما أخرج ابن المنذر في سبب نزولها من طريق زيد بن مرثد قال: "ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم جزور فنزلت. ويجوز أن يكون المراد جميع ذلك.

(8/679)


5- باب {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} يُقَالُ الرِّجْزُ وَالرِّجْسُ: الْعَذَابُ
حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب سمعت أبا سلمة قال: "أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فبينا أنا أمشي إّذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء فإّذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله تعالى {ياأيها المدثر قم فأنذر _ إلى قوله _ فاهجر} . قال أبو سلمة: والرجز الأوثان. ثم حمى الوحي وتتابع"
قوله: {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} يقال الرجز والرجس العذاب" هو قول أبي عبيدة، وقد تقدم في الذي قبله أن الرجز الأوثان، وهو تفسير معنى، أي أهجر أسباب الرجز أي العذاب وهي الأوثان. وقال الكرماني: فسر المفرد بالجمع لأنه اسم جنس، وبين ما في سياق رواية الباب أن تفسيرها بالأوثان من قول أبي سلمة، وعند ابن مردويه من طريق محمد بن كثير عن معمر عن الزهري في هذا الحديث: والرجز بضم الراء، وهي قراءة حفص عن عاصم، قال أبو عبيدة: هما بمعنى، ويروى عن مجاهد والحسن بالضم اسم الصنم وبالكسر اسم العذاب

(8/679)


سورة القيامة: باب {لا تحرك به لسانك لتعجل به}
...
75- سورة الْقِيَامَةِ
1- بَاب {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} سَوْفَ أَتُوبُ سَوْفَ أَعْمَلُ {لاَ وَزَرَ} لاَ حِصْنَ {سُدًى} هَمَلاً

(8/679)


باب {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
4928- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} يَخْشَى أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ أَنْ تَقْرَأَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ يَقُولُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَنْ نُبَيِّنَهُ عَلَى لِسَانِك"
قوله: "باب {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور من رواية إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة أتم من رواية ابن عيينة، وقد استغربه الإسماعيلي فقال: كذا أخرجه عن عبيد الله بن موسى، ثم أخرجه هو من طريق أخرى عن عبيد الله المذكور بلفظ {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قال كان يحرك به لسانه مخافة أن ينفلت

(8/681)


عنه، فيحتمل أن يكون ما بعد هذا من قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} إلى آخره معلقا عن ابن عباس بغير هذا الإسناد، وسيأتي الحديث في الباب الذي بعده أتم سياقا.

(8/682)


باب {فإذا قرأنه فاتبع قرآنه}
...
2- باب {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأْنَاهُ بَيَّنَّاهُ فَاتَّبِعْ اعْمَلْ بِهِ
4929- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي فِي لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ قَالَ فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى تَوَعُّدٌ"
قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال ابن عباس: قرأناه بيناه، فاتبع اعمل به" هذا التفسير رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم، وسيأتي في الباب عن ابن عباس تفسيره بشيء آخر. قوله: "إذا نزل جبريل عليه" في رواية أبي عوانة عن موسى بن أبي عائشة كما تقدم في بدء الوحي "كان يعالج من التنزيل شدة" وهذه الجملة توطئة لبيان السبب في النزول، وكانت الشدة تحصل له عند نزول الوحي لثقل القول كما تقدم في بدء الوحي من حديث عائشة، وتقدم من حديثها في قصة الإفك "فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء" وفي حديثها في بدء الوحي أيضا: "وهو أشده علي" لأنه يقتضي الشدة في الحالتين المذكورتين لكن إحداهما أشد من الأخرى. قوله: "وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه" اقتصر أبو عوانة على ذكر الشفتين وكذلك إسرائيل، واقتصر سفيان على ذكر اللسان، والجميع مراد إما لأن التحريكين متلازمان غالبا، أو المراد يحرك فمه المشتمل على الشفتين واللسان، لكن لما كان اللسان هو الأصل في النطق اقتصر في الآية عليه. قوله: "فيشتد عليه" ظاهر هذا السياق أن السبب في المبادرة حصول المشقة التي يجدها عند النزول، فكان يتعجل بأخذه لتزول المشقة سريعا. وبين في رواية إسرائيل أن ذلك كان خشية أن ينساه حيث قال: "فقيل له لا تحرك به لسانك تخشى أن ينفلت" . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي رجاء عن الحسن "كان يحرك به لسانه يتذكره، فقيل له إنا سنحفظه عليك" وللطبري من طريق الشعبي "كان إذا نزل عليه عجل يتكلم به من حبه إياه، وظاهره أنه كان يتكلم بما يلقى إليه منه أولا فأولا من شدة حبه إياه، فأمر أن يتأنى إلى أن ينقضي النزول. ولا بعد في تعدد السبب. ووقع في رواية أبي عوانة" قال ابن عباس: فأنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما" وقال سعيد "أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما" فأطلق في خبر ابن عباس وقيد بالرؤية في خبر سعيد لأن ابن عباس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، لأن الظاهر أن ذلك كان في مبدأ المبعث النبوي، ولم يكن ابن عباس ولد حينئذ، ولكن لا مانع أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بعد فيراه ابن عباس حينئذ، وقد ورد ذلك صريحا عند أبي داود الطيالسي مسنده عن أبي عوانة بسنده بلفظ: "قال ابن عباس: فأنا أحرك لك شفتي كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" . وأفادت هذه الرواية إبراز الضمير في رواية البخاري حيث قال فيها "فأنا أحركهما" ولم يتقدم للشفتين ذكر، فعلمنا أن ذلك من تصرف الرواة.

(8/682)


قوله: "فأنزل الله" أي بسبب ذلك. واحتج بهذا من جوز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، وجوز الفخر الرازي أن يكون أذن له في الاستعجال إلى وقت ورود النهي عن ذلك فلا يلزم وقوع الاجتهاد في ذلك، والضمير في "به" عائد على القرآن وإن لم يجر له ذكر، لكن القرآن يرشد إليه، بل دل عليه سياق الآية. قوله: "علينا أن نجمعه في صدرك" كذا فسره ابن عباس وعبد الرزاق عن معمر عن قتادة تفسيره بالحفظ، ووقع في رواية أبي عوانة "جمعه لك في صدرك" ورواية جرير أوضح. وأخرج الطبري عن قتادة أن معنى جمعه تأليفه. قوله: "وقرآنه" زاد في رواية إسرائيل "أن تقرأه" أي أنت. ووقع في رواية الطبري "وتقرأه بعد" قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي قرأه عليك الملك "فاتبع قرآنه، فإذا أنزلناه فاستمع" هذا تأويل آخر لابن عباس غير المنقول عنه في الترجمة. وقد وقع في رواية ابن عيينة مثل رواية جرير. وفي رواية إسرائيل نحو ذلك. وفي رواية أبي عوانة "فاستمع وأنصت" ولا شك أن الاستماع أخص من الإنصات لأن الاستماع الإصغاء والإنصات السكوت، ولا يلزم من السكوت الإصغاء، وهو مثل قوله تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} والحاصل أن لابن عباس في تأويل قوله تعالى: { أَنْزَلْنَاهُ} وفي قوله: "فَاسْتَمِعْ" قولين. وعند الطبري من طريق قتادة في قوله استمع: اتبع حلاله واجتنب حرامه. ويؤيد ما وقع في حديث الباب قوله في آخر الحديث: "فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه، والضمير في قوله: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} لجبريل، والتقدير: فإذا انتهت قراءة جبريل فاقرأ أنت. قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} علينا أن نبينه بلسانك" في رواية إسرائيل "على لسانك" . وفي رواية أبي عوانة "أن تقرأه" وهي بمثناة فوقانية، واستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو مذهب الجمهور من أهل السنة، ونص عليه الشافعي، لما تقتضيه "ثم" من التراخي. وأول من استدل لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الطيب وتبعوه، وهذا لا يتم إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حمل على أن المراد استمرار حفظه له وظهوره على لسانه فلا، قال الآمدي: يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل، يقال بأن الكوكب إذا ظهر، قال: ويؤيد ذلك أن المراد جميع القرآن، والمجمل إنما هو بعضه، ولا اختصاص لبعضه بالأمر المذكور دون بعض. وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يراد البيان التفصيلي ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجمالي، فلا يتم الاستدلال. وتعقب باحتمال إرادة المعنيين الإظهار والتفصيل وغير ذلك، لأن قوله: "بيانه" جنس مضاف فيعم جميع أصنافه من إظهاره وتبيين أحكامه وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك، وقد تقدم كثير من مباحث هذا الحديث في بدء الوحي وأعيد بعضه هنا استطرادا

(8/683)


76- سورة {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُقَالُ مَعْنَاهُ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ وَهَلْ تَكُونُ جَحْدًا وَتَكُونُ خَبَرًا وَهَذَا مِنْ الْخَبَرِ يَقُولُ كَانَ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا وَذَلِكَ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ إِلَى أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ {أَمْشَاجٍ} الأَخْلاَطُ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ الدَّمُ وَالْعَلَقَةُ وَيُقَالُ إِذَا خُلِطَ مَشِيجٌ كَقَوْلِكَ خَلِيطٌ وَمَمْشُوجٌ مِثْلُ مَخْلُوطٍ وَيُقَالُ {سَلاَسِلاً وَأَغْلاَلاً} وَلَمْ يُجْرِ بَعْضُهُمْ {مُسْتَطِيرًا} مُمْتَدًّا الْبَلاَءُ وَالْقَمْطَرِيرُ الشَّدِيدُ يُقَالُ يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُمَاطِرٌ وَالْعَبُوسُ وَالْقَمْطَرِيرُ وَالْقُمَاطِرُ وَالْعَصِيبُ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ الأَيَّامِ فِي الْبَلاَءِ وَقَالَ الْحَسَنُ النُّضْرَةُ فِي

(8/683)


الْوَجْهِ وَالسُّرُورُ فِي الْقَلْبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الأَرَائِكِ} السُّرُرُ وَقَالَ الْبَرَاءُ {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا} يَقْطِفُونَ كَيْفَ شَاءُوا وَقَالَ مَعْمَرٌ أَسْرَهُمْ شِدَّةُ الْخَلْقِ وَكُلُّ شَيْءٍ شَدَدْتَهُ مِنْ قَتَبٍ وَغَبِيطٍ فَهُوَ مَأْسُورٌ
قوله: "سورة هل أتى على الإنسان - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثبتت البسملة لأبي ذر. قوله: "يقال معناه أتى على الإنسان، و "هل" تكون جحدا وتكون خبرا، وهذا من الخبر "كذا للأكثر وفي بعض، النسخ" وقال يحيى "وهو صواب لأنه قول يحيى بن زياد الفراء بلفظه، وزاد: لأنك تقول هل وعظمتك، هل أعطيتك؟ تقرره بأنك وعظته وأعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ والتحرير أن "هل" للاستفهام، لكن تكون تارة للتقرير وتارة للإنكار، فدعوى زيادتها لا يحتاج إليه. وقال أبو عبيدة "هل أتى" معناه قد أتى وليس باستفهام. وقال غيره: بل هي للاستفهام التقريري، كأنه قيل لمن أنكر البعث {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} فيقول: نعم، فيقال: فالذي أنشأه - بعد أن لم يكن - قادر على إعادته. ونحوه {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} أي فتعلمون أن من أنشأ قادر على أن يعيد. قوله: "يقول كان شيئا فلم يكن مذكورا، وذلك من حين خلقه من طين إلى أن ينفخ فيه الروح" هو كلام الفراء أيضا، وحاصله انتفاء الموصوف بانتفاء صفته. ولا حجة فيه للمعتزلة في دعواهم أن المعدوم شيء. قوله: "أمشاج الأخلاط: ماء المرأة وماء الرجل الدم والعلقة، ويقال إذا خلط مشيج كقولك خليط، وممشوج مثل مخلوط" هو قول الفراء قال في قوله: "أمشاج نبتليه" : وهو ماء المرأة وماء الرجل، والدم والعلقة، ويقال للشيء من هذا إذا خلط مشيج كقولك خليط، وممشوج كقولك مخلوط. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة قال: من الرجل الجلد والعظم، ومن المرأة الشعر والدم، ومن طريق الحسن: من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيض. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أمشاج قال مختلفة الألوان. ومن طريق ابن جريج عن مجاهد قال: أحمر وأسود. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الأمشاج إذا اختلط الماء والدم ثم كان علقة ثم كان مضغة. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: الأمشاج العروق. قوله: "سلاسلا وأغلالا" في رواية أبي ذر "ويقال سلاسلا وأغلالا" . قوله: "ولم يجر بعضهم" هو بضم التحتانية وسكون الجيم وكسر الراء بغير إشباع علامة للجزم، وذكر عياض أن في رواية الأكثر بالزاي بدل الراء ورجح الراء وهو الأوجه، والمراد أن بعض القراء أجرى سلاسلا وبعضهم لم يجرها أي لم يصرفها، وهذا اصطلاح قديم يقولون للاسم المصروف مجرى. والكلام المذكور للفراء، قال في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً} كتبت سلاسل بالألف وأجراها بعض القراء مكان الألف التي في آخرها، ولم يجر بعضهم واحتج بأن العرب قد ثبت الألف في النصب وتحذفها عند الوصل، قال: وكل صواب انتهى. ومحصل ما جاء من القراءات المشهورة في سلاسل التنوين وعدمه، ومن لم ينون منهم من يقف بألف وبغيرها، فنافع والكسائي وأبو بكر بن عياش وهشام بن عمار قرءوا بالتنوين، والباقون بغير تنوين، فوقف أبو عمرو بالألف ووقف حمزة بغير ألف، وجاء مثله في رواية عن ابن كثير، وعن حفص وابن ذكوان الوجهان، أما من نون فعلى لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف حكاها الكسائي والأخفش وغيرهما، أو على مشاكلة أغلالا.

(8/684)


وقد ذكر أبو عبيدة أنه رآها في إمام أهل الحجاز والكوفة "سلاسلا" بالألف، وهذه حجة من وقف بالألف اتباعا للرسم، وما عدا ذلك واضح. والله أعلم. قوله: "مستطيرا ممتدا البلاء" هو كلام الفراء أيضا وزاد: والعرب تقول استطار الصدع في القارورة وشبهها واستطال. وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة قال: استطار والله شره حتى ملأ السماء والأرض. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "مستطيرا" قال: فاشيا. قوله: "والقمطرير الشديد، يقال يوم قمطرير ويوم قماطر، والعبوس والقمطرير والقماطر والعصيب أشد ما يكون من الأيام في البلاء" هو كلام أبي عبيدة بتمامه. وقال الفراء: قمطرير أي شديد، ويقال يوم قمطرير ويوم قماطر. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: القمطرير تقبيض الوجه، قال معمر وقال يوم الشديد. قوله: "وقال الحسن: النضرة في الوجه والسرور في القلب" سقط هذا هنا لغير النسفي والجرجاني، وقد تقدم ذلك في صفة الجنة. قوله: "وقال ابن عباس: الأرائك السرر" ثبت هذا للنسفي والجرجاني، وقد تقدم أيضا في صفة الجنة. قوله: "وقال البراء: وذللت قطوفها يقطفون كيف شاءوا" ثبت هذا للنسفي وحده أيضا، وقد وصله سعيد بن منصور عن شريك عن أبي إسحاق عن البراء في قوله: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} قال: إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين وعلى أي حال شاءوا. ومن طريق مجاهد: إن قام ارتفعت وإن قعد تدلت. ومن طريق قتادة: لا يرد أيديهم شوك ولا بعد. قوله: "وقال مجاهد: سلسبيلا حديد الجرية" ثبت هذا للنسفي وحده، وتقدم في صفة الجنة. قوله: "وقال معمر أسرهم شدة الخلق، وكل شيء شددته من قتب وغبيط فهو مأسور" سقط هذا لأبي ذر عن المستملي وحده، ومعمر المذكور هو أبو عبيدة معمر بن المثنى، وظن بعضهم أنه ابن راشد فزعم أن عبد الرزاق أخرجه في تفسيره عنه، ولفظ أبي عبيدة: أسرهم شدة خلقهم، ويقال للفرس شديد الأسر أي شديد الخلق وكل شيء إلى آخر كلامه. وأما عبد الرزاق فإنما أخرج عن معمر بن راشد عن قتادة في قوله: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} قال: خلقهم، وكذا أخرجه الطبري من طريق محمد بن ثور عن معمر.
" تنبيه " : لم يورد في تفسير "هل أتى" حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث ابن عباس في قراءتها في صلاة الصبح يوم الجمعة. وقد تقدم في الصلاة.

(8/685)


77- سورة وَالْمُرْسَلاَتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {جِمَالاَتٌ} حِبَالٌ {ارْكَعُوا} صَلُّوا {لاَ يَرْكَعُونَ} لاَ يُصَلُّونَ وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لاَ يَنْطِقُونَ} {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} فَقَالَ إِنَّهُ ذُو أَلْوَانٍ مَرَّةً يَنْطِقُونَ وَمَرَّةً يُخْتَمُ عَلَيْهِم"
1- باب 49300- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاَتِ وَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ فَابْتَدَرْنَاهَا فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا"
4931حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ بِهَذَا وَعَنْ إِسْرَائِيلَ

(8/685)


عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ وَتَابَعَهُ أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ حَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاَتِ فَتَلَقَّيْنَاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ اقْتُلُوهَا قَالَ فَابْتَدَرْنَاهَا فَسَبَقَتْنَا قَالَ فَقَالَ وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا"
قوله: "سورة والمرسلات" كذا لأبي ذر، وللباقين والمرسلات حسب. وأخرج الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: "المرسلات عرفا الملائكة أرسلت بالمعروف" . قوله: "جمالات حبال" في رواية أبي ذر. وقال مجاهد "جمالات" حبال. ووقع عند النسفي والجرجاني في أول الباب: وقال مجاهد "كفاتا" أحياء يكونون فيها وأمواتا يدفنون فيها. "فراتا" عذبا. {جِمَالاَتٌ} حبال الجسور، وهذا الأخير وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا. ووقع عند ابن التين: قول مجاهد جمالات جمال يريد بكسر الجيم وقيل بضمها إبل سود واحدها جمالة، وجمالة جمع جمل مثل حجارة وحجر، ومن قرأ جمالات ذهب به إلى الحبال الغلاظ. وقد قال مجاهد في قوله: "حتى يلج الجمل في سم الخياط" : هو حبل السفينة، وعن الفراء: الجمالات ما جمع من الحبال، قال ابن التين: فعلى هذا يقرأ في الأصل بضم الجيم. قلت: هي قراءة نقلت عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة، وعن ابن عباس أيضا جمالة بالإفراد مضموم الأول أيضا، وسيأتي تفسيرها عن ابن عباس بنحو ما قال مجاهد في آخر السورة. وأما تفسير {كِفَاتاً} فتقدم في الجنائز، وقوله: {فُرَاتاً} عذبا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذا قال أبو عبيدة. قوله: "وقال مجاهد: اركعوا صلوا، لا يركعون لا يصلون" سقط لا يركعون لغير أبي ذر، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} قال: صلوا. قوله: "وسئل ابن عباس" لا ينطقون، والله ربنا ما كنا مشركين، اليوم نختم على أفواههم "فقال: إنه ذو ألوان، مرة ينطقون ومرة يختم عليهم" سقط لفظ: "على أفواههم" لغير أبي ذر، وهذا تقدم شيء من معناه في تفسير فصلت. وأخرج عبد بن حميد من طريق علي بن زيد عن أبي الضحى أن نافع بن الأزرق وعطية أتيا ابن عباس فقالا: يا ابن عباس، أخبرنا عن قول الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} وقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} قال: ويحك يا ابن الأزرق إنه يوم طويل وفيه مواقف، تأتي عليهم ساعة لا ينطقون، ثم يؤذن لهم فيختصمون، ثم يكون ما شاء الله يحلفون ويجحدون، فإذا فعلوا ذلك ختم الله على أفواههم، وتؤمر جوارحهم فتشهد على أعمالهم بما صنعوا ثم تنطق ألسنتهم فيشهدون على أنفسهم بما صنعوا، وذلك قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} . وروى ابن مردويه من حديث عبد الله بن الصامت قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أرأيت قول الله {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} ؟ فقال: إن يوم القيامة له حالات وتارات، في حال لا ينطقون وفي حال ينطقون، ولابن أبي حاتم من طريق معمر عن قتادة

(8/686)


قال: إنه يوم ذو ألوان. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان، وعبيد الله بن موسى هو من شيوخ البخاري لكنه أخرج عنه هذا بواسطة. قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية جرير "في غار" ووقع في رواية حفص بن غياث كما سيأتي "بمنى" وهذا أصح مما أخرج الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي وائل عن ابن مسعود قال: "بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم على حراء" . قوله: "فخرجت" في رواية حفص بن غياث الآتية "إذ وثبت" . قوله: "فابتدرناها" في رواية الأسود "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقتلوها، فابتدرناها" . قوله: "فسبقتنا" أي باعتبار ما آل إليه أمرها، والحاصل أنهم أرادوا أن يسبقوها فسبقتهم، وقوله: "فابتدرناها" أي تسابقنا أينا يدركها، فسبقتنا كلنا. وهذا هو الوجه والأول احتمال بعيد. قوله: "عن منصور بهذا، وعن إسرائيل عن الأعمش عن إبراهيم" يريد أن يحيى بن آدم زاد لإسرائيل فيه شيخا وهو الأعمش. قوله: "وتابعه أسود بن عامر عن إسرائيل" وصله الإمام أحمد عنه به، قال الإسماعيلي: وافق إسرائيل على هذا شيبان والثوري وورقاء وشريك، ثم وصله عنهم. قوله: "وقال حفص وأبو معاوية وسليمان بن قرم عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود" يريد أن الثلاثة خالفوا رواية إسرائيل عن الأعمش في شيخ إبراهيم، فإسرائيل يقول: عن الأعمش عن علقمة، وهؤلاء يقولون: الأسود. وسيأتي في آخر الباب أن جرير بن عبد الحميد وافقهم عن الأعمش. فأما رواية حفص وهو ابن غياث فوصلها المصنف، وستأتي بعد باب. وأما رواية أبي معاوية فتقدم بيان من وصلها في بدء الخلق. وكذا رواية سليمان بن قرم، وهو بفتح القاف وسكون الراء بصري ضعيف الحفظ، وتفرد أبو داود الطيالسي بتسمية أبيه معاذا، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق. قوله: "وقال يحيى بن حماد أخبرنا أبو عوانة عن مغيرة" يعني ابن مقسم "عن إبراهيم عن علقمة" يريد أن مغيرة وافق إسرائيل في شيخ إبراهيم وأنه علقمة، ورواية يحيى بن حماد هذه وصلها الطبراني قال حدثنا محمد ابن عبد الله الحضرمي حدثنا الفضل بن سهل حدثنا يحيى بن حماد به ولفظه: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فأنزلت عليه والمرسلات" الحديث. وحكى عياض أنه وقع في بعض النسخ "وقال حماد أنبأنا أبو عوانة" وهو غلط. قوله: "وقال ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عبد الله" يريد أن للحديث أصلا عن الأسود من غير طريق الأعمش ومنصور، ورواية ابن إسحاق هذه وصلها أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي إسحاق "حدثني عبد الرحمن بن الأسود" وأخرجها ابن مردويه من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن إسحاق ولفظه: "نزلت والمرسلات عرفا بحراء ليلة الحية، قالوا: وما ليلة الحية؟ قال: خرجت حية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوها، فتغيبت في جحر، فقال: دعوها" الحديث. ووقع في بعض النسخ "وقال أبو إسحاق" وهو تصحيف والصواب "ابن إسحاق" وهو محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي. الحديث المذكور عن قتيبة عن جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة بتمامه

(8/687)


2- باب {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ}
4932- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ قَالَ كُنَّا نَرْفَعُ الْخَشَبَ بِقَصَرٍ ثَلاَثَةَ أَذْرُعِ أَوْ أَقَلَّ فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ الْقَصَر"
[الحديث 4923- طرفه في:4933]

(8/687)


قوله: "باب قوله {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} أي قدر القصر. قوله: "كنا نرفع الخشب بقصر" بكسر الموحدة والقاف وفتح الصاد المهملة وتنوين الراء وبالإضافة أيضا وهو بمعنى الغاية والقدر، تقول قصرك وقصاراك من كذا ما اقتصرت عليه. قوله: "ثلاثة أذرع أو أقل" في الرواية التي بعد هذه "أو فوق ذلك" وهي رواية المستملي وحده. قوله: "فنرفعه للشتاء فنسميه القصر" بسكون الصاد وبفتحها، وهو على الثاني جمع قصرة أي كأعناق الإبل ويؤيده قراءة ابن عباس كالقصر بفتحتين، وقيل هو أصول الشجر، وقيل أعناق النخل. وقال ابن قتيبة: القصر البيت، ومن فتح أراد أصول النخل المقطوعة، شبهها بقصر الناس أي أعناقهم، فكأن ابن عباس فسر قراءته بالفتح بما ذكر. وأخرج أبو عبيد من طريق هارون الأعرج عن حسين المعلم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} بفتحتين، قال هارون: وأنبأنا أبو عمرو أن سعيدا وابن عباس قرءا كذلك، وأسنده أبو عبيد عن ابن مسعود أيضا بفتحتين. وأخرج ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن عبد الرحمن بن عابس "سمعت ابن عباس كانت العرب تقول في الجاهلية اقصروا لنا الحطب، فيقطع على قدر الذراع والذراعين" وقد أخرج الطبراني في "الأوسط" من حديث ابن مسعود في قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} قال: ليست كالشجر والجبال، ولكنها مثل المدائن والحصون.

(8/688)


3- باب {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ}
4933- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ} قَالَ كُنَّا نَعْمِدُ إِلَى الْخَشَبَةِ ثَلاَثَةَ أَذْرُعٍ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ الْقَصَرَ {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} حِبَالُ السُّفُنِ تُجْمَعُ حَتَّى تَكُونَ كَأَوْسَاطِ الرِّجَال"
قوله: "باب قوله {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} ذكر فيه الحديث الذي قبله من طريق يحيى وهو القطان أخبرنا سفيان وهو الثوري. قوله: "ثلاثة أذرع" زاد المستملي روايته: "أو فوق ذلك" . قوله: {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} حبال السفن تجمع "أي يضم بعضها إلى بعض ليقوى" حتى تكون كأوساط الرجال "قلت هو من تتمة الحديث، وقد أخرجه عبد الرزاق عن الثوري بإسناده وقال في آخره: "وسمعت ابن عباس يسأل عن قوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} قال: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال" . وفي رواية قيس بن الربيع عن عبد الرحمن بن عباس: هي القلوص التي تكون في الجسور، والأول هو المحفوظ

(8/688)


4- باب {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ}
4934- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاَتِ فَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لاَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوهَا فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا" قَالَ عُمَرُ حَفِظْتُهُ مِنْ أَبِي فِي غَارٍ بِمِنًى"

(8/688)


78-سورة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}
قَالَ مُجَاهِدٌ {لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا} لاَ يَخَافُونَهُ {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} لاَ يُكَلِّمُونَهُ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ {صَوَابًا} حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمِلَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَهَّاجًا} مُضِيئًا وَقَالَ غَيْرُهُ {غَسَّاقًا} غَسَقَتْ عَيْنُهُ وَيَغْسِقُ الْجُرْحُ يَسِيلُ كَأَنَّ الْغَسَاقَ وَالْغَسِيقَ وَاحِدٌ {عَطَاءً حِسَابًا} جَزَاءً كَافِيًا أَعْطَانِي مَا أَحْسَبَنِي أَيْ كَفَانِي"
قوله: "سورة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} قرأ الجمهور "عم" بميم فقط، وعن ابن كثير رواية بالهاء وهي هاء السكت أجرى الوصل مجرى الوقف، وعن أبي بن كعب وعيسى بن عمر بإثبات الألف على الأصل وهي لغة نادرة، ويقال لها أيضا سورة النبأ. قوله: {لا يَرْجُونَ حِسَاباً} لا يخافونه" كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: "وقال مجاهد" فذكره. وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد كذلك. قوله: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} لا يكلمونه إلا أن يأذن لهم" كذا للمستملي، وللباقين "لا يملكونه" والأول أوجه، وسأبينه في الذي بعده. قوله: "صوابا: حقا في الدنيا وعمل به" ووقع لغير أبي ذر نسبة هذا إلى ابن عباس كالذي بعده، وفيه نظر فإن الفريابي أخرجه من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} قال: كلاما "إلا من قال صوابا" قال: حقا في الدنيا وعمل به. قوله: "وقال ابن عباس {ثَجَّاجاً} منصبا" ثبت هذا للنسفي وحده وقد تقدم في المزارعة. قوله: "ألفافا ملتفة" ثبت هذا للنسفي وحده، وهو قول أبي عبيدة. قوله: "وقال ابن عباس {وَهَّاجاً} مضيئا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: "{دِهَاقاً} ممتلئا {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} نواهد" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "وقال غيره {وَغَسَّاقاً} غسقت عينه" سقط هذا لغير أبي ذر وقد تقدم في بدء الخلق. وقال أبو عبيدة: يقال تغسق عينه أي تسيل. ووقع عند النسفي والجرجاني "وقال معمر فذكره" ، ومعمر هو أبو عبيدة ابن المثنى المذكور. قوله: "ويغسق الجرح يسيل، كأن الغساق والغسيق واحد" تقدم بيان ذلك في بدء الخلق، وسقط هنا لغير أبي ذر. قوله: "عطاء حسابا جزاء كافيا، أعطاني ما أحسبني أي كفاني" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {عَطَاءً حِسَاباً} أي جزاء، ويجيء حسابا كافيا، وتقول أعطاني ما أحسبني أي كفاني. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {عَطَاءً حِسَاباً} قال: كثيرا.

(8/689)


1 - باب {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} زُمَرًا
4935- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ، قَالَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ أَبَيْتُ قَالَ أَرْبَعُونَ شَهْرًا

(8/689)


سورة النازعات
...
79- سورة وَالنَّازِعَاتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {الآيَةَ الْكُبْرَى} عَصَاهُ وَيَدُهُ يُقَالُ النَّاخِرَةُ وَالنَّخِرَةُ سَوَاءٌ مِثْلُ الطَّامِعِ وَالطَّمِعِ وَالْبَاخِلِ وَالْبَخِيلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ النَّخِرَةُ الْبَالِيَةُ وَالنَّاخِرَةُ الْعَظْمُ الْمُجَوَّفُ الَّذِي تَمُرُّ فِيهِ الرِّيحُ فَيَنْخَرُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحَافِرَةِ الَّتِي أَمْرُنَا الأَوَّلُ إِلَى الْحَيَاةِ وَقَالَ غَيْرُهُ أَيَّانَ مُرْسَاهَا مَتَى مُنْتَهَاهَا وَمُرْسَى السَّفِينَةِ حَيْثُ تَنْتَهِي"
قوله: "سورة والنازعات" كذا للجميع. قوله: "زجرة صيحة" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد وصله عبد بن حميد من طريقه. قوله: "وقال مجاهد {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} هي الزلزلة" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد وصله عبد بن حميد من طريقه بلفظ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} وهي الزلزلة. قوله: "وقال مجاهد: الآية الكبرى عصاه ويده" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. قوله: "سمكها بناءها بغير عمد" ثبت هذا هنا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "طغى عصى" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد به. قوله: "الناخرة والنخرة سواء مثل الطامع والطمع والباخل والبخيل" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {عِظَاماً نَخِرَةً} ناخرة ونخرة سواء. وقال الفراء مثله، قال: وهما قراءتان أجودهما ناخرة. ثم أسند عن ابن الزبير أنه قال على المنبر: ما بال صبيان يقرءون نخرة؟ إنما هي ناخرة. قلت: قرأها نخرة بغير ألف جمهور القراء، وبالألف الكوفيون لكن بخلف عن عاصم.
" تنبيه " : قوله: "والباخل والبخيل" في رواية الكشميهني بالنون والحاء المهملة فيهما، ولغيره بالموحدة والمعجمة وهو الصواب، وهذا الذي ذكره الفراء قال: هو بمعنى الطامع والطمع والباخل والبخل. وقوله: "سواء" أي في أصل المعنى، وإلا ففي نخرة: مبالغة ليست في ناخرة. قوله: "وقال بعضهم النخرة البالية، والناخرة العظم المجوف الذي تمر فيه الريح فينخر" قال الفراء: فرق بعض المفسرين بين الناخرة والنخرة فقال: النخرة البالية، والناخرة العظم المجوف الذي تمر فيه الريح فينخر. والمفسر المذكور هو ابن الكلبي، فقال أبو الحسن الأثرم الراوي عن أبي عبيدة: سمعت ابن الكلبي يقول: نخرة ينخر فيها الريح، وناخرة بالية. وأنشد لرجل من فهم يخاطب فرسه في يوم ذي قار حين تحاربت العرب والفرس:
أقدم نجاح إنها الأساورة ... فإنما قصرك ترب الساهرة
ثم تعود بعدها في الحافرة ... من بعدما كنت عظاما ناخرة

(8/690)


أي بالية. قوله: "الساهرة وجه الأرض" كأنها سميت بهذا الاسم لأن فيها الحيوان نومهم وسهرهم. ثبت هذا هنا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق، وهو قول الفراء بلفظه. قوله: "وقال ابن عباس: الحافرة إلى أمرنا الأول، إلى الحياة" وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "الحافرة" يقول: الحياة وقال الفراء: الحافرة يقول إلى أمرنا الأول، إلى الحياة. والعرب تقول أتيت فلانا ثم رجعت عل حافري أي من حيث جئت، قال: وقال بعضهم الحافرة الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فسماها الحافرة أي المحفورة، كماء دافق أي مدفوق. قوله: "الراجفة النفخة الأولى، تتبعها الرادفة النفخة الثانية" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} النفخة الأولى "تتبعها الرادفة" النفخة الثانية. قوله: "وقال غيره {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} متى منتهاها؟ ومرسى السفينة حيث تنتهي" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} متى منتهاها. قال: ومرساها منتهاها إلخ ثم ساق حديث سهل بن سعد "بعثت والساعة - بالرفع والنصب - كهاتين" وسيأتي شرحه في الرقاق. قوله: "قال ابن عباس: أغطش أظلم" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق.
1- باب 4936- حدثنا أحمد بن المقدام حدثنا الفضيل بن سليمان حدثنا أبو حازم حدثنا سهل بن سعد رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا بالوسطى ملكا تلي الإبهام: "بعثت أنا والساعة كهاتين" الطَّامَّةُ تَطِمُّ عَلَى كُلِّ شَيْء"
[الحديث 4936- طرفاه في: 5301، 6503]
قوله: "الطامة تطم كل شيء" ووقع هذا للنسفي مقدما قبل باب، وهو قول الفراء قال في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ} هي القيامة تطم كل شيء. ولابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس: الطامة هي الساعة طمت كل داهية.

(8/691)


80- سورة عَبَسَ
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} كَلَحَ وَأَعْرَضَ وَقَالَ غَيْرُهُ {مُطَهَّرَةٍ} لاَ يَمَسُّهَا إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ وَهُمْ الْمَلاَئِكَةُ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} جَعَلَ الْمَلاَئِكَةَ وَالصُّحُفَ مُطَهَّرَةً لأَنَّ الصُّحُفَ يَقَعُ عَلَيْهَا التَّطْهِيرُ فَجُعِلَ التَّطْهِيرُ لِمَنْ حَمَلَهَا أَيْضًا {سَفَرَةٍ} الْمَلاَئِكَةُ وَاحِدُهُمْ سَافِرٌ سَفَرْتُ أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ وَجُعِلَتْ الْمَلاَئِكَةُ إِذَا نَزَلَتْ بِوَحْيِ اللَّهِ وَتَأْدِيَتِهِ كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ الْقَوْمِ وَقَالَ غَيْرُهُ تَصَدَّى تَغَافَلَ عَنْهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَمَّا يَقْضِ لاَ يَقْضِي أَحَدٌ مَا أُمِرَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَرْهَقُهَا تَغْشَاهَا شِدَّةٌ مُسْفِرَةٌ مُشْرِقَةٌ {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَتَبَةٍ أَسْفَارًا كُتُبًا تَلَهَّى تَشَاغَلَ يُقَالُ وَاحِدُ الأَسْفَارِ سِفْرٌ
4937- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَمِعْتُ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَان"

(8/691)


قوله: "سورة عبس - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "عبس وتولى: كلح وأعرض" أما تفسير عبس فهو لأبي عبيدة، وأما تفسير تولى فهو في حديث عائشة الذي سأذكره بعد، ولم يختلف السلف في أن فاعل عبس هو النبي صلى الله عليه وسلم. وأغرب الداودي فقال. هو الكافر. وأخرج الترمذي والحاكم من طريق يحيى بن سعيد الأموي وابن حبان من طريق عبد الرحيم بن سليمان كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: "نزلت في ابن أم مكتوم الأعمى فقال: يا رسول الله أرشدني - وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين - فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر فيقول له: أترى بما أقول باسا؟ فيقول: لا. فنزلت عبس وتولى" قال الترمذي: حسن غريب، وقد أرسله بعضهم عن عروة لم يذكر عائشة. وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن الذي كان يكلمه أبي بن خلف. وروى سعيد بن منصور من طريق أبي مالك أنه أمية بن خلف. وروى ابن مردويه من حديث عائشة أنه كان يخاطب عتبة وشيبة ابني ربيعة. ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: عتبة وأبو جهل وعياش. ومن وجه آخر عن عائشة: كان في مجلس فيه ناس من وجوه المشركين منهم أبو جهل وعتبة، فهذا يجمع الأقوال. قوله: "مطهرة لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة" في رواية غير أبي ذر. وقال غيره مطهرة إلخ وكذا للنسفي، وكان قال قبل ذلك: وقال مجاهد. فذكر الأثر الآتي ثم قال: وقال غيره. قوله: "وهذا مثل قوله فالمدبرات أمرا" هو قول الفراء، قال في قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} مرفوعة مطهرة، لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة، وهذا مثل قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} . قوله: "جعل الملائكة والصحف مطهرة لأن الصحف يقع عليها التطهير فجعل التطهير لمن حملها أيضا" . هو قول الفراء أيضا. قوله: "وقال مجاهد: الغلب الملتفة، والأب ما يأكل الأنعام" وقع في رواية النسفي وحده هنا، وقد تقدم في صفة الجنة. قوله: "سفرة الملائكة واحدهم سافر، سفرت أصلحت بينهم وجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم" هو قول الفراء بلفظه، وزاد: قال الشاعر:
وما أدع السفارة بين قومي ... وما أمشي بغش إن مشيت
وقد تمسك به من قال إن جميع الملائكة رسل الله، وللعلماء في ذلك قولان، الصحيح أن فيهم الرسل وغير الرسل، وقد ثبت أن منهم الساجد فلا يقوم والراكع فلا يعتدل، الحديث. واحتج الأول بقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} وأجيب بقول الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} . قوله: "تصدى تغافل عنه" في رواية النسفي "وقال غيره إلخ" وسقط منه شيء. والذي قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} أي تتعرض له، تلهى تغافل عنه، فالساقط لفظ تتعرض له ولفظ تلهى، وسيأتي تفسير تلهى على الصواب، وهو بحذف إحدى التاءين في اللفظتين والأصل تتصدى وتتلهى، وقد تعقب أبو ذر ما وقع في البخاري فقال: إنما يقال تصدى للأمر إذا رفع رأسه إليه، فأما تغافل فهو تفسير تلهى. وقال ابن التين: قيل تصدى تعرض. وهو اللائق بتفسير الآية لأنه لم يتغافل عن المشركين إنما تغافل عن الأعمى. قوله: "وقال مجاهد: لما يقض لا يقضي أحد ما أمر به" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: "لا يقضي أحد أبدا ما افترض عليه" . قوله: "وقال ابن عباس: ترهقها قترة تغشاها شدة" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به. وأخرج الحاكم من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}

(8/692)


قال: يصيران غبرة على وجوه الكفار لا على وجوه المؤمنين، وذلك قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ َرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} . قوله: "مسفرة مشرقة" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة أيضا. قوله: "بأيدي سفرة قال ابن عباس: كتبة، أسفارا كتبا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "بأيدي سفرة" قال: كتبة واحدها سافر، وهي كقوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} قال: كتبا، وقد ذكر عبد الرزاق من طريق معمر عن قتادة في قوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} قال: كتبة. وقال أبو عبيدة في قوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي كتبة، واحدها سافر. قوله: "تلهى تشاغل" تقدم القول فيه. قوله: "يقال واحد الأسفار سفر" سقط هذا لأبي ذر، وهو قول الفراء، قال في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} الأسفار واحدها سفر، وهي الكتب العظام. قوله: "فأقبرها، يقال أقبرت الرجل جعلت له قبرا، وقبرته دقنته" قال الفراء في قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } جعله مقبورا، ولم يقل قبره لأن القابر هو الدافن. وقال أبو عبيدة في قوله: {فَأَقْبَرَهُ} أمر بأن يقبر، جعل له قبرا، والذي يدفن بيده هو القابر. قوله: "عن سعد بن هشام" أي ابن عامر الأنصاري، لأبيه صحبة، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وآخر معلق في المناقب. قوله: "مثل" بفتحتين أي صفته، وهو كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} . قوله: "وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة" قال ابن التين: معناه كأنه مع السفرة فيما يستحقه من الثواب. قلت: أراد بذلك تصحيح التركيب، وإلا فظاهره أنه لا ربط بين المبتدأ الذي هو مثل والخبر الذي هو مع السفرة، فكأنه قال: المثل بمعنى الشبيه فيصير كأنه قال: شبيه الذي يحفظ كائن مع السفرة فكيف به. وقال الخطابي: كأنه قال صفته وهو حافظ له كأنه مع السفرة، وصفته وهو عليه شديد أن يستحق أجرين. قوله: "ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران" قال ابن التين اختلف هل له ضعف أجر الذي يقرأ القرآن حافظا أو يضاعف له أجره وأجر الأول أعظم؟ قال: وهذا أظهر، ولمن رجح الأول أن يقول: الأجر على قدر المشقة

(8/693)


3 - سورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}
{انْكَدَرَتْ} انْتَثَرَتْ وَقَالَ الْحَسَنُ {سُجِّرَتْ} ذَهَبَ مَاؤُهَا فَلاَ يَبْقَى قَطْرَةٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْمَسْجُورُ الْمَمْلُوءُ وَقَالَ غَيْرُهُ {سُجِرَتْ} أَفْضَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا وَ {الْخُنَّسُ} تَخْنِسُ فِي مُجْرَاهَا تَرْجِعُ وَتَكْنِسُ تَسْتَتِرُ كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ تَنَفَّسَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ وَالظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ وَالضَّنِينُ يَضَنُّ بِهِ وَقَالَ عُمَرُ {النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ قَرَأَ {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} {عَسْعَسَ} أَدْبَرَ.
قوله: "سورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}- بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر، ويقال لها أيضا سورة التكوير. قوله: {سُجِّرَتْ} يذهب ماؤها فلا يبقى قطرة "تقدم في تفسير سورة الطور، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بهذا. قوله:"وقال مجاهد: المسجور المملوء" تقدم في تفسير سورة الطور أيضا. قوله: "وقال غيره: سجرت أفضى بعضها إلى بعض فصارت بحرا واحدا" هو معنى قول السدي، أخرجه ابن أبي حاتم من طريقه بلفظ {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي فتحت وسيرت. قوله: "انكدرت انتثرت" قال الفراء

(8/693)


في قوله تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} يريد انتثرت، وقعت في وجه الأرض. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} قال: تناثرت. قوله: "كشطت أي غيرت، وقرأ عبد الله قشطت، مثل الكافور والقافور، والقسط والكسط" ثبت هذا للنسفي وحده وذكره غيره في الطب، وهو قول الفراء، قال في قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} يعني نزعت وطويت، وفي قراءة عبد الله - يعني ابن مسعود - قشطت بالقاف، والمعنى واحد، والعرب تقول القافور والكافور والقسط والكسط، إذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغة كما يقال حدث وحدت والأتاني والأثاني. قوله: "والخنس تخنس في مجراها ترجع، وتكنس تستتر في بيوتها تكنس الظباء" قال الفراء في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} : وهي النجوم الخمسة تخنس في مجراها ترجع، وتكنس تستتر في بيوتها كما تكنس الظباء في المغاير وهي الكناس، قال: والمراد بالنجوم الخمسة بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري، وأسند هذا الكلام ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي ميسرة عن عمرو بن شرحبيل قال: قال لي ابن مسعود ما الخنس؟ قال قلت: أظنه بقر الوحش. قال: وأنا أظن ذلك. وعن معمر عن الحسن قال: هي النجوم تخنس بالنهار، والكنس تسترهن إذا غبن. قال وقال بعضهم: الكنس الظباء. وروى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن علي قال: هن الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى. ومن طريق مغيرة قال: سئل مجاهد عن هذه الآية فقال: لا أدري. فقال إبراهيم: لم لا تدري؟ قال: سمعنا أنها بقر الوحش، وهؤلاء يروون عن علي أنها النجوم. قال: إنهم يكذبون على علي. وهذا كما يقولون إن عليا قال: لو أن رجلا وقع من فوق بيت على رجل فمات الأعلى ضمن الأسفل. قوله: "تنفس ارتفع النهار" هو قول الفراء أيضا. قوله: "والظنين المتهم والضنين يضن به" هو قول أبي عبيدة، وأشار إلى القراءتين، فمن قرأها بالظاء المشالة فمعناها ليس بمتهم، ومن قرأها بالساقطة فمعناها البخيل. وروى الفراء عن قيس بن الربيع عن عاصم عن ورقاء قال: أنتم تقرءون بضنين ببخيل، ونحن نقرأ بظنين بمتهم. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي قال: الظنين المتهم، والضنين البخيل. وروى ابن أبي حاتم بسند صحيح: كان ابن عباس يقرأ بضنين، قال: والضنين والظنين سواء، يقول ما هو بكاذب، والظنين المتهم والضنين البخيل. قوله: "وقال عمر: النفوس زوجت، يزوج نظيره من أهل الجنة والنار. ثم قرأ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} وصله عبد بن حميد والحاكم وأبو نعيم في "الحلية" وابن مردويه من طريق الثوري وإسرائيل وحماد بن سلمة وشريك كلهم عن سماك بن حرب سمعت النعمان بن بشير سمعت عمر يقول في قوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} : هو الرجل يزوج نظيره من أهل الجنة، والرجل يزوج نظيره من أهل النار. ثم قرأ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} وهذا إسناد متصل صحيح، ولفظ الحاكم: هما الرجلان يعملان العمل يدخلان به الجنة والنار: الفاجر مع الفاجر والصالح مع الصالح. وقد رواه الوليد بن أبي ثور عن سماك بن حرب فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقصر به فلم يذكر فيه عمر، جعله من مسند النعمان، أخرجه ابن مردويه، وأخرجه أيضا، من وجه آخر عن الثوري كذلك، والأول هو المحفوظ. وأخرج الفراء من طريق عكرمة قال: يقرن الرجل بقرينه الصالح في الدنيا، ويقرن الرجل الذي كان يعمل السوء في الدنيا بقرينه الذي كان يعينه في النار. قوله: {عَسْعَسَ} أدبر وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا. وقال أبو عبيدة: قال بعضهم {عَسْعَسَ} أقبلت

(8/694)


ظلماؤه. وقال بعضهم: بل معناه ولي، لقوله بعد ذلك {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} . وروى أبو الحسن الأثرم بسند له عن عمر قال: إن شهرنا قد عسعس، أي أدبر. وتمسك من فسره بأقبل بقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} قال الخليل: أقسم بإقبال الليل وإدباره.
" تنبيه " : لم يورد فيها حديثا مرفوعا، وفيها حديث جيد أخرجه أحمد والترمذي والطبراني وصححه الحاكم من حديث ابن عمر رفعه: "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} لفظ أحمد.

(8/695)


82- سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ {فُجِّرَتْ} فَاضَتْ وَقَرَأَ الأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ {فَعَدَلَكَ} بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَهُ أَهْلُ الْحِجَازِ بِالتَّشْدِيدِ وَأَرَادَ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ وَمَنْ خَفَّفَ يَعْنِي فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ إِمَّا حَسَنٌ وَإِمَّا قَبِيحٌ أَوْ طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ
قوله: "سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ويقال لها أيضا سورة الانفطار. قوله: "انفطارها انشقاقها" ثبت هذا للنسفي وحده وهو قول الفراء. قوله: "ويذكر عن ابن عباس بعثرت يخرج من فيها من الموتى" ثبت هذا أيضا للنسفي وحده، وهو قول الفراء أيضا، وقد أخرج ابن أبي حاتم أيضا من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: بعثرت أي بحثت. قوله: "وقال غيره: انتثرت. بعثرت حوضي: جعلت أسفله أعلاه" ثبت هذا للنسفي أيضا وحده وتقدم في الجنائز. قوله: "وقال الربيع بن خثيم: فجرت فاضت" قال عبد بن حميد حدثنا مؤمل وأبو نعيم قالا: حدثنا سفيان هو ابن سعيد الثوري عن أبيه عن أبي يعلى هو منذر الثوري عن الربيع بن خثيم به، قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري مثله وأتم منه، والمنقول عن الربيع "فجرت" بتخفيف الجيم وهو اللائق بتفسيره المذكور. قوله: "وقرأ الأعمش وعاصم فعدلك بالتخفيف، وقرأه أهل الحجاز بالتشديد" قلت: قرأ أيضا بالتخفيف حمزة والكسائي وسائر الكوفيين، وقرأ أيضا بالتثقيل من عداهم من قراءة الأمصار. قوله: "وأراد معتدل الخلق، ومن خفف يعني في أي صورة شاء: إما حسن وإما قبيح أو طويل أو قصير" هو قول الفراء بلفظه إلى قوله بالتشديد، ثم قال: فمن قرأ بالتخفيف فهو والله أعلم يصرفك في أي صورة شاء إما حسن إلخ، ومن شدد فإنه أراد والله أعلم جعلك معتدلا معتدل الخلق. قال: وهو أجود القراءتين في العربية وأحبهما إلي. وحاصل القراءتين أن التي بالتثقيل من التعديل، والمراد التناسب، وبالتخفيف من العدل وهو الصرف إلى أي صفة أراد.
" تنبيه " : لم يورد فيها حديث مرفوعا، ويدخل فيها حديث ابن عمر المنبه عليه في التي قبلها.

(8/695)


83- سُورَةُ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ِبسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ بَلْ رَانَ ثَبْتُ الْخَطَايَا ثُوِّبَ جُوزِيَ وَقَالَ غَيْرُهُ الْمُطَفِّفُ لاَ يُوَفِّي غَيْرَهُ
قوله: "سورة {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} بسم الله الرحمن الرحيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. أخرج النسائي وابن ماجه

(8/695)


باب {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
4938- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ"
[الحديث 4938- طرفه في:6531]
قوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} زاد في رواية ابن وهب "يوم القيامة" . قوله: "في رشحه" بفتحتين أي عرقه لأنه يخرج من البدن شيئا بعد شيء كما يرشح الإناء المتحلل الأجزاء. ووقع في رواية سعيد بن داود "حتى إن العرق يلجم أحدهم إلى أنصاف أذنيه" . قوله: "إلى أنصاف أذنيه" هو من إضافة الجميع إلى الجميع حقيقة ومعنى، لأن لكل واحد أذنين. وقد روى مسلم من حديث المقداد بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق: فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما"

(8/696)


84- سُورَةُ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
قَالَ مُجَاهِدٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ يَأْخُذُ كِتَابَهُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ وَسَقَ جَمَعَ مِنْ دَابَّةٍ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ لاَ يَرْجِعَ إِلَيْنَا.

(8/696)


1- باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}
4939- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي يُونُسَ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلاَّ هَلَكَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قَالَ ذَاكَ الْعَرْضُ يُعْرَضُونَ وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَك"
قوله: "باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وله في هذا الحديث شيخ آخر بإسناد آخر وهو مذكور في هذا الباب، وعثمان بن الأسود أي ابن أبي موسى المكي مولى بني جمح، ووقع عند القابسي عثمان الأسود صفة لعثمان وهو خطأ، واشتمل ما ساقه المصنف على ثلاثة أسانيد: عثمان عن ابن أبي مليكة عن عائشة، وتابعه أيوب عن عثمان، وخالفهما أبو يونس فأدخل بين ابن أبي مليكة وعائشة رجلا وهو القاسم بن محمد، وهو محمول على أن ابن أبي مليكة حمله عن القاسم ثم سمعه من عائشة أو سمعه أولا من عائشة ثم استثبت القاسم إذ في رواية القاسم زيادة ليست عنده. وقد استدرك الدار قطني هذا الحديث لهذا الاختلاف، وأجيب بما ذكرناه، ونبه الجياني على خبط لأبي زيد المروزي في هذه الأسانيد قال: سقط عنده ابن أبي مليكة من الإسناد الأول ولا بد منه، وزيد عنده القاسم بن محمد الإسناد الثاني وليس فيه وإنما هو في رواية أبي يونس. وقال الإسماعيلي: جمع البخاري بين الأسانيد الثلاثة ومتونها مختلفة. قلت: وسأبين ذلك وأوضحه في كتاب الرقاق مع بقية الكلام على الحديث، وتقدمت بعض مباحثه في أواخر كتاب العلم

(8/697)


2- باب {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}
4940- حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ حَالاً بَعْدَ حَالٍ قَالَ هَذَا نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. قوله: "قال ابن عباس {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حالا بعد حال، قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم" أي الخطاب له، وهو على قراءة فتح الموحدة وبها قرأ ابن كثير والأعمش والأخوان. وقد أخرج الطبري الحديث المذكور عن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم بلفظ: "أن ابن عباس كان يقرأ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} يعني نبيكم حالا بعد حال" وأخرجه أبو عبيد في "كتاب القراءات" عن هشيم وزاد: يعني بفتح الباء، قال الطبري: قرأها ابن مسعود وابن عباس وعامة قراء أهل مكة والكوفة بالفتح، والباقون بالضم على أنه خطاب للأمة، ورجحها أبو عبيدة لسياق ما قبلها وما بعدها. ثم أخرج عن الحسن وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم قالوا {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} يعني حالا بعد حال، ومن طريق الحسن أيضا وأبي العالية ومسروق قال: السماوات. وأخرج الطبري أيضا والحاكم من حديث ابن مسعود إلى قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قال: السماء. وفي لفظ للطبري عن ابن مسعود قال: المراد أن السماء تصير مرة كالدهان، ومرة تشقق ثم تحمر ثم تنفطر. ورجح الطبري الأول وأصل الطبق الشدة، والمراد بها هنا ما يقع من الشدائد يوم القيامة. والطبق ما طابق غيره، يقال ما هذا بطبق كذا أي لا يطابقه. ومعنى قوله: "حالا بعد حال" أي حال مطابقة للتي قبلها في الشدة، أو هو جمع طبقة وهي المرتبة، أي هي طبقات بعضها أشد من بعض، وقيل المراد اختلاف أحوال المولود منذ يكون جنينا إلى أن يصير إلى أقصى العمر، فهو قبل أن يولد جنين، ثم إذا ولد صبي، فإذا فطم غلام، فإذا بلغ سبعا يافع، فإذا بلغ عشرا حزور، فإذا بلغ خمس عشرة قمد، فإذا بلغ خمسا وعشرين عنطنط، فإذا بلغ ثلاثين صمل، فإذا بلغ أربعين كهل، فإذا بلغ خمسين شيخ، فإذا بلغ ثمانين هم، فإذا بلغ تسعين فان.

(8/698)


85- سُورَةُ الْبُرُوجِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الأُخْدُودِ} شَقٌّ فِي الأَرْضِ {فَتَنُوا} عَذَّبُوا
قوله: "سورة البروج" تقدم في أواخر الفرقان تفسير البروج. قوله: "وقال مجاهد: الأخدود شق في الأرض" وصله الفريابي بلفظ: "شق بنجران كانوا يعذبون الناس فيه:"وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما من حديث صهيب قصة أصحاب الأخدود مطولة، وفيه قصة الغلام الذي كان يتعلم من الساحر، فمر بالراهب فتابعه على دينه، فأراد الملك قتل الغلام لمخافته دينه فقال: إنك لن تقدر على قتلي حتى تقول إذا رميتني بسم الله رب الغلام، ففعل، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فخد لهم الملك الأخاديد في السكك وأضرم فيها النيران ليرجعوا إلى دينه. وفيه قصة الصبي الذي قال لأمه: أصبري فإنك على الحق، صرح برفع القصة بطولها حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب. ومن طريقه أخرجه مسلم والنسائي وأحمد. ووقفها معمر عن ثابت، ومن طريقه أخرجها الترمذي، وعنده في آخره: يقول الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} إلى - { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ". قوله: "فتنوا عذبوا"

(8/698)


وصله الفريابي من طريقه، وهذا أحد معاني الفتنة، ومثله {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي يعذبون. قوله: "وقال ابن عباس: الودود الحبيب، المجيد الكريم" ثبت هذا للنسفي وحده، ويأتي في التوحيد. وأخرج الصبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {الْغَفُورُ الْوَدُودُ} قال: الودود الحبيب. وفي قوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} يقول: الكريم

(8/699)


86- سُورَةُ الطَّارِقِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {ذَاتِ الرَّجْعِ} سَحَابٌ يَرْجِعُ بِالْمَطَرِ {ذَاتِ الصَّدْعِ} تَتَصَدَّعُ بِالنَّبَاتِ
قوله: "سورة الطارق: هو النجم وما أتاك ليلا فهو طارق" ثم فسره فقال: "النجم الثاقب المضيء، يقال أثقب نارك للموقد" ثبت هذا للنسفي وأبي نعيم وسيأتي للباقين في كتاب الاعتصام. وهو كلام الفراء قال في قوله تعالى: {السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} إلخ" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الثاقب المضيء. وأخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله. قوله: "وقال مجاهد: الثاقب الذي يتوهج" ثبت هذا لأبي نعيم عن الجرجاني، ووصله الفريابي والطبري من طريق مجاهد بهذا. وأخرج الطبري من طريق السدي قال: هو النجم الذي يرمي به، ومن طريق عبد الرحمن بن زيد قال: النجم الثاقب الثريا. قوله: {ذَاتِ الرَّجْعِ} سحاب يرجع بالمطر، وذات الصدع الأرض تتصدع بالنبات" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} قال: يعني ذات السحاب تمطر ثم ترجع بالمطر. وفي قوله: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} ذات النبات. وللحاكم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله: {ذَاتِ الرَّجْعِ} المطر بعد المطر. وإسناده صحيح. قوله: "وقال ابن عباس: لقول فصل لحق" وقع هذا للنسفي، وسيأتي في التوحيد بزيادة. قوله: "لما عليها حافظ: إلا عليها حافظ" وصله ابن أبي حاتم من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس وإسناده صحيح، لكن أنكره أبو عبيدة وقال: لم نسمع لقول "لما" بمعنى "إلا "شاهدا في كلام العرب. وقرئت لما بالتخفيف والتشديد: فقرأها ابن عامر وعاصم وحمزة بالتشديد. وأخرج أبو عبيدة عن ابن سيرين أنه أنكر التشديد على من قرأ به.
" تنبيه " : لم يورد في الطارق حديثا مرفوعا، وقد وقع حديث جابر في قصة معاذ "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفتان يا معاذ؟ يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق والشمس وضحاها" . الحديث أخرجه النسائي هكذا، ووصله في الصحيحين.

(8/699)


86- سُورَةُ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}
وقال مجاهد: {قدر فهدى} قدر للإنسان الشقاء والسعادة وهدى الأنعام لمراتعها
4941- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَجَعَلاَ يُقْرِئَانِنَا الْقُرْآنَ ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ

(8/699)


88- سُورَةُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} النَّصَارَى وَقَالَ مُجَاهِدٌ {عَيْنٍ آنِيَةٍ} بَلَغَ إِنَاهَا وَحَانَ شُرْبُهَا حَمِيمٍ آنٍ بَلَغَ إِنَاهُ {لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} شَتْمًا وَيُقَالُ الضَّرِيعُ نَبْتٌ يُقَالُ لَهُ الشِّبْرِقُ يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْحِجَازِ الضَّرِيعَ إِذَا يَبِسَ وَهُوَ سُمٌّ {بِمُسَيْطِرٍ} بِمُسَلَّطٍ وَيُقْرَأُ بِالصَّادِ وَالسِّينِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {إِيَابَهُمْ} مَرْجِعَهُمْ
قوله: "سورة هل أتاك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" كذا لأبي ذر، وسقطت البسملة للباقين، ويقال لها أيضا سورة الغاشية. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الغاشية من أسماء يوم القيامة. قوله: "وقال ابن عباس عاملة ناصبة النصارى" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ومن طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس وزاد: اليهود، وذكر الثعلبي من رواية أبي الضحى عن ابن عباس قال: الرهبان. قوله: "وقال مجاهد {عَيْنٍ آنِيَةٍ} بلغ إناها وحان شربها. {حَمِيمٍ آنٍ} بلغ إناه" وصله الفريابي من طريق مجاهد مفرقا في مواضعه. قوله: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} شتما" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: لا تسمع فيها باطلا ولا مأثما، وهذا على قراءة الجمهور بفتح تسمع بمثناة فوقية، وقرأها الجحدري بتحتانية كذلك، وأما أبو عمرو وابن كثير فضما التحتانية، وضم نافع أيضا لكن بفوقانية قوله: "ويقال الضريع نبت يقال له الشبرق تسمية أهل الحجاز الضريع إذا يبس وهو سم" هو كلام الفراء بلفظه، والشبرق بكسر المعجمة

(8/700)


بعدها موحدة، قال الخليل بن أحمد: هو نبت أخضر منتن الريح يرمي به البحر. وأخرج الطبري من طريق، عكرمة ومجاهد قال: الضريع الشبرق. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الضريع شجر من نار. ومن طريق سعيد بن جبير قال: الحجارة. وقال ابن التين كأن الضريع مشتق من الضارع وهو الذليل، وقيل هو السلا بضم المهملة وتشديد اللام وهو شوك النخل. قوله: "بمسيطر بمسلط" قال أبو عبيدة في قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر} : بمسلط، قال: ولم نجد مثلها إلا مبيطر أي بالموحدة، قال: لم نجد لهما ثالثا. كذا قال، وقد قدمت في تفسير سورة المائدة زيادات عليها. قال ابن التين: أصله السطر، والمعنى أنه لا يتجاوز ما هو فيه. قال وإنما كان ذلك وهو بمكة قبل أن يهاجر ويؤذن له في القتال. قوله: "ويقرأ بالصاد والسين" قلت: قراءة الجمهور بالصاد. وفي رواية عن ابن كثير بالسين وهي قراءة هشام. قوله: "وقال ابن عباس: إيابهم مرجعهم" وصله ابن المنذر من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وذكره ابن أبي حاتم عن عطاء، ولم يجاوز به.
" تنبيه " : لم يذكر فيها حديثا مرفوعا، ويدخل فيها حديث جابر رفعه: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" الحديث، وفي آخره: "وحسابهم على الله" ثم قرأ : {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر} إلى آخر السورة، أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم، وإسناده صحيح

(8/701)


89- سُورَةُ وَالْفَجْرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْوَتْرُ اللَّهُ {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} يَعْنِي الْقَدِيمَةَ وَالْعِمَادُ أَهْلُ عَمُودٍ لاَ يُقِيمُونَ {سَوْطَ عَذَابٍ} الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ {أَكْلاً لَمّاً} السَّفُّ وَ {جَمّاً} الْكَثِيرُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَهُوَ شَفْعٌ السَّمَاءُ شَفْعٌ وَالْوَتْرُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالَ غَيْرُهُ {سَوْطَ عَذَابٍ} كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْعَذَابِ يَدْخُلُ فِيهِ السَّوْطُ {لَبِالْمِرْصَادِ} إِلَيْهِ الْمَصِيرُ {تَحَاضُّونَ} تُحَافِظُونَ وَتَحُضُّونَ تَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِهِ {الْمُطْمَئِنَّةُ} الْمُصَدِّقَةُ بِالثَّوَابِ وَقَالَ الْحَسَنُ {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْضَهَا اطْمَأَنَّتْ إِلَى اللَّهِ وَاطْمَأَنَّ اللَّهُ إِلَيْهَا وَرَضِيَتْ عَنْ اللَّهِ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَمَرَ بِقَبْضِ رُوحِهَا وَأَدْخَلَهَا اللَّهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلَهُ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَقَالَ غَيْرُهُ {جَابُوا} نَقَبُوا مِنْ جِيبَ الْقَمِيصُ قُطِعَ لَهُ جَيْبٌ يَجُوبُ الْفَلاَةَ يَقْطَعُهَا {لَمًّا} لَمَمْتُهُ أَجْمَعَ أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهِ
قوله: "سورة والفجر - وقال مجاهد: إرم ذات العماد يعني القديم، والعماد أهل عمود لا يقيمون" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ إرم القديمة، وذات العماد أهل عماد لا يقيمون: وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: إرم قبيلة من عاد، قال: والعماد كانوا أهل عمود أي خيام، انتهى. وإرم هو ابن سام بن نوح، وعاد ابن عوص بن إرم. وقيل إرم اسم المدينة، وقيل أيضا إن المراد بالعماد شدة أبدانهم وإفراط طولهم وقد أخرج ابن مردويه من طريق المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} قال: " كان الرجل يأتي الصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم" . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: إرم اسم أبيهم.

(8/701)


ومن طريق مجاهد قال: إرم أمه. ومن طريق قتادة قال: كنا نتحدث أن إرم قبيلة. ومن طريق عكرمة قال: إرم هي دمشق. ومن طريق عطاء الخراساني قال: إرم الأرض. ومن طريق الضحاك قال: الأرم الهلاك. يقال أرم بنو فلان أي هلكوا. ومن طريق شهر بن حوشب نحوه، وهذا على قراءة شاذة قرئت "بعاد أرم" بفتحتين والراء ثقيلة على أنه فعل ماض، و "ذات" بفتح التاء على المفعولية أي أهلك الله ذات العماد، وهو تركيب قلق. وأصح هذه الأقوال الأول أن إرم اسم القبيلة وهم إرم بن سام بن نوح، وعاد هم بنو عاد بن عوص بن إرم، وميزت عاد بالإضافة لإرم عن عاد الأخيرة، وقد تقدم في تفسير الأحقاف أن عادا قبيلتان، ويؤيده قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} . وأما قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} فقد فسره مجاهد بأنها صفة القبيلة، فإنهم كانوا أهل عمود أي خيام. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك قال: {ذَاتِ الْعِمَادِ} القوة. ومن طريق ثور بن زيد قال: قرأت كتابا قديما "أنا شداد بن عاد، أنا الذي رفعت ذات العماد، أنا الذي شددت بذراعي بطن واد" وأخرج ابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة قصة مطولة جدا أنه خرج في طلب إبل له، وأنه وقع في صحاري عدن، وأنه وقع على مدينة في تلك الفلوات فذكر عجائب ما رأى فيها، وأن معاوية لما بلغه خبره أحضره إلى دمشق وسأل كعبا عن ذلك فأخبره بقصة المدينة ومن بناها وكيفية ذلك مطولا جدا، وفيها ألفاظ منكرة، وراويها عبد الله بن قلابة لا يعرف، وفي إسناده عبد الله بن لهيعة. قوله: {سوط عذاب} الذي عذبوا به" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ ما عذبوا به. ولابن أبي حاتم من طريق قتادة: كل شيء عذب الله به فهو سوط عذاب، وسيأتي له تفسير آخر. قوله: {أكْلاً لَمّاً} السف، وجما الكثير" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: السف لف كل شيء. ويحبون المال حبا جما قال الكثير. وسيأتي بسط الكلام على السف في شرح حديث أم زرع في النكاح قوله: "وقال مجاهد: كل شيء خلقه فهو شفع، السماء شفع، والوتر الله" تقدم في بدء الخلق بأتم من هذا. وقد أخرج الترمذي من حديث عمران بن حصين "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال: "هي الصلاة، بعضها شفع، وبعضها وتر " ورجاله ثقات إلا أن فيه راويا مبهما، وقد أخرجه الحاكم من هذا الوجه فسقط من روايته المبهم فاغتر فصححه. وأخرج النسائي من حديث جابر رفعه قال: "العشر عشر الأضحى، والشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة" وللحاكم من حديث ابن عباس قال: الفجر فجر النهار، وليال عشر عشر الأضحى. ولسعيد بن منصور من حديث ابن الزبير أنه كان يقول: الشفع قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} والوتر اليوم الثالث.
" تنبيه " : قرأ الجمهور الوتر بفتح الواو، وقرأها الكوفيون سوى عاصم بكسر الواو واختارها أبو عبيد. قوله: "وقال غيره سوط عذاب كلمة تقولها العرب لكل نوع من العذاب يدخل فيه السوط" هو كلام الفراء. وزاد في آخره: جرى به الكلام. لأن السوط أصل ما كانوا يعذبون به، فجرى لكل عذاب إذ كان عندهم هو الغاية. قوله: "لبالمرصاد: إليه المصير" هو قول الفراء أيضا، والمرصاد مفعال من المرصد وهو مكان الرصد، وقرأ ابن عطية بما يقتضيه ظاهر اللفظ؛ فجوز أن يكون المرصاد بمعنى الفاعل أي الراصد، لكن أتى فيه بصيغة المبالغة، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه الباء في فصيح الكلام، وإن سمع ذلك نادرا في الشعر، وتأويله على ما يليق بجلال الله واضح فلا حاجة للتكلف. وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: بمرصاد أعمال بني آدم. قوله: "تحاضون تحافظون، وتحضون تأمرون بإطعامه" قال الفراء: قرأ الأعمش وعاصم بالألف وبمثناة مفتوحة أوله، ومثله لأهل المدينة لكن بغير

(8/702)


ألف، وبعضهم "يحاضون" بتحتانية أوله، والكل صواب. كانوا يحاضون يحافظون، ويحضون يأمرون بإطعامه انتهى. وأصل تحاضون تتحاضون فحذفت إحدى التاءين، والمعنى لا يحض بعضكم بعضا. وقرأ أبو عمرو بالتحتانية في يكرمون ويحضون وما بعدهما، وبمثل قراءة الأعمش قرأ يحيى بن وثاب والأخوان وأبو جعفر المدني، وهؤلاء كلهم بالمثناة فيها وفي يكرمون فقط، ووافقهم على المثناة فيهما ابن كثير ونافع وشيبة، لكن بغير ألف يحضون. قوله: "المطمئنة المصدقة بالثواب" قال الفراء {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} بالإيمان، المصدقة بالثواب والبعث. وأخرج ابن مردويه من طريق ابن عباس قال: المطمئنة المؤمنة. قوله: "وقال الحسن {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} إذا أراد الله قبضها اطمأنت إلى الله واطمأن الله إليه، ورضيت عن الله ورضي الله عنه، فأمر بقبض روحها وأدخله الله الجنة وجعله من عباده الصالحين" وقع في رواية الكشميهني: "واطمأن الله إليها ورضي الله عنها وأدخلها الله الجنة" بالتأنيث في المواضع الثلاثة، وهو أوجه. وللآخر وجه وهو عود الضمير على الشخص. وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق الحسن قال: إن الله تعالى إذا أراد قبض روح عبده المؤمن واطمأنت النفس إلى الله واطمأن الله إليها ورضيت عن الله ورضي عنها، أمر بقبضها فأدخلها الجنة وجعلها من عباده الصالحين. أخرجه مفرقا، وإسناد الاطمئنان إلى الله من مجاز المشاكلة، والمراد به لازمه من إيصال الخير ونحو ذلك. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: المطمئنة إلى ما قال الله والمصدقة بما قال الله تعالى. قوله: "وقال غيره" جابوا "نقبوا، من جيب القميص قطع له جيب. يجوب الفلاة" أي "يقطعها" . ثبت هذا لغير أبي ذر. وقال أبو عبيدة في قوله: "جابوا" البلاد: نقبوها، ويجوب البلاد يدخل فيها ويقطعها. وقال الفراء {جَابُوا الصَّخْرَ} فرقوه فاتخذوه بيوتا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {جَابُوا الصَّخْرَ} نقبوا الصخر. قوله: "لما: لممته أجمع أتيت على آخره" سقط هذا لأبي ذر وهو قول أبي عبيدة بلفظه وزاد: {حُبّاً جَمّاً} كثيرا شديدا.
" تنبيه " : لم يذكر في الفجر حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث ابن مسعود رفعه في قوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قال: "يؤتي بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" . أخرجه مسلم والترمذي.

(8/703)


90- سُورَةُ {لاَ أُقْسِمُ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} بِمَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنْ الإِثْمِ {وَوَالِدٍ} آدَمَ {وَمَا وَلَدَ} {لُبَدًا} كَثِيرًا وَ {النَّجْدَيْنِ} الْخَيْرُ وَالشَّرُّ {مَسْغَبَةٍ} مَجَاعَةٍ {مَتْرَبَةٍ} السَّاقِطُ فِي التُّرَابِ يُقَالُ {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} فَلَمْ يَقْتَحِمْ الْعَقَبَةَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فَسَّرَ الْعَقَبَةَ فَقَالَ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} {في كبد} في شدة.
قوله: "سورة {لاَ أُقْسِمُ} ويقال لها أيضا سورة البلد، واتفقوا على أن المراد بالبلد مكة شرفها الله تعالى. قوله: "وقال مجاهد {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} مكة، ليس عليك ما على الناس فيه من الإثم" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: يقول لا تؤاخذ بما عملت فيه وليس عليك فيه ما على الناس. وقد أخرجه الحاكم من طريق منصور عن مجاهد فزاد فيه عن ابن عباس بلفظ: أحل الله له أن يصنع فيه ما شاء. ولابن مردويه من

(8/703)


طريق عكرمة عن ابن عباس: يحل لك أن تقاتل فيه. وعلى هذا فالصيغة للوقت الحاضر والمراد الآتي لتحقق وقوعه، لأن السورة مكية والفتح بعد الهجرة بثمان سنين. قوله: "ووالد آدم وما ولد" وصله الفريابي من طريق مجاهد بهذا، وقد أخرجه الحاكم من طريق مجاهد أيضا وزاد فيه: عن ابن عباس. قوله: "في كبد في شدة خلق" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد أخرجه سعيد بن منصور من طريق مجاهد بلفظ: حملته أمه كرها ووضعته كرها، ومعيشة في نكد وهو يكابد ذلك. وأخرجه الحاكم من طريق سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مثله وزاد: في ولادته ونبت أسنانه وسرره وختانه ومعيشته. قوله: {لِبَداً} كثيرا وصله الفريابي بهذا، وهي بتخفيف الموحدة، وشددها أبو جعفر وحده. وقد تقدم تفسيرها في تفسير سورة الجن. والنجدين الخير والشر، وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ سبيل الخير وسبيل الشر، يقول: عرفناه. وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: النجدين سبيل الخير والشر، وصححه الحاكم، وله شاهد عند ابن مردويه من حديث أبي هريرة. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما هما النجدان، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير" . قوله: "مسغبة مجاعة" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ جوع، ومن وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس قال: ذي مجاعة. وأخرجه ابن أبي حاتم كذلك. ومن طريق قتادة قال: يوم يشتهي فيه الطعام. قوله: "متربة الساقط في التراب" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ المطروح في التراب ليس له بيت. وروى الحاكم من طريق حصين عن مجاهد عن ابن عباس قال: المطروح الذي ليس له بيت. وفي لفظ: المتربة الذي لا يقيه من التراب شيء وهو كذلك لسعيد بن منصور، ولابن عيينة من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: هو الذي ليس بينه وبين الأرض شيء. قوله: "يقال: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} فلم يقتحم العقبة في الدنيا. ثم فسر العقبة فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: للنار عقبة دون الجنة، فلا اقتحم العقبة. ثم أخبر عن اقتحامها فقال: فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة. وقال أبو عبيدة في قوله: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} إلخ" بلفظ الأصل، وزاد بعد قوله مسغبة: مجاعة، ذا متربة: قد لزق بالتراب. وأخرج سعيد بن منصور من طريق مجاهد قال: إن من الموجبات إطعام المؤمن السغبان.
" تنبيه " : قرأ فك وأطعم بالفعل الماضي فيهما ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، وقرأ باقي السبعة فك بضم الكاف والإضافة وإطعام عطفا عليها. قوله: "مؤصدة مطبقة" هو قول أبي عبيدة، وقد تقدم في صفة النار من بدء الخلق، ويأتي في حديث آخر في تفسير الهمزة.
" تنبيه " : لم يذكر في سورة البلد حديثا مرفوعا ويدخل فيها حديث البراء قال: "جاء أعرابي فقال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة، قال: لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة أو فك الرقبة. قال: أو ليستا بواحدة؟ قال: لا، إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها" أخرجه أحمد وابن مردويه من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عنه وصححه ابن حبان.

(8/704)


91- سُورَةُ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}
وقال مجاهد: {وَضُحَاهَا} ضوؤها {إِذَا تَلاهَا} تبعها و {طَحَاهَا ـ دَحَاهَا ـ دَسَّاهَا} أغواها {فَأَلْهَمَهَا} عرفها الشقاء والسعادة وَقَالَ مُجَاهِدٌ {بِطَغْوَاهَا} بِمَعَاصِيهَا {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} عُقْبَى أَحَدٍ

(8/704)


4942- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ وَذَكَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي عَقَرَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ وَذَكَرَ النِّسَاءَ فَقَالَ يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنْ الضَّرْطَةِ وَقَالَ لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ" وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ عَمِّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّام"
قوله: "سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" ثبتت البسملة لأبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: {وَضُحَاهَا} ضوءها. {إِذَا تَلاهَا} تبعها. و {طَحَاهَا} {دَحَاهَا} . و {دَسَّاهَا} أغواها" ثبت هذا كله للنسفي وحده، وقد تقدم لهم في بدء الخلق مفرقا إلا قوله: {دَسَّاهَا} فأخرجه الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، وقد أخرج الحاكم من طريق حصين عن مجاهد عن ابن عباس جميع ذلك قوله: {فَأَلْهَمَهَا} عرفها الشقاء والسعادة "ثبت هذا للنسفي وحده، وقد أخرجه الطبري من طريق مجاهد قوله: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} عقبي أحد" وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: "ولا يخاف عقباها" : الله لا يخاف عقبى أحد، وهو مضبوط بفتح الألف والمهملة، وفي بعض النسخ بسكون الخاء المعجمة بعدها ذال معجمة، قال الفراء: قرأ أهل البصرة والكوفة بالواو وأهل المدينة بالفاء" فلا يخاف" فالواو صفة العاقر أي عقر ولم يخف عاقبة عقرها، أو المراد لا يخاف الله أن يرجع بعد إهلاكها، فالفاء على هذا أجود، والضمير في عقباها للدمدمة أو لثمود أو للنفس المقدم ذكرها، والدمدمة الهلاك العام. قوله: {بِطَغْوَاهَا} معاصيها" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: "معصيتها" وهو الوجه. والطغوى بفتح الطاء والقصر الطغيان، ويحتمل في الباء أن تكون للاستعانة وللسبب، أو المعنى كذبت بالعذاب الناشئ عن طغيانها. قوله: "هشام" هو ابن عروة بن الزبير. قوله: "عبد الله بن زمعة" أي ابن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى صحابي مشهور، وأمه قريبة أخت أم سلمة أم المؤمنين، وكان تحته زينب بنت أم سلمة. وقد تقدم في قصة ثمود من أحاديث الأنبياء أنه ليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وأنه يشتمل على ثلاثة أحاديث. قوله: "وذكر الناقة" أي ناقة صالح، والواو عاطفة على شيء محذوف تقديره: فخطب فذكر كذا وذكر الناقة. قوله: "والذي عقر" كذا هنا بحذف المفعول، وتقدم بلفظ: "عقرها" أي الناقة. قوله: {إِذِ انْبَعَثَ} تقدم في أحاديث الأنبياء بلفظ انتدب، تقول ندبته إلى كذا فانتدب له أي أمرته فامتثل. قوله: "عزيز: أي قليل المثل. قوله: "عارم" بمهملتين أي صعب على من يرومه كثير الشهامة والشر. قوله: "منيع" أي قوي ذو منعة أي رهط يمنعونه من الضيم، وقد تقدم في أحاديث الأنبياء بلفظ: "ذو منعة" وتقدم بيان اسمه وسبب عقره الناقة. قوله: "مثل أبي زمعة" يأتي في الحديث الذي بعده. قوله: "وذكر النساء" أي وذكر في خطبته النساء استطرادا إلى ما يقع من أزواجهن. قوله: "يعمد" بكسر الميم وسيأتي شرحه في كتاب النكاح. قوله: "ثم وعظهم في ضحكهم" في رواية الكشميهني: "في ضحك" بالتنوين وقال: لم يضحك أحدكم مما يفعل؟ يأتي الكلام عليه في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال أبو معاوية إلخ" وصله إسحاق بن راهويه في مسنده قال: أنبأنا أبو معاوية،

(8/705)


فذكر الحديث بتمامه وقال في آخره: "مثل أبي زمعة عم الزبير بن العوام" كما علقه البخاري سواء. وقد أخرجه أحمد عن أبي معاوية لكن لم يقل في آخره: "عم الزبير بن العوام" قوله: "عم الزبير بن العوام" هو عم الزبير مجازا لأنه الأسود بن المطلب بن أسد، والعوام بن خويلد بن أسد. فنزل ابن العم منزلة الأخ فأطلق عليه عما بهذا الاعتبار، كذا جزم الدمياطي باسم أبي زمعة هنا وهو المعتمد وقال القرطبي في "المفهم" : يحتمل أن المراد بأبي زمعة الصحابي الذي بايع تحت الشجرة يعني وهو عبيد البلوي، قال: ووجه تشبيهه به إن كان كذلك أنه كان في عزة ومنعة في قومه كما كان ذلك الكافر، قال: ويحتمل أن يريد غيره ممن يكنى أبا زمعة من الكفار. قلت: وهذا الثاني هو المعتمد، والغير المذكور هو الأسود، وهو جد عبد الله بن زمعة راوي هذا الخبر، لقوله في نفس الخبر "عم الزبير بن العوام" وليس بين البلوي وبين الزبير نسب. وقد أخرج الزبير بن بكار هذا الحديث في ترجمة الأسود بن المطلب من طريق عامر بن صالح عن هشام بن عروة وزاد: "قال فتحدث بها عروة وأبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة جالس، فكأنه وجد منها، فقال له عروة: يا ابن أخي، والله ما حدثنيها أبوك إلا وهو يفخر بها، وكان الأسود أحد المستهزئين، ومات على كفره بمكة، وقتل ابنه زمعة يوم بدر كافرا أيضا

(8/706)


92- سُورَةُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} بِالْخَلَفِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَرَدَّى} مَاتَ وَ {تَلَظَّى} تَوَهَّجُ وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ تَتَلَظَّى
قوله: "سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثبتت البسملة لأبي ذر. قوله: "وقال ابن عباس: وكذب بالحسنى بالخلف" وصله ابن أبي حاتم من طريق حصين عن عكرمة عنه وإسناده صحيح قوله: "وقال مجاهد تردى مات. وتلظى توهج" وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: {إِذَا تَرَدَّى} إذا مات. وفي قوله: {نَاراً تَلَظَّى} توهج. قوله: "وقرأ عبيد بن عمير تتلظى" وصله سعيد بن منصور عن ابن عيينة وداود العطار كلاهما عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ: {نارا تتلظى} وقال الفراء: حدثنا ابن عيينة عن عمرو قال: "فاتت عبيد بن عمير ركعة من المغرب، فسمعته يقرأ {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} "وهذا إسناد صحيح، ولكن رواه سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عن ابن عيينة بهذا السند فالله أعلم، وهي قراءة زيد بن علي وطلحة بن مصرف أيضا، وقد قيل إن عبيد بن عمير قرأها بالإدغام في الوصل لا في الابتداء؛ وهي قراءة البزي من طريق ابن كثير

(8/706)


1- باب {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}
4943- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ دَخَلْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّأْمَ فَسَمِعَ بِنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَأَتَانَا فَقَالَ أَفِيكُمْ مَنْ يَقْرَأُ فَقُلْنَا نَعَمْ قَالَ فَأَيُّكُمْ أَقْرَأُ فَأَشَارُوا إِلَيَّ فَقَالَ اقْرَأْ فَقَرَأْتُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} قَالَ أَنْتَ سَمِعْتَهَا مِنْ فِي صَاحِبِكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ وَأَنَا سَمِعْتُهَا مِنْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَؤُلاَءِ يَأْبَوْنَ عَلَيْنَا"

(8/706)


2- باب {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}
4944- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قَدِمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُلُّنَا قَالَ فَأَيُّكُمْ أَحْفَظُ فَأَشَارُوا إِلَى عَلْقَمَةَ قَالَ كَيْفَ سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قَالَ عَلْقَمَةُ {وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} قَالَ أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَكَذَا وَهَؤُلاَءِ يُرِيدُونِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} وَاللَّهِ لاَ أُتَابِعُهُم"
قوله: "باب {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} حدثنا عمر" هو ابن حفص بن غياث، ووقع لأبي ذر حدثنا عمر ابن حفص. قوله: "قدم أصحاب عبد الله" أي ابن مسعود" على أبي الدرداء، فطلبهم فوجدهم فقال: أيكم يقرأ على قراءة عبد الله؟ قالوا: كلنا. قال: فأيكم أحفظ؟ وأشاروا إلى علقمة" هذا صورته الإرسال، لأن إبراهيم ما حضر القصة، وقد وقع في رواية سفيان عن الأعمش في الباب الذي قبله "عن إبراهيم عن علقمة" فتبين أن الإرسال في هذا الحديث، ووقع رواية الباب عند أبي نعيم أيضا ما يقتضي أن إبراهيم سمعه من علقمة. وقوله في آخره "وهؤلاء يريدونني على أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى. والله لا أتابعهم" ووقع في رواية داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة في هذا الحديث: "وإن هؤلاء يريدونني أن أزول عما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون لي: اقرأ وما خلق الذكر والأنثى، وإني والله لا أطيعهم" أخرجه مسلم وابن مردويه. وفي هذا بيان واضح أن قراءة ابن مسعود كانت كذلك، والذي وقع في غير هذه الطريق أنه قرأ: {والذي خلق الذكر والأنثى" كذا في كثير من كتب القراءات الشاذة، وهذه القراءة لم يذكرها أبو عبيد إلا عن الحسن البصري، وأما ابن مسعود فهذا الإسناد المذكور في الصحيحين عنه من أصح الأسانيد يروي به الأحاديث. قوله: "كيف سمعته" أي ابن مسعود "يقرأ والليل إذ يغشى؟ قال علقمة: والذكر والأنثى" في رواية سفيان "فقرأت والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى" وهذا صريح في أن ابن مسعود كان يقرؤها كذلك. وفي رواية إسرائيل عن مغيرة في المناقب "والليل إذا يغشى والذكر والأنثى" بحذف {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} كذا في رواية أبي ذر وأثبتها الباقون. قوله: "وهؤلاء" أي أهل الشام" يريدونني على أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى، والله لا أتابعهم" هذا أبين من الرواية التي قبلها حيث قال: "وهؤلاء يأبون علي" ثم هذه القراءة لم تنقل إلا عمن ذكر هنا، ومن عداهم قرءوا {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} وعليها استقر الأمر مع قوة إسناد ذلك إلى أبي الدرداء ومن ذكر معه، ولعل هذا مما نسخت تلاوته ولم يبلغ النسخ أبا الدرداء ومن ذكر معه. والعجب من نقل الحفاظ من الكوفيين هذه القراءة عن علقمة وعن ابن مسعود وإليهما تنتهي القراءة بالكوفة ثم لم يقرأ بها أحد منهم، وكذا أهل الشام حملوا القراءة عن أبي الدرداء ولم يقرأ أحد منهم بهذا، فهذا مما يقوى أن التلاوة بها نسخت.

(8/707)


باب {فأما من أعطى واتقى}
...
3- بَاب قَوْلُهُ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
4945- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جَنَازَةٍ فَقَالَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ فَقَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إِلَى قَوْلِهِ {لِلْعُسْرَى}
حديث علي قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال: ما منكم من أحد إلا وكتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" الحديث ذكره في خمسة تراجم أخرى لا يأتي في هذه السورة كلها من طريق الأعمش إلا الخامس، فمن طريق منصور، كلاهما عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي، وصرح في الترجمة الأخيرة بسماع الأعمش له من سعد، وسيأتي شرحه مستوفي في كتاب القدر إن شاء الله تعالى

(8/708)


باب {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . "فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قوله: "باب قوله {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر والنسفي، وسقط لفظ: "باب" من التراجم كلها لغير أبي ذر

(8/708)


4- بَاب {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
4946- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيَةَ قَالَ شُعْبَةُ وَحَدَّثَنِي بِهِ مَنْصُورٌ فَلَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ.

(8/708)


5- بَاب {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}
4947- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ

(8/708)


6 - بَاب {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}
4948- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلاَ قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيَةَ

(8/709)


7- بَاب {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
4949- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيَةَ.

(8/709)


93- سُورَةُ {وَالضُّحَى} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {إِذَا سَجَى} اسْتَوَى وَقَالَ غَيْرُهُ {سَجَى} أَظْلَمَ وَسَكَنَ {عَائِلاً} ذُو عِيَالٍ
قوله: "سورة والضحى - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال مجاهد إذا سجى: استوى" وصله الفريابي من طريق مجاهد بهذا. قوله: "وقال غيره سجى أظلم وسكن" قال الفراء في قوله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} قال: الضحى النهار كله، والليل إذا سجى إذا أظلم وركد في طوله، تقول بحر ساج وليل ساج إذا سكن. وروى الطبري من طريق قتادة في قوله: {إِذَا سَجَى} قال: إذا سكن بالخلق. قوله: "عائلا ذو عيال" هو قول أبي عبيدة. وقال الفراء: معناه فقيرا، وقد وجدتها في مصحف عبد الله "عديما" ، والمراد أنه أغناه بما أرضاه، لا بكثرة المال

(8/709)


1- باب {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
4950- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لاَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} قَوْلُهُ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} تُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَا تَرَكَكَ رَبُّكَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا تَرَكَكَ وَمَا أَبْغَضَكَ
قوله: "باب {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر، وذكر في سبب نزولها حديث جندب، وأن ذلك سبب شكواه صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت في صلاة الليل أن الشكوى المذكورة لم ترد بعينها، وأن من فسرها بأصبعه التي دميت لم يصب. ووجدت الآن في الطبراني بإسناد فيه من لا يعرف أن سبب نزولها وجود جرو كلب تحت سريره صلى الله عليه وسلم لم يشعر به فأبطأ عنه جبريل لذلك، وقصة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة، لكن كونها سبب نزول هذه الآية غريب، بل شاذ، مردود بما في الصحيح والله أعلم. وورد لذلك سبب ثالث وهو ما أخرجه الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: "لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن أبطأ عنه جبريل أياما فتغير بذلك فقالوا: ودعه ربه وقلاه. فأنزل الله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ومن طريق إسماعيل مولى آل الزبير قال: "فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأحزنه فقال: لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني، فجاء جبريل بسورة والضحى". وذكر سليمان التيمي في السيرة التي جمعها ورواها محمد بن عبد الأعلى عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: "وفتر الوحي، فقالوا: لو كان من عند الله لتتابع. ولكن الله قلاه. فأنزل الله: والضحى وألم نشرح بكمالهما" وكل هذه الروايات لا تثبت، والحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول والضحى غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي، فإن تلك دامت أياما وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثا، فاختلطتا على بعض الرواة، وتحرير الأمر في ذلك ما بينته. وقد أوضحت ذلك في التعبير ولله الحمد. ووقع في سيرة ابن إسحاق في سبب نزول والضحى شيء آخر، فإنه ذكر أن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين والروح وغير ذلك ووعدهم بالجواب ولم يستثن، فأبطأ عليه جبريل اثنتا عشرة ليلة أو أكثر فضاق صدره، وتكلم المشركون: فنزل جبريل بسورة والضحى، وبجواب ما سألوا، وبقوله تعالى: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} انتهى. وذكر سورة الضحى هنا بعيد، لكن يجوز أن يكون الزمان في القصتين متقاربا فضم بعض الرواة إحدى القصتين إلى الأخرى، وكل منهما لم يكن في ابتداء البعث، وإنما كان بعد ذلك بمدة والله أعلم. قوله: "سمعت جندب بن سفيان" هو البجلي. قوله: "فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك تركك" هي أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب. وقد تقدم بيان ذلك في كتاب قيام الليل. وأخرجه الطبري من طريق المفضل بن صالح عن الأسود بن قيس بلفظ: "فقالت امرأة من أهله" ومن وجه آخر عن الأسود بن قيس بلفظ: "حتى قال المشركون" ولا مخالفة لأنهم قد يطلقون لفظ الجمع ويكون القائل أو الفاعل واحدا، بمعنى أن الباقين راضون بما وقع من ذلك الواحد. قوله: "قربك" بكسر الراء، يقال يقربه بفتح الراء متعديا، ومنه {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} ، وأما

(8/710)


قرب بالضم فهو لازم. تقول قرب الشيء أي دنا. وقد بينت هناك أنه وقع في رواية أخرى عند الحاكم "فقالت خديجة" وأخرجه الطبري أيضا من طريق عبد الله بن شداد "فقالت خديجة ولا أرى ربك" ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه "فقالت خديجة لما ترى من جزعه" وهذان طريقان مرسلان ورواتهما ثقات، فالذي يظهر أن كلا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل عبرت - لكونها كافرة - بلفظ شيطانك، وخديجة عبرت - لكونها مؤمنة - بلفظ ربك أو صاحبك. وقالت أم جميل شماتة وخديجة توجعا.

(8/711)


2- باب {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
تقرأ بالتشديد والتخفيف بمعنى واحد ما تركك ربك. وقال ابن عباس: ما تركك وما أبغضك
4951- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدُبًا الْبَجَلِيَّ قَالَتْ امْرَأَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أُرَى صَاحِبَكَ إِلاَّ أَبْطَأَكَ فَنَزَلَتْ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
قوله: "باب قوله {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} "كذا ثبتت هذه الترجمة في رواية المستملي، وهو تكرار بالنسبة إليه لا بالنسبة للباقين لأنهم لم يذكروها في الأولى. قوله: "تقرأ بالتشديد والتخفيف بمعنى واحد ما تركك ربك" أما القراءة بالتشديد فهي قراءة الجمهور، وقرأ بالتخفيف عروة وابنه هشام وابن أبي عليه. وقال أبو عبيدة "ما ودعك" يعني بالتشديد من التوديع و "ما ودعك" يعني بالتخفيف من ودعت انتهى، ويمكن تخريج كونهما بمعنى واحد على أن التوديع مبالغة في الودع لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. قوله: "وقال ابن عباس: ما تركك وما أبغضك" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا. قوله: "في الرواية الأخيرة: "قالت امرأة: يا سول الله ما أرى صاحبك إلا أبطأك" هذا السياق يصلح أن يكون خطاب خديجة، دون الخطاب الأول فإنه يصلح أن يكون خطاب حمالة الحطب لتعبيرها بالشيطان والترك ومخاطبتها بمحمد، بخلاف هذه فقالت: صاحبك. وقالت أبطأ. وقالت يا رسول الله. وجوز الكرماني أن يكون من تصرف الرواة، وهو موجه لأن مخرج الطريقين واحد. وقوله: "أبطأك" أي صيرك بطيئا في القراءة، لأن بطأه في الإقراء يستلزم بطء الآخر في القراءة، ووقع في رواية أحمد عن محمد بن جعفر عن شعبة "إلا أبطأ عنك".

(8/711)


94- سُورَةُ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وِزْرَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْقَضَ أَثْقَلَ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَيْ مَعَ ذَلِكَ الْعُسْرِ يُسْرًا آخَرَ كَقَوْلِهِ {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فَانْصَبْ فِي حَاجَتِكَ إِلَى رَبِّكَ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ
قوله: "سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر، وللباقين "ألم نشرح" حسب. قوله: "وقال مجاهد: وزرك في الجاهلية" وصله الفريابي من طريقه، و "في الجاهلية" متعلق بالوزر، أي الكائن في الجاهلية وليس متعلقا بوضع. قوله: "أنقض أتقن" قال عياض: كذا في جميع النسخ "أتقن" بمثناة وقاف ونون، وهو وهم

(8/711)


95- سورة والتين
وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ التِّينُ وَالزَّيْتُونُ الَّذِي يَأْكُلُ النَّاسُ يُقَالُ {فَمَا يُكَذِّبُكَ} فَمَا الَّذِي يُكَذِّبُكَ بِأَنَّ النَّاسَ يُدَانُونَ بِأَعْمَالِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَكْذِيبِكَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَاب"
1- باب 4952- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ تَقْوِيمٍ الْخَلْق"
قوله: "سورة والتين" وقال مجاهد: هو التين والزيتون الذي يأكل الناس" وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: "والتين والزيتون" قال: الفاكهة التي تأكل الناس. "وطور سينين" الطور الجبل وسينين المبارك. وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس مثله، ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: التين مسجد نوح الذي بني على الجودي. ومن طريق الربيع بن أنس قال: التين جبل عليه التين والزيتون جبل عليه الزيتون. ومن طريق قتادة: الجبل الذي عليه دمشق. ومن طريق محمد بن كعب قال: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيلياء. ومن طريق قتادة: جبل عليه بيت المقدس. قوله: "تقويم: خلق" كذا ثبت لأبي نعيم، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} قال: أحسن خلق. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس بإسناد حسن قال: أعدل خلق. قوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إلا من آمن" كذا ثبت للنسفي وحده وقد تقدم لهم في بدء الخلق. وأخرج الحاكم من طريق عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} قال: الذين قرءوا القرآن. قوله: "يقال فما يكذبك فما الذي يكذبك بأن الناس يدانون بأعمالهم كأنه قال: ومن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب" في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني: "تدالون" بلام بدل النون الأولى، والأول هو الصواب، كذا هو في كلام الفراء بلفظه وزاد في آخره: بعدما تبين له كيفية خلقه. قال ابن التين: كأنه جعل "ما" لمن يعقل وهو بعيد. وقيل: المخاطب بذلك الإنسان المذكور، قيل هو على طريق الالتفات وهذا عن مجاهد، أي ما الذي جعلك كاذبا؟ لأنك إذا كذبت بالجزاء صرت كاذبا، لأن كل مكذب بالحق فهو كاذب. وأما تعقب ابن التين قول الفراء جعل "ما" لمن يعقل وهو بعيد، فالجواب أنه ليس ببعيد فيمن أبهم أمره، ومنه {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} قوله: "أخبرني عدي" هو ابن ثابت الكوفي. قوله: "فقرأ في العشاء بالتين" تقدم شرحه في صفة الصلاة. وقد كثر سؤال بعض الناس: هل قرأ بها في الركعة الأول أو الثانية؟ أو قرأ فيهما معا كأن يقول أعادها في الثانية؟ وعلى أن يكون قرأ غيرها فهل عرف؟ وما كنت أستحضر لذلك جوابا، إلى أن رأيت في" كتاب الصحابة لأبي علي بن السكن" في ترجمة زرعة بن خليفة رجل من أهل اليمامة أنه قال: "سمعنا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأتيناه فعرض علينا الإسلام فأسلمنا وأسهم لنا، وقرأ في الصلاة بالتين والزيتون وإنا أنزلناه في ليلة القدر" فيمكن إن

(8/713)


كانت هي الصلاة التي عين البراء بن عازب أنها العشاء أن يقال قرأ في الأولى بالتين وفي الثانية بالقدر، ويحصل بذلك جواب السؤال. ويقوى ذلك أنا لا نعرف في خبر من الأخبار أنه قرأ بالتين والزيتون إلا في حديث البراء ثم حديث زرعة هذا

(8/714)


96- سُورَةُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ اكْتُبْ فِي الْمُصْحَفِ فِي أَوَّلِ الإِمَامِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَاجْعَلْ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ خَطًّا وَقَالَ مُجَاهِدٌ {نَادِيَهُ} عَشِيرَتَهُ {الزَّبَانِيَةَ} الْمَلاَئِكَةَ وَقَالَ مَعْمَرٌ {الرُّجْعَى} الْمَرْجِعُ {لَنَسْفَعَنْ} قَالَ لَنَأْخُذَنْ وَلَنَسْفَعَنْ بِالنُّونِ وَهِيَ الْخَفِيفَةُ سَفَعْتُ بِيَدِهِ أَخَذْت"
قوله: "سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال صاحب الكشاف: ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أنها أول سورة نزلت، وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب. كذا قال. والذي ذهب أكثر الأئمة إليه هو الأول. وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول. قوله: "وقال قتيبة حدثنا حماد عن يحيى بن عتيق عن الحسن قال: اكتب في المصحف في أول الإمام بسم الله الرحمن الرحيم واجعل بين السورتين خطا" في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني: "حدثنا قتيبة" وقد أخرجه ابن الضريس في "فضائل القرآن" حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بهذا، وحماد هو ابن زيد، وشيخه بصري ثقة من طبقة أيوب مات قبله، ولم أر له في البخاري إلا هذا الموضع. وقوله: "في أول الإمام" أي أم الكتاب، وقوله: "خطا" قال الداودي إن أراد خطا فقط بغير بسملة فليس بصواب لاتفاق الصحابة على كتابة البسملة بين كل سورتين إلا براءة وإن أراد بالإمام إمام كل سورة فيجعل الخط مع البسملة فحسن فكان ينبغي أن يستثنى براءة. وقال الكرماني: معناه اجعل البسملة في أوله فقط، واجعل بين كل سورتين علامة للفاصلة، وهو مذهب حمزة من القراء السبعة. قلت: المنقول ذلك عن حمزة في القراءة لا في الكتابة، قال: وكأن البخاري أشار إلى أن هذه السورة لما كان أولها مبتدأ بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أراد أن يبين أنه لا تجب البسملة في أول كل سورة. بل من قرأ البسملة في أول القرآن كفاه في امتثال هذا الأمر. نعم استنبط السهيلي من هذا الأمر ثبوت البسملة في أول الفاتحة لأن هذا الأمر هو أول شيء نزل من القرآن فأولى مواضع امتثاله أول القرآن. قوله: "وقال مجاهد: ناديه عشيرته" وصله الفريابي من طريق مجاهد، وهو تفسير معنى، لأن المدعو أهل النادي والنادي المجلس المتخذ للحديث. قوله: "الزبانية الملائكة" وصله الفريابي من طريق مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مثله. قوله: "وقال معمر الرجعي المرجع" كذا لأبي ذر، وسقط لغيره: "وقال معمر" فصار كأنه من قول مجاهد والأول هو الصواب، وهو كلام أبي عبيدة في "كتاب المجاز: ولفظه {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} قال: المرجع والرجوع. قوله: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} لنأخذن، ولنسفعن بالنون وهي الخفيفة، سفعت بيده أخذت" هو كلام أبي عبيدة أيضا ولفظه: و "لنسفعن" إنما يكتب بالنون لأنها نون خفيفة انتهى. وقد روي عن أبي عمرو بتشديد النون، والموجود في مرسوم المصحف بالألف، والسفع القبض على الشيء بشدة، وقيل أصله الأخذ بسفعة الفرس أي سواد ناصيته، ومنه قولهم: به سفعة من غضب، لما يعلو لون الغضبان من التغير، ومنه امرأة سفعاء.

(8/714)


باب كان أول مابدىء به صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة
...
1- باب 4953- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ سَلْمَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ قَالَ وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} الآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ قَالَ لِخَدِيجَةَ أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي" فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ قَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَ أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنْ الإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ قَالَ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا -ذَكَرَ حَرْفاً- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ" قَالَ وَرَقَةُ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ أُوذِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
4954- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَفَرِقْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَّرُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} قَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَهِيَ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ قَالَ ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْي"

(8/715)


قوله: "باب حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب. وحدثني سعيد بن مروان" الإسناد الأول قد ساق البخاري المتن به في أول الكتاب، وساق في هذا الباب المتن بالإسناد الثاني، وسعيد بن مروان هذا هو أبو عثمان البغدادي نزيل نيسابور من طبقة البخاري، شاركه في الرواية عن أبي نعيم وسليمان بن حرب ونحوهما، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، ومات قبل البخاري بأربع سنين. ولهم شيخ آخر يقال الله أبو عثمان سعيد بن مروان الرهاوي، حدث عنه أبو حاتم وابن أبي رزمة وغيرهما، وفرق البخاري في "التاريخ" بينه وبين البغدادي، ووهم من زعم أنهما واحد وآخرهم الكرماني. ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة بكسر الراء وسكون الزاي. واسم أبي رزمة غزوان، وهو مروزي من طبقة أحمد بن حنبل، فهو من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، ومع ذلك فحدث عنه بواسطة، وليس له عنده سوى هذا الموضع. وقد حدث عنه أبو داود بلا واسطة. وشيخه أبو صالح سلمويه اسمه سليمان بن صالح الليثي المروزي يلقب سلمويه، ويقال اسم أبيه داود، وهو من طبقة الراوي عنه من حيث الرواية إلا أنه تقدمت وفاته، وكان من أخصاء عبد الله بن المبارك والمكثرين عنه. وقد أدركه البخاري بالسن لأنه مات سنة عشر ومائتين، وما له أيضا في البخاري سوى هذا الحديث. وعبد الله هو ابن المبارك الإمام المشهور، وقد نزل البخاري في حديثه في هذا الإسناد درجتين، وفي حديث الزهري ثلاث درجات، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفي في أوائل هذا الكتاب، وسأذكر هنا ما لم يتقدم ذكره مما اشتمل عليه من سياق هذه الطريق وغيرها من الفوائد. قوله: "أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة" قال النووي: هذا من مراسيل الصحابة، لأن عائشة لم تدرك هذه القصة فتكون سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي. وتعقبه من لم يفهم مراده فقال: إذا كان يجوز أنها سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يجزم بأنها من المراسيل؟ والجواب أن مرسل الصحابي ما يرويه من الأمور التي لم يدرك زمانها، بخلاف الأمور التي يدرك زمانها فإنها لا يقال إنها مرسلة، بل يحمل على أنه سمعها أو حضرها ولو لم يصرح بذلك، ولا تختص هذا بمرسل الصحابي بل مرسل التابعي إذا ذكر قصة لم يحضرها سميت مرسلة، ولو جاز في نفس الأمر أن يكون سمعها من الصحابي الذي وقعت له تلك القصة. وأما الأمور التي يدركها فيحمل على أنه سمعها أو حضرها، لكن بشرط أن يكون سالما من التدليس والله أعلم. ويؤيد أنها سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قولها في أثناء هذا الحديث:"فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ. قال فأخذني" إلى آخره. فقوله قال فأخذني فغطني ظاهر في أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها بذلك فتحمل بقية الحديث عليه. قوله: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة" زاد في رواية عقيل كما تقدم في بدء الوحي "من الوحي" أي في أول المبتدآت من إيجاد الوحي الرؤيا، وأما مطلق ما يدل على نبوته فتقدمت له أشياء مثل تسليم الحجر كما ثبت في صحيح مسلم وغير ذلك، و "ما" في الحديث نكرة موصوفة، أي أول شيء. ووقع صريحا في حديث ابن عباس عند ابن عائذ. ووقع في مراسيل عبد الله بن أبي بكر بن حزم عند الدولابي ما يدل على أن الذي كان يراه صلى الله عليه وسلم هو جبريل ولفظه: "أنه قال لخديجة بعد أن أقرأه جبريل "اقرأ باسم ربك" : أرأيتك الذي كنت أحدثك إني رأيته في المنام فإنه جبريل استعلن" . قوله: "من الوحي" يعني إليه وهو إخبار عما رآه من دلائل نبوته من غير أن يوحي بذلك إليه وهو أول ذلك مطلقا ما سمعه من بحيرا الراهب، وهو عند الترمذي بإسناد قوي عن أبي موسى، ثم ما سمعه عند بناء الكعبة حيث قيل له "اشدد عليك إزارك"

(8/716)


وهو في صحيح البخاري من حديث جابر، وكذلك تسليم الحجر عليه وهو عند مسلم من حديث جابر بن سمرة. قوله: "الصالحة" قال ابن المرابط هي التي ليست ضغثا ولا من تلبيس الشيطان ولا فيها ضرب مثل مشكل، وتعقب الأخير بأنه إن أراد بالمشكل ما لا يوقف على تأويله فمسلم وإلا فلا. قوله: "فلق الصبح" يأتي في سورة الفلق قريبا. قوله: "ثم حبب إليه الخلاء" هذا ظاهر في أن الرؤيا الصادقة كانت قبل أن يحبب إليه الخلاء، ويحتمل أن تكون لترتيب الأخبار، فيكون تحبيب الخلوة سابقا على الرؤيا الصادقة، والأول أظهر. قوله: "الخلاء" بالمد المكان الخالي، ويطلق على الخلوة، وهو المراد هنا. قوله: "فكان يلحق بغار حراء" كذا في هذه الرواية، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: "فكان يخلو" وهي أوجه. وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق "فكان يجاوز: . قوله: "الليالي ذوات العدد" في رواية ابن إسحاق أنه كان يعتكف شهر رمضان. قوله: "قال والتحنث التعبد" هذا ظاهر في الإدراج، إذ لو كان من بقية كلام عائشة لجاء فيه قالت، وهو يحتمل أن يكون من كلام عروة أو من دونه، ولم يأت التصريح بصفة تعبده، لكن في رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق "فيطعم من يرد عليه من المساكين" وجاء عن بعض المشايخ أنه كان يتعبد بالتفكر، ويحتمل أن تكون عائشة أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدا، فإن الانعزال عن الناس ولا سيما من كان على باطل من جملة العبادة كما وقع للخليل عليه السلام حيث قال: "إني ذاهب إلى ربي" ، وهذا يلتفت إلى مسألة أصولية، وهو أنه صلى الله عليه وسلم هل كان قبل أن يوحي إليه متعبدا بشريعة نبي قبله؟ قال الجمهور: لا، لأنه لو كان تابعا لاستبعد أن يكون متبوعا، ولأنه لو كان لنقل من كان ينسب إليه. وقيل نعم واختاره ابن الحاجب، واختلفوا في عيينة على ثمانية أقوال: أحدها آدم حكاه ابن برهان، الثاني نوح حكاه الآمدي، الثالث إبراهيم ذهب إليه جماعة واستدلوا بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} ، الرابع موسى، الخامس عيسى، السادس بكل شيء بلغه عن شرع نبي من الأنبياء وحجته {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، السابع الوقف واختاره الآمدي، ولا يخفى قوة الثالث ولا سيما مع ما نقل من ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم والله أعلم. وهذا كله قبل النبوة، وأما بعد النبوة فقد تقدم القول فيه في تفسير سورة الأنعام. قوله: "إلى أهله" يعني خديجة وأولاده منها، وقد سبق في تفسير سورة النور في الكلام على حديث الإفك تسمية الزوجة أهلا، ويحتمل أن يريد أقاربه أو أعم. قوله: "ثم يرجع إلى خديجة فيتزود" خص خديجة بالذكر بعد إذ عبر بالأهل إما تفسيرا بعد إبهام، وإما إشارة إلى اختصاص التزود بكونه من عندها دون غيرها. قوله: "فيتزود لمثلها" في رواية الكشميهني: "بمثلها" بالموحدة، والضمير لليالي أو للخلوة أو للعبادة أو للمرات. أي السابقة، ثم يحتمل أن يكون المراد أنه يتزود ويخلو أياما، ثم يرجع ويتزود ويخلو أياما، ثم يرجع ويتزود ويخلو أياما إلى أن ينقضي الشهر. ويحتمل أن يكون المراد أن يتزود لمثلها إذا حال الحول وجاء ذلك الشهر الذي جرت عادته أن يخلو فيه، وهذا عندي أظهر، ويؤخذ منه إعداد الزاد للمختلي إذا كان بحيث يتعذر عليه تحصيله لبعد مكان اختلائه من البلد مثلا، وأن ذلك لا يقدح في التوكل وذلك لوقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم بعد حصول النبوة له بالرؤيا الصالحة، وإن كان الوحي في اليقظة قد تراخى عن ذلك. قوله: "وهو في غار حراء" جملة في موضع الحال. قوله: "فجاءه الملك" هو جبريل كما جزم به السهيلي، وكأنه أخذه من كلام ورقة المذكور في حديث الباب. ووقع عند البيهقي في "الدلائل" فجاءه الملك فيه، أي في غار حراء، كذا عزاه شيخنا البلقيني للدلائل فتبعته، ثم وجدته بهذا اللفظ في كتاب التعبير فعزوه له أولى.
" تنبيه " : إذا علم أنه

(8/717)


كان يجاوز في غار حراء في شهر رمضان وأن ابتداء الوحي جاءه وهو في الغار المذكور اقتضى ذلك أنه نبئ في شهر رمضان ويعكر على قول ابن إسحاق أنه بعث على رأس الأربعين مع قوله إنه شهر في رمضان ولد، ويمكن أن يكون المجيء في الغار كان أو لا في شهر رمضان وحينئذ نبئ وأنزل عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، ثم كان المجيء الثاني في شهر ربيع الأول بالإنذار وأنزلت عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} فيحمل قول ابن إسحاق "على رأس الأربعين" أي عند المجيء بالرسالة، والله أعلم. قوله: "اقرا" يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه، ويحتمل أن يكون على بابه من الطلب فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال وإن قدر عليه بعد ذلك، ويحتمل أن تكون صيغة الأمر محذوفة أي قل اقرأ، وإن كان الجواب ما أنا بقارئ فعلى ما فهم من ظاهر اللفظ، وكأن السر في حذفها لئلا يتوهم أن لفظ قل من القرآن، ويؤخذ منه جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وأن الأمر على الفور، لكن يمكن أن يجاب بأن الفور فهم من القرينة. قوله: "ما أنا بقارئ" وقع عند ابن إسحاق في مرسل عبيد بن عمير "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل بنمط من ديباج فيه كتاب قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ" قال السهيلي قال بعض المفسرين: إن قوله: {ألم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل حيث قال له "اقرا" . قوله: "فغطني" تقدم بيانه في بدء الوحي، ووقع في "السيرة لابن إسحاق" فغتني بالمثناة بدل الطاء وهما بمعنى والمراد غمني وصرح بذلك ابن أبي شيبة في مرسل عبد الله بن شداد وذكر السهيلي أنه روى سأبي1 بمهملة ثم همزة مفتوحة ثم موحدة أو مثناة وهما جميعا بمعنى الخنق، وأغرب الداودي فقال: معنى فغطني صنع بي شيئا حتى ألقاني إلى الأرض كمن تأخذه الغشية. والحكمة في هذا الغط شغله عن الالتفات لشيء آخر أو لإظهار الشدة والجد في الأمر تنبيها على ثقل القول الذي سيلقى إليه، فلما ظهر أنه صبر على ذلك ألقى إليه، وهذا وإن كان بالنسبة إلى علم الله حاصل لكن لعل المراد إبرازه للظاهر بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، وقيل ليختبر هل يقول من قبل نفسه شيئا فلما لم يأت بشيء دل على أنه لا يقدر عليه وقيل أراد أن يعلمه أن القراءة ليست من قدرته ولو أكره عليها، وقيل: الحكمة فيه أن التخيل والوهم والوسوسة ليست من صفات الجسم؛ فلما وقع ذلك لجسمه علم أنه من أمر الله. وذكر بعض من لقيناه أن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك. قوله: "فغطني الثالثة" يؤخذ منه أن من يريد التأكيد في أمر وإيضاح البيان فيه أن يكرره ثلاثا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كما سبق في كتاب العلم، ولعل الحكمة في تكرير الإقراء الإشارة إلى انحصار الإيمان الذي ينشأ الوحي بسببه في ثلاث: القول، والعمل، والنية. وأن الوحي يشتمل على ثلاث: التوحيد، والأحكام والقصص. وفي تكرير الغط الإشارة إلى الشدائد الثلاث التي وقعت له وهي: الحصر في الشعب، وخروجه في الهجرة وما وقع له يوم أحد. وفي الإرسالات الثلاثة إشارة إلى حصول التيسير له عقب الثلاث المذكورة: في الدنيا والبرزخ، والآخرة. قوله: "فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} هذا القدر من هذه السورة هو الذي نزل أولا، بخلاف بقية السورة فإنما نزل بعد ذلك بزمان. وقد قدمت في تفسير المدثر بيان الاختلاف في أول ما نزل، والحكمة في هذه الأولية أن هذه الآيات الخمس اشتملت على مقاصد القرآن: ففيها براعة الاستهلال، وهي جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله، وهذا بخلاف الفن البديعي المسمى العنوان فإنهم عرفوه بأن يأخذ المتكلم في فن فيؤكده بذكر مثال سابق، وبيان كونها اشتملت على مقاصد
ـــــــ
(1) كذا في طبعة بولاق، ولعله "دأني" أو غير ذلك.

(8/718)


القرآن أنها تنحصر في علوم التوحيد والأحكام والأخبار، وقد اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله، وفي هذه الإشارة إلى الأحكام وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته من صفة ذات وصفة فعل، وفي هذا إشارة إلى أصول الدين، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . قوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} استدل به السهيلي على أن البسملة يؤمر بقراءتها أول كل سورة، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون آية من كل سورة، كذا قال، وقرره الطيبي فقال: قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قدم الفعل الذي هو متعلق الباء لكون الأمر بالقراءة أهم، وقوله: "اقرا" أمر بإيجاد القراءة مطلقا، وقوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} حال، أي اقرأ مفتتحا باسم ربك: وأصح تقاديره قل باسم الله ثم اقرأ، قال فيؤخذ منه أن البسملة مأمور بها في ابتداء كل قراءة انتهى. لكن لا يلزم من ذلك أن تكون مأمورا بها، فلا تدل على أنها آية من كل سورة، وهو كما قال، لأنها لو كان للزم أن تكون آية قبل كل آية وليس كذلك. وأما ما ذكره القاضي عياض عن أبي الحسن بن القصار من المالكية أنه قال: في هذه القصة رد على الشافعي في قوله إن البسملة آية من كل سورة، قال: لأن هذا أول سورة أنزلت وليس في أولها البسملة، فقد تعقب بأن فيها الأمر بها وإن تأخر نزولها. وقال النووي: ترتيب آي السور في النزول لم يكن شرطا، وقد كانت الآية تنزل فتوضع في مكان قبل التي نزلت قبلها ثم تنزل الأخرى فتوضع قبلها، إلى أن استقر الأمر في آخر عهده صلى الله عليه وسلم على هذا الترتيب، ولو صح ما أخرجه الطبري من حديث ابن عباس "أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة والبسملة قبل قوله: {اقرأ} لكان أولى في الاحتجاج، لكن في إسناده ضعف وانقطاع، وكذا حديث أبي ميسرة "أن أول ما أمر به جبريل قال له: قل بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين" هو مرسل وإن كان رجاله ثقات، والمحفوظ أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وأن نزول الفاتحة كان بعد ذلك. قوله: "ترجف بوادره" في رواية الكشميهني: "فؤاده" وقد تقدم بيان ذلك في بدء الوحي، وترجف عندهم بمثناة فوقانية ولعلها في رواية: "يرجف فؤاده" بالتحتانية. قوله: "زملوني زملوني" كذا للأكثر مرتين، كذا تقدم في بدء الوحي، ووقع لأبي ذر هنا مرة واحدة. والتزميل التلفيف. وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر، وجرت العادة بسكون الرعدة بالتلفيف. ووقع في مرسل عبيد بن عمير "أنه صلى الله عليه وسلم خرج فسمع صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي في ناحية آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك" وسيأتي في التعبير أن مثل ذلك وقع له عند فترة الوحي، وهو المعتمد، فإن إعلامه بالإرسال وقع ب قوله: {قمْ فَأَنْذِرْ} . قوله: "فزملوه حتى ذهب عنه الروع" بفتح الراء أي الفزع، وأما الذي بضم الراء فهو موضع الفزع من القلب. قوله: "قال لخديجة: أي خديجة، ما لي لقد خشيت" في رواية الكشميهني: "قد خشيت" . قوله: "فأخبرها الخبر" تقدم في بدء الوحي بلفظ: "فقاله لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت" وقوله: "وأخبرها الخبر" جملة معترضة بين القول والمقول، وقد تقدم في بدء الوحي ما قالوه في متعلق الخشية المذكورة. وقال عياض: هذا وقع له أول ما رأى التباشير في النوم ثم في اليقظة، وسمع الصوت قبل لقاء الملك، فأما بعد مجيء الملك فلا يجوز عليه الشك ولا يخشى من تسلط الشيطان. وتعقبه النووي بأنه خلاف صريح الشفاء، فإنه قال بعد أن غطه الملك وأقرأه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، قال: إلا أن يكون أراد أن قوله: "خشيت على نفسي" وقع منه إخبارا عما حصل له أولا لا أنه حالة إخبارها بذلك جازت فيتجه، والله أعلم. قوله:

(8/719)


"كلا أبشر" بهمزة قطع ويجوز الوصل، وأصل البشارة في الخير. وفي مرسل عبيد بن عمير "فقالت أبشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة" . قوله: "لا يخزيك الله" بخاء معجمة وتحتانية. ووقع في رواية معمر في التعبير "يحزنك" بمهملة ونون ثلاثيا ورباعيا، قال اليزيدي: أحزنه لغة تميم، وحزنه لغة قريش، وقد نبه على هذا الضبط مسلم. والخزي الوقوع في بلية وشهرة بذلة، ووقع عند ابن إسحاق عن إسماعيل بن أبي حكيم مرسلا" أن خديجة قالت: أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاء؟ قال: نعم. فجاءه جبريل، فقال: يا خديجة، هذا جبريل. قالت: قم فاجلس على فخذي اليسرى، ثم قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت فتحول إلى اليمنى كذلك، ثم قالت: فتحول فاجلس في حجري كذلك، ثم ألقت خمارها وتحسرت وهو في حجرها وقالت: هل تراه؟ قال: لا. قالت: اثبت، فوالله إنه لملك وما هو بشيطان" . وفي رواية مرسلة عند البيهقي في "الدلائل" أنها ذهبت إلى عداس وكان نصرانيا فذكرت له خبر جبريل فقال: هو أمين الله بينه وبين النبيين، ثم ذهبت إلى ورقة. قوله: "فانطلقت به إلى ورقة" في مرسل عبيد بن عمير أنها أمرت أبا بكر أن يتوجه معه، فيحتمل أن يكون عند توجيهها أو مرة أخرى. قوله: "ماذا ترى"؟ في رواية ابن منده في "الصحابة" من طريق سعيد بن جبير "عن ابن عباس عن ورقة ابن نوفل قال: قلت يا محمد أخبرني عن هذا الذي يأتيك، قال: يأتيني من السماء جناحاه لؤلؤ وباطن قدميه أخضر" قوله: "وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله" هكذا وقع هنا وفي التعبير، وقد تقدم القول فيه في بدء الوحي، ونبهت عليه هنا لأني نسيت هذه الرواية هناك لمسلم فقط تبعا للقطب الحلبي، قال النووي: العبارتان صحيحتان. والحاصل أنه تمكن حتى صار يكتب من الإنجيل أي موضع شاء بالعربية وبالعبرانية، قال الداودي: كتب من الإنجيل الذي هو بالعبرانية هذا الكتاب الذي هو بالعربي. قوله: "اسمع من ابن أخيك" أي الذي يقول. قوله: "أنزل على موسى" كذا هنا على البناء للمجهول، وقد تقم في بدء الوحي "أنزل الله" ووقع في مرسل أبي ميسرة "أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد وهذا أصرح ما جاء في إسلام ورقة أخرجه ابن إسحاق. وأخرج الترمذي عن عائشة" أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ورقة: كان ورقة صدقك. ولكنه مات قبل أن تظهر، فقال: رأيته في المنام وعليه ثياب بيض" ، ولو كان من أهل النار لكان لباسه غير ذلك. وعند البزار والحاكم عن عائشة مرفوعا: "لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين" وقد استوعبت ما ورد فيه في ترجمته ترجمة من كتابي في الصحابة، وتقدم بعض خبره في بدء الوحي، وتقدم أيضا ذكر الحكمة في قول ورقة "ناموس موسى" ولم يقل عيسى مع أنه كان تنصر، وأن ذلك ورد في رواية الزبير بن بكار بلفظ: "عيسى" ولم يقف بعض من لقيناه على ذلك فبالغ في الإنكار على النووي ومن تبعه بأنه ورد في غير الصحيحين بلفظ: "ناموس عيسى" وذكر القطب الحلبي في وجه المناسبة لذكر موسى دون عيسى أن النبي صلى الله عليه وسلم لعله لما ذكر لورقة مما نزل عليه من اقرأ ويا أيها المدثر ويا أيها المزمل فهم ورقة من ذلك أنه كلف بأنواع من التكاليف فناسب ذكر موسى لذلك، لأن الذي أنزل على عيسى إنما كان مواعظ. كذا قال، وهو متعقب فإن نزول {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} و {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} إنما نزل بعد فترة الوحي كما تقدم بيانه في تفسير المدثر، والاجتماع بورقة كان في أول البعثة. وزعم أن الإنجيل كله مواعظ متعقب أيضا، فإنه منزل أيضا على الأحكام الشرعية وإن كان

(8/720)


معظمها موافقا لما في التوراة، لكنه نسخ منها أشياء بدليل قوله تعالى: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} قوله: "فيها" أي أيام الدعوة قاله السهيلي. وقال المازري: الضمير للنبوة، ويحتمل أن يعود للقصة المذكورة. قوله: "ليتني أكون حيا ذكر حرفا" كذا في هذه الرواية، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: "إذ يخرجك قومك" ويأتي في رواية معمر في التعبير بلفظ: "حين يخرجك" وأبهم موضع الإخراج والمراد به مكة، وقد وقع في حديث عبد الله بن عدي في السنن "ولولا أني أخرجوني منك ما خرجت" يخاطب مكة. قوله: "يومك" أي وقت الإخراج، أو وقت إظهار الدعوة، أو وقت الجهاد. وتمسك ابن القيم الحنبلي بقوله في الرواية التي في بدء الوحي" ثم لم ينشب ورقة أن توفي" يرد ما وقع في السيرة النبوية لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال والمشركون يعذبونه وهو يقول أحد أحد فيقول: أحد والله يا بلال، لئن قتلوك لاتخذت قبرك حنانا، هذا والله أعلم وهم، لأن ورقة قال: "وإن أدركني يومك حيا لأنصرنك نصرا مؤزرا" فلو كان حيا عند ابتداء الدعوة لكان أول من استجاب وقام بنصر النبي صلى الله عليه وسلم كقيام عمر وحمزة. قلت: وهذا اعتراض ساقط، فإن ورقة إنما أراد بقوله: "فإن يدركني يومك حيا أنصرك" اليوم الذي يخرجوك فيه، لأنه قال ذلك عنه عند قوله: "أو مخرجي هم" وتعذيب بلال كان بعد انتشار الدعوة، وبين ذلك وبين إخراج المسلمين من مكة للحبشة ثم للمدينة مدة متطاولة.
" تنبيه " : زاد معمر بعد هذا كلاما يأتي ذكره في كتاب التعبير. قوله: "قال محمد بن شهاب" هو موصول بالإسنادين المذكورين في أول الباب، وقد أخرج البخاري حديث جابر هذا بالسند الأول من السندين المذكورين هنا في تفسير سورة المدثر. قوله: "فأخبرني" هو عطف على شيء، والتقدير قال ابن شهاب فأخبرني عروة بما تقدم، وأخبرني أبو سلمة بما سيأتي. قوله قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه: بينا أنا أمشي" هذا يشعر بأنه كان في أصل الرواية أشياء غير هذا المذكور، وهذا أيضا من مرسل الصحابي لأن جابرا لم يدركه زمان القصة فيحتمل أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي آخر حضرها والله أعلم. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهو يحدث عن فترة الوحي" وقع في رواية عقيل في بدء الوحي غير مصرح بذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ووقع في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في تفسير المدثر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت" وزاد مسلم في روايته: "جاورت بحراء شهرا" . قوله: "سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري " يؤخذ منه جواز رفع البصر إلى السماء عند وجود حادث من قبلها، وقد ترجم له المصنف في الأدب، ويستثنى من ذلك رفع البصر إلى السماء في الصلاة لثبوت النهي عنه كما تقدم في الصلاة من حديث أنس، وروى ابن السني بإسناد ضعيف عن ابن مسعود قال: أمرنا أن لا نتبع أبصارنا الكواكب إذا انقضت. ووقع في رواية يحيى بن أبي كثير "فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت أمامي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي " وفي رواية مسلم بعد قوله شيئا "ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي" . قوله: " فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي" كذا له بالرفع، وهو على تقدير حذف المبتدأ، أي فإذا صاحب الصوت هو الملك الذي جاءني بحراء وهو جالس، ووقع عند مسلم: "جالسا" بالنصب وهو على الحال، ووقع في رواية يحيى بن أبي كثير "فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض" . قوله: "ففزعت منه1 "
ـــــــ
(1) الذي في المتن "ففرقت منه"

(8/721)


كذا في رواية ابن المبارك عن يونس. وفي رواية ابن وهب عند مسلم: "فجئثت" . وفي رواية عقيل في بدء الوحي "فرعبت" ، وفي روايته في تفسير المدثر "فجئثت" وكذا لمسلم وزاد: "فجئثت منه فرقا" . وفي رواية معمر فيه: "فجئثت" وهذه اللفظة بضم الجيم، وذكر عياض أنه وقع للقابسي بالمهملة قال: وفسره بأسرعت، قال: ولا يصح مع قوله: "حتى هويت" أي سقطت من الفزع. قلت: ثبت في رواية عبد الله بن يوسف عن الليث في ذكر الملائكة من بدء الخلق ولكنها بضم المهملة وكسر المثلثة بعدها مثناة تحتانية ساكنة ثم مثناة فوقانية، ومعناها إن كانت محفوظة سقطت على وجهي حتى صرت كمن حثى عليه التراب. قال النووي: وبعد الجيم مثلثتان في رواية عقيل ومعمر. وفي رواية يونس بهمزة مكسورة ثم مثلثة وهي أرجح من حيث المعنى، قال أهل اللغة: جئت الرجل فهو مجئوت إذا فزع، وعن الكسائي جئث وجثث فهو مجئوث ومجثوث أي مذعور. قوله: "فقلت زملوني زملوني" في رواية يحيى بن أبي كثير "فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا" وكأنه رواها بالمعنى، والتزميل والتدثير يشتركان في الأصل وإن كانت بينهما مغايرة في الهيئة. ووقع في رواية مسلم: "فقلت دثروني، فدثروني وصبوا علي ماء" ويجمع بينهما بأنه أمرهم فامتثلوا. وأغفل بعض الرواة ذكر الأمر بالصب، والاعتبار بمن ضبط، وكأن الحكمة في الصب بعد التدثر طلب حصول السكون لما وقع في الباطن من الانزعاج، أو أن العادة أن الرعدة تعقبها الحمى، وقد عرف من الطب النبوي معالجتها بالماء البارد. قوله: "فنزلت {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} يعرف من اتحاد الحديثين في نزول يا أيها المدثر عقب قوله دثروني وزملوني أن المراد بزملوني دثروني، ولا يؤخذ من ذلك نزول يا أيها المزمل حينئذ لأن نزولها تأخر عن نزول يا أيها المدثر بالاتفاق، لأن أول يا أيها المدثر الأمر بالإنذار وذلك أول ما بعث، وأول المزمل الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن فيقتضي تقدم نزول كثير من القرآن قبل ذلك، وقد تقدم في تفسير المدثر أنه نزل من أولها إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وفيها محصل ما يتعلق بالرسالة، ففي الآية الأولى المؤانسة بالحالة التي هو عليها من التدثر إعلاما بعظيم قدره، وفي الثانية الأمر بالإنذار قائما وحذف المفعول تفخيما، والمراد بالقيام إما حقيقته أي قم من مضجعك، أو مجازه أي قم مقام تصميم، وأما الإنذار فالحكمة في الاقتصار عليه هنا فإنه أيضا بعث مبشرا لأن ذلك كان أول الإسلام، فمتعلق الإنذار محقق؛ فلما أطاع من أطاع نزلت: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} وفي الثانية تكبير الرب تمجيدا وتعظيما، ويحتمل الحمل على تكبير الصلاة كما حمل الأمر بالتطهير على طهارة البدن والثياب كما تقدم البحث فيه وفي الآية الرابعة، وأما الخامسة فهجران ما ينافي التوحيد وما يئول إلى العذاب، وحصلت المناسبة بين السورتين المبتدأ بهما النزول فيما اشتملتا عليه من المعاني الكثيرة باللفظ الوجيز وفي عدة ما نزل من كل منهما ابتداء والله أعلم. قوله:"قال أبو سلمة: وهي الأوثان التي كان أهل الجاهلية يعبدون" تقدم شرح ذلك في تفسير المدثر، وتقدم الكثير من شرح حديث عائشة وجابر في بدء الوحي، وبقيت منهما فوائد أخرتها إلى كتاب التعبير ليأخذ كل موضع ساقهما المصنف فيه مطولا بقسط من الفائدة. قوله: "ثم تتابع الوحي" أي استمر نزوله.

(8/722)


2- بَاب قَوْلُهُ {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}
4955- حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا

(8/722)


قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}
قوله "بَاب قَوْلُهُ {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} ذكر فيه طرفا من الحديث الذي قبله برواية عقيل عن بن شهاب واختصره جدا قال أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة وفي رواية الكشميهني الصادقة قال فجاءه الملك فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم وهذا في غاية الإجحاف ولا أظن يحيى بن بكير حدث البخاري به هكذا ولا كان له هذا التصرف وإنما هذا صنيع البخاري وهو دال على أنه كان التابعين الاختصار من الحديث إلى هذه الغاية.

(8/723)


3- بَاب قَوْلُهُ {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}
4956- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ جَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
قوله "باب قوله" {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} "حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري ح. وقال الليث حدثني عقيل قال قال محمد أخبرني عروة" أما رواية معمر فسيأتي بتمامها في أول التعبير، وأما رواية الليث فوصلها المصنف في بدء الوحي، ثم في الذي قبله، ثم في التعبير، أخرجه في المواضع الثلاثة عن يحيى بن بكير عن الليث. فأما في بدء الوحي فأفرده، وأما في الذي قبله فاختصره جدا، وساقه قبله بتمامه لكن قرنه برواية يونس وساقه على لفظ يونس، وأما التعبير فقرنه برواية معمر وساقه على لفظ معمر أيضا، ولكن لم يقع في شيء من المواضع المذكورة" حدثني عقيل قال قال محمد "وإنما في بدء الوحي" عن عقيل عن ابن شهاب" وكذا في بقية المواضع، وكذا ذكره عن عبد الله بن يوسف عن الليث في الباب الذي بعد هذا، وذكره في بدء الخلق عنه عن الليث بلفظ: "حدثني عقيل عن ابن شهاب" ورواه أبو صالح عبد الله بن صالح عن الليث" حدثني عقيل قال قال محمد بن شهاب" فساقه بتمامه، وقد ذكر المصنف متابعة أبي صالح في بدء الوحي، وبينت هناك من وصلها ولله الحمد.

(8/723)


باب {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
4957- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قوله: "باب {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} "كذا لأبي ذر، وسقطت الترجمة لغيره، وأورد طرفا من حديث بدء الوحي عن عبد الله بن يوسف عن الليث مقتصرا منه على قوله: "فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فقال: زملوني زملوني ، فذكر الحديث:"كذا فيه، وقد ذكر من الحديث في ذكر الملائكة من بدء الخلق حديث جابر مقتصرا عليه.

(8/723)


4- باب {كَلاَ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}
4958- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لاَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لَوْ فَعَلَهُ لاَخَذَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ" تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ
قوله: "باب {كَلاَ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} "سقط لغير أبي ذر "باب" ومن "ناصية" إلى آخره. قوله: "عن عبد الكريم الجزري" هو ابن مالك وهو ثقة، وفي طبقته عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف. قوله: "قال أبو جهل" هذا مما أرسله ابن عباس، لأنه لم يدرك زمن قول أبي جهل ذلك، لأن مولده قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وقد أخرج ابن مردويه بإسناد ضعيف عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن العباس بن عبد المطلب قال: "كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل فقال: إن لله علي إن رأيت محمدا ساجدا" فذكر الحديث. قوله: "لو فعله لأخذته الملائكة" وقع عند البلاذري" نزل اثنا عشر ملكا من الزبانية رءوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض" وزاد الإسماعيلي في آخره من طريق معمر عن عبد الكريم الجزري "قال ابن عباس لو تمنى اليهود الموت لماتوا، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا" . وأخرج النسائي من طريق أبي حازم عن أبي هريرة نحو حديث ابن عباس وزاد في آخره: "فلم يفجأهم منه إلا وهو - أي أبو جهل - ينكص على عقبيه ويتقي بيده، فقيل له، فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو دنا لاختطفته الملائكة عضوا عضوا" وإنما شدد الأمر في حق أبي جهل، ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبي معيط حيث طرح سلي الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلي كما تقدم شرحه في الطهارة لأنهما وان اشتركا في مطلق الأذية حالة صلاته لكن زاد أبو جهل بالتهديد وبدعوى أهل طاعته وبإرادة وطء العنق الشريف، وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة لو فعل ذلك، ولأن سلي الجزور لم يتحقق نجاستها، وقد عوقب عقبة بدعائه صلى الله عليه وسلم عليه وعلى من شاركه في فعله فقتلوا يوم بدر. قوله: "تابعه عمرو بن خالد عن عبيد الله عن عبد الكريم" أما عمرو بن خالد فهو من شيوخ البخاري وهو الحراني ثقة مشهور، وأما عبيد الله فهو ابن عمرو الرقي، وعبد الكريم هو الجزري المذكور، وهذه المتابعة وصلها علي بن عبد العزيز البغوي في "منتخب المسند" له عن عمرو بن خالد بهذا؛ وقد أخرجه ابن مردويه من طريق زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو بالسند المذكور ولفظه بعد قوله لو فعل لأخذته الملائكة "عيانا ولو أن اليهود" إلى آخر الزيادة التي ذكرتها من عند الإسماعيلي، وزاد بعد قوله لماتوا "ورأوا مقاعدهم من النار"

(8/724)


97- سُورَةُ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}
يُقَالُ الْمَطْلَعُ هُوَ الطُّلُوعُ وَالْمَطْلِعُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُطْلَعُ مِنْهُ أَنْزَلْنَاهُ الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ الْقُرْآنِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَمِيعِ وَالْمُنْزِلُ هُوَ اللَّهُ وَالْعَرَبُ تُوَكِّدُ فِعْلَ الْوَاحِدِ فَتَجْعَلُهُ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ لِيَكُونَ أَثْبَتَ وَأَوْكَدَ

(8/724)


قوله سورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} في رواية غير أبي ذر "سورة القدر" . قوله: "يقال المطلع هو الطلوع، والمطلع الموضع الذي يطلع منه" قال الفراء: المطلع بفتح اللام، وبكسرها قرأ يحيى بن وثاب، والأول أولى لأن المطلع بالفتح هو الطلوع وبالكسر الموضع والمراد هنا الأول انتهى. وقرأ بالكسر أيضا الكسائي والأعمش وخلف وقال الجوهري: طلعت الشمس مطلعا ومطلعا أي بالوجهين. قوله: "أنزلناه الهاء كناية عن القرآن" أي الضمير راجع إلى القرآن وإن لم يتقدم له ذكر. قوله: "إنا أنزلناه خرج مخرج الجميع، والمنزل هو الله تعالى. والعرب تؤكد فعل الرجل الواحد فتجعله بلفظ الجميع ليكون أثبت وأوكد" هو قول أبي عبيدة، ووقع في رواية أبي نعيم في "المستخرج" نسبته إليه قال: قال معمر، وهو اسم أبي عبيدة كما تقدم غير مرة. وقوله: "ليكون أثبت وأوكد" قال ابن التين: النحاة يقولون بأنه للتعظيم. بقوله المعظم عن نفسه ويقال عنه، انتهى. وهذا هو المشهور أن هذا جمع التعظيم.
" تنبيه " : لم يذكر في سورة القدر حديثا مرفوعا، ويدخل فيها حديث: "من قام ليلة القدر" وقد تقدم في أواخر الصيام.

(8/725)


98- سُورَةُ {لَمْ يَكُنْ} . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{مُنْفَكِّينَ} زَائِلِينَ {قَيِّمَةٌ} الْقَائِمَةُ {دِينُ الْقَيِّمَةِ} أَضَافَ الدِّينَ إِلَى الْمُؤَنَّثِ
قوله: "سورة {لَمْ يَكُنْ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر، ويقال لها أيضا سورة القيمة، وسورة البينة. قوله: "منفكين زائلين" هو قول أبي عبيدة. قوله: "قيمة القائمة دين القيمة أضاف الدين إلى المؤنث" هو قول أبي عبيدة بلفظه. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان قال: القيمة الحساب المبين.
1- باب 4959- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم لأُبَيٍّ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ وَسَمَّانِي قَالَ نَعَمْ فَبَكَى"
2- باب 4960- حدثنا حسان بن حسان حدثنا همام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن قال أبي: آلله سماني لك قال الله سماك لي فجعل أبي يبكي قال قتادة: فأنبئت أنه قرأ عليه {مْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
قوله: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} كذا في رواية شعبة، وبين في رواية همام أن تسمية السورة لم يحمله قتادة عن أنس فإنه قال في آخر الحديث:"قال قتادة: فأنبئت أنه قرأ عليه {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} "وسقط بيان ذلك من رواية سعيد بن أبي عروبة، هذا ما في هذه الطرق الثلاثة التي أخرجها البخاري وقد أخرجه الحاكم وأحمد والترمذي من طريق زر بن حبيش عن أبي بن كعب نفسه مطولا ولفظه: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال فقرأ عليه {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} . والجمع بين الروايتين حمل المطلق على المقيد لقراءته لم يكن دون غيرها، فقيل: الحكمة في تخصيصها بالذكر لأن فيها {يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} ، وفي تخصيص أبي

(8/725)


بن كعب التنويه به في أنه أقرأ الصحابة، فإذا قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم منزلته كان غيره بطريق التبع له، وقد تقدم في المناقب مزيد كلام في ذلك.
3- باب 4961- حَدَّثَنَا أحمد بن أبي داوود أَبُو جَعْفَرٍ الْمُنَادِي حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ قَالَ أَاللَّهُ سَمَّانِي لَكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ نَعَمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاه"
قوله: "حدثني أحمد بن أبي داود أبو جعفر المنادي" كذا وقع عند الفريابي عن البخاري، والذي وقع عند النسفي" حدثني أبو جعفر المنادي" حسب، فكأن تسميته من قبل الفربري. فعلى هذا لم يصب من وهم البخاري فيه، وكذا من قال إنه كان يرى أن محمدا وأحمد شيء واحد، وقد ذكر ذلك الخطيب عن اللالكائي احتمالا، قال: واشتبه على البخاري، قال: وقيل كان لأبي جعفر أخ اسمه أحمد، قال: وهو باطل والمشهور أن اسم أبي جعفر هذا محمد وهو ابن عبيد الله بن يزيد وأبو داود كنية أبيه، وليس لأبي جعفر في البخاري سوى هذا الحديث، وقد عاش بعد البخاري ستة عشر عاما، ولكنه عمر وعاش مائة سنة وسنة وأشهرا، وقد سمع منه هذا الحديث بعينه من لم يدرك البخاري وهو أبو عمرو بن السماك فشارك البخاري في روايته عن ابن المنادي هذا الحديث وبينهما في الوفاة ثمان وثمانون سنة، وهو من لطيف ما وقع من نوع السابق واللاحق. قوله: "أن أقرئك" أي أعلمك بقراءتي عليك كيف تقرأ حتى لا تتخالف الروايتان، وقيل: الحكمة فيه لتحقق قوله تعالى فيها {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} . قوله: "فذرفت" بفتح الراء وقبلها الذال معجمة، أي تساقطت بالدموع، وقد تقدم شرح الحديث في مناقب أبي بن كعب.

(8/726)


سورة {إذا زلزلت الأرض زلزالها}: باب قوله {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}
...
99- سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1- باب قَوْلُهُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}
يُقَالُ {أَوْحَى لَهَا} أَوْحَى إِلَيْهَا وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إِلَيْهَا وَاحِدٌ
حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الخيل لثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به كان ذلك حسنات له فهي لذلك الرجل أجر ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر قال ما أنزل الله علي فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة:

(8/726)


{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}

(8/727)


2- بَاب {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
4963- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ فَقَالَ: " لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
قوله: "سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ} . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" : "باب قوله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} إلخ" سقط "باب قوله:"لغير أبي ذر. قوله: "أوحي لها يقال أوحي لها وأوحي إليها ووحى لها ووحى إليها واحد" قال أبو عبيدة في قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} : قال العجاج: أوحي لها القرار فاستقرت. وقيل اللام بمعنى من أجل والموحى إليه محذوف أي أأوحي إلى الملائكة من أجل الأرض، والأول أصوب. وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: "أوحي لها أوحي إليها" ثم ذكر فيه حديث أبي هريرة "الخيل لثلاثة" وفي آخره: "فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر" الحديث، ثم ساقه من وجه آخر عن مالك بسنده المذكور مقتصرا على القصة الآخرة، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب الجهاد.

(8/727)


سورة العاديات والقارعة
...
100- سُورَةُ وَالْعَادِيَاتِ والقارعة
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْكَنُودُ الْكَفُورُ يُقَالُ {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} رَفَعْنَا بِهِ غُبَارًا {لِحُبِّ الْخَيْرِ} مِنْ أَجْلِ حُبِّ الْخَيْرِ {لَشَدِيدٌ} لَبَخِيلٌ وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ شَدِيدٌ حُصِّلَ مُيِّزَ
قوله: "والعاديات والقارعة" كذا لأبي ذر، ولغيره: "والعاديات" حسب، والمراد بالعاديات الخيل، وقيل الإبل. قوله: "وقال مجاهد: الكنود الكفور" وصله الفريابي عن مجاهد بهذا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مثله، ويقال إنه بلسان قريش الكفور وبلسان كنانة البخيل وبلسان كندة العاصي، وروى الطبراني من حديث أبي أمامة رفعه: "الكنود الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده ". قوله: "يقال فأثرن به نقعا رفعن به غبارا" هو قول أبي عبيدة والمعنى أن الخيل التي أغارت صباحا أثرن به غبارا. والضمير في" به" للصبح، أي أثرن به وقت الصبح. وقيل للمكان، وهو وإن لم يجر له ذكر لكن دلت عليه الإثارة. وقيل الضمير للعدو الذي دلت عليه العاديات. وعند البزار والحاكم من حديث ابن عباس قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا فلبثت شهرا لا يأتيه خبرها، فنزلت: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} ضبحت بأرجلها {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} قدحت الحجارة فأورت بحوافرها {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً} صبحت القوم بغارة {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} التراب {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} صبحت القوم جميعا" وفي إسناده ضعف، وهو مخالف لما روى ابن مردويه بإسناد أحسن منه عن ابن عباس قال: "سألني رجل عن العاديات فقلت: الخيل، قال فذهب إلى علي فسأله فأخبره بما قلت، فدعاني فقال لي: إنما العاديات الإبل من عرفة إلى مزدلفة" الحديث. وعند سعيد بن منصور من طريق حارثة بن مضرب قال:

(8/727)


101- سُورَةُ الْقَارِعَةِ
{كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } كَغَوْغَاءِ الْجَرَادِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَذَلِكَ النَّاسُ يَجُولُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ {كَالْعِهْنِ} كَأَلْوَانِ الْعِهْنِ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ كَالصُّوفِ
قوله: "سورة القارعة" كذا لغير أبي ذر، واكتفى بذكرها مع التي قبلها. قوله: {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضا. كذلك الناس يجول بعضهم في بعض" هو كلام الفراء، قال في قوله {كَالْفَرَاشِ} يريد كغوغاء الجراد إلخ. وقال أبو عبيدة: الفراش طير لا ذباب ولا بعوض، والمبثوث المتفرق، وحمل الفراش على حقيقته أولى، والعرب تشبه بالفراش كثيرا كقول جرير:
إن الفرزدق ما علمت وقومه ... مثل الفراش غشين نار المصطلى
وصفهم بالحرص والتهافت: وفي تشبيه الناس يوم البعث بالفراش مناسبات كثيرة بليغة، كالطيش والانتشار والكثرة والضعف والذلة والمجيء بغير رجوع والقصد إلى الداعي والإسراع وركوب بعضهم بعضا والتطاير إلى النار. قوله: "كالعهن كألوان العهن" سقط هذا لأبي ذر، وهو قول الفراء قال: كالعهن لأن ألوانها مختلفة كالعهن وهو الصوف. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة قال: كالعهن كالصوف. قوله: "وقرأ عبد الله كالصوف" سقط هذا لأبي ذر. وهو بقية كلام الفراء، قال: في قراءة عبد الله - يعني ابن مسعود "كالصوف المنفوش" .

(8/728)


102- سُورَةُ {أَلْهَاكُمْ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {التَّكَاثُرُ} مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ
قوله: "سورة {أَلْهَاكُمْ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" كذا لأبي ذر، ويقال لها سورة التكاثر. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن أبي هلال قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمونها المقبرة. قوله: "وقال ابن عباس: التكاثر من الأموال والأولاد" وصله ابن المنذر من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس.
" تنبيه " لم يذكر في هذه السورة حديثا مرفوعا وسيأتي في الرقاق من حديث أبي بن كعب ما يدخل فيها

(8/728)


103- سُورَةُ {وَالْعَصْرِ}
وَقَالَ يَحْيَى: "الْعَصْرُ" الدَّهْرُ، أَقْسَمَ بِهِ

(8/728)


104- سُورَةُ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْحُطَمَةُ} اسْمُ النَّارِ مِثْلُ سَقَرَ وَ لَظَى
قوله: "سورة {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" كذا لأبي ذر، ويقال لها أيضا سورة الهمزة، والمراد الكثير الهمز، وكذا اللمز. وأخرج سعيد بن منصور من حديث ابن عباس أنه سئل عن الهمزة قال: المشاء بالنميمة، المفرق بين الإخوان. قوله: "الحطمة اسم النار، مثل سقر ولظى" هو قول الفراء، قال في قوله: {لَيُنْبَذَنَّ} أي الرجل وماله، "في الحطمة" اسم من أسماء النار، كقوله جهنم وسقر ولظى.
وقال أبو عبيدة: يقال للرجل الأكول حطمة، أي الكثير الحطم.

(8/729)


105- سُورَةُ {أَلَمْ تَرَ}
قال مجاهد: {أَلَمْ تَرَ} أَلَمْ تَعْلَمْ. وقَالَ مُجَاهِدٌ {أَبَابِيلَ} مُتَتَابِعَةً مُجْتَمِعَةً وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {مِنْ سِجِّيلٍ} هِيَ سَنْكِ وَكِلْ
قوله: "سورة {أَلَمْ تَرَ} "كذا لهم، ويقال لها أيضا سورة الفيل. قوله: "ألم تر ألم تعلم" كذا لغير أبي ذر. وللمستملي ألم تر. قال مجاهد: ألم تر ألم تعلم، والصواب الأول فإنه ليس من تفسير مجاهد. وقال الفراء: ألم تخبر عن الحبشة والفيل، وإنما قال ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم يدرك قصة أصحاب الفيل لأنه ولد في تلك السنة. قوله: "أبابيل: متتابعة مجتمعة" وصله الفريابي عن مجاهد في قوله أبابيل قال: شتى متتابعة. وقال الفراء: لا واحد لها. وقيل: واحدها أبالة بالتخفيف، وقيل بالتشديد، وقيل أبول كعجول وعجاجيل. قوله: "وقال ابن عباس: من سجيل هي سنك وكل" وصله الطبري من طريق السدي عن عكرمة عن ابن عباس قال: سنك وكل، طين وحجارة. وقد تقدم في تفسير سورة هود، ووصله ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه جرير بن حازم عن يعلى بن حكيم عن عكرمة، وروى الطبري من طريق عبد الرحمن بن سابط قال: هي بالأعجمية سنك وكل. ومن طريق حصين عن عكرمة قال: كانت ترميهم بحجارة معها نار، قال: فإذا أصابت أحدهم خرج به الجدري، وكان أول يوم رئي فيه الجدري.

(8/729)


106- سُورَةُ {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لإِيلاَفِ} أَلِفُوا ذَلِكَ فَلاَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَ {آمَنَهُمْ} مِنْ كُلِّ عَدُوِّهِمْ فِي حَرَمِهِمْ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لإِيلاَفِ لِنِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ
قوله: سورة لإِيلاف" قيل اللام متعلقة بالقصة التي في السورة التي قبلها ويؤيده أنهما في مصحف أبي بن كعب سورة واحدة. وقيل متعلقة بشيء مقدر أي أعجب لنعمتي على قريش. قوله: "وقال مجاهد: لإيلاف ألفوا ذلك فلا يشق عليهم في الشتاء والصيف، وآمنهم من خوف قال: من كل عدو في حرمهم" وأخرج ابن مردويه من أوله إلى قوله والصيف من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس. قوله: "وقال ابن عيينة لإيلاف: لنعمتي على قريش" هو كذلك في تفسير ابن عيينة رواية سعيد بن عبد الرحمن عنه، ولابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله. "تنبيهان" الأول قرأ الجمهور لإيلاف بإثبات الياء إلا ابن عامر فحذفها، واتفقوا على إثباتها في قوله: {إِيلافِهِمْ} إلا في رواية عن ابن عامر فكالأول، وفي أخرى عن ابن كثير بحذف الأولى التي بعد اللام أيضا.
وقال الخليل بن أحمد: دخلت الفاء في قوله: {فَلْيَعْبُدُوا} لما في السياق من معنى الشرط، أي فإن لم يعبدوا رب هذا البيت لنعمته السالفة فليعبدوه للائتلاف المذكور. الثاني لم يذكر في هذه السورة ولا التي قبلها حديثا مرفوعا، فأما سورة الهمزة ففي صحيح ابن حبان من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يحسب أن ماله أخلده" يعني بفتح السين وأما سورة الفيل ففيها من حديث المسور الطويل في صلح الحديبية. قوله: "حبسها حابس الفيل" قد تقدم شرحه مستوفى في الشروط، وفيها حديث ابن عباس مرفوعا: "إن الله حبس عن مكة الفيل" الحديث. وأما هذه السورة فلم أر فيها حديثا مرفوعا صحيحا.

(8/730)


107- سُورَةُ {أَرَأَيْتَ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يَدُعُّ} يَدْفَعُ عَنْ حَقِّهِ يُقَالُ هُوَ مِنْ دَعَعْتُ يُدَعُّونَ يُدْفَعُونَ سَاهُونَ لاَهُونَ وَ {الْمَاعُونَ} الْمَعْرُوفَ كُلُّهُ وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ الْمَاعُونُ الْمَاءُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَعْلاَهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَأَدْنَاهَا عَارِيَّةُ الْمَتَاعِ
قوله: "سورة {أَرَأَيْتَ} " كذا لهم، ويقال لها أيضا سورة الماعون. قال الفراء: قرأ ابن مسعود "أرأيتك الذي يكذب" قال: والكاف صلة، والمعنى في إثباتها وحذفها لا يختلف، كذا قال، لكن التي بإثبات الكاف قد تكون بمعنى أخبرني، والتي بحذفها الظاهر أنها من رؤية البصر. قوله: "وقال مجاهد: يدع يدفع عن حقه، يقال هو من دععت، يدعون يدفعون" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ} أي يدفعون، يقال دععت في قفاه أي دفعت. وفي رواية أخرى {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} قال وقال بعضهم: يدع اليتيم مخففة، قلت: وهي قراءة الحسن وأبي رجاء ونقل عن علي أيضا. وأخرج الطبري من طريق مجاهد قال: يدع يدفع اليتيم عن حقه. وفي قوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} قال: يدفعون. قوله: "ساهون لاهون" وصله الطبري أيضا من طريق مجاهد في قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} . قال: لاهون. وقال الفراء كذلك فسرها ابن عباس، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، وجاء ذلك في حديث أخرجه عبد الرزاق وابن مردويه من رواية مصعب بن سعد عن أبيه أنه سأله

(8/730)


عن هذه الآية قال: أو ليس كنا نفعل ذلك، الساهي هو الذي يصليها لغير وقتها. قوله: "والماعون المعروف كله. وقال بعض العرب: الماعون الماء. وقال عكرمة: أعلاها الزكاة المفروضة وأدناها عارية المتاع" أما القول الأول فقال الفراء قال بعضهم: أن الماعون المعروف كله، حتى ذكر القصعة والدلو والفأس ولعله أراد ابن مسعود فإن الطبري أخرج من طريق سلمة بن كهيل عن أبي المغيرة سأل رجل ابن عمر عن الماعون، قال: المال الذي لا يؤدى حقه. قال قلت: إن ابن مسعود يقول هو المتاع الذي يتعاطاه الناس بينهم، قال: هو ما أقول لك. وأخرجه الحاكم أيضا وزاد في رواية أخرى عن ابن مسعود: هو الدلو والقدر والفأس. وكذا أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن مسعود بلفظ: "كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر" وإسناده صحيح إلى ابن مسعود. وأخرجه البزار والطبراني من حديث ابن مسعود مرفوعا صريحا. وأخرج الطبراني من حديث أم عطية قالت: ما يتعاطاه الناس بينهم. وأما القول الثاني فقال الفراء سمعت بعض العرب يقول: الماعون هو الماء، وأنشد "يصب صبيرة الماعون صبا" . قلت: وهذا يمكن تأويله وصبيرة جبل باليمن معروف وهو بفتح المهملة وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة وآخره راء، وأما قول عكرمة فوصله سعيد بن منصور بإسناد إليه باللفظ المذكور. وأخرج الطبري والحاكم من طريق مجاهد عن على مثله.
" تنبيه " لم يذكر المصنف في تفسير هذه السورة حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث ابن مسعود المذكور قبل.

(8/731)


108- سُورَةُ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَانِئَكَ عَدُوَّكَ
1- باب 4964- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: "أَتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفاً فَقُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا الْكَوْثَر"
4965- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَتْ نَهَرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُوم" رَوَاهُ زَكَرِيَّاءُ وَأَبُو الأَحْوَصِ وَمُطَرِّفٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
4966- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ قَالَ أَبُو بِشْرٍ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ سَعِيدٌ النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاه"
[الحديث 4966- طرفه في: 6578]
قوله: "سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} "هي سورة الكوثر. وقد قرأ ابن محيصن إنا أنطيناك الكوثر بالنون، وكذا قرأها طلحة بن مصرف. والكوثر فوعل من الكثرة سمي بها النهر لكثرة مائه وآنيته وعظم قدره وخيره.

(8/731)


قوله: {شَانِئَكَ} عدوك في رواية المستملي: وقال ابن عباس. وقد وصله ابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كذلك. واختلف الناقلون في تعيين الشانئ المذكور فقيل هو العاصي بن وائل، وقيل أبو جهل، وقيل عقبة بن أبي معيط. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: الأول حديث أنس وقد تقدم شرحه في أوائل المبعث في قصة الإسراء في أواخرها، ويأتي بأوضح من ذلك في أواخر كتاب الرقاق. وقوله: "لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر. هكذا اقتصر على بعضه. وساقه البيهقي من طريق إبراهيم بن الحسن عن آدم شيخ البخاري فيه فزاد بعد قوله الكوثر" والذي أعطاك ربك، فأهوى الملك بيده فاستخرج من طينه مسكا أذفر" وأورده البخاري بهذه الزيادة في الرقاق من طريق همام عن أبي هريرة. الثاني حديث عائشة، وأبو عبيدة رواية عنها هو ابن عبد الله بن مسعود. قوله: "عن عائشة قال سألتها" في رواية النسائي: "قلت لعائشة" . قوله: "عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} " في رواية النسائي: "ماء الكوثر" . قوله: "هو نهر أعطيه نبيكم" زاد النسائي: "في بطنان الجنة. قلت ما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها" انتهى. وبطنان بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون، ووسط بفتح المهملة والمراد به أعلاها أي أرفعها قدرا، أو المراد أعدلها. قوله: "شاطئاه" أي حافتاه. قوله: "در مجوف" أي القباب التي على جوانبه. قوله: "رواه زكريا وأبو الأحوص ومطرف عن أبي إسحاق" أما زكريا فهو ابن أبي زائدة، وروايته عند علي ابن المديني عن يحيى بن زكريا عن أبيه، ولفظه قريب من لفظ أبي الأحوص. وأما رواية أبي الأحوص وهو سلام ابن سليم فوصلها أبو بكر بن أبي شيبة عنه ولفظه: "الكوثر نهر بفناء الجنة شاطئاه در مجوف؛ وفيه من الأباريق عدد النجوم" وأما رواية مطرف وهو ابن طريف بالطاء المهملة فوصلها النسائي من طريقه، وقد بينت ما فيها من زيادة. حديث ابن عباس من رواية أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه أنه قال في الكوثر" هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال قلت لسعيد بن جبير عنه أنه قال في الكوثر: فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه" . هذا تأويل من سعيد بن جبير جمع به بين حديثي عائشة وابن عباس، وكأن الناس الذين عناهم أبو بشر أبو إسحاق وقتادة ونحوهما ممن روي ذلك صريحا أن الكوثر هو النهر، وقد أخرج الترمذي من طريق ابن عمر رفعه: "الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت" الحديث قال: إنه حسن صحيح. وفي صحيح مسلم من طريق المختار بن فلفل عن أنس "بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ غفا إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت على سورة. فقرأ. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. إنا أعطيناك الكوثر} إلى آخرها، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة" الحديث. وحاصل ما قاله سعيد بن جبير أن قول ابن عباس إنه الخير الكثير لا يخالف قول غيره إن المراد به نهر في الجنة، لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير، ولعل سعيدا أومأ إلى أن تأويل ابن عباس أولى لعمومه، لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فلا معدل عنه. وقد نقل المفسرون في الكوثر أقوالا أخرى غير هذين تزيد على العشرة، منها قول عكرمة: الكوثر النبوة، وقول الحسن: الكوثر القرآن، وقيل تفسيره، وقيل الإسلام، وقيل إنه التوحيد، وقيل كثرة الأتباع، وقيل الإيثار، وقيل رفعة الذكر، وقيل نور القلب، وقيل الشفاعة،

(8/732)


وقيل المعجزات؛ وقيل إجابة الدعاء، وقيل الفقه في الدين، وقيل الصلوات الخمس. وسيأتي مزيد بسط في أمر الكوثر وهل الحوض النبوي هو أو غيره في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(8/733)


109- سُورَةُ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
يُقَالُ {لَكُمْ دِينُكُمْ} الْكُفْرُ {وَلِيَ دِينِ} الإِسْلاَمُ وَلَمْ يَقُلْ دِينِي لأَنَّ الآيَاتِ بِالنُّونِ فَحُذِفَتْ الْيَاءُ كَمَا قَالَ يَهْدِينِ وَ يَشْفِينِ وَقَالَ غَيْرُهُ {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الْآنَ وَلاَ أُجِيبُكُمْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي {وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}
قوله: "سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} "وهي سورة الكافرين، ويقال لها أيضا المقشقشة أي المبرئة من النفاق. قوله: "يقال لكم دينكم الكفر، ولي دين الإسلام. ولم يقل ديني لأن الآيات بالنون فحذفت الياء كما فال يهدين ويشفين" هو كلام الفراء بلفظه. قوله: "وقال غيره: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلخ" سقط "وقال غيره:"لأبي ذر والصواب إثباته لأنه ليس من بقية كلام الفراء بل هو كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ": كأنهم دعوه إلى أن يعبد آلهتهم ويعبدون إلهه فقال: لا أعبد ما تعبدون في الجاهلية، ولا أنتم عابدون ما أعبد في الجاهلية والإسلام، ولا أنا عابد ما عبدتم الآن، أي لا أعبد الآن ما تعبدون ولا أجيبكم فيما بقي أن أعبد ما تعبدون وتعبدون ما أعبد انتهى. وقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس قال: "قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: كف عن آلهتنا فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فنزلت وفي إسناده أبو خلف عبد الله بن عيسى، وهو ضعيف.
" تنبيه " لم يورد في هذه السورة حديثا مرفوعا، ويدخل فيها حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد" أخرجه مسلم، وقد ألزمه الإسماعيلي بذلك حيث قال في تفسير والتين والزيتون لما أورد البخاري حديث البراء "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بها في العشاء" قال الإسماعيلي: ليس لإيراد هذا معنى هنا، وإلا للزمه أن يورد كل حديث وردت فيه قراءته لسورة مسماة في تفسير تلك السورة.

(8/733)


سورة {إذا جاء نصر الله والفتح}
...
110- سُورَةُ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1- باب 4967- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلاَّ يَقُولُ فِيهَا: "سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي"
2- باب 4968- حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن.

(8/733)


باب {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا}
...
3- باب قَوْلُهُ {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}
4969- حدثنا عبد الله بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن بن عباس ثم أن عمر رضي الله عنه سألهم عن قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قالوا فتح المدائن والقصور قال ما تقول يا بن عباس قال أجل أو مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت له نفسه"
قوله: "باب قوله {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} "ذكر فيه حديث ابن عباس أن عمر سألهم عن قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وسأذكر شرحه في الباب الذي يليه.

(8/734)


4- باب قَوْلُهُ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}
تَوَّابٌ عَلَى الْعِبَادِ وَالتَّوَّابُ مِنْ النَّاسِ التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ
4970- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ

(8/734)


111- سُورَةُ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تباب: خسران، تتبيب: تدمير.

(8/736)


1- باب 4971- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وَرَهْطَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ: "يَا صَبَاحَاهْ" فَقَالُوا مَنْ هَذَا فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ قَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلاَّ لِهَذَا ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وَقَدْ تَبَّ هَكَذَا قَرَأَهَا الأَعْمَشُ يَوْمَئِذ"
قوله: "سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. وأبو لهب هو ابن عبد المطلب واسمه عبد العزى. وأمه خزاعية. وكني أبا لهب إما بابنه لهب، وإما بشدة حمرة وجنته. وقد أخرج الفاكهي من طريق عبد الله بن كثير قال: إنما سمي أبا لهب لأن وجهه كان يتلهب من حسنه انتهى. ووافق ذلك ما آل إليه أمره من أنه سيصلى نارا ذات لهب، ولهذا ذكر في القرآن بكنيته دون اسمه، ولكونه بها أشهر، ولأن في اسمه إضافة إلى الصنم. ولا حجة فيه لمن قال بجواز تكنية المشرك على الإطلاق، بل محل الجواز إذا لم يقتض ذلك التعظيم له أودعت الحاجة إليه. قال الواقدي: كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان السبب في ذلك أن أبا طالب لاحى أبا لهب فقعد أبو لهب على صدر أبي طالب فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بضبعي أبي لهب فضرب به الأرض، فقال له أبو لهب: كلانا عمك، فلم فعلت بي هذا؟ والله لا يحبك قلبي أبدا. وذلك قبل النبوة. وقال له إخوته لما مات أبو طالب: لو عضدت ابن أخيك لكنت أولى الناس بذلك. ولقيه فسأله عمن مضى من آبائه فقال: إنهم كانوا على غير دين، فغضب، وتمادى على عداوته. ومات أبو لهب بعد وقعة بدر، ولم يحضرها بل أرسل عنه بديلا، فلما بلغه ما جرى لقريش مات غما. قوله: {وَتَبَّ} : خسر. تباب: خسران "وقع في رواية ابن مردويه في حديث الباب من وجه آخر عن الأعمش في آخر الحديث قال: "فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ، قال يقول: خسر وتب" أي خسر وما كسب يعني ولده "وقال أبو عبيدة في قوله: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} قال: في هلكة. قوله: "تتبيب تدمير" قال أبو عبيدة في قوله: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي تدمير وإهلاك. قوله: "عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين" كذا وقع في رواية أبي أسامة عن الأعمش، وقد تقدم البحث فيه في تفسير سورة الشعراء مع بقية مباحث هذا الحديث وفوائده.

(8/737)


2- باب {وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}
4972- حدثنا محمد بن سلام أخبرنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد إلى الجبل فنادى: "يا صباحاه" فاجتمعت إليه قريش فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقونني قالوا نعم قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب ألهذا جمعتنا تبا لك فأنزل الله عز وجل {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخرها"

(8/737)


قوله: "باب قوله {وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} "ذكر فيه الحديث الذي قبله من وجه آخر. وقوله فيه: "فهتف" أي صاح. وقوله: "يا صباحاه" أي هجموا عليكم صباحا.

(8/738)


3- باب قَوْلُهُ {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}
قوله: "باب قوله {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} "ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور مختصرا، مقتصرا على قوله: "قال أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا، فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} "وقد قدمت أن عادة المصنف غالبا إذا كان للحديث طرق أن لا يجمعها في باب واحد، بل يجعل لكل طريق ترجمة تليق به، وقد يترجم بما يشتمل عليه الحديث وإن لم يسقه في ذلك الباب اكتفاء بالإشارة، وهذا من ذلك.

(8/738)


4- باب قَوْلِهِ {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {حَمَّالَةُ الْحَطَبِ} تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} يُقَالُ مِنْ مَسَدٍ لِيفِ الْمُقْلِ وَهِيَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي فِي النَّارِ
قوله: "باب {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} " قال أبو عبيدة: كان عيسى بن عمر يقرأ: {حَمَّالَةُ الْحَطَبِ} " بالنصب ويقول هو ذم لها. قلت: وقرأها بالنصب أيضا من الكوفيين عاصم. واسم امرأة أبي لهب العوراء وتكنى أم جميل، وهي بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان والد معاوية، وتقدم لها ذكر في تفسير والضحى، يقال إن اسمها أروى والعوراء لقب، ويقال لم تكن عوراء وإنما قيل لها ذلك لجمالها. وروى البزار بإسناد حسن عن ابن عباس قال: "لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} جاءت امرأة أبي لهب، فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو تنحيت، قال: " إنه سيحال بيني وبينها" ، فأقبلت فقالت: يا أبا بكر هجاني صاحبك، قال: لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يفوه به. قالت: إنك لمصدق. فلما ولت قال أبو بكر: ما رأتك. قال: "ما زال ملك يسترني حتى ولت" . وأخرجه الحميدي وأبو يعلى وابن أبي حاتم من حديث أسماء بنت أبي بكر بنحوه. وللحاكم من حديث زيد بن أرقم" لما {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} قيل لامرأة أبي لهب: إن محمدا هجاك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هل رأيتني أحمل حطبا، أو رأيت في جيدي حبلا" . قوله: "وقال مجاهد: حمالة الحطب تمشي بالنميمة" وصله الفريابي عنه. وأخرج سعيد بن منصور من طريق محمد بن سيرين قال: كانت امرأة أبي لهب تنم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المشركين. وقال الفراء: كانت تنم فتحرش فتوقد بينهم العداوة، فكنى عن ذلك بحملها الحطب. قوله: "في جيدها حبل من مسد يقال من مسد ليف المقل، وهي السلسلة التي في النار" قلت هما قولان حكاهما الفراء في قوله تعالى: {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قال: هي السلسلة التي في النار، ويقال المسد ليف المقل. وأخرج الفريابي من طريق مجاهد قال في قوله: {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قال: من حديد. قال أبو عبيدة. في عنقها حبل من نار، والمسد عند العرب حبال من ضروب.

(8/738)


112- سُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُقَالُ لاَ يُنَوَّنُ {أَحَدٌ} أَيْ وَاحِدٌ
1- باب 4974- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ"
قوله: "سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" ويقال لها أيضا سورة الإخلاص، وجاء في سبب نزولها من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب "إن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فنزلت. أخرجه الترمذي والطبري وفي آخره قال: "لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ولا شيء يموت إلا يورث، وربنا لا يموت ولا يورث ولم يكن له كفوا أحد، شبه ولا عدل" وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن أبي العالية مرسلا وقال: هذا أصح، وصحح الموصول ابن خزيمة والحاكم، وله شاهد من حديث جابر عند أبي يعلى والطبري والطبراني في الأوسط. قوله: "يقال لا ينون أحد أي واحد" كذا اختصره، والذي قاله أبو عبيدة: الله أحد لا ينون، كفوا أحد أى واحد انتهى. وهمزة أحد بدل من واو لأنه من الوحدة، وهذا بخلاف أحد المراد به العموم فإن همزته أصلية. وقال الفراء: الذي قرأ بغير تنوين يقول النون نون إعراب إذا استقبلتها الألف واللام حذفت، وليس ذلك بلازم انتهى. وقرأها بغير تنوين أيضا نصر بن عاصم ويحيى بن أبي إسحاق، ورويت عن أبي عمرو أيضا، وهو كقول الشاعر "عمرو العلى هشم الثريد لقومه" الأبيات. وقول الآخر "ولا ذاكر الله إلا قليلا" وهذا معنى قول الفراء" إذا استقبلها" أي إذا أتت بعدها. وأغرب الداودي فقال: إنما حذف التنوين لالتقاء الساكنين وهي لغة. كذا قال. قوله: "حدثنا أبو الزناد" لشعيب بن أبي حمزة فيه إسناد آخر أخرجه المصنف من حديث ابن عباس كما تقدم في تفسير سورة البقرة. قوله: "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى" تقدم في بدء الخلق من رواية سفيان الثوري عن أبي الزناد بلفظ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أراه يقول الله عز وجل" والشك فيه من المصنف فيما أحسب. قوله: "قال الله تعالى كذبني ابن آدم" سأذكر شرحه في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى.

(8/739)


باب {الله الصمد}
...
2 - باب قَوْلُهُ {اللَّهُ الصَّمَدُ}
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَشْرَافَهَا {الصَّمَدَ} قَالَ أَبُو وَائِلٍ هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُودَدُهُ
4975- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ إِنِّي لَنْ أُعِيدَهُ كَمَا بَدَأْتُهُ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُؤًا أَحَدٌ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤًا أَحَدٌ}كُفُؤًا وَكَفِيئًا وَكِفَاءً وَاحِدٌ"

(8/739)


قوله: "باب قوله {اللَّهُ الصَّمَدُ} "ثبتت هذه الترجمة لأبي ذر. قوله: "والعرب تسمى أشرافها الصمد". وقال أبو عبيدة الصمد السيد الذي يصمد إليه ليس فوقه أحد، فعلى هذا هو فعل بفتحتين بمعنى مفعول، ومن ذلك قول الشاعر:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
قوله: "قال أبو وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده" ثبت هذا للنسفي هنا، وقد وصله الفريابي طريق الأعمش عنه، وجاء أيضا من طريق عاصم عن أبي وائل فوصله بذكر ابن مسعود فيه. قوله: "حدثنا إسحاق بن منصور" كذا للجميع، قال المزي في "الأطراف" : في بعض النسخ "حدثنا إسحاق بن نصر" قلت: وهي رواية النسفي، وهما مشهوران من شيوخ البخاري ممن حدثه عن عبد الرزاق. قوله: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك" في رواية أحمد عن عبد الرزاق "كذبني عبدي" . قوله: "وشتمني ولم يكن له ذلك" ثبت هنا في رواية الكشميهني، وكذا هو عند أحمد، وسقط بقية الرواة عن الفربري وكذا النسفي، والمراد به بعض بني آدم، وهم من أنكر البعث من العرب وغيرهم من عباد الأوثان والدهرية ومن ادعى أن لله ولدا من العرب أيضا ومن اليهود والنصارى. قوله: "أما تكذيبه إياي أن يقول إني لن أعيده كما بدأته" كذا لهم بحذف الفاء في جواب "أما" وقد وقع في رواية الأعرج في الباب الذي قبله "فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني" وفي رواية أحمد "أن يقول فليعيدنا كما بدأنا" وهي من شواهد ورود صيغة أفعل بمعنى التكذيب، ومثله قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} ، وقع في رواية الأعرج في الباب قبله "وليس بأول الخلق بأهون من إعادته" وقد تقدم الكلام على لفظ: "أهون" في بدء الخلق وقول من قال إنها بمعنى هين وغير ذلك من الأوجه. قوله: "وأنا الصمد الذي لم ألد ولم أولد" في رواية الأعرج "وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد" قوله: {ولم يكن لي كفوا أحد} كذا للأكثر، وهو وزان ما قبله. ووقع للكشميهني: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ} وهو التفات، وكذا في رواية الأعرج "ولم يكن لي" بعد قوله: "لم يلد" وهو التفات أيضا. ولما كان الرب سبحانه واجب الوجود لذاته قديما موجودا قبل وجود الأشياء وكان كل مولود محدثا انتفت عنه الوالدية، ولما كان لا يشبهه أحد من خلقه ولا يجانسه حتى يكون له من جنسه صاحبة فتتوالد انتفت عنه الولدية، ومن هذا قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} وقد تقدم في تفسير البقرة حديث ابن عباس بمعنى حديث أبي هريرة هذا، لكن قال في آخره: "فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا" بدل قوله: "وأنا الأحد الصمد إلخ" وهو محمول على أن كلا من الصحابيين حفظ في آخره ما لم يحفظ الآخر. ويؤخذ منه أن من نسب غيره إلى أمر لا يليق به يطلق عليه أنه شتمه، وسبق في كتاب بدء الخلق تقرير ذلك. قوله: "كفوا وكفيئا وكفاء واحد" أي بمعنى واحد وهو قول أبي عبيدة، والأول بضمتين والثاني بفتح الكاف وكسر الفاء بعدها تحتانية ثم الهمزة والثالث بكسر الكاف ثم المد. وقال الفراء: كفوا يثقل ويخفف، أي يضم ويسكن. قلت: وبالضم قرأ الجمهور، وفتح حفص الواو بغير همز. وبالسكون قرأ حمزة وبهمز في الوصل ويبدلها واوا في الوقف، ومراد أبي عبيدة أنها لغات لا قراءات نعم روي في الشواذ عن سليمان بن علي العباسي أنه قرأ بكسر ثم مد، وروي عن نافع مثله لكن بغير مد. ومعنى الآية أنه لم يماثله أحد ولم يشاكله، أو المراد نفي الكفاءة في النكاح نفيا للمصاحبة، والأول أولى، فإن سياق الكلام لنفي المكافأة عن ذاته تعالى.

(8/740)


113- سُورَةُ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الْفَلَقُ} الصُّبْحُ وَ {غَاسِقٍ} اللَّيْلُ {إِذَا وَقَبَ} غُرُوبُ الشَّمْسِ يُقَالُ أَبْيَنُ مِنْ فَرَقِ وَفَلَقِ الصُّبْحِ وَقَبَ إِذَا دَخَلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَظْلَمَ
4976- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ وَعَبْدَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنْ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "قِيلَ لِي" فَقُلْتُ فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
[الحديث 4976-طرفه في: 4977]
قوله: "سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر، وتسمى أيضا سورة الفلق. قوله: "وقال مجاهد: الفلق الصبح" وصله الفريابي من طريقه، وكذا قال أبو عبيدة. قوله: "وغاسق الليل إذا وقب غروب الشمس" وصله الطبري من طريق مجاهد بلفظ: "غاسق إذا وقب الليل إذا دخل" . قوله: "يقال أبين من فرق وفلق الصبح" هو قول الفراء ولفظه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق الصبح، وهو أبين من فلق الصبح وفرق الصبح" . قوله: "وقب إذا دخل في كل شيء وأظلم" هو كلام الفراء أيضا، وجاء في حديث مرفوع أن الغاسق القمر، أخرجه الترمذي والحاكم من طريق أبي سلمة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، قال: هذا الغاسق إذا وقب " إسناده حسن. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "عاصم" هو ابن بهدلة. القارئ وهو ابن أبي النجود. قوله: "وعبدة" هو ابن أبي لبابة بموحدتين الثانية خفيفة وضم أوله. قوله: "سألت أبي بن كعب" سيأتي في تفسير السورة التي بعدها بأتم من هذا السياق ويشرح ثم إن شاء الله تعالى.

(8/741)


114- سُورَةُ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . وقال ابْنِ عَبَّاسٍ:
الْوَسْوَاسِ إِذَا وُلِدَ خَنَسَهُ الشَّيْطَانُ فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَهَبَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ ثَبَتَ عَلَى قَلْبِهِ
4977- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ ح وَحَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ زِرٍّ قَالَ سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ أُبَيٌّ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: " قِيلَ لِي" فَقُلْتُ قَالَ فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} "وتسمى سورة الناس. قوله: "وقال ابن عباس: الوسواس إذا ولد خنسه الشيطان، فإذا ذكر الله عز وجل ذهب، وإذا لم يذكر الله ثبت على قلبه" كذا لأبي ذر، ولغيره: ويذكر عن ابن عباس، وكأنه أولى لأن إسناده إلى ابن عباس ضعيف، أخرجه الطبري والحاكم وفي إسناده حكيم بن جبير وهو ضعيف ولفظه: "ما من مولود إلا على قلبه الوسواس فإذا عمل فذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس" ورويناه في الذكر لجعفر بن أحمد بن فارس من وجه آخر عن ابن عباس، وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وفيه مقال ولفظه: "يحط الشيطان فاه على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس" وأخرجه سعيد بن منصور من

(8/741)


وجه آخر عن ابن عباس ولفظه: "يولد الإنسان والشيطان جاثم على قلبه، فإذا عقل وذكر اسم الله خنس، وإذا غفل وسوس" وجاثم بجيم ومثلثة، وعقل الأولى بمهملة وقاف والثانية بمعجمة وفاء. ولأبي يعلى من حديث أنس نحوه مرفوعا وإسناده ضعيف، ولسعيد بن منصور من طريق عروة بن رويم قال: سأل عيسى عليه السلام ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم فأراه، فإذا رأسه مثل رأس الحية، واضع رأسه على ثمرة القلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس. وإذا ترك مناه وحدثه. قال ابن التين ينظر في قوله خنسه الشيطان فإن المعروف في اللغة خنس إذا رجع وانقبض. وقال عياض: كذا في جميع الروايات وهو تصحيف وتغيير، ولعله كان فيه نخسه أي بنون ثم خاء معجمة ثم سين مهملة مفتوحات، لما جاء في حديث أبي هريرة - يعني الماضي في ترجمة عيسى عليه السلام - قال: لكن اللفظ المروي عن ابن عباس ليس فيه نخس، فلعل البخاري أشار إلى الحديثين معا، كذا قال وادعى فيه التصحيف، ثم فرع على ما ظنه من أنه نخس، والتفريع ليس بصحيح لأنه لو أشار إلى حديث أبي هريرة لم يخص الحديث بابن عباس، ولعل الرواية التي وقعت له باللفظ المذكور، وتوجيهه ظاهر، ومعنى يخنسه يقبضه أي يقبض عليه، وهو بمعنى قوله في الروايتين اللتين ذكرناهما عن ابن فارس وسعيد بن منصور، وقد أخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس قال: الوسواس هو الشيطان، يولد المولود والوسواس على قلبه فهو يصرفه حيث شاء، فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل جثم على قلبه فوسوس. وقال الصغاني: الأولى خنسه مكان يخنسه قال: فإن سلمت اللفظة من التصحيف فالمعنى أخره وأزاله عن مكانه لشدة نخسه وطعنه بإصبعه. قوله: "حدثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش، وحدثنا عاصم عن زر "القائل" وحدثنا عاصم" هو سفيان، وكأنه كان يجمعهما تارة ويفردهما أخرى وقد قدمت أن في رواية الحميدي التصريح بسماع عبدة وعاصم له من زر. قوله: "سألت أبي كعب قلت أبا المنذر" هي كنية أبي بن كعب، وله كنية أخرى أبو الطفيل. قوله: "يقول كذا وكذا" هكذا وقع هذا اللفظ مبهما، وكأن بعض الرواة أبهمه استعظاما له. وأظن ذلك من سفيان فإن الإسماعيلي أخرجه من طريقي عبد الجبار بن العلاء عن سفيان كذلك على الإبهام، كنت أظن أولا أن الذي أبهمه البخاري لأنني رأيت التصريح به في رواية أحمد عن سفيان ولفظه: "قلت لأبي إن أخاك يحكها من المصحف" وكذا أخرجه الحميدي عن سفيان ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج" وكأن سفيان كان تارة يصرح بذلك وتارة يبهمه. وقد أخرجه أحمد أيضا وابن حبان من رواية حماد بن سلمة عن عاصم بلفظ: "إن عبد الله بن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه" وأخرج أحمد عن أبي بكر بن عياش عن عاصم بلفظ: "إن عبد الله يقول في المعوذتين" وهذا أيضا فيه إبهام، وقد أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال: "كان عبد الله بن مسعود يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول إنهما ليستا من كتاب الله. قال الأعمش: وقد حدثنا عاصم عن زر عن أبي بن كعب فذكر نحو حديث قتيبة الذي في الباب الماضي، وقد أخرجه البزار وفي آخره يقول: "إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما" قال البزار. ولم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأهما في الصلاة. قلت: هو في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر وزاد فيه ابن حبان من وجه آخر عن عقبة بن عامر "فإن استطعت أن لا تفوتك قراءتهما في صلاة فافعل" وأخرج أحمد من طريق أبي العلاء بن الشخير عن رجل من الصحابة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه المعوذتين وقال له: إذا أنت صليت فاقرأ بهما" وإسناده

(8/742)


صحيح ولسعيد بن منصور من حديث معاذ بن جبل "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فقرأ فيهما بالمعوذتين" وقد تأول القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب "الانتصار" وتبعه عياض وغيره ما حكي عن ابن مسعود فقال: لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن وإنما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنه كان يرى أن لا يكتب في المصحف شيئا إلا إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابته فيه، وكأنه لم يبلغه الإذن في ذلك، قال: فهذا تأويل منه وليس جحدا لكونهما قرآنا. وهو تأويل حسن إلا أن الرواية الصحيحة الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها: ويقول إنهما ليستا من كتاب الله. نعم يمكن حمل لفظ كتاب الله على المصحف فيتمشى التأويل المذكور. وقال غير القاضي: لم يكن اختلاف ابن مسعود مع غيره في قرآنيتهما، وإنما كان في صفة من صفاتهما انتهى. وغاية ما في هذا أنه أبهم ما بينه القاضي. ومن تأمل سياق الطرق التي أوردتها للحديث استبعد هذا الجمع. وأما قول النووي في شرح المهذب: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منهما شيئا كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح، ففيه نظر، وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل "المحلى": ما نقل عن ابن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين فهو كذب باطل. وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره: الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل. والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل، بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل، والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر فهو مخدوش، وإن أراد استقراره فهو مقبول. وقد قال ابن الصباغ في الكلام على مانعي الزكاة: وإنما قاتلهم أبو بكر على منع الزكاة ولم يقل إنهم كفروا بذلك، وإنما لم يكفروا لأن الإجماع لم يكن يستقر. قال: ونحن الآن نكفر من جحدها. قال: وكذلك ما نقل عن ابن مسعود في المعوذتين، يعني أنه لم يثبت عنده القطع بذلك، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك. وقد استشكل هذا الموضع الفخر الرازي فقال: إن قلنا إن كونهما من القرآن كان متواترا في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرها، وإن قلنا إن كونهما من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعض القرآن لم يتواتر. قال: وهذه عقدة صعبة. وأجيب باحتمال أنه كان متوترا في عصر ابن مسعود لكن لم يتوتر عند ابن مسعود فانحلت العقدة بعون الله تعالى. قوله: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قيل لي قل، فقلت. قال فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" القائل فنحن نقول إلخ هو أبي بن كعب. ووقع عند الطبراني في الأوسط أن ابن مسعود أيضا قال مثل ذلك، لكن المشهور أنه من قول أبي بن كعب فلعله انقلب على راوية. وليس في جواب أبي تصريح بالمراد، إلا أن في الإجماع على كونهما من القرآن غنية عن تكلف الأسانيد بأخبار الآحاد، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
" خاتمة " : اشتمل كتاب التفسير على خمسمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا من الأحاديث المرفوعة وما في حكمها، الموصول من ذلك أربعمائة حديث وخمسة وستون حديثا والبقية معلقة وما في معناه، المكرر من ذلك فيه وفيما مضى أربعمائة وثمانية وأربعون حديثا، والخالص منها مائة حديث وحديث، وافقه مسلم على تخريج بعضها ولم يخرج أكثرها لكونها ليست ظاهرة في الرفع، والكثير منها من تفاسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهي ستة وستون حديثا: حديث أبي سعيد بن المعلى في الفاتحة، وحديث عمر "أبي أقرؤنا" وحديث ابن عباس "كذبني ابن آدم" وحديث أبي هريرة "لا تصدقوا أهل الكتاب" وحديث أنس "لم يبق ممن صلى القبلتين غيري" وحديث ابن عباس "كان في بني إسرائيل القصاص" وحديثه في تفسير {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ، وحديث ابن

(8/743)


عمر في ذلك، وحديث البراء "لما نزل رمضان كانوا لا يقربون النساء" وحديث حذيفة في تفسير {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وحديث ابن عمر في {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ، وحديث معقل بن يسار في نزول "ولا تعضلوهن" ، وحديث عثمان في نزول {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً }، وحديث ابن عباس في تفسيرها، وحديث ابن مسعود في المتوفى عنها زوجها، وحديث ابن عباس عن عمر في {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} وحديث ابن عمر في {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} ، وحديث ابن عباس في {حَسْبُنَا اللَّهُ} ، وحديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين" الحديث، ووقع في آخر حديث أسامة بن زيد في قصة عبد الله بن أبي، وحديث ابن عباس "كان المال للولد" وحديثه "كان إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته" وحديثه في {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} وحديثه "كنت أنا وأمي من المستضعفين" ، وحديثه في نزول {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ، وحديثه في نزول {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} ، وحديث ابن مسعود في يونس بن متى، وحديث حذيفة في النفاق، وحديث عائشة في لغو اليمين، وحديثها عن أبيها في كفارة اليمين. وحديث جابر في نزول {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} ، وحديث ابن عمر في الأشربة، وحديث ابن عباس في نزول {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} ، وحديث الحر بن قيس مع عمر في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} ، وحديث ابن الزبير في تفسيرها، وحديث ابن عباس في تفسير "الصم البكم" ، وحديثه في تفسير {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} وحديث حذيفة "ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة، وحديث ابن عباس في قصته مع ابن الزبير وفيه ذكر أبي بكر في الغار، وحديثه في تفسير {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} ، وحديث ابن مسعود في {هَيْتَ لَكَ} و {بَلْ عَجِبْتَ} ، وحديث أبي هريرة في صفة مسترقي السمع، وحديث ابن عباس في تفسير "عضين" ، وحديث ابن مسعود في "الكهف ومريم من تلادى" ، وحديثه "كنا نقول للحي إذا كثروا" ، وحديث ابن عباس في تفسير {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا} ، وحديث سعد بن أبي وقاص في "الأخسرين أعمالا" ، وحديث ابن عباس في تفسير {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} ، وحديث عائشة في نزول {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ}، وحديث ابن عباس في {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، وحديث أبي سعيد في الصلاة على النبي، وحديث ابن عباس في جواب "إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي" وحديث عائشة في تفسير {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} ، وحديث عبد الله بن مغفل في البول في المغتسل، وحديث ابن عباس في تفسير {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ، وحديثه في تفسير "اللات" ، وحديث عائشة في نزول {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} ، وحديث ابن عباس في تفسير {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} ، وحديث أنس عن زيد بن أرقم في فضل الأنصار، وحديث ابن عباس في تفسير {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} وحديثه في ذكر الأوثان التي كانت في قوم نوح، وحديثه في تفسير {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} ، وحديثه في تفسير {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} ، وحديثه في تفسير {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} ، وحديث عائشة في تفسير ذكر الكوثر، وحديث ابن عباس في تفسيره بالخير الكثير، وحديث أبي بن كعب في المعوذتين. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم خمسمائة وثمانون أثرا تقدم بعضها في بدء الخلق وغيره، وهي قليلة، وقد بينت كل واحد منها في موضعها. ولله الحمد.
تم الجزء الثامن. ويليه – إن شاء الله – الجزء التاسع، وأوله "كتاب فضائل القرآن"

(8/744)


المجلد التاسع
كتاب فضائل القرآن
باب كيف نزل الوحي وأول مانزل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
66- كتاب فضائل القرآن".
1- باب كَيْفَ نَزَلَ الْوَحْيُ وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُهَيْمِنُ الأَمِينُ الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ
4978، 4979- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ لَبِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ"
4980- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لِأُمِّ سَلَمَةَ مَنْ هَذَا أَوْ كَمَا قَالَ قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ فَلَمَّا قَامَ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلاَّ إِيَّاهُ حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ خَبَرَ جِبْرِيلَ أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ أَبِي: قُلْتُ لِأَبِي عُثْمَانَ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا قَالَ مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ"
4981- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
[الحديث 4981- طرفه في: 7274]
4982- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْيُ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ"
4983- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ مَا أُرَى شَيْطَانَكَ إِلاَّ قَدْ تَرَكَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}

(9/3)


"كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ" ثبتت البسملة و "كتاب" لأبي ذر ووقع لغبره "فضائل القرآن" حسب "باب فضائل نزل الوحي وأول ما نزل" كذا لأبي ذر "نزل" بلفظ الفعل الماضي، ولغيره: "كيف قوله: "باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل" كذا لأبي ذر "نزل" بلفظ الفعل الماضي، ولغيره: "كيف نزول الوحي" بصيغة الجمع، وقد تقدم البحث في كيفية نزوله في حديث عائشة "إن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي" في أول الصحيح، وكذا أول نزوله في حديثها "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة" لكن التعبير بأول ما نزل أخص من التعبير بأول ما بدئ لأن النزول يقتضي وجود من ينزل به، وأول ذلك مجيء الملك له عيانا مبلغا عن الله بما شاء من الوحي، وإيحاء الوحي أعم من أن يكون بإنزال أو بإلهام، سواء وقع ذلك في النوم أو في اليقظة. وأما انتزاع ذلك من أحاديث الباب فسأذكره إن شاء الله تعالى عند شرح كل حديث منها. قوله: "قال ابن عباس: المهيمن الأمين، القرآن أمين على كل كتاب قبله" تقدم بيان هذا الأثر وذكر من وصله في تفسير سورة المائدة، وهو يتعلق بأصل الترجمة وهي فضائل القرآن، وتوجيه كلام ابن عباس أن القرآن تضمن تصديق جميع ما أنزل قبله، لأن الأحكام التي فيه إما مقررة لما سبق وإما ناسخة - وذلك يستدعي إثبات المنسوخ - وإما مجددة، وكل ذلك دال على تفضيل المجدد. ثم ذكر المصنف في الباب ستة أحاديث: الأول والثاني حديثا ابن عباس وعائشة معا.قوله: "عن شيبان" هو ابن عبد الرحمن، ويحيى هو ابن أبي كثير، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن. قوله: "لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشر سنين" كذا للكشميهني، ولغيره: "وبالمدينة عشرا" بإبهام المعدود، وهذا ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم عاش ستين سنة إذا انضم إلى المشهور أنه بعث على رأس الأربعين، لكن يمكن أن يكون الراوي ألغى الكسر كما تقدم بيانه في الوفاة النبوية، فإن كل من روي عنه أنه عاش ستين أو أكثر من ثلاث وستين جاء عنه أنه عاش ثلاثا وستين، فالمعتمد أنه عاش ثلاثا وستين، وما يخالف ذلك إما أن يحمل على إلغاء الكسر في السنين، وإما على جبر الكسر في الشهور، وأما حديث الباب فيمكن أن يجمع بينه وبين المشهور بوجه آخر، وهو أنه بعث على رأس الأربعين، فكانت مدة وحي المنام ستة أشهر إلى أن نزل عليه الملك في شهر رمضان من غير فترة، ثم فتر الوحي، ثم تواتر وتتابع، فكانت مدة تواتره وتتابعه بمكة عشر سنين من غير فترة، أو أنه على رأس الأربعين قرن به ميكائيل أو إسرافيل فكان يلقي إليه الكلمة أو الشيء مدة ثلاث سنين كما جاء من وجه مرسل، ثم قرن به جبريل فكان ينزل عليه بالقرآن مدة عشر سنين بمكة. ويؤخذ من هذا الحديث مما يتعلق بالترجمة أنه نزل مفرقا ولم ينزل جملة واحدة، ولعله أشار إلى ما أخرجه النسائي وأبو عبيد والحاكم من وجه آخر عن ابن عباس قال: "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. وقرأ: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} الآية" وفي رواية للحاكم والبيهقي في الدلائل "فرق في السنين" وفي أخرى صحيحة لابن أبي شيبة والحاكم أيضا: "وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم: "وإسناده صحيح، ووقع في "المنهاج للحليمي" : أن جبريل كان ينزل منه من اللوح المحفوظ في ليلة القدر إلى السماء الدنيا قدر ما ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة إلى ليلة القدر التي تليها، إلى أن أنزله كله في عشرين ليلة من عشرين سنة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وهذا أورده ابن الأنباري من طريق ضعيفة ومنقطعة أيضا وما تقدم من أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك مفرقا هو الصحيح المعتمد وحكى الماوردي في تفسير ليلة القدر

(9/4)


أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وهذا أيضا غريب، والمعتمد أن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان بما ينزل به عليه في طول السنة، كذا جزم به الشعبي فيما أخرجه عنه أبو عبيد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وسيأتي مزيد لذلك بعد ثلاثة أبواب. وقد تقدم في بدء الوحي أن أول نزول جبريل بالقرآن كان في شهر رمضان، وسيأتي في هذا الكتاب أن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في شهر رمضان، وفي ذلك حكمتان: إحداهما تعاهده، والأخرى تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضا وأحكاما. وقد أخرج أحمد والبيهقي في "الشعب" عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت التوراة لست مضين من رمضان. والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، والزبور لثمان عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت من شهر رمضان". وهذا كله مطابق لقوله تعالى :{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ولقوله تعالى :{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أول {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ويستفاد من حديث الباب أن القرآن نزل كله بمكة والمدينة خاصة، وهو كذلك، لكن نزل كثير منه في غير الحرمين حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر حج أو عمرة أو غزاة، ولكن الاصطلاح أن كل ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني، سواء نزل في البلد حال الإقامة أو في غيرها حال السفر، وسيأتي مزيد لذلك في "باب تأليف القرآن". قوله: "حدثنا معتمر" هو ابن سليمان التيمي. قوله: "قال أنبئت أن جبريل" فاعل "قال: "هو أبو عثمان النهدي. قوله: "أنبئت" بضم أوله على البناء للمجهول، وقد عينه في آخر الحديث. ووقع عند مسلم في أوله زيادة حذفها البخاري عمدا لكونها موقوفة ولعدم تعلقها بالباب وهي: عن أبي عثمان عن سلمان قال: "لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق" الحديث موقوف، وقد أورده البرقاني في مستخرجه من طريق عاصم عن أبي عثمان عن سلمان مرفوعا. قوله: "فقال لأم سلمة: من هذا" ؟ فاعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، استفهم أم سلمة عن الذي كان يحدثه هل فطنت لكونه ملكا أو لا. قوله: "أو كما قال" يريد أن الراوي شك في اللفظ مع بقاء المعنى في ذهنه، وهذه الكلمة كثر استعمال المحدثين لها في مثل ذلك. قال الداودي. هذا السؤال إنما وقع بعد ذهاب جبريل، وظاهر سياق الحديث يخالفه. كذا قال، ولم يظهر لي ما ادعاه من الظهور، بل هو محتمل للأمرين. قوله: "قالت هذا دحية" أي ابن خليفة الكلبي الصحابي المشهور، وقد تقدم ذكره في حديث أبي سفيان الطويل في قصة هرقل أول الكتاب، وكان موصوفا بالجمال، وكان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم غالبا على صورته. قوله: "فلما قام" أي النبي صلى الله عليه وسلم أي قام ذاهبا إلى المسجد، وهذا يدل على أنه لم ينكر عليها ما ظنته من أنه دحية اكتفاء بما سيقع منه في الخطبة مما يوضح لها المقصود. قوله: "ما حسبته إلا إياه" هذا كلام أبي سلمة، وعند مسلم: "فقالت أم سلمة أيمن الله ما حسبته إلا إياه" وأيمن من حروف القسم، وفيها لغات قد تقدم بيانها. قوله: "حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بخبر جبريل أو كما قال" في رواية مسلم: "يخبرنا خبرنا" وهو تصحيف نبه عليه عياض، قال النووي: وهو الموجود في نسخ بلادنا. قلت: ولم أر هذا الحديث في شيء من المسانيد إلا من هذا الطريق فهو من غرائب الصحيح. ولم أقف في شيء من الروايات على بيان هذا الخبر في أي قصة، ويحتمل أن يكون في قصة بني قريظة، فقد وقع في "دلائل البيهقي" وفي

(9/5)


"الغيلانيات" من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه "عن عائشة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يكلم رجلا وهو راكب، فلما دخل قلت: من هذا الذي كنت تكلمه، قال: بمن تشبهينه؟ قلت: بدحية بن خليفة، قال: ذاك جبريل أمرني أن أمضي إلى بني قريظة". قوله: "قال أبي" بفتح الهمزة وكسر الموحدة الخفيفة، والقائل هو معتمر بن سليمان، وقوله: "فقلت لأبي عثمان، أي النهدي الذي حدثه بالحديث، وقوله: "ممن سمعت هذا؟ قال من أسامة بن زيد" فيه الاستفسار عن اسم من أبهم من الرواة ولو كان الذي أبهم ثقة معتمدا، وفائدته احتمال أن لا يكون عند السامع كذلك، ففي بيانه رفع لهذا الاحتمال، قال عياض وغيره: وفي هذا الحديث أن للملك أن يتصور على صورة الآدمي. وأن له هو في ذاته صورة لا يستطيع الآدمي أن يراه فيها لضعف القوى البشرية إلا من يشاء الله أن يقويه على ذلك، ولهذا كان غالب ما يأتي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل كما تقدم في بدء الوحي "وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا" ولم ير جبريل على صورته التي خلق عليها إلا مرتين كما ثبت في الصحيحين. ومن هنا يتبين وجه دخول حديث أسامة هذا في هذا الباب. قالوا وفيه فضيلة لأم سلمة ولدحية، وفيه نظر، لأن أكثر الصحابة رأوا جبريل في صورة الرجل لما جاء فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، ولأن اتفاق الشبه لا يستلزم إثبات فضيلة معنوية، وغايته أن يكون له مزية في حسن الصورة حسب، وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن قطن حين قال إن الدجال أشبه الناس به فقال: "أيضرني شبهه؟ قال: لا" قوله: "عن أبيه" هو أبو سعيد المقبري كيسان، وقد وقع سعيد المقبري الكثير من أبي هريرة وسمع من أبيه عن أبي هريرة، ووقع الأمران في الصحيحين، وهو دال على تثبت سعيد وتحريه. قوله: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطى" هذا دال على أن النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضره من أصر على المعاندة. من الآيات" أي المعجزات الخوارق. قوله: "ما مثله آمن عليه البشر" ما موصولة وقعت مفعولا ثانيا لأعطى، ومثله مبتدأ، وآمن خبره، والمثل يطلق ويراد به عين الشيء وما يساويه، والمعنى أن كل نبي أعطى آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها، وعليه بمعنى اللام أو الباء الموحدة، والنكتة في التعبير بها تضمنها معنى الغلبة، أي يؤمن بذلك مغلوبا عليه بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه، لكن قد يجحد فيعاند، كما قال الله تعالى :{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً} وقال الطيبي: الراجع إلى الموصول ضمير المجرور في عليه وهو حال، أي مغلوبا عليه في التحدي، والمراد بالآيات المعجزات وموقع المثل موقعه من قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} أي على صفته من البيان وعلو الطبقة في البلاغة. "تنبيه": قوله: "آمن" وقع في رواية حكاها ابن قرقول "أومن" بضم الهمز ثم واو. وسيأتي في كتاب الاعتصام. قال وكتبها بعضهم. بالياء الأخيرة بدل الواو. وفي رواية القابسي "أمن" بغير مد من الأمان، والأول هو المعروف. قوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي" أي إن معجزتي التي تحديت بها الوحي الذي أنزل علي وهو القرآن لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، وليس المراد حصر معجزاته فيه ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره، لأن كل نبي أعطي معجزة خاصة به لم يعطها بعينها غيره تحدى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه كما كان السحر فاشيا عند فرعون فجاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة لكنها تلقفت ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره وكذلك إحياء عيسى الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لكون

(9/6)


الأطباء والحكماء كانوا في ذلك الزمان في غاية الظهور، فأتاهم من جنس عملهم بما لم تصل قدرتهم إليه، ولهذا لما كان العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الغاية من البلاغة جاءهم بالقرآن الذي تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فلم يقدروا على ذلك. وقيل المراد أن القرآن ليس له مثل لا صورة ولا حقيقة، بخلاف غيره من المعجزات فإنها لا تخلو عن مثل. وقيل المراد أن كل نبي أعطي من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله صورة أو حقيقة، والقرآن لم يؤت أحد قبله مثله، فلهذا أردفه بقوله: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا". وقيل المراد أن الذي أوتيته لا يتطرق إليه تخييل، وإنما هو كلام معجز لا يقدر أحد أن يأتي بما يتخيل منه التشبيه به، بخلاف غيره فإنه قد يقع في معجزاتهم ما يقدر الساحر أن يخيل شبهه فيحتاج من يميز بينهما إلى نظر، والنظر عرضة للخطأ، فقد يخطئ الناظر فيظن تساويهما. وقيل المراد أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه للعادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه، وهذا أقوى المحتملات، وتكميله في الذي بعده. وقيل المعنى أن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا. قلت: ويمكن نظم هذه الأقوال كلها في كلام واحد؛ فإن محصلها لا ينافي بعضه بعضا. قوله: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" رتب هذا الكلام على ما تقدم من معجزة القرآن المستمرة لكثرة فائدته وعموم نفعه، لاشتماله على الدعوة والحجة والإخبار بما سيكون، فعم نفعه من حضر ومن غاب ومن وجد ومن سيوجد، فحسن ترتيب الرجوى المذكورة على ذلك، وهذه الرجوى قد تحققت، فإنه أكثر الأنبياء تبعا، وسيأتي بيان ذلك واضحا في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. وتعلق هذا الحديث بالترجمة من جهة أن القرآن إنما نزل بالوحي الذي يأتي به الملك لا بالمنام ولا بالإلهام. وقد جمع بعضهم إعجاز القرآن في أربعة أشياء: أحدها حسن تأليفه والتئام كلمه مع الإيجاز والبلاغة، ثانيها صورة سياقه وأسلوبه المخالف لأساليب كلام أهل البلاغة من العرب نظما ونثرا حتى حارت فيه عقولهم ولم يهتدوا إلى الإتيان بشيء مثله مع توفر دواعيهم على تحصيل ذلك وتقريعه لهم على العجز عنه، ثالثها ما اشتمل عليه من الإخبار عما مضى من أحوال الأمم السالفة والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم منه بعضه إلا النادر من أهل الكتاب، رابعها الإخبار بما سيأتي من الكوائن التي وقع بعضها في العصر النبوي وبعضها بعده. ومن غير هذه الأربعة آيات وردت بتعجيز قوم في قضايا أنهم لا يفعلونها فعجزوا عنها مع توفر دواعيهم على تكذيبه، كتمني اليهود الموت، ومنها الروعة التي تحصل لسامعه، ومنها أن قارئه لا يمل من ترداده وسامعه لا يمجه ولا يزداد بكثرة التكرار إلا طراوة ولذاذة. ومنها أنه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، ومنها جمعه لعلوم ومعارف لا تنقضي عجائبها ولا تنتهي فوائدها. ا ه ملخصا من كلام عياض، وغيره. قوله: "حدثنا عمرو بن محمد" هو الناقد، وبذلك جزم أبو نعيم في "المستخرج". وكذا أخرجه مسلم عن عمرو بن محمد الناقد وغيره عن يعقوب بن إبراهيم. ووقع في الأطراف لخلف "حدثنا عمرو بن علي الفلاس" ورأيت في نسخة معتمدة من رواية النسفي عن البخاري "حدثنا عمرو بن خالد" وأظنه تصحيفا، والأول هو المعتمد، فإن الثلاثة وإن كانوا

(9/7)


معروفين من شيوخ البخاري، لكن الناقد أخص من غيره بالرواية عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ورواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب من رواية الأقران، بل صالح بن كيسان أكبر سنا من ابن شهاب وأقدم سماعا، وإبراهيم بن سعد قد سمع من ابن شهاب كما سيأتي تصريحه بتحديثه له في الحديث الآتي بعد باب واحد. قوله: "إن الله تابع على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته" كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر "إن الله تابع على رسوله الوحي قبل وفاته" أي أكثر إنزاله قرب وفاته صلى الله عليه وسلم، والسر في ذلك أن الوفود بعد فتح مكة كثروا وكثر سؤالهم عن الأحكام فكثر النزول بسبب ذلك. ووقع لي سبب تحديث أنس بذلك من رواية الدراوردي عن الإمامي عن الزهري "سألت أنس بن مالك: هل فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت؟ قال: أكثر ما كان وأجمه" أورده ابن يونس في "تاريخ مصر" في ترجمة محمد بن سعيد بن أبي مريم. قوله: "حتى توفاه أكثر ما كان الوحي" أي الزمان الذي وقعت فيه وفاته كان نزول الوحي فيه أكثر من غيره من الأزمنة. قوله: "ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد" فيه إظهار ما تضمنته الغاية في قوله: "حتى توفاه الله"، وهذا الذي وقع أخيرا على خلاف ما وقع أولا، فإن الوحي في أول البعثة فتر فترة ثم كثر، وفي أثناء النزول بمكة لم ينزل من السور الطوال إلا القليل، مما بعد الهجرة نزلت السور الطوال المشتملة على غالب الأحكام، إلا أنه كان الزمن الأخير من الحياة النبوية أكثر الأزمنة نزولا بالسبب المتقدم، وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة لتضمنه الإشارة إلى كيفية النزول. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري، وقد تقدم شرح الحديث قريبا في سورة والضحى، ووجه إيراده في هذا الباب الإشارة إلى أن تأخير النزول أحيانا إنما كان يقع لحكمة تقتضي ذلك لا لقصد تركه أصلا، فكان نزوله على أنحاء شتى: تارة يتتابع، وتارة يتراخى. وفي إنزاله مفرقا وجوه من الحكمة: منها تسهيل حفظه لأنه لو نزل جملة واحدة على أمة أمية لا يقرأ غالبهم ولا يكتب لشق عليهم حفظه. وأشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله ردا على الكفار {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ - أي أنزلناه مفرقا - لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} وبقوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}. ومنها ما يستلزمه من الشرف له والعناية به لكثرة تردد رسول ربه إليه يعلمه بأحكام ما يقع له وأجوبة ما يسأل عنه من الأحكام والحوادث. ومنها أنه أنزل على سبعة أحرف، فناسب أن ينزل مفرقا، إذ لو نزل دفعة واحدة لشق بيانها عادة. ومنها أن الله قدر أن ينسخ من أحكامه ما شاء، فكان إنزاله مفرقا لينفصل الناسخ من المنسوخ أولى من إنزالهما معا. وقد ضبط النقلة ترتيب نزول السور كما سيأتي في "باب تأليف القرآن"ولم يضبطوا من ترتيب نزول الآيات إلا قليلا وقد تقدم في تفسير { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أنها أول سورة نزلت ومع ذلك فنزل من أولها أولا خمس آيات ثم نزل باقيها بعد ذلك وكذلك سورة المدثر التي نزلت بعدها نزل أولها أولا ثم نزل سائرها بعد وأوضح من ذلك ما أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وصححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس عن عثمان قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الآيات فيقول :ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(9/8)


2- باب نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
4984- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ فَأَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ

(9/8)


3- باب جَمْعِ الْقُرْآنِ
4986- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُمَرُ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا

(9/10)


4- باب كَاتِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4989- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ ابْنَ السَّبَّاقِ قَالَ إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبِعْ الْقُرْآنَ فَتَتَبَّعْتُ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} إِلَى آخِرِهِ"
4990- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ادْعُ لِي زَيْدًا وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ أَوْ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ ثُمَّ قَالَ اكْتُبْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنِي فَإِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}
قوله: "باب كاتب النبي صلى الله عليه وسلم "قال ابن كثير: ترجم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر سوى حديث زيد بن ثابت وهذا عجيب، فكأنه لم يقع له على شرطه غير هذا. ثم أشار إلى أنه استوفى بيان ذلك في السيرة النبوية. قلت: لم أقف في شيء من النسخ إلا بلفظ: "كاتب" بالإفراد وهو مطابق لحديث الباب، نعم قد كتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة غير زيد بن ثابت، أما بمكة فلجميع ما نزل بها لأن زيد بن ثابت إنما أسلم بعد الهجرة، وأما بالمدينة فأكثر ما كان يكتب زيد، ولكثرة تعاطيه ذلك أطلق عليه الكاتب بلام العهد كما في حديث البراء بن عازب ثاني حديثي الباب، ولهذا قال له أبو بكر: إنك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان زيد بن ثابت ربما غاب فكتب الوحي غيره. وقد كتب له قبل زيد ابن ثابت أبي بن كعب وهو أول من كتب له بالمدينة، وأول من كتب له بمكة من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح، وممن كتب له في الجملة الخلفاء الأربعة والزبير بن العوام وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية وحنظلة بن الربيع الأسدي ومعيقيب بن أبي فاطمة وعبد الله بن الأرقم الزهري وشرحبيل بن حسنة وعبد الله بن رواحة في آخرين، وروى أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عباس عن عثمان بن عفان قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا" الحديث. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: الأول حديث زيد بن ثابت في قصته مع أبي بكر في جمع القرآن، أورد منه طرفا، وغرضه منه قول أبي بكر لزيد "إنك كنت تكتب الوحي" وقد مضى البحث فيه مستوفى في الباب الذي قبله. الثاني حديث البراء وهو ابن عازب "لما نزلت: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} "قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لي زيدا" وقد تقدم في تفسير سورة النساء بلفظ: "ادع لي فلانا" من رواية إسرائيل أيضا. وفي رواية غيره: "ادع لي زيدا" أيضا وتقدمت

(9/22)


القصة هناك من حديث زيد بن ثابت نفسه. ووقع هنا فنزلت مكانها {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله غير أولي الضرر} هكذا وقع بتأخير لفظ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} والذي في التلاوة {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} قبل {والْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقد تقدم على الصواب من وجه آخر عن إسرائيل.

(9/23)


5- باب أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ
4991- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"
4992- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِيَّ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"
قوله: "باب أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي على سبعة أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة إلى سبعة، فإن قيل فإنا نجد بعض الكلمات يقرأ على أكثر من سبعة أوجه، فالجواب أن غالب ذلك إما لا يثبت الزيادة وإما أن يكون من قبيل الاختلاف في كيفية الأداء كما في المد والإمالة ونحوهما. وقيل ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بل المراد التسهيل والتيسير، ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعين في العشرات والسبعمائة في المئين ولا يراد العدد المعين، وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه. وذكر القرطبي عن ابن حبان أنه بلغ الاختلاف في معنى الأحرف السبعة إلى خمسة وثلاثين قولا ولم يذكر القرطبي منها سوى خمسة. وقال المنذري: أكثرها غير مختار، ولم أقف على كلام ابن حبان في هذا بعد تتبعي مظانه من صحيحه، وسأذكر ما انتهى إلي من أقوال العلماء في ذلك مع بيان المقبول منها والمردود إن شاء الله تعالى في آخر هذا الباب. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث ابن عباس. قوله: "حدثنا سعيد بن عفير" بالمهملة والفاء مصعر، وهو سعيد بن كثير بن

(9/23)


عفير ينسب إلى جده، وهو من حفاظ المصريين وثقاتهم. قوله: "أن ابن عباس رضي الله عنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "هذا مما لم يصرح ابن عباس بسماعه له من النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه سمعه من أبي بن كعب، فقد أخرج النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب نحوه، والحديث مشهور عن أبي أخرجه مسلم وغيره من حديثه كما سأذكره. قوله: "أقرأني جبريل على حرف" في أول حديث النسائي عن أبي بن كعب "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة، فبينما أنا في المسجد إذ سمعت رجلا يقرؤها يخالف قراءتي" الحديث. ولمسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب قال: "كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما فقرأ، فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما قال فسقط في نفسي ولا إذ كنت في الجاهلية، فضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله فرقا، فقال لي يا أبي، أرسل إلى أن اقرأ القرآن على حرف" الحديث. وعند الطبري في هذا الحديث: "فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمر وجهي، فضرب في صدري وقال: اللهم اخسأ عنه الشيطان". وعند الطبري من وجه آخر عن أبي أن ذلك وقع بينه وبين ابن مسعود، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كلاكما محسن قال أبي فقلت: ما كلانا أحسن ولا أجمل، قال فضرب في صدري" الحديث. وبين مسلم من وجه آخر عن أبي ليلى عن أبي المكان الذي نزل فيه ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فآتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف الحديث. وبين الطبري من هذه الطريق أن السورة المذكورة سورة النحل. قوله: "فراجعته" في رواية مسلم عن أبي "فرددت إليه أن هون على أمتي " وفي رواية له "إن أمتي لا تطيق ذلك". ولأبي داود من وجه آخر عن أبي "فقال لي الملك الذي معي: قل على حرفين، حتى بلغت سبعة أحرف". وفي رواية للنسائي من طريق أنس عن أبي بن كعب "أن جبريل وميكائيل أتياني فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل استزده" ولأحمد من حديث أبي بكرة نحوه. قوله: "فلم أزل أستزيده ويزيدني" في حديث أبي "ثم أتاه الثانية فقال على حرفين" ثم أتاه الثالثة فقال على ثلاثة أحرف، ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا" وفي رواية للطبري "على سبعة أحرف من سبعة أبواب من الجنة" وفي أخرى له "من قرأ حرفا منها فهو كما قرأ: {وفي رواية أبي داود "ثم قال: ليس منها إلا شاف كاف إن قلت سميعا عليما عزيزا حكيما، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب" وللترمذي من وجه آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط" الحديث. وفي حديث أبي بكرة عند أحمد "كلها كاف شاف كقولك هلم وتعال ما لم تختم" الحديث. وهذه الأحاديث تقوى أن المراد بالأحرف اللغات أو القراءات، أي أنزل القرآن على سبع لغات أو قراءات، والأحرف جمع حرف مثل فلس وأفلس، فعلى الأول يكون المعنى على سبعة أوجه من اللغات لأن أحد معاني الحرف في اللغة الوجه كقوله تعال {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} وعلى الثاني يكون المراد من إطلاق الحرف على الكلمة مجازا لكونه بعضها. قوله: "إن المسور بن مخرمة" أي ابن نوفل الزهري، كذا رواه عقيل ويونس وشعيب وابن أخي الزهري عن الزهري، واقتصر مالك عنه على عروة فلم يذكر المسور في إسناده، واقتصر عبد

(9/24)


الأعلى عن معمر عن الزهري فيما أخرجه النسائي عن المسور بن مخرمة فلم يذكر عبد الرحمن، وذكره عبد الرزاق عن معمر أخرجه الترمذي، وأخرجه مسلم من طريقه لكن أحال به قال: كرواية يونس وكأنه أخرجه من طريق ابن وهب عن يونس فذكرهما، وذكره المصنف في المحاربة عن الليث عن يونس تعليقا. قوله: "وعبد الرحمن بن عبد" هو بالتنوين غير مضاف لشيء. قوله: "القاري" بتشديد الياء التحتانية نسبة إلى القارة بطن من خزيمة بن مدركة، والقارة لقب واسمه أثيع بالمثلثة مصغر ابن مليح بالتصغير وآخره مهملة ابن الهون بضم الهاء ابن خزيمة. وقيل بل القارة هو الديش بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها معجمة من ذرية أثيع المذكور، وليس هو منسوبا إلى القراءة، وكانوا قد حالفوا بني زهرة وسكنوا معهم بالمدينة بعد الإسلام، وكان عبد الرحمن من كبار التابعين، وقد ذكر في الصحابة لكونه أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، أخرج ذلك البغوي في مسند الصحابة بإسناد لا بأس به، ومات سنة ثمان وثمانين في قول الأكثر وقيل سنة ثمانين، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد ذكره في الأشخاص، وله عنده حديث آخر عن عمر في الصيام. قوله: "سمعت هشام بن حكيم" أي ابن حزام الأسدي، له ولأبيه صحبة، وكان إسلامهما يوم الفتح، وكان لهشام فضل، ومات قبل أبيه، وليس له في البخاري رواية. وأخرج له مسلم حديثا واحدا مرفوعا من رواية عروة عنه، وهذا يدل على أنه تأخر إلى خلافة عثمان وعلي، ووهم من زعم أنه استشهد في خلافة أبي بكر أو عمر. وأخرج ابن سعد عن معن بن عيسى عن مالك عن الزهري: كان هشام بن حكيم يأمر بالمعروف، فكان عمر يقول إذا بلغه الشيء: أما ما عشت أنا وهشام فلا يكون ذلك. قوله: "يقرأ سورة الفرقان" كذا للجميع، وكذا في سائر طرق الحديث في المسانيد والجوامع، وذكر بعض الشراح أنه وقع عند الخطيب في "المبهمات" سورة الأحزاب بدل الفرقان، وهو غلط من النسخة التي وقف عليها، فإن الذي في كتاب الخطيب الفرقان كما في رواية غيره. قوله: "فكدت أساوره" بالسين المهملة أي آخذ برأسه قاله الجرجاني. وقال غيره: "أواثبه" وهو أشبه، قال النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة
من الرقش في أنيابها السم ناقع
أي واثبتني، وفي بانت سعاد:
إذا يساور قرنا لا يحل له
أن يترك القرن إلا وهو مخذول
ووقع عند الكشميهني والقابسي في رواية شعيب الآتية بعد أبواب "أثاوره" بالمثلثة عوض المهملة، قال عياض: والمعروف الأول. قلت: لكن معناها أيضا صحيح، ووقع في رواية مالك "أن أعجل عليه". قوله: "فتصبرت" في رواية مالك "ثم أمهلته حتى انصرف" أي من الصلاة، لقوله في هذه الرواية: "حتى سلم". قوله: "فلببته بردائه" بفتح اللام وموحدتين الأولى مشددة والثانية ساكنة، أي جمعت عليه ثيابه عند لبته لئلا يتفلت مني. وكان عمر شديدا في الأمر بالمعروف، وفعل ذلك عن اجتهاد منه لظنه أن هشاما خالف الصواب، ولهذا لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بل قال له أرسله. قوله: "كذبت" فيه إطلاق ذلك على غلبة الظن، أو المراد بقوله كذبت أي أخطأت لأن أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ. قوله: "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها" هذا قاله عمر استدلالا على ما ذهب إليه من تخطئة هشام، وإنما ساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته، بخلاف

(9/25)


هشام فإنه كان قريب العهد بالإسلام فخشي عمر من ذلك أن لا يكون أتقن القراءة، بخلاف نفسه فإنه كان قد أتقن ما سمع، وكان سبب اختلاف قراءتهما أن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قديما ثم لم يسمع ما نزل فيها بخلاف ما حفظه وشاهده، ولأن هشاما من مسلمة الفتح فكان النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه على ما نزل أخيرا فنشأ اختلافهما من ذلك، ومبادرة عمر للإنكار محمولة على أنه لم يكن سمع حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" إلا في هذه الوقعة. قوله: "فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "كأنه لما لببه بردائه صار يجره به، فلهذا صار قائدا له، ولولا ذلك لكان يسوقه، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما وصلا إليه: أرسله. قوله: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" هذا أورده النبي صلى الله عليه وسلم تطمينا لعمر لئلا ينكر تصويب الشيئين المختلفين، وقد وقع عند الطبري من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده قال: "قرأ رجل فغير عليه عمر، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: ألم تقرئني يا رسول الله؟ قال: بلى، قال فوقع في صدر عمر شيء عرفه النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، قال فضرب في صدره وقال: أبعد شيطانا. قالها ثلاثا. ثم قال: يا عمر، القرآن كله صواب، ما لم تجعل رحمة عذابا أو عذابا رحمة" ومن طريق ابن عمر "سمع عمر رجلا يقرأ: "فذكر نحوه ولم يذكر" فوقع في صدر عمر "لكن قال في آخره: "أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف". ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام، منها لأبي ابن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل كما تقدم، ومنها ما أخرجه أحمد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو "أن رجلا قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو إنما هي كذا وكذا، فذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأي ذلك قرأتم أصبتم، فلا تماروا فيه:" إسناده حسن، ولأحمد أيضا وأبي عبيد والطبري من حديث أبي جهم بن الصمة "أن رجلين اختلفا في آية من القرآن كلاهما يزعم أنه تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فذكر نحو حديث عمرو بن العاص. وللطبري والطبراني عن زيد بن أرقم قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرأني ابن مسعود سورة أقرأنيها زيد وأقرأنيها أبي بن كعب، فاختلفت قراءتهم، فبقراءة أيهم آخذ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعلى إلى جنبه - فقال علي: ليقرأ كل إنسان منكم كما علم فإنه حسن جميل" ولابن حبان والحاكم من حديث ابن مسعود "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من آل حم، فرحت إلى المسجد فقلت لرجل: اقرأها، فإذا هو يقرأ حروفا ما أقرؤها، فقال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه، فتغير وجهه وقال: إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، ثم أسر إلى علي شيئا، فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم. قال فانطلقنا وكل رجل منا يقرأ حروفا لا يقرؤها صاحبه" وأصل هذا سيأتي في آخر حديث في كتاب فضائل القرآن. وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة بلغها أبو حاتم بن حبان إلى خمسة وثلاثين قولا. وقال المنذري: أكثرها غير مختار. قوله :{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي من المنزل. وفيه إشارة إلى الحكمة في التعدد المذكور، وأنه للتيسير على القارئ، وهذا يقوي قول من قال: المراد بالأحرف تأدية المعنى باللفظ المرادف ولو كان من لغة واحدة، لأن لغة هشام بلسان قريش وكذلك عمر، ومع ذلك فقد اختلفت قراءتهما. نبه على ذلك ابن عبد البر، ونقل عن أكثر أهل العلم أن هذا هو المراد بالأحرف السبعة. وذهب أبو عبيد وآخرون إلى أن المراد، اختلاف اللغات، وهو اختيار ابن عطية، وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة، وأجيب بأن المراد أفصحها، فجاء عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات. منها خمس بلغة

(9/26)


العجز من هوازن قال: والعجز سعد ابن بكر وجثم ابن بكر ونصر بن معاوية وثقيف، وهؤلاء كلهم من هوازن. وقال لهم عليا هوازن، ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم يعني بني دارم. وأخرج أبو عبيد من وجه آخر عن ابن عباس قال: نزل القرآن بلغة الكعبين كعب قريش، وكعب خزاعة قيل وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم. وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهذيل وتيم الرباب والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر واستنكره ابن قتيبة واحتج بقوله تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فعلى هذا فتكون اللغات السبع في بطون قريش، وبذلك جزم أبو علي الأهوازي وقال أبو عبيد: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات، بلى اللغات السبع مفرقة فيه، فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن وغيرهم. قال: وبعض اللغات أسعد بها من بعض وأكثر نصيبا وقيل: نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر نزل القرآن بلغة مضر. وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر السبع من مضر أنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات. ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل فهم المراد كل ذلك مع اتفاق المعنى. وعلى هذا يتنزل اختلافهم في القراءة كما تقدم، وتصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا منهم. قلت: وتتمة ذلك أن يقال: إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، أي إن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته، بل المراعي في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث الباب أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعا له، ومن ثم أنكر عمر على ابن مسعود قراءته "حتى حين" أي "حتى حين" وكتب إليه: إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل. وكان ذلك قبل أن يجمع عثمان الناس على قراءة واحدة. قال ابن عبد البر بعد أن أخرجه من طريق أبي داود بسنده: يحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار، لا أن الذي قرأ به ابن مسعود لا يجوز. قال: وإذا أبيحت قراءته على سبعة أوجه أنزلت جاز الاختيار فيما أنزل، قال أبو شامة: ويحتمل أن يكون مراد عمر ثم عثمان بقولهما "نزلا بلسان قريش" أن ذلك كان أول نزوله، ثم إن الله تعالى سهله على الناس فجوز لهم أن يقرءوه على لغاتهم على أن لا يخرج ذلك عن لغات العرب لكونه بلسان عربي مبين. فأما من أراد قراءته من غير العرب فالاختيار له أن يقرأه بلسان قريش لأنه الأولى، وعلى هذا يحمل ما كتب به عمر إلى ابن مسعود لأن جميع اللغات بالنسبة لغير العربي مستوية في التعبير، فإذا لا بد من واحدة، فلتكن بلغة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما العربي المجبول على لغته فلو كلف قراءته بلغة قريش لعثر عليه التحول مع إباحة الله له أن يقرأه بلغته، ويشير إلى هذا قوله في حديث أبي كما تقدم "هون على أمتي" وقوله: "إن أمتي لا تطيق ذلك" ، وكأنه انتهى عند السبع لعلمه أنه لا تحتاج لفظة من ألفاظه إلى أكثر من ذلك العدد غالبا، وليس المراد كما تقدم أن كل لفظة منه تقرأ على سبعة أوجه قال ابن عبد البر: وهذا مجمع عليه، بل هو غير ممكن بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا الشيء القليل مثل

(9/27)


"عبد الطاغوت". وقد أنكر ابن قتيبة أن يكون في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه، ورد عليه ابن الأنباري بمثل "عبد الطاغوت، ولا تقل لهما أف، وجبريل" ويدل على ما قرره أنه أنزل أولا بلسان قريش ثم سهل على الأمة أن يقرءوه بغير لسان قريش وذلك بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام، فقد ثبت أن ورود التخفيف بذلك كان بعد الهجرة كما تقدم في حديث أبي بن كعب "أن جبريل لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند أضاة بني غفار فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك" الحديث أخرجه مسلم، وأضاة بني غفار هي بفتح الهمزة والضاد المعجمة بغير همز وآخره تاء تأنيث، هو مستنقع الماء كالغدير، وجمعه أضا كعصا، وقيل بالمد والهمز مثل إناء، وهو موضع بالمدينة النبوية ينسب إلى بني غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء لأنهم نزلوا عنده. وحاصل ما ذهب إليه هؤلاء أن معنى قوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي أنزل موسعا على القارئ أن يقرأه على سبعة أوجه، أي يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من صاحبه، كأنه قال أنزل على هذا الشرط أو على هذه التوسعة وذلك لتسهيل قراءته، إذ لو أخذوا بأن يقرءوه على حرف واحد لشق عليهم كما تقدم. قال ابن قتيبة في أول "تفسير المشكل" له: كان من تيسير الله أن أمر نبيه أن يقرأ كل قوم بلغتهم، فالهذلي يقرأ حتى حين يريد "حتى حين" والأسدي يقرأ تعلمون بكسر أوله، والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز، قال ولو أراد كل فريق منهم أن يزول عن لغته وما جرى عليه لسانه طفلا وناشئا وكهلا لشق عليه غاية المشقة، فيسر عليهم ذلك بمنه، ولو كان المراد أن كل كلمة منه تقرأ على سبعة أوجه لقال مثلا أنزل سبعة أحرف، وإنما المراد أن يأتي في الكلمة وجه أو وجهان أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة. وقال ابن عبد البر: أنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى الأحرف اللغات، لما تقدم من اختلاف هشام وعمر ولغتهما واحدة، قالوا: وإنما المعنى سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة، نحو أقبل وتعال وهلم. ثم ساق الأحاديث الماضية الدالة على ذلك. قلت: ويمكن الجمع بين القولين بأن يكون المراد بالأحرف تغاير الألفاظ مع اتفاق المعنى مع انحصار ذلك في سبع لغات، لكن لاختلاف القولين فائدة أخرى، وهي ما نبه عليه أبو عمرو الداني أن الأحرف السبعة ليست متفرقة في القرآن كلها ولا موجودة فيه في ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية واحدة فإنما قرأ ببعض الأحرف السبعة لا بكلها، وهذا إنما يتأتى على القول بأن المراد بالأحرف اللغات، وأما قول من يقول بالقول الآخر فيتأتى ذلك في ختمة واحدة بلا ريب، بل يمكن على ذلك القول أن تصل الأوجه السبعة في بعض القرآن كما تقدم. وقد حمل ابن قتيبة وغيره العدد المذكور على الوجوه التي يقع بها التغاير في سبعة أشياء: الأول ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، مثل {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} بنصب الراء ورفعها. الثاني ما يتغير بتغير الفعل مثل {بعد بين أسفارنا} و {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} بصيغة الطلب والفعل الماضي. الثالث ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة مثل "ثم ننشرها بالراء والزاي". الرابع ما يتغير بإبدال حرف قريب من مخرج الآخر مثل {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} في قراءة على وطلع منضود. الخامس ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} في قراءة أبي بكر الصديق وطلحة بن مصرف وزين العابدين {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ}. السادس ما يتغير بزيادة أو نقصان كما تقدم في التفسير عن ابن مسعود وأبي الدرداء {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى -والذكر والأنثى} هذا في النقصان، وأما في الزيادة فكما تقدم في تفسير {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في

(9/28)


حديث ابن عباس "وأنذر عشيرتك الأقربين، ورهطك منهم المخلصين". السابع ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها مثل "العهن المنفوش" في قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير كالصوف المنفوش، وهذا وجه حسن لكن استبعده قاسم بن ثابت في "الدلائل" لكون الرخصة في القراءات إنما وقعت وأكثرهم يومئذ لا يكتب ولا يعرف الرسم، وإنما كانوا يعرفون الحروف بمخارجها. قال: وأما ما وجد من الحروف المتباينة المخرج المتفقة الصورة مثل "ننشرها وننشرها" فإن السبب في ذلك تقارب معانيها، واتفق تشابه صورتها في الخط. قلت: ولا يلزم من ذلك توهين ما ذهب إليه ابن قتيبة، لاحتمال أن يكون الانحصار المذكور في ذلك وقع اتفاقا، وإنما اطلع عليه بالاستقراء، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يخفى. وقال أبو الفضل الرازي: الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف: الأول اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع أو تذكير وتأنيث. الثاني اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر، الثالث وجوه الإعراب، الرابع النقص والزيادة، الخامس التقديم والتأخير، السادس الإبدال، السابع اختلاف اللغات كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإدغام والإظهار ونحو ذلك. قلت: وقد أخذ كلام ابن قتيبة ونقحه. وذهب قوم إلى أن السبعة الأحرف سبعة أصناف من الكلام، واحتجوا بحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا به كل من عند ربنا" أخرجه أبو عبيد وغيره، قال ابن عبد البر: هذا حديث لا يثبت، لأنه من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود ولم يلق ابن مسعود، وقد رده قوم من أهل النظر منهم أبو جعفر أحمد بن أبي، عمران. قلت: وأطنب الطبري في مقدمة تفسيره في الرد على من قال به، وحاصله أنه يستحيل أن يجتمع في الحرف الواحد هذه الأوجه السبعة. وقد صحح الحديث المذكور ابن حبان والحاكم، وفي تصحيحه نظر لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر عن الزهري عن أبي سلمة مرسلا وقال هذا مرسل جيد، ثم قال: إن صح فمعنى قوله في هذا الحديث: "سبعة أحرف" أي سبعة أوجه كما فسرت في الحديث، وليس المراد الأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى، لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا، بل هي ظاهرة في أن المراد أن الكلمة الواحدة تقرأ على وجهين وثلاثة وأربعة إلى سبعة تهوينا وتيسيرا، والشيء الواحد لا يكون حراما وحلالا في حالة واحدة. وقال أبو علي الأهوازي وأبو العلاء الهمداني: قوله زاجر وآمر استئناف كلام آخر، أي هو زاجر أي القرآن؛ ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، وإنما توهم ذلك من توهمه من جهة الاتفاق في العدد. ويؤيده أنه جاء في بعض طرقه زاجرا وآمرا إلخ بالنصب أي نزل على هذه الصفة من الأبواب السبعة. وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب لا للأحرف، أي هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه، وأنزله الله على هذه الأصناف لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب. قلت: ومما يوضح أن قوله زاجر وآمر إلخ ليس تفسيرا للأحرف السبعة ما وقع في مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عقب حديث ابن عباس الأول من حديثي هذا الباب: قال ابن شهاب بلغني أن تلك الأحرف السبعة إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام، قال أبو شامة: وقد اختلف السلف في الأحرف

(9/29)


السبعة التي نزل بها القرآن هل هي مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم أو ليس فيه إلا حرف واحد منها، مال ابن الباقلاني إلى الأول، وصرح الطبري وجماعة بالثاني وهو المعتمد. وقد أخرج ابن أبي داود في "المصاحف" عن أبي الطاهر بن أبي السرح قال: سألت ابن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين هل هي الأحرف السبعة؟ قال: لا، وإنما الأحرف السبعة مثل هلم وتعال وأقبل، أي ذلك قلت أجزأك. قال وقال لي ابن وهب مثله. والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي "تجري من تحتها الأنهار" في آخر براءة وفي غيره بحذف "من" وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة بعضها دون بعض، وعدة هاءات وعدة لامات ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته لشخصين أو أعلم بذلك شخصا واحد وأمره بإثباتهما على الوجهين، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم فهو مما كانت القراءة جوزت به توسعة على الناس وتسهيلا؛ فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان وكفر بعضهم بعضا اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته وتركوا الباقي. قال الطبري: وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار كمن اقتصر مما خير فيه على خصلة واحدة، لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة لم يكن على سبيل الإيجاب بل على سبيل الرخصة. قلت: ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: "فاقرءوا ما تيسر منه" وقد قرر الطبري ذلك تقريرا أطنب فيه ووهى من قال بخلافه، ووافقه على ذلك جماعة منهم أبو العباس بن عمار في "شرح الهداية" وقال: أصح ما عليه الحذاق أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها لا كلها، وضابطه ما وافق رسم المصحف، فأما ما خالفه مثل "أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج" ومثل "إذا جاء فتح الله والنصر" فهو من تلك القراءات التي تركت إن صح السند بها، ولا يكفي صحة سندها في إثبات كونها قرآنا، ولا سيما والكثير منها مما يحتمل أن يكون من التأويل الذي قرن إلى التنزيل فصار يظن أنه منه. وقال البغوي في "شرح السنة" : المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر عثمان بنسخه في المصاحف وجمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك قطعا لمادة الخلاف، فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم وقال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل. وقال ابن عمار أيضا: لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة، ووقع له أيضا في اقتصاره عن كل إمام على راويين أنه صار من سمع قراءة راو ثالث غيرهما أبطلها وقد تكون هي أشهر وأصح وأظهر وربما بالغ من لا يفهم فخطأ أو كفر. وقال أبو بكر بن العربي: ليست هذه السبعة متعينة للجواز حتى لا يجوز غيرها كقراءة أبي جعفر وشيبة والأعمش ونحوهم، فإن هؤلاء مثلهم أو فوقهم. وكذا قال غير واحد منهم مكي بن أبي طالب وأبو العلاء الهمداني وغيرهم من أئمة القراء. وقال أبو حيان: ليس في كتاب ابن مجاهد ومن تبعه من القراءات المشهورة إلا النزر اليسير، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه سبعة عشر راويا، ثم ساق أسماءهم. واقتصر في كتاب ابن مجاهد على اليزيدي، واشتهر عن اليزيدي عشرة أنفس فكيف

(9/30)


يقتصر على السوسي والدوري وليس لهما مزية على غيرهما لأن الجميع مشتركون في الضبط والإتقان والاشتراك في الأخذ، قال: ولا أعرف لهذا سببا إلا ما قضى من نقص العلم فاقتصر هؤلاء على السبعة ثم اقتصر من بعدهم من السبعة على النزر اليسير. وقال أبو شامة: لم يرد ابن مجاهد ما نسب إليه، بل أخطأ من نسب إليه ذلك، وقد بالغ أبو طاهر بن أبي هاشم صاحبه في الرد على من نسب إليه أن مراده بالقراءات السبع الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، قال ابن أبي هشام: إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل، قال فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعا عن الصحابة بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط، امتثالا لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن، فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة. وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. ثم ساق نحو ما تقدم قال: وأما من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطا عظيما، قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة غيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنا، وهذا غلط عظيم، فإن الذين صنفوا القراءات من الأئمة المتقدمين - كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي حاتم السجستاني، وأبي، جعفر الطبري، وإسماعيل بن إسحاق، والقاضي - قد ذكروا أضعاف هؤلاء قلت: اقتصر أبو عبيدة في كتابه على خمسة عشر رجلا من كل مصر ثلاثة أنفس فذكر من مكة ابن كثير وابن محيصن، وحميدا الأعرج ومن أهل المدينة: أبا جعفر وشيبة ونافعا ومن أهل البصرة، أبا عمرو، وعيسى بن عمر، وعبد الله بن أبي إسحاق، ومن أهل الكوفة: يحيى بن وثاب، وعاصما، والأعمش ومن أهل الشام: عبد الله بن عامر، ويحيى بن الحارث. قال وذهب عني اسم الثالث ولم يذكر في الكوفيين حمزة، ولا الكسائي بل قال: إن جمهور أهل الكوفة بعد الثلاثة صاروا إلى قراءة حمزة ولم يجتمع عليه جماعتهم قال: وأما الكسائي فكان يتخير القراءات. فأخذ من قراءة الكوفيين بعضا وترك بعضا وقال بعد أن ساق أسماء من نقلت عنه القراءة من الصحابة والتابعين. فهؤلاء هم الذين يحكي عنهم عظم القراءة وإن كان الغالب عليهم الفقه والحديث، قال: ثم قام بعدهم بالقراءات قوم ليست لهم أسنانهم ولا تقدمهم غير أنهم تجردوا للقراءة واشتدت عنايتهم بها وطلبهم لها حتى صاروا بذلك أئمة يقتدي الناس بهم فيها فذكرهم، وذكر أبو حاتم زيادة على عشرين رجلا ولم يذكر فيهم ابن عامر ولا حمزة ولا الكسائي، وذكر الطبري في كتابه اثنين وعشرين رجلا، قال مكي: وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب، وبالكوف على قراءة حمزة وعاصم وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، واستمروا على ذلك. فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب، قال: والسبب في الاقتصار على السبعة مع أن في أئمة القراء من هو أجل منهم قدرا ومثلهم أكثر من عددهم أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرا جدا، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا - مما يوافق خط المصحف - على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة والاتفاق على الأخذ عنه فأفردوا من كل مصر إماما واحدا، ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة به كقراءة يعقوب وعاصم الجحدري وأبي

(9/31)


جعفر وشيبة وغيرهم، قال وممن اختار من القراءات كما اختار الكسائي أبو عبيد وأبو حاتم والمفضل وأبو جعفر الطبري وغيرهم وذلك واضح في تصانيفهم في ذلك، وقد صنف ابن جبير المكي وكان قبل ابن مجاهد كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة اختار من كل مصر إماما، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار، ويقال إنه وجه بسبعة هذه الخمسة ومصحفا إلى اليمن ومصحفا إلى البحرين لكن لم نسمع لهذين المصحفين خبرا، وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف فاستبدلوا من غير البحرين واليمن قارئين يكمل بهما العدد فصادف ذلك موافقة العدد الذي ورد الخبر بها وهو أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فوقع ذلك لمن لم يعرف أصل المسألة ولم يكن له فطنة فظن أن المراد بالقراءات السبع الأحرف السبعة، ولا سيما وقد كثر استعمالهم الحرف في موضع القراءة فقالوا: قرأ بحرف نافع بحرف ابن كثير، فتأكد الظن بذلك، وليس الأمر كما ظنه، والأصل المعتمد عليه عند الأئمة في ذلك أنه الذي يصح سنده في السماع ويستقيم وجهه في العربية ويوافق خط المصحف، وربما زاد بعضهم الاتفاق عليه ونعني بالاتفاق كما قال مكي بن أبي طالب ما اتفق عليه قراء المدينة والكوفة ولا سيما إذا اتفق نافع وعاصم، قال وربما أرادوا بالاتفاق ما اتفق عليه أهل الحرمين، قال: وأصح القراءات سندا نافع وعاصم، وأفصحها أبو عمرو والكسائي. وقال ابن السمعاني1 في "الشافي" : التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر رأيهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك قال: وقد صنف غيره في السبع أيضا فذكر شيئا كثيرا من الروايات عنهم غير ما في كتابه، فلم يقل أحد إنه لا تجوز القراءة بذلك لخلو ذلك المصحف عنه. وقال أبو الفضل الرازي في "اللوائح" بعد أن ذكر الشبهة التي من أجلها ظن الأغبياء أن أحرف الأئمة السبعة هي المشار إليها في الحديث وأن الأئمة بعد ابن مجاهد جعلوا القراءات ثمانية أو عشرة لأجل ذلك قال: واقتفيت أثرهم لأجل ذلك وأقول: لو اختار إمام من أئمة القراء حروفا وجرد طريقا في القراءة بشرط الاختيار لم يكن ذلك خارجا عن الأحرف السبعة. وقال الكواشي: كل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة فعلى هذا الأصل بنى قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف، ومتى فقد شرط من الثلاثة فهو الشاذ قلت: وإنما أوسعت القول في هذا لما تجدد في الأعصار المتأخرة من توهم أن القراءات المشهورة منحصرة في مثل "التيسير" والشاطبية، وقد اشتد إنكار أئمة هذا الشأن على من ظن ذلك كأبي شامة وأبي حيان، وآخر من صرح بذلك السبكي فقال في "شرح المنهاج" عند الكلام على القراءة بالشاذ صرح كثير من الفقهاء بأن ما عدا السبعة شاذ توهما منه انحصار المشهور فيها، والحق أن الخارج عن السبعة على قسمين: الأول ما يخالف رسم المصحف فلا شك في أنه ليس بقرآن، والثاني ما لا يخالف رسم المصحف وهو على قسمين أيضا: الأول ما ورد من طريق غريبة فهذا ملحق بالأول، والثاني ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن القراءة به قديما وحديثا فهذا لا وجه للمنع منه كقراءة يعقوب وأبي جعفر وغيرهما. ثم نقل كلام البغوي وقال: هو أولى من يعتمد عليه في ذلك، فإنه فقيه محدث مقرئ. ثم قال: وهذا التفصيل بعينه وارد في الروايات عن السبعة، فإن عنهم شيئا كثيرا من الشواذ وهو الذي لم يأت إلا
ـــــــ
1 في نسخة أخرى: قال إسماعيل الخ.

(9/32)


من طريق غريبة وإن اشتهرت القراءة من ذلك المنفرد. وكذا قال أبو شامة. ونحن وإن قلنا إن القراءات الصحيحة إليهم نسبت وعنهم نقلت فلا يلزم أن جميع ما نقل عنهم بهذه الصفة، بل فيه الضعيف لخروجه عن الأركان الثلاثة: ولهذا ترى كتب المصنفين مختلفة في ذلك، فالاعتماد في غير ذلك على الضابط المتفق عليه. "فصل" لم أقف في شيء من طرق حديث عمر على تعيين الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان. وقد زعم بعضهم فيما حكاه ابن التين أنه ليس في هذه السورة عند القراء خلاف فيما ينقص من خط المصحف سوى قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} وقرئ "سرجا" جمع سراج، قال: وباقي ما فيها من الخلاف لا يخالف خط المصنف. قلت: وقد تتبع أبو عمر بن عبد البر ما اختلف فيه القراء من ذلك من لدن الصحابة ومن بعدهم من هذه السورة، فأوردته ملخصا وزدت عليه قدر ما ذكره وزيادة على ذلك، وفيه تعقب على ما حكاه ابن التين في سبعة مواضع أو أكثر، قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} قرأ أبو الجوزاء وأبو السوار "أنزل" بألف. قوله: {عَلَى عَبْدِهِ} قرأ عبد الله بن الزبير وعاصم الجحدري "على عباده" ومعاذ أبو حليمة وأبو نهيك "على عبيده". قوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} قرأ طلحة بن مصرف ورويت عن إبراهيم النخعي بضم المثناة الأولى وكسر الثانية مبنيا للمفعول، وإذا ابتدأ ضم أوله. قوله: {مَلَكٌ فَيَكُونَ} قرأ عاصم الجحدري وأبو المتوكل ويحيى بن يعمر "فيكون" بضم النون. قوله: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} قرأ الأعمش وأبو حصين "يكون" بالتحتانية. قوله: {يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ الكوفيون سوى عاصم "نأكل" بالنون ونقله في الكامل عن القاسم وابن سعد وابن مقسم. قوله: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} قرأ ابن كثير وابن عامر وحميد وتبعهم أبو بكر وشيبان عن عاصم وكذا محجوب عن أبي عمرو وورش "يجعل" برفع اللام والباقون بالجزم عطفا على محل جعل وقيل لإدغامها، وهذا يجري على طريقة أبي عمرو بن العلاء، وقرأ بنصب اللام عمر بن ذر وابن أبي عبلة وطلحة ابن سليمان وعبد الله بن موسى، وذكرها الفراء جوازا على إضمار إن ولم ينقلها، وضعفها ابن جني. قوله: {مَكَاناً ضَيِّقاً} قرأ ابن كثير والأعمش وعلى بن نصر ومسلمة بن محارب بالتخفيف، ونقلها عقبة بن يسار عن أبي عمرو أيضا. قوله: {مُقَرَّنِينَ} قرأ عاصم الجحدري ومحمد بن السميفع "مقرنون". قوله: {ثُبُوراً} قرأ المذكوران بفتح المثلثة. قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب والأعرج والجحدري وكذا الحسن وقتادة والأعمش على اختلاف عنهم بالتحتانية وقرأ الأعرج1 بكسر الشين، قال ابن جني وهي قوية في القياس متروكة في الاستعمال. قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قرأ ابن مسعود وأبو نهيك وعمر بن ذر " وما يعبدون من دوننا". قوله: {فَيَقُولُ} قرأ ابن عامر وطلحة ابن مصرف وسلام وابن حسان وطلحة بن سليمان وعيسى بن عمر وكذا الحسن وقتادة على اختلاف عنهما ورويت عن عبد الوارث عن أبي عمرو بالنون. قوله: {مَا كَانَ يَنْبَغِي} قرأ أبو عيسى الأسواري وعاصم الجحدري بضم الياء وفتح الغين. قوله: {أَنْ نَتَّخِذَ} قرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت والباقر وأخوه زيد وجعفر الصادق ونصر بن علقمة ومكحول وشيبة وحفص ابن حميد وأبو جعفر القارئ وأبو حاتم السجستاني والزعفران - وروى عن مجاهد - وأبو رجاء
ـــــــ
1 في نسخة الأعمش

(9/33)


والحسن بضم أوله وفتح الخاء على البناء للمفعول، وأنكرها أبو عبيد وزعم الفراء أن أبا جعفر تفرد بها. قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} حكى القرطبي أنها قرئت بالتخفيف. قوله: {بِمَا تَقُولُونَ} قرأ ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير والأعمش وحميد بن قيس وابن جريج وعمر بن ذر وأبو حيوة ورويت عن قنبل بالتحتانية. قوله: "فما يستطيعون" قرأ حفص في الأكثر عنه عن عاصم بالفوقانية وكذا الأعمش وطلحة بن مصرف وأبو حيوة. قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ} قرى "يذقه" بالتحتانية. قوله {إِلَّا إِنَّهُمْ} قرئ "أنهم" بفتح الهمزة والأصل لأنهم فحذفت اللام، نقل هذا والذي قبله من "إعراب السمين". قوله: {وَيَمْشُونَ} قرأ علي وابن مسعود وابنه عبد الرحمن وأبو عبد الرحمن السلمي بفتح الميم وتشديد الشين مبنيا للفاعل وللمفعول أيضا. قوله: {حِجْراً مَحْجُوراً} قرأ الحسن والضحاك وقتادة وأبو رجاء والأعمش "حجرا" بضم أوله وهي لغة، وحكى أبو البقاء الفتح عن بعض المصريين ولم أر من نقلها قراءة. قوله :{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} قرأ الكوفيون وأبو عمر والحسن في المشهور عنهما وعمرو بن ميمون ونعيم بن ميسرة بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد ووافقهم عبد الوارث ومعاذ عن أبي عمرو وكذا محبوب وكذا الحمصي من الشاميين في نقل الهذلي. قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} قرأ الأكثر بضم النون وتشديد الزاي وفتح اللام الملائكة بالرفع، وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو ورويت عن معاذ أبي حليمة بتخفيف الزاي وضم اللام، والأصل تنزل الملائكة فحذفت تخفيفا، وقرأ أبو رجاء ويحيى بن يعمر وعمر بن ذر ورويت عن ابن مسعود ونقلها ابن مقسم عن المكي واختارها الهذلي بفتح النون وتشديد الزاي وفتح اللام على البناء للفاعل الملائكة بالنصب، وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو بالتخفيف الملائكة بالرفع على البناء للفاعل، ورويت عن الخفاف على البناء للمفعول أيضا، وقرأ ابن كثير في المشهور عنه وشعيب عن أبي عمرو "وننزل" بنونين الثانية خفيفة الملائكة بالنصب، وقرئ بالتشديد عن ابن كثير أيضا، وقرأ هارون عن أبي عمرو بمثناة أوله وفتح النون وكسر الزاي الثقيلة الملائكة بالرفع أي تنزل ما أمرت به، وروي عن أبي بن كعب مثله لكن بفتح الزاي وقرأ أبو السمال وأبو الأشهب كالمشهور عن ابن كثير لكن بألف أوله، وعن أبي بن كعب "نزلت: بفتح وتخفيف وزيادة مثناة في آخره، وعنه مثله لكن بضم أوله مشددا، وعنه "تنزلت: بمثناة في أوله وفي آخره بوزن تفعلت. قوله: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} قرأ أبو عمرو بفتح الياء الأخيرة من {لَيْتَنِي} قوله: {يَا وَيْلَتَى} قرأ الحسن بكسر المثناة بالإضافة، ومنهم من أمال. قوله: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا} قرأ أبو عمرو وروح وأهل مكة - إلا رواية ابن مجاهد عن قنبل - بفتح الياء "من قومي". قوله:{لِنُثَبِّتَ}قرأ ابن مسعود بالتحتانية بدل النون، وكذا روى عن حميد ابن قيس وأبي حصين وأبي عمران الجوني. قوله: {فَدَمَّرْنَاهُمْ} قرأ علي ومسلمة بن محارب" فدمرانهم" بكسر الميم وفتح الراء وكسر النون الثقيلة بينهما ألف تثنية، وعن علي بغير نون، والخطاب لموسى وهارون. قوله: {وَعَاداً وَثَمُودَ} قرأ حمزة ويعقوب وحفص وثمود بغير صرف. قوله: {أُمْطِرَتْ} قرأ معاذ أبو حليمة وزيد بن علي وأبو نهيك "مطرت" بضم أوله وكسر الطاء مبنيا للمفعول، وقرأ ابن مسعود "أمطروا" وعنه "أمطرناهم". قوله: {مَطَرَ السَّوْءِ} قرأ أبو السمال وأبو العالية وعاصم الجحدري بضم السين، وأبو السمال أيضا مثله بغير همز. وقرأ علي وحفيده زين العابدين وجعفر بن محمد بن زين العابدين بفتح السين وتشديد الواو بلا همز. وكذا قرأ الضحاك لكن بالتخفيف. قوله: {هُزُواً} قرأ حمزة وإسماعيل بن جعفر والمفضل بإسكان الزاي

(9/34)


وحفص بالضم بغير همز. قوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ} قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب "اختاره الله من بيننا". قوله: "عن آلهتنا" قرأ ابن مسعود وأبي عن عبادة آلهتنا. قوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ} قرأ ابن مسعود بمد الهمزة وكسر اللام والتنوين بصيغة الجمع، وقرأ الأعرج بكسر أوله وفتح اللام بعدها ألف وهاء تأنيث وهو اسم الشمس، وعنه بضم أوله أيضا. قوله: {أَمْ تَحْسَبُ} قرأ الشامي بفتح السين. قوله: {أَوْ يَعْقِلُونَ} قرأ ابن مسعود "أو يبصرون" قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ} قرأ ابن مسعود "جعل" قوله: " {الرِّيَاحِ} قرأ ابن كثير وابن محيصن والحسن "الريح" . قوله :" نشرا" اقرأ ابن عامر وقتادة وأبو رجاء وعمرو بن ميمون بسكون الشين، وتابعهم هارون الأعور وخارجة بن مصعب كلاهما عن أبي عمرو، وقرأ الكوفيون سوى عاصم وطائفة بفتح أوله ثم سكون، وكذا قرأ الحسن وجعفر بن محمد والعلاء بن شبابة، وقرأ عاصم بموحدة بدل النون، وتابعه عيسى الهمداني وأبان بن ثعلب، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي في رواية وابن السميفع بضم الموحدة مقصور بوزن حبلى قوله: {لِنُحْيِيَ بِهِ} قرأ ابن مسعود "لننشر به". قوله :{مَيْتاً} قرأ أبو جعفر بالتشديد. قوله: {وَنُسْقِيَهُ} قرأ أبو عمرو وأبو حيوة وابن أبي عبلة بفتح النون، وهي رواية عن أبي عمرو وعاصم والأعمش. قوله: {وَأَنَاسِيَّ} قرأ يحيى بن الحارث بتخفيف آخره، وهي رواية عن الكسائي وعن أبي بكر بن عياش وعن قتيبة الميال وذكرها الفراء جوازا لا نقلا. قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} قرأ عكرمة بتخفيف الراء. قوله: {لِيَذَّكَّرُوا} قرأ الكوفيون سوى عاصم بسكون الدال مخففا. قوله: {وَهَذَا مِلْحٌ } قرأ أبو حصين وأبو الجوزاء وأبو المتوكل وأبو حيوة وعمر بن ذر ونقلها الهذلي عن طلحة بن مصرف، ورويت عن الكسائي وقتيبة الميال بفتح الميم وكسر اللام، واستنكرها أبو حاتم السجستاني. وقال ابن جني يجوز أن يكون أراد مالح فحذف الألف تخفيفا قال: مع أن مالح ليست فصيحة. قوله: {وَحِجْراً} تقدم، قوله: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ} قرأ زيد بن علي بجر النون نعتا للحي، وابن معدان بالنصب قال على المدح. قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ} قرأ المكيون والكسائي وخلف وأبان بن يزيد وإسماعيل بن جعفر، ورويت عن أبي عمرو وعن نافع "فسل به" بغير همز. قوله: "لما تأمرنا" قرأ الكوفيون بالتحتانية، لكن اختلف عن حفص، وقرأ ابن مسعود "لما تأمرنا به". قوله: "سراجا" قرأ الكوفيون سوى عاصم {سِرَاجاً} بضمتين، لكن سكن الراء الأعمش ويحيى بن وثاب وأبان بن ثعلب والشيرازي. قوله: "وقمر" قرأ الأعمش وأبو حصين والحسن ورويت عن عاصم بضم القاف وسكون الميم، وعن الأعمش أيضا فتح أوله. قوله: {أَنْ يُذْكَرَ} قرأ حمزة بالتخفيف وأبي بن كعب يتذكر ورويت عن علي وابن مسعود وقرأها أيضا إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف وعيسى الهمداني والباقر وأبوه وعبد الله بن إدريس ونعيم ابن ميسرة. قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} قرأ أبي بن كعب بضم العين وتشديد الموحدة، والحسن بضمتين بغير ألف وأبو المتوكل وأبو نهيك وأبو الجوزاء بفتح ثم كسر ثم تحتانية ساكنة قوله: {يَمْشُونَ} قرأ علي ومعاذ القارئ وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو المتوكل وأبو نهيك وابن السميفع بالتشديد مبنيا للفاعل" وعاصم الجحدري وعيسى بن، عمر مبنيا للمفعول. قوله: {سُجَّداً} قرأ إبراهيم النخعي "سجودا". قوله: {وَمُقَاماً} قرأ أبو زيد بفتح الميم. قوله: {وَلَمْ يَقْتُرُوا} قرأ ابن عامر والمدنيون هي رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي وعن الحسن وأبي رجاء ونعيم بن ميسرة والمفضل والأزرق والجعفي وهي رواية عن أبي بكر بضم أوله من الرباعي

(9/35)


وأنكرها أبو حاتم، وقرأ الكوفيون إلا من تقدم منهم وأبو عمرو في رواية بفتح أوله وضم التاء، وقرأ عاصم الجحدري وأبو حيوة وعيسى بن عمر وهي رواية عن أبي عمرو أيضا بضم أوله وفتح القاف وتشديد التاء والباقون بفتح أوله. وكسر التاء. قوله: {قَوَاماً} قرأ حسان بن عبد الرحمن صاحب عائشة بكسر القاف، وأبو حصين وعيسى بن عمر بتشديد الواو مع فتح القاف. قوله: {يَلْقَ أَثَاماً} قرأ ابن مسعود وأبو رجاء "يلقى" بإشباع القاف، وقرأ عمر بن ذر بضم أوله وفتح اللام وتشديد القاف بغير إشباع. قوله: {يُضَاعِفُ} قرأ أبو بكر عن عاصم برفع الفاء، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وشيبة ويعقوب يضعف بالتشديد. وقرأ طلحة بن سليمان بالنون، "العذاب" بالنصب. قوله: {َيَخْلُدْ} قرأ ابن عامر والأعمش وأبو بكر عن عاصم بالرفع. وقرأ أبو حيوة بضم أوله وفتح الخاء وتشديد اللام، ورويت عن الجعفي عن شعبة ورويت عن أبي عمرو لكن بتخفيف اللام، وقرأ طلحة بن مصرف ومعاذ القارئ وأبو المتوكل وأبو نهيك وعاصم الجحدري بالمثناة مع الجزم على الخطاب. قوله: {فِيهِ مُهَاناً} قرأ ابن كثير بإشباع الهاء من "فيه:" حيث جاء، وتابعه حفص عن عاصم هنا فقط. قوله: "وذريتنا" قرأ أبو عمرو والكوفيون سوى رواية عن عاصم بالإفراد، والباقون بالجمع. قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قرأ أبو الدرداء وابن مسعود وأبو هريرة وأبو المتوكل وأبو نهيك وحميد بن قيس وعمر بن ذر "قرأت" بصيغة الجمع. قوله: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} قرأ ابن مسعود "يجزون الجنة". قوله:"ويلقون فيها" قرأ الكوفيون سوى حفص وابن معدان بفتح أوله وسكون اللام، وكذا قرأ النميري عن المفضل. قوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} قرأ ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير "فقد كذب الكافرون" وحكى الواقدي عن بعضهم تخفيف الذال. قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ} قرأ أبو السمال وأبو المتوكل وعيسى بن عمر وأبان بن تغلب بالفوقانية. قوله: {لِزَاماً} قرأ أبو السمال بفتح اللام أسنده أبو حاتم السجستاني عن أبي زيد عنه ونقلها الهذلي عن أبان بن تغلب. قال أبو عمر بن عبد البر بعد أن أورد بعض ما أوردته: هذا ما في سورة الفرقان من الحروف التي بأيدي أهل العلم بالقرآن. والله أعلم بما أنكر منها عمر على هشام وما قرأ به عمر، فقد يمكن أن يكون هناك حروف أخرى لم تصل إلي، وليس كل من قرأ بشيء نقل ذلك عنه، ولكن إن فات من ذلك بشيء فهو النزر اليسير. كذا قال، والذي ذكرناه يزيد على ما ذكره مثله أو أكثر، ولكنا لا نتقلد عهدة ذلك، ومع ذلك فنقول يحتمل أن تكون بقيت أشياء لم يطلع عليها، على أني تركت أشياء مما يتعلق بصفة الأداء من الهمز والمد والروم والإشمام ونحو ذلك. ثم بعد كتابتي هذا وإسماعه وقفت على الكتاب الكبير المسمى "بالجامع الأكبر والبحر الأزخر" تأليف شيخ شيوخنا أبي القاسم عيسى بن عبد العزيز اللخمي الذي ذكر أنه جمع فيه سبعة آلاف رواية من طريق غير ما لا يليق. وهو في نحو ثلاثين مجلدة، فالتقطت منه ما لم يتقدم ذكره من الاختلاف فقارب قدر ما كنت ذكرته أولا وقد أوردته على ترتيب السورة قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} قرأ أدهم السدوسي بالمثناة فوق قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} قرأ سعيد بن يوسف بكسر الهمزة وفتح اللام بعدها ألف قوله: {ويمشي} قرأ العلاء بن شبابة وموسى بن إسحاق بضم أوله وفتح الميم وتشديد الشين المفتوحة، ونقل عن الحجاج بضم أوله وسكون الميم وبالسين المهملة المكسورة وقالوا هو تصحيف. قوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ} قرأ ابن أنعم بتحتانية أوله، وكذا محمد بن جعفر بفتح المثناة الأولى وسكون الثانية. قوله: "فلا يستطيعون" قرأ زهير بن

(9/36)


أحمد بمثناة من فوق. قوله: {جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ سالم بن عامر "جنات" بصيغة الجمع. قوله: {مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ} قرأ عبد الله بن سلام "مقرنين" بالتخفيف وقرأ سهل "مقرنون" بالتخفيف مع الواو. قوله: {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} قرأ أبو هشام "أم جنات" بصيغة الجمع. قوله: {عِبَادِي هَؤُلاءِ} قرأها الوليد بن مسلم بتحريك الياء. قوله: {نسُوا الذِّكْرَ} قرأ أبو مالك بضم النون وتشديد السين. قوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً} قرأ ابن مسعود "فما يستطيعون لكم" وأبي بن كعب "فما يستطيعون لك" حكى ذلك أحمد بن يحيى بن مالك عن عبد الوهاب عن هارون الأعور، وروى عن ابن الأصبهاني عن أبي بكر بن عياش وعن يوسف بن سعيد عن خلف ابن تميم عن زائدة كلاهما عن الأعمش بزيادة "لكم" أيضا. قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} قرأ يحيى بن واضح. "ومن يكذب" بدل يظلم ووزنها، وقرأها أيضا هارون الأعور "يكذب" بالتشديد. قوله: {عَذَاباً كَبِيراً} قرأ شعيب عن أبي حمزة بالمثلثة بدل الموحدة. قوله: {لَوْلا أُنْزِلَ} قرأ جعفر بن محمد بفتح الهمزة والزاي ونصب الملائكة. قوله: {عُتُوّاً كَبِيراً} قرئ "عتيا" بتحتانية بدل الواو، وقرأ أبو إسحاق الكوفي "كثيرا" بالمثلثة بدل الموحدة. قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} قرأ عبد الرحمن بن عبد الله "ترون" بالمثناة من فوق. قوله: {وَيَقُولُونَ} قرأ هشيم عن يونس "وتقولون" بالمثناة من فوق أيضا. قوله :{وَقَدِمْنَا} قرأ سعيد بن إسماعيل بفتح الدال. قوله: "إلى ما عملوا من عمل " قرأ الوكيعي "من عمل صالح" بزيادة "صالح". قوله: {هَبَاءً} قرأ محارب بضم الهاء مع المد، وقرأ نصر بن يوسف بالضم والقصر والتنوين، وقرأ ابن دينار كذلك لكن بفتح الهاء. قوله: {مُسْتَقَرّاً} قرأ طلحة بن موسى بكسر القاف. قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} قرأ أبو ضمام "ويوم" بالرفع والتنوين، وأبو وجرة بالرفع بلا تنوين، وقرأ عصمة عن الأعمش يوم "يرون السماء تشقق" بحذف الواو وزيادة يرون. قوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} قرأ سليمان بن إبراهيم "الملك" بفتح الميم وكسر اللام. قوله: {الْحَقُّ} قرأ أبو جعفر بن بزيد بنصب الحق. قوله: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} قرأ عامر بن نصير "تخذت". قوله: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} قرأ المعلى عن الجحدري بفتح النون والزاي مخففا، وقرأ زيد بن علي وعبيد الله بن خليد كذلك لكن مثقلا. قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ} قرأها الحسن بن محمد بن أبي سعدان عن أبيه بالرفع. قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} قرأ حامد الرمهرمزي "آيات" بالجمع. قوله: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} قرأ سورة بن إبراهيم "القريات" بالجمع، وقرأ بهرام "القرية" بالتصغير مثقلا. قوله: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} قرأ أبو حمزة عن شعبة بالمثناة من فوق فيهما. قوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ} قرأ عثمان بن المبارك بالمثناة من فوق فيهما قوله: {أَمْ تَحْسَبُ} قرأ حمزة بن حمزة بضم التحتانية وفتح السين المهملة. قوله :{سُبَاتاً} قرأ يوسف بن أحمد بكسر المهملة أوله وقال: معناه الراحة. قوله: {جِهَاداً كَبِيراً} قرأ محمد بن الحنفية بالمثلثة. قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} قرأ ابن عرفة "مرج" بتشديد الراء. قوله: "هذا عذب" قرأ الحسن بن محمد بن أبي سعدان بكسر الذال المعجمة. قوله: {فَجَعَلَهُ نَسَباً} قرأ الحجاج بن يوسف سببا بمهملة ثم موحدتين. قوله: {أَنَسْجُدُ} قرأ أبو المتوكل بالتاء المثناة من فوق. قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} قرأ الحسن بن محمد بن أبي سعدان عن أبيه "خلفه" بفتح الخاء وبالهاء ضمير يعود على الليل. قوله: {عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} قرأ ابن السميفع بضم الهاء. قوله: {قَالُوا سَلاماً} قرأ حمزة بن عروة سلما بكسر السين وسكون اللام. قوله: {بَيْنَ ذَلِكَ} قرأ جعفر بن إلياس بضم النون وقال: هو

(9/37)


اسم كان. قوله: {لا يَدْعُونَ} قرأ جعفر بن محمد بتشديد الدال. قوله: {وَلا يَقْتُلُونَ} قرأ ابن جامع بضم أوله وفتح القاف وتشديد التاء المكسورة، وقرأها معاذ كذلك لكن بألف قبل المثناة. قوله: {أَثَاماً} قرأ عبد الله بن صالح العجلي عن حمزة "إثما" بكسر أوله وسكون ثانيه بغير ألف قبل الميم، وروي عن ابن مسعود بصيغة الجمع {أَثَاماً} قوله: {يُبَدِّلُ اللَّهُ} قرأ عبد الحميد عن أبي بكر وابن أبي عبلة وأبان وابن مجالد عن عاصم، وأبو عمارة والبرهمي عن الأعمش، بسكون الموحدة. قوله: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قرأ أبو المظفر بنون بدل الراء قوله: {ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} قرأ تميم بن زياد بفتح الذال والكاف. قوله: {بِآياتِ رَبِّهِمْ} قرأ سليمان بن يزيد "بآية" بالإفراد. قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قرأ معروف بن حكيم "قرة عين" بالإفراد وكذا أبو صالح من رواية الكلبي عنه لكن قال: "قرات عين".
قوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ} قرأ جعفر بن محمد "واجعل لنا من المتقين إماما". قوله :{يُجْزَوْنَ} قرأ أبي في رواية: "يجازون". قوله: {الغرفة} قرأ أبو حامد "الغرفات". قوله :{تحية} قرأ ابن عمير "تحيات" بالجمع. قوله: "وسلاما" قرأ الحارث "وسلما" في الموضعين. قوله: {مستقرا ومقاما} قرأ عمير بن عمران "ومقاما" بفتح الميم. قوله: {فقد كذبتم} قرأ عبد ربه بن سعيد بتخفيف الذال. فهذه ستة وخمسون موضعا ليس فيها من المشهور شيء، فليضف إلى ما ذكرته أولا فتكون جملتها نحوا من مائة وثلاثين موضعا، والله أعلم واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} على جواز القراءة بكل ما ثبت من القرآن بالشروط المتقدمة، وهي شروط لا بد من اعتبارها، فمتى اختل شرط منها لم تكن تلك القراءة معتمدة، وقد قرر ذلك أبو شامة في "الوجيز" تقريرا بليغا وقال: لا يقطع بالقراءة بأنها منزلة من عند الله إلا إذا اتفقت الطرق عن ذلك الإمام الذي قام بإمامة المصر بالقراءة وأجمع أهل عصره ومن بعدهم على إمامته في ذلك، قال: أما إذا اختلفت الطرق عنه فلا، فلو اشتملت الآية الواحدة على قراءات مختلفة مع وجود الشرط المذكور جازت القراءة بها بشرط أن لا يختل المعنى ولا يتغير الإعراب. وذكر أبو شامة في "الوجيز" أن فتوى وردت من العجم لدمشق سألوا عن قارئ يقرأ عشرا من القرآن فيخلط القراءات، فأجاب ابن الحاجب وابن الصلاح وغير واحد من أئمة ذلك العصر بالجواز بالشروط التي ذكرناها. كمن يقرأ مثلا {فتلقى آدم من ربه كلمات} فلا يقرأ لابن كثير بنصب آدم ولأبي عمرو بنصب كلمات، وكمن يقرأ: {نَغْفِرْ لَكُمْ} بالنون "خطاياتكم" بالرفع، قال أبو شامة: لا شك في منع مثل هذا، وما عداه فجائز والله أعلم. وقد شاع في زماننا من طائفة من القراء إنكار ذلك حتى صرح بعضهم بتحريمه فظن كثير من الفقهاء أن لهم في ذلك معتمدا فتابعوهم وقالوا: أهل كل فن أدرى بفنهم، وهذا ذهول ممن قاله، فإن علم الحلال والحرام إنما يتلقى من الفقهاء، والذي منع ذلك من القراء إنما هو محمول على ما إذا قرأ برواية خاصة فإنه متى خلطها كان كاذبا على ذلك القارئ الخاص الذي شرع في إقراء روايته، فمن أقرأ رواية لم يحسن أن ينتقل عنها إلى رواية أخرى كما قاله الشيخ محيي الدين، وذلك من الأولوية لا على الحتم، أما المنع على الإطلاق فلا، والله أعلم.

(9/38)


6- باب تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ
4993- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ وَأَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ

(9/38)


مَاهَكٍ قَالَ إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ قَالَتْ وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ قَالَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ قَالَتْ لِمَ قَالَ لَعَلِّي أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ قَالَتْ وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الْحَلاَلُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لاَ تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لاَ تَزْنُوا لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلاَّ وَأَنَا عِنْدَهُ قَالَ فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ"
4994- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَطه وَالأَنْبِيَاءِ إِنَّهُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي"
4995- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ تَعَلَّمْتُ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
4996- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَقَدْ تَعَلَّمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهُنَّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَدَخَلَ مَعَهُ عَلْقَمَةُ وَخَرَجَ عَلْقَمَةُ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ الْحَوَامِيمُ حم الدُّخَانِ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ"
قوله: "باب تأليف القرآن" أي جمع آيات السورة الواحدة، أو جمع السور مرتبة في المصحف. قوله: "أن ابن جريج أخبرهم قال وأخبرني يوسف" كذا عندهم، وما عرفت ماذا عطف عليه، ثم رأيت الواو ساقطة في رواية النسفي، وكذا ما وقفت عليه من طرق هذا الحديث. قوله: "إذ جاءها عراقي" أي رجل من أهل العراق، ولم أقف على اسمه. قوله: "أي الكفن خير؟ قالت ويحك وما يضرك" ؟ لعل هذا العراقي كان سمع حديث سمرة المرفوع "البسوا من ثيابكم البياض وكفنوا فيها موتاكم فإنها أطهر وأطيب" وهو عند الترمذي مصححا، وأخرجه أيضا عن ابن عباس: فلعل العراقي سمعه فأراد أن يستثبت عائشة في ذلك، وكان أهل العراق اشتهروا بالتعنت في السؤال، فلهذا قال له عائشة: وما يضرك؟ تعني أي كفن كفنت فيه أجزأ. وقول ابن عمر الذي سأله عن دم البعوض مشهور حيث قال: انظروا إلى أهل العراق، يسألون عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "أؤلف عليه القرآن، فإنه يقرأ غير مؤلف" قال ابن كثير: كأن قصة هذا العراقي كانت قبل أن يرسل عثمان المصحف إلى الآفاق، كذا قال وفيه نظر، فإن يوسف بن ماهك لم يدرك زمان أرسل عثمان المصاحف إلى الآفاق، فقد ذكر المزي أن روايته عن أبي بن كعب مرسلة وأبي عاش بعد إرسال المصاحف على الصحيح، وقد صرح يوسف في

(9/39)


هذا الحديث أنه كان عند عائشة حين سألها هذا العراقي، والذي يظهر لي أن هذا العراقي كان ممن يأخذ بقراءة ابن مسعود، وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه كما سيأتي بيانه بعد الباب الذي يلي هذا، فكان تأليف مصحفه مغايرا لتأليف مصحف عثمان. ولا شك أن تأليف المصحف العثماني أكثر مناسبة من غيره، فلهذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف، وهذا كله على أن السؤال إنما وقع عن ترتيب السور. ويدل على ذلك قولها له "وما يضرك أيه قرأت قبل" ويحتمل أن يكون أراد تفصيل آيات كل سورة لقوله في آخر الحديث: "فأملت عليه آي السور" أي آيات كل سورة كأن تقول له سورة كذا مثلا كذا كذا آية، الأولى كذا الثانية إلخ، وهذا يرجع إلى اختلاف عدد الآيات، وفيه اختلاف بين المدني والشامي والبصري، وقد اعتنى أئمة القراء بجمع ذلك وبيان الخلاف فيه، والأول أظهر - ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين والله أعلم. قال ابن بطال: لا نعلم أحدا قال بوجوب ترتيب السور في القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها، بل يجوز أن يقرأ الكهف قبل البقرة والحج قبل الكهف مثلا، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكوسا فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها، وكان جماعة يصنعون ذلك في القصيدة من الشعر مبالغة في حفظها وتذليلا للسانه في سردها، فمنع السلف ذلك في القرآن فهو حرام فيه. وقال القاضي عياض في شرح حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاته في الليل بسورة النساء قبل آل عمران: هو كذلك في مصحف أبي بن كعب، وفيه حجة لمن يقول أن ترتيب السور اجتهاد وليس بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول جمهور العلماء واختاره القاضي الباقلاني قال: وترتيب السور ليس بواجب في التلاوة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التعليم فلذلك اختلفت المصاحف، فلما كتب مصحف عثمان رتبوه على ما هو عليه الآن، فلذلك اختلف ترتيب مصاحف الصحابة. ثم ذكر نحو كلام ابن بطال ثم قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف توقيف من الله تعالى وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. قوله: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار" هذا ظاهره مغاير لما تقدم أن أول شيء نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وليس فيها ذكر الجنة والنار، فلعل "من" مقدرة أي من أول ما نزل، أو المراد سورة المدثر فإنها أول ما نزل بعد فترة الوحي وفي آخرها ذكر الجنة والنار، فلعل آخرها نزل قبل نزول بقية سورة اقرأ، فإن الذي نزل أولا من اقرأ كما تقدم خمس آيات فقط. قوله: "حتى إذا ثاب" بالمثلثة ثم الموحدة أي رجع. قوله: "نزل الحلال والحرام" أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: "ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندعها" وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف، وسيأتي بيان المراد بالمفصل في الحديث الرابع. قوله: "لقد نزل بمكة إلخ" أشارت بذلك إلى تقوية ما ظهر لها من الحكمة المذكورة، وقد تقدم نزول سورة القمر - وليس فيها شيء من الأحكام - على نزول سورة البقرة والنساء مع كثرة ما اشتملتا عليه من الأحكام، وأشارت بقولها "وأنا عنده" أي بالمدينة، لأن دخولها عليه إنما كان بعد الهجرة اتفاقا، وقد تقدم ذلك في مناقبها. وفي الحديث رد على النحاس في زعمه أن سورة النساء مكية مستندا إلى قوله تعالى :{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} نزلت بمكة اتفاقا في قصة مفتاح الكعبة، لكنها حجة واهية، فلا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة بمكة

(9/40)


إذا نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية، بل الأرجح أن جميع ما نزل بعد الهجرة معدود من المدني. وقد اعتنى بعض الأئمة ببيان ما نزل من الآيات بالمدينة في السور المكية. وقد أخرج ابن الضريس في "فضائل القرآن" من طريق عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس أن الذي نزل بالمدينة البقرة ثم الأنفال ثم الأحزاب ثم المائدة ثم الممتحنة والنساء ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم القتال ثم الرعد ثم الرحمن ثم الإنسان ثم الطلاق ثم إذا جاء نصر الله ثم النور ثم المنافقون ثم المجادلة ثم الحجرات ثم التحريم ثم الجاثية ثم التغابن ثم الصف ثم الفتح ثم براءة، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن سورة الكوثر مدنية فهو المعتمد، واختلف في الفاتحة والرحمن والمطففين وإذا زلزلت والعاديات والقدر وأرأيت والإخلاص والمعوذتين، وكذا اختلف مما تقدم في الصف والجمعة والتغابن، وهذا بيان ما نزل بعد الهجرة من الآيات مما في المكي، فمن ذلك الأعراف: نزل بالمدينة منها {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} إلى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ}". يونس: نزل منها بالمدينة {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} آيتان وقيل {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} آية، وقيل من رأس أربعين إلى آخرها مدني. هود: ثلاث آيات {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}". النخل {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} الآية {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} إلى آخر السورة. الإسراء {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ} {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا}". الكهف: مكية إلا أولها إلى {جُرُزا} وآخرها من {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}. مريم: آية السجدة. الحج: من أولها إلى {شَدِيدٌ} و " {مَنْ كَانَ يَظُنُّ} و {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} و {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ}، و {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، و {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} وما بعدها، وموضع السجدتين و {هَذَانِ خَصْمَانِ}. الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى {رَحِيماً} ، الشعراء: آخرها من {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ}. القصص: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} إلى {الْجَاهِلِينَ} و {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}. العنكبوت: من أولها إلى {ويعلم المنافقين}. لقمان: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ}. ألم تنزيل: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً} وقيل من {تَتَجَافَى}. سبأ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}. الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} إلى {يَشْعُرُونَ}. المؤمن: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} والتي تليها. الشورى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى} و {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ} إلى {شَدِيدٌ}. الجاثية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا}. الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} وقوله: {فَاصْبِرْ}. ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ} إلى {لُغُوبٍ}. النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} إلى {اتَّقَى}. الرحمن: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. الواقعة: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}. ن: من {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلى {يَعْلَمُونَ} ومن {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} إلى {الصَّالِحِينَ}. المرسلات: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} فهذا ما نزل بالمدينة من آيات من سور تقدم نزولها بمكة. وقد بين ذلك حديث ابن عباس عن عثمان قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينزل عليه الآيات فيقول: ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا". وأما عكس ذلك وهو نزول شيء من سورة بمكة تأخر نزول تلك السورة إلى المدينة فلم أره إلا نادرا، فقد اتفقوا على أن الأنفال مدنية، لكن قيل إن قوله تعالى :{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية نزلت بمكة ثم نزلت سورة الأنفال بالمدينة، وهذا غريب جدا. نعم نزل من السور المدنية التي تقدم ذكرها بمكة ثم نزلت سورة الأنفال بعد الهجرة في العمرة والفتح والحج

(9/41)


ومواضع متعددة في الغزوات كتبوك وغيرها أشياء كثيرة كلها تسمى المدني اصطلاحا والله أعلم. حديث ابن مسعود، تقدم شرحه في تفسير سبحان وفي الأنبياء، والغرض منه هنا أن هذه السور نزلن بمكة وأنها مرتبة في مصحف ابن مسعود كما هي في مصحف عثمان، ومع تقديمهن في النزول فهن مؤخرات في ترتيب المصاحف. والمراد بالعتاق وهو بكسر المهملة أنهن من قديم ما نزل." تعلمت سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم: "هو طرف من حديث تقدم شرحه في أحاديث الهجرة، والغرض منه أن هذه السورة متقدمة النزول، وهي في أواخر المصحف مع ذلك. قوله: "عن شقيق" هو ابن سلمة وهو أبو وائل مشهور بكنيته أكثر من اسمه: وفي رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عن الأعمش "سمعت أبا وائل" أخرجه الترمذي. قوله: "قال عبد الله" سيأتي في "باب الترتيل" بلفظ: "غدونا على عبد الله" وهو ابن مسعود. قوله: "لقد تعلمت النظائر" تقدم شرحه مستوفى في "باب الجمع بين سورتين في الصلاة" من أبواب صفة الصلاة، وفيه أسماء السور المذكورة، وأن فيه دلالة على أن تأليف مصحف ابن مسعود على غير تأليف العثماني، وكان أوله الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ولم يكن على ترتيب النزول، ويقال إن مصحف على كان على ترتيب النزول أوله اقرأ ثم المدثر ثم ن والقلم ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير ثم سبح وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني والله أعلم. وأما ترتيب المصحف على ما هو عليه الآن فقال القاضي أبو بكر الباقلاني: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بترتيبه هكذا، ويحتمل أن يكون من اجتهاد الصحابة، ثم رجح الأول بما سيأتي في الباب الذي بعد هذا أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يعارض به جبريل في كل سنة. فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب، وبه جزم ابن الأنباري، وفيه نظر، بل الذي يظهر أنه كان يعارضه به على ترتيب النزول. نعم ترتيب بعض السور على بعض أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفا وإن كان بعضه من اجتهاد بعض الصحابة، وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس قال: "قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المبين فقرنتم بهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينزل عليه السورة ذات العدد، فإذا نزل عليه الشيء - يعني منها - دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكان قصتها شبيهة بها فظننت أنها منها. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ا ه. فهذا يدل على أن ترتيب الآيات في كل سورة كان توقيفا، ولما لم يفصح النبي صلى الله عليه وسلم بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادا منه رضي الله تعالى عنه. ونقل صاحب" الإقناع "أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود، قال: ولا يؤخذ بهذا. وكان من علامة ابتداء السورة نزول {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أول ما ينزل شيء منها كما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ختم السورة حتى ينزل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" وفي رواية: "فإذا نزلت بسم الرحمن الرحيم علموا أن السورة قد انقضت" ومما يدل على أن ترتيب المصحف كان توقيفا ما أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن أوس بن أبي أوس حذيفة الثقفي قال: "كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف" فذكر الحديث وفيه: "فقال لنا رسول صلى الله عليه وسلم: طرأ علي حزبي من القرآن فأردت

(9/42)


أن لا أخرج حتى أقضيه. قال فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل من ق حتى تختم. قلت: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن الذي كان مرتبا حينئذ حزب المفصل خاصة، بخلاف ما عداه فيحتمل أن يكون كان فيه تقديم وتأخير كما ثبت من حديث حذيفة "أنه صلى الله عليه وسلم قرأ النساء بعد البقرة قبل آل عمران" ويستفاد من هذا الحديث - حديث أوس - أن الراجح في المفصل أنه من أول سورة ق إلى آخر القرآن، لكنه مبني على أن الفاتحة لم تعد في الثلث الأول فإنه يلزم من عدها أن يكون أول المفصل من الحجرات وبه جزم جماعة من الأئمة، وقد نقلنا الاختلاف في تحديده في "باب الجهر بالقراءة في المغرب" من أبواب صفة الصلاة، والله أعلم.

(9/43)


7- باب كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ حَضَرَ أَجَلِي"
4997- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ"
4998- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرًا فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ فِي الْعَام الَّذِي قُبِضَ فِيهِ"
قوله: "باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم" بكسر الراء من العرض وهو بفتح العين وسكون الراء أي يقرأ، والمراد يستعرضه ما أقرأه إياه. قوله: "وقال مسروق عن عائشة عن فاطمة قالت: أسر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن" هذا طرف من حديث وصله بتمامه في علامات النبوة، وتقدم شرحه في "باب الوفاة النبوية" من آخر المغازي، وتقدم بيان فائدة المعارضة في الباب الذي قبله. والمعارضة مفاعلة من الجانبين كأن كلا منهما كان تارة يقرأ والآخر يستمع. قوله: "وأنه عارضني" في رواية السرخسي "وأني عارضني". قوله: "إبراهيم بن سعد عن الزهري" تقدم في الصيام من وجه آخر عن إبراهيم بن سعد قال أنبأنا الزهري، وإبراهيم بن سعد سمع من الزهري ومن صالح بن كيسان عن الزهري، وروايته على الصفتين تكررت في هذا الكتاب كثيرا وقد تقدمت فوائد حديث ابن عباس هذا في بدء الوحي فنذكر هنا نكتا مما لم يتقدم. قوله "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود

(9/43)


الناس" فيه احتراس بليغ لئلا يتخيل من قوله: "وأجود ما يكون في رمضان" أن الأجودية خاصة منه برمضان فيه فأثبت له الأجودية المطلقة أولا ثم عطف عليها زيادة ذلك في رمضان. قوله: "وأجود ما يكون في رمضان" تقدم في بدء الوحي من وجه آخر عن الزهري بلفظ: "وكان أجود ما يكون في رمضان" وتقدم أن المشهور في ضبط أجود أنه بالرفع وأن النصب موجه، وهذه. الرواية مما تؤيد الرفع. قوله: "لأن جبريل كان يلقاه" فيه بيان سبب الأجودية المذكورة، وهي أبين من الرواية التي في بدء الوحي بلفظ: "وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل". قوله: "في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ" أي رمضان، وهذا ظاهر في أنه كان يلقاه كذلك في كل رمضان منذ أنزل عليه القرآن ولا يختص ذلك برمضانات الهجرة، وإن كان صيام شهر رمضان إنما فرض بعد الهجرة لأنه كان يسمى رمضان قبل أن يفرض صيامه. قوله: "يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن" هذا عكس ما وقع في الترجمة لأن فيها أن جبريل كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: "وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن" فيحمل على أن كلا منهما كان يعرض على الآخر، ويؤيده ما وقع في رواية أبي هريرة آخر أحاديث الباب كما سأوضحه. وفي الحديث إطلاق القرآن على بعضه وعلى معظمه، لأن أول رمضان من بعد البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده، إلى رمضان الأخير فكان قد نزل كله إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور، وكان في سنة عشر إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، ومما نزل في تلك المدة قوله تعالى :{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإنها نزلت يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم بها بالاتفاق، وقد تقدم في هذا الكتاب، وكأن الذي نزل في تلك الأيام لما كان قليلا بالنسبة لما تقدم اغتفر أمر معارضته، فيستفاد من ذلك أن القرآن يطلق على البعض مجازا، ومن ثم لا يحنث من حلف ليقرأن القرآن فقرأ بعضه، إلا إن قصد الجميع. واختلف في العرضة الأخيرة هل كانت بجميع الأحرف المأذون في قراءتها أو بحرف واحد منها؟ وعلى الثاني فهل هو الحرف الذي جمع عليه عثمان جميع الناس أو غيره؟ وقد روى أحمد وابن أبي داود والطبري من طريق عبيدة بن عمرو السلماني "أن الذي جمع عليه عثمان الناس يوافق العرضة الأخيرة" ومن طريق محمد بن سيرين قال: "كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن - الحديث نحو حديث ابن عباس وزاد في آخره -: فيرون أن قراءتنا أحدث القراءات عهدا بالعرضة الأخيرة". وعند الحاكم نحوه من حديث سمرة وإسناده حسن، وقد صححه هو ولفظه: "عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات، ويقولون إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة" ومن طريق مجاهد "عن ابن عباس قال: أي القراءتين ترون كان آخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد ابن ثابت، فقال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن كل سنة على جبريل، فلما كان في السنة التي قبض فيها عرضه عليه مرتين وكانت قراءة ابن مسعود آخرهما" وهذا يغاير حديث سمرة ومن وافقه، وعند مسدد في مسنده من طريق إبراهيم النخعي "أن ابن عباس سمع رجلا يقول: الحرف الأول، فقال: ما الحرف الأول؟ قال إن عمر بعث ابن مسعود إلى الكوفة معلما فأخذوا بقراءته فغير عثمان القراءة، فهم يدعون قراءة ابن مسعود الحرف الأول، فقال ابن عباس: إنه لآخر حرف عرض به النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل" وأخرج النسائي من طريق أبي ظبيان قال: "قال لي ابن عباس: أي القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد - يعني عبد الله بن مسعود - قال: بل هي الأخيرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض

(9/44)


على جبريل - الحديث وفي آخره - فحضر ذلك ابن مسعود فعلم ما نسخ من ذلك وما بدل" وإسناده صحيح، ويمكن الجمع بين القولين بأن تكون العرضتان الأخيرتان وقعتا بالحرفين المذكورين. فيصح إطلاق الآخرية على كل منهما. قوله: "أجود بالخير من الريح المرسلة" فيه جواز المبالغة في التشبيه، وجواز تشبيه المعنوي بالمحسوس ليقرب لفهم سامعه، وذلك أنه أثبت له أولا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ في ذلك منها، لأن الريح قد تسكن. وفيه الاحتراس لأن الريح منها العقيم الضارة ومنها المبشرة بالخير فوصفها بالمرسلة ليعين الثانية، وأشار إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً} 1 {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} ونحو ذلك، فالريح المرسلة تستمر مدة إرسالها، وكذا كان عمله صلى الله عليه وسلم في رمضان ديمة لا ينقطع، وفيه استعمال أفعل التفضيل في الإسناد الحقيقي والمجازي، لأن الجود من النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة ومن الريح مجاز فكأنه استعار للريح جودا باعتبار مجيئها بالخير فأنزلها منزلة من جاد، وفي تقديم معمول أجود على المفضل عليه نكتة لطيفة، وهي أنه لو أخره لظن تعلقه بالمرسلة، وهذا وإن كان لا يتغير به المعنى المراد بالوصف من الأجودية إلا أنه تفوت فيه المبالغة لأن المراد وصفه بزيادة الأجودية على الريح المرسلة مطلقا. وفي الحديث من الفوائد غير ما سبق تعظيم شهر رمضان لاختصاصه بابتداء نزول القرآن فيه، ثم معارضته ما نزل منه فيه، ويلزم من ذلك كثر، نزول جبريل فيه. وفي كثرة نزوله من توارد الخيرات والبركات ما لا يحصى، ويستفاد منه أن فضل الزمان إنما يحصل بزيادة العبادة. وفيه أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير. وفيه استحباب تكثير العبادة في آخر العمر، ومذاكرة الفاضل بالخير والعلم وإن كان هو لا يخفى عليه ذلك لزيادة التذكرة والاتعاظ. وفيه أن ليل رمضان أفضل من نهاره، وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم لأن الليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان أجزاء فيقرأ كل ليلة جزءا في جزء من الليلة، والسبب في ذلك ما كان يشتغل به في كل ليلة من سوى ذلك من تهجد بالصلاة ومن راحة بدن ومن تعاهد أهل، ولعله كان يعيد ذلك الجزء مرارا بحسب تعدد الحروف المأذون في قراءتها ولتستوعب بركة القرآن جميع الشهر، ولولا التصريح بأنه كان يعرضه مرة واحدة وفي السنة الأخيرة عرضه مرتين لجاز أنه كان يعرض جميع ما نزل عليه كل ليلة ثم يعيده في بقية الليالي. وقد أخرج أبو عبيد من طريق داود بن أبي هند قال: قلت للشعبي: قوله تعالى :{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أما كان ينزل عليه في سائر السنة؟ قال: بلى. ولكن جبريل كان يعارض مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ما أنزل الله فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء. ففي هذا إشارة إلى الحكمة في التقسيط الذي أشرت إليه لتفصيل ما ذكره من المحكم والمنسوخ. ويؤيده أيضا الرواية الماضية في بدء الخلق بلفظ: "فيدارسه القرآن" فإن ظاهره أن كلا منهما كان يقرأ على الآخر، وهي موافقة