السبت، 7 مايو 2022

كتاب : و30..31-فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) فيه كتاب الطلاق

 30 و31..

  كتاب : 30-فتح الباري  أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 *****

 ديوان  الطلاق

===

 

 ==البيهقي، وقوله: "ذئر" بفتح المعجمة وكسر الهمزة بعدها راء أي نشز بنون ومعجمة وزاي، وقيل معناه غضب واستب، قال الشافعي: يحتمل أن يكون النهي على الاختيار والإذن فيه على الإباحة، ويحتمل أن يكون قبل نزول الآية بضربهن ثم أذن بعد نزولها فيه. وفي قوله: "لن يضرب خياركم" دلالة على أن ضربهن مباح في الجملة، ومحل ذلك أن يضربها تأديبا إذا رأى منها ما يكره فيما يجب عليها فيه طاعته، فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل، ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل، لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله. وقد أخرج النسائي في الباب حديث عائشة "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة له ولا خادما قط، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا في سبيل الله أو تنتهك حرمات الله فينتقم لله" وسيأتي مزيد في ذلك في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى.

 94- باب لاَ تُطِيعُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي مَعْصِيَةٍ
5205- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ الْحَسَنِ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ زَوَّجَتْ ابْنَتَهَا فَتَمَعَّطَ شَعَرُ رَأْسِهَا فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَتْ إِنَّ زَوْجَهَا أَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ فِي شَعَرِهَا فَقَالَ لاَ إِنَّهُ قَدْ لُعِنَ الْمُوصِلاَتُ"
[الحديث 5205- طرفه في: 5934]
قوله: "باب لا تطيع المرأة زوجها في معصية الله" لما كان الذي قبله يشعر بندب المرأة إلى طاعة زوجها في كل ما يرومه خصص ذلك بما لا يكون فيه معصية الله، فلو دعاها الزوج إلى معصية فعليها أن تمتنع، فإن أدبها على ذلك كان الإثم عليه. ذكر طرفا من حديث التي طلبت أن تصل شعر ابنتها، وسيأتي شرحه في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. قوله : "إنه قد لعن الموصلات" كذا بالبناء للمجهول، والموصلات بتشديد الصاد المكسورة ويجوز فتحها. وفي رواية الكشميهني: "الموصلات" وهو يؤيد رواية الفتح

 باب (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً....) الآية
...
95- باب {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}
5206- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لاَ يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا فَيُرِيدُ طَلاَقَهَا وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا تَقُولُ لَهُ أَمْسِكْنِي وَلاَ تُطَلِّقْنِي ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِي فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ النَّفَقَةِ عَلَيَّ وَالْقِسْمَةِ لِي فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}"
قوله: "باب وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا" ليس في رواية أبي ذر "أو إعراضا" وقد تقدم الباب وحديثه في تفسير سورة النساء، وسياقه هنا أتم، وذكرت هناك سبب نزولها وفيمن نزلت. واختلف السلف فيما إذا تراضيا على أن لا قسمة لها هل لها أن ترجع في ذلك؟ فقال الثوري والشافعي وأحمد وأخرجه البيهقي عن علي وحكاه ابن المنذر عن عبيدة بن عمرو وإبراهيم ومجاهد وغيرهم: إن رجعت فعليه أن يقسم لها وإن شاء

(9/304)


96- باب الْعَزْلِ
5207- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 5207- طرفاه في: 5208، 5209]
5028- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ"
5209- وَعَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ"
5210- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ أَصَبْنَا سَبْيًا فَكُنَّا نَعْزِلُ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ قَالَهَا ثَلاَثًا مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هِيَ كَائِنَةٌ"
قوله: "باب العزل" أي النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج، والمراد هنا بيان حكمه وذكر فيه حديثين. قوله: "يحيى بن سعيد" هو القطان. قوله: "عن ابن جريج عن عطاء عن جابر: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية أحمد عن بن يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج عن عطاء أنه "سمع جابرا سئل عن العزل فقال: كنا نصنعه". قوله: "حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان" هو ابن عيينة" قال قال عمرو "هو ابن دينار" أخبرني عطاء أنه سمع جابرا يقول "هذا مما نزل فيه عمرو بن دينار، فإنه سمع الكثير من جابر نفسه؛ ثم أدخل في هذا بينهما واسطة، وقد تواردت الروايات من أصحاب سفيان على ذلك إلا ما وقع في "مسند أحمد" في النسخ المتأخرة فإنه ليس في الإسناد عطاء، لكنه أخرجه أبو نعيم من طريق المسند بإثباته وهو المعتمد. قوله: "كنا نعزل والقرآن ينزل، وعن عمرو عن عطاء عن جابر كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل" وقع في رواية الكشميهني: "كان يعزل" بضم أوله وفتح الزاي على البناء للمجهول، وكأن ابن عيينة حدث به مرتين: فمرة ذكر فيها الأخبار والسماع فلم يقل فيها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة ذكره بالعنعنة فذكرها، وقد أخرجه الإسماعيلي من طرق عن سفيان صرح فيها بالتحديث قال: "حدثنا عمرو بن دينار" وزاد ابن أبي عمر في روايته عن سفيان "على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وزاد إبراهيم بن موسى في روايته عن سفيان أنه قال حين روى هذا الحديث: "أي لو كان حراما لنزل فيه:" وقد أخرج مسلم هذه الزيادة عن إسحاق بن راهويه عن سفيان فساقه بلفظ: "كنا نعزل والقرآن ينزل" قال سفيان: لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن، فهذا ظاهر في أن سفيان قاله استنباطا، وأوهم كلام صاحب "العمدة" ومن تبعه أن هذه الزيادة من نفس الحديث فأدرجها، وليس الأمر كذلك فإني تتبعته من المسانيد فوجدت أكثر رواته عن سفيان لا يذكرون هذه الزيادة، وشرحه ابن دقيق العيد على ما وقع

(9/305)


في "العمدة" فقال: استدلال جابر بالتقرير من الله غريب، ويمكن أن يكون استدل بتقرير الرسول لكنه مشروط بعلمه بذلك انتهى. ويكفي في علمه به قول الصحابي إنه فعله في عهده، والمسألة مشهورة في الأصول وفي علم الحديث وهي أن الصحابي إذا أضافه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع عند الأكثر، لأن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام، وإذا لم يضفه فله حكم الرفع عند قوم، وهذا من الأول فإن جابرا صرح بوقوعه في عهده صلى الله عليه وسلم وقد وردت عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك، والذي يظهر لي أن الذي استنبط ذلك سواء كان هو جابرا أو سفيان أراد بنزول القرآن ما يقرأ، أعم من المتعبد بتلاوته أو غيره مما يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه يقول: فعلناه في زمن التشريع ولو كان حراما لم نقر عليه، وإلى ذلك يشير قول ابن عمر "كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا هيبة أن ينزل فينا شيء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تكلمنا وانبسطنا" أخرجه البخاري. وقد أخرجه مسلم أيضا من طريق أبي الزبير عن جابر قال: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا" ومن وجه آخر عن أبي الزبير عن جابر "أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها. فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، قال: قد أخبرتك" ووقعت هذه القصة عنده من طريق سفيان بن عيينة بإسناد له آخر إلى جابر وفي آخره: "فقال أنا عبد الله ورسوله" وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن أبي شيبة بسند آخر على شرط الشيخين بمعناه، ففي هذه الطرق ما أغنى عن الاستنباط، فإن في إحداها التصريح باطلاعه صلى الله عليه وسلم وفي الأخرى إذنه في ذلك وإن كان السياق يشعر بأنه خلاف الأولى كما سأذكر البحث فيه. قوله: "جويرية" هو ابن أسماء الضبعي يشارك مالكا في الرواية عن نافع وتفرد عنه بهذا الحديث وبغيره، وهو من الثقات الأثبات، قال الدار قطني بعد أن أخرجه من طريقه: صحيح غريب تفرد به جويرية عن مالك. قلت: ولم أره إلا من رواية ابن أخيه عبد الله بن محمد بن أسماء عنه. قوله: "عن الزهري" لمالك فيه إسناد آخر أخرجه المصنف في العتق، وأبو داود وابن حبان من طريق عنه عن ربيعة عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز، وكذا هو في "الموطأ". قوله:" عن ابن محيريز" بحاء مهملة ثم راء ثم زاي مصغرا، اسمه عبد الله، ووقع كذلك في رواية يونس كما سيأتي في القدر عن الزهري "أخبرني عبد الله بن محيريز الجمحي" وهو مدني سكن الشام، ومحيريز أبوه هو ابن جنادة بن وهب وهو من رهط أبي محذورة المؤذن وكان يتيما في حجره، ووافق مالكا على هذا السند شعيب كما مضى في البيوع، ويونس كما سيأتي في القدر، وعقيل والزبيدي كلاهما عند النسائي، وخالفهم معمر فقال: "عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد" أخرجه النسائي، وخالف الجميع إبراهيم بن سعد فقال: "عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي سعيد" أخرجه النسائي أيضا، قال النسائي: رواية مالك ومن وافقه أولى بالصواب. قوله: "عن أبي سعيد" في رواية يونس "أن أبا سعيد الخدري أخبره" وفي رواية ربيعة في المغازي "عن محمد ابن يحيى بن حبان عن ابن محيريز أنه قال: دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل" كذا عند البخاري، ووقع عند مسلم من هذا الوجه "دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد فسأله أبو صرمة فقال: يا أبا سعيد هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل" ؟ وأبو صرمة بكسر المهملة وسكون الراء اسمه مالك وقيل قيس صحابي مشهور من الأنصار، وقد وقع في رواية للنسائي من طريق الضحاك ابن

(9/306)


عثمان "عن محمد بن يحيى عن ابن محيريز عن أبي سعيد وأبي صرمة قالا: أصبنا سبايا" والمحفوظ الأول. قوله: "أصبنا سبيا" في رواية شعيب في البيوع ويونس المذكورة أنه "بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم:" زاد يونس "جاء رجل من الأنصار" وفي رواية ربيعة المذكورة "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب، وطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا نفعل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا لا نسأله، فسألناه". قوله: "فكنا نعزل" في رواية يونس وشعيب فقال: "إنا نصيب سبيا ونحب المال فكيف ترى في العزل" ووقع عند مسلم من طريق عبد الرحمن بن بشر "عن أبي سعيد قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وما ذلكم؟ قالوا: الرجل تكون له المرأة ترضع له فيصيب منها ويكره أن تحمل منه، والرجل تكون له الأمة فيصيب منها ويكره أن تحمل منه، ففي هذه الرواية إشارة إلى أن سبب العزل شيئان أحدهما كراهة مجيء الولد من الأمة وهو إما أنفة من ذلك وإما لئلا يتعذر بيع الأمة إذا صارت أم ولد وإما لغير ذلك كما سأذكره بعده، والثاني كراهة أن تحمل الموطوءة وهي ترضع فيضر ذلك بالولد المرضع. قوله: "أوإنكم لتفعلون" ؟ هذا الاستفهام يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان اطلع على فعلهم ذلك، ففيه تعقب على من قال إن قول الصحابي كنا نفعل كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوع معتلا بأن الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، ففي هذا الخبر أنهم فعلوا العزل ولم يعلم به حتى سألوه عنه، نعم للقائل أن يقول كانت دواعيهم متوفرة على سؤاله عن أمور الدين، فإذا فعلوا الشيء وعلموا أنه لم يطلع عليه بادرا إلى سؤاله عن الحكم فيه فيكون الظهور من هذه الحيثية. ووقع في رواية ربيعة "لا عليكم أن لا تفعلوا"، ووقع في رواية مسلم من طريق أخرى عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد "لا عليكم أن لا تفعلوا ذلك" قال ابن سيرين: قوله: "لا عليكم" أقرب إلى النهي، وله من طريق ابن عون عن محمد بن سيرين نحوه دون قول محمد، قال ابن عون فحدثت به الحسن فقال: والله لكأن هذا زجر، قال القرطبي: كأن هؤلاء فهموا من "لا" النهي عما سألوه عنه فكأن عندهم بعد "لا" حذفا تقديره لا تعزلوا وعليكم أن لا تفعلوا، ويكون قوله: "وعليكم إلخ" تأكيدا للنهي. وتعقب بأن الأصل عدم هذا التقدير، وإنما معناه: ليس عليكم أن تتركوا، وهو الذي يساوي أن لا تفعلوا. وقال غيره: قوله: "لا عليكم أن لا تفعلوا" أي لا حرج عليكم أن لا تفعلوا، ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا إلا إن ادعى أن "لا" زائدة فيقال الأصل عدم ذلك؛ ووقع في رواية مجاهد الآتية في التوحيد تعليقا ووصلها مسلم وغيره: "ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولم يفعل ذلك أحدكم" ؟ ولم يقل لا يفعل ذلك، فأشار إلى أنه لم يصرح لهم بالنهي، وإنما أشار أن الأولى ترك ذلك، لأن العزل إنما كان خشية حصول الولد فلا فائدة في ذلك، لأن الله إن كان قدر خلق الولد لم يمنع العزل ذلك فقد يسبق الماء ولا يعشر العازل فيحصل العلوق ويلحقه الولد ولا راد لما قضى الله، والفرار من حصول الولد يكون لأسباب: منها خشية علوق الزوجة الأمة لئلا يصير الولد رقيقا، أو خشية دخول الضرر على الولد المرضع إذا كانت الموطوءة ترضعه، أو فرارا من كثرة العيال إذا كان الرجل مقلا فيرغب عن قلة الولد لئلا يتضرر بتحصيل الكسب، وكل ذلك لا يغني شيئا. وقد أخرج أحمد والبزار وصححه ابن حبان من حديث أنس "أن رجلا سأل عن العزل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا" وبه شاهدان في "الكبير للطبراني" عن

(9/307)


ابن عباس وفي "الأوسط" له عن ابن مسعود، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى، وليس في جميع الصور التي يقع العزل بسببها ما يكون العزل فيه راجحا سوى الصورة المتقدمة من عند مسلم في طريق عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد وهي خشية أن يضر الحمل بالولد المرضع لأنه مما جرب فضر غالبا، لكن وقع في بقية الحديث عند مسلم أن العزل بسبب ذلك لا يفيد لاحتمال أن يقع الحمل بغير الاختيار، ووقع عند مسلم في حديث أسامة بن زيد "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي شفقة على ولدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان كذلك فلا، ما ضر ذلك فارس ولا الروم". وفي العزل أيضا إدخال ضرر على المرأة لما فيه من تفويت لذتها. وقد اختلف السلف في حكم العزل قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل. ووافقه في نقل هذا الإجماع ابن هبيرة، وتعقب بأن المعروف عند الشافعية أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلا، ثم في خصوص هذه المسألة عند الشافعية خلاف مشهور في جواز العزل عن الحرة بغير إذنها، قال الغزالي وغيره: يجوز، وهو المصحح عند المتأخرين، واحتج الجمهور لذلك بحديث عن عمر أخرجه أحمد وابن ماجه بلفظ: "نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها" وفي إسناده ابن لهيعة، والوجه الآخر للشافعية الجزم بالمنع إذا امتنعت، وفيما إذا رضيت وجهان أصحهما الجواز، وهذا كله في الحرة وأما الأمة فإن كانت زوجة فهي مرتبة على الحرة إن جاز فيها ففي الأمة أولى، وإن امتنع فوجهان أصحهما الجواز تحرزا من إرقاق الولد، وإن كانت سرية جاز بلا خلاف عندهم إلا في وجه حكاه الروياني في المنع مطلقا كمذهب ابن حزم، وإن كانت السرية مستولدة فالراجح الجواز فيه مطلقا لأنها ليست راسخة في الفراش، وقيل حكمها حكم الأمة المزوجة. هذا واتفقت المذاهب الثلاثة على أن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها وأن الأمة يعزل عنها بغير إذنها، واختلفوا في المزوجة فعند المالكية يحتاج إلى إذن سيدها، وهو قول أبي حنيفة، والراجح عن محمد. وقال أبو يوسف وأحمد: الإذن لها، وهي رواية عن أحمد، وعنه بإذنها، وعنه يباح العزل مطلقا، وعنه المنع مطلقا. والذي احتج به من جنح إلى التفصيل لا يصح إلا عند عبد الرزاق عنه بسند صحيح عن ابن عباس قال: تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الأمة السرية فإن كانت أمة تحت حر فعليه أن يستأمرها وهذا نص في المسألة، فلو كان مرفوعا لم يجز العدول عنه. وقد استنكر ابن العربي القول بمنع العزل عمن يقول بأن المرأة لا حق لها في الوطء، ونقل عن مالك أن لها حق المطالبة به إذا قصد بتركه إضرارها. وعن الشافعي وأبي حنيفة لا حق لها فيه إلا في وطئة واحدة يستقر بها المهر، قال فإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون لها حق في العزل، فإن خصوه بالوطئة الأولى فيمكن وإلا فلا يسوغ فيما بعد ذلك إلا على مذهب مالك بالشرط المذكور ا هـ. وما نقله عن الشافعي غريب، والمعروف عند أصحابه أنه لا حق لها أصلا، نعم جزم ابن حزم بوجوب الوطء وبتحريم العزل، واستند إلى حديث جذامة بنت وهب "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال : ذلك الوأد الخفي" أخرجه مسلم، وهذا معارض بحديثين أحدهما أخرجه الترمذي والنسائي وصححه من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر قال: "كانت لنا جواري وكنا نعزل، فقالت اليهود إن تلك الموءودة الصغرى، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده" وأخرجه النسائي من طريق هشام وعلي بن المبارك وغيرهما عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مطيع بن رفاعة عن أبي

(9/308)


سعيد نحوه، ومن طريق أبي عامر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه، ومن طريق سليمان الأحول أنه سمع عمرو بن دينار يسأل أبا سلمة بن عبد الرحمن عن العزل فقال: زعم أبو سعيد، فذكر نحوه، قال فسألت أبا سلمة أسمعته من أبي سعيد؟ قال لا، ولكن أخبرني رجل عنه. والحديث الثاني في النسائي من وجه آخر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذه طرق يقوى بعضها ببعض، وجمع بينها وبين حديث جذامة بحمل حديث جذامة على التنزيه وهذه طريقة البيهقي، ومنهم من ضعف حديث جذامة بأنه معارض بما هو أكثر طرقا منه، وكيف يصرح بتكذيب اليهود في ذلك ثم يثبته؟ وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم، والحديث صحيح لا ريب فيه والجمع ممكن، ومنهم من ادعى أنه منسوخ، ورد بعدم معرفة التاريخ. وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أولا من موافقة أهل الكتاب، وكان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم أعلمه الله بالحكم فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه. وتعقبه ابن رشد ثم ابن العربي بأنه لا يجزم بشيء تبعا لليهود ثم يصرح بتكذيبهم فيه، ومنهم من رجح حديث جذامة بثبوته في الصحيح، وضعف مقابله بأنه حديث واحد اختلف في إسناده فاضطرب، ورد بأن الاختلاف إنما يقدح حيث لا يقوى بعض الوجوه فمتى قوى بعضها عمل به، وهو هنا كذلك والجمع ممكن. ورجح ابن حزم العمل بحديث جذامة بأن أحاديث غيرها توافق أصل الإباحة وحديثها يدل على المنع قال: فمن ادعى أنه أبيح بعد أن منع فعليه البيان. وتعقب بأن حديثها ليس صريحا في المنع إذ لا يلزم من تسميته وأدا خفيا على طريق التشبيه أن يكون حراما، وخصه بعضهم بالعزل عن الحامل لزوال المعنى الذي كان يحذره الذي يعزل من حصول الحمل، لكن فيه تضييع الحمل لأن المني يغذوه فقد يؤدي العزل إلى موته أو إلى ضعفه المفضي إلى موته فيكون وأدا خفيا، وجمعوا أيضا بين تكذيب اليهود في قولهم الموءودة الصغرى وبين إثبات كونه وأدا خفيا في حديث جذامة بأن قولهم الموءودة الصغرى يقتضي أنه وأد ظاهر، لكنه صغير بالنسبة إلى دفن المولود بعد وضعه حيا، فلا يعارض قوله إن العزل وأد خفي فإنه يدل على أنه ليس في حكم الظاهر أصلا فلا يترتب عليه حكم، وإنما جعله وأدا من جهة اشتراكهما في قطع الولادة. وقال بعضهم: قوله الوأد الخفي ورد على طريق التشبيه لأنه قطع طريق الولادة قبل مجيئه فأشبه قتل الولد بعد مجيئه، قال ابن القيم: الذي كذبت فيه اليهود زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدا حقيقة، وإنما سماه وأدا خفيا في حديث جذامة لأن الرجل إنما يعزل هربا من الحمل فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، لكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلق بالقصد صرفا فلذلك وصفه بكونه خفيا، فهذه عدة أجوبة يقف معها الاستدلال بحديث جذامة على المنع. وقد جنح إلى المنع من الشافعية ابن حبان فقال في صحيحه "ذكر الخبر الدال على أن هذا الفعل مزجور عنه لا يباح استعماله" ثم ساق حديث أبي ذر رفعه: "ضعه في حلاله وجنبه حرامه وأقرره، فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته ولك أجر" ا هـ. ولا دلالة فيما ساقه على ما ادعاه من التحريم بل هو أمر إرشاد لما دلت عليه بقية الأخبار والله أعلم. ومن عند عبد الرزاق وجه آخر عن ابن عباس أنه أنكر أن يكون العزل وأدا وقال: المني يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم يكسى لحما، قال: والعزل قبل ذلك كله. وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن عدي بن

(9/309)


الخيار عن علي نحوه في قصة حرب عند عمر وسنده جيد. واختلفوا في علة النهي عن العزل: فقيل لتفويت حق المرأة، وقيل لمعاندة القدر، وهذا الثاني هو الذي يقتضيه معظم الأخبار الواردة في ذلك، والأول مبني على صحة الخبر المفرق بين الحرة والأمة. وقال إمام الحرمين: موضع المنع أنه ينزع بقصد الإنزال خارج الفرج خشية العلوق ومتى فقد ذلك لم يمنع، وكأنه راعى سبب المنع فإذا فقد بقي أصل الإباحة فله أن ينزع متى شاء حتى لو نزع فأنزل خارج الفرج اتفاقا لم يتعلق به النهي والله أعلم. وينتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع هناك ففي هذه أولى، ومن قال بالجواز يمكن أن يلتحق به هذا، ويمكن أن يفرق بأنه أشد لأن العزل لم يقع فيه تعاطي السبب ومعالجة السقط تقع بعد تعاطي السبب، ويلتحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله، وقد أفتى بعض متأخري الشافعية بالمنع، وهو مشكل على قولهم بإباحة العزل مطلقا. والله أعلم. واستدل بقوله في حديث أبي سعيد "وأصبنا كرائم العرب وطالت علينا العزبة وأردنا أن نستمتع وأحببنا الفداء" لمن أجاز استرقاق العرب وقد تقدم بيانه في "باب من ملك من العرب رقيقا" في كتاب العتق، ولمن أجاز وطء المشركات بملك اليمين وإن لم يكن من أهل الكتاب لأن بني المصطلق كانوا أهل أوثان، وقد انفصل عنه من منع باحتمال أن يكونوا ممن دان بدين أهل الكتاب وهو باطل، وباحتمال أن يكون ذلك في أول الأمر ثم نسخ، وفيه نظر إذ النسخ لا يثبت بالاحتمال، وباحتمال أن تكون المسبيات أسلمن قبل الوطء وهذا لا يتم مع قوله في الحديث وأحببنا الفداء فإن المسلمة لا تعاد للمشرك، نعم يمكن حمل الفداء على معنى أخص وهو أنهن يفدين أنفسهن فيعتقن من الرق، ولا يلزم منه إعادتهن للمشركين، وحمله بعضهم على إرادة الثمن لأن الفداء المتخوف من فوته هو الثمن، ويؤيد هذا الحمل قوله في الرواية الأخرى "فقال يا رسول الله إنا أصبنا سبيا ونحب الأثمان فكيف ترى في العزل" ؟ وهذا أقوى من جميع ما تقدم، والله أعلم.

(9/310)


97- باب الْقُرْعَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا
5211- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَطَارَتْ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ فَقَالَتْ حَفْصَةُ أَلاَ تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ تَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ فَقَالَتْ بَلَى فَرَكِبَتْ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلُوا وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الإِذْخِرِ وَتَقُولُ يَا رَبِّ سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي وَلاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا"
قوله: "باب القرعة بين النساء إذا أراد سفرا" تقدم في حديث الإفك في التفسير مثل ذلك من حديث عائشة أيضا، وساق المصنف في الباب قصة أخرى ولعلها كانت أيضا في تلك السفرة، ولكن بينت في شرح حديث الإفك في التفسير أنه لم يكن معه في غزوة المريسيع إلا عائشة، وقد تقدم في الهبة والشهادات مثل ذلك في أول حديث آخر عن عائشة أيضا. قوله: "ابن أبي مليكة عن القاسم" هو ابن أبي بكر، وابن أبي مليكة يروي عن عائشة تارة بالواسطة وتارة بغيرها. قوله: "إذا أراد سفرا" مفهومه اختصاص القرعة بحالة السفر، وليس على

(9/310)


عمومه بل لتعين القرعة من يسافر بها، وتجري القرعة أيضا فيما إذا أراد أن يقسم بين زوجاته فلا يبدأ بأيهن شاء بل يقرع بينهن فيبدأ بالتي تخرج لها القرعة، إلا أن يرضين بشيء فيجوز بلا قرعة. قوله: "أقرع بين نسائه" زاد ابن سعد من وجه آخر عن القاسم عن عائشة "فكان إذا خرج سهم غيري عرف فيه الكراهية" واستدل به على مشروعية القرعة في القسمة بين الشركاء وغير ذلك كما تقدم في أواخر الشهادات، والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبار القرعة، قال عياض: هو مشهور عن مالك وأصحابه لأنه من باب الخطر والقمار، وحكي عن الحنفية إجازتها ا هـ، وقد قالوا به في مسألة الباب. واحتج من منع من المالكية بأن بعض النسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها فلو خرجت القرعة للتي لا نفع بها في السفر لأضر بحال الرجل، وكذا بالعكس قد يكون بعض النساء أقوم ببيت الرجل من الأخرى. وقال القرطبي: ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف أحوال النساء، وتختص مشروعية القرعة بما إذا اتفقت أحوالهن لئلا تخرج واحدة معه فيكون ترجيحا بغير مرجح ا هـ. وفيه مراعاة للمذهب مع الأمن من رد الحديث أصلا لحمله على التخصيص، فكأنه خصص العموم بالمعنى. قوله: "فطارت القرعة لعائشة وحفصة" أي في سفرة من السفرات، والمراد بقولها طارت أي حصلت، وطير كل إنسان نصيبه، وقد تقدم في الجنائز قول أم العلاء لما اقتسم الأنصار المهاجرين قالت: "وطار لنا عثمان ابن مظعون" أي حصل في نصيبنا من المهاجرين. قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث" استدل به المهلب على أن القسم لم يكن واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا دلالة فيه لأن عماد القسم الليل في الحضر، وأما في السفر فعماد القسم فيه النزول، وأما حالة السير فليست منه لا ليلا ولا نهارا، وقد أخرج أبو داود والبيهقي واللفظ له من طريق ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "قل يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا جميعا فيقبل ويلمس ما دون الوقاع، فإذا جاء إلى التي هو يومها بات عندها". قوله: "فقالت حفصة" أي لعائشة. قوله: "ألا تركبين الليلة بعيري إلخ" كأن عائشة أجابت إلى ذلك لما شوقتها إليه من النظر إلى ما لم تكن هي تنظر، وهذا مشعر بأنهما لم يكونا حال السير متقاربتين بل كانت كل واحدة منهما من جهة كما جرت العادة من السير قطارين، وإلا فلو كانتا معا لم تختص إحداهما بنظر ما لم تنظره الأخرى، ويحتمل أن تريد بالنظر وطأة البعير وجودة سيره. قوله: "فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه" في رواية حكاها الكرماني "وعليها" وكأنه على إرادة الناقة. قوله: "فسلم عليها" لم يذكر في الخبر أنه تحدث معها فيحتمل أن يكون ألهم ما وقع، ويحتمل أن يكون وقع ذلك اتفاقا، ويحتمل أن يكون تحدث ولم ينقل. قوله: "وافتقدته عائشة" أي حالة المسايرة، لأن قطع المألوف صعب. قوله: "فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر" كأنها لما عرفت أنها الجانية فيما أجابت إليه حفصة عاتبت نفسها على تلك الجناية. والإذخر نبت معروف توجد فيه الهوام غالبا في البرية. قوله: "وتقول رب سلط" في رواية المستملي: "يا رب سلط" بإثبات حرف النداء وهي رواية مسلم. قوله: "تلذغني" بالغين المعجمة. قوله: "ولا أستطيع أن أقول له شيئا" قال الكرماني الظاهر أنه كلام حفصة، ويحتمل أن يكون كلام عائشة، ولم يظهر لي هذا الظاهر بل هو كلام عائشة، وقد وقع في رواية مسلم في جميع ما وقفت عليه من طرقه إلا ما سأذكره بعد قوله تلدغني "رسولك لا أستطيع أن أقول له شيئا" ورسولك بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو رسولك، ويجوز النصب على تقدير فعل، وإنما لم تتعرض لحفصة لأنها هي التي أجابتها طائعة فعادت على نفسها باللوم، ووقع عند الإسماعيلي من وجهين عن أبي نعيم شيخ

(9/311)


البخاري فيه بعد قوله تلدغني "ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ولا أستطيع أن أقول له شيئا" وعلى هذا فيحتمل أن يكون المراد بالقول في قولها أن أقول أي أحكي له الواقعة لأنه ما كان يعذرني في ذلك، وظاهر رواية غيره تفهم أن مرادها بالقول أنها لا تستطيع أن تقول في حقه شيئا كما تقدم، قال الداودي: يحتمل أن تكون المسايرة في ليلة عائشة ولذلك غلبت عليها الغيرة فدعت على نفسها بالموت، ويعقب بأنه يلزم منه أنه يوجب القسم في المسايرة، وليس كذلك إذ لو كان لما كان يخص عائشة بالمسايرة دون حفصة حتى تحتاج حفصة تتحيل على عائشة، ولا يتجه القسم في حالة السير إلا إذا كانت الخلوة لا تحصل إلا فيه بأن يركب معها في الهودج وعند النزول يجتمع الكل في الخيمة فيكون حينئذ عماد القسم السير، أما المسايرة فلا، وهذا كله مبني على أن القسم كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي يدل عليه معظم الأخبار، ويؤيد القول بالقرعة أنهم اتفقوا على أن مدة السفر لا يحاسب بها المقيمة بل يبتدئ إذا رجع بالقسم فيما يستقبل، فلو سافر بمن شاء بغير قرعة فقدم بعضهن في القسم للزم منه إذا رجع أن يوفي من تخلف حقها، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن ذلك لا يجب، فظهر أن للقرعة فائدة وهي أن لا يؤثر بعضهن بالتشهي لما يترتب على ذلك من ترك العدل بينهن، وقد قال الشافعي في القديم: لو كان المسافر يقسم لمن خلف لما كان للقرعة معنى بل معناها أن تصير هذه الأيام لمن خرج سهمها خالصة انتهى. ولا يخفى أن محل الإطلاق في ترك القضاء في السفر ما دام اسم السفر موجودا، فلو سافر إلى بلدة فأقام بها زمانا طويلا ثم سافر راجعا فعليه قضاء مدة الإقامة وفي مدة الرجوع خلاف عند الشافعية والمعنى في سقوط القضاء أن التي سافرت وفازت بالصحبة لحقها من تعب السفر ومشقته ما يقابل ذلك والمقيمة عكسها في الأمرين معا

(9/312)


98- باب الْمَرْأَةِ تَهَبُ يَوْمَهَا مِنْ زَوْجِهَا لِضَرَّتِهَا وَكَيْفَ يَقْسِمُ ذَلِكَ
5212- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ"
قوله: "باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها" "من" يتعلق بيومها لا بيهب، أي يومها الذي يختص بها. قوله: "وكيف يقسم ذلك" قال العلماء: إذا وهبت يومها لضرتها قسم الزوج لها يوم ضرتها، فإن كان تاليا ليومها فذاك وإلا لم يقدمه عن رتبته في القسم إلا برضا من بقي. وقالوا إذا وهبت المرأة يومها لضرتها فإن قبل الزوج لم يكن للموهوبة أن تمتنع وإن لم يقبل لم يكره على ذلك، وإذا وهبت يومها لزوجها ولم تتعرض للضرة فهل له أن يخص واحدة إن كان عنده أكثر من اثنتين، أو يوزعه بين من بقي؟ وللواهبة في جميع الأحوال الرجوع عن ذلك متى أحبت لكن فيما يستقبل لا فيما مضى، وأطلق ابن بطال أنه لم يكن لسودة الرجوع في يومها الذي وهبته لعائشة. قوله: "حدثنا مالك بن إسماعيل" هو أبو غسان النهدي، وزهير هو ابن معاوية. قوله: "أن سودة بنت زمعة" هي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان تزوجها وهو بمكة بعد موت خديجة ودخل عليها بها وهاجرت معه، ووقع لمسلم من طريق شريك عن هشام في آخر حديث الباب: "قالت عائشة: وكانت أول امرأة تزوجها بعدي" ومعناه عقد عليها بعد أن عقد على عائشة، وأما دخوله عليها فكان قبل دخوله على عائشة بالاتفاق، وقد نبه على ذلك ابن الجوزي. قوله: "وهبت يومها لعائشة" تقدم في الهبة من طريق الزهري عن عروة بلفظ: "يومها وليلتها" وزاد في آخره:

(9/312)


"تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم". ووقع في رواية مسلم من طريق عقبة بن خالد عن هشام "لما أن كبرت سودة وهبت" وله نحوه من رواية جرير عن هشام. وأخرج أبو داود هذا الحديث وزاد فيه بيان سببه أوضح من رواية مسلم، فروى عن أحمد بن يونس عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة بالسند المذكور "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم" الحديث، وفيه: "ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وخافت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل ذلك منها، ففيها وأشباهها نزلت: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً}" الآية" وتابعه ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي الزناد في وصله، ورواه سعيد بن منصور عن ابن أبي الزناد مرسلا لم يذكر فيه عن عائشة، وعند الترمذي من حديث ابن عباس موصولا نحوه، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر بمعنى ذلك، فتواردت هذه الروايات على أنها خشيت الطلاق فوهبت. وأخرج ابن سعد بسند رجاله ثقات من رواية القاسم ابن أبي بزة مرسلا "أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها فقعدت له على طريقه فقالت: والذي بعثك بالحق ما لي في الرجال حاجة، ولكن أحب أن أبعث مع نسائك يوم القيامة، فأنشدك بالذي أنزل عليك الكتاب هل طلقتني لموجدة وجدتها علي؟ قال: لا. قالت: فأنشدك لما راجعتني، فراجعها. قالت: فإني قد جعلت يومي وليلتي لعائشة حبة رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة" في رواية جرير عن هشام عند مسلم: "فكان يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة" وقد بينت كلامهم في كيفية هذا القسم أول الباب

(9/313)


99- باب الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَاسِعًا حَكِيمًا}
قوله: "باب العدل بين النساء، ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء" أشار بذكر الآية إلى أن المنتهى فيها العدل بينهن من كل جهة، وبالحديث إلى أن المراد بالعدل التسوية بينهن بما يليق بكل منهن، فإذا وفى لكل واحدة منهن كسوتها ونفقتها والإيواء إليها لم يضره ما زاد على ذلك من ميل قلب أو تبرع بتحفة، وقد روى الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" قال الترمذي يعني به الحب والمودة، كذلك فسره أهل العلم، قال الترمذي: رواه غير واحد عن حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلا وهو أصح من رواية حماد بن سلمة، وقد أخرج البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "ولن تستطيعوا" الآية، قال: في الحب والجماع، وعن عبدة ابن عمرو السلماني مثله.

(9/313)


100-باب إذا تزوج البكر على الثيب
5213- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلَكِنْ قَالَ السُّنَّةُ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا"
[الحديث 5213- طرفه في: 5212]

(9/313)


101- باب إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ
5214- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَخَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مِنْ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ قَسَمَ قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ وَخَالِدٍ قَالَ خَالِدٌ وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب إذا تزوج الثيب على البكر" أي أو عكس كيف يصنع؟ قوله: "حدثنا يوسف بن راشد" هو يوسف بن موسى بن راشد نسب لجده. قوله: "حدثنا أبو أسامة عن سفيان" في رواية نعيم من طريق حمزة بن عون عن أبي أسامة "حدثنا سفيان". قوله: "حدثنا أيوب" هو السختياني وخالد هو الحذاء. قوله: "عن أبي قلابة" أي أنهما جميعا روياه عن أبي قلابة. لكن الذي يظهر أنه ساقه على لفظ خالد. قوله: "قال من السنة" أي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الذي يتبادر للفهم من قول الصحابي، وقد مضى في الحج قول سلام بن عبد الله بن عمر لما سأله الزهري عن قول ابن عمر للحجاج "إن كنت تريد السنة هل تريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال له سالم: وهل يعنون بذلك إلا سنته". قوله: "إذا تزوج الرجل البكر على الثيب" أي يكون عنده امرأة فيتزوج معها بكرا كما سيأتي البحث عنه. قوله: "أقام عندها سبعا وقسم، ثم قال: أقام عندها ثلاثا ثم قسم" كذا في البخاري بالواو في الأولى وبلفظ: "ثم" في الثانية، ووقع عند الإسماعيلي وأبي نعيم من طريق حمزة بن عون عن أبي أسامة بلفظ: "ثم" في الموضعين. قوله: "قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت أن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم" كأنه يشير إلى أنه لو صرح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكان صادقا ويكون روى بالمعنى وهو جائز عنده، لكنه رأى أن المحافظة على اللفظ أولى. وقال ابن دقيق العيد: قول أبي قلابة يحتمل وجهين أحدهما أن يكون ظن أنه سمعه عن أنس مرفوعا لفظا فتحرز عنه تورعا، والثاني أن يكون رأى أن قول أنس "من السنة" في حكم المرفوع، فلو عبر عنه بأنه مرفوع على حسب اعتقاده لصح لأنه في حكم المرفوع، قال: والأول أقرب، لأن قوله: "من السنة" يقتضي أن يكون مرفوعا بطريق اجتهادي محتمل، وقوله: "أنه رفعه:" نص في رفعه وليس للراوي أن ينقل ما هو ظاهر محتمل إلى ما هو نص غير محتمل انتهى، وهو بحث متجه، ولم يصب من رده بأن الأكثر على أن قول الصحابي "من السنة كذا" في حكم المرفوع لاتجاه الفرق بين ما هو مرفوع وما هو في حكم المرفوع، لكن باب الرواية بالمعنى متسع، وقد وافق هذه الرواية ابن علية عن خالد في نسبة هذا القول إلى أبي قلابة أخرجه الإسماعيلي ونسبه بشر بن المفضل وهشيم

(9/314)


إلى خالد، ولا منافاة بينهما كما تقدم لاحتمال أن يكون كل منهما قال ذلك. قوله: "وقال عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن أيوب وخالد" يعني بهذا الإسناد والمتن. قوله: "قال خالد ولو شئت لقلت رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم" كأن البخاري أراد أن يبين أن الرواية عن سفيان الثوري اختلفت في نسبة هذا القول هل هو قول أبي قلابة أو قول خالد، ويظهر لي أن هذه الزيادة في رواية خالد عن أبي قلابة دون رواية أيوب، ويؤيده أنه أخرجه في الباب الذي قبله من وجه آخر عن خالد وذكر الزيادة في صدر الحديث، وقد وصل طريق عبد الرزاق المذكورة مسلم فقال: "حدثني محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق ولفظه: من السنة أن يقيم عند البكر سبعا، قال خالد إلخ" وقد رواه أبو داود الحفري والقاسم ابن يزيد الجرمي عن الثوري عنهما أخرجه الإسماعيلي، ورواه عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان كذلك أخرجه البيهقي، وشذ أبو قلابة الرقاشي فرواه عن أبي عاصم عن سفيان عن خالد وأيوب جميعا وقال فيه: "قال صلى الله عليه وسلم:" أخرجه أبو عوانة في صحيحه عنه وقال: "حدثناه الصغاني عن أبي قلابة وقال: هو غريب لا أعلم من قاله غير أبي قلابة" انتهى. وقد أخرج الإسماعيلي من طريق أيوب من رواية عبد الوهاب الثقفي عنه عن أبي قلابة عن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فصرح برفعه، وهو يؤيد ما ذكرته أن السياق في رواية سفيان لخالد، ورواية أيوب هذه إن كانت محفوظة احتمل أن يكون أبو قلابة لما حدث به أيوب جزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه وأخرجه ابن حبان أيضا عنه عن عبد الجبار بن العلاء عن سفيان بن عيينة عن أيوب وصرح برفعه، وأخرجه الدارمي والدار قطني من طريق محمد بن إسحاق عن أيوب مثله، فبينت أن رواية خالد هي التي قال فيها "من السنة" وأن رواية أيوب قال فيها "قال النبي صلى الله عليه وسلم:" واستدل به على أن هذا العدل يختص بمن له زوجة قبل الجديدة. وقال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف وسواء كان عنده زوجة أم لا، وحكى النووي أنه يستحب إذا لم يكن عنده غيرها وإلا فيجب. وهذا يوافق كلام أكثر الأصحاب، واختار النووي أن لا فرق، وإطلاق الشافعي يعضده، ولكن يشهد للأول قوله في حديث الباب: "إذا تزوج البكر على الثيب" ويمكن أن يتمسك للآخر بسياق بشر عن خالد الذي في الباب قبله فإنه قال: "إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا" الحديث ولم يقيده بما إذا تزوجها على غيرها، لكن القاعدة أن المطلق محمول على المقيد، بل ثبت في رواية خالد التقييد، فعند مسلم من طريق هشيم عن خالد "إذا تزوج البكر على الثيب" الحديث. ويؤيده أيضا قوله في حديث الباب: "ثم قسم" لأن القسم إنما يكون لمن عنده زوجة أخرى، وفيه حجة على الكوفيين في قولهم: أن البكر والثيب سواء في الثلاث، وعلى الأوزاعي في قوله للبكر ثلاث وللثيب يومان، وفيه حديث مرفوع عن عائشة أخرجه الدار قطني بسند ضعيف جدا وخص من عموم حديث الباب ما لو أرادت الثيب أن يكمل لها السبع فإنه إذا أجابها سقط حقها من الثلاث وقضى السبع لغيرها، لما أخرجه مسلم من حديث أم سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثا وقال: إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي" وفي رواية له "إن شئت ثلثت ثم درت، قالت ثلث" وحكى الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" وجهين في أنه يقضي السبع أو الأربع المزيدة، والذي قطع به الأكثر إن اختار السبع قضاها كلها وإن أقامها بغير اختيارها قضى الأربع المزيدة. "تنبيه": يكره أن يتأخر في السبع أو الثلاث عن صلاة الجماعة وسائر أعمال البر التي كان يفعلها؛ نص عليه الشافعي. وقال الرافعي: هذا في النهار، وأما في الليل فلا، لأن المندوب لا يترك

(9/315)


له الواجب، وقد قال الأصحاب: يسوي بين الزوجات في الخروج إلى الجماعة وفي سائر أعمال البر، فيخرج في ليالي الكل أو لا يخرج أصلا، فإن خصص حرم عليه، وعدوا هذا من الأعذار في ترك الجماعة. وقال ابن دقيق العيد: أفرط بعض الفقهاء فجعل مقامه عندها عذرا في إسقاط الجمعة، وبالغ في التشنيع. وأجيب بأنه قياس قول من يقول بوجوب المقام عندها وهو قول الشافعية، ورواه ابن القاسم عن مالك، وعنه يستحب وهو وجه للشافعية، فعلى الأصح يتعارض عنده الواجبان، فقدم حق الآدمي، هذا توجيهه، فليس بشنيع وإن كان مرجوحا، وتجب الموالاة في السبع وفي الثلاث، فلو فرق لم يحسب على الراجح لأن الحشمة لا تزول به، ثم لا فرق في ذلك بين الحرة والأمة، وقيل هي على النصف من الحرة ويجبر الكسر.

(9/316)


102- باب مَنْ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ
5215- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ"
قوله:" باب من طاف على نسائه في غسل واحد" ذكر فيه حديث أنس في ذلك، وقد تقدم سندا ومتنا في كتاب الغسل مع شرحه وفوائده والاختلاف على قتادة في كونهن تسعا أو إحدى عشرة وبيان الجمع بين الحديثين. وتعلق به من قال إن القسم لم يكن واجبا عليه، وتقدم أن ابن العربي نقل أنه كانت له ساعة من النهار لا يجب عليه فيها القسم وهي بعد العصر وقلت: إن لم أجد لذلك دليلا، ثم وجدت حديث عائشة الذي في الباب بعد هذا بلفظ: "كان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن" الحديث، وليس فيه بقية ما ذكر من أن تلك الساعة هي التي لم يكن القسم واجبا عليه فيها وأنه ترك إتيان نسائه كلهن في ساعة واحدة على تلك الساعة1 ويرد عليه قوله في حديث أنس "كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة" وقد تقدمت له توجيهات غير هذه هناك، وذكر عياض في "الشفا" أن الحكمة في طوافه عليهن في الليلة الواحدة كان لتحصينهن، وكأنه أراد به عدم تشوفهن للأزواج، إذ الإحصان له معان منها الإسلام والحرية والعفة، والذي يظهر أن ذلك إنما كان لإرادة العدل بينهن في ذلك وإن لم يكن واجبا، كما تقدم شيء من ذلك في "باب كثرة النساء". وفي التعليل الذي ذكره نظر لأنهن حرم عليهن التزويج بعده وعاش بعضهن بعده خمسين سنة فما دونها وزادت آخرهن موتا على ذلك.

(9/316)


103- باب دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى نِسَائِهِ فِي الْيَوْمِ
5216- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ"
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: لعل فيه سقطا وتحريفا، ولعل الأصل: وإن ترك نسائه كلهن في ساعة واحدة محمول على تلك الساعة أو نحو ذلك.

(9/316)


104- باب إِذَا اسْتَأْذَنَ الرَّجُلُ نِسَاءَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ بَعْضِهِنَّ فَأَذِنَّ لَهُ
5217- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَيْنَ أَنَا غَدًا أَيْنَ أَنَا غَدًا يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ فِي بَيْتِي فَقَبَضَهُ اللَّهُ وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِي وَسَحْرِي وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي"
قوله: "باب إذا استأذن الرجل نساءه في أن يمرض في بيت بعضهن فأذن له" ذكر فيه حديث عائشة في ذلك وقد تقدم شرحه في الوفاة النبوية في آخر المغازي حديث عائشة في ذلك قد تقدم شرحه في الوفاة النبوية في آخر المغازي، والغرض منه هنا أن القسم لهن يسقط بإذنهن في ذلك، فكأنهن وهبن أيامهن تلك للتي هو في بيتها، وقد تقدم في بعض طرقه التصريح بذلك.

(9/317)


105- باب حُبِّ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ
5218- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ يَا بُنَيَّةِ لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا يُرِيدُ عَائِشَةَ فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ"
قوله: "باب حب الرجل بعض نسائه أفصل من بعض" ذكر فيه طرفا من حديث ابن عباس عن عمر الذي تقدم في "باب موعظة الرجل ابنته" وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم شرحه هناك. حديث ابن عباس عن عمر تقدم في "باب موعظة الرجل ابنته "وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم شرحه هناك.

(9/317)


106- باب الْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يَنَلْ وَمَا يُنْهَى مِنْ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ
5219- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ"
قوله: "باب المتشبع بما لم ينل، وما ينهى من افتخار الضرة" أشار بهذا إلى ما ذكره أبو عبيد في تفسير الخبر قال: قوله: "المتشبع" أي المتزين بما ليس عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل؛ كالمرأة تكون عند الرجل ولها ضرة

(9/317)


107- باب الْغَيْرَةِ وَقَالَ وَرَّادٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ لاَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي"
5220- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ"
5221- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"
5222- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ شَيْءَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ"
5223- وَعَنْ يَحْيَى أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ"
5224- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ وَلاَ شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنْ الأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ الأَنْصَارِ

(9/319)


فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ إِخْ إِخْ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي قَدْ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ قَالَتْ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي"
5225- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتْ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ غَارَتْ أُمُّكُمْ ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ فيه"
5226- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دَخَلْتُ الْجَنَّةَ أَوْ أَتَيْتُ الْجَنَّةَ فَأَبْصَرْتُ قَصْرًا فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَلَمْ يَمْنَعْنِي إِلاَّ عِلْمِي بِغَيْرَتِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ"
5227- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا لِعُمَرَ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا فَبَكَى عُمَرُ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ قَالَ أَوَعَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغَارُ"
قوله: "باب الغيرة" بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها راء، قال عياض وغيره: هي مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين. هذا في حق الآدمي، وأما في حق الله فقال الخطابي: أحسن ما يفسر به ما فسر به في حديث أبي هريرة، يعني الآتي في هذا الباب وهو قوله: "وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه" قال عياض: ويحتمل أن تكون الغيرة في حق الله الإشارة إلى تغير حال فاعل ذلك، وقيل الغيرة في الأصل الحمية والأنفة، وهو تفسير بلازم التغير فيرجع إلى الغضب، وقد نسب سبحانه وتعالى إلى نفسه في كتابه الغضب والرضا. وقال ابن العربي: التغير محال على الله بالدلالة القطعية

(9/320)


فيجب تأويله بلازمه كالوعيد أو إيقاع العقوبة بالفاعل ونحو ذلك ا هـ. وقد تقدم في كتاب الكسوف شيء من هذا ينبغي استحضاره هنا. ثم قال: ومن أشرف وجوه غيرته تعالى اختصاصه قوما بعصمته، يعني فمن ادعى شيئا من ذلك لنفسه عاقبه، قال وأشد الآدميين غيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان يغار لله ولدينه، ولهذا كان لا ينتقم لنفسه ا هـ. وأورد المصنف في الباب تسعة أحاديث: الحديث الأول. قوله: "وقال وراد" بفتح الواو وتشديد الراء هو كاتب المغيرة بن شعبة ومولاه، وحديثه هذا المعلق عن المغيرة سيأتي موصولا في كتاب الحدود من طريق عبد الملك بن عمير عنه بلفظه لكن فيه: "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم:" واختصرها هنا، ويأتي أيضا في كتاب التوحيد من هذا الوجه أتم سياقا، وأغفل المزي التنبيه على هذا التعليق في النكاح. قوله: "قال سعد بن عبادة" هو سيد الخزرج وأحد نقبائهم.قوله: "لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته" عند مسلم من حديث أبي هريرة ولفظه : "قال سعد: يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم" وزاد في رواية من هذا الوجه "قال كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك" وفي حديث ابن عباس عند أحمد واللفظ له وأبي داود والحاكم" لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية، قال سعد بن عبادة: أهكذا أنزلت؟ فلو وجدت لكاع متفخذها رجل لم يكن لي أن أحركه ولا أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فوالله لا آتي بأربعة شهداء حتى يقضي حاجته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد: والله إني لأعلم يا رسول الله أنها لحق وأنها من عند الله، ولكني عجبت. قوله: "غير مصفح" قال عياض: هو بكسر الفاء وسكون الصاد المهملة، قال: ورويناه أيضا بفتح الفاء، فمن فتح جعله وصفا للسيف وحالا منه، ومن كسر جعله وصفا للضارب وحالا منه ا هـ. وزعم ابن التين أنه وقع في سائر الأمهات بتشديد الفاء وهو من صفح السيف أي عرضه وحده، ويقال له غرار بالغين المعجمة، وللسيف صفحان وحدان، وأراد أنه يضربه بحده لا بعرضه، والذي يضرب بالحد يقصد إلى القتل بخلاف الذي يضرب بالصفح فإنه يقصد التأديب. ووقع عند مسلم من رواية أبي عوانة "غير مصفح عنه" وهذه يترجح فيها كسر الفاء ويجوز الفتح أيضا على البناء للمجهول، وقد أنكرها ابن الجوزي وقال: ظن الراوي أنه من الصفح الذي هو بمعنى العفو، وليس كذلك إنما هو من صفح السيف، قلت: ويمكن توجيهها على المعنى الأول، والصفح والصفحة بمعنى. وقد أورده مسلم من طريق زائدة عن عبد الملك بن عمير وبين أنه ليس في روايته لفظه: "عنه" وكذا سائر من رواه عن أبي عوانة في البخاري وغيره لم يذكروها. قوله: "أتعجبون من غيرة سعد" تمسك بهذا التقرير من أجاز فعل ما قال سعد وقال: إن وقع ذلك ذهب دم المقتول هدرا، نقل ذلك عن ابن المواز من المالكية، وسيأتي بسط ذلك وبيانه في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. قوله: "شقيق" هو أبو وائل الأسدي وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: "ما من أحد أغير من الله" "من" زائدة بدليل الحديث الذي بعده، ويجوز في "أغير" الرفع والنصب على اللغتين الحجازية والتميمية في "ما" ويجوز في النصب أن يكون "أغير" في موضع خفض على النعت لأحد، وفي الرفع أن يكون صفة لأحد، والخبر محذوف في الحالين تقديره موجود ونحوه، والكلام على غيره الله ذكر في الذي قبله، وبقية شرح الحديث يأتي في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. "تنبيه": وقع عند

(9/321)


الإسماعيلي قبل حديث ابن مسعود ترجمة صورتها "في الغيرة والمدح" وما رأيت ذلك في شيء من نسخ البخاري. حديث عائشة. قوله: "يا أمة محمد، ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أمته تزني" كذا وقع عنده هنا عن عبد الله بن سلمة وهو القعنبي عن مالك، ووقع في سائر الروايات عن مالك "أو تزني أمته" على وزان الذي قبله، وقد تقدم في كتاب الكسوف عن عبد الله بن مسلمة هذا بهذا الإسناد كالجماعة، فيظهر أنه من سبق القلم هنا، ولعل لفظة "تزني" سقطت غلطا من الأصل ثم ألحقت فأخرها الناسخ عن محلها. وهذا القدر الذي أورده المصنف من هذا الحديث هو طرف من الخطبة المذكورة في كتاب الكسوف، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك بحمد الله تعالى. قوله: "عن يحيى" هو ابن أبي كثير. قوله: "عن أبي سلمة" هو ابن عبد الرحمن. قوله: "أن عروة" في رواية حجاج بن أبي عثمان عن يحيى بن أبي كثير عند مسلم: "حدثني عروة" ورواية أبي سلمة عن عروة من رواية القرين عن القرين لأنهما متقاربان في السن واللقاء، وإن كان عروة أسن من أبي سلمة قليلا. قوله: "عن أمه أسماء" هي بنت أبي بكر، ووقع في رواية مسلم المذكورة "أن أسماء بنت أبي بكر الصديق حدثته". قوله: "لا شيء أغير من الله" في رواية حجاج المذكورة "ليس شيء أغير من الله" وهما بمعنى. قوله: "وعن يحيى أن أبا سلمة حدثه أن أبا هريرة حدثه" هكذا أورده، وهو معطوف على السند الذي قبله فهو موصول، ولم يسق البخاري المتن من رواية همام بل تحول إلى رواية شيبان فساقه على روايته، والذي يظهر أن لفظهما واحد، وقد وقع في رواية حجاج بن أبي عثمان عند مسلم بتقديم حديث أبي سلمة عن عروة على حديثه عن أبي هريرة عكس ما وقع في رواية همام عند البخاري، وأورده مسلم أيضا من رواية حرب بن شداد عن يحيى بحديث أبي هريرة فقط مثل ما أورده البخاري من رواية شيبان عن يحيى، ثم أورده مسلم من رواية هشام الدستوائي عن يحيى بحديث أسماء فقط، فكأن يحيى كان يجمعهما تارة ويفرد أخرى، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية الأوزاعي عن يحيى بحديث أسماء فقط وزاد في أوله "على المنبر". قوله: "إن الله يغار" زاد في رواية حجاج عند مسلم: "وإن المؤمن يغار". قوله: "وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله" كذا للأكثر وكذا هو عند مسلم لكن بلفظ: "ما حرم عليه" على البناء للفاعل وزيادة "عليه" والضمير للمؤمن، ووقع في رواية أبي ذر "وغيرة الله أن لا يأتي" بزيادة "لا" وكذا رأيتها ثابتة في رواية النسفي، وأفرط الصغاني فقال: كذا للجميع والصواب حذف "لا"، كذا قال وما أدري ما أراد بالجميع، بل أكثر رواة البخاري على حذفها وفاقا لمن رواه غير البخاري كمسلم والترمذي وغيرهما، وقد وجهها الكرماني وغيره بما حاصله: أن غيرة الله ليست هي الإتيان ولا عدمه، فلا بد من تقدير مثل لأن لا يأتي أي غيرة الله على النهي عن الإتيان أو نحو ذلك. وقال الطيبي: التقدير غيرة الله ثابتة لأجل أن لا يأتي. قال الكرماني: وعلى تقدير أن لا يستقيم المعنى بإثبات "لا" فذلك دليل على زيادتها وقد عهدت زيادتها في الكلام كثيرا مثل قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} – {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وغير ذلك. قوله: "حدثني محمود" هو ابن غيلان المروزي. قوله: "أخبرني أبي عن أسماء" هي أمه المقدم ذكرها قبل. قوله: "تزوجني الزبير" أي ابن العوام "وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه" أما عطف المملوك على المال فعلى أن المراد بالمال الإبل أو الأراضي التي تزرع، وهو استعمال معروف للعرب يطلقون المال على كل من ذلك، والمراد بالمملوك على هذا الرقيق من العبيد

(9/322)


والإماء، وقولها بعد ذلك "ولا شيء" من عطف العام على الخاص يشمل كل ما يتملك أو يتمول لكن الظاهر أنها لم ترد إدخال ما لا بد له منه من مسكن وملبس ومطعم ورأس مال تجارة، ودل سياقها على أن الأرض التي يأتي ذكرها لم تكن مملوكة للزبير وإنما كانت إقطاعا، فهو يمللك منفعتها لا رقبتها، ولذلك لم تستثنها كما استثنت الفرس والناضح، وفي استثنائها الناضح والفرس نظر استشكله الداودي، لأن تزويجها كان بمكة قبل الهجرة، وهاجرت وهي حامل بعبد الله بن الزبير كما تقدم ذلك صريحا في كتاب الهجرة، والناضح وهو الجمل الذي يسقى عليه الماء إنما حصل له بسبب الأرض التي أقطعها، قال الداودي: ولم يكن له بمكة فرس ولا ناضح، والجواب منع هذا النفي وأنه لا مانع أن يكون الفرس والجمل كانا له بمكة قبل أن يهاجر، فقد ثبت أنه كان في يوم بدر على فرس ولم يكن قبل بدر غزوة حصلت لهم منها غنيمة، والجمل يحتمل أن يكون كان له بمكة ولما قدم به المدينة وأقطع الأرض المذكورة أعده لسقيها وكان ينتفع به قبل ذلك في غير السقي فلا إشكال. قوله: "فكنت أعلف فرسه" زاد مسلم عن أبي كريب عن أبي أسامة "وأكفيه مؤنته وأسوسه وأدق النوى لناصحه وأعلفه" ولمسلم أيضا من طريق ابن أبي مليكة عن أسماء "كنت أخدم الزبير خدمة البيت وكان له فرس وكنت أسوسه فلم يكن من خدمته شيء أشد علي من سياسة الفرس كنت أحش له وأقوم عليه". قوله: "وأستقي الماء" كذا للأكثر، وللسرخسي "وأسقي" بغير مثناة وهو على حذف المفعول أي وأسقي الفرس أو الناضح الماء، والأول أشمل معنى وأكثر فائدة. قوله: "وأخرز" بخاء معجمة ثم راء ثم زاي "غربه" بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة هو الدلو. قوله: "وأعجن" أي الدقيق وهو يؤيد ما حملنا عليه المال، إذ لو كان المراد نفي أنواع المال لانتفى الدقيق الذي يعجن، لكن ليس ذلك مرادها، وقد تقدم في حديث الهجرة أن الزبير لاقى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر راجعا من الشام بتجارة وأنه كساهما ثيابا. قوله: "ولم أكن أحسن أخبز فكان يخبز جارات لي" في رواية مسلم: "فكان يخبز لي" وهذا محمول على أن في كلامها شيئا محذوفا تقديره تزوجني الزبير بمكة وهو بالصفة المذكورة، واستمر على ذلك حتى قدمنا المدينة، وكنت أصنع كذا إلخ، لأن النسوة من الأنصار إنما جاورنها بعد قدومها المدينة قطعا، وكذلك ما سيأتي من حكاية نقلها النوى من أرض الزبير. قوله: "وكن نسوة صدق" أضافتهن إلى الصدق مبالغة في تلبسهن به في حسن العشرة والوفاء بالعهد. قوله: "وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم" تقدم في كتاب فرض الخمس بيان حال الأرض المذكورة وأنها كانت مما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير، وكان ذلك في أوائل قدومه المدينة كما تقدم بيان ذلك هناك. قوله: "وهي مني" أي من مكان سكناها. قوله: "فدعاني ثم قال إخ إخ" بكسر الهمزة وسكون الخاء، كلمة تقال للبعير لمن أراد أن ينيخه. قوله: "ليحملني خلفه" كأنها فهمت ذلك من قرينة الحال، وإلا فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد أن يركبها وما معها ويركب هو شيئا آخر غير ذلك. قوله: "فاستحييت أن أسير مع الرجال" هذا بنته على ما فهمته من الارتداف، وإلا فعلى الاحتمال الآخر ما تتعين المرافقة. قوله: "وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس" هو بالنسبة إلى من علمته، أي أرادت تفضيله على أبناء جنسه في ذلك، أو "من" مرادة، ثم رأيتها ثابتة في رواية الإسماعيلي ولفظه: "وكان من أغير الناس". قوله: "والله لحملك النوى على رأسك كان أشد علي من ركوبك معه" كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي كان أشد عليك وسقطت هذه اللفظة من رواية مسلم، ووجه المفاضلة التي أشار إليها الزبير أن ركوبها مع النبي صلى الله عليه وسلم لا ينشأ منه

(9/323)


كبير أمر من الغيرة لأنها أخت امرأته، فهي في تلك الحالة لا يحل له تزويجها أن لو كانت خلية من الزوج، وجواز أن يقع لها ما وقع لزينب بنت جحش بعيد جدا لأنه يزيد عليه لزوم فراقه لأختها، فما بقي إلا احتمال أن يقع لها من بعض الرجال مزاحمة بغير قصد، وأن ينكشف منها حالة السير ما لا تريد انكشافه ونحو ذلك، وهذا كله أخف مما تحقق من تبذلها بحمل النوى على رأسها من مكان بعيد لأنه قد يتوهم خسة النفس ودناءة الهمة وقلة الغيرة ولكن كان السبب الحامل على الصبر على ذلك شغل زوجها وأبيها بالجهاد وغيره مما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ويقيمهم فيه، وكانوا لا يتفرغون للقيام بأمور البيت بأن يتعاطوا ذلك بأنفسهم، ولضيق ما بأيديهم على استخدام من يقوم بذلك عنهم، فانحصر الأمر في نسائهم فكن يكفينهم مؤنة المنزل ومن فيه ليتوفروا هم على ما هم فيه من نصر الإسلام مع ما ينضم إلى ذلك من العادة المانعة من تسمية ذلك عارا محضا. قوله: "حتى أرسل إلي أبو بكر بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني" في رواية مسلم: "فكفتني" وهي أوجه، لأن الأولى تقتضي أنه أرسلها لذلك خاصة، بخلاف رواية مسلم وقد وقع عنده في رواية ابن أبي مليكة "جاء النبي صلى الله عليه وسلم سبى فأعطاها خادما، قالت كفتني سياسة الفرس فألقت عني مؤنته" ويجمع بين الروايتين بأن السبي لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا بكر منه خادما ليرسله إلى ابنته أسماء فصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المعطي، ولكن وصل ذلك إليها بواسطة. ووقع عنده في هذه الرواية أنها باعتها بعد ذلك وتصدقت بثمنها، وهو محمول على أنها استغنت عنها بغيرها. واستدل بهذه القصة على أن على المرأة القيام بجميع ما يحتاج إليه زوجها من الخدمة، وإليه ذهب أبو ثور، وحمله الباقون على أنها تطوعت بذلك ولم يكن لازما، أشار إليه المهلب وغيره. والذي يظهر أن هذه الواقعة وأمثالها كانت في حال ضرورة كما تقدم فلا يطرد الحكم في غيرها ممن لم يكن في مثل حالهم، وقد تقدم أن فاطمة سيدة نساء العالمين شكت ما تلقى يداها من الرحى وسألت أباها خادما فدلها على خير من ذلك وهو ذكر الله تعالى، والذي يترجح حمل الأمر في ذلك على عوائد البلاد فإنها مختلفة في هذا الباب، قال المهلب: وفيه أن المرأة الشريفة إذا تطوعت بخدمة زوجها بشيء لا يلزمها لم ينكر عليها ذلك أب ولا سلطان، وتعقب بأنه بناه على ما أصله من أن ذلك كان تطوعا، ولخصمه أن يعكس فيقول لو لم يكن لازما ما سكت أبوها مثلا على ذلك مع ما فيه من المشقة عليه وعليها، ولا أقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع عظمة الصديق عنده؛ قال: وفيه جواز ارتداف المرأة خلف الرجل في موكب الرجال، قال: وليس في الحديث أنها استترت ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك، فيؤخذ منه أن الحجاب إنما هو في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ا هـ. والذي يظهر أن القصة كانت قبل نزول الحجاب ومشروعيته، وقد قالت عائشة كما تقدم في تفسير سورة النور "لما نزلت : {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}" أخذن أزرهن من قبل الحواشي فشققنهن فاختمرن بها" ولم تزل عادة النساء قديما وحديثا يسترن وجوههن عن الأجانب، والذي ذكر عياض أن الذي اختص به أمهات المؤمنين ستر شخوصهن زيادة على ستر أجسامهن، وقد ذكرت البحث معه في ذلك في غير هذا الموضع. قال المهلب: وفيه غيرة الرجل عند ابتذال أهله فيما يشق من الخدمة وأنفة نفسه من ذلك لا سيما إذا كانت ذات حسب انتهى. وفيه منقبة لأسماء وللزبير ولأبي بكر ولنساء الأنصار. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني، وابن علية اسمه إسماعيل. وقوله عن أنس تقدم في المظالم بيان من صرح عن حميد بسماعه له من أنس، وكذا تسمية المرأتين المذكورتين، وأن التي كانت في بيتها هي عائشة وأن التي هي أرسلت الطعام

(9/324)


زينب بنت جحش وقيل غير ذلك. قوله: "غارت أمكم" الخطاب لمن حضر، والمراد بالأم هي التي كسرت الصحفة وهي من أمهات المؤمنين كما تقدم بيانه، وأغرب الداودي فقال: المراد بقوله: "أمكم" سارة، وكأن معنى الكلام عنده لا تتعجبوا مما وقع من هذه من الغيرة فقد غارت قبل ذلك أمكم حتى أخرج إبراهيم ولده إسماعيل وهو طفل مع أمه إلى واد غير ذي زرع، وهذا وإن كان له بعض توجيه لكن المراد خلافه وأن المراد كاسرة الصحفة وعلى هذا حمله جميع من شرح هذا الحديث وقالوا: فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة. وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعا: "أن الغيراء لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه" قاله في قصة. وعن ابن مسعود رفعه: "إن الله كتب الغيرة على النساء، فمن صبر منهن كان لها أجر شهيد" أخرجه البزار وأشار إلى صحته ورجاله ثقات، لكن اختلف في عبيد بن الصباح منهم. وفي إطلاق الداودي على سارة أنها أم المخاطبين نظر أيضا، فإنهم إن كانوا من بني إسماعيل فأمهم هاجر لا سارة، ويبعد أن يكونوا من بني إسرائيل حتى يصح أن أمهم سارة. قوله: "معتمر" هو ابن سليمان التيمي وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وقد تقدم الحديث عن جابر مطولا في مناقب عمر مع شرحه. قوله: "بينما أنا نائم رأيتني في الجنة" هذا يعين أحد الاحتمالين في الحديث الذي قبله حيث قال فيه: "دخلت الجنة أو أتيت الجنة" وأنه يحتمل أن ذلك كان في اليقظة أو في النوم فبين هذا الحديث أن ذلك كان في النوم. قوله: "فإذا امرأة تتوضأ" تقدم النقل عن الخطابي في زعمه أن هذه اللفظة تصحيف وأن القرطبي عزا هذا الكلام لابن قتيبة، وهو كذلك أورده في "غريب الحديث:" من طريق أخرى عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وتلقاه عنه الخطابي فذكره في شرح البخاري وارتضاه ابن بطال فقال يشبه أن تكون هذه الرواية الصواب. وتتوضأ تصحيف، لأن الحور طاهرات لا وضوء عليهن، وكذا كل من دخل الجنة لا تلزمه طهارة، وقد قدمت البحث مع الخطابي في هذا في مناقب عمر بما أغنى عن إعادته، وقد استدل الداودي بهذا الحديث على أن الحور في الجنة يتوضئان ويصلين قلت: ولا يلزم من كون الجنة لا تكليف فيها بالعبادة أن لا يصدر من أحد من العباد باختياره ما شاء من أنواع العبادة. ثم قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث أن من علم من صاحبه خلقا لا ينبغي أن يتعرض لما ينافره ا هـ. وفيه أن من نسب إلى من اتصف بصفة صلاح ما يغاير ذلك ينكر عليه. وفيه أن الجنة موجودة وكذلك الحور، وقد تقدم تقرير ذلك في بدء الخلق، وسائر فوائده تقدمت في مناقب عمر.

(9/325)


108- باب غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ
5228- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لاَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ قَالَتْ قُلْتُ أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ"
[الحديث 5228- طرفه في: 6078]

(9/325)


109- باب ذَبِّ الرَّجُلِ عَنْ ابْنَتِهِ فِي الْغَيْرَةِ وَالإِنْصَافِ
5230- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَلاَ آذَنُ ثُمَّ لاَ آذَنُ ثُمَّ لاَ آذَنُ إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا"
قوله: "باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف" أي في دفع الغيرة عنها وطلب الإنصاف لها. قوله: "عن ابن أبي مليكة عن المسور" كذا رواه الليث وتابعه عمرو بن دينار وغير واحد، وخالفهم أيوب فقال: "عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير" أخرجه الترمذي وقال حسن، وذكر الاختلاف فيه ثم قال: يحتمل أن يكون ابن أبي مليكة حمله عنهما جميعا ا هـ. والذي يظهر ترجيح رواية الليث لكونه توبع ولكون الحديث قد جاء عن المسور من غير رواية ابن أبي مليكة، فقد تقدم في فرض الخمس وفي المناقب من طريق الزهري عن علي بن الحسين بن علي عن المسور وزاد فيه في الخمس قصة سيف النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك سبب تحديث المسور لعلي بن الحسين بهذا الحديث، وقد ذكرت ما يتعلق بقصة السيف عنه هناك، ولا أزال أتعجب من المسور كيف بالغ في تعصبه لعلي بن الحسين حتى قال: إنه لو أودع عنده السيف لا يمكن أحدا منه حتى تزهق روحه، رعاية لكونه ابن ابن فاطمة محتجا بحديث الباب، ولم يراع خاطره في أن ظاهر سياق الحديث المذكور غضاضة على علي بن الحسين لما فيه من إيهام غض من جده علي بن أبي طالب حيث أقدم على خطبة بنت أبي جهل على فاطمة حتى اقتضى أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من الإنكار ما وقع، بل أتعجب من المسور تعجبا آخر أبلغ من ذلك وهو أن يبذل نفسه دون السيف رعاية لخاطر ولد ابن فاطمة، وما بذل نفسه دون ابن فاطمة نفسه أعني الحسين والد علي الذي وقعت له معه القصة حتى قتل بأيدي ظلمة الولاة، لكن يحتمل أن يكون عذره أن الحسين لما خرج إلى العراق ما كان المسور وغيره من أهل الحجاز يظنون أن أمره يئول إلى ما آل إليه والله أعلم. وقد تقدم في فرض الخمس وجه المناسبة بين قصة السيف وقصة الخطبة بما يغني عن إعادته. قوله: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر" في رواية الزهري عن علي بن حسين عن المسور الماضية في فرض الخمس "يخطب الناس على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم" قال ابن سيد الناس: هذا غلط. والصواب ما وقع عند الإسماعيلي بلفظ: "كالمحتلم" أخرجه من طريق يحيى بن معين عن يعقوب بن إبراهيم بسنده المذكور إلى علي بن الحسين قال: والمسور لم يحتلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه ولد بعد ابن الزبير، فيكون عمره عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنين. قلت: كذا جزم به، وفيه نظر، فإن الصحيح أن ابن الزبير ولد في السنة الأولى فيكون عمره عند الوفاة النبوية تسع سنين فيجوز أن يكون احتلم في أول سني الإمكان، أو يحمل قوله محتلم على المبالغة والمراد التشبيه فتلتئم الروايتان، وإلا فابن ثمان سنين لا يقال له محتلم ولا كالمحتلم إلا أن يريد بالتشبيه أنه كان كالمحتلم في الحذق

(9/327)


110- باب يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَى الرَّجُلَ الْوَاحِدَ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ
5231- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْحَوْضِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لاَحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُحَدِّثُكُمْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ وَيَكْثُرَ الزِّنَا وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ"
قوله: "باب يقل الرجال ويكثر النساء" أي في آخر الزمان. قوله: "وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: وترى الرجل الواحد يتبعه أربعون نسوة" في رواية الكشميهني امرأة "والأول على حذف الموصوف، وقوله: "يلذن به" قيل لكونهن نساءه وسراريه أو لكونهن قراباته أو من الجميع. وروى علي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية من حديث حذيفة قال: إذا عمت الفتنة ميز الله أولياءه، حتى يتبع الرجل خمسون امرأة تقول: يا عبد الله استرني يا عبد الله آوني" وقد تقدم حديث أبي موسى موصولا في "باب الصدقة قبل الرد" من كتاب الزكاة في حديث أوله "ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة" الحديث. قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي كذا للأكثر، ووقع في رواية أبي أحمد الجرجاني "همام" والأول أولى، وهمام وهشام كلاهما من شيوخ حفص بن عمر المذكور وهو الحوضي، وسيأتي في الأشربة عن مسلم بن إبراهيم عن هشام. قوله: "إن من أشراط الساعة" الحديث تقدم في كتاب العلم من رواية شعبة عن قتادة كذلك. قوله: "حتى يكون لخمسين امرأة" هذا لا ينافي الذي قبله لأن الأربعين داخلة في الخمسين، ولعل العدد بعينه غير مراد بل أريد المبالغة في كثرة النساء بالنسبة للرجال، ويحتمل أن يجمع بينهما بأن الأربعين عدد من يلذن به والخمسين عدد من يتبعه وهو أعم من أنهن يلذن به فلا منافاة. قوله: "القيم الواحد" أي الذي يقوم بأمورهن، ويحتمل أن يكنى به عن اتباعهن له لطلب النكاح حلالا أو حراما. وفي الحديث الإخبار بما سيقع فوقع كما أخبر، والصحيح من ذلك ما ورد مطلقا، وأما ما ورد مقدرا بوقت معين فقال أحمد لا يصح منه شيء، وقد تقدم كثير من مباحث هذا الحديث في كتاب العلم.

(9/330)


باب لايخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة
...
111- باب لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ ذُو مَحْرَمٍ وَالدُّخُولُ عَلَى الْمُغِيبَةِ
5232- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ قَالَ الْحَمْوُ الْمَوْتُ"
5233- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(9/330)


باب مايجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس
...
5234- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلاَ بِهَا فَقَالَ وَاللَّهِ إِنَّكُنَّ لاَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ"
قوله: "باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس" أي لا يخلو بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم بل بحيث لا يسمعون كلامهما إذا كان بما يخافت به كالشيء الذي تستحي المرأة من ذكره بين الناس. وأخذ المصنف قوله في الترجمة "عند الناس" من قوله في بعض طرق الحديث: "فخلا بها في بعض الطرق أو في بعض السكك" وهي الطرق المسلوكة التي لا تنفك عن مرور الناس غالبا. قوله: "عن هشام" هو ابن زيد بن أنس، وقد تقدم في "فضائل الأبصار" من طريق بهز بن أسد عن شعبة "أخبرني هشام بن زيد" وكذا وقع في رواية مسلم. قوله: "جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية بهز بن أسد "ومعها صبي لها فكلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فخلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي في بعض الطرق، قال المهلب: لم يرد أنس أنه خلا بها بحيث غاب عن أبصار من كان معه، وإنما خلا بها بحيث لا يسمع من حضر شكواها ولا ما دار بينهما من الكلام، ولهذا سمع أنس آخر الكلام فنقله ولم ينقل ما دار بينهما لأنه لم يسمعه ا هـ. ووقع عند مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أن امرأة كان في عقلها شيء قالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك" وأخرج أبو داود نحو هذا السياق من طريق حميد عن أنس لكن ليس فيه أنه كان في عقلها شيء. قوله: "فقال والله إنكم لأحب الناس إلي" زاد في رواية بهز "مرتين" وأخرجه في الأيمان والنذور من طريق وهب بن جرير عن شعبة بلفظ: "ثلاث مرات" وفي الحديث منقبة للأنصار، وقد تقدم في فضائل الأنصار توجيه قوله: "أنتم أحب الناس إلي". وقد تقدم فيه حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس مثل هذا اللفظ أيضا في حديث آخر، وفيه سعة حلمه وتواضعه صلى الله عليه وسلم وصبره على قضاء حوائج الصغير والكبير، وفيه أن مفاوضة المرأة الأجنبية سرا لا يقدح في الدين عند أمن الفتنة، ولكن الأمر كما قالت عائشة "وأيكم يملك أربه كما كان صلى الله عليه وسلم يملك أربه".

(9/333)


باب ماينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة
...
113- باب مَا يُنْهَى مِنْ دُخُولِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ
5235- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ فَقَالَ الْمُخَنَّثُ لِأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ الطَّائِفَ غَدًا أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلاَنَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُم"
قوله "باب ما ينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة أي بغير إذن زوجها وحيث تكون مسافرة مثلا قوله: "حدثنا عبدة" هو ابن سليمان "عن هشام" هو ابن عروة "عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة" في رواية سفيان "عن هشام في غزوة الطائف عن أمها أم سلمة" هكذا قال أصحاب هشام بن عروة وهو المحفوظ

(9/333)


وسيأتي في اللباس من طريق زهير بن معاوية "عن هشام أن عروة أخبره أن زينب بنت أم سلمة أخبرته أن أم سلمة أخبرتها" وخالفهم حماد بن سلمة عن هشام فقال عن أبيه عن عمرو بن أبي سلمة "وقال معمر" عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة" ورواه معمر أيضا عن الزهري عن عروة، وأرسله مالك فلم يذكر فوق عروة أحدا أخرجها النسائي، ورواية معمر عن الزهري عند مسلم وأبي داود أيضا. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها وفي البيت" أي التي هي فيه.قوله: "مخنث" تقدم في غزوة الطائف أن اسمه هيت، وأن ابن عيينة ذكره عن ابن جريج بغير إسناد، وذكر ابن حبيب في "الواضحة" عن حبيب كاتب مالك قال: "قلت لمالك أن سفيان بن عيينة زاد في حديث بنت غيلان أن المخنث هيت وليس في كتابك هيت، فقال: صدق هو كذلك" وأخرج الجوزجاني في تاريخه من طريق الزهري عن علي بن الحسين بن علي قال: "كان محنث يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقال له هيت" وأخرج أبو يعلى وأبو عوانة وابن حبان كلهم من طريق يونس "عن الزهري عن عروة عن عائشة أن هيتا كان يدخل" الحديث. وروى المستغفري من مرسل محمد بن المنكدر "أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى هيتا في كلمتين تكلم بهما من أمر النساء، قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: إذا افتتحتم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان" فذكر نحو حديث الباب وزاد: "اشتد غضب الله على قوم رغبوا عن خلق الله وتشبهوا بالنساء" وروى ابن أبي شيبة والدورقي وأبو يعلى والبزار من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن اسم المخنث هيت أيضا، لكن ذكر فيه قصة أخرى. وذكر ابن إسحاق المغازي أن اسم المخنث في حديث الباب ماتع وهو بمثناة وقيل بنون، فروي عن محمد بن إبراهيم التيمي قال: "كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الطائف مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عائد مخنث يقال له ماتع يدخل على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ويكون في بيته لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يفطن لشيء من أمر النساء مما يفطن له الرجال ولا أن له أربة في ذلك، فسمعه يقول لخالد بن الوليد: يا خالد إن افتتحتم الطائف فلا تنفلتن منك بادية بنت غيلان بن سلمة، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حين سمع ذلك منه: لا أرى هذا الخبيث يفطن لما أسمع، ثم قال لنسائه: لا تدخلن هذا عليكن، فحجب عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وحكى أبو موسى المديني في كون ماتع لقب هيت أو بالعكس أو أنهما اثنان خلافا، وجزم الواقدي بالتعدد فإنه قال: كان هيت مولى عبد الله بن أبي أمية، وكان ماتع مولى فاختة، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نفاهما معا إلى الحمى، وذكر الباوردي في "الصحابة" من طريق إبراهيم بن مهاجر عن أبي بكر بن حفص "أن عائشة قالت لمخنث كان بالمدينة يقال له أنة بفتح الهمزة وتشديد النون: ألا تدلنا على امرأة نخطبها على عبد الرحمن بن أبي بكر؟ قال: بلى، فوصف امرأة تقبل بأربع وتدبر بثمان، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أنة أخرج من المدينة إلى حمراء الأسد وليكن بها منزلك" والراجح أن اسم المذكور في حديث الباب هيت، ولا يمتنع أن يتواردوا في الوصف المذكور، وقد تقدم في غزوة الطائف ضبط هيت، ووقع في أول رواية الزهري عن عروة عن عائشة عند مسلم: "كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث وكانوا يعدونه من غير أولى الإربة؛ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة" الحديث، وعرف من حديث الباب تسمية المرأة وأنها أم سلمة والمخنث بكسر النون وبفتحها من يشبه خلقه النساء في حركاته وكلامه وغير ذلك، فإن كان من أصل الخلقة لم يكن عليه لوم وعليه أن يتكلف إزالة ذلك، وإن كان بقصد منه وتكلف له فهو المذموم ويطلق عليه اسم مخنث سواء فعل الفاحشة أو لم يفعل، قال ابن حبيب: المخنث هو المؤنث من الرجال

(9/334)


وإن لم تعرف منه الفاحشة، مأخوذ من التكسر في المشي وغيره، وسيأتي في كتاب الأدب لعن من فعل ذلك. وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمخنث قد خضب يديه ورجليه فقيل: يا رسول الله إن هذا يتشبه بالنساء، فنفاه إلى النقيع، فقيل ألا تقتله فقال: إني نهيت عن قتل المصلين". قوله: "فقال لأخي أم سلمة" تقدم شرح حاله في غزوة الطائف، ووقع في مرسل ابن المنكدر أنه قال ذلك لعبد الرحمن بن أبي بكر فيحمل على تعدد القول منه لكل منهما: لأخي عائشة ولأخي أم سلمة. والعجب أنه لم يقدر أن المرأة الموصوفة حصلت لواحد منهما، لأن الطائف لم يفتح حينئذ، وقتل عبد الله بن أبي أمية في حال الحصار، ولما أسلم غيلان بن سلمة وأسلمت بنته بادية تزوجها عبد الرحمن بن عوف فقدر أنها استحيضت عنده وسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المستحاضة، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في كتاب الطهارة، وتزوج عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي وقصته معها مشهورة، وقد وقع حديث في سعد بن أبي وقاص أنه خطب امرأة بمكة فقال: من يخبرني عنها؟ فقال مخنث يقال له هيت: أنا أصفها لك. فهذه قصص وقعت لهيت. قوله: "إن فتح الله لكم الطائف غدا" وقع في رواية أبي أسامة عن هشام في أوله "وهو محاصر الطائف يومئذ" وقد تقدم ذلك في غزوة الطائف واضحا. قوله: "فعليك" هو إغراء معناه أحرص على تحصيلها وإلزامها. قوله: "غيلان" في رواية حماد بن سلمة "لو قد فتحت لكم الطائف لقد أريتك بادية بنت غيلان" واختلف في ضبط بادية فالأكثر بموحدة ثم تحتانية وقيل بنون بدل التحتانية حكاه أبو نعيم، ولبادية ذكر في المغازي، ذكر ابن إسحاق أن خولة بنت حكيم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إن فتح الله عليك الطائف أعطني حلي بادية بنت غيلان وكانت من أحلى نساء ثقيف، وغيلان هو ابن سلمة بن معتب بمهملة ثم مثناة ثقيلة ثم موحدة ابن مالك الثقفي، وهو الذي أسلم وتحته عشر نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعا، وكان من رؤساء ثقيف وعاش إلى أواخر خلافة عمر رضي الله عنه. قوله: "تقبل بأربع وتدبر بثمان" قال ابن حبيب عن مالك معناه أن أعكانها ينعطف بعضها على بعض وهي في بطنها أربع طرائق وتبلغ أطرافها إلى خاصرتها في كل جانب أربع، ولإرادة العكن ذكر الأربع والثمان. فلو أراد الأطراف لقال بثمانية. ثم رأيت في "باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت" عقب هذا الحديث من وجه آخر عن هشام بن عروة في غير رواية أبي ذر: قال أبو عبد الله تقبل بأربع يعني بأربع عكن ببطنها فهي تقبل بهن، وقوله وتدبر بثمان يعني أطراف هذه العكن الأربع لأنها محيطة بالجنب حين يتجعد. ثم قال: وإنما قال بثمان ولم يقل بثمانية - وواحد الأطراف مذكر - لأنه لم يقل ثمانية أطراف ا هـ. وحاصله أن لقوله ثمان بدون الهاء توجيهين إما لكونه لم يصرح بلفظ الأطراف وإما لأنه أراد العكن، وتفسير مالك المذكور تبعه فيه الجمهور، قال الخطابي: يريد أن لها في بطنها أربع عكن فإذا أقبلت رؤيت مواضعها بارزة متكسرا بعضها على بعض وإذا أدبرت كانت أطراف هذه العكن الأربع عند منقطع جنبيها ثمانية. وحاصله أنه وصفها بأنها مملوءة البدن بحيث يكون لبطنها عكن وذلك لا يكون إلا للسمينة من النساء، وجرت عادة الرجال غالبا في الرغبة فيمن تكون بتلك الصفة، وعلى هذا فقوله في حديث سعد "إن أقبلت قلت تمشي بست، وإن أدبرت قلت تمشي بأربع" كأنه يعني يديها ورجليها وطرفي ذاك منها مقبلة ورد فيها مدبرة، وإنما نقص إذا أدبرت لأن الثديين يحتجبان حينئذ. وذكر ابن الكلبي في الصفة المذكورة زيادة بعد قوله وتدبر بثمان "بثغر كالأقحوان، إن قعدت تثنت، وإن تكلمت تغنت. وبين رجليها مثل الإناء المكفوء" مع شعر آخر. وزاد المديني من طريق يزيد بن رومان عن عروة مرسلا في هذه القصة "أسفلها

(9/335)


114- باب نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ
5236- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ عَنْ عِيسَى عَنْ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَسْأَمُ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ"
قوله: "باب نظر المرأة إلى الحبشة ونحوهم من غير ريبة" وظاهر الترجمة أن المصنف كان يذهب إلى جواز نظر المرأة إلى الأجنبي بخلاف عكسه، وهي مسألة شهيرة، واختلف الترجيح فيها عند الشافعية، وحديث الباب يساعد من أجاز، وقد تقدم في أبواب العيد جواب النووي عن ذلك بأن عائشة كانت صغيرة دون البلوغ أو كان قبل الحجاب، وقواه بقوله في هذه الرواية: "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن" لكن تقدم ما يعكر عليه وأن في بعض طرقه أن ذلك بعد قدوم وفد الحبشة وأن قدومهم كان سنة سبع ولعائشة يومئذ ست عشرة سنة،

(9/326)


115- باب خُرُوجِ النِّسَاءِ لِحَوَائِجِهِنَّ
5237- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلًا فَرَآهَا عُمَرُ فَعَرَفَهَا فَقَالَ إِنَّكِ وَاللَّهِ يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ وَهُوَ فِي حُجْرَتِي يَتَعَشَّى وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَعَرْقًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَرُفِعَ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ"
قوله: "باب خروج النساء لحوائجهن" قال الداودي: في صيغة هذا الجمع نظر لأن جمع الحاجة حاجات وجمع الجمع حاج ولا يقال حوائج، وتعقبه ابن التين فأجاد وقال: الحوائج جمع حاجة أيضا، ودعوى أن حاج جمع الجمع ليس بصحيح. ذكر المصنف حديث عائشة "خرجت سودة لحاجتها" وقد تقدم شرحه وتوجيه الجمع بينه وبين حديثها الآخر في نزول الحجاب في تفسير سورة الأحزاب، وذكرت هناك التعقب على عياض في زعمه أن أمهات المؤمنين كان يحرم عليهن إبراز أشخاصهن ولو كن منتقبات متلففات، والحاصل في رد قوله كثرة الأخبار الواردة أنهن كن يحججن ويطفن ويخرجن إلى المساجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده

(9/337)


116- باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
5238- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْهَا"
قوله: "باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره" قال ابن التين: ترجم بالخروج إلى المسجد وغيره واقتصر في الباب على حديث المسجد، وأجاب الكرماني بأنه قاسه عليه، والجامع بينهما ظاهر، ويشترط

(9/337)


117- باب مَا يَحِلُّ مِنْ الدُّخُولِ وَالنَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ فِي الرَّضَاعِ
5239- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ جَاءَ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّهُ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ قَالَتْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ قَالَتْ عَائِشَةُ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلاَدَةِ"
قوله: "باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع" ذكر فيه حديث عائشة قالت: "جاء عمي من الرضاعة فاستأذن علي" وقد تقدمت مباحثه مستوفاة في أوائل النكاح، وهو أصل في أن للرضاع حكم النسب من إباحة الدخول على النساء وغير ذلك من الأحكام. حديث عائشة قالت: "جاء عمي من الرضاعة فاستأذن علي" قد تقدمت مباحثه مستوفاة في أوائل النكاح، وهو أصل في أن للرضاع حكم النسب من إباحة الدخول على النساء وغير ذلك من الأحكام.

(9/338)


118- باب لاَ تُبَاشِرْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا
5240- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا"
[الحديث 5240- طرفه في: 5241]
5241- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُبَاشِرْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا"
قوله: "باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها" كذا استعمل لفظ الحديث في الترجمة بغير زيادة، وذكر الحديث من وجهين: منصور عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود، والأعمش، حدثني شقيق سمعت عبد الله وهو ابن مسعود، وشقيق هو أبو وائل. قوله: "لا تباشر المرأة المرأة" زاد النسائي في روايته: "في الثوب الواحد". قوله: "فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها" قال القابسي هذا أصل لمالك في سد الذرائع، فإن الحكمة في هذا النهي خشية أن يعجب الزوج الوصف المذكور فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة أو الافتتان بالموصوفة، ووقع في رواية النسائي من طريق مسروق عن ابن مسعود بلفظ : "لا تباشر المرأة المرأة ولا الرجل الرجل" وهذه الزيادة ثبتت في حديث ابن عباس عنده وعند مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد بأبسط من هذا ولفظه: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ولا يفض الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" قال النووي: فيه تحريم نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة، وهذا مما لا خلاف فيه، وكذا الرجل إلى عورة المرأة والمرأة إلى عورة الرجل حرام بالإجماع، ونبه صلى الله عليه وسلم بنظر الرجل إلى عورة الرجل

(9/338)


باب قول الرجل لأطوفن اليوم على نسائي
...
119- باب قَوْلِ الرَّجُلِ لاَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِي
5242- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم لاَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلاَمًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ فَأَطَافَ بِهِنَّ وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ"
قوله: "باب قول الرجل لأطوفن الليلة على نسائي" تقدم في كتاب الطهارة "باب من دار على نسائه في غسل واحد" وهو قريب من معنى هذه الترجمة، والحكم في الشريعة المحمدية أن ذلك لا يجوز في الزوجات إلا أن ابتدأ الرجل القسم بأن تزوج دفعة واحدة أو يقدم من سفر، وكذا يجوز إذا أذن له ورضين بذلك. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان وقد رواه عن عبد الرزاق شيخه عبد بن حميد عند مسلم وعباس العنبري عند النسائي فقالا "تسعين امرأة" وتقدم في ترجمة سليمان بن داود عليهما السلام من أحاديث الأنبياء بيان الاختلاف في ذلك مستوفى وكيفية الجمع بين المختلف مع شرح بقية الحديث. قال ابن التين: قوله في هذه الرواية: "لم يحنث" أي لم يتخلف مراده، لأن الحنث لا يكون إلا عن يمين، قال: ويحتمل أن يكون سليمان حلف على ذلك. قلت: أو نزل التأكيد المستفاد من قوله: "لأطوفن" منزلة اليمين، واستدل به على جواز الاستثناء بعد تخلل الكلام اليسير، وفيه نظر سيأتي إيضاحه في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. وقال ابن الرفعة: يستفاد منه أن اتصال الاستثناء بالحلف يؤثر فيه وإن لم يقصده قبل فراغ اليمين

(9/339)


120- باب لاَ يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ مَخَافَةَ أَنْ يُخَوِّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ
5243- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا"
5244- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ

(9/339)


121- باب طَلَبِ الْوَلَدِ
5245- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ سَيَّارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ فَلَمَّا قَفَلْنَا تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ قَطُوفٍ فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا يُعْجِلُكَ قُلْتُ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ قَالَ فَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ بَلْ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ فَقَالَ أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا أَيْ عِشَاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ قَالَ وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكَيْسَ الْكَيْسَ يَا جَابِرُ يَعْنِي الْوَلَدَ"
5246- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَيَّارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا دَخَلْتَ لَيْلًا فَلاَ تَدْخُلْ عَلَى أَهْلِكَ حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَيْسِ"
قوله: "باب طلب الولد" أي بالاستكثار من جماع الزوجة، أو المراد الحث على قصد الاستيلاد بالجماع لا الاقتصار على مجرد اللذة، وليس ذلك في حديث الباب صريحا لكن البخاري أشار إلى تفسير الكيس كما سأذكره. وقد أخرج أبو عمرو النوقاني في "كتاب معاشرة الأهلين" من وجه آخر عن محارب رفعه قال : "اطلبوا الولد والتمسوه فإنه ثمرة القلوب وقرة الأعين، وإياكم والعاقر" وهو مرسل قوي الإسناد. قوله: "عن سيار" بفتح المهملة وتشديد التحتانية، وقد تقدم في باب تزويج الثيبات عن أبي النعمان عن هشيم "قال حدثنا سيار" وكذا في الباب الذي بعده "حدثنا يعقوب الدورقي حدثنا هشيم أنبأنا سيار".قوله: "عن الشعبي" في رواية أبي عوانة من طريق شريح بن النعمان عن هشيم "حدثنا سيار حدثنا الشعبي" ولأحمد من وجه آخر "سمعت الشعبي" قوله: "قفلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم" بفتح القاف وتخفيف الفاء أي رجعنا، وقد تقدم شرحه في باب "تزويج الثيبات" قوله: "حتى تدخلوا ليلا أي عشاء" هذا التفسير في نفس الخبر، وفيه إشارة إلى الجمع بين هذا الأمر بالدخول ليلا والنهي عن الطروق

(9/341)


ليلا بأن المراد بالأمر الدخول في أول الليل وبالنهي الدخول في أثنائه؛ وقد تقدم في أواخر أبواب العمرة في طريق الجمع بينهما أن الأمر بالدخول ليلا لمن أعلم أهله بقدومه فاستعدوا له، والنهي عمن لم يفعل ذلك. قوله: "وحدثني الثقة أنه قال في هذا الحديث: الكيس الكيس يا جابر، يعني الولد " القائل" وحدثني "هو هشيم، قال الإسماعيلي: كأن البخاري أشار إلى أن هشيما حمل هذه الزيادة عن شعبة لأنه أورد طريق شعبة على أثر حديث هشيم. وأغرب الكرماني فقال: القائل" وحدثني "هو هشيم أو البخاري ا هـ وهو جار على ظاهر اللفظ، والمعتمد أن القائل هشيم كما أشار إليه الإسماعيلي. قوله: "إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك" معنى الدخول الأول القدوم أي إذا دخلت البلد فلا تدخل البيت. قوله: "قال قال" في رواية النسائي عن أحمد بن عبد الله بن الحكم عن محمد بن جعفر "قال وقال:" بإثبات الواو، وكذا أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر ولفظه: "قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلت فعليك بالكيس الكيس" . قوله: "تابعه عبيد الله عن وهب عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكيس" عبيد الله هو ابن عمر العمري، ووهب هو ابن كيسان، والمتابع في الحقيقة هو وهب لكنه نسبها إلى عبيد الله لتفرده بذلك عن وهب، نعم قد روى محمد بن إسحاق عن وهب بن كيسان هذا الحديث مطولا وفيه مقصود الباب، لكن بلفظ آخر كما سأبينه، ورواية عبيد الله بن عمر تقدمت موصولة في أوائل البيوع في أثناء حديث أوله "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأبطأ بي جملي" فذكر الحديث في قصة الجمل بطولها، وفيه قصة تزويج جابر وقوله: "أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك" وفيه: "أما إنك قادم، فإذا قدمت فالكيس الكيس" وقوله فالكيس بالفتح فيهما على الإغراء وقيل على التحذير من ترك الجماع، قال الخطابي: الكيس هنا بمعنى الحذر، وقد يكون الكيس بمعنى الرفق وحسن التأتي. وقال ابن الأعرابي: الكيس العقل، كأنه جعل طلب الولد عقلا. وقال غيره: أراد الحذر من العجز عن الجماع فكأنه حث على الجماع. قلت: جزم ابن حبان في صحيحه بعد تخريج هذا الحديث بأن الكيس الجماع وتوجيهه على ما ذكر، ويؤيده قوله في رواية محمد بن إسحاق "فإذا قدمت فاعمل عملا كيسا" وفيه: "قال جابر: فدخلنا حين أمسينا، فقلت للمرأة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أعمل عملا كيسا، قالت: سمعا وطاعة، فدونك. قال: فبت معها حتى أصبحت" أخرجه ابن خزيمة في صحيحه. قال عياض: فسر البخاري وغيره الكيس بطلب الولد والنسل، وهو صحيح، قال صاحب "الأفعال" : كاس الرجل في عمله حذق، وكاس ولد ولدا كيسا. وقال الكسائي: كاس الرجل ولد له ولد كيس ا هـ. وأصل الكيس العقل كما ذكر الخطابي، لكنه بمجرده ليس المراد هنا، والشاهد لكون الكيس يراد به العقل قول الشاعر:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه
...
على الرجال فإن كيسا وإن حمقا
فقابله بالحمق وهو ضد العقل، ومنه حديث: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها" وأما حديث: "كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس" فالمراد به الفطنة.

(9/342)


122- باب تَسْتَحِدُّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطُ الشَّعِثَةُ
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ فَلَمَّا قَفَلْنَا كُنَّا قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي

(9/342)


فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ فَسَارَ بَعِيرِي كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ الإِبِلِ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ قَالَ أَتَزَوَّجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قَالَ قُلْتُ بَلْ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلاَ بِكْرًا تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ فَقَالَ أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا أَيْ عِشَاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ"
قوله (باب تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة ) ضبط ذلك في آواخر أبواب العمرة وتقدم شرح الحديث في الباب الذي قبله

(9/343)


باب (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن إلى قوله ـ لم يظهروا على عورات النسا)
...
123- باب {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}
5248- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ اخْتَلَفَ النَّاسُ بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَسَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَكَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ وَمَا بَقِيَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي كَانَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَعَلِيٌّ يَأْتِي بِالْمَاءِ عَلَى تُرْسِهِ فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَحُرِّقَ فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ"
قوله: "باب {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ}" في رواية أبي ذر إلى قوله: "عورات النساء" وبهذه الزيادة تظهر المطابقة بين الحديث والترجمة. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "عن أبي حازم" هو سلمة بن دينار. ووقع في رواية علي بن عبد الله عن سفيان "حدثنا أبو حازم" تقدم في أواخر الجهاد. قوله: "اختلف الناس إلخ" فيه إشعار بأن الصحابة والتابعين كانوا يتبعون أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في مثل هذا، فإن الذي يداوي به الجرح لا يختلف الحكم فيه إذا كان طاهرا، ومع ذلك فترددوا فيه حتى سألوا من شاهد ذلك. قوله: "وكان من آخر من بقي من الصحابة بالمدينة" فيه احتراز عمن بقي من الصحابة بالمدينة وبغير المدينة، فأما المدينة فكان بها في آخر حياة سهل بن سعد محمود بن الربيع ومحمد بن لبيد، وكلاهما له رؤية وعد في الصحابة، وأما من الصحابة الذين ثبت سماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم فما كان بقي بالمدينة حينئذ إلا سهل بن سعد على الصحيح، وأما بغير المدينة فبقي أنس بن مالك بالبصرة وغيره بغيرها، وقد استوعبت الكلام على ذلك في الكلام على "علوم الحديث لابن صلاح". قوله: "ما بقي للناس أحد أعلم به منى" ظاهره أنه نفى أن يكون بقي أحد أعلم منه فلا ينفي أن يكون بقي مثله، ولكن كثر استعمال هذا التركيب في نفي المثل أيضا، وقد تقدم الكلام على شرح الحديث في "باب غزوة أحد" والغرض منه هنا كون فاطمة عليها السلام باشرت ذلك من أبيها صلى الله عليه وسلم فيطابق الآية وهي جواز إبداء المرأة زينتها لأبيها وسائر من ذكر في الآية. وقد استشكل مغلطاي الاحتجاج بقصة فاطمة هذه لأنها صدرت قبل الحجاب، وأجيب بأن التمسك منها بالاستصحاب، ونزول الآية كان متراخيا عن ذلك وقد وقع مطابقا. فإن قيل لم يذكر في الآية العم والخال، فالجواب أنه استغنى عن ذكرهما بالإشارة إليهما لأن العم منزل منزلة الأب والخال منزلة الأم. وقيل لأنهما ينعتانها لولديهما، قاله عكرمة والشعبي، وكرها لذلك أن تضع المرأة خمارها عند عمها وخالها، أخرجه ابن أبي شيبة عنهما

(9/343)


وخالفهما الجمهور. قوله: "فأخذ حصير فحرق" بضم المهملة وتشديد الراء، وضبطه بعضهم بالتخفيف

(9/344)


124- باب {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ}
5249- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَأَلَهُ رَجُلٌ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيدَ أَضْحًى أَوْ فِطْرًا قَالَ نَعَمْ وَلَوْلاَ مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ يَعْنِي مِنْ صِغَرِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلاَ إِقَامَةً ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ يَدْفَعْنَ إِلَى بِلاَلٍ ثُمَّ ارْتَفَعَ هُوَ وَبِلاَلٌ إِلَى بَيْتِهِ"
قوله: "باب {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ}" كذا للجميع، والمراد بيان حكمهم بالنسبة إلى الدخول على النساء ورؤيتهم إياهن. قوله: "حدثنا أحمد بن محمد" هو المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك، وسفيان هو الثوري. قوله: "ولولا مكاني منه" أي منزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "يعني من صغره" فيه التفات، ووقع في رواية السرخسي "من صغري" وهو على الأصل. قوله: "فرأيتهن يهوين" بكسر الواو وبفتح أوله هوي بفتح الواو ويهوي بكسرها. قوله: "إلى آذانهن وحلوقهن" أي يخرجن الحلي. قوله: "يدفعن" أي ذلك "إلى بلال". قوله: "ثم ارتفع هو وبلال إلى بيته" أي رجع: وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب العيدين، والحجة منه هنا مشاهدة ابن عباس ما وقع من النساء حينئذ وكان صغيرا فلم يحتجبن منه، وأما بلال فكان من ملك اليمين، كذا أجاب بعض الشراح، وفيه نظر لأنه كان حينئذ حرا. والجواب أنه يجوز أن لا يكون في تلك الحالة يشاهدهن مسفرات. وقد أخذ بعض الظاهرية بظاهره فقال: يجوز للأجنبي رؤية وجه الأجنبية وكفيها، واحتج بأن جابرا روى الحديث وبلال بسط ثوبه للأخذ منهم، وظاهر الحال لحال أنه لا يتأتى ذلك إلا بظهور وجوههن وأكفهن.

(9/344)


125- باب قول الرجل لصاحبه : هل أعرستم الليلة وطَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِي الْخَاصِرَةِ عِنْدَ الْعِتَابِ
5250- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ عَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي"
قوله: "باب طعن الرجل ابنته في الخاصرة عند العتاب" زاد ابن بطال في شرحه هنا "وقول الرجل لصاحبه هل أعرستم الليلة" قال ابن المنير: ذكر فيه حديث عائشة في قصة أبي بكر معها، وهو مطابق للركن الأول من الترجمة. قال: ويستفاد الركن الثاني منها من جهة أن الجامع بينهما أن كلا الأمرين مستثنى في بعض الحالات، فإمساك الرجل خاصرة ابنته ممنوع في غير حالة التأديب، وسؤال الرجل عما جرى له مع أهله ممنوع في غير حالة

(9/344)


كتاب الطلاق
باب قوله تعالى:(ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة)
...
3- كِتَاب الطَّلاَقِ
1- باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أَحْصَيْنَاهُ حَفِظْنَاهُ وَعَدَدْنَاهُ وَطَلاَقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَيُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ
5251- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ

(9/345)


وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ"
قوله: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كتاب الطلاق" الطلاق في اللغة حل الوثاق مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك. وفلان طلق اليد بالخير أي كثير البذل وفي الشرع حل عقدة التزويج فقط، وهو موافق لبعض أقراد مدلوله اللغوي. قال إمام الحرمين: هو لفظ جاهلي ورد الشرع بتقريره. وطلقت المرأة بفتح الطاء وضم اللام وبفتحها أيضا وهو أفصح، وطلقت أيضا بضم أوله وكسر اللام الثقيلة، فإن خففت فهو خاص بالولادة والمضارع فيهما بضم اللام، والمصدر في الولادة طلقا ساكنة اللام، فهي طالق فيهما. ثم الطلاق قد يكون حراما أو مكروها أو واجبا أو مندوبا أو جائزا، أما الأول ففيما إذا كان بدعيا وله صور، وأما الثاني ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال، وأما الثالث ففي صور منها الشقاق إذا رأى ذلك الحكمان، وأما الرابع ففيما إذا كانت غير عفيفة، وأما الخامس فنفاه النووي وصوره غيره بما إذا كان لا يريدها ولا تطيب نفسه أن يتحمل مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع، فقد صرح الإمام أن الطلاق في هذه الصورة لا يكره. قوله: "وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}" أما قوله تعالى :{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} "فخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الجمع تعظيما أو على إرادة ضم أمته إليه، والتقدير يا أيها النبي وأمته. وقيل هو على إضمار قل أي قل لأمتك، والثاني أليق، فخص النبي عليه الصلاة والسلام بالنداء لأنه إمام أمته اعتبارا بتقدمه وعم بالخطاب كما يقال لأمير القوم يا فلان افعلوا كذا، وقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} أي إذا أردتم التطليق جزما، ولا يمكن حمله على ظاهره. وقوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} أي عند ابتداء شروعهن في العدة، واللام للتوقيت كما يقال لقيته لليلة بقيت من الشهر، قال مجاهد في قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}" قال ابن عباس: في قبل عدتهن، أخرجه الطبري بسند صحيح. ومن وجه آخر أنه قرأها كذلك، وكذا وقع عند مسلم من رواية أبي الزبير عن ابن عمر في آخر حديثه قال ابن عمر "وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن" ونقلت هذه القراءة أيضا عن أبي وعثمان وجابر وعلي بن الحسين وغيرهم، وسيأتي في حديث ابن عمر في الباب مزيد بيان في ذلك. قوله: "أحصيناه حفظناه" هو تفسير أبي عبيدة. وأخرج الطبري معناه عن السدي، والمراد الأمر بحفظ ابتداء وقت العدة لئلا يلتبس الأمر بطول العدة فتتأذى بذلك المرأة. قوله: "وطلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع" روى الطبري بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله تعالى :{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال: في الطهر من غير جماع، وأخرجه عن جمع من الصحابة ومن بعدهم كذلك، وهو عند الترمذي أيضا. قوله: "ويشهد شاهدين" مأخوذ من قوله تعالى :{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وهو واضح، وكأنه لمح بما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: "كان نفر من المهاجرين يطلقون لغير عدة ويراجعون بغير شهود فنزلت: {وقد قسم الفقهاء الطلاق إلى سني، وبدعي، وإلى قسم ثالث لا وصف له. فالأول ما تقدم. والثاني أن يطلق في الحيض أو في طهر جامعها فيه ولم يتبين أمرها أحملت أم لا، ومنهم من أضاف له أن يزيد على طلقة ومنهم من أضاف له الخلع. والثالث تطليق الصغيرة والآيسة والحامل التي قربت ولادتها، وكذا إذا وقع السؤال منها في وجه بشرط أن تكون عالمة بالأمر، وكذا إذا وقع الخلع بسؤالها وقلنا إنه طلاق، ويستثنى من تحريم طلاق الحائض صور: مها ما لو كانت حاملا ورأت الدم وقلنا الحامل تحيض

(9/346)


فلا يكون طلاقها بدعيا ولا سيما إن وقع بقرب الولادة، ومنها إذا طلق الحاكم على المولى واتفق وقوع ذلك في الحيض، وكذا في صورة الحكمين إذا تعين ذلك طريقا لرفع الشقاق، وكذلك الخلع والله أعلم. قوله: "أنه طلق امرأته" في مسلم من رواية الليث عن نافع "أن ابن عمر طلق امرأة له" وعنده من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر "طلقت امرأتي" وكذا في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر، قال النووي في تهذيبه: اسمها آمنة بنت غفار قاله ابن باطيش، ونقله عن النووي جماعة ممن بعده منهم الذهبي في "تجريد الصحابة" لكن قال في مبهماته: فكأنه أراد مبهمات التهذيب. وأوردها الذهبي في آمنة بالمد وكسر الميم ثم نون وأبوها غفار ضبطه ابن يقظة بكسر المعجمة وتخفيف الفاء، ولكني رأيت مستند ابن باطيش في أحاديث قتيبة جمع سعيد العيار بسند فيه ابن لهيعة أن ابن عمر طلق امرأته آمنة بنت عمار؛ كذا رأيتها في بعض الأصول بمهملة مفتوحة ثم ميم ثقيلة والأول أولى، وأقوى من ذلك ما رأيته في مسند أحمد قال: " حدثنا يونس حدثنا الليث عن نافع أن عبد الله طلق امرأته وهي حائض، فقال عمر: يا رسول الله إن عبد الله طلق امرأته النوار، فأمره أن يراجعها" الحديث، وهذا الإسناد على شرط الشيخين، ويونس شيخ أحمد هو ابن محمد المؤدب من رجالهما، وقد أخرجه الشيخان عن قتيبة عن الليث ولكن لم تسم عندهما، ويمكن الجمع بأن يكون اسمها آمنة ولقبها النوار. قوله: "وهي حائض" في رواية قاسم بن أصبغ من طريق عبد الحميد بن جعفر عن نافع عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي في دمها حائض، وعند البيهقي من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر أنه طلق امرأته في حيضها. قوله: "على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا في رواية مالك ومثله عند مسلم من رواية أبي الزبير عن ابن عمر، وأكثر الرواة لم يذكروا ذلك استغناء بما في الخبر أن عمر سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستلزم أن ذلك وقع في عهده، وزاد الليث عن نافع "تطليقة واحدة" أخرجه مسلم. وقال في آخره: "جود الليث في قوله تطليقة واحدة" ا هـ، وكذا وقع عند مسلم من طريق محمد بن سيرين قال: "مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض فأمر أن يراجعها، فكنت لا أتهمهم ولا أعرف وجه الحديث، حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه "طلق امرأته تطليقة وهي حائض" وأخرجه الدار قطني والبيهقي من طريق الشعبي قال: "طلق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدة" ومن طريق عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر أنه "طلق امرأته تطليقة وهي حائض". قوله:" فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك" في رواية ابن أبي ذئب عن نافع "فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك" أخرجه الدار قطني، وكذا سيأتي للمصنف من رواية قتادة عن يونس بن حبير عن ابن عمر، وكذا عند مسلم من رواية يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين عن يونس بن جبير، وكذا عنده في رواية طاوس عن ابن عمر، وكذا في رواية الشعبي المذكورة، وزاد فيه الزهري في روايته كما تقدم في التفسير "عن سالم أن ابن عمر أخبره، فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ولم أر هذه الزيادة في رواية غير سالم، وهو أجل من روى الحديث عن ابن عمر، وفيه إشعار بأن الطلاق في الحيض كان تقدم النهي عنه. وإلا لم يقع التغيظ على أمر لم يسبق النهي عنه. ولا يعكر على ذلك مبادرة عمر بالسؤال عن ذلك لاحتمال أن يكون عرف حكم الطلاق في الحيض وأنه منهي عنه ولم يعرف ماذا يصنع من وقع له ذلك، قال ابن العربي: سؤال عمر محتمل لأن يكون أنهم لم يروا قبلها مثلها فسأل ليعلم، ويحتمل أن يكون لما رأى في القرآن قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ

(9/347)


ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} أراد أن يعلم إن هذا قرء أم لا؟ ويحتمل أن يكون سمع من النبي صلى الله عليه وسلم النهي فجاء ليسأل عن الحكم بعد ذلك. وقال ابن دقيق العيد: وتغيظ النبي صلى الله عليه وسلم إما لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهرا فكان مقتضى الحال التثبت في ذلك، أو لأنه كان مقتضى الحال مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا عزم عليه. قوله: "مره فليراجعها" قال ابن دقيق العيد: يتعلق به مسألة أصولية، وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك أم لا؟ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر مره، فأمره بأن يأمره. قلت: هذه المسألة ذكرها ابن الحاجب فقال: الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء، لنا لو كان لكان مر عبدك بكذا تعديا، ولكان يناقض قولك للعبد لا تفعل. قالوا: فهم ذلك من أمر الله ورسوله ومن قول الملك لوزيره قل لفلان افعل. قلنا للعلم بأنه مبلغ. قلت: والحاصل أن النفي إنما هو حيث تجرد الأمر، وأما إذا وجدت قرينة تدل على أن الآمر الأول أمر المأمور الأول أن يبلغ المأمور الثاني فلا، وينبغي أن ينزل كلام الفريقين على هذا التفصيل فيرتفع الخلاف. ومنهم من فرق بين الأمرين فقال: إن كان الأمر الأول بحيث يسوغ له الحكم على المأمور الثاني فهو آمر له وإلا فلا، وهذا قوي، وهو مستفاد من الدليل الذي استدل به ابن الحاجب على النفي، لأنه لا يكون متعديا إلا إذا أمر من لا حكم له عليه لئلا يصير متصرفا في ملك غيره بغير إذنه، والشارع حاكم على الآمر والمأمور فوجد فيه سلطان التكليف على الفريقين، ومنه قوله تعالى :{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} فإن كل أحد يفهم منه أمر الله لأهل بيته بالصلاة، ومثله حديث الباب، فإن عمر إنما استفتى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليمتثل ما يأمره به ويلزم ابنه به، فمن مثل بهذا الحديث لهذه المسألة فهو غالط، فإن القرينة واضحة في أن عمر في هذه الكائنة كان مأمورا بالتبليغ، ولهذا وقع في رواية أيوب عن نافع "فأمره أن يراجعها" وفي رواية أنس بن سيرين ويونس بن جبير وطاوس عن ابن عمر وفي رواية الزهري عن سالم "فليراجعها" وفي رواية لمسلم: "فراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وفي رواية أبي الزبير عن ابن عمر "ليراجعها" وفي رواية الليث عن نافع عن ابن عمر "فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا" وقد اقتضى كلام سليم الرازي في "التقريب" أنه يجب على الثاني الفعل جزما وإنما الخلاف في تسميته آمرا فرجع الخلاف عنده لفظيا. وقال الفخر الرازي في "المحصول" : الحق أن الله تعالى إذا قال لزيد أوجبت على عمرو كذا وقال لعمرو كل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك كان الأمر بالأمر بالشيء أمرا بالشيء. قلت: وهذا يمكن أن يؤخذ منه التفرقة بين الأمر الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن غيره، فمهما أمر الرسول أحدا أن يأمر به غيره وجب لأن الله أوجب طاعته وهو أوجب طاعة أميره كما ثبت في الصحيح "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني" وأما غيره ممن بعده فلا، وفيهم تظهر صورة التعدي التي أشار إليها ابن الحاجب. وقال ابن دقيق العيد: لا ينبغي أن يتردد في اقتضاء ذلك الطلب، وإنما ينبغي أن ينظر في أن لوازم صيغة الأمر هل هي لوازم صيغة الأمر بالأمر أو لا؟ بمعنى أنهما يستويان في الدلالة على الطلب من وجه واحد أو لا. قلت: وهو حسن، فإن أصل المسألة التي انبنى عليها هذا الخلاف حديث: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع" فإن الأولاد ليسوا بمكلفين فلا يتجه عليهم الوجوب، وإنما الطلب متوجه على أوليائهم أن يعلموهم ذلك، فهو مطلوب من الأولاد بهذه الطريق وليس مساويا للأمر الأول، وهذا إنما عرض من أمر خارج وهو امتناع توجه الأمر على غير المكلف، وهو بخلاف القصة التي في حديث الباب. والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفا آخر بفعل شيء كان المكلف الأول مبلغا محضا والثاني مأمور من قبل

(9/348)


الشارع، وهذا كقوله لمالك بن الحويرث وأصحابه "ومروهم بصلاة كذا في حين كذا" وقوله لرسول ابنته صلى الله عليه وسلم: "مرها فلتصبر ولتحتسب" ونظائره كثيرة، فإذا أمر الأول الثاني بذلك فلم يمتثله كان عاصيا، وإن توجه الخطاب من الشارع لمكلف أن يأمر غير مكلف أو توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الأمر بالأمر بالشيء أمرا بالشيء فالصورة الأولى هي التي نشأ عنها الاختلاف وهو أمر أولياء الصبيان أن يأمروا الصبيان، والصورة الثانية هي التي يتصور فيها أن يكون الأمر متعديا بأمره للأول أن يأمر الثاني، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة والله المستعان. واختلف في وجوب المراجعة، فذهب إليه مالك وأحمد في رواية، والمشهور عنه - وهو قول الجمهور - أنها مستحبة، واحتجوا بأن ابتداء النكاح لا يجب فاستدامته كذلك، لكن صحح صاحب "الهداية" من الحنفية أنها واجبة، والحجة، لمن قال بالوجوب ورود الأمر بها، ولأن الطلاق لما كان محرما في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة، فلو تمادى الذي طلق في الحيض حتى طهرت قال مالك وأكثر أصحابه: يجبر على الرجعة أيضا. وقال أشهب منهم إذا طهرت انتهى الأمر بالرجعة، واتفقوا على أنها إذا انقضت عدتها أن لا رجعة، وأنه لو طلق في طهر قد مسها فيه لا يؤمر بمراجعتها، كذا نقله ابن بطال وغيره، لكن الخلاف فيه ثابت قد حكاه الحناطي من الشافعية وجها، واتفقوا على أنه لو طلق قبل الدخول وهي حائض لم يؤمر بالمراجعة إلا ما نقل عن زفر فطرد الباب. قوله: "ثم ليمسكها" أي يستمر بها في عصمته. قوله: "حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر" في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع "ثم ليدعها حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت فليطلقها" ونحوه في رواية الليث وأيوب عن نافع، وكذا عند مسلم من رواية عبد الله بن دينار، وكذا عندهما من رواية الزهري عن سالم، وعند مسلم من رواية محمد بن عبد الرحمن عن سالم بلفظ: "مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" قال الشافعي: غير نافع إنما روى "حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها. ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق" رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسالم قلت: وهو كما قال، لكن رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع، وقد نبه على ذلك أبو داود، والزيادة من الثقة مقبولة ولا سيما إذا كان حافظا. وقد اختلف في الحكمة في ذلك فقال الشافعي: يحتمل أن يكون أراد بذلك - أي بما في رواية نافع - أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلقها فيها بطهر تام ثم حيض تام ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها إما بحمل أو بحيض، أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع إذ يرغب فيمسك للحمل أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير حامل أن تكف عنه. وقيل: الحكمة فيه أن لا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فإذا أمسكها زمانا يحل له فيه طلاقها ظهرت فائدة الرجعة، لأنه قد يطول مقامه معها، فقد يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها. وقيل: إن الطهر الذي يلي الحيض الذي طلقها فيه كقرء واحد، فلو طلقها قيه لكان كمن طلق في الحيض، وهو ممتنع من الطلاق في الحيض، فلزم أن يتأخر إلى الطهر الثاني. واختلف في جواز تطليقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق والرجعة. وفيه للشافعية وجهان أصحهما المنع، وبه قطع المتولي، وهو الذي يقتضيه ظاهر الزيادة التي في الحديث. وعبارة الغزالي في "الوسيط" وتبعه مجلي: هل يجوز أن يطلق في هذا الطهر؟ وجهان. وكلام المالكية يقتضي أن التأخير مستحب. وقال ابن تيمية في "المحرر" : ولا يطلقها في الطهر المتعقب له فإنه بدعة، وعنه - أي عن أحمد - جواز ذلك. وفي كتب الحنفية

(9/349)


عن أبي حنيفة الجواز، وعن أبي يوسف ومحمد المنع، ووجه الجواز أن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التحريم فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الطهر الذي بعده، وكما يجوز طلاقها في الطهر إن لم يتقدم طلاق في الحيض، وقد ذكرنا حجج المانعين، ومنها أنه لو طلقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة فإنها شرعت لإيواء المرأة ولهذا سماها إمساكا فأمره أن يمسكها في ذلك الطهر وأن لا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر لتكون الرجعة للإمساك لا للطلاق، ويؤيد ذلك أن الشارع أكد هذا المعنى حيث أمر بأن يمسكها في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلقها فيه، لقوله في رواية عبد الحميد بن جعفر "مره أن يراجعها فإذا طهرت أمسكها حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها" فإذا كان قد أمره بأن يمسكها في ذلك الطهر فكيف يبيح له أن يطلقها فيه؟ وقد ثبت النهي عن الطلاق في طهر جامعها فيه. قوله: "ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس" في رواية أيوب "ثم يطلقها قبل أن يمسها" وفي رواية عبيد الله بن عمر "فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يمسكها" ونحوه في رواية الليث. وفي رواية الزهري عن سالم "فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها" وفي رواية محمد بن عبد الرحمن عن سالم "ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" وتمسك بهذه الزيادة من استثنى من تحرم الطلاق في طهر جامع فيه ما إذا ظهر الحمل فإنه لا يحرم. والحكمة فيه أنه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة فلا يندم على الطلاق، وأيضا فإن زمن الحمل زمن الرغبة في الوطء فإقدامه على الطلاق فيه يدل على رغبته عنها، ومحل ذلك أن يكون الحمل من المطلق، فلو كان من غيره بأن نكح حاملا من زنا ووطئها ثم طلقها أو وطئت منكوحة بشبهة ثم حملت منه فطلقها زوجها فإن الطلاق يكون بدعيا، لأن عدة الطلاق تقع بعد وضع الحمل والنقاء من النفاس، فلا تشرع عقب الطلاق في العدة كما في الحامل منه، قال الخطابي: في قوله: "ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق" دليل على أن من قال لزوجته وهي حائض: إذا طهرت فأنت طالق لا يكون مطلقا للسنة، لأن المطلق للسنة هو الذي يكون مخيرا عند وقوع طلاقه بين إيقاع الطلاق وتركه، واستدل بقوله: "قبل أن يمس" على أن الطلاق في طهر جامع فيه حرام، وبه صرح الجمهور، فلو طلق هل يجبر على الرجعة كما يجبر عليها إذا طلقها وهي حائض؟ طرده بعض المالكية فيهما، والمشهور عنهم إجباره في الحائض دون الطاهر. وقالوا فيما إذا طلقها وهي حائض: يجبر على الرجعة، فإن امتنع أدبه الحاكم، فإن أصر ارتجع الحاكم عليه. وهل يجوز له وطؤها؟ بذلك روايتان لهم أصحهما الجواز، وعن داود يجبر على الرجعة إذا طلقها حائضا ولا يجبر إذا طلقها نفساء؛ وهو جمود. ووقع فيه رواية مسلم من طريق محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سالم عن ابن عمر "ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" وفي روايته من طريق ابن أخي الزهري عن الزهري "فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضها" واختلف الفقهاء في المراد بقوله طاهرا هل المراد به انقطاع الدم أو التطهر بالغسل؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد، والراجح الثاني، لما أخرجه النسائي من طريق معتمر بن سليمان عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذه القصة قال: "مر عبد الله فليراجعها، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء يمسكها فليمسكها" وهذا مفسر لقوله: "فإذا طهرت" فليحمل عليه، ويتفرغ من هذا أن العدة هل تنقضي بانقطاع الدم وترتفع الرجعة، أو لا بد من الاغتسال؟ فيه خلاف أيضا. والحاصل أن الأحكام المرتبة على الحيض نوعان: الأول يزول بانقطاع الدم كصحة الغسل والصوم وترتب الصلاة في الذمة،

(9/350)


والثاني لا يزول إلا بالغسل كصحة الصلاة والطواف وجواز اللبث في المسجد، فهل يكون الطلاق من النوع الأول أو من الثاني؟ وتمسك بقوله: "ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" من ذهب إلى أن طلاق الحامل سني، وهو قول الجمهور، وعن أحمد رواية أنه ليس بسني ولا بدعي. قوله: "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" أي أذن، وهذا بيان لمراد الآية وهي قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وصرح معمر في روايته عن أيوب عن نافع بأن هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية الزبير عند مسلم قال ابن عمر "وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية" واستدل به من ذهب إلى أن الإقراء طهار للأمر بطلاقها في الطهر، وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}" أي وقت ابتداء عدتهن، وقد جعل للمطلقة تربص ثلاثة قروء، فلما نهى عن الطلاق في الحيض وقال إن الطلاق في الطهر هو الطلاق المأذون فيه علم أن الإقراء الإطهار، قاله ابن عبد البر. وسأذكر بقية فوائد حديث ابن عمر في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى.

(9/351)


2- باب إِذَا طُلِّقَتْ الْحَائِضُ تَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطَّلاَقِ
5252- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِيُرَاجِعْهَا قُلْتُ تُحْتَسَبُ قَالَ فَمَهْ"
وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا قُلْتُ تُحْتَسَبُ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ"
5253- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ"
قوله: "باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق" كذا بت الحكم بالمسألة، وفيها خلاف قديم عن طاوس وعن خلاس بن عمرو وغيرهما أنه لا يقع، ومن ثم نشأ سؤال من سأل ابن عمر عن ذلك. قوله: "شعبة عن أنس بن سيرين قال سمعت ابن عمر قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليراجعها. قلت: تحتسب؟ قال: فمه" ؟ القائل "قلت" هو أنس بن سيرين والمقول له ابن عمر بين ذلك أحمد في روايته عن محمد بن جعفر عن شعبة، وكذا أخرجه مسلم من طريق محمد بن جعفر، وقد ساقه مسلم من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن ابن سيرين مطولا كما سأذكره بعد ذلك. قوله: "وعن قتادة عن يونس بن جبير" هو معطوف على قوله: "عن أنس بن سيرين" فهو موصول، وهو من رواية شعبة عن قتادة، ولقد أفرده مسلم من رواية محمد بن جعفر عن شعبة عن قتادة "سمعت يونس بن جبير". قوله: "عن ابن عمر قال: مره فليراجعها" هكذا اختصره، ومراده أن يونس بن جبير حكى القصة نحو ما ذكرها أنس بن سيرين سوى ما بين من سياقه. قوله: "قلت تحتسب" هو بضم أوله، والقائل هو يونس بن جبير. قوله: "قال أرأيته" في رواية الكشميهني: "أرأيت إن عجز واستحمق" وقد اختصره البخاري اكتفاء بسياق أنس بن سيرين، وقد ساقه مسلم حيث أفرده

(9/351)


ولفظه: "سمعت ابن عمر يقول: طلقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ليراجعها، فإذا طهرت فإن شاء فليطلقها. قال قلت لابن عمر: أفيحسب بها؟ قال: ما يمنعه؟ أرأيت إن عجز واستحمق". وقال أحمد "حدثنا محمد بن جعفر وعبد الله بن بكير قالا حدثنا شعبة" فذكره أتم منه وفي أوله أنه "سأل ابن عمر عن رجل طلق امرأته وهي حائض - وفيه - فقال مره فليراجعها ثم إن بدا له طلاقها طلقها في قبل عدتها وفي قبل طهرها. قال قلت لابن عمر: أفتحتسب طلاقها ذلك طلاقا؟ قال: نعم، أرأيت إن عجز واستحمق" وقد ساقه البخاري في آخر الباب الذي بعد هذا نحو هذا السياق من رواية همام عن قتادة بطوله وفيه: "قلت: فهل عد ذلك طلاقا؟ قال: أرأيت أن عجز واستحمق" وسيأتي في أبواب العدد في "باب مراجعة الحائض" من طريق محمد بن سيرين عن يونس ابن جبير مختصرا وفيه: "قلت: فتعتد بتلك التطليقة؟ قال: أرأيت إن عجز واستحمق" وأخرجه مسلم من وجه آخر عن محمد بن سيرين مطولا ولفظه: "فقلت له: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض أيعتد بتلك التطليقة؟ قال: فمه؟ أو إن عجز واستحمق" وفي رواية له "فقلت: أفتحتسب عليه" والباقي مثله. وقوله: "فمه" أصله فما، وهو استفهام فيه اكتفاء أي فما يكون إن لمن تحتسب، ويحتمل أن تكون الهاء أصلية وهي كلمة تقال للزجر أي كف عن هذا الكلام فإنه لا بد من وقوع الطلاق بذلك، قال ابن عبد البر: قول ابن عمر "فمه" معناه فأي شيء يكون إذا لم يعتد بها؟ إنكارا لقول السائل "أيعتد بها" فكأنه قال: وهل من ذلك بد؟ وقوله: "أرأيت إن عجز واستحمق" أي إن عجز عن فرض فلم يقمه، أو استحمق فلم يأت به أيكون ذلك عذرا له؟ وقال الخطابي: في الكلام حذف، أي أرأيت إن عجز واستحمق أيسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه؟ وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه. وقال الكرماني يحتمل أن تكون "إن" نافية بمعنى ما أي لم يعجر ابن عمر ولا استحمق، لأنه ليس بطفل ولا مجنون. قال: وإن كانت الرواية بفتح ألف أن فمعناه أظهر، والتاء من استحمق مفتوحة قاله ابن الخشاب وقال: المعنى فعل فعلا يصيره أحمق عاجزا فيسقط عنه حكم الطلاق عجزه أو حمقة، والسين والتاء فيه إشارة إلى أنه تكلف الحمق بما فعله من تطليق امرأته وهي حائض. وقد وقع في بعض الأصول بضم التاء مبنيا للمجهول، أي إن الناس استحمقوه بما فعل، وهو موجه. وقال المهلب: معنى قوله: "إن عجز واستحمق" يعني عجز في المراجعة التي أمر بها عن إيقاع الطلاق أو فقد عقله فلم تمكن منه الرجعة أتبقى المرأة معلقة لا ذات بعل ولا مطلقة؟ وقد نهى الله عن ذلك، فلا بد أن تحتسب بتلك التطليقة التي أوقعها على غير وجهها، كما أنه لو عجز عن فرض آخر لله فلم يقمه واستحمق فلم يأت به ما كان يعذر بذلك ويسقط عنه. قوله: "حدثنا أبو معمر" كذا في رواية أبي ذر، وهو ظاهر كلام أبي نعيم في "المستخرج" وللباقين "وقال أبو معمر" وبه جزم الإسماعيلي، وسقط هذا الحديث من رواية النسفي أصلا. قوله: "عن ابن عمر قال: حسبت علي بتطليقة" هو بضم أوله من الحساب، وقد أخرجه أبو نعيم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه مثل ما أخرجه البخاري مختصرا وزاد: "يعني حين طلق امرأته فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك" قال النووي: شذ بعض أهل الظاهر فقال إذا طلق الحائض لم يقع الطلاق لأنه غير مأذون فيه فأشبه طلاق الأجنبية وحكاه الخطابي عن الخوارج والروافض. وقال ابن عبد البر: لا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال يعني الآن. قال: وروى مثله عن بعض التابعين وهو شذوذ وحكاه ابن العربي وغيره عن ابن علية يعني إبراهيم بن

(9/352)


إسماعيل بن علية الذي قال الشافعي في حقه: إبراهيم ضال، جلس في باب الضوال يضل الناس. وكان بمصر، وله مسائل ينفرد بها. وكان من فقهاء المعتزلة. وقد غلط فيه من ظن أن المنقول عنه المسائل الشاذة أبوه، وحاشاه، فإنه من كبار أهل السنة. وكأن النووي أراد ببعض الظاهرية ابن حزم، فإنه ممن جرد القول بذلك وانتصر له وبالغ، وأجاب عن أمر ابن عمر بالمراجعة بأن ابن عمر كان اجتنبها فأمره أن يعيدها إليه على ما كانت عليه من المعاشرة فحمل المراجعة على معناها اللغوي، وتعقب بأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية اتفاقا، وأجاب عن قول ابن عمر "حسبت علي بتطليقة" بأنه لم يصرح بمن حسبها عليه، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعقب بأنه مثل قول الصحابي "أمرنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا" فإنه ينصرف إلى من له الأمر حينئذ وهو النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال بعض الشراح، وعندي أنه لا ينبغي أن يجئ فيه الخلاف الذي في قول الصحابي أمرنا بكذا فإن ذاك محله حيث يكون اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ليس صريحا، وليس كذلك في قصة ابن عمر هذه فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الآمر بالمراجعة وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي صلى الله عليه وسلم بعيدا جدا مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، كيف يتخيل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئا برأيه وهو ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ من صنيعه كيف لم يشاوره فيما يفعل في القصة المذكورة، وقد أخرج ابن وهب في مسنده عن ابن أبي ذئب أن نافعا أخبره "أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر" قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وهي واحدة" قال ابن أبي ذئب: وحدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع سالما يحدث عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخرجه الدار قطني من طريق يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعا عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي واحدة"، وهذا نص في موضع الخلاف فيجب المصير إليه. وقد أورده بعض العلماء على ابن حزم فأجابه بأن قوله: "هي واحدة" لعله ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فألزمه بأنه نقض أصله لأن الأصل لا يدفع بالاحتمال. وعند الدار قطني في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر في القصة "فقال عمر: يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم". ورجاله إلى شعبة ثقات. وعنده من طريق سعيد ابن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر "أن رجلا قال: إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض، فقال: عصيت ربك، وفارقت امرأتك. قال فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يراجع امرأته، قال: إنه أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له، وأتت لم تبق ما ترتجع به امرأتك" وفي هذا السياق رد على من حمل الرجعة في قصة ابن عمر على المعنى اللغوي، وقد وافق ابن حزم على ذلك من المتأخرين ابن تيمية، وله كلام طويل في تقرير ذلك والانتصار له. وأعظم ما احتجوا به ما وقع في رواية أبي الزبير عن ابن عمر عند مسلم وأبي داود والنسائي وفيه: "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليراجعها، فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك" لفظ مسلم، وللنسائي وأبي داود "فردها علي" زاد أبو داود "ولم يرها شيئا" وإسناده على شرط الصحيح فإن مسلما أخرجه من رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج، وساقه على لفظه ثم أخرجه من رواية أبي عاصم عنه وقال نحو هذه القصة، ثم أخرجه من رواية عبد الرزاق عن ابن جريج قال مثل حديث حجاج وفيه بعض الزيادة، فأشار إلى هذه الزيادة، ولعله طوى ذكرها عمدا. وقد أخرج أحمد الحديث عن روح بن

(9/353)


عبادة عن ابن جريج فذكرها، فلا يتخيل انفراد عبد الرزاق بها. قال أبو داود: روى هذا الحديث عنه ابن عمر جماعة، وأحاديثهم كلها على خلاف ما قال أبو الزبير وقال ابن عبد البر: قوله: "ولم يرها شيئا" منكر لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه، ولو صح فمعناه عندي والله أعلم: ولم يرها شيئا مستقيما لكونها لم تقع على السنة. وقال الخطابي قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه: ولم يرها شيئا تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئا جائزا في السنة ماضيا في الاختيار وإن كان لازما له مع الكراهة. ونقل البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال: نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعا غيره من أهل الثبت. قال: وبسط الشافعي القول في ذلك وحمل قوله لم يرها شيئا على أنه لم يعدها شيئا صوابا غير خطأ، بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه لأنه أمره بالمراجعة، ولو كان طلقها طاهرا لم يؤمر بذلك، فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه لم يصنع شيء أي لم يصنع شيئا صوابا، قال ابن عبد البر: واحتج بعض من ذهب إلى أن الطلاق لا يقع بما روي عن الشعبي قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض لم يعتد بها في قول ابن عمر، قال ابن عبد البر: وليس معناه ما ذهب إليه، وإنما معناه لم تعتد المرأة بتلك الحيضة في العدة، كما روى ذلك عنه منصوصا أنه قال: يقع عليها الطلاق ولا تعتد بتلك الحيضة ا هـ. وقد روى عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر نحوا ما نقله ابن عبد البر عن الشعبي أخرجه ابن حزم بإسناد صحيح، والجواب عنه مثله. وروى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك "عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك بشيء" وهذه متابعات لأبي الزبير، إلا أنها قابلة للتأويل، وهو أولى من إلغاء الصريح في قول ابن عمر إنها حسبت عليه بتطليقة. وهذا الجمع الذي ذكره ابن عبد البر وغيره يتعين، وهو أولى من تغليظ بعض الثقات وأما قول ابن عمر "إنها حسبت عليه بتطليقة" فإنه وإن لم يصرح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه تسليم أن ابن عمر قال إنها حسبت عليه، فكيف يجتمع مع هذا قوله إنه لم يعتد بها أو لم يرها شيئا على المعنى الذي ذهب إليه المخالف؟ لأنه إن جعل الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم لزم منه أن ابن عمر خالف ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة بخصوصها لأنه قال إنها حسبت عليه بتطليقة فيكون من حسبها عليه خالف كونه لم يرها شيئا، وكيف يظن به ذلك مع اهتمامه واهتمام أبيه بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليفعل ما يأمره به؟ وإن جعل الضمير في لم يعتد بها أو لم يرها لابن عمر لزم منه التناقض في القصة الواحدة فيفتقر إلى الترجيح، ولا شك أن الأخذ بما رواه الأكثر والأحفظ أولى من مقابله عند تعذر الجمع عند الجمهور والله أعلم. واحتج ابن القيم لترجيح ما ذهب إليه شيخه بأقيسة ترجع إلى مسألة أن النهي يقتضي الفساد فقال: الطلاق ينقسم إلى حلال وحرام، فالقياس أن حرامه باطل كالنكاح وسائر العقود، وأيضا فكما أن النهي يقتضي التحريم فكذلك يقتضي الفساد، وأيضا فهو طلاق منع منه الشرع فأفاد منعه عدم جواز إيقاعه فكذلك يفيد عدم نفوذه وإلا لم يكن للمنع فائدة، لأن الزوج لو وكل رجلا أن يطلق امرأته على وجه فطلقها على غير الوجه المأذون فيه لم ينفذ، فكذلك لم يأذن الشارع للمكلف في الطلاق إلا إذا كان مباحا، فإذا طلق طلاقا محرما لم يصح. وأيضا فكل ما حرمه الله من العقود مطلوب الإعدام، فالحكم ببطلان ما حرمه أقرب إلى

(9/354)


تحصيل هذا المطلوب من تصحيحه، ومعلوم أن الحلال المأذون فيه ليس الحرام الممنوع منه. ثم أطال من هذا الجنس بمعارضات كثيرة لا تنهض مع التنصيص على صريح الأمر بالرجعة فإنها فرع وقوع الطلاق على تصريح صاحب القصة بأنها حسبت عليه تطليقة، والقياس في معارضة النص فاسد الاعتبار والله أعلم. وقد عورض بقياس أحسن من قياسه فقال ابن عبد البر: ليس الطلاق من أعمال البر التي يتقرب بها، وإنما هو إزالة عصمة فيها حق آدمي، فكيفما أوقعه وقع، سواء أجر في ذلك أم أثم، ولو لزم المطيع ولم يلزم العاصي لكان العاصي أخف حالا من المطيع. ثم قال ابن القيم: لم يرد التصريح بأن ابن عمر احتسب بتلك التطليقة إلا في رواية سعيد بن جبير عنه عند البخاري، وليس فيها تصريح بالرفع، قال: فانفراد سعيد بن جبير بذلك كانفراد أبي الزبير بقوله لم يرها شيئا، فإما أن يتساقطا وإما أن ترجح رواية أبي الزبير لتصريحها بالرفع، وتحمل رواية سعيد بن جبير على أن أباه هو الذي حسبها عليه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث بعد أن كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتسب عليهم به ثلاثا إذا كان بلفظ واحد. قلت: وغفل رحمه الله عما ثبت في صحيح مسلم من رواية أنس بن سيرين على وفاق ما روى سعيد بن جبير، وفي سياقه ما يشعر بأنه إنما راجعها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: "سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق فقال: طلقتها وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها لطهرها، قال فراجعتها ثم طلقها لطهرها قلت فاعتددت بتلك التطليقة وهي حائض؟ فقال ما لي لا اعتد بها وإن كنت عجزت واستحمقت" وعند مسلم أيضا من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن سالم في حديث الباب: "وكان عبد الله بن عمر طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها فراجعها كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وله من رواية الزبيدي عن ابن شهاب "قال ابن عمر فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقتها" وعند الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج "أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه: هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم". وفي حديث ابن عمر من الفوائد غير ما تقدم أن الرجعة يستقل بها الزوج دون الولي ورضا المرأة، لأنه جعل ذلك إليه دون غيره، وهو كقوله تعالى :{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وفيه أن الأب يقوم عن ابنه البالغ الرشيد في الأمور التي تقع له مما يحتشم الابن من ذكره، ويتلقى عنه ما لعله يلحقه من العتاب على فعله شفقة منه وبرا. وفيه أن طلاق الطاهرة لا يكره لأنه أنكر إيقاعه في الحيض لا في غيره، ولقوله في آخر الحديث:" فإن شاء أمسك وإن شاء طلق". وفيه أن الحامل لا تحيض لقوله في طريق سالم المتقدمة "ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" فحرم صلى الله عليه وسلم الطلاق في زمن الحيض وأباحه في زمن الحمل، فدل على أنهما لا يجتمعان. وأجيب بأن حيض الحامل لما لم يكن له تأثير في تطويل العدة ولا تخفيفها لأنها بوضع الحمل فأباح الشارع طلاقها حاملا مطلقا، وأما غير الحامل ففرق بين الحائض والطاهر لأن الحيض يؤثر في العدة فالفرق بين الحامل وغيرها إنما هو بسبب الحمل لا بسبب الحيض ولا الطهر. وفيه أن الأقراء في العدة هي الأطهار، وسيأتي تقرير ذلك في كتاب العدة. وفيه تحريم الطلاق في طهر جامعها فيه وبه قال الجمهور. وقال المالكية لا يحرم؛ وفي رواية كالجمهور، ورجحها الفاكهاني لكونه شرط في الإذن في الطلاق عدم المسيس، والمعلق بشرط معدوم عند عدمه

(9/355)


5254- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ أَيُّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَقَالَ لَهَا لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ رَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ أَبِي مَنِيعٍ عَنْ جَدِّهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:
5255- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَسِيلٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْطَلَقْنَا إِلَى حَائِطٍ يُقَالُ لَهُ الشَّوْطُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى حَائِطَيْنِ فَجَلَسْنَا بَيْنَهُمَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجْلِسُوا هَا هُنَا وَدَخَلَ وَقَدْ أُتِيَ بِالْجَوْنِيَّةِ فَأُنْزِلَتْ فِي بَيْتٍ فِي نَخْلٍ فِي بَيْتِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ وَمَعَهَا دَايَتُهَا حَاضِنَةٌ لَهَا فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَبِي نَفْسَكِ لِي قَالَتْ وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ قَالَ فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ فَقَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَقَالَ قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ يَا أَبَا أُسَيْدٍ اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا"
[الحديث 5255- طرفه في: 5257]
5256، 5257- وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي أُسَيْدٍ قَالاَ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ"
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ حَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا"
[الحديث 5256- طرفه في: 5637]
5258- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي غَلاَبٍ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ تَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ إِنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِذَا طَهُرَتْ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا قُلْتُ فَهَلْ عَدَّ ذَلِكَ طَلاَقًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ"
قوله: "باب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق" كذا للجميع وحذف ابن بطال من الترجمة قوله: "من طلق" فكأنه لم يظهر له وجهه، وأظن المصنف قصد إثبات مشروعية جواز الطلاق وحمل حديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" على ما إذا وقع من غير سبب، وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره، وأعل بالإرسال، وأما المواجهة فأشار إلى أنها خلاف الأولى لأن ترك المواجهة أرفق وألطف إلا أن احتيج إلى ذكر ذلك. ثم ذكر

(9/356)


المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. قوله: "إن ابنة الجون" زاد في نسخة الصغاني "الكلبية" وهو بعيد على ما سأبينه، ووقع في "كتاب الصحابة لأبي نعيم" من طريق عبيد بن القاسم عن هشام بن عروة عن أبيه "عن عائشة أن عمرة بنت الجون تعوذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدخلت عليه، قال: لقد عذت بمعاذ" الحديث. وعبيد متروك. والصحيح أن أسمها أميمة بنت النعمان بن شراحيل كما في حديث أبي أسيد. وقال مرة: أميمة بنت شراحيل فنسبت لجدها، وقيل اسمها أسماء كما سأبينه في حديث أبي أسيد مع شرحه مستوفى، وروى ابن سعد عن الواقدي عن ابن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم الكلابية" فذكر مثل حديث الباب، وقوله الكلابية غلط وإنما هي الكندية، فكأنما الكلمة تصحفت. نعم للكلابية قصة أخرى ذكرها ابن سعد أيضا بهذا السند إلى الزهري وقال: اسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فاستعاذت منه فطلقها، فكانت تلقط البعر وتقول: أنا الشقية. قال وتوفيت سنة ستين. ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن الكندية لما وقع التخيير اختارت قومها ففارقها، فكانت تقول: أنا الشقية". ومن طريق سعيد بن أبي هند أنها استعاذت منه فأعاذها. ومن طريق الكلبي اسمها العالية بنت ظبيان بن عمرو، وحكى ابن سعد أيضا أن اسمها عمرة بنت يزيد بن عبيد، وقيل بنت يزيد بن الجون. وأشار ابن سعد إلى أنها واحدة اختلف في اسمها، والصحيح أن التي استعاذت منه هي الجونية. وروى ابن سعد من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: لم تستعذ منه امرأة غيرها. قلت: وهو الذي يغلب على الظن، لأن ذلك إنما وقع للمستعيذة بالخديعة المذكورة فيبعد أن تخدع أخرى بعدها بمثل ما خدعت به بعد شيوع الخبر بذلك. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج الجونية. واختلفوا في سبب فراقه فقال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعالى أنت. فطلقها. وقيل كان بها وضح كالعامرية قال وزعم بعضهم أنها قالت أعوذ بالله منك فقال قد عذت بمعاذ وقد أعاذك الله مني فطلقها. قال وهذا باطل إنما قال له هذا امرأة من بني العنبر وكانت جميلة فحاف نساؤه أن تغلبهن عليه فقلن لها إنه يعجبه أن يقال له نعوذ بالله منك ففعلت فطلقها، كذا قال، وما أدري لم حكم ببطلان ذلك مع كثرة الروايات الواردة فيه وثبوته في حديث عائشة في صحيح البخاري، وسيأتي مزيد لذلك في الحديث الذي بعده. والقول الذي نسبه لقتادة ذكر مثله أبو سعيد النيسابوري عن شرقي ابن قطامي. قوله: "رواه حجاج بن أبي منيع عن جده" هو حجاج بن يوسف بن أبي منيع وأبو منيع هو عبيد الله بن أبي زياد الوصافي بفتح الواو وتشديد المهملة وبالفاء وكان يكون بحلب، ولم يخرج له البخاري إلا معلقا وكذا لجده. وهذه الطريق وصلها الذهلي في "الزهريات" ورواه ابن أبي ذئب أيضا عن الزهري نحوه وزاد في آخره: "قال الزهري جعلها تطليقة" أخرجه البيهقي، وقوله: "الحقي بأهلك" بكسر الألف من الحقي وفتح الحاء بخلاف قوله في الحديث الثاني ألحقها فإنه بفتح الهمزة وكسر الحاء. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن غسيل" كذا في رواية الأكثر بغير ألف ولام وفي رواية النسفي "ابن الغسيل" وهو أوجه ولعلها كانت ابن غسيل الملائكة فسقط لفظ الملائكة، والألف واللام بدل الإضافة، وعبد الرحمن ينسب إلى جد أبيه وهو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاري، وحنظلة هو غسيل الملائكة استشهد بأحد وهو جنب فغسلته الملائكة وقصته مشهورة، ووقع في رواية الجرجاني عبد الرحيم والصواب عبد الرحمن كما نبه عليه الجياني. قوله: "إلى حائط يقال له الشوط" بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة وقيل معجمة هو بستان في المدينة معروف. قوله:

(9/357)


"حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلسوا هاهنا ودخل" أي إلى الحائط. له رواية لابن سعد عن أبي أسيد قال: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني الجون فأمرني أن آتيه بها فأتيته بها فأنزلتها بالشوط من وراء ذباب في أطم، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج يمشي ونحن معه. وذباب بضم المعجمة وموحدتين مخففا جبل معروف بالمدينة، والأطم الحصون وهو الأجم أيضا والجمع آطام وآجام كعنق وأعناق. وفي رواية لابن سعد أن النعمان بن الجون الكندي أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما فقال: ألا أزوجك أجمل أيم في العرب؟ فتزوجها وبعث معه أبا أسيد الساعدي، قال أبو أسيد: فأنزلتها في بني ساعدة فدخل عليها نساء الحي فرحين بها وخرجن فذكرن من جمالها. قوله: "فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل" هو بالتنوين في الكل، وأميمة بالرفع إما بدلا عن الجونية وإما عطف بيان، وظن بعض الشراح أنه بالإضافة فقال في الكلام على الرواية التي بعدها: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ولعل التي نزلت في بيتها بنت أخيها؛ وهو مردود فإن مخرج الطريقين واحد، وإنما جاء الوهم من إعادة لفظ: "في بيت" وقد رواه أبو بكر بن أبي قتيبة في مسنده عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال: "في بيت في النخل أميمة إلخ" وجزم هشام بن الكلبي بأنها أسماء بنت النعمان بن شراحيل بن الأسود بن الجون الكندية، وكذا جزم بتسميتها أسماء محمد بن إسحاق ومحمد بن حبيب وغيرهما، فلعل اسمها أسماء ولقبها أميمة. ووقع في المغازي رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق "أسماء بنت كعب الجونية" فلعل في نسبها من اسمه كعب نسبها إليه، وقيل هي أسماء بنت الأسود بن الحارث بن النعمان. قوله: "ومعها دايتها حاضنة لها" الداية بالتحتانية الظئر المرضع وهي معربة، ولم أقف على تسمية هذه الحاضنة. قوله: "هبي نفسك لي إلخ" السوقة بضم السين المهملة يقال للواحد من الرعية والجمع، قيل لهم ذلك لأن الملك يسوقهم فيساقون إليه ويصرفهم على مراده، وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقي، قال ابن المنير: هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسوقة عندهم من ليس بملك كائنا من كان، فكأنها استبعدت أن يتزوج الملكة من ليس بملك، وكان صلى الله عليه وسلم قد خير أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا تواضعا منه صلى الله عليه وسلم لربه. ولم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بكلامها معذرة لها لقرب عهدها بجاهليتها. وقال غيره يحتمل أنها لم تعرفه صلى الله عليه وسلم فخاطبته بذلك، وسياق القصة من مجموع طرقها يأبى هذا الاحتمال، نعم سيأتي في أواخر الأشربة من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال: "ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب، فأمر أبا أسيد الساعدي أن يرسل إليها فقدمت، فنزلت في أجم بني ساعدة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء بها فدخل عليها فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها قالت: أعوذ بالله منك، قال: لقد أعذتك مني. فقالوا لها أتدرين من هذا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك، قالت كنت أنا أشقى من ذلك. فإن كانت القصة واحدة فلا يكون قوله في حديث الباب ألحقها بأهلها ولا قوله في حديث عائشة الحقي بأهلك تطليقا، ويتعين أنها لم تعرفه. وإن كانت القصة متعددة ولا مانع من ذلك فلعل هذه المرأة هي الكلابية التي وقع فيها الاضطراب. وقد ذكر ابن سعد بسند فيه العزرمي الضعيف عن ابن عمر قال: "كان في نساء النبي صلى الله عليه وسلم سنا بنت سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا أسيد الساعدي يخطب عليه امرأة من بني عامر يقال لها عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر، قال ابن سعد: اختلف علينا اسم الكلابية فقيل فاطمة بنت الضحاك بن سفيان وقيل عمرة بنت يزيد بن عبيد وقيل سنا بنت سفيان بن عوف وقيل العالية بنت ظبيان بن

(9/358)


عمرو بن عوف، فقال بعضهم هي واحدة اختلف في اسمها. وقال بعضهم بل كن جمعا ولكن لكل واحدة منهن قصة غير قصة صاحبتها". ثم ترجم الجونية فقال: أسماء بنت النعمان. ثم أخرج من طريق عند الواحد بن أبي عون قال: "قدم النعمان بن أبي الجون الكندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما فقال: يا رسول الله ألا أزوجك أجمل أيم في العرب، كانت تحت ابن عم لها فتوفي وقد رغبت فيك؟ قال: نعم. قال: فابعث من يحملها إليك. فبعث معه أبا أسيد الساعدي. قال أبو أسيد فأقمت ثلاثة أيام ثم تحملت معي في محفة فأقبلت بها حتى قدمت المدينة فأنزلتها في بني ساعدة، ووجهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بني عمرو بن عوف فأخبرته" الحديث. قال ابن أبي عون: وكان ذلك في ربيع الأول سنة تسع. ثم أخرج من طريق أخرى عن عمر بن الحكم عن أبي أسيد قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجونية فحملتها حتى نزلت بها في أطم بني ساعدة، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج يمشي على رجليه حتى جاءها" الحديث. ومن طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: اسم الجونية أسماء بنت النعمان بن أبي الجون، قيل لها استعيذي منه فإنه أحظى لك عنده، وخدعت لما رؤى من جمالها، وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حملها على ما قالت فقال: إنهن صواحب يوسف وكيدهن. فهذه تتنزل قصتها على حديث أبي حازم عن سهل بن سعد، وأما القصة التي في حديث الباب من رواية عائشة فيمكن أن تنزل على هذه أيضا فإنه ليس فيها إلا الاستعاذة، والقصة التي في حديث أبي أسيد فيها أشياء مغايرة لهذه القصة، فيقوى التعدد، ويقوى أن التي في حديث أبي أسيد اسمها أميمة والتي في حديث سهل اسمها أسماء والله أعلم. وأميمة كان قد عقد عليها ثم فارقها وهذه لم يعقد عليها بل جاء ليخطبها فقط. قوله: "فأهوى بيده" أي أمالها إليها. ووقع في رواية ابن سعد "فأهوى إليها ليقبلها، وكان إذا اختلى النساء أقعى وقبل" وفي رواية لابن سعد "فدخل عليها داخل من النساء وكانت من أجمل النساء فقالت: إنك من الملوك فإن كنت تريدين أن تحظي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا جاءك فاستعيذي منه" ووقع عنده عن هشام بن محمد عن عبد الرحمن بن الغسيل بإسناد حديث الباب: "إن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت فمشطتاها وخضبتاها. وقالت لها إحداهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول أعوذ بالله منك". قوله: "فقال : قد عذت بمعاذ" هو بفتح الميم ما يستعاذ به، أو اسم مكان العوذ، والتنوين فيه للتعظيم. وفي رواية ابن سعد "فقال بكمه على وجهه وقال: عذت معاذا. ثلاث مرات" وفي أخرى له "فقال أمن عائذ الله". قوله: "ثم خرج علينا فقال: يا أبا أسيد اكسها رازقيين" براء ثم زاي ثم قاف بالتثنية صفة موصوف محذوف للعلم به، والرازقية ثياب من كتان بيض طوال قاله أبو عبيدة. وقال غيره. يكون في داخل بياضها زرقة، والرازقي الصفيق. قال ابن التين: متعها بذلك إما وجوبا وإما تفضلا. قلت: وسيأتي حكم المتعة في كتاب النفقات. قوله: "وألحقها بأهلها" قال ابن بطال: ليس في هذا أنه واجهها بالطلاق. وتعقبه ابن المنير بأن ذلك ثبت في حديث عائشة أول أحاديث الباب، فيحمل على أنه قال لها الحقي بأهلك، ثم لما خرج إلى أبي أسيد قال له ألحقها بأهلها، فلا منافاة، فالأول قصد به الطلاق والثاني أراد به حقيقة اللفظ وهو أن يعيدها إلى أهلها، لأن أبا أسيد هو الذي كان أحضرها كما ذكرناه. ووقع في رواية لابن سعد عن أبي أسيد قال: "فأمرني فرددتها إلى قومها" وفي أخرى له "فلما وصلت بها تصايحوا وقالوا: إنك لغير مباركة، فما دهاك؟ قالت: خدعت. قال فتوفيت في خلافة عثمان". قال: "وحدثني هشام بن محمد عن أبي خيثمة زهير بن معاوية أنها ماتت كمدا" ثم روي بسند فيه الكلبي "أن المهاجرين

(9/359)


أبي أمية تزوجها، فأراد عمر معاقبتها فقالت: ما ضرب علي الحجاب، ولا سميت أم المؤمنين. فكف عنها "وعن الواقدي: سمعت من يقول إن عكرمة بن أبي جهل خلف عليها، قال: وليس ذلك بثبت. ولعل ابن بطال أراد أنه لم يواجهها بلفظ الطلاق. وقد أخرج ابن سعد من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن الوليد بن عبد الملك كتب إليه يسأله، فكتب إليه: ما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم كندية إلا أخت بني الجون فملكها. فلما قدمت المدينة نظر إليها فطلقها ولم يبن بها. فقوله فطلقها يحتمل أن يكون باللفظ المذكور قبل ويحتمل أن يكون واجهها بلفظ الطلاق، ولعل هذا هو السر في إيراد الترجمة بلفظ الاستفهام دون بت الحكم. واعترض بعضهم بأنه لم يتزوجها إذ لم يجر ذكر صورة العقد، وامتنعت أن تهب له نفسها فكيف يطلقها؟ والجواب أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يزوج من نفسه بغير إذن المرأة وبغير إذن وليها، فكان مجرد إرساله إليها وإحضارها ورغبته فيها كافيا في ذلك، ويكون قوله: "هبي لي نفسك" تطييبا لخاطرها واستمالة لقلبها، ويؤيده قوله في رواية لابن سعد "إنه اتفق مع أبيها على مقدار صداقها، وأن أباها قال له: إنها رغبت فيك وخطبت إليك". قوله: "وقال الحسين بن الوليد النيسابوري عن عبد الرحمن "هو ابن الغسيل" عن عباس بن سهل عن أبيه وأبي أسيد" هذا التعليق وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي أحمد الفراء عن الحسين، ومراد البخاري منه أن الحسين بن الوليد شارك أبا نعيم في روايته لهذا الحديث عن عبد الرحمن بن الغسيل، لكن اختلفا في شيخ عبد الرحمن فقال أبو نعيم حمزة وقال الحسين عباس بن سهل، ثم ساقه من طريق ثالثة عن عبد الرحمن فبين أنه عند عبد الرحمن بالإسنادين، لكن طريق أبي أسيد عن حمزة ابنه عنه وطريق سهل بن سعد عن عباس ابنه عنه، وكأن حمزة حذف في رواية الحسين بن الوليد فصار الحديث من رواية عباس بن سهل عن أبي أسيد وليس كذلك، والتحرير ما وقع في الرواية الثالثة وهي رواية إبراهيم بن أبي الوزير واسم أبي الوزير عمر بن مطرف، وهو حجازي نزل البصرة، وقد أدركه البخاري ولم يلقه فحدث عنه بواسطة، وذكره في تاريخه فقال: مات بعد أبي عاصم سنة اثنتي عشرة، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وافقه على إقامة إسناده أبو أحمد الزبيري أخرجه أحمد في مسنده عنه. "تنبهان": الأول قال القاضي عياض في أوائل كتاب الجهاد من "شرح مسلم:" قال البخاري في تاريخه: الحسين بن الوليد بن علي النيسابوري القرشي مات سنة ثلاث ومائتين، ولم يذكر في باب الحسن مكبرا من اسمه الحسن بن الوليد، وذكر في صحيحه في كتاب الطلاق الحسن بن الوليد النيسابوري عن عبد الرحمن عن عباس ابن سهل عن أبيه وأبي أسيد "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل" كذا ذكره مكبرا. قلت: لم أره في شيء من النسخ المعتمدة من البخاري إلا مصغرا، ويؤيده اقتصاره عليه في تاريخه والله أعلم. الثاني وقع في رواية أبي أحمد الجرجاني في السند الأول "عن حمزة بن أبي أسيد عن عباس بن سهل عن أبيه" وهو خطأ سقطت الواو من قوله: "وعن عباس" وقد ثبتت عند جميع الرواة، وفي الحديث أن من قال لامرأته الحقي بأهلك وأراد الطلاق طلقت، فإن لم يرد الطلاق لم تطلق على ما وقع في حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل إليه أن يعتزل امرأته قال لها الحقي بأهلك فكوني فيهم حتى يقضي الله هذا الأمر" وقد مضى الكلام عليه مستوفى في شرحه. حديث ابن عمر في طلاق امرأته، وقد مضى شرحه مستوفى قبل، وقوله في هذه الرواية: "أتعرف ابن عمر" إنما قال له ذلك مع أنه يعرف أنه يعرفه وهو الذي يخاطبه ليقرره على اتباع السنة، وعلى القبول من ناقلها، وأنه يلزم العامة الاقتداء بمشاهير العلماء، فقرره على

(9/360)


ما يلزمه من ذلك لا أنه ظن أنه لا يعرفه، قال ابن المنير: ليس فيه مواجهة ابن عمر المرأة بالطلاق، وإنما فيه: "طلق ابن عمر امرأته" لكن الظاهر من حاله المواجهة لأنه إنما طلقها عن شقاق ا هـ. ولم يذكر مستنده في الشقاق المذكور، فقد يحتمل أن لا يكون عن شقاق بل عن سبب آخر، وقد روى أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "كان تحتي امرأة أحبها، وكان عمر يكرهها فقال: طلقها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك" فيحتمل أن تكون هي هذه، ولعل عمر لما أمره بطلاقها وشاور النبي صلى الله عليه وسلم فامتثل أمره اتفق أن الطلاق وقع وهي في الحيض فعلم عمر بذلك فكان ذلك هو السر في توليه السؤال عن ذلك لكونه وقع من قبله.

(9/361)


باب من جوز الطلاق الثلاث
...
4- باب مَنْ أَجَازَ طَلاَقَ الثَّلاَثِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي مَرِيضٍ طَلَّقَ لاَ أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَتُهُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ تَرِثُهُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ تَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الْآخَرُ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ
5259- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلاَنِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ يَا عَاصِمُ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عَاصِمٌ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمٌ لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا قَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْطَ النَّاسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا قَالَ سَهْلٌ فَتَلاَعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ"
5260- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاَقِي وَإِنِّي نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيَّ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لاَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ"

(9/361)


5261- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاَثًا فَتَزَوَّجَتْ فَطَلَّقَ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ قَالَ لاَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأَوَّلُ"
قوله: "باب من جوز الطلاق الثلاث" كذا لأبي ذر، وللأكثر "من أجاز". وفي الترجمة إشارة إلى أن من السلف من لم يجز وقوع الطلاق الثلاث، فيحتمل أن يكون مراده بالمنع من كره البينونة الكبرى، وهي بإيقاع الثلاث أعم من أن تكون مجموعة أو مفرقة، ويمكن أن يتمسك له بحديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" وقد تقدم في أوائل الطلاق. وأخرج سعيد بن منصور عن أنس "أن عمر كان إذا أتى برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع ظهره" وسنده صحيح. ويحتمل أن يكون مراده بعدم الجواز من قال لا يقع الطلاق إذا أوقعها مجموعة للنهي عنه وهو قول للشيعة وبعض أهل الظاهر، وطرد بعضهم ذلك في كل طلاق منهي كطلاق الحائض وهو شذوذ، وذهب كثير منهم إلى وقوعه مع منع جوازه، واحتج له بعضهم بحديث محمود بن لبيد قال: "أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" ؟ الحديث أخرجه النسائي ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع، وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير يعني ابن الأشج عن أبيه ا هـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل إنه لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحة حديث محمود فليس فيه بيان أنه هل أمضى عليه الثلاث مع إنكاره عليه إيقاعها مجموعة أو لا؟ فأقل أحواله أن يدل على تحريم ذلك وإن لزم، وقد تقدم في الكلام على حديث ابن عمر في طلاق الحائض "أنه قال لمن طلق ثلاثا مجموعة: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك" وله ألفاظ أخرى نحو هذه عند عبد الرزاق وغيره. وأخرج أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال: "كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس، إن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك" وأخرج أبو داود له متابعات عن ابن عباس بنحوه. ومن القائلين بالتحريم واللزوم من قال: إذا طلق ثلاثا مجموعة وقعت واحدة، وهو قول محمد بن إسحاق صاحب المغازي، واحتج بما رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: "طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟ قال: ثلاثا في مجلس واحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت. فارتجعها" وأخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه من طريق محمد ابن إسحاق. وهذا الحديث نص في المسألة لا يقبل التأويل الذي في غيره من الروايات الآتي ذكرها. وقد أجابوا عنه بأربعة أشياء: أحدها أن محمد بن إسحاق وشيخه مختلف فيهما، وأجيب بأنهم احتجوا في عدة من الأحكام بمثل هذا الإسناد كحديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أبي العاص بن الربيع زينب ابنته بالنكاح الأول" وليس كل مختلف فيه مردودا. والثاني معارضته بفتوى ابن عباس بوقوع الثلاث كما تقدم من رواية مجاهد وغيره؛ فلا يظن بابن

(9/362)


عباس أنه كان عنده هذا الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يفتي بخلافه إلا بمرجح ظهر له، وراوي الخبر أخبر من غيره بما روى. وأجيب بأن الاعتبار برواية الراوي لا برأيه لما يطرق رأيه من احتمال النسيان وغير ذلك، وأما كونه تمسك بمرجح فلم ينحصر في المرفوع لاحتمال التمسك بتخصيص أو تقييد أو تأويل، وليس قول مجتهد حجة على مجتهد آخر. الثالث أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة، وهو تعليل قوي لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتة على الثلاث فقال طلقها ثلاثا، فهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس. الرابع أنه مذهب شاذ فلا يعمل به، وأجيب بأنه نقل عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير مثله، نقل ذلك ابن مغيث في "كتاب الوثائق" له وعزاه لمحمد بن وضاح، ونقل الغنوي ذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن تقي بن مخلد ومحمد بن عبد السلام الخشني وغيرهما، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار. ويتعجب من ابن التين حيث جزم بأن لزوم الثلاث لا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف في التحريم مع ثبوت الاختلاف كما ترى، ويقوى حديث ابن إسحاق المذكور ما أخرجه مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم" ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس نعم" ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم" وهذه الطريق الأخيرة أخرجها أبو داود، لكن لم يسم إبراهيم بن ميسرة وقال بدله "عن غير واحد" ولفظ المتن "أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة" الحديث، فتمسك بهذا السياق من أعل الحديث وقال: إنما قال ابن عباس ذلك في غير المدخول بها، وهذا أحد الأجوبة عن هذا الحديث وهي متعددة، وهو جواب إسحاق بن راهويه وجماعة، وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية، ووجهوه بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها أنت طالق، فإذا قال ثلاثا لغا العدد لوقوعه بعد البينونة. وتعقبه القرطبي بأن قوله أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل، فكيف يصح جعله كلمتين وتعطى كل كلمة حكما؟ وقال النووي: أنت طالق معناه أنت ذات الطلاق، وهذا اللفظ يصح تفسيره بالواحدة وبالثلاث وغير ذلك. الجواب الثاني دعوى شذوذ رواية طاوس، وهي طريقة البيهقي، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي بخلافه، فيتعين المصير إلى الترجيح، والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم. وقال ابن العربي: هذا حديث مختلف في صحته، فكيف يقدم على الإجماع؟ قال: ويعارضه حديث محمود بن لبيد - يعني الذي تقدم أن النسائي أخرجه - فإن فيه التصريح بأن الرجل طلق ثلاثا مجموعة ولم يرده النبي صلى الله عليه وسلم بل أمضاه، كذا قال، وليس في سياق الخبر تعرض لإمضاء ذلك ولا لرده. الجواب الثالث دعوى النسخ، فنقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئا نسخ ذلك، قال البيهقي: ويقويه ما

(9/363)


أخرجه أبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك. وقد أنكر المازري ادعاء النسخ فقال: زعم بعضهم أن هذا الحكم منسوخ وهو غلط فإن عمر لا ينسخ، ولو نسخ - وحاشاه - لبادر الصحابة إلى إنكار. وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمتنع لكن يخرج عن ظاهر الحديث، لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر. فإن قيل فقد يجمع الصحابة ويقبل منهم ذلك، قلنا إنما يقبل ذلك لأنه يستدل بإجماعهم على ناسخ، وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم فمعاذ الله لأنه إجماع على الخطأ وهم معصومون عن ذلك. فإن قيل فلعل النسخ إنما ظهر في زمن عمر، قلنا: هذا أيضا غلط لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر، وليس انقراض العصر شرطا في صحة الإجماع على الراجح. قلت: نقل النووي هذا ا الفصل في شرح مسلم وأقره، وهو متعقب في مواضع: أحدها أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر، وإنما قال ما تقدم يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ، أي اطلع على ناسخ للحكم الذي رواه مرفوعا، ولذلك أفتى بخلافه. وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن جماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ. الثاني إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب، فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما. الثالث أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضا، لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه كان يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ، وما أشار إليه من مسألة انقراض العصر لا يجئ هنا، لأن عصر الصحابة لم ينقرض في زمن أبي بكر بل ولا عمر، فإن المراد بالعصر الطبقة من المجتهدين وهم في زمن أبي بكر وعمر بل وبعدهما طبقة واحدة. الجواب الرابع دعوى الاضطراب قال القرطبي في "المفهم" : وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه، وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إن لم يقتض القطع ببطلانه. الجواب الخامس دعوى أنه ورد في صورة خاصة، فقال ابن سريج وغيره: يشبه أن يكون. ورد في تكرير اللفظ كأن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق، وكانوا أولا على سلامة صدورهم يقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد، فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر فيهم الخداع ونحوه مما يمنع قبول من ادعى التأكيد حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار فأمضاه عليهم، وهذا الجواب ارتضاه القرطبي وقواه بقول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وكذا قال النووي إن هذا أصح الأجوبة. الجواب السادس تأويل قوله: "واحدة" وهو أن معنى قوله: "كأن الثلاث واحدة" إن الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يطلقون واحدة فلما كان زمن عمر كانوا يطلقون ثلاثا، ومحصله أن المعنى أن الطلاق الموقع في عهد عمر ثلاثا كان يوقع قبل ذلك واحدة لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلا أو كانوا يستعملونها نادرا، وأما في عصر عمر فكثر استعمالهم لها، ومعنى قوله فأمضاه عليهم وأجازه وغير ذلك أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله، ورجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة الرازي، وكذا أورده البيهقي بإسناده الصحيح إلى أبي زرعة أنه قال: معنى هذا الحديث عندي أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة، قال النووي: وعلى هذا فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصة لا عن تغير الحكم في الواحدة فالله أعلم. الجواب السابع

(9/364)


دعوى وقفه، فقال بعضهم: ليس في هذا السياق أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فيقره، والحجة إنما هي في تقريره. وتعقب بأن قول الصحابي "كنا نفعل كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:" في حكم الرفع على الراجح حملا على أنه اطلع على ذلك فأقره لتوفر دواعيهم على السؤال عن جليل الأحكام وحقيرها. الجواب الثامن حمل قوله: "ثلاثا" على أن المراد بها لفظ البتة كما تقدم في حديث ركانة سواء. وهو من رواية ابن عباس أيضا، وهو قوي ويؤيده إدخال، البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها البتة والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما وأن البتة إذا أطلقت حمل على الثلاث إلا إن أراد المطلق واحدة فيقبل، فكأن بعض رواته حمل لفظ البتة على الثلاث لاشتهار التسوية بينهما فرواها بلفظ الثلاث وإنما المراد لفظ البتة، وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال أردت بالبتة الواحدة فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم. قال القرطبي: وحجة الجمهور في اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشرع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد كما لو قال أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام، واحتج من قال إن الثلاث إذا وقعت مجموعة حملت على الواحدة بأن من قال أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة، فليكن المطلق مثله. وتعقب باختلاف الصيغتين فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمد طلاقها ثلاثا، فإذا قال أنت طالق ثلاثا فكأنه قال أنت طالق جميع الطلاق، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه فافترقا. وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني قول جابر إنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق والله أعلم. وقد أطلت في هذا الموضع لالتماس من التمس ذلك مني والله المستعان. قوله: "لقول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قد استشكل وجه استدلال المصنف بهذه الآية على ما ترجم به من تجويز الطلاق الثلاث، والذي يظهر لي أنه كان أراد بالترجمة مطلق وجود الثلاث مفرقة كانت أو مجموعة، فالآية واردة على المانع لأنها دلت على مشروعية ذلك من غير نكير، وإن كان أراد تجويز الثلاث مجموعة وهو الأظهر فأشار بالآية إلى أنها مما احتج به المخالف للمنع من الوقوع لأن ظاهرها أن الطلاق المشروع لا يكون بالثلاث دفعة بل على الترتيب المذكور، فأشار إلى أن الاستدلال بذلك على منع جميع الثلاث غير متجه إذ ليس في السياق المنع من غير الكيفية المذكورة، بل انعقد الإجماع على أن إيقاع المرتين ليس شرطا ولا راجحا، بل اتفقوا على أن إيقاع الواحدة أرجح من إيقاع الثنتين كما تقدم تقريره في الكلام على حديث ابن عمر، فالحاصل أن مراده دفع دليل المخالف بالآية لا الاحتجاج بها لتجويز الثلاث، هذا الذي ترجح عندي. وقال الكرماني: وجه استدلاله بالآية أنه تعالى قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فدل على جواز جمع الثنتين وإذا جاز جمع الثنتين دفعة جاز جمع الثلاث دفعة كذا، قال: وهو قياس مع وضوح الفارق، لأن جمع الثنتين لا يستلزم البينونة الكبرى بل تبقى له الرجعة إن كانت رجعية وتجديد العقد بغير

(9/365)


انتظار عدة إن كانت بائنا، بخلاف جمع الثلاث. ثم قال الكرماني: أو التسريح بإحسان عام يتناول إيقاع الثلاث دفعة. قلت: وهذا لا بأس به لكن التسريج في سياق الآية إنما هو فيما بعد إيقاع الثنتين فلا يتناول إيقاع الطلقات الثلاث، فإن معنى قوله تعالى :{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فيما ذكر أهل العلم بالتفسير أي أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك أو التسريح مرتان، ثم حينئذ إما أن يختار استمرار العصمة فيمسك الزوجة أو المفارقة فيسرحها بالطلقة الثالثة، وهذا التأويل نقله الطبري وغيره عن الجمهور، ونقلوا عن السدي والضحاك أن المراد بالتسريج في الآية ترك الرجعة حتى تنقضي العدة فتحصل البينونة، ويرجح الأول ما أخرجه الطبري وغيره من طريق إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال: "قال رجل: يا رسول الله الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" وسنده حسن، لكنه مرسل لأن أبا رزين لا صحبة له، وقد وصله الدار قطني من وجه آخر عن إسماعيل فقال: "عن أنس" لكنه شاذ، والأول هو المحفوظ، وقد رجح الكيا الهراسي من الشافعية في كتاب "أحكام القرآن" له قول السدي، ودفع الخبر لكونه مرسلا، وأطال في تقرير ذلك بما حاصله أن فيه زيادة فائدة، وهي بيان حال المطلقة وأنها تبين إذا انقضت عدتها، قال: وتؤخذ الطلقة الثالثة من قوله تعالى:{فإن طلقها" ا هـ والأخذ بالحديث أولى فإنه مرسل حسن يعتضد بما أخرجه الطبري من حديث ابن عباس بسند صحيح قال: "إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في الثالثة، فإما أن يمسكها فيحسن صحبتها أو يسرحها فلا يظلمها من حقها شيئا" وقال القرطبي في تفسيره: ترجم البخاري على هذه الآية من أجاز الطلاق الثلاث لقوله تعالى :{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وهذه إشارة منه إلى أن هذا العدد إنما هو بطريق الفسحة لهم، فمن ضيق على نفسه لزمه، كذا قال ولم يظهر لي وجه اللزوم المذكور، والله المستعان. قوله: "وقال ابن الزبير: لا أرى أن ترث مبتوتة" كذا لأبي ذر، ولغيره: "مبتوتته" بزيادة ضمير للرجل، وكأنه حذف للعلم به، وهذا التعليق عن عبد الله بن الزبير وصله الشافعي وعبد الرزاق من طريق ابن أبي مليكة قال: سألت عبد الله بن الزبير عن الرجل يطلق امرأته فيبتها ثم يموت وهي في عدتها، قال: أما عثمان فورثها، وأما أنا فلا أرى أن أورثها لبينونته إياها. قوله: "وقال الشعبي ترثه" وصله سعيد بن منصور عن أبي عوانة عن مغيرة عن إبراهيم والشعبي في رجل طلق ثلاثا في مرضه قال: تعتد عدة المتوفي عنها زوجها وترثه ما كانت في العدة. قوله: "وقال ابن شبرمة" هو عبد الله قاضي الكوفة.قوله: "تزوج" بفتح أوله وضم آخره، وهو استفهام محذوف الأداة. قوله: "إذا انقضت العدة؟ قال: نعم" هذا ظاهره أن الخطاب دار بين الشعبي وابن شبرمة، لكن الذي رأيت في "سنن سعيد بن منصور" أنه كان مع غيره فقال سعيد: حدثنا حماد بن زيد عن أبي هاشم في الرجل يطلق امرأته وهو مريض إن مات في مرضه ذلك ورثته؟ فقال له ابن شبرمة: أرأيت إن انقضت العدة. قوله: "قال أرأيت إن مات الزوج الآخر فرجع عن ذلك" هكذا وقع عند البخاري مختصرا، والذي في رواية سعيد بن منصور المذكورة فقال ابن شبرمة: أتتزوج؟ قال: نعم. قال: فإن مات هذا ومات الأول أترث زوجين؟ قال: لا. فرجع إلى العدة فقال ترثه ما كانت في العدة. ولعله سقط ذكر الشعبي من الرواية. وأبو هاشم المذكور هو الرماني بضم الراء وتشديد الميم اسمه يحيى، وهو واسطي كان يتردد إلى الكوفة، وهو ثقة. ومحل المسألة المذكورة كتاب الفرائض، وإنما ذكرت هنا استطرادا. والمبتوتة بموحدة ومثناتين من قيل لها أنت طالق البتة وتطلق على من أبينت بالثلاث، ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. الحديث الأول

(9/366)


حديث سهل ابن سعد في قصة المتلاعنين وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب اللعان، والغرض منه هنا قوله في آخر الحديث، "فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الحديث، وقد تعقب بأن المفارقة في الملاعنة وقعت بنفس اللعان فلم يصادف تطليقه إياها ثلاثا موقعا، وأجيب بأن الاحتجاج به من كون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه إيقاع الثلاث مجموعة، فلو كان ممنوعا لأنكره، ولو وقعت الفرقة بنفس اللعان. حديث عائشة في قصة رفاعة القرظي وامرأته، سيأتي شرحه مستوفى في "باب إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد العدة زوجا غيره فلم يمسها" وشاهد الترجمة منه قوله: "فبت طلاقي" فإنه ظاهر في أنه قال لها أنت طالق البتة، ويحتمل أن يكون المراد أنه طلقها طلاقا حصل به قطع عصمتها منه، وهو أعم من أن يكون طلقها ثلاثا مجموعة أو مفرقة، ويؤيد الثاني أنه سيأتي في كتاب الأدب من وجه آخر أنها قالت طلقني آخر ثلاث تطليقات، وهذا يرجح أن المراد بالترجمة بيان من أجاز الطلاق الثلاث ولم يكرهه، ويحتمل أن يكون مراد الترجمة أعم من ذلك، وكل حديث يدل على حكم فرد من ذلك. حديث عائشة أيضا: "أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟ قال: لا" الحديث، وهو وإن كان مختصرا من قصة رفاعة فقد ذكرت توجيه المراد به، وإن كان في قصة أخرى فالتمسك بظاهر قوله: "طلقها ثلاثا" فإنه ظاهر في كونها مجموعة، وسيأتي في شرح قصة رفاعة أن غيره وقع له مع امرأة نظير ما وقع لرفاعة، فليس التعدد في ذلك ببعيد.

(9/367)


5- باب مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}
5262- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا"
[الحديث 5262- طرفه في: 5263]
5263- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَامِرٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الْخِيَرَةِ فَقَالَتْ خَيَّرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَكَانَ طَلاَقًا قَالَ مَسْرُوقٌ لاَ أُبَالِي أَخَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي"
قوله: "باب من خير أزواجه، وقول الله تعالى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} تقدم في تفسير الأحزاب بيان سبب التخيير المذكور، وفيما إذا وقع التخيير، ومتى كان التخيير؟ وأذكر هنا بيان حكم من خير امرأته مع بقية شرح حديث الباب. ووقع هنا في نسخة الصغاني قبل حديث مسروق عن عائشة حديث أبي سلمة عنها في المعنى، قال فيه: "حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن الزهري. وقال الليث حدثنا يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه" الحديث وساقه على لفظ يونس، وقد تقدم الطريقان في تفسير سورة الأحزاب، وساق رواية شعيب وأولها "أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء لها حين أمره الله بتخيير أزواجه" الحديث. ثم ساق رواية الليث معلقة أيضا في ترجمة

(9/367)


أخرى. قوله: "حدثنا عمر بن حفص" أي ابن غياث الكوفي، وقوله: "مسلم:" هو ابن صبيح بالتصغير أبو الضحى مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وفي طبقته مسلم البطين وهو من رجال البخاري لكنه وإن روى عنه الأعمش لا يروي عن مسروق، وفي طبقتهما مسلم بن كيسان الأعور وليس هو من رجال الصحيح ولا له رواية عن مسروق. قوله: "خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الشعبي عن مسروق "خير نساءه" أخرجه مسلم. قوله: "فاخترنا الله ورسوله، فلم يعد" بتشديد الدال وضم العين من العدد. وفي رواية فلم "يعدد" بفك الإدغام وفي أخرى "فلم يعتد" بسكون العين وفتح المثناة وتشديد الدال من الاعتداد، وقوله: "فلم يعد ذلك علينا شيئا" في رواية مسلم: "فلم يعده طلاقا". قوله:" إسماعيل "هو ابن أبي خالد. قوله: "سألت عائشة عن الخيرة" بكسر المعجمة وفتح التحتانية بمعنى الخيار. قوله: "أفكان طلاقا؟" هو استفهام إنكار، ولأحمد عن وكيع عن إسماعيل "فهل كان طلاقا؟" وكذا للنسائي من رواية يحيى القطان عن إسماعيل. قوله: "قال مسروق: لا أبالي أخيرتها واحدة أو مائة بعد أن تختارني" هو موصول بالإسناد المذكور، وقد أخرجه مسلم من رواية علي بن مسهر عن إسماعيل فقدم كلام مسروق المذكور ولفظه عن مسروق "قال ما أبالي" فذكر مثله وزاد: "أو ألفا، ولقد سألت عائشة" فذكر حديثها، وبقول عائشة المذكور بقول جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وهو أن من خير زوجته فاختارته لا يقع عليه بذلك طلاق، لكن اختلفوا فيما إذا اختارت نفسها هل يقع طلقة واحدة رجعية أو بائنا أو يقع ثلاثا؟ وحكى الترمذي عن علي: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية، وعن زيد بن ثابت: إن اختارت نفسها فثلاث وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة، وعن عمر وابن مسعود: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وعنهما رجعية، وإن اختارت زوجها فلا شيء. ويؤيد قول الجمهور من حيث المعنى أن التخيير ترديد بين شيئين، فلو كان اختيارها لزوجها طلاقا لاتحدا، فدل على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة، وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق زاذان قال: "كنا جلوسا عند علي فسئل عن الخيار فقال: سألني عنه عمر فقلت: إن اختارت نفسها فواحدة بائن، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية، قال: ليس كما قلت، إن اختارت زوجها فلا شيء، قال: فلم أجد بدا من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت أعرف، قال علي: وأرسل عمر إلى زيد بن ثابت فقال: "فذكر مثل ما حكاه عنه الترمذي. وأخرج ابن أبي شيبة من طرق عن علي نظير ما حكاه عنه زاذان من اختياره، وأخذ مالك بقول زيد بن ثابت واحتج بعض أتباعه لكونها إذا اختارت نفسها يقع ثلاثا بأن معنى الخيار بت أحد الأمرين: إما الأخذ، وإما الترك، فلو قلنا إذا اختارت نفسها تكون طلقة رجعية لم يعمل بمقتضى اللفظ لأنها تكون بعد في أسر الزوج وتكون كمن خير بين شيئين فاختار غيرهما، وأخذ أبو حنيفة بقول عمر وابن مسعود فيما إذا اختارت نفسها فواحدة بائنة ولا يرد عليه الإيراد السابق. وقال الشافعي: التخيير كناية، فإذا خير الزوج امرأته وأراد بذلك تخييرها بين أن تطلق منه وبين أن تستمر في عصمته فاختارت نفسها وأرادت بذلك الطلاق طلقت، فلو قالت: لم أرد باختيار نفسي الطلاق صدقت، ويؤخذ من هذا أنه لو وقع التصريح في التخيير بالتطليق أن الطلاق يقع جزما، نبه على ذلك شيخنا حافظ الوقت أبو الفضل العراقي في "شرح الترمذي" ونبه صاحب. "الهداية" من الحنفية على اشتراط ذكر النفس في التخيير، فلو قال مثلا اختاري فقالت اخترت لم يكن تخييرا بين الطلاق وعدمه وهو ظاهر، لكن

(9/368)


محله الإطلاق فلو قصد ذلك بهذا اللفظ ساغ. وقال صاحب "الهداية" أيضا إن قال: "اختاري" ينوي به الطلاق فلها أن تطلق نفسها ويقع بائنا، فلو لم ينو فهو باطل، وكذا لو قال اختاري فقالت اخترت فلو نوى فقالت اخترت نفسي وقعت طلقة رجعية. وقال الخطابي: يؤخذ من قول عائشة "فاخترناه فلم يكن ذلك طلاقا" أنها لو اختارت نفسها لكان ذلك طلاقا، ووافقه القرطبي في "المفهم" فقال: في الحديث أن المخيرة إذا اختارت نفسها أن نفس ذلك الاختيار يكون طلاقا من غير احتياج إلى نطق بلفظ يدل على الطلاق، قال: وهو مقتبس من مفهوم قول عائشة المذكور. قلت: لكن ظاهر الآية أن ذلك بمجرده لا يكون طلاقا، بل لا بد من إنشاء الزوج الطلاق؛ لأن فيها {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} أي بعد الاختيار، ودلالة المنطوق مقدمه على دلالة المفهوم. واختلفوا في التخيير هل بمعنى التمليك أو بمعنى التوكيل؟ وللشافعي فيه قولان المصحح عند أصحابه أنه تمليك، وهو قول المالكية بشرط مبادرتها له حتى لو أخرت بقدر ما ينقطع القبول عن الإيجاب في العقد ثم طلقت لم يقع، وفي وجه لا يضر التأخير ما داما في المجلس وبه جزم ابن القاص، وهو الذي رجحه المالكية والحنفية، وهو قول الثوري والليث والأوزاعي. وقال ابن المنذر: الراجح أنه لا يتقيد ولا يشترط فيه الفور، بل متى طلقت نفذ، وهو قول الحسن والزهري، وبه قال أبو عبيد ومحمد بن نصر من الشافعية والطحاوي من الحنفية، وتمسكوا بحديث الباب حيث وقع فيه: "إني ذاكر لك أمرا فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك" الحديث، فإنه ظاهر في أنه فسخ لها إذ أخبرها أن لا تختار شيئا حتى تستأذن أبويها ثم تفعل ما يشيران به عليها، وذلك يقتضي عدم اشتراط الفور في جواب التخيير. قلت: ويمكن أن يقال يشترط الفور أو ما داما في المجلس عند الإطلاق، فأما لو صرح الزوج بالفسحة في تأخيره بسبب يقتضي ذلك فيتراخى، وهذا الذي وقع في قصة عائشة، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل خيار كذلك، والله أعلم.

(9/369)


باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو الخلية أو البرية أو ماعني به الطلاق فهو على نيته
...
6- باب إِذَا قَالَ فَارَقْتُكِ أَوْ سَرَّحْتُكِ أَوْ الْخَلِيَّةُ أَوْ الْبَرِيَّةُ أَوْ مَا عُنِيَ بِهِ الطَّلاَقُ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} وَقَالَ: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} وَقَالَ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقَالَ: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وَقَالَتْ عَائِشَةُ قَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ
قوله: "باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو الخلية أو البرية أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته" هكذا بت المصنف الحكم في هذه المسألة، فاقتضى أن لا صريح عنده إلا لفظ الطلاق أو ما تصرف منه، وهو قول الشافعي في القديم، ونص في الجديد على أن الصريح لفظ الطلاق والفراق والسراح لورود ذلك في القرآن بمعنى الطلاق. وحجة القديم أنه ورد في القرآن لفظ الفراق والسراح لغير الطلاق بخلاف الطلاق فإنه لم يرد إلا للطلاق، وقد رجح جماعة القديم كالطبري في "العدة" والمحاملي وغيرهما، وهو قول الحنفية، واختاره القاضي عبد الوهاب من المالكية، وحكى الدارمي عن ابن خير أن من لم يعرف إلا الطلاق فهو صريح في حقه فقط، وهو تفصيل قوي، ونحوه للروياني فإنه قال: لو قال عربي فارقتك ولم يعرف أنها صريحة لا يكون صريحا في حقه. واتفقوا على أن لفظ

(9/369)


الطلاق وما تصرف منه صريح، لكن أخرج أبو عبيد في "غريب الحديث:" من طريق عبد الله بن شهاب الخولاني عن عمر أنه "رفع إليه رجل قالت له امرأته. شبهني، فقال: كأنك ظبية، قالت: لا. قال: كأنك حمامة قالت: لا أرضى حتى تقول أنت خلية طالق، فقالها، فقال له عمر: خد بيدها فهي امرأتك" قال أبو عبيد قوله خلية طالق أي ناقة كانت معقولة ثم أطلقت من عقالها وخلى عنها فتسمى خلية لأنها خليت عن العقال؛ وطالق لأنها طلقت منه، فأراد الرجل أنها تشبه الناقة ولم يقصد الطلاق بمعنى الفراق أصلا، فأسقط عنه عمر الطلاق. قال أبو عبيد: وهذا أصل لكل من تكلم بشيء من ألفاظ الطلاق ولم يرد الفراق بل أراد غيره فالقول قوله فيه فيما بينه وبين الله تعالى ا هـ. وإلى هذا ذهب الجمهور، لكن المشكل من قصة عمر كونه رفع إليه وهو حاكم، فإن كان أجراه مجرى الفتيا ولم يكن هناك حكم فيوافق وإلا فهو من النوادر. وقد نقل الخطابي الإجماع على خلافه، لكن أثبت غيره الخلاف وعزاه لداود. وفي البويطي ما يقتضيه، وحكاه الروياني، ولكن أوله الجمهور وشرطوا قصد لفظ الطلاق لمعنى الطلاق ليخرج العجمي مثلا إذا لقن كلمة الطلاق فقالها وهو لا يعرف معناها أو العربي بالعكس، وشرطوا مع النطق بلفظ الطلاق تعمد ذلك احترازا عما يسبق به اللسان والاختيار ليخرج المكره، لكن إن أكره فقالها مع القصد إلى الطلاق وقع في الأصح. قوله: "وقول الله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} كأنه يشير إلى أن في هذه الآية لفظ التسريح بمعنى الإرسال لا بمعنى الطلاق لأنه أمر من طلق قبل الدخول أن يمتع ثم يسرح، وليس المراد من الآية تطليقها بعد التطليق قطعا. قوله: "وقال: {وَأُسَرِّحْكُنَّ} يعني قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} والتسريح في هذه الآية محتمل للتطليق والإرسال، وإذا كانت صالحة للأمرين انتفى أن تكون صريحة في الطلاق، وذلك راجع إلى الاختلاف فيما خير به النبي صلى الله عليه وسلم نساءه: هل كان في الطلاق والإقامة، فإذا اختارت نفسها طلقت وإن اختارت الإقامة لم تطلق كما تقدم تقريره في الباب قبله؟ أو كان في التخيير بين الدنيا والآخرة، فمن اختارت الدنيا طلقها ثم متعها ثم سرحها، ومن اختارت الآخرة أقرها في عصمته؟ قوله: "وقال تعالى :{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} تقدم في الباب قبله بيان الاختلاف في المراد بالتسريح هنا وأن الراجح أن المراد به التطليق. قوله: "وقال: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يريد أن هذه الآية وردت بلفظ الفراق في موضع ورودها في البقرة بلفظ السراح؛ والحكم فيهما واحد لأنه ورد في الموضعين بعد وقوع الطلاق، فليس المراد به الطلاق بل الإرسال. وقد اختلف السلف قديما وحديثا في هذه المسألة: فجاء عن علي بأسانيد يعضد بعضها بعضا وأخرجها ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما قال: "البرية والخلية والبائن والحرام والبت ثلاث ثلاث" وبه قال مالك وابن أبي ليلى والأوزاعي، لكن قال في الخلية إنها واحدة رجعية، ونقله عن الزهري وعن زيد بن ثابت في البرية والبتة والحرام ثلاث ثلاث، وعن ابن عمر في الخلية والبرية ثلاث وبه قال قتادة، ومثله عن الزهري في البرية فقط، واحتج بعض المالكية بأن قول الرجل لامرأته أنت بائن وبتة وبتلة وخلية وبرية يتضمن إيقاع الطلاق لأن معناه أنت طالق مني طلاقا تبينين به مني، أو تبت أي يقطع عصمتك مني، والبتلة بمعناه، أو تخلين به من زوجيتي أو تبرين منها، قال: وهذا لا يكون في المدخول بها إلا ثلاثا إذا لم يكن هناك خلع، وتعقب بأن الحمل على ذلك ليس صريحا والعصمة الثابتة لا ترفع بالاحتمال، وبأن من يقول إن من قال لزوجته أنت طالق طلقة بائنة إذا لم يكن هناك خلع أنها تقع رجعية مع التصريح كيف لا يقول يلغو مع التقدير

(9/370)


وبأن كل لفظة من المذكورات إذا قصد بها الطلاق ووقع وانقضت العدة أنه يتم المعنى المذكور، فلم ينحصر الأمر فيما ذكروا وإنما النظر عند الإطلاق، فالذي يترجح أن الألفاظ المذكورات وما في معناها كنايات لا يقع الطلاق بها إلا مع القصد إليه، وضابط ذلك أن كل كلام أفهم الفرقة ولو مع دقته يقع به الطلاق مع القصد، فأما إذا لم يفهم الفرقة من اللفظ فلا يقع الطلاق ولو قصد إليه، كما لو قال كلي أو اشربي أو نحو ذلك، وهذا تحرير مذهب الشافعي في ذلك. وقاله قبله الشعبي وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم، وبهذا قال الأوزاعي وأصحاب الرأي، واحتج لهم الطحاوي بحديث أبي هريرة الآتي قريبا "تجاوز الله عن أمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم" فإنه يدل على أن النية وحدها لا تؤثر إذا تجردت عن الكلام أو الفعل. وقال مالك: إذا خاطبها بأي لفظ كان وقصد الطلاق طلقت حتى لو قال يا فلانة يريد به الطلاق، وبه قال الحسن بن صالح بن حي. قوله: "وقالت عائشة: قد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه" هذا التعليق طرف من حديث التخيير، وقد تقدم عن عائشة في آخر حديث عمر في "باب موعظة الرجل ابنته" من كتاب النكاح، وبيان الاختلاف على الزهري في إسناده، وأرادت عائشة بالفراق هنا الطلاق جزما، ولا نزاع في الحمل عليه إذا قصد إليه، وإنما النزاع في الإطلاق إذا تقدم1

(9/371)


7- باب مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ
وَقَالَ الْحَسَنُ نِيَّتُهُ وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا طَلَّقَ ثَلاَثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلاَقِ وَالْفِرَاقِ وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ لِأَنَّهُ لاَ يُقَالُ لِطَعَامِ الْحِلِّ حَرَامٌ وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ حَرَامٌ وَقَالَ فِي الطَّلاَقِ ثَلاَثًا {لاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
5264- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلاَثًا قَالَ لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بِهَذَا فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلاَثًا حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ "
5265- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَطَلَّقَهَا وَكَانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ تُرِيدُهُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي وَإِنِّي تَزَوَّجْتُ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِي وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَلَمْ يَقْرَبْنِي إِلاَّ هَنَةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنِّي إِلَى شَيْءٍ فَأَحِلُّ لِزَوْجِي الأَوَّلِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ"
قوله: "باب من قال لامرأته: أنت علي حرام. وقال الحسن: نيته" أي يحمل على نيته. وهذا التعليق وصله البيهقي، ووقع لنا عاليا في "جزء محمد بن عبد الله الأنصاري" شيخ البخاري قال: "حدثنا الأشعث عن الحسن في الحرام إن نوى يمينا فيمين، وإن طلاقا فطلاق" وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن الحسن، وبهذا قال النخعي

(9/371)


والشافعي وإسحاق، وروى نحوه عن ابن مسعود وابن عمر وطاوس، وبه قال النووي لكن قال: إن نوى واحدة فهي بائن. وقال الحنفية مثله لكن قالوا: إن نوى ثنتين فهي واحدة بائنة، وإن لم ينو طلاقا فهي يمين ويصير موليا، وهو عجيب والأول أعجب. وقال الأوزاعي وأبو ثور: يمين الحرام تكفر، وروى نحوه عن أبي بكر وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس، واحتج أبو ثور بظاهر قوله تعالى :{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وسيأتي بيانه في الباب الذي بعده. وقال أبو قلابة وسعيد بن جبير: من قال لامرأته أنت علي حرام لزمته كفارة الظهار. ومثله عن أحمد. وقال الطحاوي: يحتمل أنهم أرادوا أن من أراد به الظهار كان مظاهرا، وإن لم ينوه كان عليه كفارة يمين مغلظة وهي كفارة الظهار، لا أنه يصير مظاهرا ظهارا حقيقة، وفيه بعد. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يكون مظاهرا ولو أراده. وروي عن علي وزيد بن ثابت وابن عمر والحكم وابن أبي ليلى: في الحرام ثلاث تطليقات ولا يسأل عن نيته، وبه قال مالك، وعن مسروق والشعبي وربيعة: لا شيء فيه، وبه قال أصبغ من المالكية. وفي المسألة اختلاف كثير عن السلف بلغها القرطبي المفسر إلى ثمانية عشر قولا، وزاد غيره عليها. وفي مذهب مالك فيها تفاصيل أيضا يطول استيعابها. قال القرطبي: قال بعض علمائنا سبب الاختلاف أنه لم يقع في القرآن صريحا ولا في السنة نص ظاهر صحيح يعتمد عليه في حكم هذه المسألة، فتجاذبها العلماء، فمن تمسك بالبراءة الأصلية قال لا يلزمه شيء، ومن قال إنها يمين أخذ بظاهر قوله تعالى :{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} بعد قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، ومن قال تجب الكفارة وليست بيمين بناه على أن معنى اليمين التحريم فوقعت الكفارة على المعنى، ومن قال تقع به طلقة رجعية حمل اللفظ على أقل وجوهه الظاهرة وأقل ما تحرم به المرأة طلقة تحرم الوطء ما لم يرتجعها، ومن قال بائنة فلاستمرار ا التحريم بها ما لم يجدد العقد، ومن قال ثلاث حمل اللفظ على منتهى وجوهه، ومن قال ظهار نظر إلى معنى التحريم وقطع النظر عن الطلاق فانحصر الأمر عنده في الظهار، والله أعلم. قوله: "وقال أهل العلم: إذا طلق ثلاثا فقد حرمت عليه فسموه حراما بالطلاق والفراق" أي فلا بد أن يصرح القائل بالطلاق أو يقصد إليه، فلو أطلق أو نوى عير الطلاق فهو محل النظر. قوله: "وليس هذا كالذي يحرم الطعام، لأنه لا يقال للطعام الحل حرام ويقال للمطلقة حرام. وقال في الطلاق ثلاثا: لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" قال المهلب: من نعم الله على هذه الأمة فيما خفف عنهم أن من قبلهم كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئا حرم عليهم كما وقع ليعقوب عليه السلام، فخفف الله ذلك عن هذه الأمة، ونهاهم أن يحرموا على أنفسهم شيئا مما أحل لهم فقال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} ا هـ. وأظن البخاري أشار إلى ما تقدم عن أصبغ وغيره ممن سوى بين الزوجة وبين الطعام والشراب كما تقدم نقله عنهم، فبين أن الشيئين وإن استويا من جهة فقد يفترقان من جهة أخرى، فالزوجة إذا حرمها الرجل على نفسه وأراد بذلك تطليقها حرمت، والطعام والشراب إذا حرمه على نفسه لم يحرم، ولهذا احتج باتفاقهم على أن المرأة بالطلقة الثالثة تحرم على الزوج لقوله تعالى :{فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وورد عن ابن عباس ما يؤيد ذلك، فأخرج يزيد بن هارون في كتاب النكاح ومن طريقه البيهقي بسند صحيح عن يوسف بن ماهك "أن أعرابيا أتى ابن عباس فقال: إني جعلت امرأتي حراما، قال: ليست عليك بحرام. قال: أرأيت قول الله تعالى :{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ

(9/372)


عَلَى نَفْسِهِ} الآية؟ فقال ابن عباس: إن إسرائيل كان به عرق النسا فجعل على نفسه إن شفاه الله أن لا يأكل العروق من كل شيء، وليست بحرام يعني على هذه الأمة". وقد اختلف العلماء فيمن حرم على نفسه شيئا، فقال الشافعي: إن حرم زوجته أو أمته ولم يقصد الطلاق ولا الظهار ولا العتق فعليه كفارة يمين، وإن حرم طعاما أو شرابا فلغو. وقال أحمد: عليه في الجميع كفارة يمين. وتقدم بيان بقية الاختلاف في الباب الذي قبله. قال البيهقي بعد أن أخرج الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه بسند رجاله ثقات من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق "عن عائشة قالت: آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم، فجعل الحرام حلالا، وجعل في اليمين كفارة" قال فإن في هذا الخبر تقوية لقول من قال إن لفظ الحرام لا يكون بإطلاقه طلاقا ولا ظهارا ولا يمينا. قوله: "وقال الليث عن نافع قال: كان ابن عمر إذا سئل عمن طلق ثلاثا قال: لو طلقت مرة أو مرتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، فإن طلقها ثلاثا حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك" كذا للأكثر وفي رواية الكشميهني: "فإن طلقها وحرمت عليه" بضمير الغائب في الموضعين، وهذا الحديث مختصر من قصة تطليق ابن عمر امرأته وقد سبق شرحه في أول الطلاق، وظن ابن التين أن هذا جملة الخبر فاستشكل على مذهب مالك قولهم إن الجمع بين تطليقتين بدعة، قال والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالبدعة، وجوابه أن الإشارة في قول ابن عمر "فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بذلك" إلى ما أمره من ارتجاع امرأته في آخر الحديث، ولم يرد ابن عمر أنه أمره أن يطلق امرأته مرة أو مرتين وإنما هو كلام ابن عمر، ففصل لسائله حال المطلق. وقد روينا الحديث المذكور من طريق الليث التي علقها البخاري مطولا موصولا عاليا في "جزء أبي الجهم العلاء بن موسى الباهلي" رواية أبي القاسم البغوي عنه عن الليث، وفي أوله قصة ابن عمر في طلاق امرأته، وبعده "قال نافع وكان ابن عمر" إلخ وأخرج مسلم الحديث من طريق الليث لكن ليس بتمامه. وقال الكرماني: قوله: "لو طلقت" جزاؤه محذوف تقديره لكان خيرا أو هو للتمني فلا يحتاج إلى جواب وليس كما قال بل الجواب: لكان لك الرجعة لقوله: "فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا" والتقدير فإن كان في طهر لم يجامعها فيه كان طلاق سنة، وإن وقع في الحيض كان طلاق بدعة، ومطلق البدعة ينبغي أن يبادر إلى الرجعة. ولهذا قال: "فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا" أي بالمراجعة لما طلقت الحائض، وقسيم ذلك وله "وإن طلقت ثلاثا" وكأن ابن عمر ألحق الجمع بين المرتين بالواحدة فسوى بينهما، وإلا فالذي وقع منه إنما هو واحدة كما تقدم بيانه صريحا هناك وأراد البخاري بإيراد هذا هنا الاستشهاد بقول ابن عمر "حرمت عليك" فسماها حراما بالتطليق ثلاثا كأنه يريد أنها لا تصير حراما بمجرد قوله أنت علي حرام حتى يريد به الطلاق أو يطلقها بائنا، وخفي هذا على الشيخ مغلطاي ومن تبعه فنفوا مناسبة هذا الحديث للترجمة، ولكن عرج شيخنا ابن الملقن تلويحا على شيء مما أشرت إليه. ذكر المصنف حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة لقوله فيه: "لا تحلين لزوجك الأول حتى يذوق الآخر عسيلتك" وسيأتي شرحه قريبا. وقوله في هذه الرواية: "فلم يقربني إلا هنة واحدة" هو بلفظ حرف الاستثناء، والتي بعده بفتح الهاء وتخفيف النون، وحكى الهروي تشديدها وقد أنكره الأزهري قبله. وقال الخليل: هي كلمة يكني بها عن الشيء يستحيا من ذكره باسمه، قال ابن التين معناه لم يطأني إلا مرة واحدة يقال هن امرأته إذا غشيها. ونقل الكرماني أنه في أكثر النسخ بموحدة ثقيلة أي مرة، والذي ذكر صاحب "المشارق" أن الذي رواه بالموحدة هو ابن السكن قال: وعند الكافة بالنون، وحكى في معنى هبة بالموحدة ما تقدم وهو أن المراد بها مرة واحدة،

(9/373)


قال وقيل المراد بالهبة الوقعة يقال حدر هبة السيف أي وقعته، وقيل هي من هب إذا احتاج إلى الجماع يقال هب التيس يهب هبيبا. "تنبيه": زعم ابن بطال أن البخاري يرى أن التحريم يتنزل منزلة الطلاق الثلاث، وشرح كلامه على ذلك فقال بعد أن ساق الاختلاف في المسألة: وفي قول مسروق ما أبالي حرمت امرأتي أو جفنة ثريد، وقول الشعبي أنت علي حرام أهون من فعلي هذا القول شذوذ، وعليه رد البخاري، قال واحتج من ذهب أن من حرم زوجته أنها ثلاث تطليقات بالإجماع على أن من طلق امرأته ثلاثا أنها تحرم عليه، قال فلما كانت الثلاث تحرمها كان التحريم ثلاثا، قال وإلى هذه الحجة أشار البخاري بإيراد حديث رفاعة لأنه طلق امرأته ثلاثا فلم تحل له مراجعتها إلا بعد زوج، فكذلك من حرم على نفسه امرأته فهو كمن طلقها ا هـ. وقيما قاله نظر، والذي يظهر من مذهب البخاري أن الحرام ينصرف إلى نية القائل، ولذلك صدر الباب بقول الحسن البصري، وهذه عادته في موضع الاختلاف مهما صدر به من النقل عن صحابي أو تابعي فهو اختياره، وحاشا البخاري أن يستدل بكون الثلاث تحرم أن كل تحريم له حكم الثلاث مع ظهور منع الحصر، لأن الطلقة الواحدة تحرم غير المدخول بها مطلقا والبائن تحرم المدخول بها إلا بعد عقد جديد، وكذلك الرجعية إذا انقضت عدتها فلم ينحصر التحريم في الثلاث، وأيضا فالتحريم أعم من التطليق ثلاثا فكيف يستدل بالأعم على الأخص؟ ومما يؤيد ما اخترناه أولا تعقيب البخاري الباب بترجمة {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وساق فيه قول ابن عباس "إذا حرم امرأته فليس بشيء" كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(9/374)


باب لم تحرم ماأحل الله لك
...
8- باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
5266- حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ سَمِعَ الرَّبِيعَ بْنَ نَافِعٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}"
5267- حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ لاَ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إِلَى إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} لِقَوْلِهِ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا"
5268- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ

(9/374)


فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ فَغِرْتُ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ فَسَقَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَرْبَةً فَقُلْتُ أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ إِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَإِذَا دَنَا مِنْكِ فَقُولِي أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ لاَ فَقُولِي لَهُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ فَقُولِي لَهُ جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ وَسَأَقُولُ ذَلِكِ وَقُولِي أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ ذَاكِ قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَامَ عَلَى الْبَابِ فَأَرَدْتُ أَنْ أُبَادِيَهُ بِمَا أَمَرْتِنِي بِهِ فَرَقًا مِنْكِ فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ قَالَ لاَ قَالَتْ فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ قَالَ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ فَقَالَتْ جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ فَلَمَّا دَارَ إِلَيَّ قُلْتُ لَهُ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ أَسْقِيكَ مِنْهُ قَالَ لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ قُلْتُ لَهَا اسْكُتِي"
قوله: "باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} كذا للأكثر وسقط من رواية النسفي لفظ: "باب" ووقع بدله "قوله تعالى". قوله: "حدثني الحسن بن الصباح" هو البزار آخره راء مهملة وهو واسطي نزل بغداد، وثقه الجمهور ولينه النسائي قليلا. وأخرج عنه البخاري في الإيمان والصلاة وغيرهما فلم يكثر. وأخرج البخاري عن الحسن بن الصباح الزعفراني، لكن إذا وقع هكذا يكون نسب لجده فهو الحسن بن محمد بن الصباح وهو المروي عنه في الحديث الثاني من هذا الباب، وفي الرواة من شيوخ البخاري ومن في طبقتهم محمد بن الصباح الدولابي أخرج عنه البخاري في الصلاة والبيوع وغيرهما، وليس هو أخا للحسن بن الصباح ومحمد بن الصباح الجرجرائي أخرج عنه أبو داود وابن ماجه، وهو غير الدولابي، وعبد الله بن الصباح العطار أخرج عنه البخاري في البيوع وغيره وليس أحد من هؤلاء أخا للآخر. قوله: "سمع الربيع بن نافع" أي أنه سمع ولفظ: "أنه" يحذف خطا وينطق به، وقل من نبه عليه كما وقع التنبيه على لفظ: "قال". والربيع بن نافع هو أبو توبة بفتح المثناة وسكون الواو بعدها موحدة مشهور بكنيته أكثر من اسمه، حلبي نزل طرسوس، أخرج عنه الستة إلا الترمذي بواسطة إلا أبا داود فأخرج عنه الكثير بغير واسطة وأخرج عنه بواسطة أيضا. وأدركه البخاري ولكن لم أر له عنه في هذا الكتاب شيئا بغير واسطة. وأخرج عنه بواسطة إلا الموضع المتقدم في المزارعة فإنه قال فيه: "قال الربيع بن نافع" ولم يقل "حدثنا" فما أدري لقيه أو لم يلقه، وليس له عنده إلا هذان الموضعان. قوله: "حدثنا معاوية" هو ابن سلام بتشديد اللام وشيخه يحيى ومن فوقه ثلاثة من التابعين في نسق. قوله: "إذا حرم امرأته ليس بشيء" كذا للكشمهيني وللأكثر "ليست" أي الكلمة وهي قوله أنت علي حرام أو محرمة أو نحو ذلك. قوله: "وقال" أي ابن عباس مستدلا على ما ذهب إليه بقوله تعالى :{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} يشير بذلك إلى قصة التحريم، وقد وقع بسط ذلك في تفسير سورة التحريم، وذكرت في "باب موعظة الرجل ابنته" في كتاب النكاح في شرح الحديث المطول في ذلك من رواية ابن عباس عن عمر بيان الاختلاف هل المراد تحريم العسل أو تحريم ماريه وأنه قيل في

(9/375)


السبب غير ذلك، واستوعبت ما يتعلق بوجه الجمع بين تلك الأقوال بحمد الله تعالى. وقد أخرج النسائي بسند صحيح عن أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى هذه الآية : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وهذا أصح طرق هذا السبب، وله شاهد مرسل أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي الشهير قال: "أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم ولده في بيت بعض نسائه، فقالت: يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي، فجعلها عليه حراما، فقالت: يا رسول الله كيف تحرم عليك الحلال! فحلف لها بالله لا يصيبها، فنزلت {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قال زيد بن أسلم: فقول الرجل لامرأته أنت علي حرام لغو، وإنما تلزمه كفارة يمين إن حلف. وقوله: "ليس بشيء" يحتمل أن يريد بالنفي التطليق، ويحتمل أن يريد به ما هو أعم من ذلك والأول أقرب، ويؤيده ما تقدم في التفسير من طريق هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد موضعها "في الحرام يكفر" وأخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن المبارك الصوري عن معاوية بن سلام بإسناد حديث الباب بلفظ: "إذا حرم الرجل امرأته فإنما هي يمين يكفرها" فعرف أن المراد بقوله: "ليس بشيء" أي ليس بطلاق. وأخرج النسائي وابن مردويه من طريق سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "أن رجلا جاءه فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما، قال: كذبت ما هي بحرام، ثم تلا: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ثم قال له "عليك رقبة"، ا هـ وكأنه أشار عليه بالرقبة لأنه عرف أنه موسر، فأراد أن يكفر بالأغلظ من كفارة اليمين لا أنه تعين عليه عتق الرقبة، ويدل عليه ما تقدم عنه من التصريح بكفارة اليمين. ثم ذكر المصنف حديث عائشة في قصة شرب النبي صلى الله عليه وسلم العسل عند بعض نسائه فأورده من وجهين: أحدهما من طريق عبيد بن عمير عن عائشة وفيه أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش، والثاني من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وفيه أن شرب العسل كان عند حفصة بنت عمر، فهذا ما في الصحيحين. وأخرج ابن مردويه من طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن شرب العسل كان عند سودة، وأن عائشة وحفصة هما اللتان تواطأتا على وفق ما في رواية عبيد بن عمير وإن اختلفا في صاحبة العسل. وطريق الجمع بين هذا الاختلاف الحمل على التعدد فلا يمتنع تعدد السبب للأمر الواحد، فإن جنح إلى الترجيح فرواية عبيد بن عمير أثبت لموافقة ابن عباس لها على أن المتظاهرتين حفصة وعائشة على ما تقدم في التفسير وفي الطلاق من جزم عمر بذلك، فلو كانت حفصة صاحبة العسل لم تقرن في التظاهر بعائشة، لكن يمكن تعدد القصة في شرب العسل وتحريمه واختصاص النزول بالقصة التي فيها أن عائشة وحفصة هما المتظاهرتان، ويمكن أن تكون القصة التي وقع فيها شرب العسل عند حفصة كانت سابقة. ويؤيد هذا الحمل أنه لم يقع في طريق هشام بن عروة التي فيها أن شرب العسل كان عند حفصة تعرض للآية ولا لذكر سبب النزول، والراجح أيضا أن صاحبة العسل زينب لا سودة لأن طريق عبيد بن عمير أثبت من طريق ابن أبي مليكة بكثير، ولا جائز أن تتحد بطريق هشام بن عروة لأن فيها أن سودة كانت ممن وافق عائشة على قولها "أجد ريح مغافير" ويرجحه أيضا ما مضى في كتاب الهبة عن عائشة "إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن حزبين: أنا وسودة وحفصة وصفية في حزب، وزينب بنت جحش وأم سلمة والباقيات في حزب" فهذا يرجح أن زينب هي صاحبة العسل ولهذا غارت عائشة منها لكونا من غير حزبها والله أعلم، وهذا أولى من جزم الداودي بأن تسمية التي شربت العسل حفصة غلط وإنما هي صفية بنت حيي أو زينب بنت جحش، وممن جنح إلى الترجيح عياض،

(9/376)


ومنه تلقف القرطبي، وكذا نقله النووي عن عياض وأقره فقال عياض: رواية عبيد بن عمير أولى لموافقتها ظاهر كتاب الله، لأن فيه {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} فهما ثنتان لا أكثر، ولحديث ابن عباس عن عمر، قال فكأن الأسماء انقلبت على راوي الرواية الأخرى، وتعقب الكرماني مقالة عياض فأجاد فقال: متى جوزنا هذا ارتفع الوثوق بأكثر الروايات. وقال القرطبي: الرواية التي فيها أن المتظاهرات عائشة وسودة وصفية ليست بصحيحة لأنها مخالفة للتلاوة لمجيئها بلفظ خطاب الاثنين ولو كانت كذلك لجاءت بخطاب جماعة المؤنث. ثم نقل عن الأصيلي وغيره أن رواية عبيد بن عمير أصح وأولى، وما المانع أن تكون قصة حفصة سابقة، فلما قيل له ما قيل ترك الشرب من غير تصريح بتحريم ولم ينزل في ذلك شيء، ثم لما شرب في بيت زينب تظاهرت عائشة وحفصة على ذلك القول فحرم حينئذ العسل فنزلت الآية. قال: وأما ذكر سودة مع الجزم بالتثنية فيمن تظاهر منهن فباعتبار أنها كانت كالتابعة لعائشة ولهذا وهبت يومها لها، فإن كان ذلك قبل الهبة فلا اعتراض بدخوله عليها، وإن كان بعده فلا يمتنع هبتها يومها لعائشة أن يتردد إلى سودة. قلت: لا حاجة إلى الاعتذار عن ذلك، فإن ذكر سودة إنما جاء في قصة شرب العسل عند حفصة ولا تثنية فيه ولا نزول على ما تقدم من الجمع الذي ذكره، وأما قصة العسل عند زينب بنت جحش فقد صرح فيه بأن عائشة قالت: "تواطأت أنا وحفصة" فهو مطابق لما جزم به عمر من أن المتظاهرتين عائشة وحفصة وموافق لظاهر الآية والله أعلم. ووجدت لقصة شرب العسل عند حفصة شاهدا في تفسير ابن مردويه من طريق يزيد بن رومان عن ابن عباس ورواته لا بأس بهم، وقد أشرت إلى غالب ألفاظه، ووقع تفسير السدي أن شرب العسل كان عند أم سلمة أخرجه الطبري وغيره وهو مرجوح لإرساله وشذوذه، والله أعلم. قوله: "حدثنا حجاج" هو ابن محمد المصيصي. قوله: "زعم عطاء" هو ابن أبي رباح، وأهل الحجاز يطلقون الزعم على مطلق القول. ووقع في رواية هشام ابن يوسف عن ابن جريج عن عطاء وقد مضى في التفسير. قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا" في رواية هشام "يشرب عسلا عند زينب ثم يمكث عندها" ولا مغايرة بينهما لأن الواو لا ترتب. قوله: "فتواصيت" كذا هنا بالصاد من المواصاة. وفي رواية هشام "فتواطيت" بالطاء من المواطأة، وأصله تواطأت بالهمزة فسهلت الهمزة فصارت ياء، وثبت كذلك في رواية أبي ذر. قوله: "أن أيتنا دخل" في رواية أحمد عن حجاج بن محمد "أن أيتنا ما دخل" بزيادة ما وهي زائدة. قوله: "إني لأجد ريح مغافير، أكلت مغافير" في رواية هشام بتقديم أكلت مغافير وتأخير إني أجد. وأكلت استفهام محذوف الأداة، والمغافير بالغين المعجمة والفاء وبإثبات التحتانية بعد الفاء في جميع نسخ البخاري، ووقع في بعض النسخ عن مسلم في بعض المواضع من الحديث بحذفها، قال عياض والصواب إثباتها لأنها عوض من الواو التي في المفرد وإنما حذفت في ضرورة الشعر ا هـ، ومراده أن المغافير جمع مغفور بضم أوله ويقال بثاء مثلثة بدل الفاء حكاه أبو حنيفة الدينوري في النبات، قال ابن قتيبة: ليس في الكلام مفعول بضم أوله إلا مغفور ومغزول بالغين المعجمة من أسماء الكمأة ومنخور بالخاء المعجمة من أسماء الأنف ومغلوق بالغين المعجمة واحد المغاليق، قال: والمغفور صمغ حلو له رائحة كريهة، وذكر البخاري أن المغفور شبيه بالصمغ يكون في الرمث يكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة وهو من الشجر التي ترعاها الإبل وهو من الحمض، وفي الصمغ المذكور حلاوة، يقال أغفر الرمث إذا ظهر ذلك فيه. وذكر أبو زيد الأنصاري أن المغفور يكون

(9/377)


أيضا في العشر بضم المهملة وفتح المعجمة، وفي الثمام والسلم والطلح. واختلف في ميم مغفور فقيل زائدة وهو قول الفراء وعند الجمهور أنها من أصل الكلمة، ويقال له أيضا مغفار بكسر أوله ومغفر بضم أوله وبفتحه وبكسره عن الكسائي والفاء مفتوحة في الجميع. وقال عياض: زعم المهلب أن رائحة المغافير والعرفط حسنة وهو خلاف ما يقتضيه الحديث وخلاف ما قاله أهل اللغة ا هـ، ولعل المهلب قال: "خبيثة" بمعجمة ثم موحدة ثم تحتانية ثم مثلثة فتصحفت أو استند إلى ما نقل عن الخليل وقد نسبه ابن بطال إلى العين أن العرفط شجر العضاه والعضاه كل شجر له شوك وإذا استيك به كانت له رائحة حسنة تشبه رائحة طيب النبيذ ا هـ، وعلى هذا فيكون ريح عيدان العرفط طيبا وريح الصمغ الذي يسيل منه غير طيبة ولا منافاة في ذلك ولا تصحيف، وقد حكى القرطبي في "المفهم" أن رائحة ورق العرفط طيبة فإذا رعته الإبل خبثت رائحته، وهذا طريق آخر في الجمع حسن جدا. قوله: "فدخل على إحداهما" لم أقف على تعيينها، وأظنها حفصة. قوله: "فقال لا بأس شربت عسلا" كذا وقع هنا في رواية أبي ذر عن شيوخه، ووقع للباقين "لا بل شربت عسلا" وكذا وقع كتاب الأيمان والنذور للجميع حيث ساقة المصنف من هذا الوجه إسنادا ومتنا، كذا أخرجه أحمد عن حجاج ومسلم وأصحاب السنن والمستخرجات من طريق حجاج، فظهر أن لفظة "بأس" هنا مغيرة من لفظه: "بل" وفي رواية هشام "فقال لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش". قوله: "ولن أعود له" زاد في رواية هشام "وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا" وبهذه الزيادة تظهر مناسبة قوله في رواية حجاج بن محمد فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}" قال عياض حذفت هذه الزيادة من رواية حجاج بن محمد فصار النظم مشكلا، فزال الإشكال برواية هشام بن يوسف. واستدل القرطبي وغيره بقوله: "حلفت" على أن الكفارة التي أشير إليها في قوله تعالى :{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} هي عن اليمين التي أشار إليها بقوله: "حلفت" فتكون الكفارة لأجل اليمين لا لمجرد التحريم، وهو استدلال قوي لمن يقول إن التحريم لغو لا كفارة فيه بمجرده، وحمل بعضهم قوله: "حلفت" على التحريم ولا يخفى بعده، والله أعلم قوله: "إن تتوبا إلى الله" أي تلا من أول السورة إلى هذا الموضع "فقال لعائشة وحفصة" أي الخطاب لهما، ووقع في رواية غير أبي ذر "فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله : {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} وهذا أوضح من رواية أبي ذر. قوله: "وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا، لقوله بل شربت عسلا" هذا القدر بقية الحديث، كنت أظنه من ترجمة البخاري على ظاهر ما سأذكره عن رواية النسفي حتى وجدته مذكورا في آخر الحديث عند مسلم وكأن المعنى: وأما المراد بقوله تعالى :{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} "فهو لأجل قوله: "بل شربت عسلا"، والنكتة فيه أن هذه الآية داخلة في الآيات الماضية لأنها قبل قوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} واتفقت الروايات عن البخاري على هذا إلا النسفي فوقع عنده بعد قوله: "فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ما صورته: قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لعائشة وحفصة {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} لقوله: "بل شربت عسلا" فجعل بقية الحديث ترجمة للحديث الذي يليه، والصواب ما وقع عند الجماعة لموافقة مسلم وغيره على أن ذلك من بقية حديث ابن عمير. قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل والحلوى" قد أفرد هذا القدر من هذا الحديث كما سيأتي في الأطعمة وفي الأشربة وفي غيرهما من طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة، وهو عنده بتقديم الحلوى على العسل، ولتقديم كل منهما على الآخر جهة من جهات التقديم، فتقديم العسل لشرفه

(9/378)


ولأنه أصل من أصول الحلوى ولأنه مفرد والحلوى مركبة، وتقديم الحلوى لشمولها وتنوعها لأنها تتخذ من العسل ومن غيره، وليس ذلك من عطف العام على الخاص كما زعم بعضهم وإنما العام الذي يدخل الجميع فيه، الحلو بضم أوله وليس بعد الواو شيء، ووقعت الحلواء في أكثر الروايات عن أبي أسامة بالمد وفي بعضها بالقصر وهي رواية علي بن مسهر، وذكرت عائشة هذا القدر في أول الحديث تمهيدا لما سيذكره من قصة العسل، وسأذكر ما يتعلق بالحلوى والعسل مبسوطا في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى. قوله: "وكان إذا انصرف من العصر" كذا للأكثر، وخالفهم حماد بن سلمة عن هشام بن عروة فقال: "الفجر" أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن أبي النغمان عن حماد، ويساعده رواية يزيد بن رومان عن ابن عباس ففيها "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه وجلس الناس حوله حتى تطلع الشمس، ثم يدخل على نسائه امرأة امرأة يسلم عليهن ويدعو لهن، فإذا كان يوم إحداهن كان عندها" الحديث أخرجه ابن مردويه، ويمكن الجمع بأن الذي كان يقع في أول النهار سلاما ودعاء محضا، والذي في آخره معه جلوس واستئناس ومحادثة، لكن المحفوظ في حديث عائشة ذكر العصر ورواية حماد بن سلمة شاذة. قوله: "دخل على نسائه" في رواية أبي أسامة أجاز إلى نسائه أي مشى، ويجيء بمعنى قطع المسافة ومنه فأكون أنا وأمتي أول من يجيز أي أول من يقطع مسافة الصراط. قوله: "فيدنو منهن" أي فيقبل ويباشر من غير جماع كما في الرواية الأخرى. قوله: "فاحتبس" أي أقام، زاد أبو أسامة "عندها". قوله:" فسألت عن ذلك" ووقع في حديث ابن عباس بيان ذلك ولفظه: "فأنكرت عائشة احتباسه عند حفصة فقالت لجويرية حبشيه عندها يقال لها خضراء: إذا دخل على حفصة فادخلي عليها فانظري ما يصنع". قوله: "أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل" لم أقف على اسم هذه المرأة ووقع في حديث ابن عباس "أنها أهديت لحفصة عكة فيها عسل من الطائف". قوله: "فقلت لسودة بنت زمعة أنه سيدنو منك" في رواية أبي أسامة "فذكرت ذلك لسودة وقلت لها: إنه إذا دخل عليك سيدنو منك" وفي رواية حماد بن سلمة "إذا دخل على إحداكن فلتأخذ بأنفها، فإذا قال: ما شأنك؟ فقولي: ريح المغافير" وقد تقدم شرح المغافير قبل. قوله: "سقتني حفصة شربة عسل" في رواية حماد بن سلمة "إنما هي عسيلة سقتنيها حفصة". قوله: "جرست" بفتح الجيم والراء بعدها مهملة أي رعت نحل هذا العسل الذي شربته الشجر المعروف بالعرفط، وأصل الجرس الصوت الخفي، ومنه في حديث صفة الجنة "يسمع جرس الطير" ولا يقال جرس بمعنى رعي إلا للنحل. وقال الخليل جرست النحل العسل تجرسه جرسا إذا لحسته. وفي رواية حماد بن سلمة "جرست نحلها العرفط إذا" والضمير للعسيلة على ما وقع في روايته. قوله: "العرفط" بضم المهملة والفاء بينهما راء ساكنة وآخره طاء مهملة هو الشجر الذي صمغه المغافير، قال ابن قتيبة: هو نبات مر له ورقة عريضة تفرش بالأرض وله شوكة وثمرة بيضاء كالقطن مثل زر القميص، وهو خبيث الرائحة. قلت: وقد تقدم في حكاية عياض عن المهلب ما يتعلق برائحة العرفط والبحث معه فيه قبل. قوله: "وقولي أنت يا صفية" أي بنت حيي أم المؤمنين. وفي رواية أبي أسامة "وقوليه أنت يا صفية" أي قولي، الكلام الذي علمته لسودة، زاد أبو أسامة في روايته: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح" أي الغير الطيب. وفي رواية يزيد بن رومان عن ابن عباس "وكان أشد شيء عليه أن يوجد منه ريح سيئ" وفي رواية حماد بن سلمة "وكان يكره أن يوجد منه ريح كريهة لأنه يأتيه الملك" وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس "وكان يعجبه أن يوجد منه الريح الطيب". قوله:

(9/379)


"قالت تقول سودة: فوالله ما هو إلا أن قام على الباب فأردت أن أبادئه بالذي أمرتني به فرقا منك" أي خوفا. وفي رواية أبي أسامة "فلما دخل على سودة قالت تقول سودة: والله لقد كدت أن أبادره بالذي قلت لي" وضبط "أبادئه" في أكثر الروايات بالموحدة من المبادأة وهي بالهمزة، وفي بعضها بالنون بغير همزة من المناداة، وأما أبادره في رواية أبي أسامة فمن المبادرة، ووقع فيها عند الكشميهني والأصيلي وأبي الوقت كالأول بالهمزة بدل الراء. وفي رواية ابن عساكر بالنون. قوله: "فلما دار إلى قلت نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك" كذا في هذه الرواية بلفظ نحو عند إسناد القول لعائشة وبلفظ مثل عند إسناده لصفية، ولعل السر فيه أت عائشة لما كانت المبتكرة لذلك عبرت عنه بأي لفظ حسن ببالها حينئذ فلهذا قالت نحو ولم تقل مثل، وأما صفية فإنها مأمورة بقول شيء فليس لها فيه تصرف، إذ لو تصرفت فيه لخشيت من غضب الآمرة لها، فلهذا عبرت عنه بلفظ مثل، هذا الذي ظهر لي في الفرق أو لا، ثم راجعت سياق أبي أسامة فوجدته عبر بالمثل في الموضعين، فغلب على الظن أن تغيير ذلك من تصرف الرواة والله أعلم. قوله: "فلما دار إلى حفصة" أي في اليوم الثاني. قوله: "لا حاجة لي فيه" كأنه اجتنبه لما وقع عنده من توارد النسوة الثلاث على أنه نشأت من شربه له ريح منكرة فتركه حسما للمادة. قوله: "تقول سودة" زاد ابن أبي أسامة في روايته: "سبحان الله". قوله: "والله لقد حرمناه" بتخفيف الراء أي منعناه. قوله: "قلت لها اسكتي" كأنها خشيت أن يفشو ذلك فيظهر ما دبرته من كيدها لحفصة. وفي الحديث من الفوائد ما جبل عليه النساء من الغيرة، وأن الغيراء تعذر فيما يقع منها من الاحتيال فيما يدفع عنها ترفع ضرتها عليها بأي وجه كان، وترجم عليه المصنف في كتاب ترك الحيل "ما يكره من احتيال المرأة من الزوج والضرائر" وفيه الأخذ بالحزم في الأمور وترك ما يشتبه الأمر فيه من المباح خشية من الوقوع في المحذور. وفيه ما يشهد بعلو مرتبة عائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت ضرتها تهابها وتطيعها في كل شيء تأمرها به حتى في مثل هذا الأمر مع الزوج الذي هو أرفع الناس قدرا. وفيه إشارة إلى ورع سودة لما ظهر منها من التندم على ما فعلت لأنها وافقت أولا على دفع ترفع حفصة عليهن بمزيد الجلوس عندها بسبب العسل، ورأت أن التوصل إلى بلوغ المراد من ذلك لحسم مادة شرب العسل الذي هو سبب الإقامة، لكن أنكرت بعد ذلك أنه يترتب عليه منع النبي صلى الله عليه وسلم من أمر كان يشتهيه وهو شرب العسل مع ما تقدم من اعتراف عائشة الآمرة لها بذلك في صدر الحديث، فأخذت سودة تتعجب مما وقع منهن في ذلك، ولم تجسر على التصريح بالإنكار، ولا راجعت عائشة بعد ذلك لما قالت لها "اسكتي" بل أطاعتها وسكتت لما تقدم من اعتذارها في أنها كانت تهابها وإنما كانت تهابها لما تعلم من مزيد حب النبي صلى الله عليه وسلم لها أكثر منهن، فخشيت إذا خالفتها أن تغضبها، وإذا أغضبتها لا تأمن أن تغير عليها خاطر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحتمل ذلك، فهذا معنى خوفها منها. وفيه أن عماد القسم الليل، وأن النهار يجوز الاجتماع فيه بالجميع لكن بشرط أن لا تقع المجامعة إلا مع التي هو في نوبتها كما تقدم تقريره. وفيه استعمال الكنايات فيما يستحيا من ذكره لقوله في الحديث: "فيدنو منهن" والمراد فيقبل ونحو ذلك، ويحقق ذلك قول عائشة لسودة "إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك، فقولي له إني أجد كذا" وهذا إنما يتحقق بقرب الفم من الأنف، ولا سيما إذا لم تكن الرائحة طافحة، بل المقام يقتضي أن الرائحة لم تكن طافحة لأنها لو كانت طافحة لكانت بحيث يدركها النبي صلى الله عليه وسلم ولأنكر عليها عدم وجودها منه، فلما أقر على ذلك دل على ما قررناه أنها لو قدر وجودها لكانت خفية وإذا كانت خفية لم تدرك بمجرد المجالسة والمحادثة

(9/380)


من غير قرب الفم من الأنف، والله أعلم.

(9/381)


باب لاطلاق قبل نكاح
...
9- باب لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَعَلَ اللَّهُ الطَّلاَقَ بَعْدَ النِّكَاحِ وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ وَشُرَيْحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَمْرِو بْنِ هَرِمٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهَا لاَ تَطْلُقُ"
قوله: "باب لا طلاق قبل نكاح، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} سقط من رواية أبي ذر "لا طلاق قبل نكاح" وثبت عنده {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فساق من الآية إلى قوله: {مِنْ عِدَّةٍ} وحذف الباقي وقال: الآية. واقتصر النسفي على قوله: "باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية" قال ابن التين: احتجاج البخاري بهذه الآية على عدم الوقوع لا دلالة فيه. وقال ابن المنير: ليس فيها دليل لأنها إخبار عن صورة وقع فيها الطلاق بعد النكاح، ولا حصر هناك، وليس في السياق ما يقتضيه. قلت: المحتج بالآية لذلك قبل البخاري ترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما سأذكره. قوله: "وقال ابن عباس جعل الله الطلاق بعد النكاح" هذا التعليق طرف من أثر أخرجه أحمد فيما رواه عنه حرب من مسائله من طريق قتادة عن عكرمة عنه وقال: سنده جيد. وأخرج الحاكم من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما قالها ابن مسعود وإن يكن قالها فزلة من عالم في الرجل يقول إذا تزوجت فلانة فهي طالق، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولم يقل إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن؛ وروى ابن خزيمة والبيهقي من طريقه من وجه آخر عن سعيد بن جبير "سئل ابن عباس عن الرجل يقول: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، قال: ليس بشيء، إنما الطلاق لما ملك. قالوا فابن مسعود قال إذا وقت وقتا فهو كما قال، قال: يرحم الله أبا عبد الرحمن لو كان كما قال لقال الله إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن" وروى عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير "عن ابن عباس قال سأله مروان عن نسيب له وقت امرأة إن أتزوجها فهي طالق، فقال ابن عباس: لا طلاق حتى تنكح، ولا عتق حتى تملك" وأخرج ابن أبي حاتم من طريق آدم مولى خالد عن سعيد بن جبير "عن ابن عباس فيمن قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق: ليس بشيء، من أجل أن الله يقول يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات الآية" وأخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه بنحوه، ورويناه مرفوعا في "فوائد أبي إسحاق بن أبي ثابت" بسنده إلى أبي أمية أيوب بن سليمان قال: حججت سنة ثلاث عشرة ومائة فدخلت على عطاء فسئل عن رجل عرضت عليه امرأة ليتزوجها فقال: هي يوم أتزوجها طالق البتة قال لا طلاق فيما لا يملك عقدته يؤثر ذلك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده من لا يعرف. قوله: "وروى في ذلك عن علي وسعيد بن المسيب وعروة

(9/381)


بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة وأبان بن عثمان وعلي بن حسين وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وسالم وطاوس والحسن وعكرمة وعطاء وعامر بن سعد وجابر بن زيد ونافع بن جبير ومحمد بن كعب وسليمان بن يسار ومجاهد والقاسم بن عبد الرحمن وعمرو بن هرم والشعبي أنها لا تطلق" قلت: اقتصر البخاري في هذا الباب على الآثار التي ساقها فيه ولم يذكر فيه خبرا مرفوعا صريحا، رمزا منه إلى ما سأبينه في ضمنها من ذلك، فأما الأثر عن علي في ذلك فرواه عبد الرزاق من طريق الحسن البصري قال: "سأل رجل عليا قال: قلت إن تزوجت فلانة فهي طالق، فقال علي: ليس بشيء" ورجاله ثقات إلا أن الحسن لم يسمع من على. وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن الحسن عن علي، ومن طريق النزال بن سبرة عن علي، وقد روى مرفوعا أيضا أخرجه البيهقي وأبو داود من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش أنه سمع خاله عبد الله بن أبي أحمد بن جحش يقول: "قال علي بن أبي طالب: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طلاق إلا من بعد نكاح، ولا يتم بعد احتلام" الحديث لفظ البيهقي، ورواية أبي داود مختصرة. وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر عن علي مطولا، وأخرجه ابن ماجه مختصرا وفي سنده ضعف، وأما سعيد بن المسيب فرواه عبد الرزاق عن ابن جريج" أخبرني عبد الكريم الجزري أنه سأل سعيد بن المسيب سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح عن طلاق الرجل ما لم ينكح، فكلهم قال: لا طلاق قبل أن ينكح إن سماها وان لم يسمها" وإسناده صحيح. وروى سعيد بن منصور من طريق داود بن أبي هند "عن سعيد بن المسيب قال: لا طلاق قبل نكاح" وسنده صحيح أيضا، ويأتي له طريق أخرى مع مجاهد. وقال سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا محمد بن خالد قال: "جاء رجل إلى سعيد بن المسيب فقال: ما تقول في رجل قال إن تزوجت فلانة فهي طالق، فقال له سعيد: كم أصدقها؟ قال له الرجل، لم يتزوجها بعد فكيف يصدقها؟ فقال له سعيد: فكيف يطلق من لم يتزوج" ؟ وأما عروة بن الزبير فقال سعيد بن منصور حدثنا حماد بن زيد "عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول: كل طلاق أو عتق قبل الملك فهو باطل" وهذا سند صحيح. وأما أبو بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله فجاء في أثر واحد مجموعا عن سعيد بن المسيب والثلاثة المذكورين بعده وزيادة أبي سلمة بن عبد الرحمن، فرواه يعقوب بن سفيان والبيهقي من طريقه من رواية يزيد بن الهاد "عن المنذر بن علي بن أبي الحكم أن ابن أخيه خطب بنت عمه فتشاجروا في بعض الأمر. فقال الفتى: هي طالق إن نكحتها حتى آكل الغضيض، قال: والغضيض طلع النخل الذكر، ثم ندموا على ما كان من الأمر، فقال المنذر: أنا آتيكم بالبيان من ذلك فانطلق إلى سعيد بن المسيب فذكر له فقال ابن المسيب: ليس عليه شيء، طلق ما لم يملك. قال ثم إني سألت عروة بن الزبير فقال مثل ذلك. ثم سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن فقال مثل ذلك. ثم سألت أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال مثل ذلك. ثم سألت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فقال مثل ذلك. ثم سألت عمر بن عبد العزيز فقال: هل سألت أحدا؟ قلت نعم، فسماهم، قال: ثم رجعت إلى القوم فأخبرتهم" وقد روى عن عروة مرفوعا فذكر الترمذي في "العلل" أنه سأل البخاري: أي حديث في الباب أصح؟ فقال: حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده، وحديث هشام بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة. قلت: إن البشر بن السري وغيره قالوا عن هشام بن سعد عن الزهري عن عروة مرسلا، قال: فإن حماد بن خالد رواه عن هشام بن سعد فوصله. قلت: أخرجه ابن أبي شيبة عن حماد بن خالد كذلك، وخالفهم علي بن الحسين بن واقد

(9/382)


فرواه عن هشام بن سعد عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة مرفوعا أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه، لكن هشام بن سعد أخرجا له في المتابعات ففيه ضعف، وقد ذكر ابن عدي هذا الحديث في مناكيره، وله طريق أخرى عن عروة عن عائشة أخرجه الدار قطني من طريق معمر بن بكار السعدي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري فذكره بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا سفيان على نجران" فذكر قصة وفي آخره: "فكان فيها عهد إلى أبي سفيان أوصاه بتقوى الله وقال: لا يطلقن رجل ما لم ينكح، ولا يعتق ما لم يملك، ولا نذر في معصية الله" ومعمر ليس بالحافظ. وأخرجه الدار قطني أيضا من رواية الوليد بن سلمة الأردني عن يونس عن الزهري. والوليد واه، ولما أورد الترمذي في الجامع حديث عمرو بن شعيب قال: ليس بصحيح. وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة. وقد ذكرت أثناء الكلام على تخريج أقوال من علق عنهم البخاري في هذا الباب روايات هؤلاء المرفوعة. وفات الترمذي أنه ورد من حديث المسور بن مخرمة وعائشة كما تقدم، ومن حديث عبد الله بن عمر؛ ومن حديث أبي ثعلبة الخشني، فحديث ابن عمر يأتي ذكره في أثر سعيد بن جبير، وحديث أبي ثعلبة أخرجه الدار قطني بسند شامي فيه بقية بن الوليد وقد عنعنه وأظن فيه إرسالا أيضا، وأما أبان ابن عثمان فلم أقف إلى الآن على الإسناد إليه بذلك، وأما علي بن الحسن فرويناه في "الغيلانيات" من طريق شعبة عن الحكم هو ابن عتيبة "سمعت علي بن الحسن يقول: لا طلاق إلا بعد نكاح" وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن غندر عن شعبة، وروينا في "فوائد عبد الله بن أيوب المخرمي" من طريق أبي إسحاق السبيعي عن علي ابن الحسين مثله وكلا السندين صحيح، وله طريق أخرى عنه تأتي مع سعيد بن جبير، ورواه سعيد بن منصور عن حماد بن شعيب عن حبيب بن أبي ثابت قال: "جاء رجل إلى علي بن الحسين فقال: إني قلت يوم أتزوج فلانة فهي طلاق، فقرأ هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} قال علي بن الحسين: لا أرى الطلاق إلا بعد نكاح". وأما شريح فرواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من طريق سعيد بن جبير عنه قال: "لا طلاق قبل نكاح" وسنده صحيح ولفظ ابن أبي شيبة عن رجل قال يوم أتزوج فلانة فهي طالق ثلاثا". وأما سعيد بن جبير فرواه أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير "في الرجل يقول يوم أتزوج فلانة فهي طلاق، قال: ليس بشيء، إنما الطلاق بعد النكاح" وسنده صحيح. وله طريق أخرى تأتي مع مجاهد. وقال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن سليمان بن أبي المغيرة "سألت سعيد بن جبير وعلي بن حسين عن الطلاق قبل النكاح فلم يرياه شيئا" وقد روى مرفوعا أخرجه الدار قطني من طريق أبي هاشم الرماني عن سعيد بن جبير "عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن رجل قال يوم أتزوج فلانة فهي طالق، فقال: طلق ما لا يملك" وفي سنده أبو خالد الواسطي، وهو واه. ولحديث ابن عمر طريق أخرى أخرجها ابن عدي من رواية عاصم بن هلال "عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رفعه لا طلاق إلا بعد نكاح" قال ابن عدي قال ابن صاعد لما حدث به: لا أعلم له علة. قلت: استنكروه على ابن صاعد ولا ذنب له فيه وإنما علته ضعف حفظ عاصم. وأما القاسم وهو ابن محمد بن أبي بكر الصديق وسالم وهو ابن عبد الله بن عمر فرواه أبو عبيد في كتاب النكاح له عن هشيم ويزيد بن هارون كلاهما عن يحيى بن سعيد قال: "كان القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز لا يرون الطلاق قبل النكاح" وهذا إسناد صحيح أيضا. وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن سالم والقاسم

(9/383)


وقوعه في المعينة. وقال ابن أبي شيبة حدثنا حفص هو ابن غياث عن حنظلة قال: "سئل القاسم وسالم عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق، قالا: هي كما قال: "وعن أبي أسامة" عن عمر بن حمزة أنه سأل سالما والقاسم وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعبد الله بن عبد الرحمن عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق البتة، فقال كلهم: لا يتزوجها" وهو محمول على الكراهة دون التحريم، لما أخرجه إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" من طريق جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد أن القاسم سئل عن ذلك فكرهه، فهذا طريق التوفيق بين ما نقل عنه من ذلك. وأما طاوس فأخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: "كتب الوليد بن يزيد إلى أمراء الأمصار أن يكتبوا إليه بالطلاق قبل النكاح وكان قد ابتلى بذلك، فكتب إلى عامله باليمن فدعا ابن طاوس وإسماعيل بن شروس وسماك بن الفضل فأخبرهم ابن طاوس عن أبيه وإسماعيل بن شروس عن عطاء وسماك بن الفضل عن وهب بن منبه أنهم قالوا: لا طلاق قبل النكاح. قال سماك من عنده: إنما النكاح عقدة تعقد والطلاق يحلها، فكيف يحل عقدة قبل أن تعقد" وأخرجه سعيد بن منصور من طريق خصيف وابن أبي شيبة من طريق الليث بن أبي سليم كلاهما عن عطاء وطاوس جميعا، وقد روى مرفوعا، قال عبد الرزاق عن الثوري عن ابن المنكدر عمن سمع طاوسا يحدث "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا طلاق لمن لم ينكح" وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري، وهذا مرسل وفيه راو لم يسم، وقيل فيه عن طاوس عن ابن عباس أخرجه الدار قطني وابن عدي بسندين ضعيفين عن طاوس، وأخرجه الحاكم والبيهقي من طريق ابن جريج" عن عمرو بن شعيب عن طاوس عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك" ورجاله ثقات إلا أنه منقطع بين طاوس ومعاذ، وقد اختلف فيه على عمرو بن شعيب فرواه عامر الأحول ومطر الوراق وعبد الرحمن بن الحارث وحسين المعلم كلهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والأربعة ثقات وأحاديثهم في السنن، ومن ثم صححه من يقوى حديث عمرو بن شعيب وهو قوي لكن فيه علة الاختلاف، وقد أختلف عليه فيه اختلافا أخر فأخرج سعيد بن منصور من وجه آخر" عن عمرو ابن شعيب أنه سئل عن ذلك فقال: كان أبي عرض على امرأة يزوجنيها، فأبيت أن أتزوجها وقلت: هي طالق البتة يوم أتزوجها، ثم ندمت، فقدمت المدينة فسألت سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير فقالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طلاق إلا بعد نكاح" وهذا يشعر بأن من قال فيه عن أبيه عن جده سلك الجادة، وإلا فلو كان عنده عن أبيه عن جده لما احتاج أن يرحل فيه إلى المدينة ويكتفي فيه بحديث مرسل، وقد تقدم أن الترمذي حكى عن البخاري أن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أصح شيء في الباب، وكذلك نقل ما هنا عن الإمام أحمد فالله أعلم. وأما الحسن فقال عبد الرزاق "عن معمر عن الحسن وقتادة قالا: لا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل الملك" وعن هشام عن الحسن مثله. وأخرج ابن منصور عن هشيم عن منصور ويونس "عن الحسن أنه كان يقول: لا طلاق إلا بعد الملك" وقال ابن أبي شيبة حدثنا خلف بن خليفة "سألت منصورا عمن قال يوم أتزوجها فهي طالق فقال: كان الحسن لا يراه طلاقا" وأما عكرمة فرواه أبو بكر الأثرم عن الفضل بن دكين عن سويد بن نجيح قال: "سألت عكرمة مولى ابن عباس قلت: رجل قالوا له تزوج فلانة قال هي يوم أتزوجها طالق كذا وكذا، قال: إنما الطلاق بعد النكاح" وأما عطاء فتقدم مع طاوس ويأتي له طريق مع مجاهد، وجاء من طريقه مرفوعا أخرجه الطبراني في "الأوسط" عن موسى بن هارون حدثنا

(9/384)


محمد بن المنهال حدثنا أبو بكر الحنفي عن ابن أبي ذئب عن عطاء "عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا طلاق إلا بعد النكاح، ولا عتق إلا بعد ملك" قال الطبراني: لم يروه عن ابن أبي ذئب إلا أبو بكر الحنفي ووكيع ولا رواه عن أبي بكر الحنفي إلا محمد بن المنهال ا هـ. وأخرجه أبو يعلى عن محمد بن المنهال أيضا وصرح فيه بتحديث عطاء من ابن أبي ذئب، ولذلك قال أيوب بن سويد عن ابن أبي ذئب "حدثنا عطاء" لكن أيوب بن سويد ضعيف. وكذا أخرجه الحاكم في "المستدرك" من طريق محمد بن سنان القزاز عن أبي بكر الحنفي وصرح فيه بتحديث عطاء لابن أبي ذئب وتحديث جابر لعطاء وفي كل من ذلك نظر، والمحفوظ فيه العنعنة، فقد أخرجه الطيالسي في مسنده عن ابن أبي ذئب عمن سمع عطاء، وكذلك رويناه في "الغيلانيات" من طريق حسين بن محمد المروزي عن ابن أبي ذئب، وكذلك أخرجه أبو قرة في السنن عن ابن أبي ذئب، ورواية وكيع التي أشار إليها الطبراني أخرجها ابن أبي شيبة عنه عن ابن أبي ذئب عن عطاء وعن محمد بن المنكدر "عن جابر قال: لا طلاق قبل نكاح" ولرواية محمد بن المنكدر عن جابر طريق أخرى أخرجها البيهقي من طريق صدقة بن عبد الله قال: "جئت محمد بن المنكدر وأنا مغضب فقلت: أنت أحللت للوليد بن يزيد أم سلمة؟ قال: ما أنا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حدثني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا طلاق لمن لا ينكح، ولا عتق لمن لا يملك" وأما عامر بن سعد فهو البجلي الكوفي من كبار التابعين، وجزم الكرماني في شرحه بأنه ابن سعد بن أبي وقاص وفيه نظر، وأما جابر بن زيد وهو أبو الشعثاء البصري فأخرجه سعيد بن منصور من طريقه وفي سنده رجل لم يسم، وأما نافع بن جبير أي ابن مطعم ومحمد بن كعب أي القرظي: فأخرجه ابن أبي شيبة عن جعفر بن عون عن أسامة بن زيد عنهما قالا لا طلاق إلا بعد نكاح، وأما سليمان بن يسار فأخرجه سعيد بن منصور عن عتاب بن بشير عن خصيف عن سليمان بن يسار أنه حلف في امرأة إن أتزوجها فهي طالق فتزوجها، فأخبر بذلك عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة، فأرسل إليه: بلغني أنك حلفت في كذا؛ قال نعم، قال: أفلا تخلي سبيلها؟ قال: لا، فتركه عمر ولم يفرق بينهما. وأما مجاهد فرواه ابن أبي شيبه من طريق الحسن بن الرماح سألت سعيد بن المسيب ومجاهدا وعطاء عن رجل قال يوم أتزوج فلانة فهي طالق، فكلهم قال ليس بشيء، زاد سعيد: أيكون سيل قبل مطر؟ وقد روي عن مجاهد خلافه أخرجه أبو عبيد عن طريق خصيف أن أمير مكة قال لامرأته كل امرأة أتزوجها فهي طالق، قال خصيف فذكرت ذلك لمجاهد وقلت له إن سعيد بن جبير قال: ليس بشيء، طلق ما لم يملك. قال: فكره ذلك مجاهد وعابه. وأما القاسم بن عبد الرحمن وهو ابن عبد الله بن مسعود فرواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن معروف بن واصل قال سألت القاسم بن عبد الرحمن فقال: لا طلاق إلا بعد نكاح. وأما عمرو بن هرم وهو الأزدي من أتباع التابعين فلم أقف على مقالته موصولة، إلا أن في كلام بعض الشراح أن أبا عبيد أخرجه من طريقه. وأما الشعبي فرواه وكيع في مصنفه عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: إن قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فليس بشيء، وإذا وقت لزمه، وكذلك أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن زكريا بن أبي زائدة وإسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: إذا عمم فليس بشيء. وممن رأى وقوعه في المعينة دون التعميم - غير من تقدم - إبراهيم النخعي أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن منصور عنه قال: إذا وقت وقع، وبإسناده إذا قال: "كل" فليس بشيء، ومن طريق حماد بن أبي سليمان مثل قول إبراهيم، وأخرجه من طريق الأسود بن يزيد عن ابن مسعود، وإلى ذلك أشار ابن

(9/385)


عباس كما تقدم. فابن مسعود أقدم من أفتى بالوقوع، وتبعه من أخذ بمذهبه كالنخعي ثم حماد، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن القاسم أنه قال هي طالق، واحتج بأن عمر سئل عمن قال يوم أتزوج فهي علي كظهر أمي، قال: لا يتزوجها حتى يكفر فلا يصح عنه، فإنه من رواية عبد الله بن عمر العمري عن القاسم والعمري ضعيف والقاسم لم يدرك عمر، وكأن البخاري تبع أحمد في تكثير النقل عن التابعين، فقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل في "العلل" أن سفيان بن وكيع حدثه قال: احفظ عن أحمد منذ أربعين سنة أنه سئل عن الطلاق قبل النكاح فقال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علي وابن عباس وعلي بن حسين وابن المسيب ونيف وعشرين من التابعين أنهم لم يروا به بأسا، قال عبد الله فسألت أبي عن ذلك فقال: أنا قلته. قلت: وقد تجوز البخاري في نسبة جميع من ذكر عنهم إلى القول بعدم الوقوع مطلقا، مع أن بعضهم يفصل وبعضهم يختلف عليه، ولعل ذلك هو النكتة في تصديره النقل عنهم بصيغة التمريض، وهذه المسألة من الخلافيات الشهيرة، وللعلماء فيها مذاهب: الوقوع مطلقا، وعدم الوقوع مطلقا، والتفصيل بين ما إذا عين أو عمم، ومنهم من توقف: فقال بعدم الوقوع الجمهور كما تقدم وهو قول الشافعي وابن مهدي وأحمد وإسحاق وداود وأتباعهم وجمهور أصحاب الحديث. وقال بالوقوع مطلقا أبو حنيفة وأصحابه. وقال بالتفصيل ربيعة والثوري والليث والأوزاعي وابن أبي ليلى ومن قبلهم ممن تقدم ذكره وهو ابن مسعود وأتباعه ومالك في المشهور عنه، وعنه عدم الوقوع مطلقا ولو عين، وعن ابن القاسم مثله، وعنه أنه توقف، كذا عن الثوري وأبي عبيد. وقال جمهور المالكية بالتفصيل، فإن سمى امرأة أو طائفة أو قبيلة أو مكانا أو زمانا يمكن أن يعيش إليه لزمه الطلاق والعتق، وجاء عن عطاء مذهب آخر مفصل بين أن يشرط ذلك في عقد نكاح امرأته أو لا، فإن شرطه لم يصح تزويج من عينها وإلا صح أخرجه ابن أبي شيبة، وتأول الزهري ومن تبعه قوله: "لا طلاق قبل نكاح" أنه محمول على من لم يتزوج أصلا، فإذا قيل له مثلا تزوج فلانة فقال هي طالق البتة لم يقع بذلك شيء وهو الذي ورد فيه الحديث وأما إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فإن الطلاق إنما يقع حين تزوجها، وما ادعاه من التأويل ترده الآثار الصريحة عن سعيد بن المسيب وغيره من مشايخ الزهري في أنهم أرادوا عدم وقوع الطلاق عمن قال إن تزوجت فهي طالق سواء خصص أم عمم أنه لا يقع، ولشهرة الاختلاف كره أحمد مطلقا وقال إن تزوج لا آمره أن يفارق، وكذا قال إسحاق في المعينة. قال البيهقي بعد أن أخرج كثيرا من الأخبار، ثم من الآثار الواردة في عدم الوقوع: هذه الآثار تدل على أن معظم الصحابة والتابعين فهموا من الأخبار أن الطلاق أو العتاق الذي علق قبل النكاح والملك لا يعمل بعد وقوعهما، وأن تأويل المخالف في حمله عدم الوقوع على ما إذا وقع قبل الملك، والوقوع فيما إذا وقع بعده، ليس بشيء. لأن كل أحد يعلم بعدم الوقوع قبل وجود عقد النكاح أو الملك فلا يبقى في الإخبار فائدة، بخلاف ما إذا حملناه على ظاهره فإن فيه فائدة وهو الإعلام بعدم الوقوع ولو بعد وجود العقد، فهذا يرجح ما ذهبنا إليه من حمل الأخبار على ظاهرها والله أعلم. وأشار البيهقي بذلك إلى ما تقدم عن الزهري وإلى ما ذكره مالك في الموطأ أن قوما بالمدينة كانوا يقولون إذا حلف الرجل بطلاق امرأة قبل أن ينكحها ثم حنث لزم إذا نكحها، حكاه ابن بطال قال: وتأولوا حديث: "لا طلاق قبل نكاح" على من يقول امرأة فلان طالق، وعورض من ألزم بذلك بالاتفاق على أن من قال لامرأة: إذا قدم فلان فأذني لوليك أن يزوجنيك، فقالت: إذا قدم فلان فقد أذنت لوليي في ذلك، أن فلانا إذا قدم لم ينعقد التزويج حتى تنشئ عقدا جديدا. وعلى

(9/386)


أن من باع سلعة لا يملكها ثم دخلت في ملكه لم يلزم ذلك البيع. ولو قال لامرأته: إن طلقتك فقد راجعتك فطلقها لا تكون مرتجعة، فكذلك الطلاق، ومما احتج به من أوقع الطلاق قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال: والتعليق عقد التزمه بقوله وربطه بنيته وعلقه بشرطه، فإن وجد الشرط نفذ واحتج آخر بقوله تعالى :{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} وآخر بمشروعية الوصية، وكل ذلك لا حجة فيه لأن الطلاق ليس من العقود، والنذر يتقرب به إلى الله بخلاف الطلاق فإنه أبغض الحلال إلى الله، ومن ثم فرق أحمد بين تعليق العتق وتعليق الطلاق فأوقعه في العتق دون الطلاق، ويؤيده أن من قال: لله علي عتق لزمه، ولو قال: لله علي طلاق كان لغوا. والوصية إنما تنفذ بعد الموت. ولو علق الحي الطلاق بما بعد الموت لم ينفذ. واحتج بعضهم بصحة تعليق الطلاق؛ وأن من قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت طلقت. والجواب أن الطلاق حق ملك الزوج، فله أن ينجزه ويؤجله وأن يعلقه بشرط وأن يجعله بيد غيره كما يتصرف المالك في ملكه، فإذا لم يكن زوجا فأي شيء ملك حتى يتصرف؟ وقال ابن العربي من المالكية: الأصل في الطلاق أن يكون في المنكوحة المقيدة بقيد النكاح، وهو الذي يقتضيه مطلق اللفظ، لكن الورع يقتضي التوقف عن المرأة التي يقال فيها ذلك وإن كان الأصل تجويزه وإلغاء التعليق، قال: ونظر مالك ومن قال بقوله في مسالة الفرق بين المعينة وغيرها أنه إذا عم سد على نفسه باب النكاح الذي ندب الله إليه فعارض عنده المشروع فسقط، قال: وهذا على أصل مختلف فيه وهو تخصيص الأدلة بالمصالح، وإلا فلو كان هذا لازما في الخصوص للزم في العموم والله أعلم.

(9/387)


باب إذا قال لامرأته وهو مكره : هذه أختي فلا شئ عليه
...
10- باب إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُكْرَهٌ هَذِهِ أُخْتِي فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِسَارَةَ هَذِهِ أُخْتِي وَذَلِكَ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"
قوله: "باب إذا قال لامرأته وهو مكره: هذه أختي، فلا شيء عليه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال إبراهيم لسارة هذه أختي، وذلك في ذات الله" قال ابن بطال: أراد بذلك رد من كره أن يقول لامرأته يا أختي، وقد روى عبد الرزاق من طريق أبي تميمة الهجيمي "مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يقول لامرأته. يا أخية، فزجره" قال ابن بطال: ومن ثم قال جماعة من العلماء: يصير بذلك مظاهرا إذا قصد ذلك، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتناب اللفظ المشكل. قال: وليس بين هذا الحديث وبين قصة إبراهيم معارضة، لأن إبراهيم إنما أراد بها أخته في الدين، فمن قال ذلك ونوى أخوة الدين لم يضره. قلت: حديث أبي تميمة مرسل، وقد أخرجه أبو داود من طريق مرسلة، وفي بعضها "عن أبي تميمة عن رجل من قومه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم:" وهذا متصل، وذكر أبو داود قبله حديث أبي هريرة في قصة إبراهيم وسارة، فكأنه وافق البخاري، وقد قيد البخاري بكون قائل ذلك إذا كان مكرها لم يضره وتعقبه بعض الشراح بأنه لم يقع في قصة إبراهيم إكراه، وهو كذلك لكن لا تعقب على البخاري لأنه أراد بذكر قصة إبراهيم الاستدلال على أن من قال ذلك في حالة الإكراه لا يضره قياسا على ما وقع في قصة إبراهيم، لأنه إنما قال ذلك خوفا من الملك أن يغلبه على سارة، وكان من شأنهم أن لا يقربوا الخلية إلا بخطبة ورضا، بخلاف المتزوجة فكانوا يغتصبونها من زوجها إذا أحبوا ذلك كما تقدم تقريره في الكلام على الحديث في المناقب، فلخوف إبراهيم على سارة قال إنها أخته وتأول أخوة الدين، والله أعلم. "تنبيه": أورد النسفي في هذا الباب جميع ما في الترجمة

(9/387)


التي بعده، وعكس ذلك أبو نعيم في المستخرج" والله أعلم.

(9/388)


11- باب الطَّلاَقِ فِي الإِغْلاَقِ وَالْكُرْهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَأَمْرِهِمَا وَالْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلاَقِ وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" وَتَلاَ الشَّعْبِيُّ {لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَمَا لاَ يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَبِكَ جُنُونٌ وَقَالَ عَلِيٌّ بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُومُ حَمْزَةَ فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ هَلْ أَنْتُمْ إِلاَّ عَبِيدٌ لِأَبِي فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ وَقَالَ عُثْمَانُ لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلاَ لِسَكْرَانَ طَلاَقٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَلاَقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ لاَ يَجُوزُ طَلاَقُ الْمُوَسْوِسِ وَقَالَ عَطَاءٌ إِذَا بَدَا بِالطَّلاَقِ فَلَهُ شَرْطُهُ وَقَالَ نَافِعٌ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إِنْ خَرَجَتْ فَقَدْ بُتَّتْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثَلاَثًا يُسْأَلُ عَمَّا قَالَ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ فَإِنْ سَمَّى أَجَلًا أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ إِنْ قَالَ لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ نِيَّتُهُ وَطَلاَقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانهِمْ وَقَالَ قَتَادَةُ إِذَا قَالَ إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا يَغْشَاهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً فَإِنْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَقَالَ الْحَسَنُ إِذَا قَالَ الْحَقِي بِأَهْلِكِ نِيَّتُهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الطَّلاَقُ عَنْ وَطَرٍ وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ إِنْ قَالَ مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى طَلاَقًا فَهُوَ مَا نَوَى وَقَالَ عَلِيٌّ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَقَالَ عَلِيٌّ وَكُلُّ الطَّلاَقِ جَائِزٌ إِلاَّ طَلاَقَ الْمَعْتُوهِ"
5269- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ قَالَ قَتَادَةُ إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ"
5270- حدثنا أصبغ أخبرنا بن وهب عن يونس عن بن شهاب قال أخبرني أبو سلمة عن جابر أن رجلا من أسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال إنه قد زنى فأعرض عنه فتنحى لشقه الذي أعرض فشهد على نفسه أربع شهادات فدعاه فقال "هل بك جنون، هل أحصنت؟ قال نعم فأمر به أن يرجم بالمصلى فلما أذلقته الحجارة جمز حتى أدرك بالحرة فقتل"
[الحديث 5270- أطرافه في: 5272، 6814، 6816، 6820، 6826، 7168]

(9/388)


5271- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَى رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الأَخِرَ قَدْ زَنَى يَعْنِي نَفْسَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الأَخِرَ قَدْ زَنَى فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لَهُ الرَّابِعَةَ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ فَقَالَ هَلْ بِكَ جُنُونٌ قَالَ لاَ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ"
[الحديث 5271- أطرافه في: 6815، 6825، 7167]
5272- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ"
قوله: "باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق، والشرك وغيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم: الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى" اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث لأن غير العاقل المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل، وكذلك الغالط والناسي والذي يكره على الشيء. وحديث الأعمال بهذا اللفظ وصله المؤلف في كتاب الإيمان أول الكتاب، ووصله بألفاظ أخرى في أماكن أخرى، وتقدم شرحه مستوفي هناك. وقوله الإغلاق هو بكسر الهمزة وسكون المعجمة الإكراه على المشهور، قيل له ذلك لأن المكره يتغلق عليه أمره ويتضيق عليه تصرفه، وقيل هو العمل في الغضب، وبالأول جزم أبو عبيد وجماعة، وإلى الثاني أشار أبو داود فإنه أخرج حديث عائشة "لا طلاق ولا إعتاق في غلاق" قال أبو داود: والغلاق أظنه الغضب، وترجم على الحديث: "الطلاق على غيظ" ووقع عنده بغير ألف في أوله، وحكى البيهقي أنه روى على الوجهين، ووقع عند ابن ماجه في هذا الحديث الإغلاق بالألف وترجم عليه "طلاق المكره" فإن كانت الرواية بغير أنف هي الراجحة فهو غير الإغلاق، قال المطرزي: قولهم إياك والغلق أي الضجر والغضب، ورد الفارسي في "مجمع الغرائب" على من قال الإغلاق الغضب وغلطه في ذلك وقال: إن طلاق الناس غالبا إنما هو في حال الغضب. وقال ابن المرابط: الإغلاق حرج النفس، وليس كل من وقع له فارق عقله، ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان لكان لكل أحد أن يقول فيما جناه: كنت غضبانا ا هـ. وأراد بذلك الرد على من ذهب إلى أن الطلاق في الغضب لا يقع، وهو مروي عن بعض متأخري الحنابلة ولم يوجد عن أحد من متقدميهم إلا ما أشار إليه أبو داود، وأما قوله في "المطالع" الإغلاق الإكراه وهو من أغلقت الباب، وقيل الغضب وإليه ذهب أهل العراق، فليس بمعروف عن الحنفية، وعرف بعلة الاختلاف المطلق إطلاق أهل العراق على الحنفية، وإذا أطلقه الفقيه الشافعي فمراده مقابل المراوزة منهم. ثم قال: وقيل معناه النهي عن إيقاع الطلاق البدعي مطلقا، والمراد النفي عن فعله لا النفي لحكمه، كأنه يقول بل يطلق للسنة كما أمره الله. وقول البخاري "والكره" هو في النسخ بضم الكاف وسكون الراء، وفي عطفه

(9/389)


على الإغلاق نظر، إلا إن كان يذهب إلى أن الإغلاق الغضب، ويحتمل أن يكون قبل الكاف ميم لأنه عطف عليه السكران فيكون التقدير باب حكم الطلاق في الإغلاق وحكم المكره والسكران والمجنون إلخ. وقد اختلف السلف في طلاق المكره، فروى ابن أبي شيبه وغيره عن إبراهيم النخعي أنه يقع، قال لأنه شيء افتدى به نفسه، وبه قال أهل الرأي، وعن إبراهيم النخعي تفصيل آخر إن ورى المكره لم يقع وإلا وقع. وقال الشعبي: إن أكرهه اللصوص وقع وإن أكرهه السلطان فلا أخرجه ابن أبي شيبة، ووجه بأن اللصوص من شأنهم أن يقتلوا من يخالفهم غالبا بخلاف السلطان. وذهب الجمهور إلى عدم اعتبار ما يقع فيه، واحتج عطاء بآية النحل {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق، أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح، وقرره الشافعي بأن الله لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه وأسقط عنه أحكام الكفر فكذلك يسقط عن المكره ما دون الكفر لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو دونه بطريق الأولى، وإلى هذه النكتة أشار البخاري بعطف الشرك على الطلاق في الترجمة. وأما قوله: "والسكران" فسيأتي ذكر حكمه في الكلام على أثر عثمان في هذا الباب، وقد يأتي السكران في كلامه وفعله بما لا يأتي به وهو صاح لقوله تعالى :{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فإن فيها دلالة على أن من علم ما يقول لا يكون سكرانا، وأما المجنون فسيأتي في أثر علي مع عمر، وقوله: "وأمرهما" فمعناه هل حكمهما واحد أو يختلف؟ وقوله: "والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره:" أي إذا وقع من المكلف ما يقتضي الشرك غلطا أو نسيانا هل يحكم عليه به وإذا كان لا يحكم عليه به فليكن الطلاق كذلك، وقوله: "وغيره:" أي وغير الشرك مما هو دونه، وذكر شيخنا ابن الملقن أنه لا بعض النسخ "والشك" بدل الشرك، قال: وهو الصواب، وتبعه الزركشي لكن قال: وهو أليق، وكأن مناسبة لفظ الشرك خفيت عليهما، ولم أره في شيء من النسخ التي وقفت عليها بلفظ الشك، فإن ثبتت فتكون معطوفة على النسيان لا على الطلاق. ثم رأيت سلف شيخنا وهو قول ابن بطال وقع في كثير من النسخ "والنسيان في الطلاق والشرك" وهو خطأ والصواب "والشك" مكان الشرك ا هـ، ففهم شيخنا من قوله في كثير من النسخ أن في بعضها للفظ الشك فجزم بذلك. واختلف السلف في طلاق الناسي فكان الحسن سراه كالعمد إلا إن اشترط فقال إلا أن أنسى أخرجه ابن أبي شيبة. وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عطاء أنه كان لا يراه شيئا ويحتج بالحديث المرفوع الآتي كما سأقرره بعد وهو قول الجمهور، وكذلك اختلف في طلاق المخطئ فذهب الجمهور إلى أنه لا يقع، وعن الحنفية ممن أراد أن يقول لامرأته شيئا فسبقه لسانه فقال أنت طالق يلزمه الطلاق، وأشار البخاري بقوله: "الغلط والنسيان" إلى الحديث الوارد عن ابن عباس مرفوعا: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإنه سوى بين الثلاثة في التجاوز، فمن حمل التجاوز على رفع الإثم خاصة دون الوقوع في الإكراه لزم أن قول مثل ذلك في النسيان، والحديث قد أخرجه ابن ماجة وصححه ابن حبان. واختلف أيضا في طلاق المشرك فجاء عن الحسن وقتادة وربيعة أنه لا يقع، ونسب إلى مالك وداود. وذهب الجمهور إلى أنه يقع كما يصح نكاحه وعتقه وغير ذلك من أحكامه. قوله: "وتلا الشعبي: لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" ورويناه موصولا في "فوائد هناد بن السري الصغير" من رواية سليم مولى الشعبي عنه بمعناه. قوله: "وما لا يجوز من إقرار الموسوس" بمهملتين والواو الأولى مفتوحة والثانية مكسورة. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "للذي أقر على نفسه: أبك جنون" ؟ هو طرف من حديث ذكره المصنف في هذا الباب بلفظ:

(9/390)


"هل بك جنون" وأورده في الحدود، ويأتي شرحه هناك مستوفى إن شاء الله تعالى. ووقع في بعض طرقه ذكر السكر. قوله: "وقال علي: بقر حمزة خواصر شارفي" الحديث هو طرف من الحديث الطويل في قصة الشارفين وقد تقدم شرحه مستوفى في غزوة بدر من كتاب المغازي. و "بقر" بفتح الموحدة وتخفيف القاف أي شق، والخواصر بمعجمة ثم مهملة جمع خاصرة، وقوله في آخره: "إنه ثمل" بفتح المثلثة وكسر الميم بعدها لأم أي سكران، وهو من أقوى أدلة من لم يؤاخذ السكران بما يقع منه في حال سكره من طلاق وغيره، واعترض المهلب بأن الخمر حينئذ كانت مباحة، قال: فبذلك سقط عنه حكم ما نطق به في تلك الحال، قال: وبسبب هذه القصة كان تحريم الخمر ا هـ. وفيما قاله نظر، أما أولا فإن الاحتجاج من هذه القصة إنما هو بعد مؤاخذة السكران بما يصدر منه، ولا يفترق الحال بين أن يكون الشرب مباحا أو لا، وأما ثانيا فدعواه أن تحريم الخمر كان بسبب قصة الشارفين ليس بصحيح، فإن قصة الشارفين كانت قبل أحد اتفاقا لأن حمزة استشهد بأحد وكان ذلك بين بدر وأحد عند تزويج علي بفاطمة وقد ثبت في الصحيح أن جماعة اصطبحوا الخمر يوم أحد واستشهدوا ذلك اليوم، فكان تحريم الخمر بعد أحد لهذا الحديث الصحيح. قوله: "وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق" وصله ابن أبي شيبة عن شبابة، ورويناه في الجزء الرابع من "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" عن آدم بن أبي إياس كلاهما عن ابن أبي ذئب عن الزهري قال: "قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت امرأتي وأنا سكران، فكان رأي عمر بن عبد العزيز مع رأينا أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته، حتى حدثه أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه قال: ليس على المجنون ولا على السكران طلاق، قال عمر: تأمرونني وهذا يحدثني عن عثمان؟ فجلده، ورد إليه امرأته" وذكر البخاري أثر عثمان ثم ابن عباس استظهارا لما دل عليه حديث علي في قصة حمزة، وذهب إلى عدم وقوع طلاق السكران أيضا أبو الشعثاء وعطاء وطاوس وعكرمة والقاسم وعمر بن عبد العزيز، ذكره ابن أبي شيبة عنهم بأسانيد صحيحه، وبه قال ربيعة والليث وإسحاق والمزني، واختاره الطحاوي واحتج بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع قال: والسكران معتوه بسكره. وقال بوقوعه طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم والزهري والشعبي، وبه قال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة، وعن الشافعي قولان: المصحح منهما وقوعه، والخلاف عند الحنابلة لكن الترجيح بالعكس. وقال ابن المرابط: إذا تيقنا ذهاب عقل السكران. لم يلزمه طلاق، وإلا لزمه. وقد جعل الله حد السكر الذي تبطل به الصلاة أن لا يعلم ما يقول، وهذا التفصيل لا يأباه من يقول بعدم طلاقه، وإنما استدل من قال بوقوعه مطلقا بأنه عاص بفعله لم يزل عنه الخطاب بذلك، ولا الإثم لأنه يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر أو فيه، وأجاب الطحاوي بأنه لا تختلف أحكام فاقد العقل بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره، إذ لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من قبل الله أو من قبل نفسه كمن كسر رجل نفسه فإنه يسقط عنه فرض القيام، وتعقب بأن القيام انتقل إلى بدل وهو القعود فافترقا. وأجاب ابن المنذر عن الاحتجاج بقضاء الصلوات بأن النائم يجب عليه قضاء الصلاة ولا يقع طلاقه فافترقا. وقال ابن بطال: الأصل في السكران العقل، والسكر شيء طرأ على عقله، فمهما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على الأصل حتى يثبت ذهاب عقله. قوله: "وقال ابن عباس: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز" وصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور جميعا عن هشيم عن عبد الله بن طلحة الخزاعي عن أبي يزيد المزني عن

(9/391)


عكرمة عن ابن عباس قال: "ليس لسكران ولا لمضطهد طلاق" المضطهد: بضاد معجمة ساكنة ثم طاء مهملة مفتوحة ثم هاء ثم مهملة هو المغلوب المقهور، وقوله: "ليس بجائز" أي بواقع، إذ لا عقل للسكران المغلوب على عقله ولا اختيار للمستكره. قوله: "وقال عقبة بن عامر: لا يجوز طلاق الموسوس" أي لا يقع، لأن الوسوسة حديث النفس، ولا مؤاخذة بما يقع في النفس كما سيأتي. قوله: "وقال عطاء: إذا بدأ بالطلاق فله شرطه" تقدم مشروحا في "باب الشروط في الطلاق" وتقدم عن عطاء وسعيد بن المسيب والحسن، وبينت من وصله عنهم ومن خالف في ذلك. قوله: "وقال نافع: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بتت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء" أما قوله: "البتة" فإنه بالنصب على المصدر. قال الكرماني هنا قال النحاة: قطع همزة البتة بمعزل عن القياس ا هـ، وفي دعوى أنها يقال بالقطع نظر فإن ألف البتة ألف وصل قطعا، والذي قاله أهل اللغة البتة القطع وهو تفسيرها بمرادفها لا أن المراد أنها تقال بالقطع، وأما قوله: "بتت" فبضم الموحدة وتشديد المثناة المفتوحة على البناء للمجهول، ومناسبة ذكر هذا هنا - وإن كانت المسائل المتعلقة بالبتة تقدمت - موافقة ابن عمر للجمهور في أن لا فرق في الشرط بين أن يتقدم أو يتأخر، وبهذا تظهر مناسبة أثر عطاء وكذا ما بعد هذا. وقد أخرج سعيد بن منصور من وجه صحيح عن ابن عمر أنه قال: "في الخلية والبتة ثلاث ثلاث". قوله: "وقال الزهري فيمن قال إن لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق ثلاثا: يسأل عما قال وعقد عليه قلبه حين حلف بتلك اليمين، فإن سمى أجلا أراده وعقد عليه قلبه حين حلف جعل ذلك في دينه وأمانته" أي يدين فيما بينه وبين الله تعالى، أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مختصرا ولفظه: "في الرجلين يحلفان بالطلاق والعتاقة على أمر يختلفان فيه ولم يقم على واحد منهما بينه" على قوله قال: يدينان ويحملان من ذلك ما تحملا. وعن معمر عمن سمع الحسن مثله. قوله: "وقال إبراهيم: إن قال لا حاجة لي فيك نيته" أي إن قصد طلاقا طلقت وإلا فلا، قال ابن أبي شيبة حدثنا حفص هو ابن غياث عن إسماعيل عن إبراهيم في رجل قال لامرأته لا حاجة لي فيك قال: نيته. وعن وكيع عن شعبة سألت الحكم وحمادا قالا: إن نوى طلاقا فواحدة، وهو أحق بها. قوله: "وطلاق كل قوم بلسانهم" وصله ابن أبي شيبة قال: "حدثنا إدريس قال حدثنا ابن أبي إدريس وجرير فالأول عن مطرف والثاني عن المغيرة كلاهما عن إبراهيم قال: طلاق العجمي بلسانه جائز" ومن طريق سعيد بن جبير قال: "إذا طلق الرجل بالفارسية يلزمه". قوله: "وقال قتادة: إذا قال إذا حملت فأنت طالق ثلاثا يغشاها عند كل طهر مرة، فإن استبان حملها فقد بانت منه" وصله ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروة عن قتادة مثله لكن قال: "عند كل طهر مرة ثم يمسك حتى تطهر" وذكر بقيته نحوه، ومن طريق أشعث عن الحسن "يغشاها إذا طهرت من الحيض ثم يمسك عنها إلى مثل ذلك" وقال ابن سيرين "يغشاها حتى تحمل" وبهذا قال الجمهور، واختلفت الرواية عن مالك: ففي رواية ابن القاسم إن وطئها مرة بعد التعليق طلقت سواء استبان بها حملها أم لا، وإن وطئها في الطهر الذي قال لها ذلك بعد الوطء طلقت مكانها. وتعقبه الطحاوي بالاتفاق على أن مثل ذلك إذا وقع في تعليق العتق لا يقع إلا إذا وجد الشرط، قال: فكذلك الطلاق فليكن. قوله: "وقال الحسن: إذا قال الحقي بأهلك نيته" وصله عبد الرزاق بلفظ: "هو ما نوى" وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن الحسن "في رجل قال لامرأته أخرجي استبرئي، اذهبي لا حاجة لي فيك هي تطليقة إن نوى الطلاق". قوله: "وقال ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعتاق ما أريد به

(9/392)


وجه الله" أي أنه لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته إلا عند الحاجة كالنشوز، بخلاف العتق فإنه مطلوب دائما، والوطر بفتحتين الحاجة، قال أهل اللغة: ولا يبنى منها فعل. قوله: "وقال الزهري: إن قال ما أنت بامرأتي نيته، وإن نوى طلاقا فهو ما نوى" وصله ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري "في رجل قال لامرأته لست لي بامرأة قال: هو ما نوى" ومن طريق قتادة "إذا واجهها به وأراد الطلاق فهي واحدة" وعن إبراهيم "إن كرر ذلك مرارا ما أراه أراد إلا الطلاق" وعن قتادة "إن أراد طلاقا طلقت" وتوقف سعيد بن المسيب. وقال الليث "هي كذبة" وقال أبو يوسف ومحمد "لا يقع بذلك طلاق". قوله: "وقال علي: ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ" وصله البغوي في "الجعديات" عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس "أن عمر أتى بمجنونة قد زنت وهي حبلى، فأراد أن يرجمها فقال له علي: أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة" فذكره، وتابعه ابن نمير ووكيع وغير واحد عن الأعمش، ورواه جرير بن حازم عن الأعمش فصرح فيه بالرفع أخرجه أبو داود وابن حبان من طريقه، وأخرجه النسائي من وجهين آخرين عن أبي ظبيان مرفوعا وموقوفا لكن لم يذكر فيهما ابن عباس، جعله عن أبي ظبيان عن علي ورجح الموقوف على المرفوع، وأخذ بمقتضى هذا الحديث الجمهور، لكن اختلفوا في إيقاع طلاق الصبي، فعن ابن المسيب والحسن يلزمه إذا عقل وميز، وحده عند أحمد أن يطيق الصيام ويحصى الصلاة، وعند عطاء إذا بلغ اثنتي عشرة سنة، وعن مالك رواية إذا ناهز الاحتلام. قوله: "وقال علي: وكل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه" وصله البغوي في "الجعديات" عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن عابس بن ربيعة "أن عليا قال: كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه" وهكذا أخرجه سعيد بن منصور عن جماعة من أصحاب الأعمش عنه صرح في بعضها بسماع عابس ابن ربيعة من علي، وقد ورد فيه حديث مرفوع أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة مثل قول علي وزاد في آخره: "المغلوب على عقله" وهو من رواية عطاء بن عجلان وهو ضعيف جدا. والمراد بالمعتوه - وهو بفتح الميم وسكون المهملة وضم المثناة وسكون الواو بعدها هاء - الناقص العقل، فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران؛ والجمهور على عدم اعتبار ما يصدر منه، وفيه خلاف قديم ذكر ابن أبي شيبة من طريق نافع أن المحبر بن عبد الرحمن طلق امرأته وكان معتوها فأمرها ابن عمر بالعدة، فقيل له: إنه معتوه، فقال: إني لم أسمع الله استثنى للمعتوه طلاقا ولا غيره. وذكر ابن أبي شيبة عن الشعبي وإبراهيم وغير واحد مثل قول علي. قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، وهشام هو الدستوائي. قوله: "عن زرارة" تقدم القول فيه في أوائل العتق، وذكرت فيه بعض فوائده، ويأتي بقيتها في كتاب الإيمان والنذور، وقوله: "ما حدثت به أنفسها" بالفتح على المفعولية، وذكر المطرزي عن أهل اللغة أنهم يقولونه بالضم يريدون بغير اختيارها، وقد أسند الإسماعيلي عن عبد الرحمن بن مهدي قال ليس عند قتادة حديث أحسن من هذا، وهذا الحديث حجة في أن الموسوس لا يقع طلاقه والمعتوه والمجنون أولى منه بذلك، واحتج الطحاوي بهذا الحديث للجمهور فيمن قال لامرأته أنت طلاق ونوى في نفسه ثلاثا أنه لا يقع إلا واحدة - خلافا للشافعي ومن وافقه - قال: لأن الخبر دل على أنه لا يجوز وقوع الطلاق بنية لا لفظ معها، وتعقب بأنه لفظ بالطلاق ونوى الفرقة التامة فهي نية صحبها لفظ؛ واحتج به أيضا لمن قال فيمن قال لامرأته يا فلانة ونوى بذلك طلاقها أنها لا تطلق، خلافا لمالك وغيره، لأن الطلاق لا يقع بالنية دون اللفظ ولم

(9/393)


يأت بصيغة لا صريحة ولا كناية، واستدل به على أن من كتب الطلاق طلقت امرأته لأنه عزم بقلبه وعمل بكتابته وهو قول الجمهور، وشرط مالك فيه الإشهاد على ذلك، واحتج من قال: إذا طلق نفسه طلقت - وهو مروي عن ابن سيرين والزهري - وعن مالك رواية ذكرها أشهب عنه وقواها ابن العربي، بأن من اعتقد الكفر بقلبه كفر ومن أصر على المعصية أثم، وكذلك من راءى بعمله وأعجب، وكذا من قذف مسلما بقلبه، وكل ذلك من أعمال القلب دون اللسان. وأجيب بأن العفو عن حديث النفس من فضائل هذه الأمة، والمصر على الكفر ليس منهم، وبأن المصر على المعصية الآثم من تقدم له عمل المعصية لا من لم يعمل معصية قط، وأما الرياء والعجب وغير ذلك فكله متعلق بالأعمال. واحتج الخطابي بالإجماع على أن من عزم على الظهار لا يصير مظاهرا قال: وكذلك الطلاق، وكذا لو حدث نفسه بالقذف لم يكن قاذفا، ولو كان حديث النفس يؤثر لأبطل الصلاة، وقد دل الحديث الصحيح على أن ترك الحديث مندوب فلو وقع لم تبطل، وتقدم البحث في الصلاة في ذلك في قول عمر "إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة" الحديث الثاني حديث جابر في قصة الذي أقر بالزنا فرجم، ذكرها من طريق يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر، ويأتي شرحه مستوفى في كتاب الحدود، والمراد منه ما أشار إليه في الترجمة من قوله: "هل بك جنون" فإن مقتضاه أنه لو كان مجنونا لم يعمل بإقراره، ومعنى الاستفهام هل كان بك جنون أو هل تجن تارة وتفيق تارة؟ وذلك أنه كان حين المخاطبة مفيقا. ويحتمل أن يكون وجه له الخطاب والمراد استفهام من حضر ممن يعرف حاله، وسيأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى. الحديث الثالث حديث أبي هريرة في القصة المذكورة، أوردها من طريق شعيب عن الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب جميعا عن أبي هريرة، وسيأتي شرحها أيضا في الحدود، وقوله في هذه الرواية: "أن الآخر قد زنى" بفتح الهمزة وكسر الخاء المعجمة أي المتأخر عن السعادة وقيل معناه الأرذل. قوله: "وقال قتادة إذا طلق في نفسه فليس بشيء" وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة والحسن قالا: من طلق سرا في نفسه فليس طلاقه ذلك بشيء، وهذا قول الجمهور وخالفهم ابن سيرين وابن شهاب فقالا تطليق، وهي رواية عن مالك. "تنبيه": وقع هذا الأثر عن قتادة في رواية النسفي عقب حديث قتادة المرفوع المذكور هنا بعد، فلما ساقه من طريق قتادة عن زرارة عن أبي هريرة فذكر الحديث المرفوع قال بعده "قال قتادة" فذكره. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. قوله: "وعن الزهري قال فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله" هو معطوف على قوله: "شعيب عن الزهري إلخ" وقد تقدم من رواية يونس عن الزهري عن أبي سلمة فيحتمل أن يكون أبهمه لما حدث به شعيبا، ويحتمل أن يكون هذا القدر عنده عن غير أبي سلمة فأدرج في رواية يونس عنه، وقوله في هذه الزيادة "أذلقته" بذال معجمة وقاف أي أصابته بحدها، وقوله: "جمز" بفتح الجيم والميم وبزاي أي أسرع هاربا

(9/394)


12- باب الْخُلْعِ وَكَيْفَ الطَّلاَقُ فِيهِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ {الظَّالِمُونَ} وَأَجَازَ عُمَرُ الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا وَقَالَ طَاوُسٌ إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ لاَ يَحِلُّ حَتَّى تَقُولَ لاَ أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ

(9/394)


5273- حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ قَالَتْ نَعَمْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ لاَ يُتَابَعُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ"
[الحديث 5273- أطرافه في: 5274، 5275، 5276، 5277]
5274- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بِهَذَا وَقَالَ تَرُدِّينَ حَدِيقَتَهُ قَالَتْ نَعَمْ فَرَدَّتْهَا وَأَمَرَهُ يُطَلِّقْهَا وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلِّقْهَا"
5275- وَعَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لاَ أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلاَ خُلُقٍ وَلَكِنِّي لاَ أُطِيقُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ قَالَتْ نَعَمْ"
5276- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرِّمِيُّ حَدَّثَنَا قُرَادٌ أَبُو نُوحٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلاَ خُلُقٍ إِلاَّ أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ فَقَالَتْ نَعَمْ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا"
5277- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ جَمِيلَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ"
قوله: "باب الخلع" بضم المعجمة وسكون اللام، وهو في اللغة فراق الزوجة على مال، مأخوذ من خلع الثوب لأن المرأة لباس الرجل معنى، وضم مصدره تفرقة بين الحسي والمعنوي. وذكر أبو بكر بن دريد في أماليه أنه أول خلع كان في الدنيا أن عامر بن الظرب - بفتح المعجمة وكسر الراء ثم موحدة - زوج ابنته من ابن أخيه عامر بن الحارث بن الظرب، فلما دخلت عليه نفرت منه، فشكا إلى أبيها فقال: لا أجمع عليك فراق أهلك ومالك، وقد خلعتها منك بما أعطيتها، قال فزعم العلماء أن هذا كان أول خلع في العرب ا هـ. وأما أول خلع في الإسلام فسيأتي ذكره بعد قليل. ويسمى أيضا فدية وافتداء. وأجمع العلماء على مشروعيته إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي المشهور فإنه قال: لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته في مقابل فراقها شيئا لقوله تعالى :{فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}، فأوردوا عليه {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ به} فادعى نسخها بآية النساء. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه، وتعقب مع شذوذه بقوله تعالى: في النساء أيضا {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ} وبقوله فيها {فَلا

(9/395)


جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا} الآية، وبالحديث وكأنه لم يثبت عنده أو لم يبلغه، وانعقد الإجماع بعده على اعتباره وأن آية النساء مخصوصة بآية البقرة وبآيتي النساء الآخرتين، وضابطه شرعا فراق الرجل زوجته ببذل قابل للعوض يحصل لجهة الزوج. وهو مكروه إلا في حال مخافة أن لا يقيما - أو واحد منهما - ما أمر به، وقد ينشأ ذلك عن كراهة العشرة إما لسوء خلق أو خلق، وكذا ترفع الكراهة إذا احتاجا إليه خشية حنث يئول إلى البينونة الكبرى. قوله: "وكيف الطلاق فيه" أي هل يقع الطلاق بمجرده أو لا يقع حتى يذكر الطلاق إما باللفظ وإما بالنية، وللعلماء فيما إذا وقع الخلع مجردا عن الطلاق لفظا ونية ثلاثة آراء وهي أقوال للشافعي: أحدها ما نص عليه في أكثر كتبه الجديدة أن الخلع طلاق وهو قول الجمهور، فإذا وقع بلفظ الخلع وما تصرف منه نقص العدد، وكذا إن وقع بغير لفظه مقرونا بنيته، وقد نص الشافعي في "الإملاء" على أنه من صرائح الطلاق، وحجة الجمهور أنه لفظ لا يملكه إلا الزوج فكان طلاقا، ولو كان فسخا لما جاز على غير الصداق كالإقالة، لكن الجمهور على جوازه بما قل وكثر فدل على أنه طلاق. والثاني وهو قول الشافعي في القديم ذكره في "أحكام القرآن" من الجديد أنه فسخ وليس بطلاق، وصح ذلك عن ابن عباس أخرجه عبد الرزاق، وعن ابن الزبير، ما يقويه، وقد استشكله إسماعيل القاضي بالاتفاق على أن من جعل أمر المرأة بيدها ونوى الطلاق فطلقت نفسها طلقت، وتعقب بأن محل الخلاف ما إذا لم يقع لفظ طلاق ولا نية وإنما وقع لفظ الخلع صريحا أو ما قام مقامه من الألفاظ مع النية فإنه لا يكون فسخا تقع به الفرقة ولا يقع به طلاق، واختلف الشافعية فيما إذا نوى بالخلع الطلاق وفرعنا على أنه فسخ هل يقع الطلاق أو لا؟ ورجح الإمام عدم الوقوع، واحتج بأنه صريح في بابه وجد نفاذا في محله فلا ينصرف بالنية إلى غيره، وصرح أبو حامد والأكثر بوقوع الطلاق، ونقله الخوارزمي عن نص القديم قال: هو فسخ لا ينقص عدد الطلاق إلا أن ينويا به الطلاق "ويخدش فيما اختاره الإمام أن الطحاوي نقل الإجماع على أنه إذا نوى بالخلع الطلاق وقع الطلاق، وأن محل الخلاف فيما إذا لم يصرح بالطلاق ولم ينوه. والثالث إذا لم ينو الطلاق لا يقع به فرقة أصلا ونص عليه في "الأم" وقواه السبكي من المتأخرين، وذكر محمد ابن نصر المروزي به "كتاب اختلاف العلماء" أنه آخر قولي الشافعي. قوله: "وقوله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} زاد غير أبي ذر" إلى قوله :{الظَّالِمُونَ} وعند النسفي بعد قوله يخافا "الآية" ويذكر ذلك يتبين تمام المراد وهو بقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وتمسك بالشرط من قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} من منع الخلع إلا إذا حصل الشقاق من الزوجين معا، وسأذكر في الكلام على أثر طاوس بيان ذلك. قوله: "وأجاز عمر الخلع دون السلطان" أي بغير إذنه، وصله ابن أبي شيبة من طريق خيثمة بن عبد الرحمن قال: "أتى بشر بن مروان في خلع كان بين رجل وامرأة فلم يجزه، فقال له عبد الله بن شهاب الخولاني: قد أتى عمر في خلع فأجازه "وأشار المصنف إلى خلاف في ذلك أخرجه سعيد بن منصور "حدثنا هشيم أنبأنا يونس عن الحسن البصري قال: لا يجوز الخلع دون السلطان" وقال حماد بن زيد "عن يحيى بن عتيق عن محمد ابن سيرين: كانوا يقولون" فذكر مثله، واختاره أبو عبيد واستدل بقوله تعالى :{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وبقوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} قال: فجعل الخوف لغير الزوجين، ولم يقل فإن خافا، وقوى ذلك بقراءة حمزة في

(9/396)


آية الباب: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} بضم أوله على البناء للمجهول قال: والمراد الولاة، ورده النحاس بأنه قول لا يساعده الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى، والطحاوي بأنه شاذ مخالف لما عليه الجم الغفير، ومن حيث النظر أن الطلاق جائز دون الحاكم فكذلك الخلع. ثم الذي ذهب إليه مبني على أن وجود الشقاق شرط في الخلع والجمهور على خلافه وأجابوا عن الآية بأنها جرت على حكم الغالب، وقد أنكر قتادة هذا على الحسن فأخرج سعيد بن أبي عروبة في "كتاب النكاح" عن قتادة بن الحسن فذكره، قال قتادة: ما أخذ الحسن هذا إلا عن زياد، يعني حيث كان أمير العراق لمعاوية: قلت: وزياد ليس أهلا أن يقتدي به. قوله: "وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها" العقاص بكسر المهملة وتخفيف القاف وآخره صاد مهملة جمع عقصه وهو ما يربط به شعر الرأس بعد جمعه، وأثر عثمان هذا رويناه موصولا في "أمالي أبي القاسم بن بشران" من طريق شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل "عن الربيع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان" وأخرجه البيهقي من طريق روح بن القاسم عن ابن عقيل مطولا وقال في آخره: "فدفعت إليه كل شيء حتى أجفت الباب بيني وبينه" وهذا يدل على أن معنى "دون" سوى، أي أجاز للرجل أن يأخذ من المرأة في الخلع ما سوى عقاص رأسها. وقال سعيد بن منصور "حدثنا هشام عن مغيرة عن إبراهيم: كان يقال الخلع ما دون عقاص رأسها" وعن سفيان "عن ابن أبي نجيح عن مجاهد يأخذ من المختلعة حتى عقاصها" ومن طريق قبيصة بن ذويب "إذا خلعها جاز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. ثم تلا: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}" وسنده صحيح. ووجدت أثر عثمان بلفظ آخر أخرجه ابن سعد في ترجمة الربيع بنت معوذ من "طبقات النساء" قال أنبأنا يحيى بن عباد حدثنا فليح بن سليمان حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل "عن الربيع بنت معوذ قالت: كان بيني وبين ابن عمي كلام، وكان زوجها، قالت فقلت له: لك كل شيء وفارقني. قال: قد فعلت. فأخذ والله كل شيء حتى فراشي، فجئت عثمان وهو محصور فقال: الشرط أملك، خذ كل شيء حتى عقاص رأسها" قال ابن بطال ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاه. وقال مالك: لم أر أحدا ممن يقتدي به يمنع ذلك. لكنه ليس من مكارم الأخلاق. وسيأتي ذكر حجة القائلين بعدم الزيادة في الكلام على حديث الباب. قوله: "وقال طاوس: إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة، ولم يقل قول السفهاء لا يحل حتى تقول لا أغتسل لك من جنابة" هذا التعليق اختصره البخاري من أثر وصله عبد الرزاق قال: "أنبأنا ابن جريج أخبرني ابن طاوس وقلت له: ما كان أبوك يقول في الفداء؟ قال: كان يقول ما قال الله تعالى :{إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} ولم يكن يقول قول السفهاء: لا يحل حتى تقول لا أغتسل لك من جنابة، ولكنه يقول إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة". قال ابن التين: ظاهر سياق البخاري أن قوله: "ولم يقل إلخ" من كلامه، ولكن قد نقل الكلام المذكور عن ابن جريج، قال: ولا يبعد أن يكون ظهر له ما ظهر لابن جريج. قلت: وكأنه لم يقف على الأثر موصولا فتكلف ما قال، والذي قال: "ولم يقل" هو ابن طاوس، والمحكي عنه النفي هو أبوه طاوس، وأشار ابن طاوس بذلك إلى ما جاء عن غير طاوس وأن الفداء لا يجوز حتى تعصى المرأة الرجل فيما يرومه منها حتى تقول لا أغتسل لك من جنابة، وهو منقول عن الشعبي وغيره، أخرج سعيد بن منصور عن هشيم "أنبأنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن امرأة قالت لزوجها: لا أطيع لك أمرا ولا أبر لك قسما ولا

(9/397)


أغتسل لك من جنابة، قال: إذا كرهته فليأخذ منها وليخل عنها". وأخرج ابن أبي شيبة عن وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن الحسن في قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قال: ذلك في الخلع إذا قالت لا أغتسل لك من جنابة. ومن طريق حميد بن عبد الرحمن قال: "يطيب الخلع إذا قالت لا أغتسل لك من جنابة. نحوه" ومن طريق علي نحوه ولكن بسند واه، والظاهر أن المنقول في ذلك عن الحسن وغيره ما هو إلا على سبيل المثال ولا يتعين شرطا في جواز الخلع، والله أعلم. وقد جاء عن غير طاوس نحو قوله، فروى ابن أبي شيبة من طريق القاسم أنه سئل عن قوله تعالى :{إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قال فيما افترض عليهما في العشرة والصحبة. ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول: لا يحل له الفداء حتى يكون الفساد من قبلها، ولم يكن يقول لا يحل له حتى تقول لا أبر لك قسما ولا أغتسل لك من جنابة. قوله: "حدثني أزهر بن جميل" هو بصري يكنى أبا محمد، مات سنة إحدى وخمسين ومائتين، ولم يخرج عنه البخاري في "الجامع" غير هذا الموضع، وقد أخرجه النسائي أيضا عنه، وذكر البخاري أنه لم يتابع على ذكر ابن عباس فيه كما سيأتي، لكن جاء الحديث موصولا من طريق أخرى كما ذكره في الباب أيضا. قوله: "حدثنا خالد" هو ابن مهران الحذاء. قوله: "إن امرأة ثابت بن قيس" أي ابن شماس بمعجمة ثم مهملة خطيب الأنصار، تقدم ذكره في المناقب، وأبهم في هذه الطريق اسم المرأة وفي الطرق التي بعدها، وسميت في آخر الباب في طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلا جميلة، ووقع الرواية الثانية أن أخت عبد الله بن أبي يعني كبير الخزرج ورأس النفاق الذي تقدم خبره في تفسير سورة براءة وفي تفسير سورة المنافقين، فظاهره أنها جميلة بنت أبي ويؤيده أن في رواية قتادة عن عكرمة عن ابن عباس "أن جميلة بنت سلول جاءت" الحديث أخرجه ابن ماجه والبيهقي، وسلول امرأة اختلف فيها هل هي أم أبي أو امرأته. ووقع في رواية النسائي والطبراني من حديث الربيع بنت معوذ أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها، وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فأتى أخوها يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، وبذلك جزم ابن سعد في "الطبقات" فقال: جميلة بنت عبد الله بن أبي أسلمت وبايعت وكانت تحت حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة فقتل عنها بأحد وهي حامل فولدت له عبد الله بن حنظلة فخلف عليها ثابت بن قيس فولدت له ابنه محمدا ثم اختلعت منه فتزوجها مالك بن الدخشم ثم خبيب بن أساف، ووقع في رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أن ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده زينب بنت عبد الله بن أبي بن سلول وكان أصدقها حديقة فكرهته، الحديث أخرجه الدار قطني والبيهقي وسنده قوي مع إرساله، ولا تنافي بينه وبين الذي قبله لاحتمال أن يكون لها اسمان أو أحدهما لقب، وإن لم يؤخذ بهذا الجمع فالموصول أصح، وقد اعتضد بقول أهل النسب أن اسمها جميلة، وبه جزم الدمياطي وذكر أنها كانت أخت عبد الله بن عبد الله بن أبي شقيقة أمهما خولة بنت المنذر بن حرام. قال الدمياطي والذي وقع في البخاري من أنها بنت أبي وهم. قلت: ولا يليق إطلاق كونه وهما فإن الذي وقع فيه أخت عبد الله بن أبي وهي أخت عبد الله بلا شك، لكن نسب أخوها في هذه الرواية إلى جده أبي كما نسبت هي في رواية قتادة إلى جدتها سلول، فبهذا يجمع بين المختلف من ذلك. وأما ابن الأثير وتبعه النووي فجزما بأن قول من قال إنها بنت عبد الله بن أبي وهم وأن الصواب أنها أخت عبد الله بن أبي، وليس كما قالا بل الجمع أولى، وجمع بعضهم باتحاد اسم المرأة وعمتها وأن ثابتا خالع الثنتين واحدة بعد أخرى، ولا يخفى بعده، ولا سيما مع اتحاد

(9/398)


المخرج. وقد كثرت نسبة الشخص إلى جده إذا كان مشهورا، والأصل عدم التعدد حتى يثبت صريحا. وجاء في اسم امرأة ثابت بن قيس قولان آخران أحدهما أنها مريم المغالية أخرجه النسائي وابن ماجه من طريق محمد بن إسحاق "حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن الربيع بنت معوذ قالت اختلعت من زوجي" فذكرت قصة فيها "وإنما تبع عثمان في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية، وكانت تحت ثابت بن قيس فاختلعت منه" وإسناده جيد، قال البيهقي: اضطرب الحديث في تسمية امرأة ثابت، ويمكن أن يكون الخلع تعدد من ثابت انتهى. وتسميتها مريم يمكن رده للأول لأن المغالية وهي بفتح الميم وتخفيف الغين المعجمة نسبة إلى مغالة وهي امرأة من الخزرج ولدت لعمرو بن مالك بن النجار ولده عديا، فبنو عدي بن النجار يعرفون كلهم ببني مغالة، ومنهم عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت وجماعة من الخزرج، فإذا كان آل عبد الله بن أبي من بني مغالة فيكون الوهم وقع في اسمها، أو يكون مريم اسما ثالثا، أو بعضها لقب لها. والقول الثاني في اسمها أنها حبيبة بنت سهل أخرجه مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة بنت عبد الرحمن عن حبيبة بنت سهل أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة عند بابه في الغلس [قال]: من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل. قال: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس. لزوجها" الحديث، وأخرجه أصحاب السنن الثلاثة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان من هذا الوجه، وأخرجه أبو داود من طريق عبد الله بن أبي بكر بن عمر بن حزم "عن عمرة عن عائشة أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت "قال ابن عبد البر اختلف في امرأة ثابت بن قيس، فذكر البصريون أنها جميلة بنت أبي وذكر المدنيون أنها حبيبة بنت سهل. قلت: والذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لامرأتين لشهرة الخبرين وصحة الطريقين واختلاف السياقين، بخلاف ما وقع من الاختلاف في تسمية جميلة ونسبها فإن سياق قصتها متقارب فأمكن رد الاختلاف قيه إلى الوفاق، وسأبين اختلاف القصتين عند سياق ألفاظ قصة جميلة. وقد أخرج البزار من حديث عمر قال: "أول مختلعة في الإسلام حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس الحديث، وهذا على تقدير التعدد يقتضي أن ثابتا تزوج حبيبة قبل جميلة، ولو لم يكن في ثبوت ما ذكره البصريون إلا كون محمد بن ثابت بن قيس من جميلة لكان دليلا على صحة تزوج ثابت بجميلة. "تنبيه": وقع لابن الجوزي في تنقيحه أنها سهلة بنت حبيب، فما أظنه إلا مقلوبا، والصواب حبيبة بنت سهل، وقد ترجم لها ابن سعد في "الطبقات" فقال: بنت سهل بن ثعلبة بن الحارث، وساق نسبها إلى مالك ابن النجار وأخرج حديثها عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال: "كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس، وكان في خلقه شدة" فذكر نحو حديث مالك وزاد في آخره: "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أن يتزوجها ثم كره ذلك لغيرة الأنصار وكره أن يسوءهم في نسائهم. قوله: "أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس" في رواية إبراهيم بن طهمان عن أيوب وهي التي علقت هنا ووصلها الإسماعيلي: "جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري". وفي رواية سعيد عن قتادة عن عكرمة في هذه القصة "فقالت بأبي وأمي" أخرجها البيهقي. قوله: "ما أعتب عليه" بضم المثناة من فوق، ويجوز كسرها من العتاب يقال عتبت على فلان أعتب عتبا والاسم المعتبة، والعتاب هو الخطاب بالإدلال. وفي رواية بكسر العين بعدها تحتانية ساكنة من العيب وهي أليق بالمراد. قوله: "في خلق ولا دين" بضم الخاء المعجمة واللام ويجوز إسكانها، أي لا أريد مفارقته لسوء خلقه ولا لنقصان دينه، زاد في رواية أيوب

(9/399)


المذكورة "ولكني لا أطيقه" كذا فيه لم يذكر مميز عدم الطاقة، وبينه الإسماعيلي في روايته ثم البيهقي بلفظ: "لا أطيقه بغضا" وهذا ظاهره أنه لم يصنع بها شيئا يقتضي الشكوى منه بسببه، لكن تقدم من رواية النسائي أنه كسر يدها، فيحمل على أنها أرادت أنه سيء الخلق، لكنها ما تعيبه بذلك بل بشيء آخر. وكذا وقع في قصة حبيبة بنت سهل عند أبي داود أنه ضربها فكسر بعضها لكن لم تشكه واحدة منهما بسبب ذلك، بل وقع التصريح بسبب آخر وهو أنه كان دميم الخلقة، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن ماجه: "كانت حبيبة بنت سهل عند ثابت بن قيس وكان رجلا دميما، فقالت: والله لولا مخافة الله إذا دخل علي لبصقت في وجهه" وأخرج عبد الرزاق عن معمر قال: "بلغني أنها قالت: يا رسول الله بي من الجمال ما ترى، وثابت رجل دميم" وفي رواية معتمر بن سليمان عن فضيل عن أبي جرير عن عكرمة عن ابن عباس "أول خلع كان في الإسلام امرأة ثابت بن قيس، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. فقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته. ففرق بينهما". قوله: "ولكني أكره الكفر في الإسلام" أي أكره إن أقمت عنده أن أقع فيما يقتضي الكفر، وانتفى أنها أرادت أن يحملها على الكفر ويأمرها به نفاقا بقولها "لا أعتب عليه في دين" فتعين الحمل على ما قلناه. ورواية جرير بن حازم في أواخر الباب تؤيد ذلك حيث جاء فيها "إلا أني أخاف الكفر" وكأنها أشارت إلى أنها قد تحملها شدة كراهتها له على إظهار الكفر لينفسخ نكاحها منه، وهي كانت تعرف أن ذلك حرام لكن خشيت أن تحملها شدة البغض على الوقوع فيه، ويحتمل أن تريد بالكفر كفران العشير إذ هو تقصير المرأة في حق الزوج. وقال الطيبي: المعنى أخاف على نفسي في الإسلام ما ينافي حكمه من نشوز وفرك وغيره مما يتوقع من الشابة الجميلة المبغضة لزوجها إذا كان بالضد منها، فأطلقت على ما ينافي مقتضى الإسلام الكفر. ويحتمل أن يكون في كلامها إضمار، أي إكراه لوازم الكفر من المعاداة والشقاق والخصومة. ووقع في رواية إبراهيم بن طهمان "ولكني لا أطيقه" وفي رواية المستملي: "ولكن" وقد تقدم ما فيه. قوله: "أتردين" في رواية إبراهيم بن طهمان "فتردين" والفاء عاطفة على مقدر محذوف. وفي رواية جرير بن حازم "تردين" وهي استفهام محذوف الأداة كما دلت عليه الرواية الأخرى. قوله: "حديقته" أي بستانه، ووقع في حديث عمر أنه كان أصدقها الحديقة المذكورة ولفظه: "وكان تزوجها على حديقة نخل". قوله: "قالت نعم" زاد في حديث عمر "فقال ثابت أيطيب ذلك يا رسول الله؟ قال نعم". قوله: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" هو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب، ووقع في رواية جرير بن حازم "فردت عليه وأمره بفراقها" واستدل بهذا السياق على أن الخلع ليس بطلاق، وفيه نظر فليس في الحديث ما يثبت ذلك ولا ما ينفيه، فإن قوله: "طلقها إلخ" يحتمل أن يراد طلقها على ذلك فيكون طلاقا صريحا على عوض، وليس البحث فيه إنما الاختلاف فيما إذا وقع لفظ الخلع أو ما كان في حكمه من غير تعرض لطلاق بصراحة ولا كناية هل يكون الخلع طلاقا وفسخا؟ وكذلك ليس فيه التصريح بأن الخلع وقع قبل الطلاق أو بالعكس، نعم في رواية خالد المرسلة ثانية أحاديث الباب: "فردتها وأمره فطلقها" وليس صريحا في تقديم العطية على الأمر بالطلاق، بل يحتمل أيضا أن يكون المراد إن أعطتك طلقها، وليس فيه أيضا التصريح بوقوع صيغة الخلع، ووقع في مرسل أبي الزبير عند الدار قطني "فأخذها له وخلى سبيلها" وفي حديث حبيبة بنت سهل

(9/400)


"فأخذها منها وجلست في أهلها "لكن معظم الروايات في الباب تسميته خلعا، ففي رواية عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس "أنها اختلعت من زوجها" أخرجه أبو داود والترمذي. قوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. قوله: "لا يتابع فيه عن ابن عباس" أي لا يتابع أزهر بن جميل عن ذكر ابن عباس في هذا الحديث بل أرسله غيره، ومراده بذلك خصوص طريق خالد الحذاء عن عكرمة، ولهذا عقبه برواية خالد وهو ابن عبد الله الطحان عن خالد وهو الحذاء عن عكرمة مرسلا ثم برواية إبراهيم بن طهمان عن خالد الحذاء مرسلا وعن أيوب موسولا، ورواية إبراهيم بن طهمان عن أيوب الموصولة وصلها الإسماعيلي. قوله في هذه الرواية "لا أطيقه" تقدم بيانه وهو في جميع النسخ بالقاف، وذكر الكرماني أن في بعضها أطيعه "بالعين المهملة وهو تصحيف. ثم أشار البخاري إلى أنه اختلف على أيوب أيضا في وصل الخبر وإرساله فاتفق إبراهيم بن طهمان وجرير بن حازم على وصله، وخالفهما حماد بن زيد فقال: "عن أيوب عن عكرمة" مرسلا. ويؤخذ من إخراج البخاري هذا الحديث في الصحيح فوائد: منها أن الأكثر إذا وصلوا وأرسل الأقل قدم الواصل ولو كان الذي أرسل أحفظ، ولا يلزم منه أنه تقدم رواية الواصل على المرسل دائما. ومنها أن الراوي إذا لم يكن في الدرجة العليا من الضبط ووافقه من هو مثله اعتضد وقاومت الروايتان رواية الضابط المتقن. ومنها أن أحاديث الصحيح متفاوتة المرتبة إلى صحيح وأصح. وفي الحديث من الفوائد - غير ما تقدم - أن الشقاق إذا حصل من قبل المرأة فقط جاز الخلع والفدية، ولا يتقيد ذلك بوجوده منهما جميعا، وأن ذلك يشرع إذا كرهت المرأة عشرة الرجل ولو لم يكرهها ولم ير منها ما يقتضي فراقها. وقال أبو قلابة ومحمد بن سيرين: لا يجوز له أخذ الفدية منها إلا أن يرى على بطنها رجلا، أخرجه ابن أبي شيبة، وكأنهما لم يبلغهما الحديث. واستدل ابن سيرين بظاهر قوله تعالى :{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وتعقب بأن آية البقرة فسرت المراد بذلك مع ما دل عليه الحديث. ثم ظهر لي قاله ابن سيرين توجيه، وهو تخصيصه بما إذا كان ذلك من قبل الرجل بأن يكرهها وهي لا تكرهه فيضاجرها لتفتدي منه. فوقع النهي عن ذلك إلا أن يراها على فاحشة ولا يجد بينة ولا يحب أن يفضحها فيجوز حينئذ أن يفتدي منها ويأخذ منها ما تراضيا عليه ويطلقها، فليس في ذلك مخالفة للحديث لأن الحديث ورد فيما إذا كانت الكراهة من قبلها، واختار ابن المنذر أنه لا يجوز حتى يقع الشقاق بينهما جميعا، وإن وقع من أحدهما لا يندفع الإثم، وهو قوي موافق لظاهر الآيتين ولا يخالف ما ورد فيه، وبه قال طاوس والشعبي وجماعة من التابعين، وأجاب الطبري وغيره عن ظاهر الآية بأن المرأة إذا لم تقم بحقوق الزوج التي أمرت بها كان ذلك منفرا للزوج عنها غالبا ومقتضيا لبغضه لها فنسبت المخافة إليهما لذلك، وعن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفسر ثابتا هل أنت كارهها كما كرهتك أم لا؟ وفيه أن المرأة إذا سألت زوجها الطلاق على مال فطلقها وقع الطلاق. فإن لم يقع الطلاق صريحا ولا

(9/401)


نوياه ففيه الخلاف المتقدم من قبل. واستدل لمن قال بأنه فسخ بما وقع في بعض طرق حديث الباب من الزيادة، ففي رواية عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس عند أبي داود والترمذي في قصة امرأة ثابت بن قيس "فأمرها أن تعتد بحيضة" وعند أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث الربيع بنت معوذ "أن عثمان أمرها أن تعتد بحيضة" قال: "وتبع عثمان في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس" وفي رواية للنسائي والطبري من حديث الربيع بنت معوذ "أن ثابت بن قيس ضرب امرأته - فذكر نحو حديث الباب وقال في آخره - خذ الذي لها وخل سبيلها، قال: نعم، فأمرها أن تتربص حيضة وتلحق بأهلها" قال الخطابي في هذا أقوى دليل لمن قال أن الخلع فسخ وليس بطلاق، إذ لو طلاقا لم تكتف بحيضة للعدة ا هـ. وقد قال الإمام أحمد إن الخلع فسخ. وقال في رواية: وإنها لا تحل لغير زوجها حتى بمضي ثلاثة أقراء. فلم يكن عنده بين كونه فسخا وبين النقص من العدة تلازم، واستدل به على أن الفدية لا تكون إلا بما أعطى الرجل المرأة عينا أو قدرها لقوله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته" وقد وقع في رواية سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في آخر حديث الباب عند ابن ماجه والبيهقي "فأمره أن يأخذ منها ولا يزداد" وفي رواية عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد قال أيوب لا أحفظ "ولا تزدد" ورواه ابن جريج عن عطاء مرسلا ففي رواية ابن المبارك وعبد الوهاب عنه "أما الزيادة فلا"، زاد ابن المبارك عن مالك وفي رواية الثوري "وكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطى" ذكر ذلك كله البيهقي، قال ووصله الوليد بن مسلم عن ابن جريج بذكر ابن عباس فيه أخرجه أبو الشيخ قال: وهو غير محفوظ، يعني الصواب إرساله. وفي مرسل أبي الزبير عند الدار قطني والبيهقي "أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ قالت، نعم وزيادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا، ولكن حديقته، قالت نعم. فأخذ ماله وخلى سبيلها" ورجال إسناده ثقات. وقد وقع في بعض طرقه سمعه أبو الزبير من غير واحد فإن كان فيهم صحابي فهو صحيح وإلا فيعتضد بما سبق، لكن ليس فيه دلالة على الشرط، فقد يكون ذلك وقع على سبيل الإشارة رفقا بها. وأخرج عبد الرزاق عن علي "لا يأخذ منها فوق ما أعطاها" وعن طاوس وعطاء والزهري مثله، وهو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق. وأخرج إسماعيل بن إسحاق عن ميمون بن مهران "من أخذ أكثر مما أعطى لم يسرح بإحسان" ومقابل هذا ما أخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: "ما أحب أن يأخذ منها ما أعطاها ليدع لها شيئا" وقال مالك لم أزل أسمع أن الفدية تجوز بالصداق وبأكثر منه لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ولحديث حبيبة بنت سهل، فإذا كان النشوز من قبلها حل للزوج ما أخذ منها برضاها، وإن كان من قبله لم يحل له ويرد عليها إن أخذ وتمضي الفرقة. وقال الشافعي: إذا كانت غير مؤدية لحقه كارهة له حل له أن يأخذ، فإنه يجوز أن يأخذ منها ما طابت به نفسا بغير سبب فبالسبب أولى. وقال إسماعيل القاضي: ادعى بعضهم أن المراد بقوله تعالى :{فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي بالصداق وهو مردود لأنه لم يقيد في الآية بذلك. وفيه أن الخلع جائز في الحيض لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصلها أحائض هي أم لا؟ لكن يجوز أن يكون ترك دلك لسبق العلم به أو كان قبل تقريره فلا دلالة فيه لمن يخصه من منع طلاق الحائض، وهذا كله تفريع على أن الخلع طلاق. وفيه أن الأخبار الواردة في ترهيب المرأة من طلب طلاق زوجها محمولة على ما إذا لم يكن بسبب يقتضي ذلك لحديث ثوبان "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق فحرام عليها رائحة الجنة" رواه

(9/402)


أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان؛ ويدل على تخصيصه قوله في بعض طرقه: "من غير ما بأس" ولحديث أبي هريرة "المنتزعات والمختلعات هن المنافقات" أخرجه أحمد والنسائي، وفي صحته نظر لأن الحسن عند الأكثر لم يسمع من أبي هريرة، لكن وقع في رواية النسائي: قال الحسن لم أسمع من أبي هريرة غير هذا الحديث. وقد تأوله بعضهم على أنه أراد لم يسمع هذا إلا من حديث أبي هريرة، وهو تكلف، وما المانع أن يكون سمع هذا منه فقط وصار يرسل عنه غير ذلك فتكون قصته في ذلك كقصته مع سمرة في حديث العقيقة كما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى. وقد أخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر عن الحسن مرسلا لم يذكر فيه أبا هريرة. وفيه أن الصحابي إذا أفتى بخلاف ما روى أن المعتبر ما رواه لا ما رآه، لأن ابن عباس روى قصة امرأة ثابت بن قيس الدالة على أن الخلع طلاق وكان يفتي بأن الخلع ليس بطلاق، لكن ادعى ابن عبد البر شذوذ ذلك عن ابن عباس إذ لا يعرف له أحد نقل عنه أنه فسخ وليس بطلاق إلا طاوس، وفيه نظر لأن طاوسا ثقة حافظ فقيه فلا يضره تفرده، وقد تلقى العلماء ذلك بالقبول. ولا أعلم من ذكر الاختلاف في المسألة إلا وجزم أن ابن عباس كان يراه فسخا. نعم أخرج إسماعيل القاضي بسند صحيح عن ابن أبي نجيح "أن طاوسا لما قال إن الخلع ليس بطلاق أنكره عليه أهل مكة، فاعتذر وقال: إنما قاله ابن عباس" قال إسماعيل: لا نعلم أحدا قاله غيره ا هـ. ولكن الشأن في كون قصة ثابت صريحة في كون الخلع طلاقا. "تكميل": نقل ابن عبد البر عن مالك أن المختلعة هي التي اختلعت من جميع مالها، وأن المفتدية التي افتدت ببعض مالها، وأن المبارئة التي بارأت زوجها قبل الدخول. قال ابن عبد البر: وقد يستعمل بعض ذلك موضع بعض

(9/403)


13- باب الشِّقَاقِ وَهَلْ يُشِيرُ بِالْخُلْعِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} إِلَى قَوْلِهِ {خَبِيرًا}
5279- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ بَنِي الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يَنْكِحَ عَلِيٌّ ابْنَتَهُمْ فَلاَ آذَنُ"
قوله:" باب الشقاق، وهل يشير بالخلع عند الضرورة؟ وقوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الآية كذا لأبي ذر والنسفي، ولكن وقع عنده "الضرر" وزاد غيرهما {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} - إلى قوله :{خَبِيرًا} "قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن المخاطب بقوله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الحكام، وأن المراد بقوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً} الحكمان، وأن الحكمين يكون أحدهما من جهة الرجل والآخر من جهة المرأة إلا أن لا يوجد من أهلهما من يصلح فيجوز أن يكون من الأجانب ممن يصلح لذلك، وأنهما إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، وإن اتفقا نفذ في الجمع بينهما من غير توكيل. واختلفوا فيما إذا اتفقا على الفرقة، فقال مالك والأوزاعي وإسحاق: ينفذ بغير توكيل ولا إذن من الزوجين. وقال الكوفيون والشافعي وأحمد: يحتاجان إلى الإذن، فأما مالك ومن تابعه فألحقوه بالعنين والمولى فإن الحاكم يطلق عليهما فكذلك هذا، وأيضا فلما كان المخاطب بذلك الحكام وأن الإرسال إليهم دل على أن بلوغ الغاية من الجمع أو التفريق إليهم، وجرى الباقون على الأصل وهو أن الطلاق بيد

(9/403)


الزوج فإن إذن في ذلك وإلا طلق عليه الحاكم. ثم ذكر طرفا من حديث المسور في خطبة على بنت أبي جهل وقد تقدمت الإشارة إليه في النكاح، واعترضه ابن التين بأنه ليس فيه دلالة على ما ترجم به، ونقل ابن بطال قبله عن المهلب قال: إنما حاول البخاري بإيراده أن يجعل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فلا آذن" خلعا ولا يقوى ذلك لأنه قال في الخبر "إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي" فدل على الطلاق، فإن أراد أن يستدل بالطلاق على الخلع فهو ضعيف وإنما يؤخذ منه الحكم بقطع الذرائع. وقال ابن المنير في الحاشية: يمكن أن يؤخذ من كونه صلى الله عليه وسلم أشار بقوله: "فلا آذن" إلى أن عليا يترك الخطبة، فإذا ساغ جواز الإشارة بعدم النكاح التحق به جواز الإشارة بقطع النكاح. وقال الكرماني تؤخذ مطابقة الترجمة من كون فاطمة ما كانت ترضى بذلك، فكان الشقاق بينها وبين علي متوقعا، فأراد صلى الله عليه وسلم دفع وقوعه بمنع على من ذلك بطريق الإيماء والإشارة، وهي مناسبة جيدة، ويؤخذ من الآية ومن الحديث العمل بسد الذرائع، لأن الله تعالى أمر ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق قبل وقوعه، كذا قال المهلب، ويحتمل أن يكون المراد بالخوف وجود علامات الشقاق المقتضى لاستمرار النكد وسوء المعاشرة

(9/404)


14- باب لاَ يَكُونُ بَيْعُ الأَمَةِ طَلاَقًا
5279- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاَثُ سُنَنٍ إِحْدَى السُّنَنِ أَنَّهَا أُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ قَالَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ"
قوله: "باب لا يكون بيع الأمة طلاقا" في رواية المستملي: "طلاقها" ثم أورد فيه قصة بريرة، قال ابن التين: لم يأت في الباب بشيء مما يدل عليه التبويب، لكن لو كانت عصمتها عليه باقية ما خيرت بعد عتقها، لأن شراء عائشة كان العتق بإزائه، وهذا الذي قاله عجيب، أما أولا فإن الترجمة مطابقة فإن العتق إذا لم يستلزم الطلاق فالبيع بطريق الأولى، وأيضا فإن التخيير الذي جر إلى الفراق لم يقع إلا بسبب العتق لا بسبب البيع، وأما ثانيا فإنها لو طلقت بمجرد البيع لم يكن للتخيير فائدة، وأما ثالثا فإن آخر كلامه يرد أوله، فإنه يثبت ما نفاه من المطابقة، قال ابن بطال: اختلف السلف هل يكون بيع الأمة طلاقا؟ فقال الجمهور: لا يكون بيعها طلاقا، وروى عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب ومن التابعين عن سعيد بن المسيب والحسن ومجاهد قالوا: يكون طلاقا وتمسكوا بظاهر قوله تعالى :{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وحجة الجمهور حديث الباب، وهو أن بريرة عتقت فخيرت في زوجها، فلو كان طلاقها يقع بمجرد البيع لم يكن للتخيير معنى. ومن حيث النظر أنه عقد على منفعة فلا يبطله بيع الرقبة كما في العين المؤجرة، والآية نزلت في المسبيات فهن المراد بملك اليمين على ما ثبت في الصحيح من سبب نزولها ا هـ ملخصا. وما نقله عن الصحابة أخرجه ابن أبي شيبة بأسانيد فيها انقطاع، وفيه عن جابر وأنس أيضا، وما نقله عن التابعين فيه بأسانيد صحيحة، وفيه أيضا عن عكرمة والشعبي نحوه، وأخرجه سعيد بن منصور عن

(9/404)


ابن عباس بسند صحيح، وروى حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إذا زوج عبده بأمته فالطلاق بيد العبد وإذا اشترى أمة لها زوج فالطلاق بيد المشتري. وأخرج سعيد بن منصور من طريق الحسن قال: إباق العبد طلاقه. حديث عائشة في قصة بريرة أورد المصنف في أول الصلاة وفي عدة أبواب مطولا ومختصرا، وطريق ربيعة التي أوردها هنا أوردها موصولة من طريق مالك عنه عن القاسم عن عائشة، وأوردها في الأطعمة من طريق إسماعيل بن جعفر عنه عن القاسم مرسلا، ولا يضر إرساله لأن مالكا أحفظ من إسماعيل وأتقن، وقد وافقه أسامة بن زيد وغير واحد عن القاسم، وكذلك رواه عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، لكن صدره بقصة اشتراط الذين باعوها على عائشة أن يكون لهم الولاء، وقد تقدم مستوفى في كتاب العتق، وكذا رواه عروة وعمرة والأسود وأيمن المكي عن عائشة، وكذا رواه نافع عن ابن عمر أن عائشة، ومنهم من قال عن ابن عمر عن عائشة، وروى قصة البرمة واللحم أنس وتقدم حديثه في الهبة ويأتي، وروى ابن عباس قصة تخييرها لما عتقت كما يأتي بعد وطرقه كلها صحيحة. قوله: "كان في بريرة" تقدم ذكرها وضبط اسمها في أواخر العتق، وقيل إنها نبطية بفتح النون والموحدة وقيل إنها قبطة بكسر القاف وسكون الموحدة، وقيل إن اسم أبيها صفوان وأن له صحبة، واختلف في مواليها ففي رواية أسامة بن زيد عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة أن بريرة كانت لناس من الأنصار، وكذا عند النسائي من رواية سماك عن عبد الرحمن، ووقع في بعض الشروح لآل أبي لهب وهو وهم من قائله انتقل وهمه من أيمن أحد رواة قصة بريرة عن عائشة إلى بريرة، وقيل لآل بني هلال أخرجه الترمذي من رواية جرير عن هشام ابن عروة. قوله: "ثلاث سنن" وفي رواية هشام بن عروة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه "ثلاث قضيات" وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود "قضى فيها النبي صلى الله عليه وسلم أربع قضيات" فذكر نحو حديث عائشة وزاد: "وأمرها أن تعتد عدة الحرة" أخرجه الدار قطني، وهذه الزيادة لم تقع في حديث عائشة فلذلك اقتصرت على ثلاث، لكن أخرج ابن ماجه من طريق الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: "أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض" وهذا مثل حديث ابن عباس في قوله: "تعتد عدة الحرة" ويخالف ما وقع في رواية أخرى عن ابن عباس "تعتد بحيضة" وقد تقدم البحث في عدة المختلعة وأن من قال الخلع فسخ قال تعتد بحيضة، وهنا ليس اختيار العتيقة نفسها طلاقا فكان القياس أن تعتد بحيضة، لكن الحديث الذي أخرجه ابن ماجه على شرط الشيخين بل هو في أعلى درجات الصحة، وقد أخرج أبو يعلى والبيهقي من طريق أبي معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عدة بريرة عدة المطلقة" وهو شاهد قوي، لأن أبا معشر وإن كان فيه ضعف لكن يصلح في المتابعات. وأخرج ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن عثمان وابن عمر وزيد بن ثابت وآخرين "أن الأمة إذا أعتقت تحت العبد فطلاقها طلاق عبد وعدتها عدة حرة" وقد قدمت في العتق أن العلماء صنفوا في قصة بريرة تصانيف، وأن بعضهم أوصلها إلى أربعمائة فائدة، ولا يخالف ذلك قول عائشة "ثلاث سنن" لأن مراد عائشة ما وقع من الأحكام فيها مقصودا خاصة، لكن لما كان كل حكم منها يشتمل على تقعيد قاعدة يستنبط العالم الفطن منها فوائد جمة وقع التكثر من هذه الحيثية، وانضم إلى ذلك ما وقع في سياق القصة غير مقصود، فإن في ذلك أيضا فوائد تؤخذ بطريق التنصيص أو الاستنباط، أو اقتصر على الثلاث أو الأربع لكونها أظهر ما فيها وما عداها إنما يؤخذ بطريق الاستنباط، أو لأنها أهم والحاجة إليها أمس. قال القاضي عياض: معنى ثلاث أو أربع

(9/405)


أنها شرعت في قصتها، وما يظهر فيها مما سوى ذلك فكان قد علم من غير قصتها، وهذا أولى من قول من قال: ليس في كلام عائشة حصر، ومفهوم العدد ليس بحجة وما أشبه ذلك من الاعتذارات التي لا تدفع سؤال ما الحكمة في الاقتصار على ذلك. قوله: "إنها أعتقت فخيرت" زاد في رواية إسماعيل بن جعفر "في أن تقر تحت زوجها أو تفارقه" وتقر بفتح وتشديد الراء أي تدوم، وتقدم في العتق من طريق الأسود عن عائشة "فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم فخيرها من زوجها فاختارت نفسها" وفي رواية للدار قطني من طريق أبان صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: اذهبي فقد عتق معك بضعك" زاد ابن سعد من طريق الشعبي مرسلا "فاختاري" ويأتي تمام ذلك في شرح الباب الذي بعد هذا ببابين. قوله: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق" هذه السنة الثانية، وقد تقدم بيان سببها مستوفى في العتق والشروط. وفي رواية نافع عن ابن عمر الماضية وكذا عن عدة طرق عن عائشة "إنما الولاء لمن أعتق" ويستفاد منه أن كلمة "إنما" تفيد الحصر وإلا لما لزم من إثبات الولاء للمعتق نفيه عن غيره وهو الذي أريد من الخبر، ويؤخذ منه أنه لا ولاء للإنسان على أحد بغير العتق فينتفي من أسلم على يده أحد، وسيأتي البحث فيه في الفرائض وأنه لا ولاء للملتقط خلافا لإسحاق، ولا لمن حالف إنسانا خلافا لطائفة من السلف، وبه قال أبو حنيفة. ويؤخذ من عمومه أن الحربي لو أعتق عبدا ثم أسلما أنه يستمر ولاؤه له وبه قال الشافعي. وقال ابن عبد البر إنه قياس قول مالك، ووافق على ذلك أبو يوسف، وخالف أصحابه فإنهم قالوا للعتيق في هذه الصورة أن يتولى من يشاء. قوله: "ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية إسماعيل بن جعفر "بيت عائشة". قوله: "والبرمة تفور بلحم، فقرب إليه خبز وأدم" في رواية إسماعيل بن جعفر "فدعا بالغداء فأتى بخبز". قوله: "ألم أر البرمة فيها لحم؟ قالوا: بلى، ولكن ذاك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة" وقع في رواية الأسود عن عائشة في الزكاة "وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فقالوا هذا ما تصدق به على بريرة" وكذا في حديث أنس في الهبة، ويجمع بينهما بأنه لما سأل عنه أتى به وقيل له هل ذلك. ووقع في رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة في كتاب الهبة "فأهدى لها لحم فقيل هذا تصدق به على بريرة" فإن كان الضمير لبريرة فكأنه أطلق على الصدقة عليها هدية لها، وإن كان لعائشة فلأن بريرة لما تصدقوا عليها باللحم أهدت منه لعائشة. ويؤيده ما وقع في رواية أسامة بن زيد عن القاسم عند أحمد وابن ماجه: "ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرجل يفور بلحم، فقال: من أين لك هذا؟ قلت: أهدته لنا بريرة وتصدق به عليها" وعند أحمد ومسلم من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة "وكان الناس يتصدقون عليها فتهدي لنا" وقد تقدم في الزكاة ما يتعلق بهذا المعنى، واللحم المذكور وقع في بعض الشروح أنه كان لحم بقر، وفيه نظر بل جاء عن عائشة "تصدق على مولاتي بشاة من الصدقة" فهو أولى أن يؤخذ به، ووقع بعد قوله: "هو عليها صدقة ولنا هدية" من رواية أبي معاوية المذكورة "فكلوه"، وسأذكر فوائده بعد بابين إن شاء الله تعالى

(9/406)


15- باب خِيَارِ الأَمَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ
5280- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَهَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَأَيْتُهُ عَبْدًا يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ"
[الحديث 5280- أطرافه في: 5281، 5282، 5283]

(9/406)


5281- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ذَاكَ مُغِيثٌ عَبْدُ بَنِي فُلاَنٍ يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتْبَعُهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ يَبْكِي عَلَيْهَا"
5282- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ عَبْدًا لِبَنِي فُلاَنٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ وَرَاءَهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ"
قوله: "باب خيار الأمة تحت العبد" يعني إذا عتقت، وهذا مصير من البخاري إلى ترجيح قول من قال إن زوج بريرة كان عبدا، وقد ترجم في أوائل النكاح بحديث عائشة في قصة بريرة "باب الحرة تحت العبد" وهو جزم منه أيضا بأنه كان عبدا، ويأتي بيان ذلك في الباب الذي يليه، واعترض عليه هناك ابن المنير بأنه ليس في حديث الباب أن زوجها كان عبدا، وإثبات الخيار لها لا يدل لأن المخالف يدعي أن لا فرق في ذلك بين الحر والعبد، والجواب أن البخاري جرى على عادته من الإشارة إلى ما في بعض طرق الحديث الذي يورده، ولا شك أن قصة بريرة لم تتعدد، وقد رجح عنده أن زوجها كان عبدا فلذلك جزم به، واقتضت الترجمة بطريق المفهوم أن الأمة إذا كانت تحت حر فعتقت لم يكن لها خيار، وقد اختلف العلماء في ذلك: فذهب الجمهور إلى ذلك، وذهب الكوفيون إلى إثبات الخيار لمن عتقت سواء كانت تحت حر أم عبد، وتمسكوا بحديث الأسود بن يزيد عن عائشة أن زوج بريرة كان حرا، وقد اختلف فيه على راوية هل هو من قول الأسود أو رواه عن عائشة أو هو قول غيره كما سأبينه، قال إبراهيم بن أبي طالب أحد حفاظ الحديث وهو من أقارن مسلم فيما أخرجه البيهقي عنه: خالف الأسود الناس في زوج بريرة. وقال الإمام أحمد إنما يصح أنه كان حرا عن الأسود وحده، وما جاء عن غيره فليس بذاك، وصح عن ابن عباس وغيره انه كان عبدا، ورواه علماء المدينة، وإذا روى علماء المدينة شيئا وعملوا به فهو أصح شيء، وإذا عتقت الأمة تحت الحر فعقدها المتفق على صحته لا يفسخ بأمر مختلف فيه ا هـ. وسيأتي مزيد لهذا بعد بابين وحاول بعض الحنفية ترجيح رواية من قال كان حرا على رواية من قال كان عبدا فقال: الرق تعقبه الحرية بلا عكس، وهو كما قال، لكن محل طريق الجمع إذا تساوت الروايات في القوة أما مع التفرد في مقابلة الاجتماع فتكون الرواية المنفردة شاذة والشاذ مردود، ولهذا لم يعتبر الجمهور طريق الجمع بين الروايتين مع قولهم إنه لا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع، والذي يتحصل من كلام محققيهم وقد أكثر منه الشافعي ومن تبعه أن محل الجمع إذا لم يظهر الغلط في إحدى الروايتين، ومنهم من شرط التساوي في القوة، قال ابن بطال: أجمع العلماء أن الأمة إذا عتقت تحت عبد فإن لها الخيار، والمعنى فيه ظاهر لأن العبد غير مكافئ للحرة في أكثر الأحكام، فإذا عتقت ثبت لها الخيار من البقاء في عصمته أو المفارقة لأنها في وقت العقد عليها لم تكن من أهل الاختيار، واحتج من قال إن لها الخيار ولو كانت تحت حر بأنها عند التزويج لم يكن لها رأي لاتفاقهم على أن لمولاها أن يزوجها بغير رضاها فإذا عتقت تجدد لها حال لم يكن قبل ذلك. وعارضهم الآخرون بأن ذلك لو كان مؤثرا لثبت الخيار للبكر إذا زوجها أبوها ثم بلغت رشيدة وليس كذلك فكذلك الأمة تحت الحر فإنه لم يحدث لها بالعتق حال ترتفع به عن

(9/407)


الحر فكانت كالكتابية تسلم تحت المسلم، واختلف في التي تختار الفراق هل يكون ذلك طلاقا أو فسخا؟ فقال مالك والأوزاعي والليث: تكون طلقه بائنة، وثبت مثله عن الحسن وابن سيرين أخرجه ابن أبي شيبة. وقال الباقون يكون فسخا لا طلاقا. قوله: "عن ابن عباس قال: رأيته عبدا يعني زوج بريرة" هكذا أورده مختصرا من هذا الوجه وهو لفظ شعبة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق مربع عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه عن شعبة وحده، وزاد الإسماعيلي من طريق عبد الصمد عن شعبة "رأيته يبكي" وفي رواية له "لقد رأيته يتبعها" وأما لفظ همام فأخرجه أبو داود من طريق عفان عنه بلفظ: "أن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم وأمرها أن تعتد" وساقه أحمد عن عفان عن همام مطولا وفيه أنها تعتد عدة الحرة. ثم أورد البخاري الحديث من وجهين عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال في أحدهما "ذاك مغيث عبد بني فلان" يعني زوج بريرة، وفي الأخرى "كان زوج بريرة عبدا أسود يقال له مغيث" وهكذا جاء من غير وجه أن اسمه مغيث، وضبط في البخاري بضم أوله كسر المعجمة ثم تحتانية ساكنة ثم مثلثة، ووقع عند العسكري بفتح المهملة وتشديد التحتانية وآخره موحدة، والأول أثبت وبه جزم ابن ماكولا وغيره، ووقع عند المستغفري في "الصحابة" من طريق محمد ابن عجلان عن يحيى بن عروة عن عروة عن عائشة في قصة بريرة أن اسم زوج بريرة مقسم، وما أظنه إلا تصحيفا. قوله: "عبدا لبني فلان" عند الترمذي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن أيوب "كان عبدا أسود لبني المغيرة" وفي رواية هشيم عن سعيد بن منصور "وكان عبدا لآل المغيرة من بني مخزوم" ووقع في المعرفة لابن منده مغيث مولى أحمد بن جحش، ثم ساق الحديث من طريق سعيد بن أبي عروبة مثل ما وقع في الترمذي، لكن عند أبي داود بسند فيه ابن إسحاق "وهي عند مغيث عبد لآل أبي أحمد" وقال ابن عبد البر "مولى بني مطيع" والأول أثبت لصحة إسناده ويبعد الجمع لأن بني المغيرة من آل مخزوم في رواية هشيم وبني جحش من أسد بن خزيمة وبني مطيع من آل عدي بن كعب، ويمكن أن يدعي أنه كان مشتركا بينهم على بعده، أو انتقل. قوله: "عبدا لبني فلان" عند الترمذي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن أيوب "كان عبدا أسود لبني المغيرة" وفي رواية هشيم عن سعيد بن منصور "وكان عبدا لآل المغيرة من بني مخزوم" ووقع في المعرفة لابن منده مغيث مولى أحمد بن جحش، ثم ساق الحديث من طريق سعيد بن أبي عروبة مثل ما وقع في الترمذي، لكن عند أبي داود بسند فيه ابن إسحاق "وهي عند مغيث عبد لآل أبي أحمد" وقال ابن عبد البر "مولى بني مطيع" والأول أثبت لصحة إسناده ويبعد الجمع لأن بني المغيرة من آل مخزوم في رواية هشيم وبني جحش من أسد بن خزيمة وبني مطيع من آل عدي بن كعب، ويمكن أن يدعي أنه كان مشتركا بينهم على بعده، أو انتقل.

(9/408)


16- باب شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ
5283- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِعبَّاسٍ يَا عَبَّاسُ أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَاجَعْتِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي قَالَ إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ قَالَتْ لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ"
قوله: "باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة" أي عند بريرة لترجع إلى عصمته، قال ابن المنير: موقع هذه الترجمة من الفقه تسويغ الشفاعة للحاكم عند الخصم في خصمه أن يحط عنه أو يسقط ونحو ذلك، وتعقب بأن قصة بريرة لم تقع الشفاعة فيها عند الترافع، وفيه نظر لأن ظاهر حديث الباب أنه بعد الحكم؛ لكن لم يصرح بالترافع إذ رؤية ابن عباس لزوجها يبكي، وقول العباس وبعده لو راجعته، فيحتمل أن يكون القول عند الترافع لأن الواو لا تقتضي الترتيب. قوله: "حدثني محمد" هو ابن سلام على ما بينت في المقدمة وقد أخرجه النسائي عن محمد بن بشار

(9/408)


وابن ماجه عن محمد بن المثنى ومحمد بن خلاد الباهلي قالوا "حدثنا عبد الوهاب الثقفي"، وابن بشار وابن المثنى من شيوخ البخاري فيحتمل أن يكون المراد أحدهما. قوله: "حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي وخالد شيخه هو الحذاء، وقد سبق في الباب الذي قبله عن قتيبة عن عبد الوهاب وهو الثقفي هذا عن أيوب، فكأن له فيه شيخين لكن رواية خالد الحذاء أتم سياقا كما ترى، وطريق أيوب أخرجها الإسماعيلي من طريق محمد بن الوليد البصري عن عبد الوهاب الثقفي، وطريق خالد أخرجها من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي عن الثقفي أيضا وساقه عنهما نحو ما وقع عند البخاري. قوله: "يطوف خلفها يبكي" في رواية وهيب عن أيوب في الباب الذي قبله "يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها" والسكك بكسر المهملة وفتح الكاف جمع سكة وهي الطرق، ووقع في رواية سعيد بن أبي عروبة "في طرق المدينة ونواحيها، وأن دموعه تسيل على لحيته يترضاها لمختاره فلم تفعل" وهذا ظاهره أن سؤاله لها كان قبل الفرقة، وظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية الباب: "لو راجعته" أن ذلك كان بعد الفرقة، وبه جزم ابن بطال فقال: لو كان قبل الفرقة لقال لو اخترته، قلت: ويحتمل أن يكون وقع له ذلك قيل وبعد. وقد تمسك برواية سعيد من لم يشترط الفور في الخيار هنا، وسيأتي البحث فيه بعد. قوله: "يا عباس" هو ابن عبد المطلب والد راوي الحديث، وتقدم ما فيه. وفي رواية ابن ماجه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "للعباس يا عباس" وعند سعيد بن منصور عن هشيم قال: "أنبأنا خالد هو الحذاء بسنده أن العباس كان كلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب إليها في ذلك" وفيه دلالة على أن قصة بريرة كانت متأخرة في السنة التاسعة أو العاشرة، لأن العباس إنما سكن المدينة بعد رجوعهم من غزوة الطائف وكان ذلك في أواخر سنة ثمان، ويؤيده أيضا قول ابن عباس أنه شاهد ذلك، وهو إنما قدم المدينة مع أبويه. ويؤيد تأخر قصتها أيضا - بخلاف قول من زعم أنها كانت قبل الإفك - أن عائشة في ذلك الزمان كانت صغيرة، فيبعد وقوع تلك الأمور والمراجعة والمسارعة إلى الشراء والعتق منها يومئذ، وأيضا فقول عائشة "إن شاء مواليك أن أعدها لهم عدة واحدة" فيه إشارة إلى وقوع ذلك في آخر الأمر لأنهم كانوا في أول الأمر في غاية الضيق ثم حصل لهم التوسع بعد الفتح، وفي كل ذلك رد على من زعم أن قصتها كانت متقدمة قبل قصة الإفك، وحمله على ذلك وقوع ذكرها في حديث الإفك، وقد قدمت الجواب عن ذلك هناك. ثم رأيت الشيخ تقي الدين السبكي استشكل القصة ثم جوز أنها كانت تخدم عائشة قبل شرائها أو اشترتها وأخرت عتقها إلى بعد الفتح أو دام حزن زوجها عليها مدة طويلة أو كان حصل الفسخ وطلب أن ترده بعقد جديد أو كانت لعائشة ثم باعتها ثم استعادتها بعد الكتابة ا هـ، وأقوى الاحتمالات الأول كما ترى. قوله: "لو راجعته" كذا في الأصول بمثناة واحدة ووقع في رواية ابن ماجه: "لو راجعتيه" بإثبات تحتانية ساكنة بعد المثناة وهي لغة ضعيفة، وزاد ابن ماجه: "فإنه أبو ولدك" وظاهره أنه كان له منها ولد. قوله: "تأمرني" زاد الإسماعيلي: "قال لا" وفيه إشعار بأن الأمر لا ينحصر في صيغة افعل لأنه خاطبها بقوله: "لو راجعته. فقالت: أتأمرني "أي تريد بهذا القول الأمر فيجب علي؟ وعند ابن مسعود من مرسل ابن سيرين يسند صحيح "فقالت: يا رسول الله. أشيء واجب على؟ قال: لا". قوله: "قال: إنما أنا أشفع" في رواية ابن ماجه: "إنما أشفع" أي أقول ذلك على سبيل الشفاعة له لا على سبيل الحتم عليك. قوله: "فلا حاجة لي فيه" أي فإذا لم تلزمني بذلك لا اختيار العود إليه. وقد وقع في الباب الذي بعده "لو أعطاني كذا وكذا ما كنت عنده".

(9/409)


باب الولاء لمن اعتق
...
17- باب 5284- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ أَنَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَأَبَى مَوَالِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلاَءَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَحْمٍ فَقِيلَ إِنَّ هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّة"ٌ
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَزَادَ فَخُيِّرَتْ مِنْ زَوْجِهَا"
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة، وهو من متعلقات ما قبله، وأورد فيه قصة بريرة عن عبد الله بن رجاء عن شعبة عن الحكم وهو ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغر عن إبراهيم وهو النخعي عن الأسود وهو ابن يزيد "أن عائشة أرادت أن تشتري بريرة" فساق القصة مختصرة وصورة سياقه الإرسال، لكن أورده في كفارات الأيمان مختصرا عن سليمان بن حرب عن شعبة فقال فيه: "عن الأسود عن عائشة" وكذا أورده في الفرائض عن حفص ابن عمر عن شعبة وزاد في آخره: "قال الحكم: وكان زوجها حرا" ثم أورده بعده من طريق منصور عن إبراهيم عن الأسود أن عائشة فساق نحو سياق الباب وزاد فيه: "وخيرت فاختارت نفسها وقالت: لو أعطيت كذا وكذا ما كنت معه، قال الأسود: وكان زوجها حرا" قال البخاري: قول الأسود منقطع، وقول ابن عباس "رأيته عبدا" أصح. وقال في الذي قبله في قول الحكم نحو ذلك، وقد أورد البخاري عقب رواية عبد الله بن رجاء هذه عن آدم عن شعبة ولم يسق لفظه لكن قال: "وزاد: فخيرت من زوجها" وقد أورده في الزكاة عن آدم بهذا الإسناد فلم يذكر هذه الزيادة، وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر عن آدم شيخ البخاري فيه فجعل الزيادة من قول إبراهيم ولفظه في آخره: "قال الحكم قال إبراهيم: وكان زوجها حرا فخيرت من زوجها" فظهر أن هذه الزيادة مدرجة وحذفها في الزكاة لذلك، وإنما أوردها هنا مشيرا إلى أن أصل التخيير في قصة بريرة ثابت من طريق أخرى وقد قال الدار قطني في "العلل" : لم يختلف على عروة عن عائشة أنه كان عبدا، وكذا قال جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن عائشة، وأبو الأسود وأسامة بن زيد عن القاسم. قلت: وقع لبعض الرواة فيه غلط، فأخرج قاسم بن أصبغ في مصنفه وابن حزم من طريقه قال أنبأنا أحمد بن يزيد المعلم حدثنا موسى بن معاوية عن جرير عن هشام عن أبيه عن عائشة "كان زوج بريرة حرا" وهذا وهم من موسى أو من أحمد، فإن الحفاظ من أصحاب هشام ومن أصحاب جرير قالوا كان عبدا، منهم إسحاق بن راهويه وحديثه عن النسائي، وعثمان بن أبي شيبة وحديثه عند أبي داود، وعلي بن حجر وحديثه عند الترمذي، وأصله عند مسلم وأحال به على رواية أبي أسامة عن هشام وفيه أنه كان عبدا، قال الدار قطني: وكذا قال أبو معاوية عن هشام بن عروة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه. قلت: ورواه شعبة عن عبد الرحمن فقال كان حرا، ثم رجع عبد الرحمن فقال ما أدري، وقد تقدم في العتق قال الدار قطني وقال عمران بن حدير عن عكرمة عن عائشة كان حرا وهو وهم، قلت: في شيئين في قوله حر وفي قوله عائشة، وإنما هو من رواية عكرمة عن ابن عباس، ولم يختلف على ابن عباس في أنه كان عبدا، وكذا جزم به الترمذي عن ابن عمر وحديثه عند الشافعي والدار قطني وغيرهما، وكذا أخرجه النسائي من حديث صفية بنت أبي عبيد قالت كان زوج بريرة عبدا

(9/410)


وسنده صحيح. وقال النووي: يؤيد قول من قال أنه كان عبدا قول عائشة كان عبدا، ولو كان حرا لم يخيرها، فأخبرت وهي صاحبة القصة بأنه كان عبدا، ثم عللت بقولها "ولو كان حرا لم يخيرها" ومثل هذا لا يكاد أحد يقوله إلا توقيفا، وتعقب بأن هذه الزيادة في رواية جرير عن هشام بن عروة في آخر الحديث، وهي مدرجة من قول عروة، بين ذلك في رواية مالك وأبي داود والنسائي. نعم وقع في رواية أسامة بن زيد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: "كانت بريرة مكاتبة لأناس من الأنصار وكانت تحت عبد" الحديث أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي، وأسامة فيه مقال، وأما دعوى أن ذلك لا يقال إلا بتوقيف فمردودة فإن للاجتهاد فيه مجالا، وقد تقدم قريبا توجيهه من حيث النظر أيضا، قال الدار قطني "وقال إبراهيم عن الأسود عن عائشة: كان حرا". قلت: وأصرح ما رأيته في ذلك رواية أبي معاوية "حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: كان زوج بريرة حرا فلما عتقت خيرت" الحديث أخرجه أحمد عنه. وأخرج ابن أبي شيبة عن إدريس عن الأعمش بهذا السند عن عائشة قالت: "كان زوج بريرة حرا" ومن وجه آخر عن النخعي عن الأسود أن عائشة حدثته "أن زوج بريرة كان حرا حين أعتقت" فدلت الروايات المفصلة التي قدمتها آنفا على أنه مدرج من قول الأسود أو من دونه فيكون من أمثلة ما أدرج في أول الخبر وهو نادر فإن الأكثر أن يكون في آخره ودونه أن يقع في وسطه، وعلى تقدير أن يكون موصولا فترجح رواية من قال كان عبدا بالكثرة، وأيضا فآل المرء أعرف بحديثه، فإن القاسم ابن أخي عائشة وعروة ابن أختها وتابعهما غيرهما فروايتهما أولى من رواية الأسود فإنهما أقعد بعائشة وأعلم بحديثها والله أعلم. ويترجح أيضا بأن عائشة كانت تذهب إلى أن الأمة إذا عتقت تحت الحر لا خيار لها، وهذا بخلاف ما روى العراقيون عنها فكان يلزم على أصل مذهبهم أن يأخذوا بقولها ويدعوا ما روي عنها لا سيما وقد اختلف عنها فيه، وادعى بعضهم أنه يمكن الجمع بين الروايتين بحمل قول من قال كان عبدا على اعتبار ما كان عليه ثم أعتق، فلذلك قال من قال كان حرا، ويرد هذا الجمع ما تقدم من قول عروة "كان عبدا ولو كان حرا لم تخير" وأخرجه الترمذي بلفظ: "أن زوج بريرة كان عبدا أسود يوم أعتقت" فهذا يعارض الرواية المتقدمة عن الأسود، ويعارض الاحتمال المذكور احتمال أن يكون من قال كان حرا أراد ما آل إليه أمره، وإذا تعارضا إسنادا واحتمالا احتيج إلى الترجيح ورواية الأكثر يرجح بها وكذلك الأحفظ وكذلك الألزم، وكل ذلك موجود في جانب من قال كان عبدا. وفي قصة بريرة من الفوائد وقد تقدم بعضها في المساجد وفي الزكاة والكثير منها في العتق: جواز المكاتبة بالسنة تقريرا لحكم الكتاب، وقد روى ابن أبي شيبة في "الأوائل" بسند صحيح أنها أول كتابة كانت في الإسلام، ويرد عليه قصة سلمان، فيجمع بأن أوليته في الرجال وأولية بريرة في النساء، وقد قيل إن أول مكاتب الإسلام أبو أمية عبد عمر، وادعى الروياني أن الكتابة لم تكن تعرف في الجاهلية وخولف. ويؤخذ من مشروعية نجوم الكتابة البيع إلى أجل والاستقراض ونحو ذلك، وفيه إلحاق الإماء بالعبيد لأن الآية طاهرة في الذكور، وفيه جواز كتابة أحد الزوجين الرقيقين، ويلحق به جواز بيع أحدهما دون الآخر، وجواز كتابة من لا مال له ولا حرفة، كذا قيل وفيه نظر لأنه لا يلزم من طلبها من عائشة الإعانة على حالها أن يكون لا مال لها ولا حرفة، وفيه جواز بيع المكاتب إذا رضي ولم يعجز نفسه إذا وقع التراضي بذلك، وحمله من منع على أنها عجزت نفسها قبل البيع ويحتاج إلى دليل، وقيل إنما وقع البيع على نجوم الكتابة وهو

(9/411)


بعيد جدا ويؤخذ منه أن المكاتب عبد ما بقي عليه شيء، فيتفرع منه إجراء أحكام الرقيق كلها في النكاح والجنايات والحدود وغيرها. وقد أكثر بسردها من ذكرنا أنهم جمعوا الفوائد المستنبطة من حديث بريرة. ومن ذلك أن من أدى أكثر نجومه لا يعتق تغليبا لحكم الأكثر، وأن من أدى من النجوم بقدر قيمته يعتق، وأن من أدى بعض نجومه لم يعتق منه بقدر ما أدى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في شراء بريرة من غير استفصال. وفيه جواز بيعه المكاتب والرقيق بشرط العتق، وأن بيع الأمة المزوجة ليس طلاقا كما تقدم تقريره قريبا وأن عتقها ليس طلاقا ولا فسخا لثبوت التخيير، فلو طلقت بذلك واحدة لكان لزوجها الرجعة ولم يتوقف على إذنها، أو ثلاثا لم يقل لها لو راجعته لأنها ما كانت تحل له إلا بعد زوج آخر، وأن بيعها لا يبيح لمشتريها وطأها لأن تخييرها يدل على بقاء علقة العصمة وأن سيد المكاتب لا يمنعه من الاكتساب وأن اكتسابه من حين الكتابة يكون له جواز سؤال المكاتب من يعينه على بعض نجومه وإن لم تحل، وأن ذلك لا يقتضي تعجيزه، وجواز سؤال ما لا يضطر السائل إليه في الحال، وجواز الاستعانة بالمرأة المزوجة، وجواز تصرفها في مالها بغير إذن زوجها، وبذل المال في طلب الأجر حتى في الشراء بالزيادة على ثمن المثل بقصد التقرب بالعتق، ويؤخذ منه جواز شراء من يكون مطلق التصرف السلعة بأكثر من ثمنها لأن عائشة بذلت نقدا ما جعلوه نسيئة في تسع سنين لحصول الرغبة في النقد أكثر من النسيئة، وجواز السؤال في الجملة لمن يتوقع الاحتياج إليه فيتحمل الأخبار الواردة في الزجر عن السؤال على الأولوية. وفيه جواز سعي المرقوق في فكاك رقبته ولو كان بسؤال من يشتري ليعتق وإن أضر ذلك بسيده لتشوف الشارع إلى العتق، وفيه بطلان الشروط الفاسدة في المعاملات وصحة الشروط المشروعة لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وقد تقدم بسطه في الشروط، ويؤخذ منه أن من استثنى خدمة المرقوق عند بيعه لم يصح شرطه، وأن من شرط شرطا فاسدا لم يستحق العقوبة إلا أن علم بتحريمه وأصر عليه، وأن سيد المكاتب لا يمنعه من السعي في تحصيل مال الكتابة ولو كان حقه في الخدمة ثابتا، وأن المكاتب إذا أدى نجومه من الصدقة لم يردها السعيد وإذا أدى نجومه قبل حلولها كذلك، ويؤخذ منه أنه يعتق أخذا من قول موالي بريرة "إن شاءت أن تحتسب عليك" فإن ظاهره في قبول تعجيل ما اتفقوا على تأجيله ومن لازمه حصول العتق، ويؤخذ منه أيضا أن من تبرع عن المكاتب بما عليه عتق، واستدل به على عدم وجوب الوضع عن المكاتب لقول عائشة "أعدها لهم عدة واحدة" ولم ينكر، وأجيب بجواز قصد دفعهم لها بعد القبض. وفيه جواز إبطال الكتابة وفسخ عقدها إذا تراضى السيد والعبد، وإن كان فيه إبطال التحرير لتقرير بريرة على السعي بين عائشة ومواليها في فسخ كتابتها لتشتريها عائشة. وفيه ثبوت الولاء للمعتق والرد على من خالفه، ويؤخذ من ذلك عدة مسائل كعتق السائبة واللقيط والحليف ونحو ذلك كثر بها العدد من تكلم على حديث بريرة. وفيه مشروعية الخطبة في الأمر المهم والقيام فيها، وتقدمة الحمد والثناء، وقول أما بعد عند ابتداء الكلام في الحاجة، وأن من وقع منه ما ينكر استحب عدم تعيينه؛ وأن استعمال السجع في الكلام لا يكره إلا إذا قصد إليه ووقع متكلفا. وفيه جواز اليمين فيما لا تجب فيه ولا سيما عند العزم على فعل شيء، وأن لغو اليمين لا كفارة فيه لأن عائشة حلفت أن لا تشترط ثم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم اشترطي ولم ينقل كفارة. وفيه مناجاة الاثنين بحضرة الثالث في الأمر يستحي منه المناجي ويعلم أن من ناجاه يعلم الثالث به ويستثنى ذلك من النهي الوارد فيه، وفيه جواز سؤال الثالث عن المناجاة المذكورة إذا ظن أن له تعلقا به وجواز

(9/412)


إظهار السر في ذلك ولا سيما إن كان فيه مصلحة للمناجي. وفيه جواز المساومة في المعاملة والتوكيل فيها ولو للرقيق، واستخدام الرقيق في الأمر الذي يتعلق بمواليه وإن لم يأذنوا في ذلك بخصوصه. وفيه ثبوت الولاء للمرأة المعتقة فيستثنى من عموم الولاء لحمة كلحمة النسب فإن الولاء لا ينتقل إلى المرأة بالإرث بخلاف النسب. وفيه أن الكافر يرث ولاء عتيقه المسلم وإن كان لا يرث قريبه المسلم، وأن الولاء لا يباع ولا يوهب وقد تقدم في باب مفرد في العتق، ويؤخذ منه أن معنى قوله في الرواية الأخرى "الولاء لمن أعطى الورق" أن المراد بالمعطى المالك لا من باشر الإعطاء مطلقا فلا يدخل الوكيل، ويؤيده قوله في رواية الثوري عند أحمد "لمن أعطى الورق وولى النعمة" وفيه ثبوت الخيار للأمة إذا عتقت على التفصيل المتقدم وأن خيارها يكون على الفور لقوله في بعض طرقه: "إنها عتقت فدعاها فخيرها فاختارت نفسها" وللعلماء في ذلك أقوال: أحدها وهو قول الشافعي أنه على الفور، وعنه يمتد خيارها ثلاثا، وقيل بقيامها من مجلس الحاكم وقيل من مجلسها وهما عن أهل الرأي، وقيل يمتد أبدا وهو قول مالك والأوزاعي وأحمد وأحد أقوال الشافعي، واتفقوا على أنه إن مكنته من وطئها سقط خيارها، وتمسك من قال به بما جاء في بعض طرقه وهو عند أبي داود من طريق ابن إسحاق بأسانيد عن عائشة أن بريرة أعتقت فذكر الحديث وفي آخره: "إن قربك فلا خيار لك" وروى مالك بسند صحيح عن حفصة أنها أفتت بذلك. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر مثله، قال ابن عبد البر: لا أعلم لهما مخالفا من الصحابة. وقال به جمع من التابعين منهم الفقهاء السبعة، واختلف فيما لو وطئها قبل علمها بأن لها الخيار هل يسقط أو لا؟ على قولين للعلماء أصحهما عند الحنابلة لا فرق، وعند الشافعية تعذر بالجهل. وفي رواية الدار قطني: إن وطئك فلا خيار لك، ويؤخذ من هذه الزيادة أن المرأة إذا وجدت بزوجها عيبا ثم مكنته من الوطء بطل خيارها. وفيه أن الخيار فسخ لا يملك الزوج فيه رجعة، وتمسك من قال له الرجعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو راجعته" ولا حجة فيه وإلا لما كان لها اختيار فتعين حمل المراجعة في الحديث على معناها اللغوي والمراد رجوعها إلى عصمته، ومنه قوله تعالى :{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} مع أنها في المطلق ثلاثا. وفيه إبطال قول من زعم استحالة أن يحب أحد الشخصين الآخر والآخر يبغضه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تعجب من حيث مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا" ؟ نعم يؤخذ منه أن ذلك هو الأكثر الأغلب، ومن ثم وقع التعجب لأنه على خلاف المعتاد، وجوز الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به أن يكون ذلك مما ظهر من كثرة استمالة مغيث لها بأنواع من الاستمالات كإظهاره حبها وتردده خلفها وبكائه عليها مع ما ينضم إلى ذلك من استمالته لها بالقول الحسن والوعد الجميل، والعادة في مثل ذلك أن يميل القلب ولو كان نافرا فلما خالفت العادة وقع التعجب، ولا يلزم منه ما قال الأولون. وفيه أن المرء إذا خير بين مباحين فآثر ما ينفعه لم يلم ولو أضر ذلك برفيقه. وفيه اعتبار الكفاءة في الحرية. وفيه سقوط الكفاءة برضا المرأة التي لا ولي لها، وأن من خير امرأته فاختارت فواقه وقع وانفسخ النكاح بينهما وقد تقدم، وأنها لو اختارت البقاء معه لم ينقص عدد الطلاق. وكثر بعض من تكلم على حديث بريرة هنا في سرد تفاريع التخيير. وفيه أن المرأة إذا ثبت لها الخيار فقالت لا حاجة لي به ترتب على ذلك حكم الفراق، كذا قيل وهو مبني على أن ذلك وقع قبل اختيارها الفراق ولم يقع إلا بهذا الكلام وفيه من النظر ما تقدم. وفيه جواز دخول النساء الأجانب بيت الرجل سواء كان فيه أم لا. وفيه أن المكاتبة لا يلحقها في العتق ولدها ولا زوجها. وفيه تحريم الصدقة على النبي

(9/413)


صلى الله عليه وسلم مطلقا، وجواز التطوع منها على ما يلحق به في تحريم صدقة الفرض كأزواجه ومواليه، وأن موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا تحرم عليهن الصدقة وإن حرمت على الأزواج، وجواز أكل الغنى ما تصدق به على الفقير إذا أهداه له وبالبيع أولى، وجواز قبول الغني هدية الفقير. وفيه الفرق قين الصدقة والهدية في الحكم. وفيه نصح أهل الرجل له في الأمور كلها وجواز أكل الإنسان من طعام من يسر بأكله منه ولو لم يأذن له فيه بخصوصه، وبأن الأمة إذا عتقت جاز لها التصرف بنفسها في أمورها ولا حجر لمعتقها عليها إذا كانت رشيدة، وأنها تتصرف في كسبها دون إذن زوجها إن كان لها زوج. وفيه جواز الصدقة على من يمونه غيره لأن عائشة كانت تمون بريرة ولم ينكر عليها قبولها الصدقة، وأن لمن أهدى لأهله شيء أن يشرك نفسه معهم في الإخبار عن ذلك لقوله: "وهو لنا هدية" وأن من حرمت عليه الصدقة جاز له أكل عينها إذا تغير حكمها، وأنه يجوز للمرأة أن تدخل إلى بيت زوجها ما لا يملكه بغير علمه، وأن تتصرف في بيته بالطبخ وغيره بالاته ووقوده، وجواز أكل المرء ما يجده في بيته إذا غلب الحل في العادة، وأنه ينبغي تعريفه بما يخشى توقفه عنه، واستحباب السؤال عما يستفاد به علم أو أدب أو بيان حكم أو رفع شبهة وقد يجب، وسؤال الرجل عما لم يعهده في بيته، وأن هدية الأدنى للأعلى لا تستلزم الإثابة مطلقا، وقبول الهدية وإن نزر قدرها جبر للمهدي، وأن الهدية تملك بوضعها في بيت المهدي له ولا يحتاج إلى التصريح بالقبول، وأن لمن تصدق عليه بصدقة أن يتصرف فيها بما شاء ولا ينقص أجر المتصدق، وأنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إذا لم يكن فيه شبهة، ولا عن الذبيحة إذا ذبحت بين المسلمين، وأن من تصدق عليه قليل لا يتسخطه. وفيه مشاورة المرأة زوجها في التصرفات، وسؤال العالم عن الأمور الدينية، وإعلام العالم بالحكم لمن رآه يتعاطى أسبابه ولو لم يسأل ومشاورة المرأة إذا ثبت لها حكم التخيير في فراق زوجها أو الإقامة عنده، وأن على الذي يشاور بذل النصيحة. وفيه جواز مخالفة المشير فيما يشير به في غير الواجب، واستحباب شفاعة الحاكم في الرفق بالخصم حيث لا ضرر ولا إلزام، ولا لوم على من خالف ولا غضب ولو عظم قدر الشافع، وترجم له النسائي: "شفاعة الحاكم في الخصوم قبل فصل الحكم ولا يجب على المشفوع عنده القبول"، ويؤخذ منه أن التصميم في الشفاعة لا يسوغ فيما تشق الإجابة فيه على المسئول بل يكون على وجه العرض والترغيب. وفيه جواز الشفاعة قبل أن يسألها المشفوع له لأنه لم ينقل أن مغيثا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع له، كذا قيل، وقد قدمت أن في بعض الطرق أن العباس هو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فيحتمل أن يكون مغيث سأل العباس في ذلك ويحتمل أن يكون العباس ابتدأ ذلك من قبل نفسه شفقة منه على مغيث، ويؤخذ منه استحباب إدخال السرور على قلب المؤمن. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به: فيه أن الشافع يؤجر ولو لم تحصل إجابته، وأن المشفوع عنده إذا كان دون قدر الشافع لم تمتنع الشفاعة، قال: وفيه تنبيه الصاحب صاحبه على الاعتبار بآيات الله وأحكامه لتعجيب النبي صلى الله عليه وسلم العباس من حب مغيث بريرة، قال: ويؤخذ منه أن نظره صلى الله عليه وسلم كان كله بحضور وفكر، وأن كل ما خالف العادة يتعجب منه ويعتبر به. وفيه حسن أدب بريرة لأنها لم تفصح برد الشفاعة وإنما قالت: "لا حاجة لي فيه". وفيه أن فرط الحب يذهب الحياء لما ذكر من حال مغيث وغلبة الوجد عليه حتى لم يستطع كتمان حبها، وفي ترك النكير عليه بيان جواز قبول عذر من كان في مثل حاله ممن يقع منه ما لا يليق بمنصبه إذا وقع بغير اختياره، ويستنبط من هذا معذرة أهل المحبة في الله إذا حصل لهم الوجد من سماع ما يفهمون منه الإشارة إن أحوالهم حيث

(9/414)


يظهر منهم مالا يصدر عن اختيار من الرقص ونحوه، وفيه استحباب الإصلاح بين المتنافرين سواء كانا زوجين أم لا، وتأكيد الحرمة بين الزوجين إذا كان بينهما ولد لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه أبو ولدك" ويؤخذ منه أن الشافع يذكر للمشفوع عنده ما يبعث إلى قبوله من مقتضى الشفاعة والحامل عليها، وفيه جواز شراء الأمة دون ولدها وأن الولد يثبت بالفراش والحكم بظاهر الأمر في ذلك. قلت: ولم أقف على تسمية أحد من أولاد بريرة، والكلام محتمل لأن يريد به أنه أبو ولدها بالقوة لكنه خلاف الظاهر. وفيه جواز نسبة الولد إلى أمه. وفيه أن المرأة الثيب لا إجبار عليها ولو كانت معتوقة، وجواز خطبة الكبير والشريف لمن هو دونه. وفيه حسن الأدب في المخاطبة حتى من الأعلى مع الأدنى، وحسن التلطف في الشفاعة. وفيه أن للعيد أن يخطب مطلقته بغير إذن سيد، وأن خطبة المعتدة لا تحرم على الأجنبي إذا خطبها لمطلقها، وأن فسخ النكاح لا رجعة فيه إلا بنكاح جديد، وأن الحب والبغض بين الزوجين لا لوم فيه على واحد منهما لأنه بغير اختيار، وجواز بكاء المحب على فراق حبيبه وعلى ما يفوته من الأمور الدنيوية ومن الدينية بطريق الأولى، وأنه لا عار على الرجل في إظهار حبه لزوجته، وأن المرأة إذا أبغضت الزوج لم يكن لوليها إكراهها على عشرته، وإذا أحبته لم يكن لوليها التفريق بينهما، وجواز ميل الرجل إلى امرأة يطمع في تزويجها أو رجعتها، وجواز كلام الرجل لمطلقته في الطرق واستعطافه لها واتباعها أين سلكت كذلك، ولا يخفى أن محل الجواز عند أمن الفتنة، وجواز الإخبار عما يظهر من حال المرء وإن لم تفصح به لقوله صلى الله عليه وسلم للعباس ما قال. وفيه جواز رد الشافع المنة على المشفوع إليه بقبول شفاعته، لأن قول بريرة للنبي صلى الله عليه وسلم: "أتأمرني" ظاهر في أنه لو قال: "نعم" لقبلت شفاعته، فلما قال: "لا" علم أنه رد عليها ما فهم من المنة في امتثال الأمر، كذا قيل وهو متكلف، بل يؤخذ منه أن بريرة علمت أن أمره وجب الامتثال، فلما عرض عليها ما عرض استفصلت هل هو أمر فيجب عليها امتثاله، أو مشورة فتتحير فيها؟ وفيه أن كلام الحاكم بين الخصوم في مشورة وشفاعة ونحوهما ليس حكما. وفيه أنه يجوز لمن سئل قضاء حاجة أن يشترط على الطالب ما يعود عليه نفعه، لأن عائشة شرطت أن يكون لها الولاء إذا أدت الثمن دفعة واحدة. وفيه جواز أداء الدين على المدين، وأنه يبرأ بأداء غيره عنه، وإفتاء الرجل زوجته فيما لها حظ وغرض إذا كان حقا، وجواز حكم الحاكم لزوجته بالحق، وجواز قول مشتري الرقيق اشتريته لأعتقه ترغيبا للبائع في تسهل البيع، وجواز المعاملة بالدراهم والدنانير عددا إذا كان قدرها بالكتابة معلوما لقولها "أعدها" ولقولها "تسع أواق" ويستنبط منه جواز بيع المعاطاة. وفيه جواز عقد البيع بالكتابة لقوله: "خذيها" ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في حديث الهجرة "قد أخذتها بالثمن". وفيه أن حق اللد مقدم على حق الآدمي لقوله: "شرط الله أحق وأوثق" ومثله الحديث الآخر "دين الله أحق أن يقضي" وفيه جواز الاشتراك في الرقيق لتكرر ذكر أهل بريرة في الحديث. وفي رواية: "كانت لناس من الأنصار" ويحتمل مع ذلك الوحدة وإطلاق ما في الخبر على المجاز. وفيه أن الأيدي ظاهرة في الملك، وأن مشتري السلعة لا يسأل عن أصلها إذا لم تكن ريبة. وفيه استحباب إظهار أحكام العقد للعالم بها إذا كان العاقد يجهلها. وفيه أن حكم الحاكم لا يغير الحكم الشرعي فلا يحل حراما ولا عكسه. وفيه قبول خبر الواحد الثقة وخبر العبد والأمة وروايتهما. وفيه أن البيان بالفعل أقوى من القول، وجواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة والمبادرة إليه عند الحاجة، وفيه أن الحاجة إذا اقتضت بيان حكم عام وجب إعلانه أو ندب بحسب الحال. وفيه جواز الرواية بالمعنى والاختصار من الحديث،

(9/415)


والاقتصار على بعضه بحسب الحاجة، فإن الواقعة واحدة وقد رويت بألفاظ مختلفة وزاد بعض الرواة ما لم يذكر الآخر ولم يقدح ذلك في صحته عند أحد العلماء. وفيه أن العدة بالنساء لما تقدم من حديث ابن عباس أنها أمرت أن تعتد عدة الحرة، ولو كان بالرجال لأمرت أن تعتد بعدة الإماء. وفيه أن عدة الأمة إذا عتقت تحت عبد فاختارت نفسها ثلاثة قروء، وأما ما وقع في بعض طرقه: "تعتد بحيضة" فهو مرجوح، ويحتمل أن أصله "تعتد بحيض" فيكون المراد جنس ما تستبرئ به رحمها لا الوحدة وفيه تسمية الأحكام سننا وإن كان بعضها واجبا، وأن تسمية ما دون الواجب سنة اصطلاح حادث. وفيه جواز جبر السيد أمته على تزويج من لا تختاره إما لسوء خلقه أو خلقه وهي بالضد من ذلك، فقد قيل إن بريرة كانت جميلة غير سوداء بخلاف زوجها وقد زوجت منه وظهر عدم اختيارها لذلك بعد عتقها. وفيه أن أحد الزوجين قد يبغض الآخر ولا يظهر له ذلك، ويحتمل أن تكون بريرة مع بغضها مغيثا كانت تصير على حكم الله عليها في ذلك ولا تعامله بما يقضيه البغض إلى أن فرج الله عنها. وفيه تنبيه صاحب الحق على ما وجب له إذا جهله، واستقلال المكاتب بتعجيز نفسه، وإطلاق الأهل على السادة وإطلاق العبيد على الأرقاء، وجواز تسمية العبد مغيثا، وأن مال الكتابة لا حد لأكثره وأن للمعتق أن يقبل الهدية من معتقه ولا يقدح ذلك في ثواب العتق، وجواز الهدية لأهل الرجل بغير استئذانه، وقبول المرأة ذلك حيث لا ريبة وفيه سؤال الرجل عما لم يعهده في بيته، ولا يرد على هذا ما تقدم في قصة أم زرع حيث وقع في سياق المدح "ولا يسأل عما عهد" لأن معناه كما تقدم ولا يسأل عن شيء عهده وفات فلا يقول لأهله أين ذهب؟ وهنا سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء رآه وعاينه ثم أحضر له غيره فسأل عن سبب ذلك لأنه يعلم أنهم لا يتركون إحضاره له شحا عليه بل لتوهم تحريمه، فأراد أن يبين لهم الجواز. وقال ابن دقيق العيد: فيه دلالة على تبسيط الإنسان في السؤال عن أحوال منزله وما عهده فيه قبل والأول أظهر، وعندي أنه مبني على خلاف ما انبنى عليه الأول، لأن الأول بنى على أنه علم حقيقة الأمر في اللحم وأنه مما تصدق به على بريرة، والثاني بنى على أنه لم يتحقق من أين هو فجائز أن يكون مما أهدى لأهل بيته من بعض إلزامها كأقاربها مثلا ولم يتعين الأول. وفيه أنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إليه إذا لم يظن تحريمه أو تظهر فيه شبهة، إذ لم يسأل صلى الله عليه وسلم عمن تصدق على بريرة ولا عن حاله، كذا قيل، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أرسل إلى بريرة بالصدقة فلم يتم هذا.

(9/416)


باب قوله تعالى:(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم)
...
18- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلاَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}
285- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ أَعْلَمُ مِنْ الإِشْرَاكِ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا عِيسَى وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ"
قوله: "باب قول الله سبحانه {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} كذا للأكثر؛ وساق في رواية كريمة إلى قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} ولم يبت البخاري حكم المسألة لقيام الاحتمال عنده في تأويلها، فالأكثر أنها على العموم وأنها خصت

(9/416)


بآية المائدة، وعن بعض السلف أن المراد بالمشركات هنا عبدة الأوثان والمجوس حكاه ابن المنذر وغيره. ثم أورد المصنف فيه قول ابن عمر في نكاح النصرانية وقوله لا أعلم من الإشراك شيئا أكثر من أن تقول المرأة ربها عيسى" وهذا مصير منه إلى استمرار حكم عموم آية البقرة، فكأنه يرى أن آية المائدة منسوخة وبه جزم إبراهيم الحربي، ورده النحاس فحمله على التورع كما سيأتي، وذهب الجمهور إلى أن عموم آية البقرة خص بآية المائدة وهي قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فبقي سائر المشركات على أصل التحريم وعن الشافعي قول آخر أن عموم آية البقرة أريد به خصوص آية المائدة، وأطلق ابن عباس أن آية البقرة منسوخة بآية المائدة، وقد قيل إن ابن عمر شذ بذلك فقال ابن المنذر لا يحفظ عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك ا ه، لكن أخرج ابن أبي شيبة بسند حسن أن عطاء كره نكاح اليهوديات والنصرانيات وقال: كان ذلك والمسلمات قليل، وهذا ظاهر في أنه خص الإباحة بحال دون حال. وقال أبو عبيد: المسلمون اليوم على الرخصة. وروى عن عمر أنه كان يأمر بالتنزه عنهن من غير أن يحرمهن. وزعم ابن المرابط تبعا للنحاس وغيره أن هذا مراد ابن عمر أيضا لكنه خلاف ظاهر السياق، لكن الذي احتج به ابن عمر يقتضي تخصيص المنع بمن يشرك من أهل الكتاب لا من يوحد، وله أن يحمل آية الحل على من لم يبدل دينه مهم، وقد فصل كثير من العلماء كالشافعية بين من دخل آباؤها في ذلك الدين قبل التحريف أو النسخ أو بعد ذلك، وهو من جنس مذهب ابن عمر بل يمكن أن يحمل عليه، وتقدم بحث في ذلك الكلام على حديث هرقل في كتاب الإيمان، فذهب الجمهور إلى تحريم النساء المجوسيات، وجاء عن حذيفة أنه تسرى بمجوسية أخرجه ابن أبي شيبة وأورده أيضا عن سعيد بن المسيب وطائفة وبه قال أبو ثور. وقال ابن بطال هو محجوج بالجماعة والتنزيل، وأجيب بأنه لا إجماع مع ثبوت الخلاف عن بعض الصحابة والتابعين، وأما التنزيل فظاهره أن المجوس ليسوا أهل كتاب لقوله تعالى :{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} لكن لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس دل على أنهم أهل كتاب، فكان القياس أن يجري عليهم بقية أحكام الكتابيين، لكن أجيب عن أخذ الجزية من المجوس أنهم اتبعوا فيهم الخير، ولم يرد مثل ذلك في النكاح والذبائح، وسيأتي تعرض. لذلك في كتاب الذبائح إن شاء الله تعالى.

(9/417)


19- باب نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُشْرِكَاتِ وَعِدَّتِهِنَّ
5286- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا مُشْرِكِي أَهْلِ حَرْبٍ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ وَمُشْرِكِي أَهْلِ عَهْدٍ لاَ يُقَاتِلُهُمْ وَلاَ يُقَاتِلُونَهُ وَكَانَ إِذَا هَاجَرَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ وَلَهُمَا مَا لِلْمُهَاجِرِينَ ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مِثْلَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ يُرَدُّوا وَرُدَّتْ أَثْمَانُهُمْ"

(9/417)


5287- وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَتْ قَرِيبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَتْ أُمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ الْفِهْرِيِّ فَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمانَ الثَّقَفِيُّ"
قوله: "باب نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن" أي قدرها، والجمهور على أنها تعتد عدة الحرة، وعن أبي حنيفة يكفي أن تستبرأ بحيضة. قوله: "أنبأنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "وقال عطاء" هو معطوف على شيء محذوف، كأنه كان في جملة أحاديث حدث بها ابن جريج عن عطاء ثم قال: "وقال عطاء" كما قال بعد فراغه من الحديث: "قال وقال عطاء" فذكر الحديث الثاني بعد سياقه ما أشار إليه من أنه مثل حديث مجاهد. وفي هذا الحديث بهذا الإسناد علة كالتي تقدمت في تفسير سورة نوح، وقد قدمت الجواب عنها، وحاصلها أن أبا مسعود الدمشقي ومن تبعه جزموا بأن عطاء المذكور هو الخراساني، وأن ابن جرير لم يسمع منه التفسير وإنما أخذه عن أبيه عثمان عنه، وعثمان ضعيف، وعطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس وحاصله الجواب جواز أن يكون الحديث عند ابن جريج بالإسنادين، لأن مثل ذلك لا يخفى على البخاري مع تشدده في شرط الاتصال، مع كون الذي نبه على العلة المذكورة هو على بن المديني شيخ البخاري المشهور به، وعليه يعول غالبا في هذا الفن خصوصا علل الحديث. وقد ضاق مخرج هذا الحديث على الإسماعيلي ثم على أبي نعيم فلم يخرجاه إلا من طريق البخاري نفسه. قوله: "لم تخطب" بضم أوله "حتى تحيض وتطهر" تمسك بظاهره الحنفية، وأجاب الجمهور بأن المراد تحيض ثلاث حيض، لأنها صارت بإسلامها وهجرتها من الحرائر بخلاف ما لو سبيت. وقوله: "فإن هاجر زوجها معها" يأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده. قوله: "وإن هاجر عبد منهم" أي من أهل الحرب. قوله: "ثم ذكر من أهل العهد مثل حديث مجاهد" يحتمل أن يعني بحديث مجاهد الذي وصفه بالمثلية الكلام المذكور بعد هذا وهو قوله: "وإن هاجر عبد أو أمة للمشركين إلخ"، ويحتمل أن يريد به كلاما آخر يتعلق بنساء أهل العهد وهو أولى، لأنه قسم المشركين إلى قسمين: أهل حرب، وأهل عهد. وذكر حكم نساء أهل الحرب ثم حكم أرقائهم، فكأنه أحال بحكم نساء أهل العهد على حديث مجاهد، ثم عقبه بذكر حكم أرقائهم. وحديث مجاهد في ذلك وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عنه في قوله: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} أي إن أصبتم مغنما من قريش فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا عوضا، وسيأتي بسط هذا في الباب الذي يليه. قوله: "وقال عطاء عن ابن عباس" هو موصول بالإسناد المذكور أولا عن ابن جريج كما بينته قبل. قوله: "كانت قريبة" بالقاف والموحدة مصغرة في أكثر النسخ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف وتبعه الذهبي، وكذلك هو في نسخة معتمدة من طبقات ابن سعد. وكذا للكشميهني في حديث عائشة الماضي في الشروط. وللأكثر بالتصعير كالذي هنا، وحكى ابن التين في هذا الاسم الوجهين. وقال شيخنا في القاموس بالتصغير وقد تفتح. قوله: "ابنة أبي أمية" أي ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر في أنها لم تكن أسلمت في هذا الوقت، وهو ما بين عمرة الحديبية وفتح مكة، وفيه نظر لأنه ثبت في النسائي بسند صحيح من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة في قصة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بها ففيه: "وكانت أم سلمة

(9/418)


ترضع زينب بنتها فجاء عمار فأخذها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أين زناب؟ فقالت قريبة بنت أبي أمية صادفها عندها: أخذها عمار" الحديث فهذا يقتضي أنها هاجرت قديما لأن تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة كان بعد أحد وقبل الحديبية بثلاث سنين أو أكثر، لكن يحتمل أن تكون جاءت إلى المدينة زائرة لأختها قبل أن تسلم، أو كانت مقيمة عند زوجها عمر على دينها قبل أن تنزل الآية، وليس في مجرد كونها كانت حاضرة عند تزويج أختها أن تكون حينئذ مسلمة. لكن يرده أن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري لما نزلت: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فذكر القصة وفيها "فطلق عمر امرأتين كانتا له بمكة" فهذا يرد أنها كانت مقيمة ولا يرد أنها جاءت زائرة، ويحتمل أن يكون لأم سلمة أختان كل منهما تسمى قريبة تقدم إسلام إحداهما وهي التي كانت حاضرة عند تزويج أم سلمة وتأخر إسلام الأخرى وهي المذكورة هنا، ويؤيد هذا الثاني أن ابن سعد قال في "الطبقات" قريبة الصغرى بنت أبي أمية أخت أم سلمة تزوجها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فولدت له عبد الله وحفصة وأم حكيم، وساق بسند صحيح أن قريبة قالت لعبد الرحمن وكان في خلقه شدة "لقد حذروني منك، قال: فأمرك بيدك، قالت: لا أختار على ابن الصديق أحدا. فأقام عليها" وتقدم في الشروط من وجه آخر في هذه القصة في آخر حديث الزهري عن عروة عن مروان والمسور فذكر الحديث ثم قال: "وبلغنا أن عمر طلق امرأتين كانتا له في الشرك قريبة وابنة أبي جرول، فتزوج قريبة معاوية وتزوج الأخرى أبو جهم بن حذيفة" وهو مطابق لما هنا وزائد عليه، وتقدم من وجه آخر مثله لكن قال: "وتزوج الأخرى صفوان بن أمية" فيمكن الجمع بأن يكون أحدهما تزوج قبل الآخر وأما بنت أبي جرول فوقع في المغازي الكبرى لابن إسحاق "حدثني الزهري عن عروة أنها أم كلثوم بنت عمرو بن جرول" فكأن أباها كنى باسم والده، وجرول بفتح الجيم، وقد بينت ق آخر الحديث الطويل في الشروط أن القائل "وبلغنا" هو الزهري وبينت هناك من وصله عنه من الرواة وأخرج ابن أبي حاتم بسند حسن من رواية بني طلحة مسلسلا بهم عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: "لما نزلت هذه الآية {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} طلقت امرأتي أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وطلق عمر قريبة وأم كلثوم بنت جرول" وقد روى الطبري من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال: "قال الزهري: لما نزلت هذه الآية طلق عمر قريبة وأم كلثوم وطلق طلحة أروى بنت ربيعة فرق بينهما الإسلام، حتى نزلت: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ثم تزوجها بعد أن أسلمت خالد بن سعيد بن العاصي". واختلف في ترك رد النساء إلى أهل مكة مع وقوع الصلح بينهم وبين المسلمين في الحديبية على أن من جاء منهم إلى المسلمين ردوه ومن جاء من المسلمين إليهم لم يردوه هل نسخ حكم النساء من ذلك فمنع المسلمون مم ردهن أو لم يدخلن في أصل الصلح أو هو عام أريد به الخصوص وبين ذلك عند نزول الآية؟ وقد تمسك من قال بالثاني بما وقع في بعض طرقه: "على أن لا يأتيك منا رجل إلا رددته" فمفهومه أن النساء لم يدخلن وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان "أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: رد علينا من هاجر من نسائنا، فإن شرطنا أن من أتاك منا أن ترده علينا. فقال: كان الشرط في الرجال ولم يكن في النساء" وهذا لو ثبت كان قاطعا للنزاع، لكن يؤيد الأول والثالث ما تقدم في أول الشروط أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط لما هاجرت جاء أهلها يسألون ردها فلم يردها لما نزلت: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآية، والمراد قوله فيها {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}" وذكر ابن الطلاع في أحكامه أن سبيعة الأسلمية هاجرت فأقبل زوجها في طلبها، فنزلت الآية، فرد على زوجها

(9/419)


مهرها والذي أنفق عليها ولم يردها، واستشكل هذا بما في الصحيح أن سبيعة الأسلمية مات عنها سعد بن خولة وهو ممن شهد بدرا في حجة الوداع، فإنه دال على أنها تقدمت هجرتها وهجرة زوجها، ويمكن الجمع بأن يكون سعد بن خولة إنما تزوجها بعد أن هاجرت، ويكون الزوج الذي جاء في طلبها ولم ترد عليه آخر لم يسلم يومئذ، وقد ذكرت في أول الشروط أسماء عدة ممن هاجر من نساء الكفار في هذه القصة.

(9/420)


20- باب إِذَا أَسْلَمَتْ الْمُشْرِكَةُ أَوْ النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الذِّمِّيِّ أَوْ الْحَرْبِيِّ وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا أَسْلَمَتْ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَقَالَ دَاوُدُ عَنْ إِبْراهِيمَ الصَّائِغِ سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ أَسْلَمَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ أَهِيَ امْرَأَتُهُ قَالَ لاَ إِلاَّ أَنْ تَشَاءَ هِيَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَصَدَاقٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ إِذَا أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ يَتَزَوَّجُهَا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِي مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَا هُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا وَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَأَبَى الْآخَرُ بَانَتْ لاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ جَاءَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَيُعَاوَضُ زَوْجُهَا مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} قَالَ لاَ إِنَّمَا كَانَ ذَاكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هَذَا كُلُّهُ فِي صُلْحٍ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ
5288- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَتْ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ لاَ وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلاَمِ وَاللَّهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلاَمًا"
قوله: "باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي" كذا اقتصر على ذكر النصرانية وهو مثال وإلا فاليهودية كذلك، فلو عبر بالكتابية لكان أشمل، وكأنه راعى لفظ الأثر المنقول في ذلك ولم يجزم بالحكم لإشكاله، بل أورد الترجمة مورد السؤال فقط، وقد جرت عادته أن دليل الحكم إذا كان محتملا لا يجزم بالحكم، والمراد بالترجمة بيان حكم إسلام المرأة قبل زوجها هل تقع الفرقة بينهما بمجرد إسلامها، أو يثبت لها الخيار، أو يوقف في العدة فإن أسلم استمر النكاح وإلا وقعت الفرقة بينهما؟ وفيه خف مشهور وتفاصيل يطول شرحها، وميل البخاري إلى أن الفرقة تقع بمجرد الإسلام كما سأبينه. قوله: "وقال عبد الوارث عن خالد" هو

(9/420)


الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس لم يقع لي موصولا عن عبد الوارث، لكن أحرج ابن أبي شيبة عن عباد بن العوام عن خالد الحذاء نحوه. قوله: "إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه" وهو عام في المدخول بها وغيرها، ولكن قوله: "حرمت عليه" ليس بصريح في المراد. ووقع في رواية ابن أبي شيبة: "فهي أملك بنفسها" وأخرج الطحاوي من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس في اليهودية أو النصرانية تكون تحت اليهودي أو النصراني فتسلم فقال: "يفرق بينهما الإسلام، ويعلو ولا يعلى عليه" وسنده صحيح. قوله: "وقال داود" هو ابن أبي الفرات، واسم أبي الفرات عمرو بن الفرات، وإبراهيم الصائغ هو ابن ميمون. قوله: "سئل عطاء" هو ابن أبي رباح "عن امرأة من أهل العهد أسلمت ثم أسلم زوجها في العدة أهي امرأته؟ قال: لا، إلا أن تشاء هي بنكاح جديد وصداق" وصله ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عطاء بمعناه، وهو ظاهر في أن الفرقة تقع بإسلام أحد الزوجين ولا تنتظر انقضاء العدة. قوله: "وقال مجاهد إذا أسلم في العدة يتزوجها" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عنه. قوله: "وقال الله إلخ" هذا ظاهر في اختياره القول الماضي فإنه كلام البخاري، وهو استدلال منه لتقوية قول عطاء المذكور في هذا الباب، وهو معارض في الظاهر لروايته عن ابن عباس في الباب الذي قبله وهي قوله: "لم تخطب حتى تحيض وتطهر" ويمكن الجمع بينهما لأنه كما يحتمل أن يريد بقوله: "لم تخطب حتى تحيض وتطهر" انتظار إسلام زوجها ما دامت في عدتها يحتمل أيضا أن تأخير الخطبة إنما هو لكون المعتدة لا تخطب ما دامت في العدة، فعلى هذا الثاني لا يبقى بين الخبرين تعارض، وبظاهر قول ابن عباس في هذا وعطاء قال طاوس والثوري وفقهاء الكوفة ووافقهم أبو ثور واختاره ابن المنذر وإليه جنح البخاري، وشرط أهل الكوفة ومن وافقهم أن يعرض على زوجها الإسلام في تلك المدة فيمتنع إن كانا معا في دار الإسلام، وبقول مجاهد قال قتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد، واحتج الشافعي بقصة أبي سفيان لما أسلم عام الفتح بمر الظهران في ليلة دخول المسلمين مكة في الفتح كما تقدم في المغازي، فإنه لما دخل مكة أخذت امرأته هند بنت عقبة بلحيته وأنكرت عليه إسلامه فأشار عليها بالإسلام فأسلمت بعد ولم يفرق بينهما ولا ذكر تجديد عقد، وكذا وقع لجماعة من الصحابة أسلمت نساؤهم قبلهم كحكيم بن حزام وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ولم ينقل أنه جددت عقود أنكحتهم، وذلك مشهور عند أهل المغازي لا اختلاف بينهم في ذلك، إلا أنه محمول عند الأكثر على أن إسلام الرجل وقع قبل انقضاء عدة المرأة التي أسلمت قبله، وأما ما أخرج مالك في "الموطأ" عن الزهري قال: لم يبلغنا أن امرأة هاجرت وزوجها مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، فهذا محتمل للقولين لأن الفرقة يحتمل أن تكون قاطعة ويحتمل أن تكون موقوفة وأخرج حماد بن سلمة وعبد الرزاق في مصنفيهما بإسناد صحيح عن عبد الله بن يزيد الخطمي أن نصرانيا أسلمت امرأته فخيرها عمر إن شاءت فارقته وإن شاءت أقامت عليه. قوله: "وقال الحسن وقتادة في مجوسيين أسلما: عما على نكاحهما فإذا سبق أحدهما صاحبه" بالإسلام "لا سبيل له عليها". أما أثر الحسن فوصله ابن أبي شيبة بسند صحيح عنه بلفظ: "فإن أسلم أحدهما قبل صاحبه فقد انقطع ما بينهما من النكاح" ومن وجه آخر صحيح عنه بلفظ: "فقد بانت منه" وأما أثر قتادة فوصله ابن أبي شيبة أيضا بسند صحيح عنه بلفظ: "فإذا سبق أحدهما صاحبه بالإسلام فلا سبيل له عليها إلا بخطبة" وأخرج أيضا عن عكرمة وكتاب عمر بن عبد العزيز نحو ذلك. قوله: "وقال ابن جريج: قلت لعطاء امرأة من المشركين جاءت

(9/421)


إلى المسلمين أيعاوض زوجها منها" وقع في رواية ابن عساكر أيعاض بغير واو وقوله: "لقوله تعالى :{وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} قال لا إنما كان ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل العهد". وصله عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء أرأيت اليوم امرأة من أهل الشرك فذكره سواء، وعن معمر عن الزهري نحو قول مجاهد الآتي وزاد: وقد انقطع ذلك يوم الفتح فلا يعاوض زوجها منها بشيء. قوله: "وقال مجاهد هذا كله في صلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكذلك، هذا كله في صلح كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وقد تقدم في أواخر الشروط من وجه آخر عن الزهري قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون على أزواجهم، أي أبوا أن يعملوا بالحكم المذكور في الآية وهو أن المرأة إذا جاءت من المشركين إلى المسلمين مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه وكذا بعكسه، فامتثل المسلمون ذلك وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك فحبسوا من جاءت إليهم مشركة ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} قال والعقب ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار إلى الكفار. وأخرج هذا الأثر للطبري من طريق يونس عن الزهري وفيه: "فلو ذهبت امرأة من أزواج المؤمنين إلى المشركين رد المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العقب الذي بأيديهم الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرن، ثم ردوا إلى المشركين فضلا إن كان بقي لهم "ووقع في الأصل" فأمر أن يعطي من ذهب له زوج من المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللاتي هاجرن" ومعناه أن العقب المذكور في قوله: {فَعَاقَبْتُمْ} أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات، وهذا تفسير الزهري. وقاله مجاهد أي أصبتم غنيمة فأعطوا منها، وبه صرح جماعة من التابعين كما أخرجه الطبري، لكن جمله على ما إذا لم يحصل من الجهة الأولى شيء، وهو حمل حسن. وقوله في آخر الخبر المذكور "وما يعلم أن أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها" وهذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها، فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا، أو الحصر على عمومه فتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار، ويؤيده رواية يونس الماضية. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعث عن الحسن في قوله تعالى :{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} قال نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثنى من الحصر المذكور في حديث الزهري، لأن أم الحكم هي أخت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم في حديث ابن عباس أنها كانت تحت عياض بن غنم، وظاهر سياقه أنها كانت عند نزول قوله تعالى :{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} مشركة وأن عياض بن غنم فارقها لذلك فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي، فهذا أصح من رواية الحسن. "تنبيه": استطرد البخاري من أصل ترجمة الباب إلى شيء مما يتعلق بشرح آية الامتحان، فذكر أثر عطاء فيما يتعلق بالمعاوضة المشار إليها في الآية بقوله تعالى :{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ

(9/422)


مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} ثم ذكر أثر مجاهد المقوى لدعوى عطاء أن ذلك كان خاصا بذلك العهد الذي وقع بين المسلمين وبين قريش وأن ذلك انقطع يوم الفتح، وكأنه أشار بذلك إلى أن الذي وقع في ذلك الوقت من تقرير المسلمة تحت المشرك لانتظار إسلامه ما دامت في العدة منسوخ لما دلت عليه هذه الآثار من اختصاص ذلك بأولئك، وأن الحكم بعد ذلك فيمن أسلمت أن لا تقر تحت زوجها المشرك أصلا ولو أسلم وهي في العدة، وقد ورد في أصل المسألة حديثان متعارضان: أحدهما أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق قال: "حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنتين على النكاح الأول ولم يحدث شيئا" وأخرجه أصحاب السنن إلا النسائي. وقال الترمذي لا بأس بإسناده، وصححه الحاكم، ووقع في رواية بعضهم "بعد سنتين" وفي أخرى "بعد ثلاث" وهو اختلاف جمع بينه على أن المراد بالست ما بين هجرة زينب وإسلامه وهو بين في المغازي فإنه أسر ببدر فأرسلت زينب من مكة في فدائه فأطلق لها بغير فداء، وشرط النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يرسل له زينب فوفي له بذلك، وإليه الإشارة في الحديث الصحيح بقوله صلى الله عليه وسلم في حقه "حدثني فصدقني، ووعدني فوفي لي" والمراد بالسنتين أو الثلاث ما بين نزول قوله تعالى :{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} وقدومه مسلما فإن بينهما سنتين وأشهرا. الحديث الثاني أخرجه الترمذي وابن ماجه من رواية حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد" قال الترمذي: وفي إسناده مقال. ثم أخرج عن يزيد بن هارون أنه حدث بالحديثين عن ابن إسحاق وعن حجاج بن أرطاة ثم قال يزيد: حديث ابن عباس أقوى إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب، يريد عمل أهل العراق. وقال الترمذي في حديث ابن عباس: لا يعرف وجهه، وأشار بذلك إلى أن ردها إليه بعد ست سنين أو بعد سنتين أو ثلاث مشكل لاستبعاد أن تبقى في العدة هذه المدة، ولم يذهب أحد إلى جواز تقرير المسألة تحت المشرك إذا تأخر إسلامه عن إسلامها حتى انقضت عدتها، وممن نقل الإجماع في ذلك ابن عبد البر، وأشار إلى أن بعض أهل الظاهر قال بجوازه ورده بالإجماع المذكور، وتعقب بثبوت الخلاف فيه قديما وهو منقول عن على وعن إبراهيم النخعي أخرجه ابن أبي شيبة عنهما بطرق قوية، وبه أفتى حماد شيخ أبي حنيفة، وأجاب الخطابي عن الإشكال بأن بقاء العدة في تلك المدة ممكن وإن لم تجر العادة غالبا به ولا سيما إذا كانت المدة إنما هي سنتان وأشهر فإن الحيض قد يبطئ عن ذوات الإقراء لعارض علة أحيانا. وبحاصل هذا أجاب البيهقي، وهو أولى ما يعتمد في ذلك. وحكى الترمذي في "العلل المفرد" عن البخاري أن حديث ابن عباس أصح من حديث عمرو بن شعيب، وعلته تدليس حجاج بن أرطاة، وله علة أشد من ذلك وهي ما ذكره أبو عبيد في كتاب النكاح عن يحيى القطان أن حجاجا لم يسمعه من عمرو بن شعيب وإنما حمله عن العزرمي والعزرمي ضعيف جدا، وكذا قال أحمد بعد تخريجه، قال: والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا، قال: والصحيح أنهما أقرا على النكاح الأول. وجنح ابن عبد البر إلى ترجيح حديث ما دل عليه حديث عمرو بن شعيب وأن حديث ابن عباس لا يخالفه قال: والجمع بين الحديثين أولى من إلغاء أحدهما، فحمل قوله في حديث ابن عباس "بالنكاح الأول" أي بشروطه، وأن معنى قوله: "لم يحدث شيئا" أي لم يزد على ذلك شيئا، قال: وحديث عمرو بن شعيب تعضده الأصول، وقد صرح فيه بوقوع عقد جديد ومهر جديد والأخذ بالصريح أولى من الأخذ بالمحتمل، ويؤيده مذهب ابن عباس المحكي

(9/423)


عنه في أول الباب فأنه موافق لما دل عليه حديث عمرو بن شعيب، فإن كانت الرواية المخرجة عنه في السنن ثابتة فلعله كان يرى تخصيص ما وقع في قصة أبي العاص بذلك العهد كما جاء ذلك عن أتباعه كعطاء ومجاهد، ولهذا أفتى بخلاف ظاهر ما جاء عنه في ذلك الحديث، على أن الخطابي قال في إسناد حديث ابن عباس: هذه نسخة ضعفها على ابن المديني وغيره من علماء الحديث، يشير إلى أنه من رواية داود بن الحصين عن عكرمة قال: وفي حديث عمرو بن شعيب زيادة ليست في حديث ابن عباس، والمثبت مقدم على النافي، غير أن الأئمة رجحوا إسناد حديث ابن عباس ا ه. والمعتمد ترجيح إسناد حديث ابن عباس على حديث عمرو بن شعيب لما تقدم، ولإمكان حمل حديث ابن عباس على وجه ممكن. وادعى الطحاوي أن حديث ابن عباس منسوخ وأن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بعد رجوعه من بدر لما أسر فيها ثم افتدى وأطلق، وأسند ذلك عن الزهري وفيه نظر، فإن ثبت عنه فهو مؤول لأنها كانت مستقرة عنده بمكة، وهي التي أرسلت في افتدائه كما هو مشهور في المغازي، فيكون معنى قوله: "ردها" أقرها، وكان ذلك قبل التحريم. والثابت أنه لما أطلق اشترط عليه أن يرسلها ففعل كما تقدم، وإنما ردها عليه حقيقة بعد إسلامه. ثم حكى الطحاوي عن بعض أصحابهم أنه جمع بين الحديثين بطريق أخرى، وهي أن عبد الله بن عمرو كان قد اطلع على تحريم نكاح الكفار بعد أن كان جائزا فلذلك قال: "ردها عليه فنكاح جديد" ولم يطلع ابن عباس على ذلك فلذلك قال: "ردها بالنكاح الأول" وتعقب بأنه لا يظن بالصحابة أن يجزموا بحكم بناء على أن البناء بشيء قد يكون الأمر بخلافه، وكيف يظن بابن عباس أن يشتبه عليه نزول آية الممتحنة والمنقول من طريق كثيرة عنه يقتضي إطلاعه على الحكم المذكور وهو تحريم استقرار المسلمة تحت الكافر، فلو قدر اشتباهه عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز استمرار الاشتباه عليه بعده حتى يحدث به بعد دهر طويل، وهو يوم حدث به يكاد أن يكون أعلم أهل عصره. وأحسن المسالك في هذين الحديثين ترجيح حديث ابن عباس كما رجحه الأئمة وحمله على تطاول العدة فيما بين نزول آية التحريم وإسلام أبي العاص، ولا مانع من ذلك من حيث العادة فضلا عن مطلق الجواز. وأغرب ابن حزم فقال ما ملخصه: إن قوله: "ردها إليه بعد كذا" مراده جمع بينهما، وإلا فإسلام أبي العاص كان قبل الحديبية، وذلك قبل أن ينزل تحريم المسلمة على المشرك. هكذا زعم وهو مخالف لما أطبق عليه أهل المغازي أن إسلامه كان في الهدنة بعد نزول آية التحريم. وقد سلك بعض المتأخرين فيه مسلكا آخر فقرأت في "السيرة النبوية للعماد بن كثير" بعد ذكر بعض ما تقدم قال: وقال آخرون بل الظاهر انقضاء عدتها، وضعف رواية من قال جدد عقدها، وإنما يستفاد منه أن المرأة إذا أسلمت وتأخر إسلام زوجها أن نكاحها لا ينفسخ بمجرد ذلك بل تتخير بين أن تتزوج غيره أو تتربص إلى أن يسلم فيستمر عهده عليها، وحاصله أنها زوجته ما لم تتزوج، ودليل ذلك ما وقع في حديث الباب في عموم قوله: "فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه" والله أعلم، ثم ذكر البخاري حديث عائشة في شأن الامتحان وبيانه لشدة تعلقه بأصل المسألة. قوله: "وقال إبراهيم بن المنذر حدثني ابن وهب" ذكر أبو مسعود أنه وصله عن إبراهيم بن المنذر، وقد وصله أيضا الذهلي في "الزهريات" عن إبراهيم بن المنذر وسيأتي اللفظ في البخاري كرواية يونس، فإن مسلما أخرجه عن أبي الطاهر بن السرح عن ابن وهب كذلك، وأما لفظ رواية عقيل فتقدمت في أول الشروط، وأشار الإسماعيلي إلى أن رواية عقيل المذكورة في الباب لا تخالفها. قوله: "كانت المؤمنات إذا هاجرن" أي من

(9/424)


مكة إلى المدينة قبل عام الفتح. قوله: "يمتحنهن بقول الله تعالى" أي يختبرهن فيما يتعلق بالإيمان فيما يرجع إلى ظاهر الحال دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ}. قوله: {مُهَاجِرَاتٍ} جمع مهاجرة والمهاجرة بفتح الجيم المغاضبة، قال الأزهري: أصل الهجرة خروج البدوي من البادية إلى القرية وإقامته بها، والمراد بها هاهنا خروج النسوة من مكة إلى المدينة مسلمات. قوله: "إلى آخر الآية" يحتمل الآية بعينها وآخرها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ويحتمل أن يريد بالآية القصة وآخرها {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذا هو المعتمد، فقد تقدم في أوائل الشروط من طريق عقيل وحده عن ابن شهاب عقب حديثه عن عروة عن المسور ومروان "قال عروة فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات - إلى - غفور رحيم" وكذا وقع في رواية ابن أخي الزهري عن الزهري في تفسير الممتحنة. قوله: "قالت عائشة" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة" يشير إلى شرط الإيمان، وأوضح من هذا ما أخرجه الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: "كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" وأما ما أخرجه الطبري أيضا والبزار من طريق أبي نصر عن ابن عباس "كان يمتحنهن: والله ما خرجت من بغض زوج، والله ما خرجت رغبة عن أرض، إلى أرض، والله ما خرجت التماس دنيا، والله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله" ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد نحو هذا ولفظه: "فاسألوهن عما جاء بهن، فإن كان من غضب على أزواجهن أو سخطه أو غيره ولم يؤمن فأرجعوهن إلى أزواجهن" ومن طريق قتادة "كانت محنتهن أن يستحلفن بالله ما أخرجكن نشوز، وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله فإذا قلن ذلك قبل منهن" فكل ذلك لا ينافي رواية العوفي لاشتمالها على زيادة لم يذكرها. قوله: "انطلقن فقد بايعتكن" بينته بعد ذلك بقولها في آخر الحديث "فقد بايعتكن كلاما" أي كلاما يقوله. ووقع في رواية عقيل المذكورة "كلاما يكلمها به ولا يبايع بضرب اليد على اليد، كما كان يبايع الرجال" وقد أوضحت ذبك بقولها "ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، زاد في رواية عقيل في المبايعة غير أنه بايعهن بالكلام. وقد تقدم في تفسير الممتحنة وفي غير موضع حديث ابن عباس وفيه:" حتى أتى النساء فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} - الآية كلها. ثم قال حين فرغ -: أنتن على ذلك؟ فقالت امرأة منهن نعم "وقد ورد ما قد يخالف ذلك، ولعلها أشارت إلى رده، وقد تقدم بيان ذلك مستوفى في تفسير سورة الممتحنة. واختلف في استمرار حكم امتحان من هاجر من المؤمنات: فقيل منسوخ،. بل ادعى بعضهم الإجماع على نسخه، والله أعلم

(9/425)


باب قوله تعالى(للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر ـإلى قوله ـ سميع عليم).
...
21- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} إلى قوله { سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فَإِنْ فَاءُوا رَجَعُوا
5289- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَخِيهِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ وَكَانَتْ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ نَزَلَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتَ شَهْرًا فَقَالَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ"

(9/425)


5290- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ فِي الإِيلاَءِ الَّذِي سَمَّى اللَّهُ لاَ يَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَ الأَجَلِ إِلاَّ أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَعْزِمَ بِالطَّلاَقِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ و قَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ وَلاَ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ حَتَّى يُطَلِّقَ"
وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب قول الله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} كذا للأكثر، وساق في رواية كريمة إلى {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. ووقع في "شرح ابن بطال" : باب الإيلاء قوله تعالى إلخ. ووقع لأبي ذر والنسفي بعد قوله: {فَإِنْ فَاءُوا}: رجعوا وهذا تفسير أبي عبيدة قاله في هذه الآية قال: فإن فاءوا أي رجعوا عن اليمين، فاء يفي فيئا وفيوءا ا ه. وأخرج الطبري عن إبراهيم النخعي قال: الفيء الرجوع باللسان، ومثله عن أبي قلابة، وعن سعيد بن المسيب والحسن وعكرمة: الفيء الرجوع بالقلب واللسان لمن به مانع عن الجماع، وفي غيره بالجماع. ومن طريق أصحاب ابن مسعود منهم علقمة مثله، ومن طريق سعيد بن المسيب أيضا: إن حلف أن لا يكلم امرأته يوما أو شهرا فهو إيلاء، إلا أن كان يجامعها وهو لا يكلمها فليس بمول. ومن طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس: الفيء الجماع، وعن مسروق وسعيد بن جبير والشعبي مثله، والأسانيد بكل ذلك عنهم قوية. قال الطبري: اختلافهم في هذا من اختلافهم في تعريف الإيلاء، فمن خصه بترك الجماع قال: لا يفيء إلا بفعل الجماع، ومن قال: الإيلاء الحلف على ترك كلامها أو على أن يغيظها أو يسوءها أو نحو ذلك لم يشترط في الفيء الجماع، بل رجوعه بفعل ما حلف أن لا يفعله. ونقل عن ابن شهاب: لا يكون الإيلاء إلا أن يحلف المرء بالله فيما يريد أن يضار به امرأته من اعتزالها، فإذا لم يقصد الإضرار لم يكن إيلاء. ومن طريق علي وابن عباس والحسن وطائفة لا إيلاء إلا في غضب، فإذا حلف أن لا يطأها بسبب كالخوف على الولد الذي يرضع منها من الغيلة فلا إيلاء. ومن طريق الشعبي: كلي يمين بين الرجل وبين امرأته فهي إيلاء، ومن طريق القاسم وسالم فيمن قال لامرأته إن كلمتك سنة فأنت طالق: إن مضت أربعة أشهر ولم يكلمها طلقت، وإن كلمها قبل سنة فهي طالق. ومن طريق يزيد بن الأصم أن ابن عباس قال له: ما فعلت امرأتك، لعهدي بها سيئة الخلق؟ قال: لقد خرجت وما أكلمها. قال: أدركها قبل أن يمضي أربعة أشهر فإن مضت فهي تطليقة. ومن طريق أبي بن كعب أنه قرأ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} يقسمون، قال الفراء: التقدير على نسائهم، و "من" بمعنى على. وقال غيره بل فيه حذف تقديره: يقسمون على الامتناع من نسائهم، والإيلاء مشتق من الألية بالتشديد وهي اليمين، والجمع ألايا بالتخفيف وزن عطايا، قال الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه
...
فإن سبقت منه الألية برت
فجمع بين المفرد والجمع. ثم ذكر البخاري حديث أنس "آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه" الحديث، وإدخاله في هذا الباب على طريقة من لا يشترط في الإيلاء ذكر الجماع، ولهذا قال ابن العربي: ليس في هذا الباب - يعني من

(9/426)


المرفوع - سوى هذه الآية وهذا الحديث. ا ه، وأنكر شيخنا في "التدريب" إدخال هذا الحديث في هذا الباب فقال: الإيلاء المعقود له الباب حرام يأثم به من علم بحاله فلا تجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ا ه، وهو مبني على اشتراط ترك الجماع فيه، وقد كنت أطلقت في أوائل الصلاة والمظالم أن المراد بقول أنس "آلى" أي حلف، وليس المراد به الإيلاء العرفي في كتب الفقه اتفاقا، ثم ظهر لي أن فيه الخلاف قديما فليقيد ذلك بأنه على رأى معظم الفقهاء، فإنه لم ينقل عن أحد من فقهاء الأمصار أن الإيلاء ينعقد حكمه بغير ذكر ترك الجماع إلا عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وإن كان ذلك قد ورد عن بعض من تقدمه كما تقدم. وفي كونه حراما أيضا خلاف، وقد جزم ابن بطال وجماعة بأنه صلى الله عليه وسلم امتنع من جماع نسائه في ذلك الشهر، ولم أقف على نقل صريح في ذلك، فإنه لا يلزم من ترك دخوله عليهن أن لا تدخل إحداهن عليه في المكان الذي اعتزل فيه، إلا إن كان المذكور من المسجد فيتم استلزام عدم الدخول عليهن مع استمرار الإقامة في المسجد العزم على ترك الوطء لامتناع الوطء في المسجد، وقد تقدم في النكاح في آخر حديث عمر مثل حديث أنس في أنه آلى من نسائه شهرا، ومن حديث أم سلمة أيضا آلى من نسائه شهرا، ومن حديث ابن عباس أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا، ومن حديث جابر عند مسلم اعتزل نساءه شهرا. وأخرج الترمذي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: "آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالا" ورجاله موثقون، لكن رجح الترمذي إرساله على وصله. وقد يتمسك بقوله: "حرم" من ادعى أنه امتنع من جماعهن، لكن تقدم البيان الواضح أن المراد بالتحريم تحريم شرب العسل أو تحريم وطء مارية سريته فلا يتم الاستدلال لذلك بحديث عائشة، وأقوى ما يستدل به لفظ: "اعتزل" مع ما فيه. قوله: "حدثنا إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه" هو أبو بكر بن عبد الحميد بن أبي أويس عبد الله بن عبد الله الأصبحي ابن عم مالك، وسليمان هو ابن بلال، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد بالنسبة لحميد درجتين، لأنه أخرج في كتابه عن بعض أصحابه بلا واسطة كمحمد بن عبد الله الأنصاري، ودرجة بالنسبة لسليمان بن بلال فإنه أخرج عنه الكثير بواسطة واحد فقط، وقد تقدم في هذا الحديث بعينه في الصيام وفي النكاح كذلك، والنكتة في اختيار هذا الإسناد النازل التصريح فيه عن حميد بسماعه له من أنس، وقد تقدم بيان قوله: "آلى من نسائه شهرا" وشرحه في أواخر الكلام على شرح حديث عمر في المتظاهرتين في النكاح، ووقع في حديث أنس هذا في أوائل الصلاة زيادة قصة مشهورة سقوطه صلى الله عليه وسلم عن الفرس وصلاته بأصحابه جالسا، وتقدم شرح الزيادة هناك. ومن أحكام الإيلاء أيضا عند الجمهور أن يخالف على أربعة أشهر فصاعدا فإن حلف على أنقص منها لم يكن موليا. وقال إسحاق إن حلف أن لا يطأ على يوم فصاعدا ثم لم يطأ حتى مضت أربعة أشهر كان إيلاء، وجاء عن بعض التابعين مثله وأنكره الأكثر، وصنيع البخاري ثم الترمذي في إدخال حديث أنس في باب الإيلاء يقتضي موافقة إسحاق في ذلك، وحمل هؤلاء قوله تعالى :{تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} على المدة التي تضرب للمولى، فإن فاء بعدها وإلا ألزم بالطلاق. وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء "إذا حلف أن لا يقرب امرأته - سمى أجلا أو لم يسمه - فإن مضت أربعة أشهر" يعني ألزم حكم الإيلاء. وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن البصري "إذا قال لامرأته: والله لا أقربها الليلة، فتركها أربعة أشهر من أجل يمينه تلك فهو إيلاء" وأخرج الطبري من حديث ابن عباس "كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء". قوله: "إن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول في الإيلاء الذي سمى

(9/427)


الله تعالى:{لا يحل لأحد بعد الأجل "الذي يحلف عليه بالامتناع من زوجته" إلا أن يمسك بالمعروف، أو يعزم كما أمر الله عز وجل" هو قول الجمهور في أن المدة إذا انقضت بخير الحالف: فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.وذهب الكوفيون إلى أنه إن فاء بالجماع قبل انقضاء المدة استمرت عصمته، وإن مضت المدة وقع الطلاق بنفس مضي المدة قياسا على العدة، لأنه لا تربص على المرأة بعد انقضائها. وتعقب بأن ظاهر القرآن التفصيل في الإيلاء بعد مضي المدة، بخلاف العدة فإنها شرعت في الأصل للبائنة والمتوفي عنها بعد انقطاع عصمتها لبراءة الرحم فلم يبق بعد مضي المدة تفصيل وأخرج الطبري بسند صحيح عن ابن مسعود، وبسند آخر لا بأس به عن علي "إن مضت أربعة أشهر ولم يفئ طلقت طلقة بائنة" وبسند حسن عن علي وزيد بن ثابت مثله، وعن جماعة من التابعين من الكوفيين ومن غيرهم كابن الحنفية وقبيصة بن ذؤيب وعطاء والحسن وابن سيرين مثله، ومن طريق سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وربيعة ومكحول والزهري والأوزاعي تطلق لكن طلقة رجعية. وأخرج سعيد بن منصور من طريق جابر بن زيد "إذا آلى فمضت أربعة اشهر طلقت بائنا ولا عدة عليها" وأخرج إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" بسند صحيح عن ابن عباس مثله. وأخرج سعيد بن منصور من طريق مسروق "إذا مضت الأربعة بانت بطلقة وتعتد بثلاث حيض" وأخرج إسماعيل من وجه آخر عن مسروق عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي قلابة "أن النعمان بن بشير آلى من امرأته، فقال ابن مسعود. إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت منه بتطليقة". "تنبيه": سقط أثر ابن عمر هذا وأثره المذكور بعد ذلك وكذا ما بعده إلى آخر الباب من رواية النسفي، وثبت للباقين. قوله: "وقال لي إسماعيل" هو ابن أبي أويس المذكور قبل، وفي بعض الروايات "قال إسماعيل" مجردا وبه جزم بعض الحفاظ فعلم عليه علامة التعليق، والأول المعتمد، وهو ثابت في رواية أبي ذر وغيره. قوله: "إذا مضت أربعة أشهر يوقف"، في رواية الكشميهني يوقفه "حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق" كذا وقع من هذا الوجه مختصرا، وهو في "الموطأ" عن مالك أخصر منه، وأخرجه الإسماعيلي من طريق معن بن عيسى عن مالك بلفظ: "أنه كان يقول: أيما رجل آلى من امرأته فإذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق أو يفيء، ولا يقع عليه طلاق إذا مضت حتى يوقف" وكذا أخرجه الشافعي عن مالك وزاد: "فإما أن يطلق وإما أن يفيء" وهذا تفسير للآية من ابن عمر، وتفسير الصحابة في مثل هذا له حكم الرفع عند الشيخين البخاري ومسلم كما نقله الحاكم، فيكون فيه ترجيح لمن قال يوقف. قوله: "ويذكر ذلك "أي الإيقاف "عن عثمان وعلى وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" أما قول عثمان فوصله الشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريق طاوس "إن عثمان بن عفان كان يوقف المولى، فإما أن يفيء وإما أن يطلق" وفي سماع طاوس من عثمان نظر، لكن قد أخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام" من وجه آخر منقطع عن عثمان "أنه كان لا يرى الإيلاء شيئا وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف" ومن طريق سعيد بن جبير عن عمر نحوه، وهذا منقطع أيضا، والطريقان عن عثمان يعضد أحدهما الآخر. وجاء عن عثمان خلافه: فأخرج عبد الرزاق والدار قطني من طريق عطاء الخراساني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عثمان وزيد بن ثابت "إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة" وقد سئل أحمد عن ذلك فرجح رواية طاوس. وأما قول على فوصله الشافعي وأبو بكر بن أبي شيبة من طريق عمرو بن سلمة "أن عليا وقف المولى" وسنده صحيح. وأخرج مالك عن جعفر بن محمد

(9/428)


عن أبيه عن على نحو قول ابن عمر "إذا مضت الأربعة أشهر لم يقع عليه الطلاق حتى يوقف، فإما أن يطلق وإما أن يفيء" وهذا منقطع يعتضد بالذي قبله. وأخرج سعيد بن منصور من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى "شهدت عليا أوقف رجلا عند الأربعة بالرحبة إما أن يفيء وإما أن يطلق" وسنده صحيح أيضا. وأخرج إسماعيل القاضي من وجه آخر عن علي نحوه وزاد في آخره: "ويجبر على ذلك". وأما قول أبي الدرداء فوصله ابن أبي شيبة وإسماعيل القاضي من طريق سعيد بن المسيب "أن أبا الدرداء قال يوقف في الإيلاء عند انقضاء الأربعة، فأما أن يطلق وإما أن يفيء" وسنده صحيح إن ثبت سماع سعيد بن المسيب من أبي الدرداء. وأما قول عائشة فأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "أن أبا الدرداء وعائشة قالا" فذكر مثله، وهذا منقطع. وأخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح عن عائشة بلفظ: "أنها كانت لا ترى الإيلاء شيئا حتى يوقف" وللشافعي عنها نحوه وسنده صحيح أيضا. وأما الرواية بذلك عن اثنى عشر رجلا من الصحابة فأخرجها البخاري في التاريخ من طريق عبد ربه بن سعيد "عن ثابت بن عبيد مولى زيد ابن ثابت عن اثنى عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: الإيلاء لا يكون طلاقا حتى يوقف" وأخرجه الشافعي من هذا الوجه فقال: "بضعة عشر" وأخرج إسماعيل القاضي من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري "عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: الإيلاء لا يكون طلاقا حتى يوقف" وأخرج الدار قطني من طريق "سهل بن أبي صالح عن أبيه أنه قال سألت اثنى عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولى، فقالوا: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق وأخرج إسماعيل من وجه آخر عن يحيى بن سعيد "عن سليمان بن يسار قال: أدركنا الناس يقفون الإيلاء إذا مضت الأربعة" وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وسائر أصحاب الحديث، إلا أن للمالكية والشافعية بعد ذلك تفاريع يطول شرحها: منها أن الجمهور ذهبوا إلى أن الطلاق يكون فيه رجعيا، لكن قال مالك لا تصح رجعته إلا إن جامع في العدة. وقال الشافعي: ظاهر كتاب الله تعالى على أن له أربعة أشهر، ومن كانت له أربعة أشهر أجلا فلا سبيل عليه فيها حتى تنقضي، فإذا انقضت فعليه أحد أمرين: إما أن يفيء وإما أن يطلق، فلهذا قلنا لا يلزمه الطلاق بمجرد مضي المدة حتى يحدث رجوعا أو طلاقا، ثم رجح قول الوقف بأن أكثر الصحابة قال به، والترجيح قد يقع بالأكثر مع موافقة ظاهر القرآن. ونقل ابن المنذر عن بعض الأئمة قال لم يجد في شيء من الأدلة أن العزيمة على الطلاق تكون طلاقا، ولو جاز لكان العزم على الفيء يكون فيئا ولا قائل به، وكذلك ليس في شيء من اللغة أن اليمين التي لا ينوي بها الطلاق تقتضي طلاقا. وقال غيره: العطف على الأربعة أشهر بالفاء يدل على أن التخيير بعد مضي المدة، والذي يتبادر من لفظ التربص أن المراد به المدة المضروبة ليقع التخيير بعدها. وقال غيره: جعل الله الفيء والطلاق معلقين بفعل المولى بعد المدة، وهو من قوله تعالى :{فَإِنْ فَاءُوا، وَإِنْ عَزَمُوا} فلا يتجه قول من قال أن الطلاق يقع بمجرد مضي المدة. والله أعلم

(9/429)


22- باب حُكْمِ الْمَفْقُودِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ إِذَا فُقِدَ فِي الصَّفِّ عِنْدَ الْقِتَالِ تَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ سَنَةً وَاشْتَرَى ابْنُ مَسْعُودٍ جَارِيَةً وَالْتَمَسَ صَاحِبَهَا سَنَةً فَلَمْ يَجِدْهُ وَفُقِدَ فَأَخَذَ يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَنْ فُلاَنٍ فَإِنْ أَتَى فُلاَنٌ فَلِي وَعَلَيَّ وَقَالَ هَكَذَا فَافْعَلُوا بِاللُّقَطَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ وَقَالَ

(9/429)


الزُّهْرِيُّ فِي الأَسِيرِ يُعْلَمُ مَكَانُهُ لاَ تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ وَلاَ يُقْسَمُ مَالُهُ فَإِذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ الْمَفْقُودِ
5292- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ فَغَضِبَ وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ وَقَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا الْحِذَاءُ وَالسِّقَاءُ تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا وَسُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ اعْرِفْ وِكَاءهَا وَعِفَاصَهَا وَعَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا وَإِلاَ فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ قَالَ سُفْيَانُ فَلَقِيتُ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سُفْيَانُ وَلَمْ أَحْفَظْ عَنْهُ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا فَقُلْتُ أَرَأَيْتَ حَدِيثَ يَزِيدَ مَوْلَى المُنْبَعِثِ فِي أَمْرِ الضَّالَّةِ هُوَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ يَحْيَى وَيَقُولُ رَبِيعَةُ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ سُفْيَانُ فَلَقِيتُ رَبِيعَةَ فَقُلْتُ لَهُ
قوله: "باب حكم المفقود في أهله وماله" كذا أطلق ولم يفصح بالحكم، ودخول حكم الأهل يتعلق بأبواب الطلاق بخلاف المال، لكن ذكره معه استطرادا. قوله: "وقال ابن المسيب: إذا فقد في الصف عند القتال تربص امرأته سنة" وصله عبد الرزاق أتم منه عن الثوري عن داود بن أبي هند عنه قال: "إذا فقد في الصف تربصت امرأته سنة، وإذا فقد في غير الصف فأربع سنين" وقوله في الأصل "تربص" بفتح أوله على حذف إحدى التاءين، واتفقت النسخ والشروح والمستخرجات على قوله: "سنة" إلا ابن التين قوقع عنده "ستة أشهر" ولفظ ستة تصحيف ولفظ أشهر زيادة وإلى قول سعيد ابن المسيب في هذا ذهب مالك، لكن فرق بين ما إذا وقع القتال في دار الحرب أو في دار الإسلام. قوله: "واشترى ابن مسعود جارية فالتمس صاحبها سنة فلم يجده وفقد، فأخذ يعطي الدرهم والدرهمين وقال: اللهم عن فلان فإن أتى فلان فلي وعلي" وقع في رواية الأكثر "أتى" بالمثناة بمعنى جاء، وللكشميهني بالموحدة من الامتناع، وسقط هذا التعليق من رواية أبي ذر عن السرخسي، وقد وصله سفيان بن عيينة في جامعه رواية سعيد بن عبد الرحمن عنه، وأخرجه أيضا سعيد بن منصور عنه بسند له جيد "أن ابن مسعود اشترى جارية بسبعمائة درهم، فإما غاب صاحبها وإما تركها، فنشده حولا فلم يجده، فخرج بها إلى مساكين عند سدة بابه فجعل يقبض ويعطي ويقول: اللهم عن صاحبها، فإن أتى فمني وعلى الغرم، وأخرجه الطبراني من هذا الوجه أيضا وفيه: "أبي" بالموحدة. قوله: "وقال هكذا فافعلوا باللقطة" يشير إلى أنه انتزع فعله في ذلك من حكم اللقطة للأمر بتعريفها سنة والتصرف فيها بعد ذلك فإن جاء صاحبها غرمها له، فرأى ابن مسعود أن يجعل التصرف صدقة فإن أجازها صاحبها إذا جاء حصل له أجرها وإن لم يجزها كان الأجر للمتصدق وعليه الغرم لصاحبها، وإلى ذلك أشار بقوله: "فلي وعلي" أي فلي الثواب وعلى الغرامة وغفل بعض الشراح فقال: معنى قوله فلي وعلي لي الثواب وعلي العقاب أي أنهما مكتسبان له بفعله. والذي قلته أولى لأنه ثبت مفسرا في رواية ابن عيينة كما ترى. وأما قوله في رواية الباب: "فلي" فمعناه فلي ثواب الصدقة، وإنما حذفه للعلم به. قوله: "وقال ابن عباس نحوه" ثبت هذا التعليق في رواية أبي ذر فقط عن المستملى والكشميهني خاصة، وقد وصله سعيد بن منصور من طريق عبد العزيز بن رفيع عن أبيه "أنه ابتاع ثوبا من رجل بمكة فضل منه في الزحام، قال فأتيت ابن عباس فقال: إذا كان العام المقبل فانشد الرجل في

(9/430)


المكان الذي اشتريت منه، فإن قدرت عليه وإلا تصدق بها؛ فإن جاء فخيره بين الصدقة وإعطاء الدراهم" وأخرج دعلج في "مسند ابن عباس" له بسند صحيح عن ابن عباس قال: "انظر هذه الضوال فشد يدك بها عاما، فإن جاء ربها فادفعها إليه، وإلا فجاهد بها وتصدق، فإن جاء فخيره بين الأجر والمال. قوله: "وقال الزهري في الأسير يعلم مكانه: تتزوج امرأته ولا يقسم ماله، فإذا انقطع خبره فسنته سنة المفقود" وصله ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي قال: "سألت الزهري عن الأسير في أرض العدو متى تزوج امرأته؟ فقال: لا تزوج ما علمت أنه حي" ومن وجه آخر عن الزهري قال: يوقف مال الأسير وامرأته حتى يسلما أو يموتا. وأما قوله فسنته سنة المفقود فإن مذهب الزهري في امرأة المفقودة أنها تربص أربع سنين، وقد أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن عمر، منها لعبد الرزاق من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب "أن عمر وعثمان قضيا بذلك" وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن ابن عمر وابن عباس قالا "تنتظر امرأة المفقود أربع سنين" وثبت أيضا عن عثمان وابن مسعود في رواية وعن جمع من التابعين كالنخعي وعطاء والزهري ومكحول والشعبي واتفق أكثرهم على أن التأجيل من يوم ترفع أمرها للحاكم، وعلى أنها تعتد عدة الوفاة بعد مضي الأربع سنين. واتفقوا أيضا على أنها إن تزوجت فجاء الزوج الأول خير بين زوجته وبين الصداق. وقال أكثرهم إذا اختار الأول الصداق غرمه له الثاني، ولم يفرق أكثرهم بين أحوال الفقد إلا ما تقدم عن سعيد بن المسيب، وفرق مالك بين من فقد في الحرب فتؤجل الأجل المذكور، وبين من فقد في غير الحرب فلا تؤجل بل تنتظر مضي العمر الذي يغلب على الظن أنه لا يعيش أكثر منه. وقال أحمد وإسحاق: من غاب عن أهله فلم يعلم خبره لا تأجيل فيه، وإنما يؤجل من فقد في الحرب أو في البحر أو في نحو ذلك. وجاء عن علي: إذا فقدت المرأة زوجها لم تزوج حتى يقدم أو يموت أخرجه أبو عبيد في كتاب النكاح. وقال عبد الرزاق: بلغني عن بن مسعود أنه وافق عليا في امرأة المفقود أنها تنتظره أبدا. وأخرج أبو عبيد أيضا بسند حسن عن علي: لو تزوجت فهي امرأة الأول دخل بها الثاني أو لم يدخل. وأخرج سعيد بن منصور عن الشعبي: إذا تزوجت فبلغها أن الأول حي فرق بينها وبين الثاني واعتدت منه، فإن مات الأول اعتدت منه أيضا وورثته. ومن طريق النخعي: لا تزوج حتى يستبين أمره، وهو قول فقهاء الكوفة والشافعي وبعض أصحاب الحديث، واختار ابن المنذر التأجيل لاتفاق خمسة من الصحابة عليه والله أعلم. قوله: "حدثنا علي بن عبد الله" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "عن يحيى بن سعيد" هو الأنصاري. وفي رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا يحيى بن سعيد". قوله: "عن يزيد مولى المنبعث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل" في رواية الحميدي "سمعت يزيد مولى المنبعث قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم:" فذكر حديث اللقطة، وهذا صورته الإرسال، ولهذا قال بعد فراغ المتن: قال سفيان فلقيت ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال سفيان: ولم أحفظ عنه شيئا غير هذا، فقلت: أرأيت حديث يزيد مولى المنبعث في أمر الضالة هو عن زيد بن خالد؟ قال: نعم. قال سفيان: قال يحيى يعني ابن سعيد الذي حدثه مرسلا، ويقول ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن يزيد بن خالد قال سفيان: فلقيت ربيعة فقلت له، أي قلت له الكلام الذي تقدم وهو قوله: "أرأيت حديث يزيد إلخ" وحاصل ذلك أن يحيى بن سعيد حدث به عن يزيد مولى المنبعث مرسلا، ثم ذكر لسفيان أن ربيعة يحدث به عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد فيوصله فحمل ذلك سفيان على أن لقي ربيعة فسأله عن ذلك فاعترف له به، وقد أخرجه

(9/431)


الإسماعيلي من وجه آخر عن سفيان عن يحيى بن سعيد عن يزيد مرسلا وعن ربيعة موصولا وساقه بسياقة واحدة، وما وقع في رواية ابن المديني من التفصيل أتقن وأضبط، فإنه دل على أن السياق ليحيى بن سعيد وأن ربيعة لم يحدث سفيان إلا بإسناده فقط. وأخرجه النسائي عن إسحاق بن إسماعيل عن سفيان عن يحيى بن سعيد عن ربيعة قال سفيان: فلقيت ربيعة فصال حدثني به يزيد عن زيد، وهذا أيضا فيه إيهام، ورواية ابن المديني أوضح وقد وافقه الحميدي ولفظه: قال سفيان فأتيت ربيعة فقلت له: الحديث الذي يحدثه يزيد مولى المنبعث في اللقطة هو عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال سفيان: كنت أكرهه للرأي، أي لأجل كثرة فتواه بالرأي، قال فلذلك لم أسأله إلا عن إسناده وهذا السبب في قلة رواية سفيان عن ربيعة أولى من السبب الذي أبداه ابن التين فقال: كان قصد سفيان لطلب الحديث أكثر من قصده لطلب الفقه، وكان الفقه عند ربيعة أكثر منه عند الزهري فلذلك أكثر عنه سفيان دون ربيعة، مع أن الزهري تقدمت وفاته على وفاة ربيعة بنحو عشر سنين بل أكثر ا ه. واقتضى قول سفيان بن عيينة هذا أن يحيى بن سعيد ما سمعه من شيخه يزيد مولى المنبعث موصولا وإنما وصله له ربيعة، ولكن تقدم الحديث لا اللقطة من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن يزيد عن زيد موصولا، فلعل يحيى بن سعيد لما حدث به ابن عيينة ما كان يتذكر وصله أو دلسه لسليمان بن بلال حين حدثه به موصولا وإنما سمع وصله من ربيعة فأسقط ربيعة. وقد أخرجه مسلم من رواية سليمان بن بلال موصولا أيضا، ومن رواية حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد وربيعة جميعا عن يزيد عن زيد موصولا، وهذا يقتضي أنه حمل إحدى الروايتين على الأخرى. وقد تقدم شرح حديث اللقطة مستوفى في بابها، وأراد المصنف بذكره هاهنا الإشارة إلى أن التصرف في مال الغير إذا غاب جائز ما لم يكن المال مما لا يخشى ضياعه كما دل عليه التفصيل بين الإبل والغنم. وقال ابن المنير: لما تعارضت الآثار في هذه المسألة وجب الرجوع إلى الحديث المرفوع فكان فيه أن ضالة الغنم يجوز التصرف فيها قبل تحقق وفاة صاحبها، فكان إلحاق المال المفقود بها متجها. وفيه أن ضالة الإبل لا يتعرض لها لاستقلالها بأمر نفسها فاقتضى أن الزوجة كذلك لا يتعرض لها حتى يتحقق، خبر وفاته، فالضابط أن كل شيء يخشى ضياعه يجوز التصرف فيه صونا له عن الضياع، وما لا فلا وأكثر أهل العلم على أن حكم ضالة الغنم حكم المال في وجوب تعويضه لصاحبه إذا حضر. والله أعلم

(9/432)


23- باب الظِّهَارِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا- إِلَى قَوْلِهِ- فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وَقَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ ظِهَارِ الْعَبْدِ فَقَالَ نَحْوَ ظِهَارِ الْحُرِّ قَالَ مَالِكٌ وَصِيَامُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُرِّ ظِهَارُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِنْ الْحُرَّةِ وَالأَمَةِ سَوَاءٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ إِنَّمَا الظِّهَارُ مِنْ النِّسَاءِ وَفِي الْعَرَبِيَّةِ لِمَا قَالُوا أَيْ فِيمَا قَالُوا وَفِي بَعْضِ مَا قَالُوا وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ
قوله: "باب الظهار" بكسر المعجمة، هو قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وإنما خص الظهر بذلك دون سائر الأعضاء لأنه محل الركوب غالبا، ولذلك سمى المركوب ظهرا، فشبهت الزوجة بذلك لأنها مركوب الرجل،

(9/432)


فلو أضاف لغير الظهر - كالبطن مثلا - كان ظهارا على الأظهر عند الشافعية. واختلف فيما إذا لم يعين الأم كأن قال: كظهر أختي مثلا فعن الشافعي في القديم لا يكون ظهارا بل يختص بالأم كما ورد في القرآن، وكذا في حديث خولة التي ظاهر منها أوس. وقال في الجديد: يكون ظهارا، وهو قول الجمهور لكن اختلفوا فيمن لم تحرم على التأبيد: فقال الشافعي لا يكون ظهارا، وعن مالك هو ظهار وعن أحمد روايتان كالمذهبين، فلو قال كظهر أبي مثلا فليس بظهار عند الجمهور، وعن أحمد رواية أنه ظهار، وطرده في كل من يحرم عليه وطؤه حتى في البهيمة. ويقع الظهار بكل لفظ يدل على تحريم الزوجة لكن بشرط اقترانه بالنية، وتجب الكفارة على قائله كما قال الله تعالى لكن بشرط العود عند الجمهور وعند الثوري وروى عن مجاهد: تجب الكفارة بمجرد الظهار. قوله: "وقول الله تعالى :{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى قوله :{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} كذا لأبي ذر والأكثر، وساق في رواية كريمة الآيات إلى الموضع المذكور وهو قوله: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} واستدل بقوله تعالى :{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} على أن الظهار حرام. وقد ذكر المصنف في الباب آثارا اقتصر على الآية وعليها، وكأنه أشار بذكر الآية إلى الحديث المرفوع الوارد في سبب ذلك، وقد ذكر بعض طرقه تعليقا في أوائل كتاب التوحيد من حديث عائشة وسيأتي ذكره، وفيه تسمية المظاهر، وتسمية المجادلة وهي التي ظاهر منها وأن الراجح أنها خولة بنت ثعلبة؛ وأنه أول ظهار كان في الإسلام كما أخرجه الطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس قال: "كان الظهار في الجاهلية يحرم النساء، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت، وكانت امرأته خولة" الحديث وقال الشافعي: سمعت من أرضي من أهل العلم بالقرآن يقول: كان أهل الجاهلية يطلقون بثلاث الظهار والإيلاء والطلاق، فأقر الله الطلاق طلاقا وحكم في الإيلاء والظهار بما بين في القرآن انتهى. وجاء من حديث خوله بنت ثعلبة نفسها عند أبي داود قالت: "ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه" الحديث. وأخرج أصحاب السنن من حديث سلمة بن صخر أنه ظاهر من امرأته، وقد تقدمت الإشارة إلى حديثه في كتاب الصيام في قصة المجامع في رمضان، وأن الأصح أن قصته كانت نهارا. ولأبي داود والترمذي من حديث ابن عباس "أن رجلا ظاهر من امرأته فوقع عليها قبل أن يكفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فاعتزلها حتى تكفر عنك" وفي رواية أبي داود "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله" وأسانيد هذه الأحاديث حسان.وحكم كفارة الظهار منصوص بالقرآن، واختلف السلف في أحكامه في مواضع ألم البخاري ببعضها في الآثار التي أوردها في الباب، واستدل بآية الظهار وبآية اللعان على القول بالعموم ولو ورد في سبب خاص، واتفقوا على دخول السبب، وأن أوس بن الصامت شمله حكم الظهار، لكن استشكله السبكي من جهة تقدم السبب وتأخر النزول فكيف ينعطف على ما مضى مع أن الآية لا تشمل إلا من وجد منه الظهار بعد نزولها، لأن الفاء في قوله تعالى :{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يدل على أن المبتدأ تضمن معنى الشرط والخبر تضمن معنى الجزاء ومعنى الشرط مستقبل، وأجاب عنه بأن دخول الفاء في الخبر يستدعي العموم في كل مظاهر، وذلك يشمل الحاضر والمستقبل، قال: وأما دلالة الفاء على الاختصاص بالمستقبل ففيه نظر، كذا قال، ويمكن أن يحتج للإلحاق بالإجماع. قوله: "وقال لي إسماعيل" هو ابن أبي أويس كذا للأكثر، ووقع في رواية النسفي "وقال إسماعيل" بدون حرف الجر والأول أولى، وهو موصول، فعند جماعة أنه يستعمل هذه الصيغة فيما تحمله عن شيوخه مذاكرة، والذي ظهر لي بالاستقراء أنه إنما يستعمل ذلك فيما

(9/433)


يورده موصولا من الموقوفات أو مما لا يكون من المرفوعات على شرطه. وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق القعنبي عن مالك أنه سأل ابن شهاب فذكر مثله وزاد: "وهو عليه واجب". قوله: "قال مالك" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "وصيام العبد شهران" يحتمل أن يكون ابن شهاب الذي نقل مالك عنه أن ظهار العبد نحو ظهار الحر كأن يعطي العبد في ذلك جميع أحكام الحر، ويحتمل أن يكون أراد بالتشبيه مطلق صحة الظهار من العبد كما يصح من الحر ولا يلزم أن يعطي جميع أحكامه، لكن نقل ابن بطال الإجماع على أن العبد إذا ظاهر لزمه، وأن كفارته بالصيام شهران كالحر نعم اختلفوا في الإطعام والعتق، فقال الكوفيون والشافعي: لا يجزئه إلا الصيام فقط. وقال ابن القاسم عن مالك: إن أطعم بإذن مولاه أجزأه. وما ادعاه من الإجماع مردود فقد نقل الشيخ الموفق في "المغني" عن بعضهم أنه لا يصح ظهار العبد لأن الله تعالى قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} والعبد لا يملك الرقاب، وتعقبه بأن تحرير الرقبة إنما هو على من يجدها فكان كالمعسر ففرضه الصيام. وأما ما ذكره من قدر صيامه فقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن إبراهيم: لو صام شهرا أجزأ عنه. وعن الحسن يصوم شهرين. وعن ابن جريج عن عطاء في رجل ظاهر من زوجة أمة قال: شطر الصوم. قوله: "وقال الحسن بن الحر" كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر عن المستملي: "الحسن بن حي" وفي رواية: "وقال الحسن" فقط، فأما الحسن بن الحر فهو بضم المهملة وتشديد الراء ابن الحكم النخعي الكوفي نزيل دمشق، ثقة عندهم، وليس له في البخاري ذكر إلا هذا الموضع إن ثبت ذلك، وأما الحسن بن حي فبفتح المهملة وتشديد التحتانية نسب لجد أبيه وهو الحسن بن صالح بن صالح بن حي واسم حي حيان كوفي ثقة فقيه عابد من طبقة سفيان الثوري، وقد تقدم ذكر أبيه في أوائل هذا الكتاب، وقد أخرج الطحاوي في كتاب "اختلاف العلماء" هذا الأثر "عن الحسن بن حي" وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن إبراهيم النخعي قال: "الظهار من الأمة كالظهار من الحرة" وقد وقع لنا الكلام المذكور من قول الحسن البصري وذلك فيما أخرجه ابن الأعرابي في معجمه من طريق همام "سئل قتادة عن رجل ظاهر من سريته، فقال: قال الحسن وابن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار: مثل ظهار الحرة، وهو قول الفقهاء السبعة، وبه قال مالك وربيعة والثوري والليث، واحتجوا بأنه فرج حلال فيحرم بالتحريم. وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن الحسن: إن وطئها فهو ظهار، وإن لم يكن وطئها فلا ظهار عليه، وهو قول الأوزاعي. قوله: "وقال عكرمة: إن ظاهر من أمته فليس بشيء، إنما الظهار من النساء" وصله إسماعيل القاضي بسند لا بأس به، وجاء أيضا عن مجاهد مثله أخرجه سعيد بن منصور من رواية داود بن أبي هند سألت مجاهدا عن الظهار من الأمة فكأنه لم يره شيئا فقلت: أليس الله يقول: {مِنْ نِسَائِهِمْ} أفليست من النساء؟ فقال: قال الله تعالى :{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أو ليس العبيد من الرجال؟ أفتجوز شهادة العبيد؟ وقد جاء عن عكرمة خلافه، قال عبد الرزاق أنبأنا ابن جريج أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس قال، يكفر عن ظهار الأمة مثل كفارة الحرة، وبقول عكرمة الأول قال الكوفيون والشافعي والجمهور، واحتجوا بقوله تعالى :{مِنْ نِسَائِهِمْ} وليست الأمة من النساء، واحتجوا أيضا بقول ابن عباس: إن الظهار كان طلاقا ثم أحل بالكفارة، فكما لا حظ للأمة في الطلاق لا حظ لها في الظهار، ويحتمل أن يكون المنقول عن عكرمة في الأمة المزوجة قلا يكون بين قوليه اختلاف. قوله: "وفي العربية لما قالوا أي فيما قالوا" أي يستعمل في كلام العرب

(9/434)


عاد لكذا بمعنى أعاد فيه وأبطله. قوله: "وفي نقض ما قالوا" كذا للأكثر بنون وقاف. وفي رواية الأصيلي والكشميهني: "بعض" بموحدة ثم مهملة والأول أصح، والمعنى أنه يأتي بفعل ينقض قوله الأول. وقد اختلف العلماء هل يشترط الفعل فلا يجوز له وطؤها إلا بعد أن يكفر، أو يكفي العزم على وطئها، أو العزم على إمساكها وترك فراقها؟ والأول قول الليث والثاني قول الحنفية ومالك، وحكى عنه أنه الوطء بعينه يشرط أن يقدم عليه الكفارة، وحكى عنه العزم على الإمساك والوطء معا وعليه أكثر أصحابه، والثالث قول الشافعي ومن تبعه، وثم قول رابع سنذكره هنا. قوله: "وهذا أولى لأن الله تعالى لم يدل على المنكر وقول الزور" هذا كلام البخاري ومراده الرد على من زعم أن شرط العود هنا أن يقع بالقول وهو إعادة لفظ الظهار، فأشار إلى هذا القول وجزم بأنه مرجوح وإن كان هو ظاهر الآية وهو قول أهل الظاهر، وقد روى ذلك عن أبي العالية ويكبر بن الأشج من التابعين وبه قال الفراء النحوي، ومعنى قوله: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا لِمَا قَالُوا} أي إلى قول ما قالوا: وقد بالغ ابن العربي في إنكاره ونسب قائله إلى الجهل لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور فكيف يقال إذا أعاد القول المحرم المنكر يجب عليه أن يكفر ثم تحل له المرأة؟ انتهى. وإلى هذا أشار البخاري بقوله: "لأن الله لم يدل على المنكر والزور" وقال إسماعيل القاضي: لما وقع بعد قوله: " ثُمَّ يَعُودُونَ} {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} دل على أن المراد وقوع ضد ما وقع منه من المظاهرة، فإن رجلا لو قال إذا أردت أن تمس فأعتق رقبة قبل أن تمس لكان كلاما صحيحا، بخلاف ما لو قال إذا لم ترد أن تمس فأعتق رقبة قبل أن تمس.وقد جرى بحث بين أبي العباس بن سريج ومحمد بن داود الظاهري فاحتج عليه ابن سريج بالإجماع، فأنكره ابن داود وقال: الذين خالفوا القرآن لا أعد خلافهم خلافا. وأنكر ابن العربي أن يصح عن بكير الأشج، واختلف المعربون في معنى اللام في قوله: {لِمَا قَالُوا} فقيل معناها ثم يعودون إلى الجماع فتحرير رقبة لما قالوا أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فادعوا أن اللام في قوله: {لِمَا قَالُوا} متعلق بالمحذوف وهو قوله عليهم قاله الأخفش، وقيل المعنى الذين كانوا يظاهرون في الجاهلية ثم يعودون لما قالوا أي إلى المظاهرة في الإسلام، وقيل اللام بمعنى عن أي يرجعون عن قولهم، وهذا موافق قول من يوجب الكفارة بمجرد وقوع كلمة الظهار. وقال ابن بطال: يشبه أن تكون ما بمعنى من، أي اللواتي قالوا لهن أنتن علينا كظهور أمهاتنا، قال ويجوز أن يكون قالوا بتقدير المصدر أي يعودون للقول فسمى المقول فيهن باسم المصدر وهو القول كما قالوا درهم ضرب الأم وهو مضروب الأم، والله أعلم بالصواب.

(9/435)


الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ لَدُنْ ثَدْيَيْهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ شَيْئًا إِلاَّ مَادَّتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ يُنْفِقُ إِلاَّ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا فَهُوَ يُوسِعُهَا فَلاَ تَتَّسِعُ وَيُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ إِلَى حَلْقِهِ"
قوله: "باب الإشارة في الطلاق والأمور" أي الحكمية وغيرها، وذكر فيه عدة أحاديث معلقة وموصولة: أولها قوله: "وقال ابن عمر" هو طرف من حديث تقدم موصولا في الجنائز، وفيه قصة لسعد بن عبادة وفيها "ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه "ثانيها" وقال كعب بن مالك "هو أيضا طرف من حديث تقدم موصولا في الملازمة وفيها" وأشار إلى أن خذ النصف "ثالثها" وقالت أسماء "هي بنت أبي بكر. قوله: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف" الحديث تقدم موصولا في كتاب الإيمان بلفظ: "فأشارت إلى السماء" وفيه: "فأشارت برأسها أي نعم" وفي صلاة الكسوف بمعناه، وفي صلاة السهو باختصار. رابعها "وقال أنس أومأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يتقدم" هو طرف من حديث ابن عباس. خامسها "وقال ابن عباس" هو طرف من حديث تقدم موصولا في العلم في "باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس" وفيه: "وأومأ بيده ولا حرج"، سادسها "وقال أبو قتادة" هو أيضا طرف من حديث تقدم موصولا في "باب لا يشير المحرم إلى الصيد" من كتاب الحج، وفيه: "أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها". قوله: "أبو عامر" هو العقدي، وإبراهيم شيخه جزم المزي بأنه ابن طهمان، وزعم بعض، الشراح أنه أبو إسحاق الفزاري والأول أرجح. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق يحيى بن أبي بكير عن إبراهيم بن طهمان عن خالد وهو الحذاء، وتقدم الحديث مشروحا في كتاب الحج، وفيه: "كلما أتى على الركن أشار إليه". الثامن. قولة "وقالت زينب" هي بنت جحش أم المؤمنين. قوله: "مثل هذه وهذه وعقد تسعين" تقدم في أحاديث الأنبياء وعلامات النبوة موصولا، ويأتي في الفتن لكن بلفظ: "وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها وهي صورة عقد التسعين" وسيأتي في الفتن من حديث أبي هريرة بلفظ: "وعقد تسعين" ووجه إدخاله في الترجمة أن العقد على صفة مخصوصة لإرادة عدد معلوم يتنزل منزلة الإشارة المفهمة، فإذا اكتفى بها عن النطق مع القدرة عليه دل على اعتبار الإشارة ممن لا يقدر على النطق بطريق الأولى. قوله: "سلمة بن علقمة" بفتح المهملة واللام شيخ ثقة، وهو بصري وكذا سائر رواه هذا الإسناد، وقد يلتبس بمسلمة بن علقمة شيخ بصري أيضا لكن في أول اسمه زيادة ميم والمهملة ساكنة وهو دون سلمة بن علقمة في الطبقة والثقة. قوله: "وقال بيده" أي أشار بها وهو من إطلاق القول على الفعل. قوله: "ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر قلنا يزهدها" أي يقللها، بين أبو مسلم الكحبي في روايته عن مسدد شيخ البخاري أن الذي فعل ذلك هو بشر بن المفضل راويه عن سلمة بن علقمة، فعل هذا ففي سياق البخاري إدراج وقد قيل إن المراد بوضع الأنملة في وسط الكف الإشارة إلى أن ساعة الجمعة في وسط يوم الجمعة، وبوضعها على الخنصر الإشارة إلى أنها في آخر النهار لأن الخنصر آخر أصابع الكف، وقد تقدم بسط الأقاويل في تعيين وقتها في كتاب الجمعة.قوله: "وقال الأويسي" هو عبد العزيز بن عبد الله شيخ البخاري، أخرج عنه الكثير في العلم وفي غيره، وقد أورده أبو نعيم في "المستخرج" من طريق يعقوب بن سفيان عنه، ويأتي في الديات من وجه آخر عن شعبة مع شرحه. وقوله فيه: "أوضاحا"

(9/337)


25- باب اللِّعَانِ ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ}
إِلَى قَوْلِهِ { مِنْ الصَّادِقِينَ} فَإِذَا قَذَفَ الأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِإِيمَاءٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ كَالْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَازَ الإِشَارَةَ فِي الْفَرَائِضِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} وَقَالَ الضَّحَّاكُ إِلاَّ "رَمْزًا" إِلاَّ إِشَارَةً وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لاَ حَدَّ وَلاَ لِعَانَ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الطَّلاَقَ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ جَائِزٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلاَقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ فَإِنْ قَالَ الْقَذْفُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِكَلاَمٍ قِيلَ لَهُ كَذَلِكَ الطَّلاَقُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِكَلاَمٍ وَإِلاَ بَطَلَ الطَّلاَقُ وَالْقَذْفُ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَكَذَلِكَ الأَصَمُّ يُلاَعِنُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ تَبِينُ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلاَقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ وَقَالَ حَمَّادٌ الأَخْرَسُ وَالأَصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ"
5300- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأَنْصَارِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَنُو النَّجَّارِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو سَاعِدَةَ ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فَقَبَضَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ بَسَطَهُنَّ كَالرَّامِي بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ"
5301- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ أَبُو حَازِمٍ سَمِعْتُهُ مِنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ أَوْ كَهَاتَيْنِ وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى"
5302- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي ثَلاَثِينَ ثُمَّ قَالَ وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَقُولُ مَرَّةً ثَلاَثِينَ وَمَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ"
5303- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ وَأَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ الإِيمَانُ هَا هُنَا مَرَّتَيْنِ أَلاَ وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ"
5304- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَأَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا"
[الحديث 5304- طرفه في: 600]

(9/439)


قوله: "باب اللعان" هو مأخوذ من اللعن، لأن الملاعن يقول: "لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين" واختير لفظ اللعن دون الغضب في التسمية لأنه قول الرجل، وهو الذي بدئ به في الآية، وهو أيضا يبدأ به، وله أن يرجع عنه فيسقط عن المرأة بغير عكس، وقيل سمى لعانا لأن اللعن الطرد والإبعاد وهو مشترك بينهما، وإنما خصت المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها، لأن الرجل إذا كان كاذبا لم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف، وإن كانت هي كاذبة فذنبها أعظم لما فيه من تلويث الفراش والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به، فتنتشر المحرمية، وتثبت الولاية والميراث لمن لا يستحقهما. واللعان والالتعان والملاعنة بمعنى، ويقال تلاعنا والتعنا ولاعن الحاكم بينهما والرجل ملاعن والمرأة ملاعنة لوقوعه غالبا من الجانبين وأجمعوا على مشروعية اللعان وعلى أنه لا يجوز مع عدم التحقق. واختلف في وجوبه على الزوج، لكن لو تحقق أن الولد ليس منه قوي الوجوب. قوله: "وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} - إلى قوله: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} كذا للأكثر، وساق في رواية كريمة الآيات كلها، وكأن البخاري تمسك بعموم قوله تعالى :{يَرْمُونَ} لأنه أعم من أن يكون باللفظ أو بالإشارة المفهمة، وقد تمسك غيره للجمهور بها في أنه لا يشترط في الالتعان أن يقول الرجل رأيتها تزني، ولا أن ينفي حملها إن كانت حاملا أو ولدها إن كانت وضعت خلافا لمالك، بل يكفي أن يقول إنها زانية أو زنت، ويؤيده أن الله شرع حد القذف على الأجنبي برمي المحصنة، ثم شرع اللعان برمي الزوجة، فلو أن أجنبيا قال يا زانية وجب عليه حد القذف، فكذلك حكم اللعان. وأوردوا على المالكية الاتفاق على مشروعية اللعان للأعمى فانفصل عنه ابن القصار بأن شرطه أن يقول لمست فرجه في فرجها، والله أعلم. قوله: "فإذا قذف الأخرس امرأته بكتابة" بمثناة ثم موحدة، وعند الكشميهني: "بكتاب" بلا هاء. قوله: "أو إشارة أو إيماء معروف فهو كالمتكلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الإشارة في الفرائض" أي في الأمور المفروضة. قوله: "وهو قول بعض أهل الحجاز وأهل العلم" أي من غيرهم، وخالف الحنفية والأوزاعي وإسحاق، وهي رواية عن أحمد اختارها بعض المتأخرين. قوله: "وقال الله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} أخرج ابن أبي حاتم من طريق ميمون بن مهران قال: لما قالوا لمريم {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} إلخ" أشارت إلى عيسى أن كلموه، فقالوا: تأمرنا أن نكلم من هو في المهد زيادة على ما جاءت به من الداهية ووجه الاستدلال به أن مريم كانت نذرت أن لا تتكلم فكانت في حكم الأخرس فأشارت إشارة مفهمة اكتفوا بها عن معاودة سؤالها وان كانوا أنكروا عليها ما أشارت به، وقد ثبت من حديث أبي بن كعب وأنس بن مالك أن معنى قوله تعالى : {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} أي صمتا أخرجه الطبراني وغيره. قوله: "وقال الضحاك" أي ابن مزاحم "إلا رمزا إشارة" وصله عبد بن حميد وأبو حذيفة في تفسير سفيان الثوري ولفظهما عنه في قوله تعالى :{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} استثنى الرمز من الكلام فدل على أن له حكمه. وأغرب الكرماني فقال: الضحاك هو ابن شراحيل الهمداني، فلم يصب فإن المشهور بالتفسير هو ابن مزاحم، وقد وجد الأثر المذكور عنه مصرحا أنه ابن مزاحم، وأما ابن شراحيل ويقال ابن شرحبيل فهو من التابعين لكن لم ينقلوا عنه شيئا من التفسير، بل له عند البخاري حديثان فقط أحدهما في فضائل القرآن والآخر في استتابة المرتدين وكلاهما من روايته عن أبي سعيد الخدري قال: الرمز الإشارة. قوله: "وقال بعض الناس لا حد ولا لعان" أي بالإشارة من الأخرس وغيره "ثم زعم إن طلق بكتابة أو إشارة

(9/440)


أو إيماء جاز" كذا لأبي ذر، ولغيره أن الطلاق بكتابة إلخ. قوله: "وليس بين الطلاق والقذف فرق، فإن قال القذف لا يكون إلا بكلام قيل له: كذلك الطلاق لا يكون إلا بكلام" أي وأنت وافقت على وقوعه بغير الكلام فليزمك مثله في اللعان والحد. قوله: "وإلا بطل الطلاق والقذف، وكذلك العتق" يعني إما أن يقال باعتبار الإشارة فيها كلها أو بترك اعتبارها فتبطل كلها بالإشارة، وإلا فالتفرقة بينهما بغير دليل تحكم، وقد وافقه بعض الحنفية على هذا البحث وقال: القياس بطلان الجميع، لكن عملنا به في غير اللعان والحد استحسانا، ومنهم من قال: منعناه في اللعان والحد للشبهة لأنه يتعلق بالصريح كالقذف فلا يكتفي فيه بالإشارة لأنها غير صريحة، وهذه عمدة من وافق الحنفية من الحنابلة وغيرهم، ورده ابن التين بأن المسألة مفروضة فيما إذا كانت الإشارة مفهمة إفهاما واضحا لا يبقى معه ريبة، ومن حجتهم أيضا أن القذف يتعلق بصريح الزنا دون معناه، بدليل أن من قال لآخر وطئت وطأ حراما لم يكن قذفا لاحتمال أن يكون وطئ وطء شبهة فاعتقد القائل أنه حرام، والإشارة لا يتضح بها التفصيل بين المعنيين، ولذلك لا يجب الحد في التعريض، وأجاب ابن القصار بالنقض عليهم بنفوذ القذف بغير اللسان العربي وهو ضعيف، ونقض غيره بالقتل فإنه ينقسم إلى عمد وشبه عمد وخطأ ويتميز بالإشارة وهو قوي، واحتجوا أيضا بأن اللعان شهادة وشهادة الأخرس مردودة بالإجماع، وتعقب بأن مالكا ذكر قبولها فلا إجماع، وبأن اللعان عند الأكثر يمين كما سيأتي البحث فيه. قوله: "وكذلك الأصم يلاعن" أي إذا أشير إليه حتى فهم، قال المهلب: في أمره إشكال، لكن قد يرتفع بترداد الإشارة إلى أن تفهم معرفة ذلك عنه. قلت: والإطلاع على معرفته بذلك سهل لأنه يعرف من نطقه. قوله: "وقال الشعبي وقتادة: إذا قال أنت طالق فأشار بأصابعه تبين منه بإشارته" وصله ابن أبي شيبة بلفظ: سئل الشعبي فقال سئل رجل مرة أطلقت امرأتك قال فأومأ بيده بأربع أصابع ولم يتكلم ففارق امرأته. قال ابن التين: معناه أنه عبر عما نواه من العدد بالإشارة فاعتلوا عليه بذلك. قوله: "وقال إبراهيم: الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه" وصله ابن أبي شيبة بلفظه، وأخرجه الأثرم عن ابن أبي شيبة كذلك، وأخرجه عبد الرزاق بلفظ الرجل يكتب الطلاق ولا بلفظ به أنه كان يراه لازما، ونقل ابن التين عن مالك أن الأخرس إذا كتب الطلاق أو نواه لزمه؛ وقال الشافعي: لا يكون طلاقا، يعني أن كلا منهما على انفراده لا يكون طلاقا، أما لو جمعهما فإن الشافعي يقول بالوقوع سواء كان ناطقا أم أخرس. قوله: "وقال حماد: الأخرس والأصم إن قال برأسه جاز" هو حماد بن أبي سليمان شيء أبي حنيفة، فكأن البخاري أراد إلزام الكوفيين بقول شيخهم، ولا يخفى أن محل الجواز حيث يسبق ما ينطبق عليه من الإيماء بالرأس الجواب. ثم ذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث تتعلق بالإشارة أيضا. حديث أنس في فضل دور الأنصار وقد تقدم شرحه في المناقب، فإنه أورده هناك من وجه آخر عن أنس عن أبي أسيد الساعدي، وأورده هنا عن أنس بغير واسطة والطريقان صحيحان، وفي زيادة أنس هذه الإشارة وليست في روايته عن أبي أسيد. وفي رواية عن أبي أسيد من الزيادة قصة لسعد بن عبادة كما تقدم. والمقصود من الحديث هنا قوله: "ثم قال بيده فقبض أصابعه ثم بسطهن كالرامي بيده" ففيه استعمال الإشارة المفهمة مقرونة بالنطق، وقوله كالرامي بيده أي كالذي يكون بيده الشيء قد ضم أصابعه عليه ثم رماه فانتشرت. قوله: "قال أبو حازم" كذا وقع عنده وأخرجه الإسماعيلي من وجهين عن سفيان بلفظ: "عن أبي حازم" وصرح الحميدي

(9/441)


عن سفيان بالتحديث فقال في روايته: "حدثنا أبو حازم أنه سمع سهلا" أخرجه أبو نعيم. قوله: "كهذه من هذه أو كهاتين" شيء من الراوي، واقتصر الحميدي على قوله: "كهذه من هذه". قوله: "وفرق وأشار سفيان بالسبابة" سيأتي شرحه مستوفي في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قال الكرماني: قد انقضى من يوم بعثته إلى يومنا هذا - يعني سنة سبع وستين وسبعمائة - سبعمائة وثمانون سنة، فكيف تكون المقاربة؟ وأجاب الخطابي أن المراد أن الذي بقي بالنسبة إلى ما مضى قدر فضل الوسطى إلى السبابة. قلت: وسيأتي البحث في ذلك حيث أشرت إليه حديث ابن عمر "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" تقدم شرحه مستوفي في كتاب الصيام. حديث أبي مسعود - وهو عقبة بن عمرو - ووقع في رواية القابسي والكشميهني: "ابن مسعود" قال عياض: وهو وهم، وهو كما قال، فقد تقدم كذلك في بدء الخلق والمناقب والمغازي من طرق عن إسماعيل وهو ابن أبي خالد عن قيس وهو ابن أبي حازم، وصرح في بدء الخلق باسمه ولفظه: "حدثني قيس عن عقبة بن عمرو أبي مسعود" "وقد تقدم شرحه في ذكر الجن في بدء الخلق، وبقية شرحه في أول المناقب. حديث سهل في فضل كافل اليتيم، وسيأتي شرحه في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى، وقوله فيه: "بالسبابة" في رواية الكشميهني: "بالسباحة" وهما بمعنى.

(9/442)


26- باب إِذَا عَرَّضَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ
5305- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ أَسْوَدُ فَقَالَ هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَا أَلْوَانُهَا قَالَ حُمْرٌ قَالَ هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأَنَّى ذَلِكَ قَالَ لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ قَالَ فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ"
[الحديث 5305- طرفه في: 6847، 7314]
قوله: "باب إذا عرض بنفي الولد" بتشديد الراء من التعريض، وهو ذكر شيء يفهم منه شيء آخر لم يذكر، ويفارق الكناية بأنها ذكر شيء بغير لفظه الموضوع يقوم مقامه، وترجم البخاري لهذا الحديث في الحدود "ما جاء في التعريض" وكأنه أخذه من قوله في بعض طرقه: "يعرض بنفيه:" وقد اعترضه ابن المنير فقال: ذكر ترجمة التعريض عقب ترجمة الإشارة لاشتراكهما في إفهام المقصود، لكن كلامه يشعر بإلغاء حكم التعريض فيتناقض مذهبه في الإشارة. والجواب أن الإشارة المعتبرة هي التي لا يفهم منها إلا المعنى المقصود، بخلاف التعريض فإن الاحتمال فيه إما راجح وإما مساو فافترقا، قال الشافعي في "الأم" : ظاهر قول الأعرابي أنه اتهم امرأته، لكن لما كان لقوله وجه غير القذف لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه بحكم القذف فدل ذلك على أنه لا حد في التعريض، ومما يدل على أن التعريض لا يعطي حكم التصريح الإذن بخطبة المعتدة بالتعريض لا بالتصريح فلا يجوز، والله أعلم. قوله: "عن ابن شهاب" قال الدار قطني: أخرجه أبو مصعب في "الموطأ" عن مالك، وتابعه جماعة من الرواة خارج الموطأ، ثم ساقه من رواية محمد بن الحسن عن مالك "أنا الزهري" ومن طريق عبد الله بن محمد بن أسماء عن مالك، ومن طريق ابن وهب "أخبرني ابن أبي ذئب ومالك كلاهما عن ابن شهاب" وطريق ابن وهب هذه أخرجها أبو داود. قوله: "إن سعيد بن المسيب أخبره" كذا لأكثر أصحاب الزهري، وخالفهم يونس فقال

(9/442)


عنه "عن أبي سلمة عن أبي هريرة" وسيأتي في كتاب الاعتصام من طريق ابن وهب عنه، وهو مصير من البخاري إلى أنه عند الزهري عن سعيد وأبي سلمة معا، وقد وافقه مسلم على ذلك، ويؤيده رواية يحيى بن الضحاك عن الأوزاعي عن الزهري عنهما جميعا، وقد أطلق الدار قطني أن المحفوظ رواية مالك ومن تابعه، وهو محمول على العمل بالترجيح، وأما طريق الجمع فهو ما صنعه البخاري، ويتأيد أيضا بأن عقيلا رواه عن الزهري قال: "بلغنا عن أبي هريرة" فإن ذلك، يشعر بأنه عنده عن غير واحد، وإلا لو كان عن واحد فقط كسعيد مثلا لاقتصر عليه. قوله: "إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية أبي مصعب "جاء أعرابي" وكذا سيأتي في الحدود عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك، وللنسائي: "جاء رجل من أهل البادية" وكذا في رواية أشهب عن مالك عند الدار قطني. وفي رواية ابن وهب التي عند أبي داود "أن أعرابيا من بني فزارة" وكذا عند مسلم وأصحاب السنن من رواية سفيان بن عيينة عن ابن شهاب، واسم هذا الأعرابي ضمضم بن قتادة أخرج حديثه عبد الغني بن سعيد في "المبهمات" له من طريق قطبة بنت عمرو بن هرم أن مدلوكا حدثها "إن ضمضم بن قتادة ولد له مولود أسود من امرأة من بني عجل فشكا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك من إبل" ؟ قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن أبي ذئب "صرخ بالنبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود" لم أقف على اسم المرأة ولا على اسم الغلام، وزاد في رواية يونس "وإني أنكرته" أي استنكرته بقلبي ولم يرد أنه أنكر كونه ابنه بلسانه وإلا لكان تصريحا بالنفي لا تعريضا، ووجه التعريض، أنه قال غلاما أسود أي وأنا أبيض فكيف يكون مني؟ ووقع في رواية معمر عن الزهري عند مسلم: "وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه:" ويؤخذ منه أن التعريض بالقذف ليس قذفا وبه قال الجمهور، واستدل الشافعي بهذا الحديث لذلك، وعن المالكية يجب به الحد إذا كان مفهوما، وأجابوا عن الحديث بما سيأتي بيانه في آخر شرحه. وقال ابن دقيق العيد: في الاستدلال بالحديث نظر، لأن المستفتي لا يجب عليه حد ولا تعزير. قلت: وفي هذا الإطلاق نظر، لأنه قد يستفتي بلفظ لا يقتضي القذف وبلفظ يقتضيه، فمن الأول أن يقول مثلا إذا كان زوج المرأة أبيض فأتت بولد أسود: ما الحكم؟ ومن الثاني أن يقول مثلا: أن امرأتي أتت بولد أسود وأبا أبيض فيكون تعريضا، أو يزيد فيه مثلا زنت فيكون تصريحا، والذي ورد في حديث الباب هو الثاني فيتم الاستدلال. وقد نبه الخطابي على عكس هذا فقال: لا يلزم الزوج إذا صرح بأن الولد الذي وضعته امرأته ليس منه حد قذفه لجواز أن يريد أنها وطئت بشهبة أو وضعته من الزوج الذي قبله إذا كان ذلك ممكنا. قوله: "قال : فما ألوانها؟ قال: حمر" في رواية محمد بن مصعب عن مالك عند الدار قطني "قال رمك" والأرمك الأبيض إلى حمرة، وقد تقدم تفسيره في شرح حديث جمل جابر في الشرط. قوله: "فهل فيها من أورق" بوزن أحمر. قوله: "إن فيها لورقا" بضم الواو بوزن حمر، والأورق الذي فيه سواد ليس بحالك بل يميل إلى الغبرة، ومنه قبل للحمامة ورقاء. قوله: "فأني ذلك" بفتح النون الثقيلة أي من أين أتاها اللون الذي خالفها، هل هو بسب فحل من غير لونها طرأ عليها أو لأمر آخر؟. قوله: "لعل نزعه عرق" في رواية كريمة: "لعله" ولا إشكال فيها بخلاف الأول فجزم جمع بأن الصواب النصب أي لعل عرقا نزعه. وقال الصغاني: ويحتمل أن يكون في الأصل "لعله" فسقطت الهاء، ووجهه ابن مالك باحتمال أنه حذف منه ضمير الشأن، ويؤيد توجيهه ما وقع في رواية كريمة، والمعنى يحتمل أن يكون في أصولها ما هو باللون المذكور فاجتذبه إليه فجاء على لونه، وادعى الداودي أن لعل هنا للتحقيق. قوله: "ولعل ابنك هذا نزعه" كذا في رواية أبي ذر

(9/443)


بحذف الفاعل، ولغيره: "نزعه عرق" وكذا في سائر الروايات، والمراد بالعرق الأصل من النسب شبهه بعرق الشجرة، ومنه قولهم: فلان عريق في الأصالة أي أن أصله متناسب، وكذا معرق في الكرم أو اللؤم، وأصل النزع الجذب، وقد يطلق على الميل، ومنه ما وقع في قصة عبد الله بن سلام حين سئل عن شبه الولد بأبيه أو بأمه: نزع إلى أبيه أو إلى أمه، وفي الحديث ضرب المثل، وتشبيه المجهول بالمعلوم تقريبا لفهم السائل، واستدل به لصحة العمل بالقياس، قال الخطابي: هو أصل في قياس الشبه. وقال ابن العربي: فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظير؛ وتوقف فيه ابن دقيق العيد فقال: هو تشبيه في أمر وجودي، والنزاع إنما هو في التشبيه في الأحكام الشرعية من طريق واحدة قوية. وفيه أن الزوج لا يجوز له الانتفاء من ولده بمجرد الظن، وأن الولد يلحق به ولو خالف لونه لون أمه. وقال القرطبي تبعا لابن رشد: لا خلاف في أنه لا يحل نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة كالأدمة والسمرة، ولا في البياض والسواد إذا كان قد أقر بالوطء ولم تمض مدة الاستبراء، وكأنه أراد في مذهبه، وإلا فالخلاف ثابت عند الشافعية بتفصيل فقالوا: إن لم ينضم إليه قرينة زنا لم يجز النفي، فإن اتهمها فأتت بولد على لون الرجل الذي اتهمها به جاز النفي على الصحيح، وفي حديث ابن عباس الآتي في اللعان ما يقويه. وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة مطلقا، والخلاف إنما هو عند عدمها، وهو عكس ترتيب الخلاف عند الشافعية. وفيه تقديم حكم الفراش على ما يشعر به مخالفة الشبه. وفيه الاحتياط للأنساب وإبقائها مع الإمكان، والزجر عن تحقيق ظن السوء. وقال القرطبي: يؤخذ منه منع التسلسل، وأن الحوادث لا بد لها أن تستند إلى أول ليس بحادث. وفيه أن التعريض بالقذف لا يثبت حكم القذف حتى يقع التصريح خلافا للمالكية، وأجاب بعض المالكية أن التعريض الذي يجب به القذف عندهم هو ما يفهم منه القذف كما يفهم من التصريح، وهذا الحديث لا حجة فيه لدفع ذلك، فإن الرجل لم يرد قذفا، بل جاء سائلا مستفتيا عن الحكم لما وقع له من الريبة، فلما ضرب له المثل أذعن. وقال المهلب: التعريض إذا كان على سبيل السؤال لا حد فيه، وإنما يجب الحد في التعريض إذا كان على سبيل المواجهة والمشاتمة. وقال ابن المنير: الفرق بين الزوج والأجنبي في التعريض أن الأجنبي يقصد الأذية المحضة، والزوج قد يعذر بالنسبة إلى صيانة النسب، والله أعلم.

(9/444)


باب إخلاف الملاعن
...
27- باب إِحْلاَفِ الْمُلاَعِنِ
5306- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَأَحْلَفَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا"
قوله: "باب إحلاف الملاعن" ذكر فيه حديث ابن عمر من رواية جويرية بن أسماء عن نافع مختصرا بلفظ: "فأحلفهما" وكذا سيأتي بعد ستة أبواب من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، وتقدم في تفسير النور من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ: "لاعن بين رجل وامرأة" حديث ابن عمر من رواية جويرية بن أسماء عن نافع مختصرا بلفظ: "فأحلفهما" وكذا سيأتي بعد ستة أبواب من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، وتقدم في تفسير النور من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ: "لاعن بين رجل وامرأة" والمراد بالإحلاف هنا النطق بكلمات اللعان، وقد تمسك به من قال أن اللعان يمين، وهو قول مالك والشافعي والجمهور. وقال أبو حنيفة: اللعان شهادة وهو وجه للشافعية، وقيل شهادة فيها شائبة اليمين، وقيل بالعكس، ومن ثم قال بعض العلماء: ليس بيمين ولا شهادة، وانبنى على الخلاف أن اللعان يشرع بين كل زوجين مسلمين أو كافرين حرين أو عبدين عدلين أو فاسقين بناء على أنه

(9/444)


يمين، فمن صح يمينه صح لعانه، وقيل لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين، لأن اللعان شهادة ولا يصح من محدود في قذف، وهذا الحديث حجة للأولين لتسوية الراوي بين لاعن وحلف، ويؤيده أن اليمين ما دل على حث أو منع أو تحقيق خبر وهو هنا كذلك، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق حديث ابن عباس "فقال له: احلف بالله الذي لا إله إلا هو إني لصادق، يقول ذلك أربع مرات أخرجه الحاكم والبيهقي من رواية جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عنه، وسيأتي قريبا "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" واعتل بعض الحنفية بأنها لو كانت يمينا لما تكررت، وأجيب بأنها خرجت عن القياس تغليظا لحرمة الفروج كما خرجت القسامة لحرمة الأنفس، وبأنها لو كانت شهادة لم تكرر أيضا. والذي تحرر لي أنها من حيث الجزم بنفي الكذب وإثبات الصدق يمين، لكن أطلق عليها شهادة لاشتراط أن لا يكتفي في ذلك بالظن بل لا بد من وجود علم كل منهما بالأمرين علما يصح معه أن يشهد به، ويؤيد كونها يمينا أن الشخص لو قال أشهد بالله لقد كان كذا لعد حالفا. وقد قال القفال في "محاسن الشريعة" : كررت أيمان اللعان لأنها أقيمت مقام أربع شهود في غيره ليقام عليها الحد، ومن ثم سميت شهادات.

(9/445)


28- باب يَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلاَعُنِ
5307- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَجَاءَ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ"
قوله: "باب يبدأ الرجل بالتلاعن" ذكر فيه حديث ابن عباس في قصة هلال بن أمية مختصرا وكأنه أخذ الترجمة من قوله: "ثم قامت فشهدت" فإنه ظاهر في أن الرجل يقدم قبل المرأة في الملاعنة، وقد ورد ذلك صريحا من حديث ابن عمر كما سأذكره في "باب صداق الملاعنة" وبه قال الشافعي ومن تبعه وأشهب من المالكية ورجحه ابن العربي وقال ابن القاسم لو ابتدأت به المرأة صح واعتد به وهو قول أبي حنيفة، واحتجوا بأن الله عطفه بالواو وهي لا تقتضي الترتيب. واحتج للأولين بأن اللعان شرع لدفع الحد عن الرجل، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لهلال "البينة وإلا حد في ظهرك"، فلو بدئ بالمرأة لكان دفعا لأمر لم يثبت، وبأن الرجل يمكنه أن يرجع بعد أن يلتعن كما تقدم فيندفع عن المرأة، بخلاف ما لو بدأت به المرأة. قوله: "عن عكرمة عن ابن عباس" كذا وصله هشام بن حسان عن عكرمة، وتابعه عباد بن منصور عن عكرمة أخرجه أبو داود في السنن، وساقه أبو داود الطيالسي في مسنده مطولا، واختلف على أيوب: فرواه جرير ابن حازم عنه موصولا أخرجه الحاكم والبيهقي في "الخلافيات" وغيرها وكذا أخرجه النسائي وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه من رواية حماد بن زيد عن أيوب موصولا، وأخرجه الطبري من طريق حماد مرسلا، قال الترمذي سألت محمدا عن هذا الاختلاف فقال: حديث عكرمة عن ابن عباس في هذا محفوظ. قوله: "إن هلال بن أمية قذف امرأته فجاء فشهد" كذا أورده هنا مختصرا، وتقدم في تفسير النور مطولا، وفيه شرح قوله: "البينة أو حد في ظهرك" وفيه قول هلال "لينزلن الله ما يبرئ ظهري من

(9/445)


الجلد فنزلت" ووقع فيه أنه اتهمهما بشريك بن سحماء، ووقع في رواية مسلم من حديث أنس "إن شريك بن سحماء كان أخا البراء بن مالك لأمه" وهو مشكل فإن أم البراء هي أم أنس بن مالك وهي أم سليم ولم تكن سحماء ولا تسمى سحماء فلعل شريكا كان أخاه من الرضاعة. وقد وقع عند البيهقي في الخلافيات من مرسل محمد بن سيرين "أن شريكا كان يأوي إلى منزل هلال" وفي تفسير مقاتل: أن والدة شريك التي يقال لها سحماء كانت حبشية وقيل كانت يمانية، وعند الحاكم من مرسل ابن سيرين "كانت أمة سوداء" واسم والد شريك عبدة بن مغيث بن الجد بن العجلان، وحكى عبد الغني بن سعيد وأبو نعيم في الصحابة أن لفظ شريك صفة لا اسم، وأنه كان شريكا لرجل يهودي يقال له ابن سحماء، وحكى البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي أن شريك بن سحماء كان يهوديا، وأشار عياض إلى بطلان هذا القول وجزم بذلك النووي تبعا له وقال: كان صحابيا، وكذا عده جمع في الصحابة فيجوز أن يكون أسلم بعد ذلك. ويعكر على هذا قول ابن الكلبي: أنه شهد أحدا؛ وكذا قول غيره أن أباه شهد بدرا وأحدا؛ فالله أعلم. قوله في هذه الرواية "فجاء فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله يعلم أن أحد كما كاذب" ظاهره أن هذا الكلام صدر منه صلى الله عليه وسلم في حال ملاعنتهما، بخلاف من زعم أنه قاله بعد فراغهما، وزاد في تفسير النور من هذا الوجه بعد قوله فشهدت "فلما كان عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة" ووقع عند النسائي في هذه القصة "فأمر رجلا أن يضع يده عند الخامسة على فيه، ثم على فيها. وقال: إنها موجبة" قال ابن عباس "فتلكأت ونكصت حتى قلنا إنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت" وفيه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "أبصروها فإن جاءت إلخ" وسأذكر شرحه في "باب التلاعن في المسجد"

(9/446)


29- باب اللِّعَانِ وَمَنْ طَلَّقَ بَعْدَ اللِّعَانِ
5308- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلاَنِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ يَا عَاصِمُ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا قَالَ سَهْلٌ فَتَلاَعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاَعُنِهِمَا قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ"

(9/446)


قوله: "باب اللعان" تقدم معنى اللعان قبل، وهو ينقسم إلى واجب ومكروه وحرام، فالأول أن يراها تزني أو أقرت بالزنا فصدقها، وذلك في طهر لم يجامعها فيه ثم اعتزلها مدة العدة فأتت بولد لزمه قذفها لنفي الولد لئلا يلحقه فيترتب عليه المفاسد. الثاني أن يرى أجنبيا يدخل عليها بحيث يغلب على ظنه أنه زنى بها فيجوز له أن يلاعن، لكن لو ترك لكان أولى للستر لأنه يمكنه فراقها بالطلاق الثالث ما عدا ذلك، لكن لو استفاض فوجهان لأصحاب الشافعي وأحمد، فمن أجار تمسك بحديث: "انظروا فإن جاءت به" فجعل الشبه دالا على نفيه منه، ولا حجة فيه لأنه سبق اللعان في الصورة المذكورة كما سيأتي، ومن تمسك بحديث الذي أنكر شبه ولده به. قوله: "ومن طلق" أي بعد أن لاعن، في هذه الترجمة إشارة إلى الخلاف هل تقع الفرقة في اللعان بنفس اللعان أو بإيقاع الحاكم بعد الفراغ أو بإيقاع الزوج، فذهب مالك والشافعي ومن تبعهما إلى أن الفرقة نقع بنفس اللعان، قال مالك وغالب أصحابه: بعد فراغ المرأة. وقال الشافعي وأتباعه وسحنون من المالكية: بعد فراغ الزوج، واعتل بأن التعان المرأة إنما شرع لدفع الحد عنها بخلاف الرجل فإنه يزيد على ذلك في حقه نفي النسب ولحاق الولد وزوال الفراش، وتظهر فائدة الخلاف في التوارث لو مات أحدهما عقب فراع الرجل، وفيما إذا علق طلاقه امرأة بفراق أخرى ثم لاعن الأخرى. وقال الثوري وأبو حنيفة وأتباعهما لا تقع الفرقة حتى يوقعها عليهما الحاكم، واحتجوا بظاهر ما وقع في أحاديث اللعان كما سيأتي بيانه، وعن أحمد روايتان، وسيأتي مزيد بحث في ذلك بعد خمسة أبواب، وذهب عثمان البتي أنه لا تقع الفرقة حتى يوقعها الزوج، واعتل بأن الفرقة لم تذكر في القرآن، ولأن ظاهر الأحاديث أن الزوج هو الذي طلق ابتداء، ويقال إن عثمان تفرد بذلك لكن نقل الطبري عن أبي الشعثاء جابر بن زيد البصري أحد أصحاب ابن عباس، من فقهاء التابعين نحوه، ومقابله قول أبي عبيد: أن الفرقة بين الزوجين تقع بنفس القذف ولو لم يقع اللعان، وكأنه مفرع على وجوب اللعان على من تحقق ذلك من المرأة، فإذا أخل به عوقب بالفرقة تغليطا عليه. قوله: "عن ابن شهاب" في رواية الشافعي عن مالك "حدثني ابن شهاب". قوله: "إن عويمرا العجلاني" في رواية القعنبي عن مالك "عويمر بن أشقر" وكذا أخرجه أبو داود وأبو عوانة من طريق عياض بن عبد الله الفهري عن الزهري، ووقع في "الاستيعاب" عويمر بن أبيض، وعند الخطيب في "المبهمات" عويمر بن الحارث، وهذا هو المعتمد فإن الطبري نسبه في "تهذيب الآثار" فقال: هو عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن عجلان، فلعل أباه كان يلقب أشقر أو أبيض، وفي الصحابة ابن أشقر آخر وهو مازني أخرج له ابن ماجه. واتفقت الروايات عن ابن شهاب على أنه في مسند سهل إلا ما أخرجه النسائي من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة وإبراهيم بن سعد كلاهما عن الزهري فقال فيه: "عن سهل عن عاصم بن عدي قال: كان عويمر رجلا من بنى العجلان، فقال: "أي عاصم فذكر الحديث، والمحفوظ الأول، وسيأتي عن سهل أنه حضر القصة، فستأتي في الحدود من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري قال: "قال سهل بن سعيد شهدت المتلاعن وأنا ابن خمس عشرة سنة" ووقع في نسخة أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن سهل بن سعد قال: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة" فهذا يدل على أن قصة اللعان كانت في السنة الأخيرة من زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لكن جزم الطبري وأبو حاتم وابن حبان بأن اللعان كان في شعبان سنة تسع، وجزم به غير واحد من المتأخرين، ووقع في حديث عبد الله بن جعفر عند الدار قطني أن قصة اللعان كانت بمنصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، وهو قريب من قول الطبري، ومن وافقه،

(9/447)


لكن في إسناده الواقدي فلا بد من تأويل أحد القولين، فإن أمكن وإلا فطريق شعيب أصح. ومما يوهن رواية الواقدي ما اتفق عليه أهل السير أن التوجه إلى تبوك كان في رجب، وما ثبت في الصحيحين أن هلال بن أمية أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، وفي قصته أن امرأته استأذنت له النبي صلى الله عليه وسلم أن تخدمه فأذن لها بشرط أن لا يقربها فقالت: إنه لا حراك به، وفيه أن ذلك كان بعد أن مضى لهم أربعون يوما، فكيف تقع قصة اللعان في الشهر الذي انصرفوا فيه من تبوك ويقع لهلال مع كونه فيما ذكر من الشغل بنفسه وهجران الناس له وغير ذلك، وقد ثبت في حديث ابن عباس أن آية اللعان نزلت في حقه، وكذا عند مسلم من حديث أنس أنه أول من لاعن في الإسلام، ووقع في رواية عباد بن منصور في حديث ابن عباس عند أبي داود وأحمد "حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فوجد عند أهله رجلا" الحديث، فهذا يدل على أن قصة اللعان تأخرت عن قصة تبوك والذي يظهر أن القصة كانت متأخرة، ولعلها كانت في شعبان سنة عشر لا تسع، وكانت الوفاة النبوية في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة باتفاق، فيلتئم حينئذ مع حديث سهل بن سعد، ووقع عند مسلم من حديث ابن مسعود "كنا ليلة جمعة في المسجد إذ جاء رجل من الأنصار" فذكر القصة في اللعان باختصار، فعين اليوم لكن لم يعين الشهر ولا السنة. قوله: "جاء إلى عاصم بن عدي" أي ابن الجد بن العجلان العجلاني، وهو ابن عم والد عويمر. وفي رواية الأوزاعي عن الزهري التي مضت في التفسير "وكان عاصم سيد بني عجلان" والجد بفتح الجيم وتشديد الدال والعجلان بفتح المهملة وسكون الجيم هو ابن حارثة بن ضبيعة من بني بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وكان العجلان حالف بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس من الأنصار في الجاهلية وسكن المدينة فدخلوا في الأنصار. وقد ذكر ابن الكلبي أن امرأة عويمر هي بنت عاصم المذكور وأن اسمها خولة. وقال ابن منده في "كتاب الصحابة" خولة بنت عاصم التي. قذفها زوجها فلاعن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، لها ذكر ولا تعرف لها رواية، وتبعه أبو نعيم، ولم يذكرا سلفهما في ذلك وكأنه ابن الكلبي، وذكر مقاتل بن سليمان فيما حكاه القرطبي أنها خولة بنت قيس، وذكر ابن مردويه أنها بنت أخي عاصم، فأخرج من طريق الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى "أن عاصم بن عدي لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قال: يا رسول الله أين لأحدنا أربعة شهداء؟ فابتلى به في بنت أخيه" وفي سنده مع إرساله ضعف. وأخرج ابن أبي حاتم في التفسير عن مقاتل بن حيان قال: "لما سأل عاصم عن ذلك ابتلى به في أهل بيته، فأتاه ابن عمه تحته ابنة عمه رماها بابن عمة المرأة والزوج والحليل ثلاثتهم بنو عم عاصم" وعن ابن مردويه في مرسل ابن أبي ليلى المذكور أن الرجل الذي رمي عويمر امرأته به هو شريك بن سحماء. وهو يشهد لصحة هذه الرواية لأنه ابن عم عويمر كما بينت نسبه في الباب الماضي، وكذا في مرسل مقاتل بن حيان عند أبي حاتم، فقال الزوج لعاصم: يا ابن عم أقسم بالله لقد رأيت شريك بن سحماء على بطنها وإنها لحبلى وما قربتها منذ أربعة أشهر، وفي حديث عبد الله بن جعفر عند الدار قطني "لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته، فأنكر حملها الذي في بطنها وقال: هو لابن سحماء" ولا يمتنع أن يتهم شريك بن سحماء بالمرأتين معا. وأما قول ابن الصباغ في "الشامل" أن المزني ذكر في "المختصر" أن العجلاني قذف زوجته بشريك بن سحماء وهو سهو في النقل، وإنما القاذف بشريك هلال بن أمية، فكأنه لم يعرف مستند المزني في ذلك وإذا جاء الخبر من طرق متعددة فإن بعضها يعضد بعضا، والجمع ممكن فيتعين المصير إليه فهو أولى من التغليط. قوله: "أرأيت رجلا" أي أخبرني عن حكم. رجل. قوله: "وجد مع امرأته

(9/448)


رجلا" كذا اقتصر على قوله: "مع" فاستعمل الكناية، فإن مراده معية خاصة، ومراده أن يكون وجده عند الرؤية. قوله: "أيقتله فتقتلونه" أي قصاصا لتقدم علمه بحكم القصاص لعموم قوله تعالى :{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لكن في طرقه احتمال أن يخص من ذلك ما يقع بالسبب الذي لا يقدر على الصبر عليه غالبا من الغيرة التي في طبع البشر، ولأجل هذا قال: "أم كيف يفعل" ؟ وقد تقدم في أول "باب الغيرة" استشكال سعد بن عبادة مثل ذلك وقوله: "لو رأيته لضربته بالسيف غير مصفح" وتقدم في تفسير النور قول النبي صلى الله عليه وسلم لهلال ابن أمية لما سأله عن مثل ذلك "البينة، وإلا حد في ظهرك" وذلك كله قبل أن ينزل اللعان. وقد اختلف العلماء فيمن وجد مع امرأته رجلا فتحقق الأمر فقتله هل يقتل به؟ فمنع الجمهور الإقدام وقالوا: يقتص منه إلا أن يأتي ببينة الزنا أو على المقتول بالاعتراف أو يعترف به ورثته فلا يقتل القاتل به بشرط أن يكون المقتول محصنا، وقيل بل يقتل به لأنه ليس له أن يقيم الحد بغير إذن الإمام. وقال بعض السلف: بل لا يقتل أصلا ويعزر فيما فعله إذا ظهرت أمارات صدقه، وشرط أحمد وإسحاق ومن تبعهما أن يأتي بشاهدين أنه قتله بسبب ذلك، ووافقهم ابن القاسم وابن حبيب من المالكية، لكن زاد أن يكون المقتول قد أحصن، قال القرطبي: ظاهر تقرير عويمر على ما قال يؤيد قولهم، كذا قال والله أعلم. وقوله: "أم كيف يفعل" ؟ يحتمل أن تكون "أم" متصلة والتقدير: أم يصبر على ما به من المضض، ويحتمل أن تكون منقطعة بمعنى الإضراب أي بل هناك حكم آخر لا يعرفه ويريد أن يطلع عليه، فلذلك قال: سل لي يا عاصم. وإنما خص عاصما بذلك لما تقدم من أنه كان كبير قومه وصهره على ابنته أو ابنة أخيه، ولعله كان اطلع على مخايل ما سأل عنه لكن لم يتحققه فلذلك لم يفصح به، أو اطلع حقيقة لكن خشي إذا صرح به من العقوبة التي تضمنها من رمي المحصنة بغير بينة، أشار إلى ذلك ابن العربي قال: ويحتمل أن يكون لم يقع له شيء من ذلك لكن اتفق أنه وقع في نفسه إرادة الاطلاع على الحكم فابتلى به كما يقال البلاء موكل بالمنطق، ومن ثم قال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به. وقد وقع في حديث ابن عمر عند مسلم في قصة العجلاني "فقال: أرأيت إن وجد رجل مع امرأته رجلا، فإن تكلم به تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك". وفي حديث ابن مسعود عنده أيضا: "إن تكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ" وهذه أتم الروايات في هذا المعنى. قوله: "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر" بفتح الكاف وضم الموحدة أي عظم وزنا ومعنى، وسببه أن الحامل لعاصم على السؤال غيره فأختص هو بالإنكار عليه، ولهذا قال لعويمر لما رجع فاستفهمه عن الجواب: لم تأبني بخير. "تنبيهات": الأول تقدم في تفسير النور أن النووي نقل عن الواحدي أن عاصما أحد من لاعن، وتقدم إنكار ذلك. ثم وقفت على مستنده وهو مذكور في "معاني القرآن للفراء" لكنه غلط. الثاني وقع في السيرة لابن حبال في حوادث سنة تسع "ثم لاعن بين عويمر بن الحارث العجلاني وهو الذي يقال له عاصم وبين امرأته بعد العصر في المسجد" وقد أنكر بعض شيوخنا قوله: "وهو الذي يقال له عاصم" والذي يظهر لي أنه تحريف، وكأنه كان في الأصل "الذي سأل له عاصم" والله أعلم. وسبب كراهة ذلك ما قال الشافعي: كانت المسائل فيما لم ينزل فيه حكم زمن نزول الوحي ممنوعة لئلا ينزل الوحي بالتحريم فيما لم يكن قبل ذلك محرما فيحرم، ويشهد له الحديث المخرج في الصحيح "أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" وقال النووي: المراد كراهة المسائل التي لا يحتاج إليها، لا سيما ما كان فيه هتك ستر مسلم أو إشاعة فاحشة أو شناعة عليه، وليس المراد المسائل المحتاج إليها إذا

(9/449)


وقعت، فقد كان المسلمون يسألون عن النوازل فيجيبهم صلى الله عليه وسلم بغير كراهة، فلما كان في سؤال عاصم شناعة ويترتب عليه تسليط اليهود والمنافقين على أعراض المسلمين كره مسألته، وربما كان في المسألة تضييق، وكان صلى الله عليه وسلم يحب التيسير على أمته وشواهد ذلك في الأحاديث كثيرة، وفي حديث جابر "ما نزلت آية اللعان إلا لكثرة السؤال" أخرجه الخطيب في "المبهمات" من طريق مجالد عن عامر عنه. قوله: "فقال عويمر: والله لا انتهي" في رواية الكشميهني: "ما انتهى" أي ما أرجع عن السؤال ولو نهيت عنه، زاد ابن أبي ذئب في روايته عن ابن شهاب في هذا الحديث كما سيأتي الاعتصام "فأنزل الله القرآن خلف عاصم" أي بعد أن رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية ابن جريج في الباب الذي بعد هذا "فأنزل الله في شأنه ما ذكر في القرآن من أمر الملاعنة "وفي رواية إبراهيم بن سعد "فأتاه فوجده قد أنزل الله عليه". قوله: "فأقبل عويمر حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" بالنصب "وسط الناس" بفتح السين وبسكونها. قوله: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك" ظاهر هذا السياق أنه كان تقدم منه إشارة إلى خصوص ما وقع له مع امرأته، فيترجح أحد الاحتمالات التي أشار إليها ابن العربي، لكن ظهر لي من بقية الطرق أن في السياق اختصارا، ويوضح ذلك ما وقع في حديث ابن عمر في قصة العجلاني بعد قوله: "إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك" فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فدل على أنه لم يذكر امرأته إلا بعد أن انصرف ثم عاد. ووقع في حديث ابن مسعود "إن الرجل لما قال: وإن سكت سكت على غيظ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم افتح، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان" وهذا ظاهره أن الآية نزلت عقب السؤال، لكن يحتمل أن يتخلل بين الدعاء والنزول زمن بحيث يذهب عاصم ويعود عويمر، وهذا كله ظاهر جدا في أن القصة نزلت بسبب عويمر، ويعارضه ما تقدم في تفسير النور من حديث ابن عباس "أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك. فقال هلال: والذي بعثك بالحق إنني لصادق، ولينزلن الله في ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل فأنزل عليه: والذين يرمون أزواجهم" الحديث. وفي رواية عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس في هذا الحديث عند أبي داود "فقال هلال: وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا. قال فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك إذ نزل عليه الوحي" وفي حديث أنس عند مسلم: "أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء وكان أخا البراء بن مالك لأمه، وكان أول رجل لاعن في الإسلام" فهذا يدل على أن الآية نزلت بسبب هلال، وقد قدمت اختلاف أهل العلم في الراجح من ذلك، وبينت كيفية الجمع بينهما في تفسير سورة النور بأن يكون هلال سأل أولا ثم سأل عويمر فنزلت في شأنهما معا، وظهر لي الآن احتمال أن يكون عاصم سأل قبل النزول ثم جاء هلال بعده فنزلت عند سؤاله، فجاء عويمر في المرة الثانية التي قال فيها "إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به" فوجد الآية نزلت في شأن هلال، فأعلمه صلى الله عليه وسلم بأنها نزلت فيه، يعني أنها نزلت في كل من وقع له ذلك، لأن ذلك لا يختص بهلال. وكذا يجاب على سياق حديث ابن مسعود يحتمل أنه لما شرع يدعو بعد توجه العجلاني جاء هلال فذكر قصته فنزلت، فجاء عويمر فقال: قد نزل فيك وفي صاحبتك. قوله: "فاذهب فأت بها" يعني فذهب فأتي بها. واستدل به على أن اللعان يكون عند الحاكم وبأمره، فلو تراضيا بمن يلاعن بينهما فلاعن لم يصح، لأن في اللعان من التغليظ ما يقتضي أن يختص به الحكام. وفي حديث ابن عمر "فتلاهن عليه" أي الأياب التي في سورة النور ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب

(9/450)


الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها. ثم دعاها فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قالت: والذي بعثك بالحق إنه لكاذب. قوله: "قال سهل" هو موصول بالإسناد المبدأ به. قوله: "فتلاعنا" فيه حذف تقديره فذهب فأتى بها فسألها فأنكرت؛ فأمر باللعان فتلاعنا. قوله: "وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد ابن جريج كما في الباب الذي بعده "في المسجد" وزاد ابن إسحاق روايته عن ابن شهاب في هذا الحديث: "بعد العصر" أخرجه أحمد. وفي حديث عبد الله بن جعفر "بعد العصر عند المنبر" وسنده ضعيف، واستدل بمجموع ذلك على أن اللعان يكون بحضرة الحكام وبمجمع من الناس، وهو أحد أنواع التغليظ. ثانيها الزمان. ثالثها المكان. وهذا التغليظ مستحب وقيل واجب. "تنبيه" لم أر في شيء من طرق حديث سهل صفة تلاعنهما إلا ما في رواية الأوزاعي الماضية في التفسير فإنه قال: "فأمرهما بالملاعنة بما سمى في كتابه" وظاهره أنهما لم يزيدا على ما في الآية، وحديث ابن عمر عند مسلم صريح في ذلك فإن فيه: "فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة" الحديث. وحديث ابن مسعود نحوه لكن زاد فيه: "فذهبت لتلتعن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مه، فأبت، فالتعنت" وفي حديث أنس عند أبي يعلى وأصله في مسلم: "فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا؟ فشهد بذلك أربعا ثم قال له في الخامسة: ولعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين؟ ففعل، ثم دعاها فذكر نحوه، فلما كان في الخامسة سكتت سكتة حتى ظنوا أنها ستعترف، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت على القول" . وفي حديث ابن عباس من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عنه عند أبي داود والنسائي وابن أبي حاتم" فدعا الرجل، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فأمر به فأمسك على فيه، فوعظه فقال: كل شيء أهون عليك من لعنة الله. ثم أرسله فقال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. وقال في المرأة نحو ذلك" وهذه الطريق لم يسم فيها الزوج ولا الزوجة، بخلاف حديث أنس فصرح فيه بأنها في قصة هلال بن أمية، فإن كانت القصة واحدة وقع الوهم في تسمية الملاعن كما جزم به غير واحد ممن ذكرته في التفسير. فهذه زيادة من ثقة فتعتمد، وإن كانت متعددة فقد ثبت بعضها في قصه امرأة هلال كما ذكرته في آخر "باب يبدأ الرجل بالتلاعن". قوله: "فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها" في رواية الأوزاعي "إن حبستها فقد ظلمتها". قوله: "فطلقها ثلاثا" في رواية ابن إسحاق "ظلمتها إن أمسكتها فهي الطلاق فهي الطلاق" وقد تفرد بهذه الزيادة ولم يتابع عليها، وكأنه رواه بالمعنى لاعتقاده منع جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة، وقد تقدم البحث فيه من قبل في أوائل الطلاق، واستدل بقوله: "طلقها ثلاثا" أن الفرقة بين المتلاعنين تتوقف على تطليق الرجل كما تقدم نقله عن عثمان البتي، وأجيب بقوله في حديث ابن عمر "فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين" فإن حديث سهل وحديث ابن عمر في قصة واحدة، وظاهر حديث ابن عمر أن الفرقة وقعت بتفريق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع في "شرح مسلم للنووي" قوله: "كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها" هو كلام مستقل، وقوله: "فطلقها" أي ثم عقب قوله ذلك بطلاقها وذلك لأنه ظن أن اللعان لا يحرمها عليه، فأراد تحريمها بالطلاق فقال: "هي طالق ثلاثا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا سبيل لك عليها" أي لا ملك لك عليها فلا يقع طلاقك انتهى. وهو يوهم أن قوله: "لا سبيل لك عليها" وقع منه صلى الله عليه وسلم

(9/451)


عقب قول الملاعن هي طالق ثلاثا وأنه موجود كذلك في حديث سهل بن سعد الذي شرحه، وليس كذلك فإن قوله لا سبيل لك عليها لم يقع في حديث سهل، وإنما وقع في حديث ابن عمر عقب قوله: "الله يعلم أن أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها" وفيه: "قال يا رسول الله مالي" الحديث كذا في الصحيحين، وظهر من ذلك أن قوله : "لا سبيل لك عليها" إنما استدل من استدل به من أصحابنا لوقوع الفرقة بنفس الطلاق من عموم لفظه لا من خصوص السياق والله أعلم. قوله: "قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين" زاد أبو داود عن القعنبي عن مالك "فكانت تلك وهي إشارة إلى الفرقة. وفي رواية ابن جريج في الباب بعده" فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذلك تفريق بين كل متلاعنين "كذا للمستملي، وللباقين" فكان ذلك تفريقا، وللكشميهني: "فصار" بدل "فكان" وأخرجه مسلم من طريق ابن جريج بلفظ: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك التفريق بين كل متلاعنين" وهو يؤيد رواية المستملي، ومن طريق يونس عن ابن شهاب قال بمثل حديث مالك، قال مسلم: لكن أدرج قوله: "وكان فراقه إياها بعد سنة بين المتلاعنين" وكذا ذكر الدار قطني في "غرائب مالك" اختلاف الرواة على ابن شهاب ثم على مالك في تعيين من قال: "فكان فراقها سنة" هل هو من قول سهل أو من قول ابن شهاب، وذكر ذلك الشافعي وأشار إلى أن نسبته إلى ابن شهاب لا تمنع نسبته إلى سهل، ويؤيده ما وقع عند أبي داود من طريق عياض بن عبد الله الفهري عن ابن شهاب عن سهل قال: "فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة" قال سهل "حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا" فقوله: "فمضت السنة" ظاهر في أنه من تمام قول سهل، ويحتمل أنه من قول ابن شهاب، ويؤيده أن ابن جريج كما في الباب الذي بعده أورد قول ابن شهاب في ذلك بعد ذكر حديث سهل فقال بعد قوله ذلك تفريق بين كل متلاعنين: قال ابن جريج قال ابن شهاب كانت السنة بعدها أن يفرق بين المتلاعنين، ثم وجدت في نسخة الصغاني آخر الحديث. قال أبو عبد الله: قوله: "ذلك تفريق بين المتلاعنين" من قول الزهري وليس من الحديث. انتهى، وهو خلاف ظاهر سياق ابن جريج فكأن المصنف رأى أنه مدرج فنبه عليه.

(9/452)


30- باب التَّلاَعُنِ فِي الْمَسْجِدِ
5309- حَدَّثَنَا يَحْيَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ الْمُلاَعَنَةِ وَعَنْ السُّنَّةِ فِيهَا عَنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِهِ مَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرِ الْمُتَلاَعِنَيْنِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قَضَى اللَّهُ فِيكَ وَفِي امْرَأَتِكَ قَالَ فَتَلاَعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَا مِنْ التَّلاَعُنِ فَفَارَقَهَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ذَاكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاَعِنَيْنِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ السُّنَّةُ بَعْدَهُمَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَكَانَتْ حَامِلًا وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى لِأُمِّهِ قَالَ ثُمَّ جَرَتْ السُّنَّةُ فِي مِيرَاثِهَا أَنَّهَا تَرِثُهُ

(9/452)


وَيَرِثُ مِنْهَا مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلاَ أُرَاهَا إِلاَّ قَدْ صَدَقَتْ وَكَذَبَ عَلَيْهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ فَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ
قوله: "باب التلاعن في المسجد" أشار بهذه الترجمة إلى خلاف الحنفية أن اللعان لا يتعين في المسجد وإنما يكون حيث كان الإمام أو حيث شاء. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن جعفر. قوله: "أخبرني ابن شهاب عن الملاعنة وعن السنة فيها عن حديث سهل بن سعد أخي بني ساعدة" وقع عند الطبري في أول الإسناد زيادة، فإنه أخرج من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج عن عكرمة في هذه الآية {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} نزلت في هلال بن أمية فذكره مختصرا، قال ابن جريج: وأخبرني ابن شهاب فذكره، فكأن ابن جريج أشار إلى بيان الاختلاف في الذي نزل ذلك فيه، وقد ذكرت ما في رواية ابن جريج من الفائدة في الباب الذي قبله. قوله: "قال وكانت حاملا وكان ابنها يدعي لأمه، قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله لها" هذه الأقوال كلها أقوال ابن شهاب، وهو موصول إليه بالسند المبدأ به، وقد وصله سويد بن سعيد عن مالك عن ابن شهاب عن سهل بن سعد، قال الدار قطني في "غرائب مالك" : لا أعلم أحدا رواه عن مالك غيره. قلت: وقد تقدم في التفسير من طريق فليح بن سليمان عن الزهري عن سهل، فذكر قصة المتلاعنين مختصرة وفيه: "ففارقها، فكانت سنة أن يفرق بين المتلاعنين، وكانت حاملا - إلى قوله :{ما فرض الله لها" ، وظاهر أنه من قول سهل مع احتمال أن يكون من قول ابن شهاب كما تقدم، وهذا صريح في أن اللعان بينهما وقع وهي حامل، ويتأيد بما في رواية العباس بن سهل بن سعد عن أبيه عند أبي داود" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعاصم بن عدي: أمسك المرأة عندك حتى تلد"، وتقدم في أثناء الباب الذي قبله من مرسل مقاتل ابن حيان ومن حديث عبد الله بن جعفر أيضا التصريح بذلك. قوله: "قال ابن جريج عن ابن شهاب عن سهل ابن سعد الساعدي في هذا الحديث" هو موصول بالسند المبدأ به. قوله: "إن جاءت به أحمر" في رواية أبي داود من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب "أحيمر" بالتصغير، وفي مرسل سعيد بن المسيب عند الشافعي "أشقر" قال ثعلب المراد بالأحمر الأبيض، لأن الحمرة إنما تبدو في البياض، قال: والعرب لا تطلق الأبيض لا اللون وإنما تقوله في نعت الطاهر والنقي والكريم ونحو ذلك. قوله: "قصيرا كأنه وحرة" بفتح الواو والمهملة: دويبة تترامى على الطعام واللحم فتفسده، وهي من نوع الوزغ. قوله: "فلا أراها إلا صدقت" في رواية عباس بن سهل عن أبيه عند أبي داود فهو لأبيه الذي انتفى منه. قوله: "وإن جاءت به أسود أعين ذا أليتين" أي عظيمتين، ويوضحه ما في رواية أبي داود المذكورة من طريق إبراهيم بن سعد "أدعج العينين عظيم الأليتين" ومثله في رواية الأوزاعي الماضية في التفسير وزاد: "خدلج الساقين" والدعج شدة سواد الحدقة والأعين الكبير العين. وفي رواية عباس بن سهل المذكورة "وإن ولدته قطط الشعر أسود اللسان فهو لابن سحماء" والقطط تفلفل الشعر. قوله: "فجاءت به على المكروه من ذلك" في رواية الأوزاعي "فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر" وفي رواية عباس المذكورة "قال عاصم: فلما وقع أخذته إلى فإذا رأسه مثل فروة الحمل الصغير، ثم أخذت بفقميه فإذا هو مثل النبعة، واستقبلني لسانه أسود مثل الثمرة فقلت: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم"، والحمل بفتح المهملة والميم ولد

(9/453)


الضأن، والنبعة واحدة النبع بفتح النون وسكون الموحدة بعدها مهملة، وهو شجر يتخذ منه القسي والسهام، ولون قشره أحمر إلى الصفرة.

(9/454)


31- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ
5310- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ذُكِرَ التَّلاَعُنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلًا ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَالَ عَاصِمٌ مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا الأَمْرِ إِلاَّ لِقَوْلِي فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ خَدْلًا آدَمَ كَثِيرَ اللَّحْمِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَيِّنْ فَجَاءَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ فَلاَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ هِيَ الَّتِي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ فَقَالَ لاَ تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الإِسْلاَمِ السُّوءَ قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ آدَمَ خَدِلًا"
[الحديث 5310- أطرافه في: 5316، 6855، 6856، 7238]
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت راجما بغير بينة" أي من أنكر، وإلا فالمعترف أيضا يرجم. قوله: "عن يحيى بن سعد" هو الأنصاري. قوله: "عن عبد الرحمن بن القاسم" في رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد "أخبرني عبد الرحمن بن القاسم" وسيأتي بعد ستة أبواب. قوله: "عن القاسم بن محمد" أي ابن أبي بكر الصديق وهو والد عبد الرحمن راويه عنه، ووقع في رواية النسائي: "عن أبيه". قوله: "عن ابن عباس أنه ذكر التلاعن" يعني أنه قال ذكر فحذف لفظ: "قال:" وصرح بذلك في رواية سليمان الآتية، وقوله: "ذكر" بضم أوله على البناء للمجهول، وقوله: "التلاعن" وقع في رواية سليمان "المتلاعنان" والمراد ذكر حكم الرجل يرمي امرأته بالزنا فعبر عنه بالتلاعن باعتبار ما آل إليه الأمر بعد نزول الآية. قوله: "فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا ثم انصرف" قال الكرماني: معنى قوله: "قولا" أي كلاما لا يليق به كعجب النفس والنخوة والمبالغة في الغيرة وعدم المرد إلى إرادة الله وقدرته. قلت: وكل ذلك بمعزل عن الواقع، وإنما المراد بقول عاصم ما تقدم في حديث سهل بن سعد أنه سأل عن الحكم الذي أمره عويمر أن يسأل له عنه. وإنما جزمت بذلك لأنه تبين لي أن حديثي سهل بن سعد وابن عباس من رواية القاسم بن محمد عنه في قصة واحدة، بخلاف رواية عكرمة عن ابن عباس فإنها في قصة أخرى كما تقدم في تفسير النور عن ابن عبد البر أن القاسم روي قصة اللعان عن ابن عباس كما رواه سهل بن سعد وغيره في أن الملاعن، وبينت هناك توجيهه، وعلى هذا فالقول المبهم عن عاصم في رواية القاسم هذه هو قوله: "أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه" ؟ الحديث، ولا مانع أن يروى ابن عباس القصتين معا، ويؤيد التعدد اختلاف السياقين وخلو أحدهما عما وقع في الآخر وما وقع بين القصتين من المغايرة كما أبينه. قوله:

(9/454)


"فأتاه رجل من قومه" هو عويمر كما تقدم، ولا يمكن تفسيره بهلال بن أمية لأنه لا قرابة بينه وبين عاصم، لأنه هلال بن أمية بن عامر بن عبد قيس من بني واقف، وهو مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس، فلا يجتمع مع بني عمرو بن عوف الذي ينتهي عاصم إلى حلفهم إلا في مالك بن الأوس لأن عمرو بن عوف هو ابن مالك. قوله: "فقال عاصم ما ابتليت بهذا إلا لقولي" تقدم بيان المراد من ذلك، لأن عويمر بن عمرو كانت تحته بنت عاصم أو بنت أخيه فلذلك أضاف ذلك إلى نفسه بقوله: "ما ابتليت" وقوله: "إلا بقولي" أي بسؤالي عما لم يقع، كأنه قال فعوقبت بوقوع ذلك في آل بيتي، وزعم الداودي أن معناه أنه قال مثلا لو وجدت أحدا يفعل ذلك لقتلته، أو عير أحدا بذلك فابتلى به، وكلامه أيضا بمعزل عن الواقع، فقد وقع في مرسل مقاتل بن حيان عند ابن أبي حاتم "فقال عاصم: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا والله بسؤالي عن هذا الأمر بين الناس فابتليت به" والذي كان قال: "لو رأيته لضربته بالسيف" هو سعد بن عبادة كما تقدم في "باب الغيرة" وقد أورد الطبري من طريق أيوب عن عكرمة مرسلا، ووصله ابن مردويه بذكر ابن عباس قال: "لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قال سعد بن عبادة: إن أنا رأيت لكاع يفجر بها رجل" فذكر القصة وفيه: "فوالله ما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية فذكر قصته، وهو عند أبي داود في رواية عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، فوضح أن قول عاصم كان في قصة عويمر وقول سعد بن عبادة كان في قصة هلال، فالكلامان مختلفان، وهو مما يؤيد تعدد القصة، ويؤيد التعدد أيضا أنه وقع في آخر حديث ابن عباس عند الحاكم" قال ابن عباس: فما كان بالمدينة أكثر غاشية منه" وعند أبي داود وغيره: "قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرا على مصر وما يدعى لأب" فهذا يدل على أن ولد الملاعنة عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمانا، وقوله: "على مصر" أي من الأمصار، وظن بعض شيوخنا أنه أراد مصر البلد المشهور فقال: فيه نظر، لأن أمراء مصر معروفون معدودون ليس فيهم هذا، ووقع في حديث عبد الله بن جعفر عند ابن سعد في "الطبقات" أن ولد الملاعنة عاش بعد ذلك سنتين ومات، فهذا أيضا مما يقوي التعدد والله أعلم. قوله: "وكان ذلك الرجل" أي الذي رمى امرأته. قوله: "مصفرا" بضم أوله وسكون الصاد المهملة وفتح الفاء وتشديد الراء، أي قوي الصفرة، وهذا لا يخالف قوله في حديث سهل أنه كان أحمر أو أشقر لأن ذاك لونه الأصلي والصفرة عارضة، وقوله قليل اللحم أي نحيف الجسم، وقوله سبط الشعر بفتح المهملة وكسر الموحدة هو ضد الجعودة. قوله: "وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله آدم" بالمد أي لونه قريب من السواد. قوله: "خدلا" بفتح المعجمة ثم المهملة وتشديد اللام أي ممتلئ الساقين. وقال أبو الحسين بن فارس "ممتلئ الأعضاء". وقال الطبري: لا يكون إلا مع غلظ العظم مع اللحم. قوله: "كثير اللحم" أي في جميع جسده. يحتمل أن تكون صفة شارحة لقوله: "خدلا" بناء على أن الخدل الممتلئ البدن، وأما على قول من قال أنه المملئ الساق فيكون فيه تعميم بعد تخصيص، وزاد في رواية سليمان بن بلال الآتية "جعدا قططا" وقد تقدم تفسيره في شرح حديث سهل قريبا، وهذه الصفة موافقة للتي في حديث سهل بن سعد حيث فيه: "عظيم الأليتين خدلج الساقين إلخ". قوله: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم بين" يأتي الكلام عليه بعد أربعة أبواب. قوله: "فجاءت" في رواية سليمان بن بلال "فوضعت". قوله: "فلاعن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما" هذا ظاهره أن الملاعنة بينهما تأخرت حتى وضعت فيحمل على أن قوله: "فلاعن" معقب بقوله فذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، واعترض قوله: "وكان ذلك الرجل إلخ" والحامل على ذلك

(9/455)


ما قدمناه من الأدلة على أن رواية القاسم هذه موافقة لحديث سهل بن سعد. قوله: "لو كنت راجما بغير بينة" تمسك به من قال إن نكول المرأة عن اللعان لا يوجب عليها الحد، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي، واحتجوا بأن الحدود لا تثبت بالنكول، وبأن قوله صلى الله عليه وسلم لو كنت راجما لم يقع بسبب اللعان فقط. وقال أحمد: إذا امتنعت تحبس، وأهاب أن أقول ترجم، لأنها لو أقرت صريحا ثم رجعت لم ترجم فكيف ترجم إذا أبت الالتعان. قوله: "فقال رجل لابن عباس في المجلس" يأتي بيانه في "باب قول الإمام اللهم بين" قريبا. قوله: "قال أبو صالح وعبد الله بن يوسف: آدم خدلا" يعني بسكون الدال ويقال بفتحها مخففا في الوجهين وبالسكون ذكره أهل اللغة. وأبو صالح هذا هو عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد وقع في بعض النسخ عن أبي ذر "وقال لنا أبو صالح" ورواية عبد الله بن يوسف وصلها المؤلف في الحدود

(9/456)


32- باب صَدَاقِ الْمُلاَعَنَةِ
5311- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلاَنِ وَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَبَيَا وَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَبَيَا فَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَبَيَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَالَ أَيُّوبُ فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ إِنَّ فِي الْحَدِيثِ شَيْئًا لاَ أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ قَالَ قَالَ الرَّجُلُ مَالِي قَالَ قِيلَ لاَ مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ"
[ الحديث 5311، أطرافه في: 5312، 5349، 5350]
قوله: "باب صداق الملاعنة" أي بيان الحكم فيه، وقد انعقد الإجماع على أن المدخول بها تستحق جميعه، واختلف في غير المدخول بها: فالجمهور على أن لها النصف كغيرها من المطلقات قبل الدخول، وقيل بل لها جميعه قاله أبو الزناد والحكم وحماد، وقيل لا شيء لها أصلا قاله الزهري وروى عن مالك. قوله: "أخبرنا إسماعيل" هو المعروف بابن علية. قوله: "قلت لابن عمر: رجل قذف امرأته" أي ما الحكم فيه؟ وقد أورده مسلم من وجه آخر عن سعيد ابن جبير فزاد في أوله" قال لم يفرق المصعب - يعني ابن الزبير - بين المتلاعنين، أي حيث كان أميرا على العراق، قال سعد فذكرت ذلك لابن عمر. ومن وجه آخر عن سعيد "سئلت عن المتلاعنين في امرأة مصعب ابن الزبير فما دريت ما أقول، فمضيت إلى منزل ابن عمر بمكة" الحديث وفيه: "فقلت يا أبا عبد الرحمن، المتلاعنان أيفرق بينهما؟ قال: سبحان الله، نعم، إن أول من سأل عن ذلك فلان ابن فلان، وعرف من قوله بمكة أن في الرواية التي قبلها حذفا تقديره فسافرت إلى مكة فذكرت ذلك لابن عمر، ووقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير قال: "كنا بالكوفة نختلف في الملاعنة، يقول بعضنا يفرق بينهما ويقول بعضنا لا يفرق" ويؤخذ منه أن الخلاف في ذلك كان قديما، وقد استمر عثمان البتي من فقهاء البصرة على أن اللعان لا يقتضي الفرقة كما تقدم نقله عنه. وكأنه لم يبلغه حديث ابن عمر. قوله: "فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان" سيأتي البحث فيه بعد باب، وتقدمت تسميتهما في حديث سهل بن سعد، ووقع في رواية أبي أحمد الجرجاني

(9/456)


"بين أحد بني العجلان" بحاء ودال مهملتين وهو تصحيف. قوله: "وقال: الله يعلم أن أحدكما لكاذب" كذا للمستملي وسقطت اللام لغيره. قوله: "فهل منكما تائب؟ فأبيا" ظاهره أن ذلك كان قبل صدور اللعان بينهما، وسيأتي أيضا. قوله: "قال أيوب" هو موصول بالسند المبدأ به. قوله: "فقال لي عمرو بن دينار أن في الحديث شيئا لا أراك تحدثه، قال قال الرجل: مالي، قال قيل لا مال لك إلى آخره" حاصله أن عمرو بن دينار وأيوب سمعا الحديث جميعا من سعيد بن جبير فحفظ فيه عمرو ما لم يحفظه أيوب، وقد بين ذلك سفيان بن عيينة حيث رواه عنهما جميعا في الباب الذي بعد هذا، فوقع في روايته عن عمرو بسنده قال النبي صلى الله عليه وسلم: "للمتلاعنين: حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها. قال: مالي قال لا مال لك" أما معنى قوله: "لا سبيل لك" أي لا تسليط، وأما قوله: "مالي" فإنه فاعل فعل محذوف، كأنه لما سمع لا سبيل لك عليها قال: أيذهب مالي؟ والمراد به الصداق. قال ابن العربي: قوله: "مالي" أي الصداق الذي دفعته إليها، فأجيب بأنك استوفيته بدخولك عليها، وتمكينها لك من نفسها. ثم أوضح له ذلك بتقسيم مستوعب فقال: إن كنت صادقا فيما ادعيته عليها فقد استوفيت حقك منها قبل ذلك، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك من مطالبتها لئلا تجمع عليها الظلم في عرضها ومطالبتها بمال قبضته منك قبضا صحيحا تستحقه. وعرف من هذه الرواية اسم القائل "لا مال لك" حيث أبهم في حديث الباب بلفظ: "قيل لا مال لك" مع أن النسائي رواه عن زياد بن أيوب عن ابن علية بلفظ: "قال لا مال لك" وقوله: "فقد دخلت بها" فسره في رواية سفيان بلفظ: "فهو بما استحللت من فرجها" وقوله: "فهو أبعد منك" كذا عند النسائي أيضا، ووقع عند الإسماعيلي من رواية عثمان بن أبي شيبة عن ابن علية "فهو أبعد لك" وسيأتي قبل كتاب النفقات سواء من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير بلفظ: "فذلك أبعد وأبعد لك منها" وكرر لفظ أبعد تأكيدا، قوله: "ذلك" الإشارة إلى الكذب، لأنه مع الصدق يبعد عليه استحقاق إعادة المال ففي الكذب أبعد، ويستفاد من قوله: "فهو بما استحللت من فرجها" أن الملاعنة لو أكذبت نفسها بعد اللعان وأقرت بالزنا وجب عليها الحد، لكن لا يسقط مهرها.

(9/457)


باب قول الإمام للمتلاعنين إن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب
...
33- باب قَوْلِ الإِمَامِ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ
5312- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ حَدِيثِ الْمُتَلاَعِنَيْنِ فَقَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ لاَ سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا قَالَ مَالِي قَالَ لاَ مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ قَالَ سُفْيَانُ حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو وَقَالَ أَيُّوبُ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ لاَعَنَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ وَفَرَّقَ سُفْيَانُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلاَنِ وَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَ سُفْيَانُ حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو وَأَيُّوبَ كَمَا أَخْبَرْتُكَ"
قوله: "باب قول الإمام للمتلاعنين إن أحدكما كاذب" فيه تغليب المذكر على المؤنث. وقال عياض وتبعه

(9/457)


النووي: في "قوله أحدكما" رد على من قال من النحاة إن لفظ أحد لا يستعمل إلا في النفي، وعلى من قال منهم لا يستعمل إلا في الوصف، وأنها لا توضع موضع واحد ولا توقع موقعه. وقد أجازه المبرد. وجاء في هذا الحديث في غير وصف ولا نفي وبمعنى واحد ا هـ. قال الفاكهي: هذا من أعجب ما وقع للقاضي مع براعته وحذقه، فإن الذي قاله النحاة إنما هو في "أحد" التي للعموم نحو ما في الدار من أحد وما جاءني من أحد، وأما أحد بمعنى واحد فلا خلاف في استعمالها في الإثبات نحو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ونحو {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} ونحو "أحدكما كاذب". قوله: "فهل منكما من تائب" ؟ يحتمل أن يكون إرشادا لا أنه لم يحصل منهما ولا من أحدهما اعتراف، ولأن الزوج لو أكذب نفسه كانت توبة منه. قوله: "سفيان قال عمرو" هو ابن دينار. وفي رواية الحميدي "عن سفيان أنبأنا عمرو" فذكره. وقد بينت ما فيه في الذي قبله. قوله: "قال سفيان حفظته من عمرو" هذا كلام علي بن عبد الله يريد بيان سماع سفيان له من عمرو. قوله: "قال أيوب" هو موصول بالسند المبدأ به وليس بتعليق، وحاصله أن الحديث كان عند سفيان عن عمرو بن دينار وعن أيوب جميعا عن ابن عمر، وقد وقع في رواية الحميدي عن سفيان "قال وحدثنا أيوب في مجلس عمرو بن دينار فحدثه عمرو بحديثه هذا فقال له أيوب: أنت أحسن حديثا مني" وقد بينت في الذي قبله سبب ذلك، وهو أن فيه عند عمرو ما ليس عند أيوب. قوله: "فقال بإصبعيه" هو من إطلاق القول على الفعل، وقوله: "وفرق سفيان بين السبابة والوسطى" جملة معترضة أراد بها بيان الكيفية، والذي يظهر أنه لا يجزم بذلك إلا عن توقيف، وقوله فرق النبي صلى الله عليه وسلم إلخ هو جواب السؤال. قوله: "وقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب" قال عياض ظاهره أنه قال هذا الكلام بعد فراغهما من اللعان، فيؤخذ منه عرض التوبة على المذنب ولو بطريق الإجمال، وأنه يلزم من كذبه التوبة من ذلك. وقال الداودي: قال ذلك قبل اللعان تحذيرا لهما منه، والأول أظهر وأولى بسياق الكلام. قلت: والذي قاله الداودي أولى من جهة أخرى وهي مشروعية الموعظة قبل الوقوع في المعصية، بل هو أحرى مما بعد الوقوع، وأما سياق الكلام فمحتمل في رواية ابن عمر للأمرين، وأما حديث ابن عباس فسياقه ظاهر فيما قال الداودي، ففي رواية جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عند الطبري والحاكم والبيهقي في قصة هلال بن أمية "قال فدعاهما حين نزلت آية الملاعنة فقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ فقال هلال: والله إني لصادق" الحديث، وقد قدمت أن حديث ابن عباس من رواية عكرمة في قصة غير القصة التي في حديث سهل بن سعد وابن عمر، فيصح الأمران معا باعتبار التعدد.

(9/458)


بلا ترجمة، وسقط ذلك للباقين، والأول أنسب، وفيه حديث ابن عمر من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع من وجهين، ولفظ الأول "فرق بين رجل وامرأة قذفها فأحلفهما" ولفظ الثاني "لاعن بين رجل وامرأة فأحلفهما" ويؤخذ منه أن إطلاق يحيى بن معين وغيره تخطئة الرواية بلفظ: "فرق بين المتلاعنين" إنما المراد به في حديث سهل بن سعد بخصوصه، فقد أخرجه أبو داود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عنه بهذا اللفظ وقال بعده "لم يتابع ابن عيينة على ذلك أحد" ثم أخرج من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر "فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان" قال ابن عبد البر: لعل ابن عيينة دخل عليه حديث في حديث. وذكر ابن أبي خيثمة أن يحيى بن معين سئل عن الحديث فقال: إنه غلط. قال ابن عبد البر: إن أراد من حديث سهل فسهل، وإلا فهو مردود. قلت: تقدم أيضا في حديث سهل من طريق ابن جريج "فكانت سنة في المتلاعنين لا يجتمعان أبدا" ولكن ظاهر سياقه أنه من كلام الزهري فيكون مرسلا، وقد بينت من وصله وأرسله في "باب اللعان ومن طلق"، وعلى تقدير ذلك فقد ثبت هذا اللفظ من هذا الوجه فتمسك به من قال إن الفرقة بين المتلاعنين لا تقع بنفس اللعان حتى يوقعها الحاكم، ورواية ابن جريج المذكورة تؤيد أن الفرقة تقع بنفس اللعان، وعلى تقدير إرسالها فقد جاء عن ابن عمر بلفظه عند الدار قطني، ويتأيد بذلك قول من حمل التفريق في حديث الباب على أنه بيان حكم لا إيقاع فرقة، واحتجوا أيضا بقوله في الرواية الأخرى "لا سبيل لك عليها" وتعقب بأن ذلك وقع جوابا لسؤال الرجل عن ماله الذي أخذته منه، وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ وهو نكرة في سياق النفي فيشمل المال والبدن، ويقتضي نفي تسليطه عليها بوجه من الوجوه. ووقع في آخر حديث ابن عباس عند أبي داود "وقضى أن ليس عليه نفقة ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها" وهو ظاهر في أن الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان، ويستفاد منه أن قوله في حديث سهل "فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها" أن الرجل إنما طلقها قبل أن يعلم أن الفرقة تقع بنفس اللعان فبادر إلى تطليقها لشدة نفرته منها، واستدل بقوله: "لا يجتمعان أبدا" على أن فرقة اللعان على التأبيد "وأن الملاعن لو أكذب نفسه لم يحل له أن يتزوجها بعد. وقال بعضهم: يجوز له أن يتزوجها، وإنما يقع باللعان طلقة واحدة بائنة، هذا قول حماد وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وصح عن سعيد بن المسيب، قالوا: ويكون الملاعن إذا أكذب نفسه خاطبا من الخطاب، وعن الشعبي والضحاك: إذا أكذب نفسه ردت إليه امرأته. قال ابن عبد البر: هذا عندي قول ثالث. قلت: ويحتمل أن يكون معنى قوله: "ردت إليه" أي بعد العقد الجديد فيوافق الذي قبله، قال ابن السمعاني: لم أقف على دليل لتأبيد الفرقة من حيث النظر، وإنما المتبع في ذلك النص. وقال ابن عبد البر أبدى بعض أصحابنا له فائدة وهو أن لا يجتمع ملعون مع غير ملعون، لأن أحدهما ملعون في الجملة بخلاف ما إذا تزوجت المرأة غير الملاعن فإنه لا يتحقق، وتعقب بأنه لو كان كذلك لامتنع عليهما معا التزويج لأنه يتحقق أن أحدهما ملعون، ويمكن أن يجاب بأن في هذه الصورة افترقا في الجملة. قال السمعاني: وقد أورد بعض الحنفية أن قوله: "المتلاعنان" يقتضي أن فرقة التأبيد يشترط لها أن يقع التلاعن من الزوجين، والشافعية يكتفون في التأبيد بلعان الزوج فقط كما تقدم، وأجاب بأنه لما كان لعانه بسبب لعانها وصريح لفظ اللعن يوجد في جانبه دونها سمي الموجود منه ملاعنة، ولأن لعانه سبب في إثبات الزنا عليها فيستلزم انتفاء نسب الولدية فينتفي الفراش فإذا انتفى الفراش انقطع النكاح، فإن قيل إذا أكذب الملاعن نفسه يلزم ارتفاع الملاعنة حكما وإذا

(9/459)


ارتفعت صارت المرأة محل استمتاع، قلنا: اللعان عندكم شهادة، والشاهد إذا رجع بعد الحكم لم يرتفع الحكم، وأما عندنا فهو يمين واليمين إذا صارت حجة وتعلق بها الحكم لا ترتفع، فإذا أكذب نفسه فقد زعم أنه لم يوجد منه ما يسقط الحد عنه فيجب عليه الحد ولا يرتفع موجب اللعان.

(9/460)


35- باب يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْمُلاَعِنَةِ
5315- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ"
قوله: "باب يلحق الولد بالملاعنة" أي إذا انتفى الزوج منه قبل الوضع أو بعده. قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته فانتفى من ولدها" قال الطيبي: الفاء سببية أي الملاعنة سبب الانتفاء، فإن أراد أن الملاعنة سبب ثبوت الانتفاء فجيد، وإن أراد أن الملاعنة سبب وجود الانتفاء فليس كذلك، فإنه إن لم يتعرض لنفي الولد في الملاعنة لم ينتف، والحديث في الموطأ بلفظ: "وانتقى" بالواو لا بالفاء. وذكر ابن عبد البر أن بعض الرواة عن مالك ذكره بلفظ: "وانتقل" يعني بقاف بدل الفاء ولام آخره وكأنه تصحيف، وإن كان محفوظا فمعناه قريب من الأول، وقد تقدم الحديث في تفسير النور من وجه آخر عن نافع بلفظ: "إن رجلا رمى امرأته وانتفى من ولدها، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم فتلاعنا" فوضح أن الانتفاء سبب الملاعنة لا العكس، واستدل بهذا الحديث على مشروعية اللعان لنفي الولد، وعن أحمد ينتفي الولد بمجرد اللعان ولو لم يتعرض الرجل لذكره في اللعان، وفيه نظر لأنه لو استلحقه لحقه، وإنما يؤثر لعان الرجل دفع حد القذف عنه وثبوت زنا المرأة ثم يرتفع عنها الحد بالتعانها. وقال الشافعي: إن نفي الولد في الملاعنة انتفى وإن لم يتعرض له فله أن يعيد اللعان لانتفائه ولا إعادة على المرأة، وإن أمكنه الرفع إلى الحاكم فأخر بغير عذر حتى ولدت لم يكن له أن ينفيه كما في الشفعة. واستدل به على أنه لا يشترط في نفي الحمل تصريح الرجل بأنها ولدت من زنا، ولا أنه استبرأها بحيضة، وعن المالكية يشترط ذلك، واحتج بعض من خالفهم بأنه نفى الحمل عنه من غير أن يتعرض لذلك بخلاف اللعان الناشئ عن قذفها، واحتج الشافعي بأن الحامل قد تحيض فلا معنى لاشتراط الاستبراء، قال ابن العربي: ليس عن هذا جواب مقنع. قوله: "ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة" قال الدار قطني: تفرد مالك بهذه الزيادة، قال ابن عبد البر: ذكروا أن مالكا تفرد بهذه اللفظة في حديث ابن عمر، وقد جاءت من أوجه أخرى في حديث سهل بن سعد كما تقدم من رواية يونس عن الزهري عند أبي داود بلفظ: "ثم خرجت حاملا فكان الولد إلى أمه" ومن رواية الأوزاعي عن الزهري "وكان الولد يدعى إلى أمه" ومعنى قوله ألحق الولد بأمه أي صيره لها وحدها ونفاه عن الزوج فلا توارث بينهما، وأما أمه فترث منه ما فرض الله لها كما وقع صريحا في حديث سهل بن سعد كما تقدم في شرح حديثه في آخره، وكان ابنها يدعى لأمه، ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله لها. وقيل معنى إلحاقه بأمه أنه صيرها له أبا وأما فترث جميع ماله إذا لم يكن له وارث آخر من ولد ونحوه، وهو قول ابن مسعود وواثلة وطائفة ورواية عن أحمد وروى أيضا عن ابن القاسم، وعنه معناه أن عصبة أمه تصير عصبة له وهو قول علي وابن عمر والمشهور عن أحمد، وقيل ترثه أمه وإخوته منها بالفرض والرد وهو قول أبي عبيد ومحمد بن الحسن ورواية عن أحمد،

(9/460)


قال: فإن لم يرثه ذو فرض بحال فعصبته عصبة أمه، واستدل به على أن الولد المنفي باللعان لو كان بنتا حل للملاعن نكاحها، وهو وجه شاذ لبعض الشافعية، والأصح كقول الجمهور أنها تحرم لأنها ربيبته في الجملة

(9/461)


36- باب قَوْلِ الإِمَامِ اللَّهُمَّ بَيِّنْ
5316- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ ذُكِرَ الْمُتَلاَعِنَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلًا ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَالَ عَاصِمٌ مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا الأَمْرِ إِلاَّ لِقَوْلِي فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ وَكَانَ الَّذِي وَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ آدَمَ خَدْلًا كَثِيرَ اللَّحْمِ جَعْدًا قَطَطًا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَيِّنْ فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهَا فَلاَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ هِيَ الَّتِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ السُّوءَ فِي الإِسْلاَمِ"
قوله: "باب قول الإمام اللهم بين" قال ابن العربي: ليس معنى هذا الدعاء طلب ثبوت صدق أحدهما فقط بل معناه أن تلد ليظهر الشبه، ولا يمتنع دلالتها بموت الولد مثلا فلا يظهر البيان، والحكمة فيه ردع من شاهد ذلك عن التلبس بمثل ما وقع لما يترتب على ذلك من القبح ولو اندرأ الحد. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس ويحيى بن سعيد هو الأنصاري. قوله: "أخبرني عبد الرحمن بن القاسم" ثبتت هذه الرواية وكذا رواية الليث السابقة قبل أربعة أبواب أن رواية ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن القاسم التي أخرجها الشافعي وغيره وقعت فيها تسوية، ويحيى وإن كان سمع من القاسم لكنه ما سمع هذا الحديث إلا من ولده عبد الرحمن عنه. قوله: "فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما" ظاهره أن الملاعنة تأخرت إلى وضع المرأة لكن قد أوضحت أن رواية ابن عباس هذه هي في القصة التي في حديث سهل بن سعد، وتقدم قبل من حديث سهل أن اللعان وقع بينهما قبل أن تضع، فعلى هذا تكون الفاء في قوله: "فلاعن" معقبة بقوله: "فأخبره بالذي وجد عليه امرأته" وأما قوله: "وكان ذلك الرجل مصفرا إلخ" فهو كلام اعترض بين الجملتين، ويحتمل - على بعد - أن تكون الملاعنة وقعت مرة بسبب القذف وأخرى بسبب الانتفاء والله أعلم. قوله: "فقال رجل لابن عباس" هذا السائل هو عبد الله بن شداد بن الهاد، وهو ابن خالة ابن عباس، سماه أبو الزناد عن القاسم بن محمد في هذا الحديث كما سيأتي في كتاب الحدود. قوله: "كانت تظهر في الإسلام السوء" أي كانت تعلن بالفاحشة، ولكن لم يثبت عليها ذلك ببينة ولا اعت راف. قال الداودي: فيه جواز عيب من يسلك مسالك السوء، وتعقب بأن ابن عباس لم يسمها. فإن أراد إظهار العيب على الإبهام فمحتمل، وقد مضى في التفسير في رواية عكرمة عن ابن عباس "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" أي لولا ما سبق من حكم الله، أي أن اللعان يدفع الحد عن

(9/461)


المرأة لأقمت عليها الحد من أجل الشبه الظاهر بالذي رميت به، ويستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان يحكم بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه وحي خاص فإذا أنزل الوحي بالحكم في تلك المسألة قطع النظر وعمل بما نزل وأجرى الأمر على الظاهر ولو قامت قرينة تقتضي خلاف الظاهر، وفي أحاديث اللعان من الفوائد غير ما تقدم أن المفتي إذا سئل عن واقعة ولم يعلم حكمها ورجا أن يجد فيها نصا لا يبادر إلى الاجتهاد فيها. وفيه الرحلة في المسألة النازلة، لأن سعيد بن جبير رحل من العراق إلى مكة من أجل مسألة الملاعنة. وفيه إتيان العالم في منزله ولو كان في قائلته إذا عرف الآتي أنه لا يشق عليه. وفيه تعظيم العالم ومخاطبته بكنيته. وفيه التسبيح عند التعجب، وإشعار بسعة علم سعيد بن جبير لأن ابن عمر عجب من خفاء مثل هذا الحكم عليه، ويحتمل أن يكون تعجبه لعلمه بأن الحكم المذكور كان مشهورا من قبل فتعجب كيف خفي على بعض الناس. وفيه بيان أوليات الأشياء والعناية بمعرفتها لقول ابن عمر "أول من سأل عن ذلك فلان" وقوله أنس "أول لعان كان" وفيه أن البلاء موكل بالمنطق، وأنه إن لم يقع بالناطق وقع بمن له به وصلة، وأن الحاكم يردع الخصم عن التمادي على الباطل بالموعظة والتذكير والتحذير ويكرر ذلك ليكون أبلغ. وفيه ارتكاب أخف المفسدتين بترك أثقلهما، لأن مفسدة الصبر على خلاف ما توجبه الغيرة مع قبحه وشدته أسهل من الإقدام على القتل الذي يؤدي إلى الاقتصاص من القاتل، وقد نهج له الشارع سبيلا إلى الراحة منها إما بالطلاق وإما باللعان. وفيه أن الاستفهام بأرأيت كان قديما، وأن خبر الواحد يعمل به إذا كان ثقة، وأنه يسن للحاكم وعظ المتلاعنين عند إرادة التلاعن، ويتأكد عند الخامسة، ونقل ابن دقيق العيد عن الفقهاء أنهم خصوه بالمرأة عند إرادة تلفظها بالغضب، واستشكله بما في حديث ابن عمر، لكن قد صرح جماعة من الشافعية وغيرهم باستحباب وعظهما معا. وفيه ذكر الدليل مع بيان الحكم. وفيه كراهة المسائل التي يترتب عليها هتك المسلم أو التوصل إلى أذيته بأي سبب كان، وفي كلام الشافعي إشارة إلى أن كراهة ذلك كانت خاصة بزمنه صلى الله عليه وسلم من أجل نزول الوحي لئلا تقع المسألة عن شيء مباح فيقع التحريم بسبب المسألة، وقد ثبت في الصحيح "أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" وقد استمر جماعة من السلف على كراهة السؤال عما لم يقع، لكن عمل الأكثر على خلافه فلا يحصى ما فرعه الفقهاء من المسائل قبل وقوعها. وفيه أن الصحابة كانوا يسألون عن الحكم الذي لم ينزل فيه وحي. وفيه أن للعالم إذا كره السؤال أن يعيبه ويهجنه، وأن من لقي شيئا من المكروه بسبب غيره يعاتبه عليه، وأن المحتاج إلى معرفة الحكم لا يرده كراهة العالم لما سأل عنه ولا غضبه عليه ولا جفاؤه له بل يعاود ملاطفته إلى أن يقضي حاجته، وأن السؤال عما يلزم من أمور الدين مشروع سرا وجهرا، وأن لا عيب في ذلك على السائل ولو كان مما يستقبح. وفيه التحريض على التوبة، والعمل بالستر، وانحصار الحق في أحد الجانبين عند تعذر الواسطة لقوله: "إن أحدكما كاذب" وأن الخصمين المتكاذبين لا يعاقب واحد منهما وإن أحاط العلم بكذب أحدهما لا بعينه. وفيه أن اللعان إذا وقع سقط حد القذف عن الملاعن للمرأة وللذي رميت به، لأنه صرح في بعض طرقه بتسمية المقذوف، ومع ذلك لم ينقل أن القاذف حد، قال الداودي: لم يقل به مالك لأنه لم يبلغه الحديث ولو بلغه لقال به وأجاب بعض من قال يحد من المالكية والحنفية بأن المقذوف لم يطلب وهو حقه فلذلك لم ينقل أن القاذف حد لأن الحد سقط من أصله باللعان. وذكر عياض أن بعض أصحابهم اعتذر عن ذلك بأن شريكا كان يهوديا، وقد بينت ما فيه في "باب يبدأ الرجل بالتلاعن". وفيه أنه ليس على الإمام أن يعلم المقذوف بما

(9/462)


وقع من قاذفه. وفيه أن الحامل تلاعن قبل الوضع لقوله في الحديث: "انظروا فإن جاءت به إلخ" كما تقدم في حديث سهل وفي حديث ابن عباس. وعند مسلم من حديث ابن مسعود "فجاء يعني الرجل هو وامرأته فتلاعنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعلها أن تجيء به أسود جعدا، فجاءت به أسود جعدا" وبه قال الجمهور خلافا لمن أبى ذلك من أهل الرأي معتلا بأن الحمل لا يعلم لأنه قد يكون نفخة، وحجة الجمهور أن اللعان شرع لدفع حد القذف عن الرجل ودفع حد الرجم عن المرأة، فلا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا، ولذلك يشرع اللعان مع الآيسة. وقد اختلف في الصغيرة: فالجمهور على أن الرجل إذا قذفها فله أن يلتعن لدفع حد القذف عنه دونها. واستدل به على أن لا كفارة في اليمين الغموس لأنها لو وجبت لبينت في هذه القصة، وتعقب بأنه لم يتعين الحانث، وأجيب بأنه لو كان واجبا لبينه مجملا بأن يقول مثلا فليكفر الحانث منكما عن يمينه كما أرشد أحدهما إلى التوبة. وفي قوله عليه السلام "البينة وإلا حد في ظهرك" دلالة على أن القاذف لو عجز عن البينة فطلب تحليف المقذوف لا يجاب، لأن الحصر المذكور لم يتغير منه إلا زيادة مشروعية اللعان. وفيه جواز ذكر الأوصاف المذمومة عند الضرورة الداعية إلى ذلك ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة، واستدل به على أن اللعان لا يشرع إلا لمن ليست له بينة، وفيه نظر لأنه لو استطاع إقامة البينة على زناها ساغ له أن يلاعنها لنفي الولد لأنه لا ينحصر في الزنا، وبه قال مالك والشافعي ومن تبعهما. وفيه أن الحكم يتعلق بالظاهر وأمر السرائر موكول إلى الله تعالى، قال ابن التين وبه احتج الشافعي على قبول توبة الزنديق، وفيه نظر لأن الحكم يتعلق بالظاهر فيما لا يتعلق فيه حكم للباطن، والزنديق قد علم باطنه بما تقدم فلا يقبل منه ظاهر ما يبديه بعد ذلك كذا قال، وحجة الشافعي ظاهرة لأنه صلى الله عليه وسلم قد تحقق أن أحدهما كاذب وكان قادرا على الاطلاع على عين الكاذب لكن أخبر أن الحكم بظاهر الشرع يقتضي أنه لا ينقب عن البواطن، وقد لاحت القرائن بتعيين الكاذب في المتلاعنين ومع ذلك فأجراهما على حكم الظاهر ولم يعاقب المرأة. ويستفاد منه أن الحاكم لا يكتفي بالمظنة والإشارة في الحدود إذا خالفت الحكم الظاهر كيمين المدعى عليه إذا أنكر ولا بينة، واستدل به الشافعي على إبطال الاستحسان لقوله: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن". وفيه أن الحاكم إذا بذل وسعه واستوفى الشرائط لا ينقض حكمه إلا إن ظهر عليه إخلال شرط أو تفريط في سبب. وفيه أن اللعان يشرع في كل امرأة دخل بها أو لم يدخل، ونقل فيه ابن المنذر الإجماع، وفي صداق غير المدخول بها خلاف للحنابلة تقدمت الإشارة إليه في بابه. فلو نكح فاسدا أو طلق بائنا فولدت فأراد نفي الولد فله الملاعنة. وقال أبو حنيفة: يلحقه الولد ولا نفي ولا لعان لأنها أجنبية. وكذا لو قذفها ثم أبانها بثلاث فله اللعان. وقال أبو حنيفة: لا، وقد أخرج ابن أبي شيبة عن هشيم عن مغيرة قال الشعبي إذا طلقها ثلاثا فوضعت فانتفى منه فله أن يلاعن، فقال له الحارث: إن الله يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} أفتراها له زوجة؟ فقال الشعبي: إني لأستحي من الله إذا رأيت الحق أن لا أرجع إليه، فلو التعن ثلاث مرات فقط فالتعنت المرأة مثله ففرق الحاكم بينهما لم تقع الفرقة عند الجمهور لأن ظاهر القرآن أن الحد وجب عليهما وأنه لا يندفع إلا بما ذكر فيتعين الإتيان بجميعه. وقال أبو حنيفة: أخطأ السنة وتحصل الفرقة لأنه أتى بالأكثر فتعلق به الحكم، واستدل به على أن الالتعان ينتفي به الحمل خلافا لأبي حنيفة ورواية عن أحمد لقوله: "انظروا فإن جاءت به" إلخ، فإن الحديث ظاهر في أنها كانت حاملا وقد ألحق الولد مع ذلك بأمه. وفيه جواز الحلف على ما يغلب على الظن ويكون المستند

(9/463)


التمسك بالأصل أو قوة الرجاء من الله عند تحقق الصدق لقول من سأله هلال "والله ليجلدنك" ولقول هلال "والله لا يضربني وقد علم أني رأيت حتى استفتيت". وفيه أن اليمين التي يعتد بها في الحكم ما يقع بعد إذن الحاكم لأن هلالا قال: "والله إني لصادق" ثم لم يحتسب بها من كلمات اللعان الخمس. وتمسك به من قال بإلغاء حكم القافة، وتعقب بأن إلغاء حكم الشبه هنا إنما وقع حيث عارضه حكم الظاهر بالشرع، وإنما يعتبر حكم القافة حيث لا يوجد ظاهر يتمسك به، ويقع الاشتباه فيرجع حينئذ إلى القافة، والله أعلم

(9/464)


باب إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد المدة زوجا غيره فلم يمسها
...
37- باب إِذَا طَلَّقَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا
5317- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لاَ يَأْتِيهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلاَّ مِثْلُ هُدْبَةٍ فَقَالَ لاَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"
قوله: "باب إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد العدة زوجا غيره فلم يمسها" أي هل تحل للأول إن طلقها الثاني بغير مسيس؟ "تنبيه": لم يفرد كتاب العدة عن كتاب اللعان فيما وقفت عليه من النسخ. ووقع في شرح ابن بطال قبل الباب الذي يلي هذا وهو "باب واللائي يئسن من المحيض" : "كتاب العدة" ولبعضهم "أبواب العدة" والأولى إثبات ذلك هنا، فإن هذا الباب لا تعلق له باللعان لأن الملاعنة لا تعود للذي لاعن منها ولو تزوجت غيره سواء جامعها أم لم يجامع. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان، وهشام هو ابن عروة. وقوله: "حدثني عثمان بن أبي شيبة إلخ" ساقه على لفظ عبدة، وإنما احتاج إلى رواية يحيى لتصريح هشام في روايته بقوله: "حدثني أبي". قوله: "إن رفاعة القرظي" هو رفاعة القرظي بن سموأل بفتح المهملة والميم وسكون الواو بعدها همزة ثم لام، والقرظي بالقاف والظاء المعجمة وقد تقدم ضبط قريظة والنضير في أوائل المغازي. قوله: "تزوج امرأة" في رواية عمرو بن علي عند الإسماعيلي: "امرأة من بني قريظة" وسماها مالك من حديث عبد الرحمن بن الزبير نفسه كما أخرجه ابن وهب والطبراني والدار قطني في "الغرائب" موصولا وهو في الموطأ مرسل تميمة بنت وهب، وهي بمثناة واختلف هل هي بفتحها أو بالتصغير والثاني أرجح ووقع مجزوما به في النكاح لسعيد بن أبي عروبة من روايته عن قتادة، وقيل اسمها سهيمة بسين مهملة مصغر أخرجه أبو نعيم وكأنه تصحيف، وعند ابن منده أميمة بألف أخرجها من طريق أبي صالح عن ابن عباس وسمي أباها الحارث، وهي واحدة اختلف في التلفظ باسمها والراجح الأول. قوله: "ثم طلقها فتزوجت آخر" سماه مالك في روايته عبد الرحمن بن الزبير وأبوه بفتح الزاي، واتفقت الروايات كلها عن هشام بن عروة أن الزوج الأول رفاعة والثاني عبد الرحمن، وكذا قال عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة في كتاب النكاح له عن قتادة أن تميمة بنت أبي عبيد القرظية كانت تحت رفاعة فطلقها فخلف عليها عبد الرحمن بن الزبير، وتسميته لأبيها لا تنافي رواية مالك فلعل اسمه وهب وكنيته أبو عبيد إلا ما وقع عند ابن إسحاق في المغازي من رواية سلمة بن الفضل عنه وتفرد به عنه عن هشام عن أبيه قال كانت امرأة من قريظة

(9/464)


يقال لها تميمة تحت عبد الرحمن بن الزبير فطلقها. فتزوجها رفاعة ثم فارقها، فأرادت أن ترجع إلى عبد الرحمن بن الزبير، وهو مع إرساله مقلوب، والمحفوظ ما اتفق عليه الجماعة عن هشام، وقد وقع لامرأة أخرى قريب من قصتها فأخرج النسائي من طريق سليمان بن يسار عن عبيد الله بن العباس أي ابن عبد المطلب "أن الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو من زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء فقال: إنها كاذبة ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال: ليس ذلك لها حتى تذوق عسيلته" ورجاله ثقات لكن اختلف فيه على سليمان بن يسار. ووقع عند شيخنا في شرح الترمذي "عبد الله بن عباس" مكبر وتعقب على ابن عساكر والمزي أنهما لم يذكرا هذا الحديث في "الأطراف" ولا تعقب عليهما فإنهما ذكراه في مسند عبيد الله بالتصغير وهو الصواب، وقد اختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه ولد في عصره فذكر لذلك في الصحابة، واسم زوج الغميصاء هذه عمرو بن حزم أخرجه الطبراني وأبو مسلم الكجي وأبو نعيم في الصحابة من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن عمرو بن حزم طلق الغميصاء فتزوجها رجل قبل أن يمسها فأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول الحديث ولم أعرف اسم زوجها الثاني، ووقعت لثالثة قصة أخرى مع رفاعة رجل آخر غير الأول والزوج الثاني عبد الرحمن بن الزبير أيضا أخرجه مقاتل بن حيان في تفسيره ومن طريقه ابن شاهين في "الصحابة" ثم أبو موسى قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} قال: "نزلت في عائشة بنت عبد الرحمن بن عقيل النضرية كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها فطلقها طلاقا بائنا فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ثم طلقها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي زوجي الأول؟ قال: لا" الحديث وهذا الحديث إن كان محفوظا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى وأن كلا من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص، وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموأل هو رفاعة بن وهب فقال اختلف في امرأة رفاعة على خمسة أقوال، فذكر الاختلاف في النطق بتميمة وضم إليها عائشة والتحقيق ما تقدم. ووقعت لأبي ركانة قصة أخرى سأذكرها آخر هذا الباب. قوله: "فأتت النبي صلى الله عليه وسلم" في الكلام حذف تقديره يظهر من الروايات الأخرى، فعند المصنف من طريق أبي معاوية عن هشام "فتزوجت زوجا غيره فلم يصل منها إلى شيء يريده" وعند أبي عوانة من طريق الدراوردي عن هشام "فنكحها عبد الرحمن بن الزبير فاعترض عنها" وكذا في رواية مالك بن عبد الرحمن ابن الزبير نفسه وزاد: "فلم يستطع أن يمسها" وقوله فاعترض بضم المثناة وآخره ضاد معجمة أي حصل له عارض حال بينه وبين إتيانها إما من الجن وإما من المرض. قوله: "فذكرت له أنه لا يأتيها" وقع في رواية أبي معاوية عن هشام "فلم يقربني إلا هنة واحدة ولم يصل مني إلى شيء" والهنة بفتح الهاء وتخفيف النون المرة الواحدة الحقيرة. قوله: "وإنه ليس معه إلا مثل هدبة" بضم الهاء وسكون المهملة بعدها موحدة مفتوحة هو طرف الثوب الذي لم ينسج مأخوذ من هدب العين وهو شعر الجفن، وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار، واستدل به على أن وطء الزوج الثاني لا يكون محللا ارتجاع الزوج الأول للمرأة إلا إن كان حال وطئه منتشرا فلو كان ذكره أشل أو كان هو عنينا أو طفلا لم يكف على أصح قولي العلماء، وهو الأصح عند الشافعية أيضا. قوله: "فقال لا" هكذا وقع من هذا الوجه مختصرا، ووقع في رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة كما

(9/465)


تقدم قريبا في "باب من قال لامرأته أنت علي حرام" : "ولم يكن معه إلا مثل الهدبة فلم يقربني إلا هنة واحدة ولم يصل مني إلى شيء أفأحل لزوجي الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحلين لزوجك الأول" الحديث. وفي رواية الزهري عن عروة كما تقدم أيضا في أوائل الطلاق "وإنما معه مثل الهدبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا" الحديث. وسيأتي في اللباس من طريق أيوب عن عكرمة "أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير، قالت عائشة: فجاءت وعليها خمار أخضر فشكت إليها - أي إلى عائشة - من زوجها وأرتها خضرة بجلدها، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والنساء يبصرن بعضهن بعضا قالت عائشة "ما رأيت ما يلقى المؤمنات، لجلدها أشد خضرة من ثوبها. وسمع زوجها فجاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله مالي إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عني من هذه - وأخذت هدبة من ثوبها - فقال: كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشزة تريد رفاعة. قال: فإن كان ذلك لم تحل له" الحديث. وكأن هذه المراجعة بينهما هي التي حملت خالد بن سعيد بن العاص على قوله الذي وقع في رواية الزهري عن عروة فإن في آخر الحديث كما سيأتي في كتاب اللباس من طريق شعيب عنه "قال فسمع خالد بن سعيد قولها وهو بالباب فقال: يا أبا بكر ألا تنهي هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم". وفيه ما كان الصحابة عليه من سلوك الأدب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وإنكارهم على من خالف ذلك بفعله أو قوله لقول خالد بن سعيد لأبي بكر الصديق وهو جالس "ألا تنهي هذه" ؟ وإنما قال خالد ذلك لأنه كان خارج الحجرة، فاحتمل عنده أن يكون هناك ما يمنعه من مباشرة نهيها بنفسه، فأمر به أبا بكر لكونه كان جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم مشاهدا لصورة الحال، ولذلك لما رأى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم عند مقالتها لم يزجرها، وتبسمه صلى الله عليه وسلم كان تعجبا منها، إما لتصريحها بما يستحي النساء من التصريح به غالبا، وإما لضعف عقل النساء لكون الحامل لها على ذلك شدة بغضها في الزوج الثاني ومحبتها في الرجوع إلى الزوج الأول، ويستفاد منه جواز وقوع ذلك. "تنبيه": وقع في جميع الطرق من قول خالد بن سعيد لأبي بكر "ألا تنهي هذه عما تجهر به" ؟ أي ترفع به صوتها، وذكره الداودي بلفظ: "تهجر" بتقديم التاء على الجيم، والهجر بضم الهاء الفحش من القول، والمعنى هنا عليه، لكن الثابت في الروايات ما ذكرته، وذكر عياض أنه وقع كذلك في غير الصحيح. وتقدم البحث في الشهادات مع من استدل بكلام خالد هذا لجواز الشهادة على الصوت. قوله: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" كذا في الموضعين بالتصغير، واختلف في توجيهه فقيل: هي تصغير العسل لأن العسل مؤنث، جزم به القزاز ثم قال وأحسب التذكير لغة. وقال الأزهري يذكر ويؤنث، وقيل لأن العرب إذا حفرت الشيء أدخلت فيه هاء التأنيث، ومن ذلك قولهم دريهمات فجمعوا الدرهم جمع المؤنث عند إرادة التحقير. وقالوا أيضا في تصغير هند هنيدة. وقيل التأنيث باعتبار الوطأة إشارة إلى أنها تكفي في المقصود من تحليلها للزوج الأول، وقيل المراد قطعة من العسل والتصغير للتقليل إشارة إلى أن القدر القليل كاف في تحصيل الحل، قال الأزهري: الصواب أن معنى العسيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، وأنث تشبيها بقطعة من عسل. وقال الداودي: صغرت لشدة شبهها بالعسل وقيل: معنى العسيلة النطفة، وهذا يوافق قول الحسن البصري. وقال جمهور العلماء: ذوق العسيلة كناية عن المجامعة وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة، وزاد الحسن البصري: حصول الإنزال. وهذا الشرط انفرد به

(9/466)


عن الجماعة قاله ابن المنذر وآخرون. وقال ابن بطال: شذ الحسن في هذا، وخالفه سائر الفقهاء وقالوا: يكفي من ذلك ما يوجب الحد ويحصن الشخص ويوجب كمال الصداق ويفسد الحج والصوم. قال أبو عبيد: العسيلة لذة الجماع والعرب تسمي كل شيء تستلذه عسلا، وهو في التشديد يقابل قول سعيد بن المسيب في الرخصة، ويرد قول الحسن أن الإنزال لو كان شرطا لكان كافيا، وليس كذلك لأن كلا منهما إذا كان بعيد العهد بالجماع مثلا أنزل قبل تمام الإيلاج، وإذا أنزل كل منهما قبل تمام الإيلاج لم يذق عسيلة صاحبه، لا إن فسرت العسيلة بالإمناء ولا بلذة الجماع قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول، إلا سعيد بن المسيب. ثم ساق بسنده الصحيح عنه قال: يقول الناس لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوجها تزويجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها للأول فلا بأس أن يتزوجها الأول. وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور، وفيه تعقب على من استبعد صحته عن سعيد، قال ابن المنذر: وهذا القول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن. قلت: سياق كلامه يشعر بذلك. وفيه دلالة على ضعف الخبر الوارد في ذلك. وهو ما أخرجه النسائي من رواية شعبة عن علقمة بن مرثد عن سالم بن رزين عن سالم بن عبد الله عن سعيد بن المسيب "عن ابن عمر رفعه في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ثم يتزوجها آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها فترجع إلى الأول، فقال: لا، حتى تذوق العسيلة، وقد أخرجه النسائي أيضا من رواية سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد فقال عن رزين بن سليمان الأحمري عن ابن عمر نحوه، قال النسائي: هذا أولى بالصواب، وإنما قال ذلك لأن الثوري أتقن وأحفظ من شعبة، وروايته أولى بالصواب من وجهين: أحدهما أن شيخ علقمة شيخهما هو رزين بن سليمان كما قال الثوري لا سالم بن رزين كما قال شعبة، فقد رواه جماعة عن علقمة كذلك، منهم غيلان بن جامع أحد الثقات. ثانيهما أن الحديث لو كان عند سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعا ما نسبه إلى مقالة الناس الذين خالفهم، ويؤخذ من كلام ابن المنذر أن نقل أبي جعفر النحاس في "معاني القرآن" وتبعه عبد الوهاب المالكي في "شرح الرسالة" القول بذلك عن سعيد بن جبير وهم، وأعجب منه أن أبا حبان جزم به عن السعيد بن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، ولا يعرف له سند عن سعيد بن جبير في شيء من المصنفات، وكفى قول ابن المنذر حجة في ذلك. وحكى ابن الجوزي عن داود أنه وافق سعيد بن المسيب على ذلك، قال القرطبي: ويستفاد من الحديث على قول الجمهور أن الحكم يتعلق بأقل ما ينطلق عليه الاسم، خلافا لمن قال لا بد من حصول جميعه. وفي قوله: "حتى تذوقي عسيلته إلخ" إشعار بإمكان ذلك، لكن قولها "ليس معه إلا مثل هذه الهدبة" ظاهر في تعذر الجماع المشترط، فأجاب الكرماني بأن مرادها بالهدبة التشبيه بها في الدقة والرقة لا في الرخاوة وعدم الحركة واستبعد ما قال، وسياق الخبر يعطي بأنها شكت منه عدم الانتشار، ولا يمنع من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تذوقي" لأنه علقه على الإمكان وهو جائز الوقوع، فكأنه قال صبري حتى يتأتى منه ذلك، وإن تفارقا فلا بد لها من إرادة الرجوع إلى رفاعة من زوج آخر يحصل لها م نه ذلك. واستدل بإطلاق وجود الذوق منهما لاشتراط على الزوجين به حتى لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم يكف ولو أنزل هو. وبالغ ابن المنذر فنقله عن جميع الفقهاء. وتعقب وقال القرطبي: فيه حجة لأحد القولين في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل. وجزم ابن القاسم بأن وطء المجنون يحلل، وخالفه أشهب، واستدل به على جواز رجوعها لزوجها الأول إذا حصل الجماع من الثاني، لكن

(9/467)


شرط المالكية ونقل عن عثمان وزيد بن ثابت أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزوج الثاني ولا إرادة تحليلها للأول. وقال الأكثر: إن شرط ذلك في العقد فسد وإلا فلا، واتفقوا على أنه إذا كان في نكاح فاسد لم يحلل، وشذ الحكم فقال يكفي، وأن من تزوج أمة ثم بت طلاقها ثم ملكها لم يحل له أن يطأها حتى تتزوج غيره. وقال ابن عباس وبعض أصحابه والحسن البصري: تحل له بملك اليمين، واختلفوا فيما إذا وطئها حائضا أو بعد أن طهرت قبل أن تطهر أو أحدهما صائم أو محرم. وقال ابن حزم: أخذ الحنفية بالشرط الذي في هذا الحديث عن عائشة، وهو زائد على ظاهر القرآن، ولم يأخذوا بحديثها في اشتراط خمس رضعات لأنه زائد على ما في القرآن، فيلزمهم الأخذ به أو ترك حديث الباب، وأجابوا بأن النكاح عندهم حقيقة في الوطء فالحديث موافق لظاهر القرآن، واستدل بقولها "بت طلاقي" على أن البتة ثلاث تطليقات، وهو عجب ممن استدل به فإن البت بمعنى القطع والمراد به قطع العصمة، وهو أعم من أن يكون بالثلاث مجموعة أو بوقوع الثالثة التي هي آخر ثلاث تطليقات، وسيأتي في اللباس صريحا أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات فبطل الاحتجاج به. ونقل ابن العربي عن بعضهم أنه أورد على حديث الباب ما ملخصه أنه يلزم من القول به إما الزيادة بخير الواحد على ما في القرآن فيستلزم نسخ القرآن بالسنة التي لم تتواتر، أو حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين مع ما فيه من الإلباس. والجواب عن الأول أن الشرط إذا كان من مقتضيات اللفظ لم تكن إضافته نسخا ولا زيادة، وعن الثاني أن النكاح في الآية أضيف إليها وهي لا تتولى العقد بمجردها فتعين أن المراد به في حقها الوطء، ومن شرطه اتفاقا أن يكون وطأ مباحا فيحتاج إلى سبق العقد. ويمكن أن يقال: لما كان اللفظ محتملا للمعنيين بينت السنة أنه لا بد من حصولهما، فاستدل به على أن المرأة لا حق لها في الجماع لأن هذه المرأة شكت أن زوجها لا يطؤها وأن ذكره لا ينتشر وأنه ليس معه ما يغني عنها ولم يفسخ النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها بذلك، ومن ثم قال إبراهيم بن إسماعيل بن علية وداود بن علي: لا يفسخ بالعنة ولا يضرب للعنين أجل. وقال ابن المنذر: اختلفوا في المرأة تطالب الرجل بالجماع، فقال الأكثر إن وطئها بعد أن دخل بها مرة واحدة لم يؤجل أجل العنين، وهو قول الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق. وقال أبو ثور: إن ترك جماعها لعلة أجل له سنة، وإن كان لغير علة فلا تأجيل. وقال عياض، اتفق كافة العلماء على أن للمرأة حقا في الجماع، فيثبت الخيار لها إذا تزوجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما، ويضرب للعنين أجل سنة لاحتمال زوال. ما به. وأما استدلال داود ومن يقول بقوله بقصة امرأة رفاعة فلا حجة فيها، لأن في بعض طرقه أن الزوج الثاني كان أيضا طلقها كما وقع عند مسلم صريحا من طريق القاسم عن عائشة قالت: "طلق رجل امرأته ثلاثا فتزوجها رجل آخر فطلقها قبل أن يدخل بها فأراد زوجها الأول أن يتزوجها، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا" الحديث، وأصله عند البخاري وقد تقدم في أوائل الطلاق. ووقع في حديث الزهري عن عروة كما سيأتي في اللباس في آخر الحديث بعد قوله: لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك "قال ففارقته بعد" زاد ابن جريج عن الزهري في هذا الحديث أنها "جاءت بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إنه - يعني زوجها الثاني - مسها فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأول" وصرح مقاتل بن حيان في تفسيره مرسلا أنها "قالت: يا رسول الله إنه كان مسني، فقال كذبت بقولك الأول فلن أصدقك في الآخر، وأنها أتت أبا بكر ثم عمر فمنعاها" وكذا وقعت هذه الزيادة الأخيرة في رواية ابن جريج المذكورة أخرجها عبد الرزاق عنه، ووقع عند مالك في "الموطأ" عن المسور

(9/468)


بن رفاعة عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، زاد خارج الموطأ فيما رواه ابن وهب عنه وتابعه إبراهيم بن طهمان عن مالك عند الدار قطني في "الغرائب" عن أبيه "أن رفاعة طلق امرأته تميمة بنت وهب ثلاثا، فنكحها عبد الرحمن، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها، فأراد رفاعة أن يتزوجها" الحديث. ووقع عند أبي داود من طريق الأسود عن عائشة "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت غيره فدخل بها وطلقها قبل أن يواقعها أتحل للأول؟ قال: لا" الحديث. وأخرج الطبري وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة نحوه، والطبري أيضا والبيهقي من حديث أنس كذلك، وكذا وقع في رواية حماد ابن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "أن عمرو بن حزم طلق الغميصاء فنكحها رجل فطلقها قبل أن يمسها، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا، حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته" وأخرجه الطبراني ورواته ثقات، فإن كان حماد بن سلمة حفظه فهو حديث آخر لعائشة في قصة أخرى غير قصة امرأة رفاعة، وله شاهد من حديث عبيد الله - بالتصغير - ابن عباس عند النسائي في ذكره الغميصاء، لكن سياقه يشبه قصة رفاعة كما تقدم في أول شرح هذا الحديث، وقد قدمت أنه وقع لكل من رفاعة بن سموأل ورفاعة بن وهب أنه طلق امرأته وأن كلا منهما تزوجها عبد الرحمن بن الزبير وأن كلا منهما شكت أنه ليس معه إلا مثل الهدبة، فلعل إحدى المرأتين شكته قبل أن يفارقها والأخرى بعد أن فارقها، ويحتمل أن تكون القصة واحدة ووقع الوهم من بعض الرواة في التسمية أو في النسبة وتكون المرأة شكت مرتين من قبل المفارقة ومن بعدها، والله أعلم. وأما ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس قال: "طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة - لشعرة أخذتها من رأسها - ففرق بيني وبينه، قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعبد يزيد: طلقها وراجع أم ركانة، ففعل" فليس فيه حجة لمسألة العنين، والله أعلم بالصواب.

(9/469)


38- باب {وَاللاَئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ}
قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا يَحِضْنَ أَوْ لاَ يَحِضْنَ وَاللاَئِي قَعَدْنَ عَنْ الْمَحِيضِ وَاللاَئِي لَمْ يَحِضْنَ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ

(9/469)


باب (وألات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)
...
39- بَاب {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
5318- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الأَعْرَجِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهَا سُبَيْعَةُ كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا تُوُفِّيَ عَنْهَا وَهِيَ حُبْلَى فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِيهِ حَتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الأَجَلَيْنِ فَمَكُثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ ثُمَّ جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ انْكِحِي"
5319- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الأَرْقَمِ أَنْ يَسْأَلَ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ

(9/469)


باب قوله تعالى :(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)
...
40- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ فَحَاضَتْ عِنْدَهُ ثَلاَثَ حِيَضٍ بَانَتْ مِنْ الأَوَّلِ وَلاَ تَحْتَسِبُ بِهِ لِمَنْ بَعْدَهُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ تَحْتَسِبُ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَى سُفْيَانَ يَعْنِي قَوْلَ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ مَعْمَرٌ يُقَالُ أَقْرَأَتْ الْمَرْأَةُ إِذَا دَنَا حَيْضُهَا وَأَقْرَأَتْ إِذَا دَنَا طُهْرُهَا وَيُقَالُ مَا قَرَأَتْ بِسَلًى قَطُّ إِذَا لَمْ تَجْمَعْ وَلَدًا فِي بَطْنِهَا.
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} سقط لفظ: "باب" لأبي ذر، والمراد بالمطلقات هنا ذوات الحيض كما دلت عليه آية سورة الطلاق المذكورة قبل، والمراد بالتربص الانتظار وهو خبر بمعنى الأمر، وقرأ الجمهور "قروء" بالهمز وعن نافع بتشديد الواو بغير همز. قوله: "وقال إبراهيم" هو النخعي "فيمن تزوج في العدة فحاضت عنده ثلاث حيض بانت من الأول ولا تحتسب به لمن بعده. وقال الزهري: تحتسب، وهذا أحب إلى سفيان" زاد في نسخة الصغاني "يعني قول الزهري" وصله ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي "عن سفيان وهو الثوري عن مغيرة عن إبراهيم في رجل طلق فحاضت فتزوجها رجل فحاضت، قال: بانت من الأول، ولا تحتسب الذي بعده "وعن سفيان عن معمر عن الزهري "تحتسب" قال ابن عبد البر لا أعلم أحدا ممن قال الأقراء الأطهار يقول هذا غير الزهري قال: ويلزم على قوله أن المعتدة لا تحل حتى تدخل في الحيضة الرابعة، وقد اتفق علماء المدينة من الصحابة فمن بعدهم وكذا الشافعي ومالك وأحمد وأتباعهم على أنها إذا طعنت في الحيضة الثالثة طهرت بشرط أن يقع طلاقها في الطهر، وأما لو وقع في الحيض لم تعتد بتلك الحيضة. وذهب الجمهور إلى أن من اجتمعت عليها عدتان أنها تعتد عدتين، وعن الحنفية ورواية عن مالك يكفي لها عدة واحدة كقول الزهري والله أعلم. قوله: "وقال معمر: يقال أقرأت المرأة إلخ" معمر هو أبو عبيدة بن المثنى، وقد تقدم بيان ذلك عنه في أوائل تفسير سورة النور، وقوله: "بسلي" بكسر الموحدة وفتح المهملة والتنوين بغير همز، السلي هو غشاء الولد. وقال الأخفش: أقرأت المرأة إذا صارت ذات حيض، والقرء انقضاء الحيض ويقال هو الحيض نفسه، ويقال هو من الأضداد. ومراد أبي عبيدة أن القرء يكون بمعنى الطهر وبمعنى الحيض وبمعنى الضم والجمع وهو كذلك، وجزم به ابن بطال وقال: لما احتملت الآية واختلف العلماء في المراد بالأقراء فيها ترجح قول من قال إن الأقراء الأطهار بحديث ابن عمر حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق في الطهر. وقال في حديثه "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" فدل على أن المراد بالأقراء الأطهار والله أعلم.

(9/476)


41- باب قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَقَوْلِ اللَّهِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ- إِلَى قَوْلِهِ- بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}
5321، 5322- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَهُمَا يَذْكُرَانِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ طَلَّقَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ فَانْتَقَلَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِيِنَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ اتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْهَا إِلَى بَيْتِهَا قَالَ مَرْوَانُ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ غَلَبَنِي وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَوَمَا بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ لاَ يَضُرُّكَ أَنْ لاَ تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ فَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ الحَكَمِ إِنْ كَانَ بِكِ شَرٌّ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنْ الشَّرِّ"
[الحديث 5321- أطرافه في: 5323، 5325، 3527]
[الحديث 5322- أطرافه في: 5324، 5326، 5328]
5323، 5324- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ مَا لِفَاطِمَةَ أَلاَ تَتَّقِي اللَّهَ يَعْنِي فِي قَوْلِهَا لاَ سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةَ"
5325، 5326- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ لِعَائِشَةَ أَلَمْ تَرَيْ إِلَى فُلاَنَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ فَخَرَجَتْ فَقَالَتْ بِئْسَ مَا صَنَعَتْ قَالَ أَلَمْ تَسْمَعِي فِي قَوْلِ فَاطِمَةَ قَالَتْ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لَهَا خَيْرٌ فِي ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَزَادَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَابَتْ عَائِشَةُ أَشَدَّ الْعَيْبِ وَقَالَتْ إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِي مَكَانٍ وَحْشٍ فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا فَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "قصة فاطمة بنت قيس" كذا للأكثر، ولبعضهم "باب" وبه جزم ابن بطال والإسماعيلي؛ وفاطمة هي بنت قيس بن خالد من بني محارب بن فهر بن مالك، وهي أخت الضحاك بن قيس الذي ولى العراق ليزيد ابن معاوية وقتل بمرج راهط، وهو من صغار الصحابة، وهي أسن منه وكانت من المهاجرات الأول، وكان لها عقل وجمال وتزوجها أبو عمرو بن حفص - ويقال أبو حفص بن عمرو - بن المغيرة المخزومي وهو ابن عم خالد بن الوليد بن المغيرة فخرج مع علي لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فبعث إليها بتطليقة ثالثة بقيت لها، وأمر ابني عميه الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة أن يدفعا لها تمرا وشعيرا، فاستقلت ذلك وشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: ليس لك

(9/477)


سكنى ولا نفقة، هكذا أخرج مسلم قصتها من طرق متعددة عنها، ولم أرها في البخاري وإنما ترجم لها كما ترى، وأورد أشياء من قصتها بطريق الإشارة إليها، ووهم صاحب "العمدة" فأورد حديثها بطوله في المتفق. واتفقت الروايات عن فاطمة على كثرتها عنها أنها بانت بالطلاق، ووقع في آخر صحيح مسلم في حديث الجساسة عن فاطمة بنت قيس "نكحت ابن المغيرة، وهو من خيار شباب قريش يومئذ، فأصيب في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تأيمت خطبني أبو جهم" الحديث. وهذه الرواية وهم، ولكن أولها بعضهم على أن المراد أصيب بجراحة أو أصيب في ماله أو نحو ذلك حكاه النووي وغيره، والذي يظهر أن المراد بقولها "أصيب" أي مات على ظاهره، وكان في بعث علي إلى اليمن، فيصدق أنه أصيب في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من ذلك أن تكون بينونتها منه بالموت بل بالطلاق السابق على الموت، فقد ذهب جمع جم إلى أنه مات مع علي باليمن وذلك بعد أن أرسل إليها بطلاقها، فإذا جمع بين الروايتين استقام هذا التأويل وارتفع الوهم، ولكن يبعد بذلك قول من قال إنه بقي إلى خلافة عمر. قوله: "وقول الله عز وجل :{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الآية" كذا للأكثر، وللنسفي بعد قوله بيوتهن "إلى قوله :{بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} ، وساق الآيات كلها إلى "يسرا" في رواية كريمة. قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "يحيى بن سعيد بن العاص" أي ابن سعيد بن العاص بن أمية وكان أبوه أمير المدينة لمعاوية؛ ويحيى هو أخو عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق. قوله: "طلق بنت عبد الرحمن بن الحكم" هي بنت أخي مروان الذي كان أمير المدينة أيضا لمعاوية حينئذ وولي الخلافة بعد ذلك، واسمها عمرة فيما قيل، وسيأتي في الخبر الثالث أنه طلقها البتة. قوله: "قال مروان في حديث سليمان أن عبد الرحمن غلبني" وهو موصول بالإسناد المذكور إلى يحيى بن سعيد، وهو الذي فصل بين حديثي شيخيه فساق ما اتفقا عليه ثم بين لفظ سليمان وهو ابن يسار وحده ولفظ القاسم بن محمد وحده، وقول مروان أن عبد الرحمن غلبني أي لم يطعني في ردها إلى بيتها، وقيل مراده غلبني بالحجة لأنه احتج بالشر الذي كان بينهما. قوله: "قالت لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة" أي لأنه لا حجة فيه لجواز انتقال المطلقة من منزلها بغير سبب. قوله: "فقال مروان بن الحكم إن كان بك شر" أي إن كان عندك أن سبب خروج فاطمة ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشر فهذا السبب موجود ولذلك قال: "فحسبك ما بين هذين من الشر"، وهذا مصير من مروان إلى الرجوع عن رد خبر فاطمة فقد كان أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس كما أخرجه النسائي من طريق شعيب عن الزهري "أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان طلق بنت سعيد بن زيد البتة وأمها حزمة بنت قيس، فأمرتها خالتها فاطمة بنت قيس بالانتقال، فسمع بذلك مروان فأنكر، فذكرت أن خالتها أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاها بذلك، فأرسل مروان قبيصة بن ذؤيب إلى فاطمة يسألها عن ذلك فذكرت" الحديث، وأخرجه مسلم من طريق معمر عن الزهري دون ما في أوله وزاد: "فقال مروان لم يسمع هذا الحديث إلا من امرأة فسنأخذ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس" وسيأتي له طريق أخرى في الباب الذي بعده، فكأن مروان أنكر الخروج مطلقا ثم رجع إلى الجواز بشرط وجود عارض يقتضي جواز خروجها من منزل الطلاق كما سيأتي. قوله: "حدثنا محمد بن بشار" كذا في الروايات التي اتصلت لنا من طريق الفربري، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن ابن عبد الكريم عن بندار وهو محمد بن بشار. وقال المزي في "الأطراف" أخرجه البخاري عن محمد غير منسوب وهو محمد بن بشار كذا

(9/478)


نسبه أبو مسعود. قلت ولم أره غير منسوب إلا في رواية النسفي عن البخاري، وكأنه وقع كذلك في "أطراف خلف" ومنها نقل المزي، ولم أنبه على هذا الموضع في المقدمة اعتمادا على ما اتصل لنا من الروايات إلى الفربري. قوله: "عن عائشة أنها قالت: ما لفاطمة، ألا تتقي الله؟ يعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة" وقع في رواية مسلم من هذا الوجه "ما لفاطمة خير أن تذكر هذا" كأنها تشير إلى أن سبب الإذن في انتقال فاطمة ما تقدم في الخبر الذي قبله، ويؤيده ما أخرج النسائي من طريق ميمون بن مهران قال: "قدمت المدينة فقلت لسعيد ابن المسيب: إن فاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها، فقال: إنها كانت لسنة" ولأبي داود من طريق سليمان بن يسار "إنما كان ذلك من سوء الخلق". قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "قال عروة" أي ابن الزبير "لعائشة: ألم ترى إلى فلانة بنت الحكم" نسبها إلى جدها، وهي بنت عبد الرحمن بن الحكم كما في الطريق الأولى. قوله: "فقالت بئس ما صنعت" في رواية الكشميهني: "ما صنع" أي زوجها في تمكينها من ذلك، أو أبوها في موافقتها، ولهذا أرسلت عائشة إلى مروان عمها وهو الأمير أن يردها إلى منزل الطلاق. قوله: "ألم تسمعي قول فاطمة" يحتمل أن يكون فاعل "قال: "هو عروة. قوله: "قالت: أما إنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث" في رواية مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه "تزوج يحيى بن سعيد بن العاص بنت عبد الرحمن بن الحكم فطلقها وأخرجها، فأتيت عائشة فأخبرتها فقالت: ما لفاطمة خير في أن تذكر هذا الحديث:" كأنها تشير إلى ما تقدم وأن الشخص لا ينبغي له أن يذكر شيئا عليه فيه غضاضة. قوله: "وزاد ابن أبي الزناد عن هشام عن أبيه: عابت عائشة أشد العيب وقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش، فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم" وصله أبو داود من طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد بلفظ: "لقد عابت" وزاد: "يعني فاطمة بنت قيس" وقوله: "وحش" بفتح الواو وسكون المهملة بعدها معجمة أي خال لا أنيس به، ولرواية ابن أبي الزناد هذه شاهد من رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة لكن قال: "عن أبيه عن فاطمة بنت قيس قالت: قلت يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا فأخاف أن يقتحم علي، فأمرها فتحولت" وقد أخذ البخاري الترجمة من مجموع ما ورد في قصة فاطمة فرتب الجواز على أحد الأمرين: إما خشية الاقتحام عليها وإما أن يقع منها على أهل مطلقها فحش من القول، ولم ير بين الأمرين في قصة فاطمة معارضة لاحتمال وقوعهما معا في شأنها. وقال ابن المنير: ذكر البخاري في الترجمة علتين وذكر في الباب واحدة فقط، وكأنه أومأ إلى الأخرى إما لورودها على غير شرطه وإما لأن الخوف عليها إذا اقتضى خروجها، فمثله الخوف منها، بل لعله أولى في جواز إخراجها، فلما صح عنده معنى العلة الأخرى ضمنها الترجمة. وتعقب بأن الاقتصار في بعض طرق الحديث على بعضه لا يمنع قبول بعض آخر إذا صح طريقه، فلا مانع أن يكون أصل شكواها ما تقدم من استقلال النفقة، وأنه اتفق أنه بدا منها بسبب ذلك شر لأصهارها واطلع النبي صلى الله عليه وسلم عليه من قبلهم وخشي عليها إن استمرت هناك أن يتركوها بغير أنيس فأمرت بالانتقال. قلت: ولعل البخاري أشار بالثاني إلى ما ذكره في الباب قبله من قول مروان لعائشة "إن كان بك شر" فإنه يومئ إلى أن السبب في ترك أمرها بملازمة السكن ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشر. وقال ابن دقيق العيد: سياق الحديث يقتضي أن سبب الحكم أنها اختلفت مع الوكيل بسبب استقلالها ما أعطاها، وأنها لما قال لها الوكيل لا نفقة لك سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأجابها بأنها لا نفقة لها ولا سكنى، فاقتضى أن التعليل إنما هو

(9/479)


بسبب ما جرى من الاختلاف لا بسبب الاقتحام والبذاءة، فإن قام دليل أقوى من هذا الظاهر عمل به. قلت: المتفق عليه في جميع طرقه أن الاختلاف كان في النفقة، ثم اختلفت الروايات: ففي بعضها "فقال لا نفقة لك ولا سكنى" وفي بعضها أنه لما قال لها "لا نفقة لك" استأذنته في الانتقال فأذن لها، وكلها في صحيح مسلم، فإذا جمعت ألفاظ الحديث من جميع طرقه خرج منها أن سبب استئذانها في الانتقال ما ذكر من الخوف عليها ومنها، واستقام الاستدلال حينئذ على أن السكنى لم تسقط لذاتها وإنما سقطت للسبب المذكور. نعم كانت فاطمة بنت قيس تجزم بإسقاط سكنى البائن ونفقتها وتستدل لذلك كما سيأتي ذكره، ولهذا كانت عائشة تنكر عليها. "تنبيه": طعن أبو محمد بن حزم في رواية ابن أبي الزناد المعلقة فقال: عبد الرحمن بن أبي الزناد ضعيف جدا، وحكم على روايته هذه بالبطلان، وتعقب بأنه مختلف فيه، ومن طعن فيه لم يذكر ما يدل على تركه فضلا عن بطلان روايته، وقد جزم يحيى بن معين بأنه أثبت الناس في هشام بن عروة، وهذا من روايته عن هشام، فلله در البخاري ما أكثر استحضاره وأحسن تصرفه في الحديث والفقه. وقد اختلف السلف في نفقة المطلقة البائن وسكناها: فقال الجمهور لا نفقه لها. ولها السكنى، واحتجوا لإثبات السكنى بقوله تعالى :{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ولإسقاط النفقة بمفهوم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فإن مفهومه أن غير الحامل لا نفقة لها وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر معنى، والسياق يفهم أنها في غير الرجعية، لأن نفقة الرجعية واجبة لو لم تكن حاملا. وذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه لا نفقه لها ولا سكنى على ظاهر حديث فاطمة بنت قيس، ونازعوا في تناول الآية الأولى المطلقة البائن، وقد احتجت فاطمة بنت قيس صاحبة القصة على مروان حين بلغها إنكاره بقولها: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى :{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} إلى قوله : {يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} قالت هذا لمن كانت له مراجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ وإذا لم يكن لها نفقة وليست حاملا فعلام يحبسونها؟ وقد وافق فاطمة على أن المراد بقوله تعالى: {يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} المراجعة قتادة والحسن والسدي والضحاك أخرجه الطبري عنهم ولم يحك عن أحد غيرهم خلافه، وحكى غيره أن المراد بالأمر ما يأتي من قبل الله تعالى من نسخ أو تخصيص أو نحو ذلك فلم ينحصر ذلك في المراجعة، وأما ما أخرجه أحمد من طريق الشعبي عن فاطمة في آخر حديثها مرفوعا: "إنما السكنى والنفقة لمن يملك الرجعة" فهو من أكثر الروايات موقوف عليها، وقد بين الخطيب في "المدرج" أن مجالد بن سعيد تفرد برفعه وهو ضعيف، ومن أدخله في رواية غير رواية مجالد عن الشعبي فقد أدرجه، وهو كما قال، وقد تابع بعض الرواة عن الشعبي في رفعه مجالدا لكنه أضعف منه. وأما قولها "إذا لم يكن لها نفقة فعلام يحبسونها" ؟ فأجاب بعض العلماء عنه بأن السكنى التي تتبعها النفقة هو حال الزوجية الذي يمكن معه الاستمتاع ولو كانت رجعية، وأما السكنى بعد البينونة فهو حق لله تعالى بدليل أن الزوجين لو اتفقا على إسقاط العدة لم تسقط بخلاف الرجعية فدل على أن لا ملازمة بين السكنى والنفقة. وقد قال بمثل قول فاطمة أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأتباعهم. وذهب أهل الكوفة من الحنفية وغيرهم إلى أن لها النفقة والكسوة، وأجابوا عن الآية بأنه تعالى إنما قيد النفقة بحالة الحمل ليدل على إيجابها في غير حالة الحمل بطريق الأولى، لأن مدة الحمل تطول غالبا. ورده ابن السمعاني بمنع العلة في طول مدة الحمل، بل تكون مدة الحمل أقصر من غيرها تارة وأطول أخرى فلا أولوية؛ وبأن قياس الحائل على الحامل فاسد، لأنه يتضمن إسقاط تقييد ورد به النص في

(9/480)


القرآن والسنة. وأما قول بعضهم إن حديث فاطمة أنكره السلف عليها كما تقدم من كلام عائشة، وكما أخرج مسلم من طريق، أبي إسحاق "كنت مع الأسود بن يزيد في المسجد فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به وقال: ويلك تحدث بهذا؟ قال عمر: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، قال الله تعالى :{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} فالجواب عنه أن الدار قطني قال: قوله في حديث عمر "وسنة نبينا" غير محفوظ والمحفوظ "لا ندع كتاب ربنا" وكأن الحامل له على ذلك أن أكثر الروايات ليست فيها هذه الزيادة، لكن ذلك لا يرد رواية النفقة، ولعل عمر أراد بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ما دلت عليه أحكامه من اتباع كتاب الله، لا أنه أراد سنة مخصوصة في هذا، ولقد كان الحق ينطق على لسان عمر، فإن قوله: "لا ندري حفظت أو نسيت" قد ظهر مصداقه في أنها أطلقت في موضع التقييد أو عممت في موضع التخصيص كما تقدم بيانه، وأيضا فليس في كلام عمر ما يقتضي إيجاب النفقة وإنما أنكر إسقاط السكنى. وادعى بعض الحنفية أن في بعض طرق حديث عمر "للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة" ورده ابن السمعاني بأنه من قول بعض المجازفين فلا تحل روايته، وقد أنكر أحمد ثبوت ذلك عن عمر أصلا، ولعله أراد ما ورد من طريق إبراهيم النخعي عن عمر لكونه لم يلقه، وقد بالغ الطحاوي في تقرير مذهبه فقال: خالفت فاطمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عمر روى خلاف ما روت، فخرج المعنى الذي أنكر عليها عمر خروجا صحيحا، وبطل حديث فاطمة فلم يجب العمل به أصلا، وعمدته على ما ذكر من المخالفة ما روي عمر بن الخطاب، فإنه أورده من طريق إبراهيم النخعي عن عمر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لها السكنى والنفقة" وهذا منقطع لا تقوم به حجة.

(9/481)


باب المطلقة إذا خشي عليها في مسكن زوجها أن يقتحم عليها أوتبذو على أهلها بفاحشة
...
42 - باب الْمُطَلَّقَةِ إِذَا خُشِيَ عَلَيْهَا فِي مَسْكَنِ زَوْجِهَا أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيْهَا أَوْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْلِهَا بِفَاحِشَةٍ
5327، 5328- حَدَّثَنِي حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ"
قوله: "باب المطلقة إذا خشي عليها في مسكن زوجها أن يقتحم عليها أو قبل تبذو على أهلها بفاحشة" في رواية الكشميهني: "على أهله". والاقتحام الهجوم على الشخص بغير إذن، والبذاء بالموحدة والمعجمة القول الفاحش. قوله: "حبان" بكسر أوله والموحدة هو ابن موسى، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة" كذا أورده من طريق ابن جريج عن ابن شهاب مختصرا، وأورده مسلم من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره "أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في خروجها من بيتها، فأمرها أن تنتقل إلى ابن أم مكتوم الأعمى، فأبى مروان أن يصدق في خروج المطلقة من بيتها" وقال عروة "إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس".

(9/481)


باب قوله تعالى:(ولا يحل لهن أن يكتمن ماخلق الله في أرحامهن) من الحيض والحبل
...
43- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} مِنْ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ
5329- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ

(9/481)


44- باب {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فِي الْعِدَّةِ
وَكَيْفَ يُرَاجِعُ الْمَرْأَةَ إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ
5330- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ زَوَّجَ مَعْقِلٌ أُخْتَهُ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً"
5331- و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا ثُمَّ خَلَّى عَنْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ خَطَبَهَا فَحَمِيَ مَعْقِلٌ مِنْ ذَلِكَ أَنَفًا فَقَالَ خَلَّى عَنْهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَخْطُبُهَا فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ وَاسْتَقَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ"
5332- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً ==

  كتاب : 31-فتح الباري : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

==أُخْرَى ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ لِأَحَدِهِمْ إِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلاَثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ وَزَادَ فِيهِ غَيْرُهُ عَنْ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بِهَذَا"
قوله: "باب وبعولتهن أحق بردهن" في العدة، وكيف يراجع المرأة إذا طلقها واحدة أو ثنتين، وقوله: فلا تعضلوهن" كذا للأكثر، وفصل أبو ذر أيضا بين قوله: "بردهن" وبين قوله: "في العدة" بدائرة إشارة إلى أن المراد بأحقية الرجعة من كانت في العدة، وهو قول مجاهد وطائفة من أهل التفسير، وسقط قوله: "فلا تعضلوهن" من رواية النسفي. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين. حديث معقل بن يسار في تزويج أخته، أورده من طريقين: الأولى قوله: "حدثني محمد" كذا للجميع غير منسوب وهو ابن سلام، وعبد الوهاب شيخه هو ابن عبد المجيد الثقفي، ويونس هو ابن عبيد البصري. الطريق الثانية من طريق سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة قال في روايته: "حدثنا الحسن أن معقل بن يسار كانت أخته تحت رجل" وقال في رواية يونس عن الحسن "زوج معقل أخته" وقد تقدم هذا الحديث وشرحه في "باب لا نكاح إلا بولي" من كتاب النكاح وبينت هناك من وصله وأرسله، وتقدم في تفسير البقرة أيضا موصولا ومرسلا. سعيد هو ابن أبي عروبة عن قتادة قال في روايته: "حدثنا الحسن أن معقل بن يسار كانت أخته تحت رجل" وقال في رواية يونس عن الحسن "زوج معقل أخته" وقد تقدم هذا الحديث وشرحه في "باب لا نكاح إلا بولي" من كتاب النكاح وبينت هناك من وصله وأرسله، وتقدم في تفسير البقرة أيضا موصولا ومرسلا، وقوله: "فحمى" بوزن علم بكسر ثانيه، وقوله: "أنفا" بفتح الهمزة والنون منون أي ترك الفعل غيظا وترفعا، وقوله: "فترك الحمية" بالتشديد، وقوله: "واستقاد لأمر الله" كذا للأكثر بقاف أي أعطى مقادته، والمعنى أطاع وامتثل. وفي رواية الكشميهني: "واستراد" براء بدل القاف من الرود وهو الطلب، أو المعنى أراد رجوعها ورضي به. ونقل ابن التين عن رواية القابسي واستقاد بتشديد الدال، ورده بأن المفاعلة لا تجتمع مع سين الاستفعال. حديث ابن عمر في طلاق الحائض، وتقدم شرحه مستوفى في أول كتاب الطلاق، وقوله: "وزاد فيه غيره عن الليث" تقدم بيانه في أول الطلاق أيضا حيث قال فيه: "وقال الليث إلخ" وفيه تسمية الغير المذكور. وقال ابن بطال ما ملخصه. المراجعة على ضربين، إما في العدة فهي على ما في حديث ابن عمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بمراجعتها ولم يذكر أنه احتاج إلى عقد جديد، وإما بعد العدة فعلى ما في حديث معقل، وقد أجمعوا على أن الحر إذا طلق الحرة بعد الدخول بها تطليقة أو تطليقتين فهو أحق برجعتها ولو كرهت المرأة ذلك، فإن لم يراجع حتى انقضت العدة فتصير أجنبية فلا تحل له إلا بنكاح مستأنف. واختلف السلف فيما يكون به الرجل مراجعا، فقال الأوزاعي إذا جامعها فقد راجعها وجاء ذلك عن بعض التابعين وبه قال مالك وإسحاق بشرط أن ينوي به الرجعة. وقال الكوفيون كالأوزاعي وزادوا: ولو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة. وقال الشافعي لا تكون الرجعة إلا بالكلام، وانبنى على هذا الخلاف جواز الوطء وتحريمه، وحجة الشافعي أن الطلاق مزيل للنكاح، وأقرب ما يظهر ذلك في حل الوطء وعدمه، لأن الحل معنى يجوز أن يرجع في النكاح ويعود كما في إسلام أحد المشركين ثم إسلام الآخر في العدة، وكما يرتفع بالصوم والإحرام والحيض ثم يعود بزوال هذه المعاني. وحجة من أجاز أن النكاح لو زال لم تعد المرأة إلا بعقد جديد وبصحة الخلع في الرجعية ولوقوع الطلقة الثانية، والجواب عن كل ذلك أن النكاح ما زال أصله وإنما زال وصفه. وقال

(9/483)


ابن السمعاني: الحق إن القياس يقتضي أن الطلاق إدا وقع زال النكاح كالعتق، لكن الشرع أثبت الرحمة في النكاح دون العتق فافترقا.

(9/484)


45- باب مُرَاجَعَةِ الْحَائِضِ
5333- حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَ مِنْ قُبُلِ عِدَّتِهَا قُلْتُ فَتَعْتَدُّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ"
قوله: "باب مراجعة الحائض" ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل الطلاق. حديث ابن عمر في ذلك، ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل الطلاق.

(9/484)


باب نحد المتوفي عنها أربعة أشهر وعشرا
...
46- باب تُحِدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لاَ أَرَى أَنْ تَقْرَبَ الصَّبِيَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الطِّيبَ لِأَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ الثَّلاَثَةَ:
5334- قَالَتْ زَيْنَبُ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
5335- قالت زينب: "فدخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: أما والله ما لي بالطيب من أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا"
5336- قَالَتْ زَيْنَبُ وَسَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ لاَ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ"
[الحديث 5336- طرفاه في: 5338، 5706]
5337- قَالَ حُمَيْدٌ فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ فَقَالَتْ زَيْنَبُ كَانَتْ الْمَرْأَةُ

(9/484)


47- باب الْكُحْلِ لِلْحَادَّةِ
5338- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فَخَشُوا عَلَى عَيْنَيْهَا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْكُحْلِ فَقَالَ لاَ تَكَحَّلْ قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أَحْلاَسِهَا أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعَرَةٍ فَلاَ حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ"
5339- وَسَمِعْتُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
5340- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ إِلاَّ بِزَوْجٍ
قوله: "باب الكحل للحادة" كذا وقع من الثلاثي، ولو كان من الرباعي لقال المحدة. قال ابن التين: الصواب الحاد بلا هاء لأنه نعت للمؤنث كطالق وحائض. قلت: لكنه جائز فليس بخطأ وإن كان الآخر أرجح. ذكر فيه حديث أم سلمة الماضي في الباب قبله، وكذا حديث أم حبيبة، أوردهما من طريق شعبة باختصار، وقد تقدم ما فيه قبل. حديث أم سلمة الماضي في الباب قبله، وكذا حديث أم حبيبة، أوردهما من طريق شعبة باختصار، وقد تقدم

(9/490)


ما فيه قبل. وقوله: "لا تكتحل" في رواية المستملي بلا تاء بين الكاف والحاء. أورد حديث أم عطية مختصرا، وفي الباب الذي يليه مطولا، وقوله: "إلا بزوج" في رواية الكشميهني: "إلا على زوج"

(9/491)


48- باب الْقُسْطِ لِلْحَادَّةِ عِنْدَ الطُّهْرِ
5341- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَلاَ نَكْتَحِلَ وَلاَ نَطَّيَّبَ وَلاَ نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ وَكُنَّا نُنْهَى عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ"
قوله: "باب القسط للحادة عند الطهر" أي عند طهرها من المحيض إذا كانت ممن تحيض. قوله: "كنا ننهى" بضم أوله، وقد صرح برفعه في الباب الذي بعده. قوله: "ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب" بمهملتين مفتوحة ثم ساكنة ثم موحدة وهو بالإضافة وهي برود اليمن يعصب غزلها أي يربط ثم يصبغ ثم ينسج معصوبا فيخرج موشى لبقاء ما عصب به أبيض لم ينصبغ، وإنما يعصب السدي دون اللحمة. وقال صاحب "المنتهى" العصب هو المفتول من برود اليمن. وذكر أبو موسى المدني في "ذيل الغريب" عن بعض أهل اليمن أنه من دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز وغيره ويكون أبيض، وهذا غريب، وأغرب منه قول السهيلي: إنه نبات لا ينبت إلا باليمن وعزاه لأبي حنيفة الدينوري، وأغرب منه قول الداودي: المراد بالثوب العصب الخضرة وهي الحبرة، وليس له سلف في أن العصب الأخضر، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة ولا المصبغة، إلا ما صبغ بسواد فرخص فيه مالك والشافعي لكونه لا يتخذ للزينة بل هو من لباس الحزن، وكره عروة العصب أيضا، وكره مالك غليظه. قال النووي: الأصح عند أصحابنا تحريمه مطلقا، وهذا الحديث حجة لمن أجازه. وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ من مفهوم الحديث جواز ما ليس بمصبوغ وهي الثياب البيض، ومنع بعض المالكية المرتفع منها الذي يتزين به، وكذلك الأسود إذا كان مما يتزين به، قال النووي: ورخص أصحابنا فيما لا يتزين به ولو كان مصبوغا. واختلف في الحرير فالأصح عند الشافعية منعه مطلقا مصبوغا أو غير مصبوغ، لأنه أبيح للنساء للتزين به والحادة ممنوعة من التزين فكان في حقها كالرجال، وفي التحلي بالذهب والفضة وباللؤلؤ ونحوه وجهان الأصح جوازه، وفيه نظر من جهة المعنى في المقصود بلبسه، وفي المقصود بالإحداد، فإنه عند تأملها يترجح المنع والله أعلم. قوله: "وقد رخص لنا" بضم أوله أيضا وقد صرح برفعه في الباب الذي بعده. قوله: "عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها" في رواية الكشميهني: "حيضها" وفي الذي بعده "ولا تمس طيبا إلا أدنى طهرها إذا طهرت". قوله: "في نبذة" بضم النون وسكون الموحدة بعدها معجمة أي قطعة، وتطلق على الشيء اليسير. قوله: "من كست أظفار" كذا فيه بالكاف وبالإضافة، وفي الذي بعده "من قسط وأظفار" بقاف وواو عاطفة وهو أوجه، وخطأ عياض الأول، وقد تقدم بيانه في كتاب الحيض. وقال بعده "قال أبو عبد الله" وهو البخاري "القسط والكست مثل الكافور والقافور" أي يجوز في كل منهما الكاف

(9/491)


والقاف وزاد القسط أنه يقال بالتاء المثناة بدل الطاء، فأراد المثلية في الحرب الأول فقط. قال النووي: القسط والأظفار نوعان معروفان من البخور وليسا من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدم لا للتطيب. قلت: المقصود من التطيب بهما أن يخلطا في أجزاء أخر من غيرهما ثم تسحق فتصير طيبا، والمقصود بهما هنا كما قال الشيخ أن تتبع بهما أثر الدم لإزالة الرائحة لا للتطيب، وزعم الداودي أن المراد أنها تسحق القسط وتلقيه في الماء آخر غسلها لتذهب رائحة الحيض، ورده عياض بأن ظاهر الحديث يأباه، وأنه لا يحصل منه رائحة طيبة إلا من التبخر به، كذا قال وفيه نظر، واستدل به على جواز استعمال ما فيه منفعة لها من جنس ما منعت منه إذا لم يكن للتزين أو التطيب كالتدهن بالزيت في شعر الرأس أو غيره.

(9/492)


49- باب تَلْبَسُ الْحَادَّةُ ثِيَابَ الْعَصْبِ
5342- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا لاَ تَكْتَحِلُ وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ"
5343- وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَطِيَّةَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ تَمَسَّ طِيبًا إِلاَّ أَدْنَى طُهْرِهَا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْقُسْطُ وَالْكُسْتُ مِثْلُ الْكَافُورِ وَالْقَافُورِ"
قوله: "باب تلبس الحادة ثياب العصب" ذكر فيه حديث أم عطية مصرحا برفعه، وزاد في أوله "لا يحل لامرأة" الحديث مثل حديث أم حبيبة الماضي قبله. حديث أم عطية مصرحا برفعه، وزاد في أوله "لا يحل لامرأة" الحديث مثل حديث أم حبيبة الماضي قبله، وزاد بعد قوله إلا على زوج "فإنها لا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب" وقد تقدم شرحه في الذي قبله، ووقع فيه: "فوق ثلاث" وتقدم في حديث أم حبيبة في الطريق الأولى "ثلاث ليال" وفي الطريق الثانية "ثلاثة أيام" وجمع بإرادة الليالي بأيامها، ويحمل المطلق هنا على المقيد الأول ولذلك أنث، وهو محمول أيضا على أن المراد ثلاث ليال بأيامها، وذهب الأوزاعي إلى أنها تحد ثلاث ليال فقط، فإن مات في أول الليل أقلعت في أول اليوم الثالث وإن مات في أثناء الليل أو في أول النهار أو في أثنائه لم تقلع إلا في صبيحة اليوم الرابع، ولا تلفيق. قوله: "وقال الأنصاري" هو محمد بن عبد الله بن المثنى شيخ البخاري، وقد أخرج عنه الكثير بواسطة وبلا واسطة، وهشام هو الدستوائي المذكور في الذي قبله. قوله: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم ولا تمس طيبا" كذا أورده مختصرا، وهو في الأصل مثل الحديث الذي قبله، وقد وصله البيهقي من الطريق أبي حاتم الرازي عن الأنصاري بلفظ. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تحد المرأة فوق ثلاثة أيام، إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا". قوله: "إلا أدنى طهرها" أي عند قرب طهرها أو أقل طهرها، وقد تقدم شرحه قبل. ثم ذكر المصنف حديث أم حبيبة من طريق سفيان وهو الثوري عن عبد الله بن أبي بكر وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم شيخ مالك فيه، وقد مضى شرحه أيضا

(9/492)


باب(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً إلى قوله ـ بما تعملون خبير)
...
50- باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إِلَى قَوْلِهِ {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
5344- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} قَالَ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَالْعِدَّةُ كَمَا هِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا زَعَمَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَالَ عَطَاءٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ شَاءَتْ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهَا وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} قَالَ عَطَاءٌ ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلاَ سُكْنَى لَهَا"
5345- حدثنا محمد بن كثير عن سفيان عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم حدثني حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة بنت أبي سفيان لما جاءها نعي أبيها دعت بطيب فمسحت ذراعيها وقالت ما لي بالطيب من حاجة لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا"
قوله: "باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إلى قوله: {خَبِيرٌ} كذا لأبي ذر والأكثر، وساق في رواية كريمة الآية بكمالها. قوله: "حدثني إسحاق بن منصور" تقدم في تفسير البقرة هذا الحديث بهذا السند، وبينت هناك ما قيل فيه من تعليق وغيره، ووقع هناك "إسحاق" غير منسوب وفسر بابن راهويه، وقد ظهر من هذه الطريق أنه ابن منصور، ولعله كان عنده عنهما جميعا. وقوله: "كانت هذه العدة، تعتد عند أهل زوجها واجبا" كذا لأبي ذر عن الكشميهني، وذكر "واجبا" إما لأنه صفة محذوف أي أمرا واجبا، أو ضمن العدة معنى الاعتداد. وفي رواية كريمة: "واجب" على أنه خبر مبتدأ محذوف، قال ابن بطال: ذهب مجاهد إلى أن الآية وهي قوله تعالى :{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} نزلت قبل الآية التي فيها {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} كما هي قبلها في التلاوة، وكأن الحامل له على ذلك استشكال أن يكون الناسخ قبل المنسوخ، فرأى أن استعمالها ممكن بحكم غير متدافع، لجواز أن يوجب الله على المعتدة تربص أربعة أشهر وعشر ويوجب على أهلها أن تبقى عندهم سبعة أشهر وعشرين ليلة تمام الحول إن أقامت عندهم ا هـ ملخصا. قال: وهو قول لم يقله أحد من المفسرين غيره ولا تابعه عليها من الفقهاء أحد، وأطبقوا على أن آية الحول منسوخة وأن السكنى تبع للعدة، فلما نسخ الحول في العدة بالأربعة أشهر وعشر نسخت السكنى أيضا. وقال ابن عبد البر: لم يختلف العلماء أن العدة بالحول نسخت إلى أربعة أشهر وعشر، وإنما اختلفوا في قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فالجمهور على أنه نسخ أيضا،

(9/493)


وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد فذكر حديث الباب قال: ولم يتابع على ذلك، ولا قال أحد من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين به في مدة العدة، بل روى ابن جريج عن مجاهد في قدرها مثل ما عليه الناس، فارتفع الخلاف واختص ما نقل عن مجاهد وغيره بمدة السكنى، على أنه أيضا شاذ لا يعول عليه. والله أعلم

(9/494)


51- باب مَهْرِ الْبَغِيِّ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ.وَقَالَ الْحَسَنُ:
إِذَا تَزَوَّجَ مُحَرَّمَةً وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَهَا مَا أَخَذَتْ وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ لَهَا صَدَاقُهَا.
5346- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ"
5347- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الْبَغِيِّ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ"
5348- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الإِمَاءِ"
قوله: "باب مهر البغي والنكاح الفاسد" البغي بكسر المعجمة وتشديد التحتانية بوزن فعيل من البغاء وهو الزنا، يستوي في لفظه المذكر والمؤنث. قال الكرماني: وقيل وزنه فعول، لأن أصله بغوي أبدلت الواو ياء ثم كسرت الغين لأجل الياء التي بعدها، والتقدير ومهر من نكحت في النكاح الفاسد، أي بشبهة من إخلال شرط أو نحو ذلك. قوله: "وقال الحسن" هو البصري "إذا تزوج محرمة" بتشديد الراء والمستملي بفتح الميم والراء وسكون الحاء بينهما وبالضمير، وبهذا الثاني حزم ابن التين وقال: أي ذا محرمه. قوله: "وهو لا يشعر" احتراز عما إذا تعمد، وبهذا القيد ومفهومه يطابق الترجمة. وقال ابن بطال: اختلف العلماء فيها على قولين: فمنهم من قال لها المسمى، ومنهم من قال لها مهر المثل وهم الأكثر. قوله: "فرق بينهما" بضم أوله. قوله: "وليس لها غيره. ثم قال بعد: لها صداقها" هذا الأثر وصله ابن أبي شيبة عن هشيم عن يونس عن الحسن مثله إلى قوله: "وليس لها غيره:" ومن طريق مطر الوراق عن الحسن نحوه وقال: لها صداقها، أي صداق مثلها. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. حديث أبي مسعود - وهو عقبة بن عمرو الأنصاري - في النهي عن ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي، وقوله: "عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن" هو ابن الحارث بن هشام، في رواية الحميدي "عن سفيان حدثنا الزهري أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن". وتقدم شرحه في آخر البيوع حديث أبي جحيفة في لعن الواشمة الحديث، وفيه: "ونهى عن ثمن الكلب وكسب البغي ولعن المصورين" وتقدم شرحه في آخر البيوع حديث أبي هريرة في النهي عن كسب الإماء، قد تقدم شرح الأحاديث الثلاثة في آخر البيوع. قال ابن بطال: قال الجمهور من عقد على محرم وهو عالم بالتحريم وجب عليه الحد للإجماع على تحريم العقد، فلم يكن هناك شبهة يدرأ بها الحد. وعن أبي حنيفة العقد شبهة. واحتج له بما لو وطئ جارية له فيها شركة فإنها محرمة عليه بالاتفاق ولا حد عليه للشبهة. وأجيب بأن حصته من الملك

(9/494)


اقتضت حصول الشبهة، بخلاف المحرم له فلا ملك له فيها أصلا فافترقا ومن ثم قال ابن القاسم من المالكية: يجب الحد في وطء الحرة ولا يجب في المملوكة والله أعلم.

(9/495)


52- باب الْمَهْرِ لِلْمَدْخُولِ عَلَيْهَا وَكَيْفَ الدُّخُولُ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمَسِيسِ
5349- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ فَرَّقَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلاَنِ وَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَبَيَا فَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَبَيَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَالَ أَيُّوبُ فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فِي الْحَدِيثِ شَيْءٌ لاَ أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ قَالَ قَالَ الرَّجُلُ مَالِي قَالَ لاَ مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ"
قوله: "باب المهر للمدخول عليها" أي وجوبه أو استحقاقه. وقوله: "كيف الدخول" يشير إلى الخلاف فيه، وقد تمسك بقوله في حديث الباب: "فقد دخلت بها" على أن من أغلق بابا وأرخى سترا على المرأة فقد وجب لها الصداق وعليها العدة، وبذلك قال الليث والأوزاعي وأهل الكوفة وأحمد، وجاء ذلك عن عمر وعلي وزيد ابن ثابت ومعاذ بن جبل وابن عمر، قال الكوفيون: الخلوة الصحيحة يجب معها المهر كاملا سواء وطئ أم لم يطأ، إلا إن كان أحدهما مريضا أو صائما أو محرما أو كانت حائضا فلها النصف وعليها العدة كاملة، واحتجوا أيضا بأن الغالب عند إغلاق الباب وإرخاء الستر على المرأة وقوع الجماع فأقيمت المظنة مقام المئنة لما جبلت عليه النفوس في تلك الحالة من عدم الصبر عن الوقاع غالبا لغلبة الشهوة وتوفر الداعية. وذهب الشافعي وطائفة إلى أن المهر لا يجب كاملا إلا بالجماع، واحتج بقوله تعالى :{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وقال: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} وجاء ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وشريح والشعبي وابن سيرين. والجواب عن حديث الباب أنه ثبت في الرواية الأخرى في حديث الباب: "فهو بما استحللت من فرجها" فلم يكن في قوله: "دخلت عليها" حجة لمن قال إن مجرد الدخول يكفي. وقال مالك: إذا دخل بالمرأة في بيته صدقت عليه، وإن دخل بها في بيتها صدق عليها، ونقله عن ابن المسيب. وعن مالك رواية أخرى كقول الكوفيين. قوله: "أو طلقها قبل الدخول" قال ابن بطال: التقدير أو كيف طلاقها؟ فاكتفى بذكر الفعل عن ذكر المصدر لدلالته عليه. قلت: ويحتمل أن يكون التقدير: أو كيف الحكم إذا طلقها قبل الدخول؟ قوله: "والمسيس" ثبت هذا في رواية النسفي والتقدير وكيف المسيس؟ وهو معطوف على الدخول أي إذا طلقها قبل الدخول وقبل المسيس. حديث ابن عمر من رواية سعيد بن جبير عنه في قصة الملاعنة وقد تقدم شرحه مستوفى في أبواب اللعان.

(9/495)


53- باب الْمُتْعَةِ لِلَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} إِلَى قَوْلِهِ - بَصِيرٌ} وَقَوْلِهِ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ

(9/495)


كتاب النفقات
باب فضل النفقة على الأهل
...
4- كِتَاب النَّفَقَاتِ
1- باب فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الأَهْلِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وَقَالَ الْحَسَنُ الْعَفْوُ الْفَضْلُ
5351- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ فَقُلْتُ عَنْ النَّبِيِّ فَقَالَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً"
5352- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ"
5353- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ"
[الحديث 5353- طرفاه في: 6006، 6007]
5354- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ لِي مَالٌ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لاَ قُلْتُ فَالشَّطْرِ قَالَ لاَ قُلْتُ فَالثُّلُثِ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ وَلَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ يَنْتَفِعُ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ"
قوله: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ- كتاب النفقات وفضل النفقة على الأهل" كذا لكريمة، وقد تقدم في رواية أبي ذر والنسفي "كتاب النفقات" ثم البسملة ثم قال: "باب فضل النفقة على الأهل" وسقط لفظ: "باب" لأبي ذر. قوله: "وقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} كذا للجميع، ووقع للنسفي عند قوله: "قل العفو" وقد قرأ الأكثر { قُلِ الْعَفْوَ} بالنصب أي تنفقون العفو أو أنفقوا العفو، وقرأ أبو عمرو وقبله الحسن وقتادة "قل العفو" بالرفع أي هو العفو، ومثله قولهم: ماذا ركبت أفرس أم بعير؟ يجوز الرفع والنصب. قوله: "وقال الحسن: العفو الفضل" وصله عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زيادات الزهد بسند صحيح عن الحسن البصري وزاد: ولا لوم على الكفاف.

(9/497)


وأخرج عبد بن حميد أيضا من وجه آخر عن الحسن قال : "أن لا تجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس" فعرف بهذا المراد بقوله: "الفضل" أي ما لا يؤثر في المال فيمحقه. وقد أخرج ابن أبي حاتم من مرسل يحيى بن أبي كثير بسند صحيح إليه أنه "بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: إن لنا أرقاء وأهلين، فما ننفق من أموالنا؟ فنزلت". وبهذا يتبين مراد البخاري من إيرادها في هذا الباب. وقد جاء عن ابن عباس وجماعة أن المراد بالعفو ما فضل عن الأهل، أخرجه ابن أبي حاتم أيضا، ومن طريق مجاهد قال: العفو الصدقة المفروضة. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس العفو ما لا يتبين في المال، وكان هذا قبل أن تفرص الصدقة. فلما اختلفت هذه الأقوال كان ما جاء من السبب في نزولها أولى أن يؤخذ به، ولو كان مرسلا. ثم ذكر في الباب أربعة أحاديث. حديث أبي مسعود الأنصاري وهو عقبة بن عمرو. قوله: "عن عدي بن ثابت" تقدم في الإيمان من وجه آخر عن شعبة "أخبرني عدي بن ثابت". قوله: "عن أبي مسعود الأنصاري فقلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: عن النبي صلى الله عليه وسلم" القائل "فقلت" هو شعبة، بينه الإسماعيلي في رواية له من طريق علي بن الجعد عن شعبة فذكره إلى أن قال: "عن أبي مسعود فقال. قال شعبة: قلت قال عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم" وتقدم في كتاب الإيمان عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير مراجعة، وذكر المتن مثله. وفي المغازي عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة عن عدي عن عبد الله بن يزيد أنه سمع أبا مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وذكر المتن مختصرا ليس فيه: "وهو يحتسبها" وهذا مقيد لمطلق ما جاء في أن الإنفاق على الأهل صدقة كحديث سعد رابع أحاديث الباب حيث قال فيه: "ومهما أنفقت فهو لك صدقة" والمراد بالاحتساب القصد إلى طلب الأجر، والمراد بالصدقة الثواب وإطلاقها عليه مجاز وقرينته الإجماع على جواز الإنفاق على الزوجة الهاشمية مثلا. وهو من مجاز التشبيه والمراد به أصل الثواب لا في كميته ولا كيفيته، ويستفاد منه أن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقرونا بالنية، ولهذا أدخل البخاري حديث أبي مسعود المذكور في "باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة" وحذف المقدار من قوله: "إذا أنفق" لإرادة التعميم ليشمل الكثير والقليل. وقوله: "على أهله" يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب، ويحتمل أن يختص الزوجة ويلحق به من عداها بطريق الأولى، لأن الثواب إذا ثبت فيما هو واجب فثبوته فيما ليس بواجب أولي. وقال الطبري ما ملخصة: الإنفاق على الأهل واجب، والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوع. وقال المهلب: النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم؛ ترغيبا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع. وقال ابن المنير: تسمية النفقة صدقة من جنس تسمية الصداق نحلة، فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها - في اللذة والتأنيس والتحصين وطلب الولد - كان الأصل أن لا يجب لها عليه شيء، إلا أن الله خص الرجل بالفضل على المرأة بالقيام عليها ورفعه عليها بذلك درجة، فمن ثم جاز إطلاق النحلة على الصداق، والصدقة على النفقة قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وهذا الحديث ليس في "الموطأ" وهو على شرط شيخنا في "تقريب الأسانيد"، لكنه لما لم يكن في "الموطأ" لم يخرجه كأنظاره، لكنه أخرجه من رواية همام عن أبي هريرة وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن القاسم، وأبو نعيم من

(9/498)


طريق عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك. قوله: "قال الله أنفق يا ابن آدم أنفق عليك" أنفق الأولى بفتح أوله وسكون القاف بصيغة الأمر بالإنفاق، والثانية بضم أوله وسكون القاف على الجواب بصيغة المضارع، وهو وعد بالخلف، ومنه قوله تعالى :{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} وقد تقدم القدر المذكور من هذا الحديث في تفسير سورة هود من طريق شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد في أثناء حديث ولفظه: "قال الله أنفق أنفق عليك" وقال: "يد الله ملأى" الحديث وهذا الحديث الثاني أخرجه الدار قطني في "غرائب مالك" من طريق سعيد بن داود عن مالك وقال صحيح تفرد به سعيد عن مالك. وأخرج مسلم الأول من طريق همام عن أبي هريرة بلفظ: "إن الله تعالى قال لي: أنفق أنفق عليك" الحديث، وفرقه البخاري كما سيأتي في كتاب التوحيد، وليس في روايته: "قال لي" فدل على أن المراد بقوله في رواية الباب: "يا ابن آدم" النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يراد جنس بني آدم ويكون تخصيصه صلى الله عليه وسلم بإضافته إلى نفسه لكونه رأس الناس، فتوجه الخطاب إليه ليعمل به ويبلغ أمته، وفي ترك تقييد النفقة بشيء معين ما يرشد إلى أن الحث على الإنفاق يشمل جميع أنواع الخير، وسيأتي شرح حديث شعيب مبسوطا في التوحيد إن شاء الله تعالى قوله: "عن ثور بن زيد" في رواية محمد بن الحسن في "الموطأ" عن مالك "أخبرني ثور". قوله: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" كذا قال جميع أصحاب مالك عنه في "الموطأ" وغيره، وأكثرهم ساقه على لفظ رواية مالك عن صفوان بن سليم به مرسلا ثم قال: "وعن ثور بسنده مثله" وسيأتي في كتاب الأدب عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك كذلك، واقتصر أبو قرة موسى بن طارق على رواية مالك عن ثور فقال: "الساعي على الأرملة والمسكين له صدقة" بين ذلك الدار قطني في "الموطآت". قوله: "أو القائم الليل الصائم النهار" هكذا للجميع عن مالك بالشك لكن لأكثرهم - مثل معن بن عيسى وابن وهب وابن بكير في آخرين - بلفظ: "أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل"، وقد أخرجه ابن ماجه من رواية الدراوردي عن ثور بمثل هذا اللفظ، لكن قاله بالواو لا بلفظ أو، وسيأتي في الأدب من رواية القعنبي عن مالك بلفظ: "وأحسبه قال: كالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر" شك القعنبي، وقد ذكره الأكثر بالشك عن مالك لكن بمعناه، فيحمل اختصاص القعنبي باللفظ الذي أورده، ومعنى الساعي الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين. والأرملة بالراء المهملة التي لا زوج لها، والمسكين تقدم بيانه في كتاب الزكاة، وقوله: "القائم الليل" يجوز في الليل الحركات الثلاث كما في قولهم الحسن الوجه، ومطابقة الحديث للترجمة من جهة إمكان اتصاف الأهلي أي الأقارب بالصفتين المذكورين، فإذا ثبت هذا الفضل لمن ينفق على من ليس له بقريب ممن اتصف بالوصفين، فالمنفق على المتصف، أولى. حديث سعد بن أبي وقاص في الوصية بالثلث، وقد تقدم شرحه في الوصايا، والمراد منه هنا قوله: "ومهما أنفقت فهو لك صدقة، حتى اللقمة ترفعها في في امرأتك" وقد أخرج مسلم من حديث مجاهد عن أبي هريرة رفعه: "دينار أعطيته مسكينا، ودينار أعطيته في رقبة، ودينار أعطيته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، قال:. الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظم أجرا" ومن حديث أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رقعه "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله" قال أبو قلابة بدأ بالعيال، وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عياله يعفهم وينفعهم الله به؟ قال الطبري: البداءة في الإنفاق بالعيال، يتناول النفس، لأن نفس المرء من جملة عياله بل هي

(9/499)


أعظم حقا عليه من بقية عياله، إذ ليس لأحد إحياء غيره بإتلاف نفسه، ثم الإنفاق على عياله كذلك.

(9/500)


2- باب وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الأَهْلِ وَالْعِيَالِ
5355- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ تَقُولُ الْمَرْأَةُ إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي وَيَقُولُ الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي وَيَقُولُ الِابْنُ أَطْعِمْنِي إِلَى مَنْ تَدَعُنِي فَقَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لاَ هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ"
قوله: "باب وجوب النفقة على الأهل والعيال" الظاهر أن المراد بالأهل في الترجمة الزوجة، وعطف العيال عليها من العام بعد الخاص، أو المراد بالأهل الزوجة والأقارب والمراد بالعيال الزوجة والخدم فتكون الزوجة ذكرت مرتين تأكيدا لحقها، ووجوب نفقة الزوجة تقدم دليله أول النفقات. ومن السنة حديث جابر عند مسلم: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" ومن جهة المعنى أنها محبوسة عن التكسب لحق الزوج، وانعقد الإجماع على الوجوب، لكن اختلفوا في تقديرها فذهب الجمهور إلى أنها بالكفاية، والشافعي وطائفة - كما قال ابن المنذر - إلى أنها بالأمداد، ووافق الجمهور من الشافعية أصحاب الحديث كابن خزيمة وابن المنذر ومن غيرهم أبو الفضل ابن عبدان. وقال الروياني في "الحلية" هو القياس. وقال النووي في "شرح مسلم:" ما سيأتي في "باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ" بعد سبعة أبواب. وتمسك بعض الشافعية بأنها لو قدرت بالحاجة لسقطت نفقة المريضة والغنية في بعض الأيام، فوجب إلحاقها بما يشبه الدوام وهو الكفارة لاشتراكهما في الاستقرار في الذمة، ويقويه قوله تعالى :{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} فاعتبروا الكفارة بها "والأمداد معتبرة في الكفارة" ويخدش في هذا الدليل أنهم صححوا الاعتياض عنه، وبأنها لو أكلت معه على العادة سقطت بخلاف الكفارة فيهما، والراجح من حيث الدليل أن الواجب الكفاية، ولا سيما وقد نقل بعض الأئمة الإجماع الفعلي في زمن الصحابة والتابعين على ذلك ولا يحفظ عن أحد منهم خلافه. قوله: "أفضل الصدقة ما ترك غنى" تقدم شرحه في أول الزكاة وبيان اختلاف ألفاظه وكذا قوله: "واليد العليا" وقوله: "وابدأ بمن تعول" أي بمن يجب عليك نفقته، يقال عال الرجل أهله إذا مانهم، أي قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة. وهو أمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب. وقال ابن المنذر اختلف في نفقة من بلغ من الأولاد ولا مال له ولا كسب، فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد أطفالا كانوا أو بالغين إناثا وذكرانا إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها، وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم

(9/500)


حتى يبلغ الذكر أو تتزوج الأنثى ثم لا نفقة على الأب إلا إن كانوا زمنى، فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب. وألحق الشافعي ولد الولد وإن سفل بالولد في ذلك، وقوله: "تقول المرأة" وقع في رواية للنسائي من طريق محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح به "فقيل من أعول يا رسول الله؟ قال امرأتك" الحديث، وهو وهم والصواب ما أخرجه هو من وجه آخر عن ابن عجلان به وفيه: "فسئل أبو هريرة: من تعول يا أبا هريرة" وقد تمسك بهذا بعض الشراح وغفل عن الرواية الأخرى، ورجح ما فهمه بما أخرجه الدار قطني من طريق عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرأة تقول لزوجها أطعمني" ولا حجة فيه لأن في حفظ عاصم شيئا، والصواب التفصيل، وكذا وقع للإسماعيلي من طريق أبي معاوية عن الأعمش بسند حديث الباب: "قال أبو هريرة تقول امرأتك إلخ" وهو معنى قوله في آخر حديث الباب: "لا هذا من كيس أبي هريرة" وقع في رواية الإسماعيلي المذكورة "قالوا يا أبا هريرة شيء تقول من رأيك أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هذا من كيسي" وقوله من كيسي هو بكسر الكاف للأكثر أي من حاصله إشارة إلى أنه من استنباطه مما فهمه من الحديث المرفوع مع الواقع، ووقع في رواية الأصيلي بفتح الكاف أي من فطنته. قوله: "تقول المرأة إما أن تطعمني" في رواية النسائي عن محمد بن عبد العزيز عن حفص بن غياث بسند حديث الباب: "إما أن تنفق علي". قوله: "ويقول العبد أطعمني واستعملني" في رواية الإسماعيلي: "ويقول خادمك أطعمني وإلا فبعني. قوله: "ويقول الابن أطعمني، إلى من تدعني" ؟ في رواية النسائي والإسماعيلي: "تكلني" وهو بمعناه. واستدل به على أن من كان من الأولاد له مال أو حرفة لا تجب نفقته على الأب، لأن الذي يقول: "إلى من دعني" ؟ إنما هو من لا يرجع إلى شيء سوى نفقة الأب، ومن له حرفة أو مال لا يحتاج إلى قول ذلك. واستدل بقوله: "إما أن تطعمني وإما أن تطلقني" من قال يفرق بين الرجل وامرأته إذا أعسر بالنفقة واختارت فراقه، وهو قول جمهور العلماء. وقال الكوفيون: يلزمها الصبر، وتتعلق النفقة بذمته. واستدل الجمهور بقوله تعالى:{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا}، وأجاب المخالف بأنه لو كان الفراق واجبا لما جاز الإبقاء إذا رضيت، ورد عليه بأن الإجماع دل على جواز الإبقاء إذا رضيت فبقي ما عداه على عموم النهي. وطعن بعضهم في الاستدلال بالآية المذكورة بأن ابن عباس وجماعة من التابعين قالوا: نزلت فيمن كان يطلق فإذا كادت العدة تنقضي راجع، والجواب أن من قاعدتهم "أن العبرة بعموم اللفظ". حتى تمسكوا بحديث جابر بن سمرة "اسكنوا في الصلاة" اترك رفع اليدين عند الركوع مع أنه إنما ورد في الإشارة بالأيدي في التشهد بالسلام على فلان وفلان، وهنا تمسكوا بالسبب. واستدل للجمهور أيضا بالقياس على الرقيق والحيوان، فإن من أعسر بالإنفاق عليه أجبر على بيعه اتفاقا. والله أعلم.

(9/501)


باب حبس الرجل قوت سنة على أهله وكيف نفقات العيال
...
3- باب حَبْسِ نَفَقَةِ الرَّجُلِ قُوتَ سَنَةٍ عَلَى أَهْلِهِ وَكَيْفَ نَفَقَاتُ الْعِيَالِ
5357- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ قَالَ لِي مَعْمَرٌ قَالَ لِي الثَّوْرِيُّ هَلْ سَمِعْتَ فِي الرَّجُلِ يَجْمَعُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ أَوْ بَعْضِ السَّنَةِ قَالَ مَعْمَرٌ فَلَمْ يَحْضُرْنِي ثُمَّ ذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ

(9/501)


وَيَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ"
5358- حدثنا سعيد بن عفير قال حدثني الليث قال حدثني عقيل عن بن شهاب قال أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان وكان محمد بن جبير بن مطعم ذكر لي ذكرا من حديثه فانطلقت حتى دخلت على مالك بن أوس فينبغي فقال مالك انطلقت حتى أدخل على عمر إذ أتاه حاجبه يرفأ فقال ثم هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون قال نعم فأذن لهم قال فدخلوا وسلموا فجلسوا ثم لبث يرفأ قليلا فقال لعمر هل لك في علي وعباس قال نعم فأذن لهما فلما دخلا سلما وجلسا فقال عباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا فقال الرهط عثمان وأصحابه يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر فقال عمر اتئدوا أنشدكم بالله الذي به تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركنا صدقة يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه قال الرهط قد قال ذلك فأقبل عمر على علي وعباس فقال أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك قالا قد قال ذلك قال عمر فإني أحدثكم عن هذا الأمر إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا المال بشيء لم يعطه أحدا غيره قال الله {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ - إلى قوله- قَدِيرٌ} فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما احتازها دونكم ولا أستأثر بها عليكم لقد أعطاكموها حتى بقى منها هذا المال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك قالوا نعم قال لعلي وعباس أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك قالا نعم ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر أنا ولي رسول الله فقبضها أبو بكر يعمل فيها بما عمل به فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتما حينئذ وأقبل على علي وعباس تزعمان أن أبا بكر كذا وكذا والله يعلم أنه فيها صادق بار راشد تابع للحق ثم توفى الله أبا بكر فقلت أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثم جئتماني وكلمتكما واحدة وأمركما جميع جئتني تسألني نصيبك من بن أخيك وأتى هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها فقلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما عمل به فيها أبو بكر وبما عملت به فيها منذ وليتها وإلا فلا تكلماني فيها فقلتما ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما بذلك أنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك فقال الرهط نعم قال فأقبل على علي وعباس فقال أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما

(9/502)


بذلك قالا نعم قال أفتلتمسان مني ذلك فوالذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فادفعاها فأنا أكفيكماها"
قوله: "باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، وكيف نفقات العيال" ؟ ذكر فيه حديث عمر، وهو مطابق لركن الترجمة الأول، وأما الركن الثاني وهو كيفية النفقة على العيال فلم يظهر لي أولا وجه أخذه من الحديث، ولا رأيت من تعرض له، ثم رأيت أنه بمكن أن يؤخذ منه دليل التقدير لأن مقدار نفقة السنة إذا عرف عرف منه توزيعها على أيام السنة فيعرف حصة كل يوم من ذلك، فكأنه قال: لكل واحدة في كل يوم قدر معين من المغل المذكور، والأصل في الإطلاق التسوية. قوله: "حدثني محمد بن سلام" كذا في رواية كريمة، وللأكثر "حدثني محمد" حسب. قوله: "قال لي معمر قال لي الثوري" هذا الحديث مما فات ابن عيينة سماعه من الزهري فرواه عنه بواسطة معمر، وقد رواه أيضا عن عمرو بن دينار عن الزهري بأتم من سياق معمر، وتقدم في تفسير سورة الحشر. وأخرجه الحميدي وأحمد في مسنديهما عن سفيان عم معمر وعمرو بن دينار جميعا عن الزهري، وقد أخرج مسلم رواية معمر وحدها عن يحيى بن يحيى عن سفيان عن معمر عن الزهري ولكنه لم يسق لفظه وقد أخرج إسحاق بن راهويه رواية معمر منفردة عن سفيان عنه عن الزهري بلفظ: "كان ينفق على أهله نفقة سنة من مال بني النضير ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح" وقد أخرج مسلم الحديث مطولا من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، وفي كل من الإسنادين رواية الأقران، فإن ابن عيينة عن معمر قرينان، وعمرو بن دينار عن الزهري كذلك. ويؤخذ منه المذاكرة بالعلم وإلقاء العالم المسألة على نظيره ليستخرج ما عنده من الحفظ، وتثبت معمر وإنصافه لكونه اعترف أنه لا يستحضر إذ ذاك في المسألة شيئا، ثم لما تذكرها أخبر بالواقعة كما هي ولم يأنف مما تقدم. قوله: "كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم" كذا أورده مختصرا ثم ساق المصنف الحديث بطوله من طريق عقيل عن ابن شهاب الزهري، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل فرض الخمس. قال ابن دقيق العيد: في الحديث جواز الادخار للأهل قوت سنة، وفي السياق ما يؤخذ منه الجمع بينه وبين حديث: "كان لا يدخر شيئا لغد" فيحمل على الادخار لنفسه وحديث الباب على الادخار لغيره، ولو كان له في ذلك مشاركة، لكن المعنى أنهم المقصد بالادخار دونه حتى لو لم يوجدوا لم يدخر، قال: والمتكلمون على لسان الطريقة جعلوا أو بعضهم ما زاد على السنة خارجا عن طريقة التوكل انتهى. وفيه إشارة إلى الرد على الطبري حيث استدل بالحديث على جواز الادخار مطلقا خلافا لمن منع ذلك، وفي الذي نقله الشيخ تقييد بالسنة اتباعا للخبر الوارد، لكن استدلال الطبري قوي، بل التقييد بالسنة إنما جاء من ضرورة الواقع لأن الذي كان يدخر لم يكن يحصل إلا من السنة إلى السنة، لأنه كان إما تمرا وإما شعيرا، فلو قدر أن شيئا مما يدخر كان لا يحصل إلا من سنتين إلى سنتين لاقتضى الحال جواز الادخار لأجل ذلك، والله أعلم. ومع كونه صلى الله عليه وسلم كان يحتبس قوت سنة لعياله فكان في طول السنة ربما استجره منهم لمن يرد عليه ويعوضهم عنه، ولذلك مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير اقترضه قوتا لأهله. واختلف في جواز ادخار القوت لمن يشتريه من السوق، قال عياض: أجازه قوم واحتجوا بهذا الحديث، ولا حجة فيه لأنه إنما كان من مغل الأرض، ومنعه قوم إلا أن كان لا يضر بالسعر، وهو متجه إرفاقا بالناس. ثم محل هذا

(9/503)


الاختلاف إذا لم يكن في حال الضيق، وإلا فلا يجوز الادخار في تلك الحالة أصلا.

(9/504)


4- باب نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ إِذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَنَفَقَةِ الْوَلَد ِ
5359- حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا قَالَ لاَ إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ"
5360- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ"
قوله: "باب نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها ونفقة الولد" ذكر فيه حديث عائشة في قصة هند امرأة أبي سفيان وسيأتي شرحه بعد أربعة أبواب. وحديث أبي هريرة "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها" وقد مر شرحه في أواخر النكاح. "تنبيه": وقعت هذه الترجمة وحديثها متأخرة عن الباب الذي بعده عند النسفي.

(9/504)


باب قوله تعالى:(والوالدات يرضهن أولادهن حولين كاملين إلى قوله تعالى بما تعملون بصير)
...
5- باب وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} إِلَى قَوْلِهِ {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وَقَالَ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} وَقَالَ {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ إِلَى قَوْلِهِ- بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} وَقَالَ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَهَى اللَّهُ أَنْ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ الْوَالِدَةُ لَسْتُ مُرْضِعَتَهُ وَهِيَ أَمْثَلُ لَهُ غِذَاءً وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ وَأَرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْبَى بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أَنْ يُضَارَّ بِوَلَدِهِ وَالِدَتَهُ فَيَمْنَعَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ ضِرَارًا لَهَا إِلَى غَيْرِهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَسْتَرْضِعَا عَنْ طِيبِ نَفْسِ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فِصَالُهُ فِطَامُهُ
قوله: "باب والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين - إلى قوله :{بَصِيرٌ} كذا لأبي ذر والأكثر.
وفي رواية كريمة:" إلى قوله :{بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقال: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} قيل دلت الآية الأولى على إيجاب الإنفاق على المرضعة من أجل رضاعها الولد، كانت في العصمة أم لا. وفي الثانية الإشارة إلى قدر المدة التي يجب ذلك فيها. وفي الثالثة الإشارة إلى مقدار الإنفاق وأنه بالنظر لحال المنفق. وفيها أيضا الإشارة إلى أن الإرضاع لا يتحتم على الأم، وقد تقدم في أوائل النكاح في "باب لا رضاع بعد حولين" البحث في معنى قوله تعالى :{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وأخرج الطبري عن ابن عباس أن إرضاع الحولين مختص بمن وضعت لستة أشهر، فمهما وضعت لأكثر من ستة أشهر نقص من مدة

(9/504)


6- باب عَمَلِ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
5361- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنَا عَلِيٌّ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ فَلَمْ تُصَادِفْهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ قَالَ فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي فَقَالَ أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ"
قوله: "باب عمل المرأة في بيت زوجها" أورد فيه حديث علي في طلب فاطمة الخادم، والحجة منه قوله فيه: "تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى"، وقد تقدم الحديث في أوائل فرض الخمس وأن شرحه يأتي في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى، وسأذكر شيئا مما يتعلق بهذا الباب في الباب الذي يليه. حديث علي في طلب فاطمة الخادم، والحجة منه قوله فيه: "تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى"، وقد تقدم الحديث في أوائل فرض الخمس وأن شرحه يأتي في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى، وسأذكر شيئا مما يتعلق بهذا الباب في الباب الذي يليه. ويستفاد من قوله: "ألا أدلكما على خير مما سألتما" أن الذي يلازم ذكر الله يعطي قوة أعظم من القوة التي يعملها له الخادم، أو تسهل الأمور عليه بحيث يكون تعاطيه أموره أسهل من تعاطي الخادم لها، هكذا استنبطه بعضهم من الحديث، والذي يظهر أن المراد أن نفع التسبيح مختص بالدار الآخرة ونفع الخادم مختص بالدار الدنيا، والآخرة خير وأبقى

(9/506)


7- باب خَادِمِ الْمَرْأَةِ
5362- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ سَمِعَ مُجَاهِدًا سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَقَالَ أَلاَ أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ تُسَبِّحِينَ اللَّهَ عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَتَحْمَدِينَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَتُكَبِّرِينَ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ إِحْدَاهُنَّ أَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ قِيلَ وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ قَالَ وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ"
قوله: "باب خادم المرأة" أي هل يشرع ويلزم الزوج إخدامها؟ حديث على المذكور في الذي قبله وسياقه أخصر منه، قال الطبري: يؤخذ منه أن كل من كانت لها طاقة من النساء على خدمة بيتها في خبز أو طحن أو غير ذلك أن ذلك لا يلزم الزوج إذا كان معروفا أن مثلها يلي ذلك بنفسه. ووجه الأخذ أن فاطمة لما سألت أباها صلى الله عليه وسلم الخادم لم يأمر زوجها بأن يكفيها ذلك إما بإخدامها خادما أو باستئجار من يقوم بذلك أو بتعاطي ذلك

(9/506)


8- باب خِدْمَةِ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ
5363- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي الْبَيْتِ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا سَمِعَ الأَذَانَ خَرَجَ"
قوله: "باب خدمة الرجل في أهله" أي بنفسه. قوله: "كان يكون" سقط لفظ: "يكون" من رواية المستملي والسرخسي، وقد تقدم ضبط المهنة وأنه بفتح الميم ويجوز كسرها في كتاب الصلاة. وقال ابن التين: ضبط في الأمهات بكسر الميم، وضبطه الهروي بالفتح، وحكى الأزهري عن شمر عن مشايخه أن كسرها خطأ. قوله: "فإذا سمع الأذان خرج" تقدم شرحه مع شرح بقية الحديث مستوفى في أبواب فضل الجماعة من كتاب الصلاة. "تنبيه": وقع هنا للنسفي وحده ترجمة نصها "باب هل لي من أجر في بني أبي سلمة" وبعده الحديث الآتي في "باب وعلى الوارث مثل ذلك" والراجح ما عند الجماعة

(9/507)


باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ يفير علمه مايكفيها وولدها بالمعروف
...
9- باب إِذَا لَمْ يُنْفِقْ الرَّجُلُ فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ
5364- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ فَقَالَ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ"
قوله: "باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف" أخذ المصنف هذه

(9/507)


10- باب حِفْظِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي ذَاتِ يَدِهِ وَالنَّفَقَةِ
5365- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ وَقَالَ الْآخَرُ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده، والنفقة" المراد بذات اليد المال، وعطف النفقة عليه من عطف الخاص على العام. ووقع في شرح ابن بطال "والنفقة عليه" وزيادة لفظة "عليه" غير محتاج إليها في هذا الموضع

(9/511)


وليست من حديث الباب في شيء. قوله: "حدثنا ابن طاوس" اسمه عبد الله. قوله: "عن أبيه وأبو الزناد" هو عطف على ابن طاوس لا على طاوس. وحاصله أن لسفيان بن عيينة فيه إسنادين إلى أبي هريرة. ووقع في مسند الحميدي عن سفيان "وحدثنا أبو الزناد" وأخرجه أبو نعيم من طريقه. قوله: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش. وقال الآخر: صالح نساء قريش" في رواية الكشميهني: "صلح" بضم الصاد وتشديد اللام بعدها مهملة وهي صيغة جمع، وحاصله أن أحد شيخي سفيان اقتصر على نساء قريش وزاد الآخر صالح، ووقع عند مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان "قال أحدهما: صالح نساء قريش. وقال الآخر: نساء قريش" ولم أره عن سفيان إلا مبهما، لكن ظهر من رواية شعيب عن أبي الزناد الماضية في أول النكاح ومن رواية معمر عن ابن طاوس عند مسلم أن الذي زاد لفظة "صالح" هو ابن طاوس ووقع في أوله عند مسلم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بيان سبب الحديث ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم هانئ بنت أبي طالب فقالت: يا رسول الله إني قد كبرت ولي عيال" فذكر الحديث، وله "أحناه علي" بمهملة ثم نون من الحنو وهو العطف والشفقة "وأرعاه" من الرعاية وهي الإبقاء، قال ابن التين: الحانية عند أهل اللغة التي تقيم على ولدها فلا تتزوج، فإن تزوجت فليست بحانية. قوله: "في ذات يده" قال قاسم بن ثابت في "الدلائل" : ذات يده وذات بيننا ونحو ذلك صفة لمحذوف مؤنث كأنه يعني الحال التي هي بينهم، والمراد بذات يده ماله ومكسبه. وأما قولهم لقيته ذات يوم فالمراد لقاة أو مرة، فلما حذف الموصوف وبقيت الصفة صارت كالحال. قوله: "ويذكر عن معاوية وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم" أما حديث معاوية وهو ابن أبي سفيان فأخرجه أحمد والطبراني من طريق زيد بن غياث عن معاوية "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فذكر مثل رواية ابن طاوس في جملة أحاديث ورجاله موثقون، وفي بعضهم مقال لا يقدح. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد أيضا من طريق شهر بن حوشب حدثني ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب امرأة من قومه يقال لها سوده وكان لها خمسة صبيان أو ستة من بعل لها مات، فقالت له: ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي إلا أني أكرمك أن تضغو هذه الصبية عند رأسك، فقال لها: يرحمك الله إن خير نساء ركبن أعجاز الإبل صالح نساء قريش" الحديث وسنده حسن، وله طريق أخرى أخرجها قاسم بن ثابت في "الدلائل" من طريق، الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس باختصار القصة، وهذه المرأة يحتمل أن تكون أم هانئ المذكورة في حديث أبي هريرة فلعلها كانت تلقب سودة فإن المشهور أن اسمها فاختة وقيل غير ذلك، ويحتمل أن تكون امرأة أخرى، وليست سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها قديما بمكة بعد موت خديجة ودخل بها قبل أن يدخل بعائشة ومات وهي في عصمته، وقد تقدم ذلك واضحا، وتقدم شرح المتن مستوفى في أوائل كتاب النكاح

(9/512)


11- باب كِسْوَةِ الْمَرْأَةِ بِالْمَعْرُوفِ
5366- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آتَى إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةً سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي"
قوله: "باب كسوة المرأة بالمعروف" هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مسلم من حديث جابر المطول في صفة

(9/512)


الحج، ومن جملته في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة "اتقوا الله في النساء، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" ولما لم يكن على شرط البخاري أشار إليه واستنبط الحكم من حديث آخر على شرطه. حديث علي في الحلة السيراء وقوله: "فشققتها بين نسائي" قال ابن المنير وجه المطابقة أن الذي حصل لزوجته فاطمة عليها السلام من الحلة قطعة فرضيت بها اقتصادا بحسب الحال لا إسرافا، وأما حكم المسألة فقال ابن بطال: أجمع العلماء على أن للمرأة مع النفقة على الزوج كسوتها وجوبا، وذكر بعضهم أنه يلزمه أن يكسوها من الثياب كذا، والصحيح في ذلك أن لا يحمل أهل البلدان على نمط واحد، وأن على أهل كل بلد ما يجري في عادتهم بقدر ما يطيقه الزوج على قدر الكفاية لها، وعلى قدر يسره وعسره ا هـ. وأشار بذلك إلى الرد على الشافعية، وقد تقدم البحث في ذلك في النفقة قريبا والكسوة في معناها، وحديث علي سيأتي شرحه مستوفى في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. وقوله: "آتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم:" بالمد أي أعطى، ثم ضمن أعطى معنى أهدى أو أرسل لذلك عداه بإلي وهي بالتشديد، وقد وقع في رواية النسفي "بعث" وفي رواية ابن عبدوس "أهدى" ولا تضمين فيها، ومن قرأ: إلى "بالتخفيف بلفظ حرف الجر و "أتى" بمعنى جاء لزمه أن يقول: "حلة سيراء" بالرفع ويكون في الكلام حذف تقديره فأعطانيها فلبستها إلى آخره، قال ابن التين: ضبط عند الشيخ أبي الحسن "أتى" بالقصر أي جاء، فيحتمل أن يكون المعنى جاءني النبي صلى الله عليه وسلم بحلة فحذف ضمير المتكلم وحذف الباء فانتصبت؛ والحلة إزار ورداء، والسيراء بكسر المهملة وفتح التحتانية وبالمد من أنواع الحرير، وقوله: "بين نسائي" يوهم زوجاته وليس كذلك، فإنه لم يكن له حينئذ زوجة إلا فاطمة، فالمراد بنسائه زوجته مع أقاربه، وقد جاء في رواية: "بين الفواطم"

(9/513)


12- باب عَوْنِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي وَلَدِهِ
5367- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً ثَيِّبًا فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ بَلْ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَلَكَ وَتَرَكَ بَنَاتٍ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُصْلِحُهُنَّ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْ قَالَ خَيْرًا
قوله: "باب عون المرأة زوجها في ولده" سقط في ولده من رواية النسفي وذكر فيه حديث جابر في تزويجه الثيب لتقوم على أخواته وتصلحهن، وكأنه استنبط قيام المرأة على ولد زوجها من قيام امرأة جابر على أخواته ووجه ذلك منه بطريق الأولى، قال ابن بطال: وعون المرأة زوجها في ولده ليس بواجب عليها وإنما هو من جميل العشرة ومن شيمة صالحات النساء، وقد تقدم الكلام على خدمة المرأة زوجها هل تجب عليها أم لا قريبا

(9/513)


13- باب نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ عَلَى أَهْلِهِ
5368- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

(9/513)


باب:(وعلى الوارث مثل ذلك) وهل على المرأة منه شيئ
...
14- باب {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} إِلَى قَوْلِهِ {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
5369- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ قَالَ نَعَمْ لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ"
5370- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ هِنْدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَبَنِيَّ قَالَ خُذِي بِالْمَعْرُوفِ"
قوله: "باب {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ، وهل على المرأة منه شيء؟ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } الآية" كذا لأبي ذر ولغيره بعد قوله {أَبْكَمُ} "إلى قوله :{صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال ابن بطال ما ملخصه: اختلف السلف في المراد بقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فقال ابن عباس: عليه أن لا يضار، وبه قال الشعبي ومجاهد، والجمهور قالوا: ولا غرم على أحد من الورثة، ولا يلزمه نفقة ولد الموروث. وقال آخرون: على من يرث الأب مثل ما كان على الأب من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له. ثم اختلفوا في المراد بالوارث فقال الحسن والنخعي: هو كل من يرث الأب من الرجال والنساء، وهو قول أحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو من كان ذا رحم محرم للمولود دون غيره. وقال قبيصة بن ذؤيب: هو المولود نفسه. وقال زيد بن ثابت: إذا خلف أما وعما فعلى كل منهما إرضاع الولد بقدر ما يرث، وبه مال الثوري. قال ابن بطال: وإلى هذا القول أشار البخاري بقوله وعلى، وهل على

(9/514)


المرأة منه شيء؟ ثم أشار إلى رده بقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} فنزل المرأة من الوارث منزلة الأبكم من المتكلم ا هـ وقد أخرج الطبري هذه الأقوال عن قائلها، وسبب الاختلاف حمل المثلية في قوله: {مِثْلُ ذَلِكَ} على جميع ما تقدم أو على بعضه، والذي تقدم الإرضاع والإنفاق والكسوة وعدم الإضرار، قال ابن العربي: قالت طائفة لا يرجع إلى الجميع بل إلى الأخير، وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع إلى الجميع فعليه الدليل لأن الإشارة بالإفراد، وأقرب مذكور هو عدم الإضرار فرجع الحمل عليه. ثم أورد حديث أم سلمة في سؤالها: هل لها أجر في الإنفاق على أولادها من أبي سلمة ولم يكن لهم مال؟ فأخبرها أن لها أجرا، فدل على أن نفقة بنيها لا تجب عليها، إذ لو وجبت عليها لبين لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وكذا قصة هند بنت عتبة فإنه أذن لها في أخذ نفقة بنيها من مال الأب فدل على أنها تجب عليه دونها، فأراد البخاري أنه لما لم يلزم الأمهات نفقة الأولاد في حياة الآباء فالحكم بذلك مستمر بعد الآباء، ويقويه قوله تعالى :{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} أي رزق الأمهات وكسوتهن من أجل الرضاع للأبناء، فكيف يجب لهن في أول الآية ويجب عليهن نفقة الأبناء في آخرها؟ وأما قول قبيصة فيرده أن الوارث لفظ يشمل الولد وغيره فلا يخص به وارث دون آخر إلا بحجة ولو كان الولد هو المراد لقيل وعلى المولود، وأما قول الحنفية فيلزم منه أن النفقة تجب على الخال لابن أخته ولا تجب على العم لابن أخيه وهو تفصيل لا دلالة عليه من الكتاب ولا السنة ولا القياس قاله إسماعيل القاضي، وأما قول الحسن ومن تابعه فتعقب بقوله تعالى :{إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فلما وجب على الأب الإنفاق على من يرضع ولده ليغذي ويربي فكذلك يجب عليه إذا فطم فيغذيه بالطعام كما كان يغذيه بالرضاع ما دام صغيرا، ولو وجب مثل ذلك على الوارث لوجب إذا مات عن الحامل أنه يلزم العصبة بالإنفاق عليها لأجل ما في بطنها، وكذا يلزم الحنفية إلزام كل ذي رحم محرم. وقال ابن المنير: إنما قصر البخاري الرد على من زعم أن الأم يجب عليها نفقة ولدها وإرضاعه بعد أبيه لدخولها في الوارث، فبين أن الأم كانت كلا على الأب واجبة النفقة عليه؛ ومن هو كل بالأصالة لا يقدر على شيء غالبا كيف يتوجه عليه أن ينفق على غيره؟ وحديث أم سلمة صريح في أن إنفاقها على أولادها كان على سبيل الفضل والتطوع، فدل على أن لا وجوب عليها. وأما قصة هند فظاهرة في سقوط النفقة عنها في حياة الأب فيستصحب هذا الأصل بعد وفاة الأب، وتعقب بأنه لا يلزم من السقوط عنها في حياة الأب السقوط عنها بعد فقده، وإلا فقد القيام بمصالح الولد بفقده، فيحتمل أن يكون مراد البخاري من الحديث الأول وهو حديث أم سلمة في إنفاقها على أولادها الجزء الأول من الترجمة وهو أن وارث الأب كالأم يلزمه نفقة المولود بعد موت الأب، ومن الحديث الثاني الجزء الثاني وهو أنه ليس على المرأة شيء عند وجود الأب، وليس فيه تعرض لما بعد الأب، والله أعلم

(9/515)


15- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ
5371- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى وَإِلاَ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ أَنَا أَوْلَى

(9/515)


بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك كلا" بفتح الكاف والتشديد والتنوين "أو ضياعا" بفتح الضاد المعجمة "فإلي" بالتشديد. ذكر حديث أبي هريرة بلفظ: "من توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته" وأما لفظ الترجمة فأورده في الاستقراض من طريق أبي حازم عن أبي هريرة بلفظ: "من ترك مالا فلورثته؛ ومن ترك كلا فإلينا" ومن طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة "ومن ترك دنيا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه" والضياع تقدم ضبطه وتفسيره في الكفالة وفي الاستقراض، وتقدم شرح الحديث في الكفالة وفي تفسير الأحزاب، ويأتي بقية الكلام عليه في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى. وأراد المصنف بإدخاله في أبواب النفقات الإشارة إلى أن من مات وله أولاد ولم يترك لهم شيئا فإن نفقتهم تجب في بيت مال المسلمين والله أعلم

(9/516)


16- باب الْمَرَاضِعِ مِنْ الْمَوَالِيَاتِ وَغَيْرِهِنَّ
5372- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ وَتُحِبِّينَ ذَلِكِ قُلْتُ نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي فَقَالَ إِنَّ ذَلِكِ لاَ يَحِلُّ لِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ إِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا بِنْتُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ"
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ ثُوَيْبَةُ أَعْتَقَهَا أَبُو لَهَبٍ
قوله: "باب المراضع من المواليات وغيرهن" كذا للجميع، قال ابن التين: ضبط في رواية بضم الميم، وبفتحها في أخرى، والأول أولى لأنه اسم فاعل من والت توالي. قلت: وليس كما قال، بل المضبوط في معظم الروايات بالفتح، وهو من الموالي لا من الموالاة. وقال ابن بطال: كان الأولى أن يقول الموليات جمع مولاة، وأما المواليات فهو جمع الجمع جمع مولى جمع التكسير ثم جمع موالي جمع السلامة بالألف والتاء فصار مواليات. ذكر حديث أم حبيبة في قولها "انكح أختي" وفي قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له درة بنت أبي سلمة فقال: "بنت أم سلمة" ؟ وإنما استثبتها في ذلك ليترتب عليه الحكم، لأن بنت أبي سلمة من غير أم سلمة تحل له لو لم يكن أبو سلمة رضيعه، لأنها ليست ربيبة، بخلاف بنت أبي سلمة من أم سلمة. وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب النكاح وقوله في آخره: "قال شعيب عن الزهري قال عروة ثويبة أعتقها أبو لهب" تقدم هذا التعليق موصولا في جملة الحديث الذي أشرت إليه في أوائل النكاح، وسياق مرسل عروة أتم مما هنا، وتقدم شرحه، وأراد بذكره هنا إيضاح أن ثويبة كانت مولاة ليطابق الترجمة، ووجه إيرادها في أبواب النفقات الإشارة إلى أن إرضاع الأم ليس متحتما بل لها أن ترضع ولها أن تمتنع، فإذا امتنعت كان للأب أو الولي إرضاع الولد بالأجنبية حرة كانت أو أمة متبرعة كانت أو

(9/516)


بأجرة والأجرة تدخل في النفقة. وقال ابن بطال: كانت العرب تكره رضاع الإماء وترغب في رضاع العربية لنجابة الولد، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد رضع من غير العرب وأنجب وأن رضاع الإماء لا يهجن ا هـ وهو معنى حسن، إلا أنه لا يفيد الجواب عن السؤال الذي أوردته. وكذا قول ابن المنير: أشار المصنف إلى أن حرمة الرضاع تنتشر، سواء كانت المرضعة حرة أم أمة. والله أعلم "خاتمة": اشتمل كتاب النفقات من الأحاديث المرفوعة على خمسة وعشرين حديثا، المعلق منها ثلاثة وجميعها مكرر إلا ثلاثة أحاديث وهي حديث أبي هريرة "الساعي على الأرملة" وحديث ابن عباس ومعاوية في نساء قريش وهما معلقان، وافقه مسلم على تخريج حديث أبي هريرة دونهما. وفيه من الآثار الموقوفة عن الصحابة والتابعين، ثلاثة آثار: أثر الحسن في أوله، وأثر الزهري في الوالدات يرضعن، وأثر أبي هريرة المتصل بحديث: "أفضل الصدقة ما ترك عن غنى" الحديث، وفيه: "تقول المرأة إما أن تعطيني وإما أن تطلقني إلخ" وبين في آخره أنه من كلام أبي هريرة فهو موقوف متصل الإسناد، وهو من أفراده عن مسلم، بخلاف غالب الآثار التي يوردها فإنها معلقة. والله أعلم

(9/517)


كتاب الأطعمة
باب قوله تعالى:(كلوا من طيبات مارزقناكم)
...
5- كتاب الأطعمة
1- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية
وَقَوْلِهِ: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وَقَوْلِهِ {كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
5373- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ قَالَ سُفْيَانُ وَالْعَانِي الأَسِيرُ"
5374- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَعَامٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ"
5375- وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَدَخَلَ دَارَهُ وَفَتَحَهَا عَلَيَّ فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَخَرَرْتُ لِوَجْهِي مِنْ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَقَامَنِي وَعَرَفَ الَّذِي بِي فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَحْلِهِ فَأَمَرَ لِي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ عُدْ يَا أَبَا هِرٍّ فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ ثُمَّ قَالَ عُدْ فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالْقِدْحِ قَالَ فَلَقِيتُ عُمَرَ وَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي

(9/517)


كَانَ مِنْ أَمْرِي وَقُلْتُ لَهُ فَوَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْكَ يَا عُمَرُ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَقْرَأْتُكَ الْآيَةَ وَلاَنَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْكَ قَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ لاَنْ أَكُونَ أَدْخَلْتُكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ حُمْرِ النَّعَمِ"
[الحديث5375- طرفاه في: 6246، 6452]
"بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الأطعمة وقول الله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية. وقوله: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وقوله {كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} : كذا في أكثر الروايات في الآية الثانية "أنفقوا" على وفق التلاوة، ووقع في رواية النسفي "كلوا" بدل أنفقوا، وهكذا في بعض الروايات عن أبي الوقت وفي قليل من غيرها وعليها شرح ابن بطال، وأنكرها وتبعه من بعده، حتى زعم عياض أنها كذلك للجميع، ولم أرها في رواية أبي ذر إلا على وفق التلاوة كما ذكرت، وكذا في نسخة معتمدة من رواية كريمة، ويؤيد ذلك أن المصنف ترجم بهذه الآية وحدها في كتاب البيوع فقال: "باب قوله أنفقوا من طيبات ما كسبتم" كذا وقع على وفق التلاوة للجميع إلا النسفي، وعليه شرح ابن بطال أيضا، وفي بعض النسخ من رواية أبي الوقت وزعم عياض أنه وقع للجميع "كلوا" إلا أبا ذر عن المستملي فقال: "أنفقوا"، وتقدم هناك التنبيه على أنه وقع على الصواب في كتاب الزكاة حيث ترجم "باب صدقة الكسب والتجارة" لقول الله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} ولا اختلاف بين الرواة في ذلك، ويحسن التمسك به في أن التغيير فيما عداه من النساخ. والطيبات جمع طيبة وهي تطلق على المستلذ مما لا ضرر فيه وعلى النظيف، وعلى ما لا أذى فيه، وعلى الحلال. فمن الأول قوله تعالى :{يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وهذا هو الراجح في تفسيرها، إذ لو كان المراد الحلال لم يزد الجواب على السؤال، ومن الثاني {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} ، ومن الثالث: هذا يوم طيب وهذه ليلة طيبة، ومن الرابع الآية الثانية في الترجمة، فقد تقدم في تفسيرها في الزكاة أن المراد بالتجارة الحلال، وجاء أيضا ما يدل على أن المراد بها الجيد لاقترانها بالنهي عن الإنفاق من الخبيث والمراد به الرديء، كذلك فسره ابن عباس، وورد فيه حديث مرفوع ذكره في "باب تعليق القنو في المسجد" من أوائل الصلاة من حديث عوف بن مالك، وأوضح منه فيما يتعلق بهذه الترجمة ما أخرجه الترمذي من حديث البراء قال: "كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي بالقنو فيعلقه في المسجد؛ وكان بعض من لا يرغب في الخير يأتي بالقنو من الحشف والشيص فيعلقه، فنزلت هذه الآية {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} فكنا بعد ذلك يجيء في الصدقة، فنزلت هذه الآية" وليس بين تفسير الطيب في هذه الآية بالحلال وبما يستلذ منافاة، ونظيرها قوله تعالى :{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وقد جعلها الشافعي أصلا في تحريم ما تستخبثه العرب مما لم يرد فيه نص بشرط سيأتي بيانه، وكأن المصنف - حيث أورد هذه الآيات - لمح بالحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الحديث:" وهو من رواية فضيل بن مرزوق، وقد قال الترمذي إنه تفرد به، وهو ممن انفرد مسلم بالاحتجاج به دون

(9/518)


البخاري، وقد وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: يهم كثيرا ولا يحتج به، وضعفه النسائي. وقال ابن حبان: كان يخطئ على الثقات. وقال الحاكم: عيب على مسلم إخراجه. فكأن الحديث لما لم يكن على شرط البخاري اقتصر على إيراده في الترجمة. قال ابن بطال لم يختلف أهل التأويل في قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وأنها نزلت فيمن حرم على نفسه لذيذ الطعام واللذات المباحة. ثم ذكر المصنف ثلاثة أحاديث تتعلق بالجوع والشبع. قوله: "أطعموا الجائع، وعودوا المريض" الحديث تقدم في الوليمة من كتاب النكاح بلفظ: "أجيبوا الداعي" بدل أطعموا الجائع ومخرجهما واحد، وكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر. قال الكرماني: الأمر هنا للندب وقد يكون واجبا في بعض الأحوال ا هـ. ويؤخذ من الأمر بإطعام الجائع جواز الشبع لأنه ما دام قبل الشبع فصفة الجوع قائمة به والأمر بإطعامه مستمر. قوله: "وفكوا العاني" أي خلصوا الأسير، من فككت الشيء فانفك. قوله: "قال سفيان: والعاني الأسير" تقدم بيان من أدرجه في النكاح، وقيل للأسير عان من عنا يعنو إذا خضع. قوله: "ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض" في رواية مسلم من طريق يزيد بن كيسان عن أبي حازم بلفظ: "ما شبع محمد وأهله ثلاثة أيام تباعا" أي متوالية، وسيأتي بعد هذا من حديث عائشة التقييد أيضا بثلاث، لكن فيه: "من خبز البر" وعند مسلم: "ثلاث ليال" ويؤخذ منها أن المراد بالأيام هنا بلياليها، كما أن المراد بالليالي هناك بأيامها، وأن الشبع المنفي بقيد التوالي لا مطلقا. ولمسلم والترمذي من طريق الأسود عن عائشة "ما شبع من خبز شعير يومين متتابعين" ويؤخذ مقصوده من جواز الشبع في الجملة من المفهوم، والذي يظهر أن سبب عدم شبعهم غالبا كان بسب قلة الشيء عندهم، على أنهم كانوا قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم، وسيأتي بعد هذا وفي الرقاق أيضا من وجه آخر عن أبي هريرة "خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير" ويأتي بسط القول في شرحه في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال: أصابني جهد شديد" هو موصول بالإسناد الذي قبله. وذكر محدث الديار الحلبية برهان الدين أن شيخنا الشيخ سراج الدين البلقيني استشكل هذا التركيب وقال: قوله: "وعن أبي حازم" لا يصح عطفه على قوله عن أبيه لأنه يلزم منه إسقاط فضيل فيكون منقطعا إذ يصير التقدير عن أبيه وعن أبي حازم، قال: ولا يصح عطفه على قوله: "وعن أبي حازم" لأن المحدث الذي لم يعين هو محمد ابن فضيل فيلزم الانقطاع أيضا. قال: وكان اللائق أن يقول: وبه إلى أبي حازم انتهى. وكأنه تلقفه من شيخنا في مجلس بسماعه للبخاري، وإلا فلم يسمع بأن الشيخ شرح هذا الموضع، والأول مسلم، والثاني مردود لأنه لا مانع من عطف الراوي لحديث على الراوي بعينه لحديث آخر، فكأن يوسف قال: حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن أبي حازم بكذا وعن أبي حازم بكذا، واللائق الذي ذكره صحيح لكنه لا يتعين، بل لو قال: وبه إلى أبيه عن أبي حازم لصح، أو حذف قوله: "عن أبيه" فقال: وبه عن أبي حازم لصح، وحدثنا تكون به مقدرة والمقدرة في حكم الملفوظ. وأوضح منه أن قوله: "وعن أبي حازم" معطوف على قوله: "حدثنا محمد بن فضيل إلخ" فحذف ما بينهما للعلم به، وزعم بعض الشراح أن هذا متعلق، وليس كما قال، فقد أخرجه أبو يعلى عن عبد الله بن عمر بن أبان عن محمد بن فضيل بسند البخاري فيه، فظهر أنه معطوف على السند المذكور كما قلته أولا ولله الحمد. قوله: "أصابني جهد شديد" أي من الجوع، والجهد تقدم أنه بالضم وبالفتح بمعنى

(9/519)


والمراد به المشقة، وهو في كل شيء بحسبه. قوله: "فاستقرأته آية" أي سألته أن يقرأ علي آية من القرآن معينة على طريق الاستفادة، وفي غالب النسخ "فاستقريته" بغير همزة، وهو جائز على التسهيل وإن كان أصله الهمزة. قوله: "فدخل داره وفتحها علي" أي قرأها علي وأفهمني إياها، ووقع في ترجمة أبي هريرة في "الحلية لأبي نعيم" من وجه آخر عن أبي هريرة أن الآية المذكورة من سورة آل عمران، وفيه: "فقلت له أقرئني وأنا لا أريد القراءة وإنما أريد الإطعام" وكأنه سهل الهمزة فلم يفطن عمر لمراده. قوله: "فخررت لوجهي من الجهد" أي الذي أشار إليه أولا وهو شدة الجوع، ووقع في الرواية التي في "الحلية" أنه كان يومئذ صائما وأنه لم يجد ما يفطر عليه. قوله: "فأمر لي بعس" بضم العين المهملة بعدها مهملة هو القدح الكبير. قوله: "حتى استوى بطني" أي استقام من امتلائه من اللبن. قوله: "كالقدح" بكسر القاف وسكون الدال بعدها حاء مهملة هو السهم الذي لا ريش له، وسيأتي لأبي هريرة قصه في شرب اللبن مطولة في كتاب الرقاق، وفيها أنه قال: "اشرب، فقال: لا أجد له مساغا" ويستفاد منه جواز الشبع ولو حمل المراد بنفي المساغ على ما جرت به عادته لا أنه أراد أنه زاد على الشبع، والله أعلم. "تنبيه": ذكر لي محدث الديار الحلبية برهان الدين أن شيخنا سراج الدين البلقيني قال: ليس في هذه الأحاديث الثلاثة ما يدل على الأطعمة المترجم عليها المتلو فيها الآيات المذكورة قلت: وهو ظاهر إذا كان المراد مجرد ذكر أنواع الأطعمة، أما إذا كان المراد بها ذلك وما يتعلق به من أحوالها وصفاتها فالمناسبة ظاهرة، لأن من جملة أحوالها الناشئة عنها الشبع والجوع؛ ومن جملة صفاتها الحل والحرمة والمستلذ والمستخبث، ومما ينشأ عنها الإطعام وتركه، وكل ذلك ظاهر من الأحاديث الثلاثة. وأما الآيات فإنها تضمنت الإذن في تناول الطيبات، فكأنه أشار بالأحاديث إلى أن ذلك لا يختص بنوع من الحلال ولا المستلذ ولا بحالة الشبع ولا بسد الرمق، بل يتناول ذلك بحسب الوجدان وبحسب الحاجة، والله أعلم. قوله: "تولى ذلك" أي باشره من إشباعي ودفع الجوع عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى الكرماني أن في رواية: "تولى الله ذلك" قال و "من" على هذا مفعول، وعلى الأول فاعل انتهى. ويكون "تولى" على الثاني بمعنى ولى. قوله: "ولأنا أقرأ لها منك" فيه إشعار بأن عمر لما قرأها عليه توقف فيها أو في شيء منها حتى ساغ لأبي هريرة ما قال، ولذلك أقره عمر على قوله. قوله: "أدخلتك" أي الدار وأطعمتك. قوله: "حمر النعم" أي الإبل، وللحمر منها فضل، على غيرها من أنواعها، وقد تقدم في المناقب البحث في تخصيصها بالذكر والمراد به، وتقدم من وجه آخر عن أبي هريرة "كنت أستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب معي فيطعمني" قال ابن بطال: فيه أنه كان من عادتهم إذا استقرأ أحدهم صاحبه القرآن أن يحمله إلى منزله ويطعمه ما تيسر، ويحمل ما وقع من عمر على أنه كان له شغل عاقه عن ذلك، أو لم يكن عنده ما يطعمه حينئذ انتهى ويبعد الأخير تأسف عمر على فوت ذلك. وذكر لي محدث الديار الحلبية أن شيخنا سراج الدين البلقيني استبعد قول أبي هريرة لعمر "لأنا أقرأ لها منك يا عمر" من وجهين: أحدهما مهابة عمر، والثاني عدم اطلاع أبي هريرة على أن عمر لم يكن يقرؤها مثله. قلت: عجبت من هذا الاعتراض، فإنه يتضمن الطعن على بعض رواة الحديث المذكور بالغلط مع وضوح توجيهه، أما الأول فإن أبا هريرة خاطب عمر بذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حالة كان عمر فيها في صورة الخجلان منه فجسر عليه، وأما الثالث فيعكس ويقال: وما كان أبو هريرة ليقول ذلك إلا بعد اطلاعه، فلعله سمعها من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت وما سمعها عمر مثلا إلا بواسطة.

(9/520)


2- باب التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ وَالأَكْلِ بِالْيَمِينِ
5376- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ"
[الحديث 5376- طرفاه في: 5377، 5378]
قوله: "باب التسمية على الطعام، والأكل باليمين" المراد بالتسمية على الطعام قول بسم الله في ابتداء الأكل، وأصرح ما ورد في صفة التسمية ما أخرجه أبو داود والترمذي من طريق أم كلثوم عن عائشة مرفوعا: "إذا أكل أحدكم طعاما فليقل بسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله في أوله وآخره:" وله شاهد من حديث أمية ابن مخشي عند أبي داود والنسائي، وأما قول النووي في أدب الأكل من "الأذكار" : صفة التسمية من أهم ما ينبغي معرفته، والأفضل أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال بسم الله كفاه وحصلت السنة. فلم أر لما ادعاه من الأفضلية دليلا خاصا، وأما ما ذكره الغزالي في آداب الأكل من "الإحياء" أنه لو قال في كل لقمة بسم الله كان حسنا، وأنه يستحب أن يقول مع الأولى بسم الله ومع الثانية بسم الله الرحمن ومع الثالثة بسم الله الرحمن الرحيم، فلم أر لاستحباب ذلك دليلا، والتكرار قد بين هو وجهه بقوله حتى لا يشغله الأكل عن ذكر الله. وأما قوله: "والأكل باليمين" فيأتي البحث فيه، وهو يتناول من يتعاطى ذلك بنفسه، وكذا بغيرة بأن يحتاج إلى أن يلقمه غيره ولكنه بيمينه لا بشماله. قوله: "أخبرنا سفيان، قال الوليد بن كثير أخبرني" كذا وقع هنا وهو من تأخير الصيغة عن الراوي، وهو جائز. وقد أخرجه الحميدي في مسنده وأبو نعيم في "المستخرج" من طريقه عن سفيان قال: "حدثنا الوليد بن كثير" وأخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن خلاد عن سفيان عن الوليد بالعنعنة ثم قال آخره: "فسألوه عن إسناده فقال: حدثني الوليد بن كثير" ولعل هذا هو السر في سياق علي بن عبد الله له على هذه الكيفية، ولسفيان بن عيينة في هذا الحديث سند آخر أخرجه النسائي عن محمد بن منصور وابن ماجه عن محمد بن الصباح كلاهما عن سفيان عن هشام عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة، وقد اختلف على هشام في سنده فكأن البخاري عرج عن هذه الطريق، لذلك. قوله: "عمر بن أبي سلمة" أي ابن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، واسم أبي سلمة عبد الله، وأم عمر المذكور هي أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء في آخر الباب الذي يليه وصفه بأنه "ربيب النبي صلى الله عليه وسلم:" قوله: "كنت غلاما" أي دون البلوغ، يقال للصبي من حين يولد إلى أن يبلغ الحلم غلام، وقد ذكر ابن عبد البر أنه ولد في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة بأرض الحبشة، وتبعه غير واحد، وفيه نظر بل الصواب أنه ولد قبل ذلك، فقد صح في حديث عبد الله بن الزبير أنه قال: "كنت أنا وعمر بن أبي سلمة مع النسوة يوم الخندق، وكان أكبر مني بسنتين" انتهى. ومولد ابن الزبير في السنة الأولى على الصحيح فيكون مولد عمر قبل الهجرة بسنتين. قوله: "في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم" بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم، أي في تربيته وتحت نظره وأنه يربيه في حضنه تربية الولد، قال عياض: الحجر يطلق على الحضن وعلى الثوب فيجوز فيه الفتح والكسر، وإذا أريد به معنى الحضانة فبالفتح لا غير، فإن أريد به المنع من التصرف فبالفتح في المصدر

(9/521)


وبالكسر في الاسم لا غير. قوله: "وكانت يدي تطيش في الصحفة" أي عند الأكل، ومعنى تطيش - وهو بالطاء المهملة والشين المعجمة بوزن تطير تتحرك فتميل إلى نواحي القصعة ولا تقتصر على موضع واحد، قاله الطيبي قال: والأصل أطيش بيدي فأسند الطيش إلى يده مبالغة. وقال غيره: معنى تطيش تخف وتسرع وسيأتي في الباب الذي يليه بلفظ: "أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاما فجعلت آكل من نواحي الصحفة" وهو يفسر المراد، والصحفة ما تشبع خمسة ونحوها، وهي أكبر من القصعة. ووقع في رواية الترمذي من طريق عروة "عن عمر بن أبي سلمة أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده طعام فقال: ادن يا بني" ويأتي في الرواية التي في آخر الباب الذي يليه "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بطعام وعنده ربيبه" والجمع بينهما أن مجيء الطعام وافق دخوله. قوله: "يا غلام سم الله" قال النووي: أجمع العلماء على استحباب التسمية على الطعام في أوله، وفي نقل الإجماع على الاستحباب نظر، إلا إن أريد بالاستحباب أنه راجح الفعل، وإلا فقد ذهب جماعة إلى وجوب ذلك، وهو قضية القول بإيجاب الأكل باليمين لأن صيغة الأمر بالجميع واحدة. قوله: "وكل بيمينك ومما يليك" قال شيخنا في "شرح الترمذي". حمله أكثر الشافعية على الندب، وبه جزم الغزالي ثم النووي، لكن نص الشافعي في "الرسالة" وفي موضع آخر من "الأم" على الوجوب. قلت: وكذا ذكره عنه الصيرفي في "شرح الرسالة" ونقل "البويطي في مختصره" أن الأكل من رأس الثريد والتعريس على الطريق والقران في التمر وغير ذلك مما ورد الأمر بضده حرام، ومثل البيضاوي في منهاجه للندب بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مما يليك" وتعقبه تاج الدين السبكي في شرحه بأن الشافعي نص في غير موضع على أن من أكل مما لا يليه عالما بالنهي كان عاصيا آثما. قال: وقد جمع والدي نظائر هذه المسألة في كتاب له سماه "كشف اللبس عن المسائل الخمس" ونصر القول بأن الأمر فيها للوجوب. قلت: ويدل على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد في الأكل بالشمال ففي صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل بشماله فقال: كل بيمينك قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت. فما رفعها إلى فيه بعد" وأخرج الطبراني من حديث سبيعة الأسلمية من حديث عقبة بن عامر "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى سبيعة الأسلمية تأكل بشمالها فقال: أخذها داء غزة، فقال: إن بها قرحة، قال: وإن، فمرت بغزة فأصابها طاعون فماتت" وأخرج محمد بن الربيع الجيزي في "مسند الصحابة الذين نزلوا مصر" وسنده حسن وثبت النهي عن الأكل بالشمال وأنه من عمل الشيطان من حديث ابن عمر ومن حديث جابر عند مسلم وعند أحمد بسند حسن عن عائشة رفعته "من أكل بشماله أكل معه الشيطان" الحديث. ونقل الطيبي أن معنى قوله: "إن الشيطان يأكل بشماله أي يحمل أولياءه من الإنس على ذلك ليضاد به عباد الله الصالحين" قال الطيبي: وتحريره لا تأكلوا بالشمال، فإن فعلتم كنتم من أولياء الشيطان، فإن الشيطان يحمل أولياءه على ذلك انتهي. وفيه عدول عن الظاهر، والأولى حمل الخبر على ظاهره وأن الشيطان يأكل حقيقة لأن العقل لا يحيل ذلك، وقد ثبت الخبر به فلا يحتاج إلى تأويله، وحكى القرطبي في ذلك احتمالين ثم قال: والقدرة صالحة. ثم ذكر من عند مسلم أن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه، قال: وهذا عبارة عن تناوله، وقيل معناه استحسانه رفع البركة من ذلك الطعام إذا لم يذكر اسم الله قال القرطبي وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الشيطان يأكل بشماله" ظاهره أن من فعل ذلك تشبه بالشيطان، وأبعد وتعسف من أعاد الضمير في شماله على الآكل، قال النووي: في هذه الأحاديث استحباب الأكل والشرب باليمين وكراهة ذلك بالشمال، وكذلك كل أخذ وعطاء كما وقع في بعض طرق حديث ابن عمر،

(9/522)


وهذا إذا لم يكن عذر من مرض أو جراحة فإن كان فلا كراهة كذا قال، وأجاب عن الإشكال في الدعاء على الرجل الذي فعل ذلك واعتذر فلم يقبل عذره بأن عياضا ادعى أنه كان منافقا، وتعقبه النووي بأن جماعة ذكروه في الصحابة وسموه بسرا بضم الموحدة وسكون المهملة، واحتج عياض بما ورد في خبره أن الذي حمله على ذلك الكبر، ورده النووي بأن الكبر والمخالفة لا يقتضي النفاق لكنه معصية إن كان الأمر أمر إيجاب. قلت: ولم ينفصل عن اختياره أن الأمر أمر ندب، وقد صرح ابن العربي بإثم من أكل بشماله، واحتج بأن كل فعل ينسب إلى الشيطان حرام. وقال القرطبي هذا الأمر على جهة الندب لأنه من باب تشريف اليمين على الشمال لأنها أقوى في الغالب وأسبق للأعمال وأمكن في الأشغال، وهي مشتقة من اليمن، وقد شرف الله أصحاب الجنة إذ نسبهم إلى اليمين، وعكسه في أصحاب الشمال قال: وعلى الجملة فاليمين وما نسب إليها وما اشتق منها محمود لغة وشرعا ودينا، والشمال على نقيض ذلك، وإذا تقرر ذلك فمن الآداب المناسبة لمكارم الأخلاق والسيرة الحسنة عند الفضلاء اختصاص اليمين بالأعمال الشريفة والأحوال النظيفة. وقال أيضا: كل هذه الأوامر من المحاسن المكملة والمكارم المستحسنة والأصل فيما كان من هذا الترغيب والندب قال: وقوله: "كل مما يليك" محله ما إذا كان الطعام نوعا واحدا، لأن كل أحد كالحائز لما يليه من الطعام، فأخذ الغير له تعد عليه، مع ما فيه من تقذر النفس مما خاضت فيه الأيدي، ولما فيه من إظهار الحرص والنهم، وهو مع ذلك سوء أدب بغير فائدة، أما إذا اختلفت الأنواع فقد أباح ذلك العلماء. كذا قال. قوله: "فما زالت تلك طعمتي بعد" بكسر الطاء أي صفة أكلي، أي لزمت ذلك وصار عادة لي. قال الكرماني: وفي بعض الروايات بالضم يقال طعم إذا أكل والطعمة الأكلة، والمراد جميع ما تقدم من الابتداء بالتسمية والأكل باليمين مما يليه. وقوله بعد بالضم على البناء أي استمر ذلك من صنيعي في الأكل، وفي الحديث أنه ينبغي اجتناب الأعمال التي تشبه أعمال الشياطين والكفار، وأن للشيطان يدين، وأنه يأكل ويشرب ويأخذ ويعطي. وفيه جواز ا الدعاء على من خالف الحكم الشرعي. وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في حال الأكل. وفيه استحباب تعليم أدب الأكل والشرب. وفيه منقبة لعمر بن أبي سلمة لامتثاله الأمر ومواظبته على مقتضاه.

(9/523)


3- باب الأَكْلِ مِمَّا يَلِيهِ
وَقَالَ أَنَسٌ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ
5377- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدِّيلِيِّ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ ابْنُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَكَلْتُ يَوْمًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ نَوَاحِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلْ مِمَّا يَلِيكَ"
5378- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ وَمَعَهُ رَبِيبُهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ"
قوله: "باب الأكل مما يليه. وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه" هذا التعليق

(9/523)


طرف من حديث الجعد أبي عثمان عن أنس في قصة الوليمة على زينب بنت جحش، وقد تقدم في "باب الهدية للعروس" في أوائل النكاح معلقا من طريق إبراهيم بن طهمان عن الجعد، وفيه: "ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون ويقول لهم: اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه" وقد ذكرت هناك من وصله، وسيأتي أصله موصولا بعد بابين من وجه آخر عن أنس لكن ليس فيه مقصود الترجمة، وعزاه شيخنا ابن الملقن تبعا لمغلطاي لتخريج ابن أبي عاصم في الأطعمة من طريق بكر وثابت عن أنس، وهو ذهول منهما، فليس في الحديث المذكور مقصود الترجمة، وهو عند أبي يعلى والبزار أيضا من الوجه الذي أخرجه ابن أبي عاصم. قوله: "حدثني محمد بن جعفر" يعني ابن أبي كثير المدني، وحلحلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة ثم لام مفتوحة. قوله: "عن وهب بن كيسان أبي نعيم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا رواه أصحاب مالك في "الموطأ" عنه وصورته الإرسال وقد وصله خالد بن مخلد ويحيى بن صالح الوحاظي فقالا "عن مالك عن وهب بن كيسان عن جابر" وهو منكر، وإنما استجاز البخاري إخراجه - وإن كان المحفوظ فيه عن مالك الإرسال - لأنه تبين بالطريق الذي قبله صحة سماع وهب بن كيسان عن عمر بن أبي سلمة، واقتضى ذلك أن مالكا قصر بإسناده حيث لم يصرح بوصله وهو في الأصل موصول، ولعله وصله مرة فحفظ ذلك عنه خالد ويحيى بن صالح وهما ثقتان، أخرج ذلك الدار قطني في "الغرائب" عنهما، واقتصر ابن عبد البر في "التمهيد" على ذكر رواية خالد بن مخلد وحده.

(9/524)


4- باب مَنْ تَتَبَّعَ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ مَعَ صَاحِبِهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ كَرَاهِيَةً
5379- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ قَالَ أَنَسٌ فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ قَالَ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ"
قوله: "باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه" حوالي بفتح اللام وسكون التحتانية أي جوانب، يقال رأيت الناس حوله وحوليه وحواليه واللام مفتوحة في الجميع ولا يجوز كسرها. قوله: "إذا لم يعرف منه كراهية" ذكر فيه حديث أنس في تتبع النبي صلى الله عليه وسلم الدباء من الصحفة، وهذا ظاهره يعارض الذي قبله في الأمر بالأكل مما يليه، فجمع البخاري بينهما يحمل الجواز على ما إذا علم رضا من يأكل معه، ورمز بذلك إلى تضعيف حديث عكراش الذي أخرجه الترمذي حيث جاء فيه التفصيل بين ما إذا كان لونا واحدا فلا يتعدى ما يليه، أو أكثر من لون فيجوز، وقد حمل بعض الشراح فعله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على ذلك فقال: كان الطعام مشتملا على مرق ودباء وقديد فكان يأكل مما يعجبه وهو الدباء ويترك ما لا يعجبه وهو القديد، وحمله الكرماني كما تقدم له في "باب الخياط" من كتاب البيع على أن الطعام كان للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، قال: فلو كان له ولغيره لكان المستحب أن يأكل مما يليه قلت: إن أراد بالوحدة أن غيره لم يأكل معه فمردود لأن أنسا أكل معه، وإن أراد به المالك وأذن لأنس أن يأكل معه فليطرده في كل مالك ومضيف، وما أظن أحدا يوافقه عليه. وقد نقل ابن بطال عن مالك جوابا يجمع الجوابين

(9/524)


المذكورين فقال: إن المؤاكل لأهله وخدمه يباح له أن يتبع شهوته حيث رآها إذا علم أن ذلك لا يكره منه، فإذا علم كراهتهم لذلك لم يأكل إلا مما يليه. وقال أيضا إنما جالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطعام لأنه علم أنه أحدا لا يتكره ذلك منه ولا يتقذره، بل كانوا يتباكون بريقه ومماسة يده، بل كانوا يتبادرون إلى نخامته فيتدلكون بها، فكذلك من لم يتقذر من مؤاكله يجوز له أن تجول يده في الصحفة. وقال ابن التين: إذا أكل المرء مع خادمه وكان في الطعام نوع منفرد جاز له أن ينفرد به. وقال في موضع آخر: إنما فعل ذلك لأنه كان يأكل وحده فسيأتي في رواية أن الخياط أقبل على عمله. قلت: هي رواية ثمامة عن أنس كما سيأتي بعد أبواب، لكن لا يثبت المدعي لأن أنسا أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "إن خياطا" لم أقف على اسمه لكن في رواية ثمامة عن أنس أنه كان غلام النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ: "إن مولى له خياطا دعاه". قوله: "لطعام صنعه" كان الطعام المذكور ثريدا كما سأبينه. قوله: "قال أنس فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يتتبع الدباء" هكذا أورده مختصرا، وأخرجه مسلم عن قتيبة شيخ البخاري فيه بتمامه، وقد تقدم في البيوع عن عبد الله بن يوسف عن مالك بالزيادة ولفظه: "فقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزا ومرقا فيه دباء وقديد" وأفاد شيخنا ابن الملقن عن "مستخرج الإسماعيلي:" أن الخبز المذكور كان خبز شعير وغفل عما أورده البخاري في "باب المرق" كما سيأتي عن عبد الله بن مسلمة عن مالك بلفظ: "خبز شعير" والثاني مثله، وكذا أورده بعد باب آخر عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك بتمامه، وهو عند مسلم عن قتيبة أيضا، وقد أفرد البخاري لكل واحدة ترجمة، وهي المرق والدباء والثريد والقديد. قوله: "الدباء" بضم الدال المهملة وتشديد الموحدة ممدود ويجوز القصر حكاه القزاز وأنكره القرطبي هو القرع، وقيل خاص بالمستدير منه، ووقع في "شرح المهذب للنووي" أنه القرع اليابس، وما أظنه إلا سهوا، وهو اليقطين أيضا واحده دباة ودبة، وكلام أبي عبيد الهروي يقتضي أن الهمزة زائدة فإنه أخرجه في "دبب" وأما الجوهري فأخرجه في المعتل على أن همزته منقلبة، وهو أشبه بالصواب، لكن قال الزمخشري: لا ندري هي منقلبة عن واو أو ياء، ويأتي في رواية ثمامة عن أنس "فلما رأيت ذلك جعلت أجمعه بين يديه. وفي رواية حميد عن أنس "فجعلت أجمعه وأدنيه منه". قوله:" فلم أزل أحب الدباء من يومئذ" في رواية ثمامة "قال أنس: لا أزال أحب الدباء بعدما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع ما صنع" وفي رواية مسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس فجعلت ألقيه إليه ولا أطعمه "وله من طريق معمر عن ثابت وعاصم عن أنس فذكر الحديث: "قال ثابت فسمعت أنسا يقول: فما صنع لي طعام بعد أقدر على أن يصنع فيه دباء إلا صنع"، ولابن ماجه بسند صحيح عن حميد عن أنس قال: "بعثت معي أم سليم بمكتل فيه رطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجده، وخرج قريبا إلى مولى له دعاه فصنع له طعاما، فأتيته وهو يأكل فدعاني فأكلت معه، قال وصنع له ثريدة بلحم وقرع فإذا هو يعجبه القرع، فجعلت أجمعه فأدنيه منه" الحديث. وأخرج مسلم بعضه من هذا الوجه بلفظ: "كان يعجبه القرع" وللنسائي: "كان يحب القرع ويقول: إنها شجرة أخي يونس" ويجمع بين قوله في هذه الرواية: "فلم أجده" وبين حديث الباب: "ذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنه أطلق المعية باعتبار ما آل إليه الحال، ويحتمل تعدد القصة على بعد، وفي الحديث جواز أكل الشريف طعام من دونه من محترف وغيره وإجابة دعوته، ومؤاكلة الخادم، وبيان ما كان في النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع واللطف بأصحابه وتعاهدهم بالمجيء إلى منازلهم، وفيه الإجابة إلى الطعام ولو كان قليلا ومناولة الضيفان بعضهم بعضا مما

(9/525)


وضع بين أيديهم، وإنما يمتنع من يأخذ من قدام الآخر شيئا لنفسه أو لغيره، وسيأتي البحث فيه في باب مفرد. وفيه جواز ترك المضيف الأكل مع الضيف لأن في رواية ثمامة عن أنس في حديث الباب: "أن الخياط قدم لهم الطعام ثم أقبل على عمله" فيؤخذ جواز ذلك من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون الطعام كان قليلا فآثرهم به، ويحتمل أن يكون كان مكتفيا من الطعام أو كان صائما أو كان شغله قد تحتم عليه تكميله. وفيه الحرص على التشبه بأهل الخير والاقتداء بهم في المطاعم وغيرها. وفيه فضيلة ظاهرة لأنس لاقتفائه أثر النبي صلى الله عليه وسلم حتى في الأشياء الجبلية، وكان يأخذ نفسه باتباعه فيها، رضي الله عنه.

(9/526)


باب التين في الأكل وغيره
...
5- باب التَّيَمُّنِ فِي الأَكْلِ وَغَيْرِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلْ بِيَمِينِكَ
5380- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي طُهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَكَانَ قَالَ بِوَاسِطٍ قَبْلَ هَذَا فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ"
قوله: "باب التيمن في الأكل وغيره" ذكر في حديث عائشة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن" الحديث، وهو ظاهر فيما ترجم له، وظن بعضهم أن في هذه الترجمة تكرارا لأنه تقدم في قوله: "باب التسمية على الطعام، والأكل باليمين" وقد أجاب عنه ابن بطال بأن هذه الترجمة أعم من الأولى، لأن الأولى لفعل الأكل فقط وهذه لجميع الأفعال فيدخل فيه الأكل والشرب بطريق التعميم ا هـ، ومن جملة العموم عموم متعلقات الأكل كالأكل من جهة اليمين وتقديم من على اليمين في الأتحاف ونحوه على من على الشمال وغير ذلك. قوله: "قال عمر بن أبي سلمة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: كل بيمينك" كذا ثبت هذا التعليق في رواية أبي ذر عن الحموي والكشميهني وسقط للباقين وهو الأشبه وقد مضى موصولا قبل باب، والذي يظهر لي أن محله بعد الترجمة التي تليه. قوله: "وكان قال بواسط قبل هذا في شأنه كله" القائل هو شعبة، والمقول عنه أنه قال بواسط هو أشعث وهو ابن أبي الشعثاء، وقد تقدم بيان ذلك مع مباحث الحديث في "باب التيمن" من كتاب الوضوء. وقال الكرماني قال بعض المشايخ: القائل بواسط هو أشعث، كذا نقل، وليس بصواب ممن قال.

(9/526)


6- باب مَنْ أَكَلَ حَتَّى شَبِعَ
5381- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِطَعَامٍ قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِمَنْ مَعَهُ قُومُوا فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ أَبُو

(9/526)


باب:(ليس على الأعمى حرج إلى قوله تعالى لعلكم تعقلون) والنهد والإجتماع على الطعام
...
7- باب {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ - إِلَى قَوْلِهِ- لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} والنهد والإجتماع على الطعام
5384- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ بُشَيْرَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ قَالَ يَحْيَى وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ فَمَا أُتِيَ إِلاَّ بِسَوِيقٍ فَلُكْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ قَالَ سُفْيَانُ سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَوْدًا وَبَدْءًا"
قوله: "باب {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} إلى هنا للأكثر، وساق في رواية أبي ذر الصنفين الآخرين ثم قال: "الآية" وأراد بقبة الآية التي في سورة النور لا التي في سورة الفتح لأنها المناسبة لأبواب الأطعمة، ويؤيد ذلك أنه وقع عند الإسماعيلي إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وكذا لبعض رواة الصحيح. قوله: "والنهد والاجتماع على الطعام" ثبتت هذه الترجمة في رواية المستملي وحده، والنهد بكسر النون وسكون الهاء تقدم تفسيره في أول الشركة حيث قال: "باب الشركة في الطعام والنهد" وتقدم هناك بيان حكمه، وذكر فيه عدة أحاديث في ذلك، ثم ذكر حديث سويد بن النعمان وفيه: "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام فلم يؤت إلا بسويق الحديث:" وليس هو ظاهرا في المراد من النهد لاحتمال أن يكون ما جيء بالسويق إلا من جهة واحدة، لكن مناسبته لأصل الترجمة ظاهرة في اجتماعهم على لوك السويق من غير تمييز بين أعمى وبصير وبين صحيح ومريض، وحكى ابن بطال عن المهلب قال: مناسبة الآية لحديث سويد ما ذكره أهل التفسير أنهم كانوا إذا اجتمعوا للأكل عزل الأعمى على حدة والأعرج على حدة والمريض على حده لتقصيرهم عن أكل الأصحاء فكانوا يتحرجون أن يتفضلوا عليهم وهذا عن ابن الكلبي. وقال عطاء بن يزيد: كان الأعمى يتحرج أن يأكل طعام غيره لجعله يده في غير موضعها، والأعرج كذلك لاتساعه في موضع الأكل، والمريض لرائحته، فنزلت هذه الآية، فأباح لهم الأكل مع غيرهم. وفي حديث سويد معنى الآية، لأنهم جعلوا أيديهم فيما حضر من الزاد سواء، مع أنه لا يمكن أن يكون أكلهم بالسواء لاختلاف أحوال الناس في ذلك، وقد سوغ لهم الشارع ذلك مع ما فيه من الزيادة والنقصان، فكان مباحا والله أعلم. ا هـ كلامه. وقد جاء في سبب نزول الآية أثر آخر من وجه صحيح، قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو أخيه أو قريبه، فكان الزمنى يتحرجون من ذلك ويقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت الآية رخصة لهم" وقال ابن المنير: موضع المطابقة من الترجمة وسط الآية وهي قوله تعالى :{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} وهي أصل في جواز أكل المخارجة، ولهذا ذكر في الترجمة النهد، والله أعلم.

(9/529)


8- باب الْخُبْزِ الْمُرَقَّقِ وَالأَكْلِ عَلَى الْخِوَانِ وَالسُّفْرَةِ
8385- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ خَبَّازٌ لَهُ فَقَالَ مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزًا مُرَقَّقًا وَلاَ شَاةً مَسْمُوطَةً حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ"
[الحديث 5385- طرفاه في: 5421، 6357]
5386- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يُونُسَ قَالَ عَلِيٌّ هُوَ الإِسْكَافُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ عَلَى سُكْرُجَةٍ قَطُّ وَلاَ خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ وَلاَ أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ قِيلَ لِقَتَادَةَ فَعَلاَمَ كَانُوا يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ"
[الحديث 5386- طرفاه في: 5415، 6455]
5387- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْنِي بِصَفِيَّةَ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ أَمَرَ بِالأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ فَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ وَالأَقِطُ وَالسَّمْنُ وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ أَنَسٍ بَنَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ"
5388- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ كَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ يُعَيِّرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُونَ يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ فَقَالَتْ لَهُ أَسْمَاءُ يَا بُنَيَّ إِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ النِّطَاقَانِ إِنَّمَا كَانَ نِطَاقِي شَقَقْتُهُ نِصْفَيْنِ فَأَوْكَيْتُ قِرْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحَدِهِمَا وَجَعَلْتُ فِي سُفْرَتِهِ آخَرَ قَالَ فَكَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ إِذَا عَيَّرُوهُ بِالنِّطَاقَيْنِ يَقُولُ إِيهًا وَالإِلَهِ تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا"
5389- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا فَدَعَا بِهِنَّ فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَتَرَكَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْمُسْتَقْذِرِ لَهُنَّ وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ أَمَرَ بِأَكْلِهِنَّ"
قوله: "باب الخبز المرقق "والأكل على الخوان والسفرة" أما الخبز المرقق فقال عياض قوله مرققا أي ملينا محسنا كخبز الحواري وشبهه، والترقيق التليين، ولم يكن عندهم مناخل. وقد يكون المرقق الرقيق الموسع ا هـ. وهذا هو المتعارف، وبه جزم ابن الأثير قال: الرقاق الرقيق مثل طوال وطويل، وهو الرغيف الواسع الرقيق، وأغرب ابن التين فقال: هو السميد وما يصنع منه من كعك وغيره. وقال ابن الجوزي: هو الخفيف كأنه مأخوذ من

(9/530)


الرقاق وهي الخشبة التي يرقق بها. وأما الخوان فالمشهور فيه كسر المعجمة، ويجوز ضمها، وفيه لغة ثالثة إخوان بكسر الهمزة وسكون الخاء، وسئل ثعلب: هل يسمى الخوان لأنه يتخون ما عليه أي ينتقص؟ فقال: ما يبعد. قال الجواليقي: والصحيح أنه أعجمي معرب، ويجمع على أخونة في القلة، وخون مضموم الأول في الكثرة. وقال غيره: الخوان المائدة ما لم يكن عليها طعام، وأما السفرة فاشتهرت لما يوضع عليها الطعام، وأصلها الطعام نفسه. قوله: "كنا عند أنس وعنده خباز له" لم أقف على تسميته، ووقع عند الإسماعيلي عن قتادة "كنا نأتي أنسا وخبازه قائم" زاد ابن ماجه: "وخوانه موضوع، فيقول: كلوا" وفي الطبراني من طريق راشد بن أبي راشد قال: "كان لأنس غلام يعمل له النقانق يطبخ له لونين طعاما ويخبز له الحواري ويعجنه بالسمن" ا هـ. والحواري بضم المهملة وتشديد الواو وفتح الراء: الخالص الذي ينخل مرة بعد مرة. قوله: "ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزا مرققا ولا شاة مسموطة" المسموط الذي أزيل شعره بالماء المسخن وشوي بجلده أو يطبخ، وإنما يصنع ذلك في الصغير السن الطري، وهو من فعل المترفين من وجهين: أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقي لازداد ثمنه، وثانيهما أن المسلوخ ينتفع بجلده في اللبس وغيره والسمط يفسده، وقد جرى ابن بطال على أن المسموط المشوي، فقال ما ملخصه: يجمع بين هذا وبين حديث عمرو بن أمية "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يجتز من كتف شاة" وحديث أم سلمة الذي أخرجه الترمذي "أنها قربت للنبي صلى الله عليه وسلم جنبا مشويا فأكل منه" بأن يقال: محتمل أن يكون لم يتفق أن تسمط له شاة بكمالها، لأنه قد احتز من الكتف مرة ومن الجنب أخرى، وذلك لحم مسموط. أو يقال: إن أنسا قال: "لا أعلم" ولم يقطع به، ومن علم حجة على من لم يعلم. وتعقبه ابن المنير بأنه ليس في حز الكتف ما يدل على أن الشاة كانت مسموطة، بل إنما حزها لأن العرب كانت عادتها غالبا أنها لا تنضج اللحم فاحتيج إلى الحز، قال: ولعل ابن بطال لما رأى البخاري ترجم بعد هذا "باب شاة مسموطة، والكتف والجنب" ظن أن مقصوده إثبات أنه أكل السميط. قلت: ولا يلزم أيضا من كونها مشوية واحتز من كتفها أو جنبها أن تكون مسموطة؛ فإن شي المسلوخ أكثر من شي المسموط، لكن قد ثبت أنه أكل الكراع وهو لا يؤكل إلا مسموطا. وهذا لا يرد على أنس في نفي رواية الشاة المسموطة، وقد وافقه أبو هريرة على نفي أكل الرقاق أخرجه ابن ماجه من طريق ابن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أنه "زار قومه فأتوه برقاق فبكى وقال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بعينه" قال الطيبي: قول أنس "ما أعلم رأى النبي صلى الله عليه وسلم إلخ" نفى العلم وأراد نفي المعلوم، وهو من باب نفي الشيء بنفي لازمه، وإنما صح هذا من أنس لطول لزومه النبي صلى الله عليه وسلم وعدم مفارقته له إلى أن مات. قوله: "عن يونس قال عن علي: هو الإسكاف" علي هو شيخ البخاري فيه وهو ابن المديني "ومراده أن يونس وقع في السند غير منسوب فنسبه علي ليتميز، فإن في طبقته يونس بن عبيد البصري أحد الثقات المكثرين، وقد وقع في رواية ابن ماجه عن محمد بن مثنى عن معاذ بن هشام عن أبيه عن يونس بن أبي الفرات الإسكاف، وليس ليونس هذا في البخاري إلا هذا الحديث الواحد، وهو بصري وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. وقال ابن عدي: ليس بالمشهور. وقال ابن سعد: كان معروفا وله أحاديث. وقال ابن حبان. لا يجوز أن يحتج به، كذا قال ومن وثقه أعرف بحاله من ابن حبان، والراوي عنه هشام هو الدستوائي وهو من المكثرين عن قتادة وكأنه لم يسمع منه هذا، وفي الحديث رواية الأقران لأن هشاما

(9/531)


ويونس من طبقة واحدة، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة وصرح بالتحديث كما سيأتي في الرقاق، لكن ذكر ابن عدي أن يزيد بن زريع رواه عن سعيد فقال: "عن يونس عن قتادة" فيحتمل أن يكون سمعه أولا عن قتادة بواسطة ثم حمله عنه بغير واسطة فكان يحدث به على الوجهين. قوله: "عن أنس" هذا هو المحفوظ ورواه سعيد بن بشر عن قتادة فقال: "عن الحسن قال دخلنا على عاصم ابن حدرة فقال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان قط" الحديث أخرجه ابن منده في "المعرفة" فإن كان سعيد بن بشر حفظه فهو حديث آخر لقتادة لاختلاف مساق الخبرين. قوله: "على سكرجة" بضم السين والكاف والراء الثقيلة بعدها جيم مفتوحة، قال عياض: كذا قيدناه ونقل عن ابن مكي أنه صوب فتح الراء، قلت: وبهذا جزم التوربشتي وزاد: لأنه فارس معرب، والراء في الأصل مفتوحة ولا حجة في ذلك لأن الاسم الأعجمي إذا نطقت به العرب لم تبقه على أصله غالبا. وقال ابن الجوزي: قاله لنا شيخنا أبو منصور اللغوي يعني الجواليقي بفتح الراء، قال: وكان بعض أهل اللغة يقول: الصواب أسكرجة وهي فارسية معربة، وترجمتها مقرب الخل، وقد تكلمت بها العرب قال أبو علي فإن حقرت حذفت الجيم والراء1، وقلت أسكر، ويجوز إشباع الكاف حتى تزيد ياء، وقياس ما ذكره سيبويه في "بريهم بريهيم" أن يقال في سكيرجة سكيريجة، والذي سبق أولى. قال ابن مكي وهي صحاف صغار يؤكل فيها، ومنها الكبير والصغير، فالكبيرة تحمل قدر ست أواق وقيل ما بين ثلثي أوقية إلى أوقية، قال: ومعنى ذلك أن العجم كانت تستعمله في الكواميخ والجوارش للتشهي والهضم، وأغرب الداودي فقال: السكرجة قصعة مدهونة، ونقل ابن قرقول عن غيره أنها قصعة ذات قوائم من عود كمائدة صغيرة والأول أولى، قال شيخنا في "شرح الترمذي" : تركه الأكل في السكرجة إما لكونها لم تكن تصنع عندهم إذ ذاك أو استصغارا لها لأن عادتهم الاجتماع على الأكل أو لأنها - كما تقدم - كانت تعد لوضع الأشياء التي تعين على الهضم ولم يكونوا غالبا يشبعون، فلم يكن لهم حاجة بالهضم. قوله: "قيل لقتادة" القائل هو الراوي. قوله: "فعلام" كذا للأكثر ووقع في رواية المستملي بالإشباع. قوله: "يأكلون" كذا عدل عن الواحد إلى الجمع، إشارة إلى أن ذلك لم يكن مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده بل كان أصحابه يقتفون أثره ويقتدون بفعله. قوله: "على السفر" جمع سفرة وقد تقدم بيانها في الكلام على حديث عائشة الطويل في الهجرة إلى المدينة، وأن أصلها الطعام الذي يتخذه المسافر، وأكثر ما يصنع في جلد فنقل اسم الطعام إلى ما يوضع فيه كما سميت المزادة رواية ثم ذكر المصنف حديث أنس في قصة صفية فساقه مختصرا، وقد ساقه في غزوة خيبر بالإسناد الذي أورده هنا بعينه أتم من سياقه هنا ولفظه: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبنى عليه بصفية" وزاد فيه أيضا بين قوله إلى وليمته وبين قوله أمر بالإنطاع "وما كان فيها من خبز ولا لحم وما كان فيها إلا أن أمر" فذكره وزاد بعد قوله والسمن "فقال المسلمون إحدى أمهات المؤمنين" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك. قوله: "وقال عمرو عن أنس: بنى بها النبي صلى الله عليه وسلم ثم صنع حيسا في نطع" هو أيضا طرف من حديث وصله المؤلف في المغازي مطولا من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن أنس بن مالك بتمامه. قوله: "هشام عن أبيه وعن وهب بن كيسان" هشام هو ابن عروة حمل هذا الحديث عن أبيه وعن وهب ابن كيسان، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أحمد بن يونس عن أبي معاوية فقال فيه: "عن هشام عن وهب بن كيسان" فقط وتقدم أصل هذا الحديث في "باب الهجرة
ـــــــ
1 لعله "والهاء"

(9/532)


إلى المدينة" من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه وعن امرأته فاطمة بنت المنذر كلاهما عن أسماء، وهو محمول على أن هشاما حمله عن أبيه وعن امرأته وعن وهب بن كيسان ولعل عنده عن بعضهم ما ليس عند الآخر، فإن الرواية التي تقدمت ليس فيها قوله يعيرون وهو بالعين المهملة من العار، وابن الزبير هو عبد الله، والمراد بأهل الشام عسكر الحجاج بن يوسف حيث كانوا يقاتلونه من قبل عبد الملك بن مروان، أو عسكر الحصين بن نمير الذين قاتلوه قبل ذلك من قبل يزيد ابن معاوية. قوله: "يعيرونك بالنطاقين" قيل الأفصح أن يعدي التعيير بنفسه تقول عيرته كذا، وقد سمع هكذا مثل ما هنا. قوله: "وهل تدري ما كان النطاقين" كذا أورده بعض الشراح، وتعقبه بأن الصواب النطاقان بالرفع، وأنا لم أقف عليه في النسخ إلا بالرفع، فإن ثبت رواية بغير الألف أمكن توجيهها، ويحتمل أن يكون كان في الأصل "وهل تدري ما كان شأن النطاقين" فسقط لفظ شأن أو نحوه. قوله: "إنما كان نطاقي شققته نصفين فأوكيت" تقدم في الهجرة إلى المدينة أن أبا بكر الصديق هو الذي أمرها بذلك لما هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. قوله: "يقول إيها" كذا للأكثر ولبعضهم "ابنها" بموحدة ونون وهو تصحيف، وقد وجه بأنه مقول الراوي والضمير لأسماء وابنها هو ابن الزبير، وأغرب ابن التين فقال: هو في سائر الروايات "ابنها" وذكره الخطابي بلفظ: "إيها" ا هـ و قوله: "والإله" في رواية أحمد بن يونس "إيها ورب الكعبة" قال الخطابي إيها بكسر الهمزة وبالتنوين معناها الاعتراف بما كانوا يقولونه والتقرير له، تقول العرب في استدعاء القول من الإنسان: إيها وإيه بغير تنوين، وتعقب بأن الذي ذكره ثعلب وغيره إذا استزدت من الكلام قلت إيه، وإذا أمرت بقطعه قلت إيها ا هـ. وليس هذا الاعتراض بجيد لأن، غير ثعلب قد جزم بأن إيها كلمة استزادة، وارتضاه وحرره بعضهم فقال: إيها بالتنوين، للاستزادة وبغير التنوين لقطع الكلام، وقد تأتي أيضا بمعنى كيف. قوله: "تلك شكاة ظاهر عنك عارها" شكاة بفتح الشين المعجمة معناه رفع الصوت بالقول القبيح، ولبعضهم بكسر الشين، والأول أولى. وهو مصدر شكا يشكو شكاية وشكوى وشكاة، وظاهر أي زائل، قال الخطابي أي ارتفع عنك فلم يعلق بك، والظهور يطلق على الصعود والارتفاع، ومن هذا قول الله تعالى :{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أي يعلوا عليه منه {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} قال: وتمثل ابن الزبير بمصراع بيت لأبي ذؤيب الهذلي وأوله "وعيرها الواشون أني أحبها" يعني لا بأس بهذا القول ولا عار فيه، قال مغلطاي: وبعد بيت الهذلي:
فإن أعتذر منها فإني مكذب
...
وإن تعتذر يردد عليك اعتذارها
وأول هذه القصيدة:
هل الدهر إلا ليلة ونهارها
...
وإلا طلوع الشمس ثم غيارها
أبى القلب إلا أم عمرو فأصبحت
...
تحرق ناري بالشكاة ونارها
وبعده "وعيرها الواشون أني أحبها" البيت، وهي قصيدة تزيد على ثلاثين بيتا. وتردد ابن قتيبة هل أنشأ ابن الزبير هذا المصراع أو أنشده متمثلا به؟ والذي جزم به غيره الثاني وهو المعتمد، لأن هذا مثل مشهور، وكان ابن الزبير يكثر التمثل بالشعر، وقلما أنشأه. ذكر حديث ابن عباس في أكل خالد الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي شرحه بعد في كتاب الصيد والذبائح. وقوله: "على مائدته" أي الشيء الذي يوضع على الأرض صيانة للطعام كالمنديل والطبق وغير ذلك، ولا يعارض هذا حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أكل على الخوان" لأن

(9/533)


الخوان أخص من المائدة. ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، وهذا أولى من جواب بعض الشراح بأن أنسا إنما نفى علمه قال: ولا يعارضه قول من علم، واختلف في المائدة فقال الزجاج هي عندي من ماد يميد إذا تحرك. وقال غيره: من ماد يميد إذا أعطى، قال أبو عبيد: وهي فاعلة بمعنى مفعولة من العطاء قال الشاعر كنت للمنتجعين مائدا

(9/534)


9- باب السَّوِيقِ
5390- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ عَلَى رَوْحَةٍ مِنْ خَيْبَرَ فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَدَعَا بِطَعَامٍ فَلَمْ يَجِدْهُ إِلاَّ سَوِيقًا فَلاَكَ مِنْهُ فَلُكْنَا مَعَهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ ثُمَّ صَلَّى وَصَلَّيْنَا وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
قوله: "باب السويق" ذكر فيه حديث سويد بن النعمان، وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة

(9/534)


باب ماكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل حتى يسمى له فيعلم ماهو
...
10- باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَأْكُلُ حَتَّى يُسَمَّى لَهُ فَيَعْلَمُ مَا هُوَ
5391- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الأَنْصَارِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ سَيْفُ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَيْمُونَةَ وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا قَدْ قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ فَقَدَّمَتْ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ فَأَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لاَ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ قَالَ خَالِدٌ فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيَّ"
[الحديث 5391- طرفاه في : 5400، 5537 ]
قوله: "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل حتى يسمى له فيعلم ما هو" كذا في جميع النسخ التي وقفت عليها بالإضافة، وشرحه الزركشي على أنه "باب" بالتنوين فقال قال ابن التين: إنما كان يسأل لأن العرب كانت لا تعاف شيئا من المآكل لقلتها عندهم، وكان هو صلى الله عليه وسلم قد يعاف بعض الشيء فلذلك كان يسأل. قلت: ويحتمل أن يكون سبب السؤال أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يكثر الكون في البادية فلم يكن له خبرة بكثير من الحيوانات، أو لأن الشرع ورد بتحريم بعض الحيوانات وإباحة بعضها وكانوا لا يحرمون منها شيئا، وربما أتوا به مشويا أو مطبوخا فلا يتميز عن غيره إلا بالسؤال عنه. حديث ابن عباس في قصة الضب، سيأتي شرحه في كتاب الصيد والذبائح. ووقع

(9/534)


11- باب طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ
5392- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلاَثَةِ وَطَعَامُ الثَّلاَثَةِ كَافِي الأَرْبَعَةِ"
قوله: "باب طعام الواحد يكفي الاثنين" أورد فيه حديث أبي هريرة "طعام الاثنين يكفي الثلاثة وطعام الثلاثة يكفي الأربعة" واستشكل الجمع بين الترجمة والحديث، فإن قضية الترجمة مرجعها النصف وقضية الحديث مرجعها الثلث ثم الربع. وأجيب بأنه أشار بالترجمة إلى لفظ حديث آخر ورد ليس على شرطه وبأن الجامع بين الحديثين أن مطلق طعام القليل يكفي الكثير لكن أقصاه الضعف، وكونه يكفي مثله لا ينفي أن يكفي دونه. نعم كون طعام الواحد يكفي الاثنين يؤخذ منه أن طعام الاثنين يكفي الثلاثة بطريق الأولى بخلاف عكسه. حديث أبي هريرة "طعام الاثنين يكفي الثلاثة وطعام الثلاثة يكفي الأربعة" واستشكل الجمع بين الترجمة والحديث، فإن قضية الترجمة مرجعها النصف وقضية الحديث مرجعها الثلث ثم الربع. وأجيب بأنه أشار بالترجمة إلى لفظ حديث آخر ورد ليس على شرطه وبأن الجامع بين الحديثين أن مطلق طعام القليل يكفي الكثير لكن أقصاه الضعف، وكونه يكفي مثله لا ينفي أن يكفي دونه. نعم كون طعام الواحد يكفي الاثنين يؤخذ منه أن طعام الاثنين يكفي الثلاثة بطريق الأولى بخلاف عكسه. ونقل عن إسحاق بن راهويه عن جرير قال: معنى الحديث أن الطعام الذي يشبع الواحد يكفي قوت الاثنين، ويشبع الاثنين قوت الأربعة. وقال المهلب المراد بهذه الأحاديث الحض على المكارم والتقنع بالكفاية، يعني وليس المراد الحصر في مقدار الكفاية، وإنما المراد المواساة وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما وإدخال رابع أيضا بحسب من يحضر. وقد وقع في حديث عمر عند ابن ماجه بلفظ: "طعام الواحد يكفي الاثنين وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة وأن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة" ووقع في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر في قصة أضياف أبي بكر "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس" وعند الطبراني من حديث ابن عمر ما يرشد إلى العلة في ذلك وأوله "كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن طعام الواحد يكفي الاثنين" الحديث فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما كثر ازدادت البركة وقد أشار الترمذي إلى حديث ابن عمر وعند البزار من حديث سرة نحو حديث عمر وزاد به آخره: "ويد الله على الجماعة" وقال ابن المنذر يؤخذ من حديث أبي هريرة استحباب الاجتماع على الطعام، وأن لا يأكل المرء وحده ا ه. وفي الحديث أيضا الإشارة إلى أن المواساة إذا حصلت حصلت معها البركة فتعم الحاضرين. وفيه أنه لا ينبغي للمرء أن يستحقر ما عنده فيمتنع من تقديمه، فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء، بمعنى حصول سد الرمق وقيام البنية، لا حقيقة الشبع. وقال ابن المنير: ورد حديث بلفظ الترجمة لكنه لم يوافق شرط البخاري فاستقرأ معناه من حديث الباب، لأن من أمكنه ترك الثلث أمكنه ترك النصف لتقاربهما انتهى. وتعقبه مغلطاي بأن الترمذي أخرج الحديث من طريق أبي سفيان عن جابر، وهو على شرط البخاري انتهى. وليس كما زعم فإن البخاري وإن كان أخرج لأبي سفيان،

(9/535)


لكن أخرج له مقرونا بأبي صالح عن جابر ثلاثة أحاديث فقط، فليس على شرطه، ثم لا أدري لم خصه بتخريج الترمذي مع أن مسلما أخرجه من طريق الأعمش عن أبي سفيان أيضا، ولعل ابن المنير اعتمد على ما ذكره ابن بطال أن ابن وهب روى الحديث بلفظ الترجمة عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر، وابن لهيعة ليس من شرط البخاري قطعا، لكن يرد عليه أن ابن بطال قصر بنسبه الحديث، وإلا فقد أخرجه مسلم أيضا من طريق ابن جريج ومن طريق سفيان الثوري كلاهما عن أبي الزبير عن جابر وصرح بطريق ابن جريج بسماع أبي الزبير عن جابر، فالحديث صحيح لكن لا على شرط البخاري والله أعلم. وفي الباب عن ابن عمر وسمرة كما تقدم، وفيه عن ابن مسعود أيضا في الطبراني.

(9/536)


12- باب الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5393- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَأْكُلُ حَتَّى يُؤْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَدْخَلْتُ رَجُلًا يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَكَلَ كَثِيرًا فَقَالَ يَا نَافِعُ لاَ تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"
5394- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَإِنَّ الْكَافِرَ أَوْ الْمُنَافِقَ فَلاَ أَدْرِي أَيَّهُمَا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"
وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ"
[الحديث 5393- طرفاه في: 5394، 5395]
5395- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ كَانَ أَبُو نَهِيكٍ رَجُلًا أَكُولًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ فَقَالَ فَأَنَا أُومِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ"
5396- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"
[الحديث 5396- طرفه في: 5397]
5397- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا قَلِيلًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"

(9/536)


قوله: "باب المؤمن يأكل في معي واحد" المعي بكسر الميم مقصور، وفي لغة حكاها في المحكم بسكون العين بعدها تحتانية، والجمع أمعاء ممدود وهي المصارين. وقد وقع في شعر القطامي بلفظ الإفراد في الجمع فقال في أبيات له حكاها أبو حاتم "حوالب غزرا ومعي جياعا". وهو كقوله تعالى :{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} وإنما عدي يأكل بفي لأنه بمعنى يوقع الأكل فيها ويجعلها ظرفا للمأكول، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} أي ملء بطونهم قال أبو حاتم السجستاني: المعي مذكر ولم أسمع من أثق به يؤنثه فيقول معي واحدة، لكن قد رواه من لا يوثق به. قوله: "باب المؤمن يأكل في معي واحد، فيه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" كذا ثبت هذا الكلام في رواية أبي ذر عن السرخسي وحده، وليس هو في رواية أبي الوقت عن الداودي عن السرخسي، ووقع في رواية النسفي ضم الحديث الذي قبله إلى ترجمة "طعام الواحد يكفي الاثنين" وإيراد هذه الترجمة لحديث ابن عمر بطرقه وحديث أبي هريرة بطريقيه ولم يذكر فيها التعليق، وهذا أوجه فإنه ليس لإعادة الترجمة بلفظها معنى، وكذا ذكر حديث أبي هريرة في الترجمة ثم إيراده فيها موصولا من وجهين. قوله: "حدثنا عبد الصمد" هو ابن عبد الوارث، ووقع في رواية أبي نعيم في "المستخرج" منسوبا. قوله: "عن واقد بن محمد" هو ابن زيد بن عبد الله بن عمر. قوله: "فأدخلت رجلا يأكل معه فأكل كثيرا" لعله أبو نهيك المذكور بعد قليل. ووقع في رواية مسلم: "فجعل ابن عمر يضع بين يديه ويضع بين يديه فجعل يأكل أكلا كثيرا. قوله: "لا تدخل هذا على" وذكر الحديث هكذا حمل ابن عمر الحديث على ظاهره، ولعله كره دخوله عليه لما رآه متصفا بصفة وصف بها الكافر. قوله: "عبدة" هو ابن سليمان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري قوله: "وإن الكافر، أو المنافق فلا أدري أيهما قال عبيد الله" هذا الشك من عبدة، وقد أخرجه مسلم من طريق يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر بلفظ: "الكافر" بغير شك، وكذا رواه عمرو بن دينار كما يأتي في الباب، وكذا هو في رواية غير ابن عمر ممن روى الحديث من الصحابة، إلا أنه ورد عند الطبراني في رواية له من حديث سمرة بلفظ: "المنافق" بدل الكافر. قوله: "وقال ابن بكير" هو يحيى بن عبد الله بن بكير، وقد وصله أبو نعيم في المستخرج من طريقه، ووقع لنا في الموطأ من روايته عن مالك ولفظه: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن وهب "أخبرني مالك وغير واحد أن نافعا حدثهم" فذكره بلفظ: "المسلم:" فظهر أن مراد البخاري بقوله: "مثله" أي مثل أصل الحديث لا خصوص الشك الواقع في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار، ووقع التصريح بتحديثه لسفيان في رواية الحميدي في مسنده ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج". قوله: "كن أبو نهيك" بفتح النون وكسر الهاء" رجلا أكولا "في رواية الحميدي" قيل لابن عمر إن أبا نهيك رجل من أهل مكة يأكل أكلا كثيرا". قوله: "فقال فأنا أومن بالله ورسوله" في رواية الحميدي "فقال الرجل أنا أومن بالله" إلخ ومن ثم أطبق العلماء على حمل الحديث على غير ظاهره كما سيأتي إيضاحه. قوله في حديث أبي هريرة "يأكل المسلم في معي واحد" في رواية مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة "المؤمن يشرب في معي واحد" الحديث. قوله: "عن أبي حازم" هو سلمان بسكون اللام الأشجعي وليس هو سلمة بن دينار الزاهد فإنه أصغر من الأشجعي ولم يدرك أبا هريرة. قوله: "إن رجلا كان يأكل أكلا كثيرا فأسلم" وقع في رواية مسلم من طريق أبي

(9/537)


صالح عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف وهو كافر فأمر له بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أخرى ثم أخرى حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فأمر له بشاة فشرب حلابها ثم بأخرى فلم يستتمها" الحديث وهذا الرحل يشبه أن يكون جهجاه الغفاري، فأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى والبزار والطبراني من طريقه أنه قدم في نفر من قومه يريدون الإسلام، فحضروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فلما سلم قال : ليأخذ كل رجل بيد جليسه، فلم يبق غيري، فكنت رجلا عظيما طويلا لا يقدم على أحد، فذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله فحلب لي عنزا فأتيت عليه ثم حلب لي آخر حتى حلب سبعة أعنز فأتيت عليها، ثم أتيت بصنيع برمة فأتيت عليها، فقالت أم أيمن: أجاع الله من أجاع رسول الله، فقال: مه يا أم أيمن، أكل رزقه، ورزقنا على الله. فلما كانت الليلة الثانية وصلينا المغرب صنع ما صنع في التي قبلها فحلب لي عنزا ورويت وشبعت، فقالت أم أيمن: أليس هذا ضيفنا؟ قال: إنه أكل في معي واحد الليلة وهو مؤمن، وأكل قبل ذلك في سبعة أمعاء، الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد" وفي إسناد الجميع موسى بن عبيدة وهو ضعيف. وأخرج الطبراني بسند جيد عن عبد الله بن عمر وقال: "جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سبعة رجال، فأخذ كل رجل من الصحابة رجلا وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، فقال له ما اسمك؟ قال: أبو غزوان. قال فحلب له سبع شياه فشرب لبنها كله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك يا أبا غزوان أن تسلم؟ قال: نعم. فأسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، فلما أصبح حلب له شاة واحدة فلم يتم لبنها، فقال: مالك يا أبا غنوان؟ قال: والذي بعثك نبيا لقد رويت. قال: إنك أمس كان لك سبعة أمعاء وليس لك اليوم إلا معي واحد" وهذه الطريق أقوى من طريق جهجاه، ويحتمل أن تكون تلك كنيته، لكن يقوى التعدد أن أحمد أخرج من حديث أبي بصرة الغفاري قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجرت قبل أن أسلم، فحلب لي شويهة كان يحلبها لأهله فشربتها، فلما أصبحت أسلمت حلب لي فشربت منها فرويت، فقال: أرويت؟ قلت: قد رويت مالا رويت قبل اليوم" الحديث، وهذا لا يفسر به المبهم في حديث الباب وإن كان المعنى واحدا، لكن ليس في قصته خصوص العدد. ولأحمد أيضا ولأبي مسلم الكجي وقاسم بن ثابت في "الدلائل" والبغوي في "الصحابة" من طريق محمد بن معن بن نضلة الغفاري "حدثني جدي نضلة بن عمرو قال: أقبلت في لقاح لي حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ثم أخذت علبة فحلبت فيها فشربها فقلت: يا رسول الله إن كنت لأشربها مرارا لا أمتلئ" وفي لفظ: "إن كنت لأشرب السبعة، فما أمتلئ" فذكر الحديث. وهذا أيضا لا ينبغي أن يفسر به مبهم حديث الباب لاختلاف السياق. ووقع في كلام النووي تبعا لعياض أنه نضرة بن نضرة الغفاري، وذكر ابن إسحاق في السيرة من حديث أبي هريرة في قصة ثمامة بن أثال أنه لما أسر ثم أسلم وقعت له قصة تشبه قصة جهجاه، فيجوز أن يفسر به، وبه صدر المازري كلامه. واختلف في معنى الحديث فقيل: ليس المراد به ظاهره وإنما هو مثل ضرب للمؤمن وزهده في الدنيا والكافر وحرصه عليها، فكان المؤمن لتقلله من الدنيا يأكل في معي واحد، والكافر لشدة رغبته فيها واستكثاره منها يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء ولا خصوص الأكل وإنما المراد التقلل من الدنيا والاستكثار مها، فكأنه عبر عن تناول الدنيا بالأكل وعن أسباب ذلك بالأمعاء، ووجه العلاقة ظاهر، وقيل المعنى أن المؤمن يأكل الحلال والكافر يأكل الحرام، والحلال أقل من الحرام في الوجود نقله ابن التين، ونقل الطحاوي نحو الذي قبله عن أبي جعفر بن أبي عمران فقال: حمل قوم هذا الحديث على الرغبة في الدنيا كما تقول فلان يأكل

(9/538)


الدنيا أكلا أي يرغب فيها ويحرص عليها، فمعنى المؤمن يأكل في معي واحد أي يزهد فيها فلا يتناول منها إلا قليلا، والكافر في سبعة أي يرغب فيها فيستكثر منها. وقيل المراد حض المؤمن على قلة الأكل إذا علم أن كثرة الأكل صفة الكافر، فإن نفس المؤمن تنفر من الاتصاف بصفة الكافر، ويدل على أن كثرة الأكل من صفة الكفار قوله تعالى :{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} وقيل بل هو على ظاهره. ثم اختلفوا في ذلك على أقوال: أحدها أنه ورد في شخص بعينه واللام عهدية لا جنسية، جزم بذلك ابن عبد البر فقال: لا سبيل إلى حمله على العموم لأن المشاهدة تدفعه، فكم من كافر يكون أقل أكلا من مؤمن وعكسه، وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله، قال: وحديث أبي هريرة يدل على أنه ورد في رجل بعينه، ولذلك عقب به مالك الحديث المطلق، وكذا البخاري، فكأنه قال: هذا إذا كان كافرا كان يأكل في سبعة أمعاء فلما أسلم عوفي وبورك له في نفسه فكفاه جزء من سبعة أجزاء مما كان يكفيه وهو كافر ا ه. وقد سبقه إلى ذلك الطحاوي في "مشكل الآثار" فقال: قيل إن هذا الحديث كان في كافر مخصوص وهو الذي شرب حلاب السبع شياه، قال: وليس للحديث عندنا محمل غير هذا الوجه، والسابق إلى ذلك أولا أبو عبيدة، وقد تعقب هذا الحمل بأن ابن عمر راوي الحديث فهم منه العموم فلذلك منع الذي رآه يأكل كثيرا من الدخول عليه واحتج بالحديث. ثم كيف يتأتى حمله على شخص بعينه مع ما تقدم من ترجيح بعدد الواقعة ويورد الحديث المذكور عقب كل واحدة منها في حق الذي وقع له نحو ذلك. القول الثاني أن الحديث خرج مخرج الغالب، وليست حقيقة العدد مرادة، قالوا تخصيص السبعة للمبالغة في التكثير كما قوله تعالى :{وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} والمعنى أن من شأن المؤمن التقلل من الأكل لاشتغاله بأسباب العبادة ولعلمه بأن مقصود الشرع من الأكل ما يسد الجوع ويمسك الرمق ويعين على العبادة، ولخشيته أيضا من حساب ما زاد على ذلك، والكافر بخلاف ذلك كله فإنه لا يقف مع مقصود الشرع، بل هو تابع لشهوة نفسه مسترسل فيها غير خائف من تبعات الحرام، فصار أكل المؤمن - لما ذكرته - إذا نسب إلى أكل الكافر كأنه بقدر السبع منه، ولا يلزم من هذا اطراده في حق كل مؤمن وكافر، فقد يكون في المؤمنين من يأكل كثيرا إما بحسب العادة وإما لعارض يعرض له من مرض باطن أو لغير ذلك، ويكون في الكفار من يأكل قليلا إما لمراعاة الصحة على رأي الأطباء، وإما للرياضة على رأي الرهبان، وإما لعارض كضعف المعدة. قال الطيبي: ومحصل القول أن من شأن المؤمن الحرص على الزهادة والاقتناع بالبلغة، بخلاف الكافر، فإذا وجد مؤمن أو كافر على غير هذا الوصف لا يقدح في الحديث. ومن هذا قوله تعالى :{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية، وقد يوجد من الزاني نكاح الحرة ومن الزانية نكاح الحر. القول الثالث أن المراد بالمؤمن في هذا الحديث التام الإيمان، لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت وما بعده فيمنعه شدة الخوف وكثرة الفكر والإشفاق على نفسه من استيفاء شهوته، كما ورد في حديث لأبي أمامة رفعه: "من كثر تفكره قل طعمه، ومن قل تفكره كثر طعمه وقسا قلبه" ويشير إلى ذلك حديث أبي سعيد الصحيح "إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع" فدل على أن المراد بالمؤمن، من يقتصد في مطعمه، وأما الكافر فمن شأنه الشره فيأكل بالنهم كما تأكل البهيمة ولا يأكل بالمصلحة لقيام البنية، وقد رد هذا الخطابي وقال: قد ذكر عن غير واحد من أفاضل السلف الأكل الكثير، فلم يكن ذلك نقصا في إيمانهم. الرابع أن المراد

(9/539)


أن المؤمن يسمى الله تعالى عند طعامه وشرابه فلا يشركه الشيطان فيكفيه القليل، والكافر لا يسمى فيشركه الشيطان كما تقدم تقريره قبل، وفي صحيح مسلم في حديث مرفوع "إن الشيطان يستحل الطعام إن لم يذكر اسم الله تعالى عليه". الخامس أن المؤمن يقل حرصه على الطعام فيبارك له فيه وفي مأكله فيشبع من القليل، والكافر طامح البصر إلى المأكل كالأنعام فلا يشبعه القليل، وهذا يمكن ضمه إلى الذي قبله ويجعلان جوابا واحدا مركبا. السادس قال النووي المختار أن المراد أن بعض المؤمنين يأكل في معي واحد وأن أكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء، ولا يلزم أن يكون كل واحد من السبعة مثل معي المؤمن ا ه، ويدل على تفاوت الأمعاء ما ذكره عياض عن أهل التشريح أن أمعاء الإنسان سبعة: المعدة، ثم ثلاثة أمعاء بعدها متصلة بها: البواب، ثم الصائم. ثم الرقيق والثلاثة رقاق، ثم الأعور، والقولون، والمستقيم وكلها غلاظ. فيكون المعنى أن الكافر لكونه يأكل بشراهة لا يشبعه إلا ملء أمعائه السبعة، والمؤمن يشبعه ملء معي واحد. ونقل الكرماني عن الأطباء في تسمية الأمعاء السبعة أنها المعدة، ثم ثلاثة متصلة بها رقاق وهي الاثنا عشري، والصائم، والقولون، ثم ثلاثة غلاظ وهي الفانفي بنون وفاءين أو قافين، والمستقيم، والأعور. السابع قال النووي يحتمل أن يريد بالسبعة في الكافر صفات هي الحرص والشره وطول الأمل والطمع وسوء الطبع والحسد وحب السمن، وبالواحد في المؤمن سد خلته. الثامن قال القرطبي: شهوات الطعام سبع. شهوة الطبع، وشهوة النفس، وشهوة العين، وشهوة الفم، وشهوة الأذن، وشهوة الأنف، وشهوة الجوع وهي الضرورية التي يأكل بها المؤمن، وأما الكافر فيأكل بالجميع. ثم رأيت أصل ما ذكره في كلام القاضي أبي بكر بن العربي ملخصا وهو أن الأمعاء السبعة كناية عن الحواس الخمس والشهوة والحاجة، قال العلماء يؤخذ من الحديث الحض على التقلل من الدنيا والحث على الزهد فيها والقناعة بما تيسر منها، وقد كان العقلاء في الجاهلية والإسلام يتمدحون بقلة الأكل ويذمون كثرة الأكل كما تقدم في حديث أم زرع أنها قالت في معرض المدح لابن أبي زرع "ويشبعه ذراع الجفرة" وقال حاتم الطائي:
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله
...
وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وسيأتي مزيد لهذا في الباب الذي يليه. وقال ابن التين: قيل إن الناس في الأكل على ثلاث طبقات: طائفة تأكل كل مطعوم من حاجة وغير حاجة وهذا فعل أهل الجهل، وطائفة تأكل عند الجوع بقدر ما يسد الجوع حسب، وطائفة يجوعون أنفسهم يقصدون بذلك قمع شهوة النفس وإذا أكلوا أكلوا ما يسد الرمق ا هـ ملخصا. وهو صحيح، لكنه لم يتعرض لتنزيل الحديث عليه وهو لائق بالقول الثاني.

(9/540)


13- باب الأَكْلِ مُتَّكِئًا
5398- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الأَقْمَرِ سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ آكُلُ مُتَّكِئًا"
[الحديث 5398- 5399]
5399- حدثني عثمان بن أبي شيبة أخبرنا جرير عن منصور عن علي بن الأقمر عن أبي جحيفة قال: كنت ثم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده لا آكل وأنا متكئ"

(9/540)


قوله: "باب الأكل متكئا" أي ما حكمه؟ وإنما لم يجزم به لأنه لم يأت فيه نهي صريح. قوله: "حدثنا مسعر" كذا أخرجه البخاري عن أبي نعيم، وأخرجه أحمد عن أبي نعيم فقال: "حدثنا سفيان هو الثوري" فكان لأبي نعيم فيه شيخين. قوله: "عن علي بن الأقمر" أي ابن عمرو بن الحارث بن معاوية الهمداني بسكون الميم الوادعي الكوفي، ثقة عند الجميع، وماله في البخاري سوى هذا الحديث. قوله: "سمعت أبا جحيفة" في رواية سفيان عن علي بن الأقمر "عن عون بن أبي جحيفة" وهذا يوضح أن رواية رقية لهذا الحديث عن علي بن الأقمر عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه من المزيد في متصل الأسانيد لتصريح علي بن الأقمر في رواية مسعر بسماعه له من أبي جحيفة بدون واسطة. ويحتمل أن يكون سمعه من عون أولا عن أبيه ثم لقي أباه، أو سمعه من أبي جحيفة وثبته فيه عون. قوله: "إني لا آكل متكئا" ذكر في الطريق التي بعدها له سببا مختصرا ولفظه: "فقال لرجل عنده لا آكل وأنا متكئ" قال الكرماني: اللفظ الثاني أبلغ من الأول في الإثبات، وأما في النفي فالأول أبلغ ا هـ. وكان سبب هذا الحديث قصة الأعرابي المذكور في حديث عبد الله بن يسر عند ابن ماجه والطبراني بإسناد حسن قال: "أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فجثا على ركبتيه يأكل، فقال له أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال إن الله جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا" قال ابن بطال: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعا لله. ثم ذكر من طريق أيوب عن الزهري قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم ملك لم يأته قبلها فقال: إن ربك يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا أو ملكا نبيا، قال فنظر إلى جبريل كالمستشير له، فأومأ إليه أن تواضع، فقال: بل عبدا نبيا. قال فما أكل متكئا" ا هـ وهذا مرسل أو معضل، وقد وصله النسائي من طريق الزبيدي عن الزهري عن محمد بن عبد الله بن عباس قال: كان ابن عباس يحدث، فذكر نحوه. وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "ما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا قط" وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: "ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم متكئا إلا مرة ثم نزع فقال: اللهم إني عبدك ورسولك" وهذا مرسل، ويمكن الجمع بأن تلك المرة التي في أثر مجاهد ما اطلع عليها عبد الله بن عمرو، فقد أخرج ابن شاهين في ناسخه من مرسل عطاء بن يسار "أن جبريل رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا فنهاه" ومن حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهاه جبريل عن الأكل متكئا لم يأكل متكئا بعد ذلك" واختلف في صفة الاتكاء فقيل: أن يتمكن في الجلوس للأكل على أي صفة كان، وقيل أن يميل على أحد شقيه، وقيل أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض، قال الخطابي تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه، وليس كذلك بل هو المعتمد على الوطاء الذي تحته، قال ومعنى الحديث إني لا أقعد متكئا على الوطاء عند الأكل فعل من يستكثر من الطعام، فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزا. وفي حديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم أكل تمرا وهو مقع" وفي رواية: "وهو محتفز" والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن. وأخرج ابن عدي بسند ضعيف: زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل، قال مالك هو نوع من الاتكاء. قلت: وفي هذا إشارة من مالك إلى كراهة كل ما يعد الآكل فيه متكئا، ولا يختص بصفة بعينها. وجزم ابن الجوزي في تفسير الاتكاء بأنه بالميل على أحد الشقين، ولم يلتفت لإنكار الخطابي ذلك. وحكى ابن الأثير في "النهاية" أن من فسر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب الطب بأنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلا ولا يسيغه هنيئا وربما تأذى به، واختلف السلف في حكم الأكل متكئا فزعم ابن القاص أن ذلك من الخصائص النبوية، وتعقبه البيهقي فقال: قد يكره لغيره

(9/541)


أيضا لأنه من فعل المتعظمين وأصله مأخوذ من ملوك العجم، قال فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه من الأكل إلا متكئا لم يكن في ذلك كراهة، ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك، وأشار إلى حمل ذلك عنهم على الضرورة، وفي الحمل نظر. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وخالد بن الوليد وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين وعطاء بن يسار والزهري جواز ذلك مطلقا، وإذا ثبت كونه مكروها أو خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثيا على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى، واستثنى الغزالي من كراهة الأكل مضطجعا أكل البقل، واختلف في علة الكراهة، وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال: "كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاءة مخافة أن تعظم بطونهم" وإلى ذلك بقية ما ورد فيه من الأخبار فهو المعتمد، ووجه الكراهة فيه ظاهر، وكذلك ما أشار إليه ابن الأثير من جهة الطب والله أعلم.

(9/542)


14- باب الشِّوَاءِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أَيْ مَشْوِيٍّ
5400- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَبٍّ مَشْوِيٍّ فَأَهْوَى إِلَيْهِ لِيَأْكُلَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُ ضَبٌّ فَأَمْسَكَ يَدَهُ فَقَالَ خَالِدٌ أَحَرَامٌ هُوَ قَالَ لاَ وَلَكِنَّهُ لاَ يَكُونُ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ فَأَكَلَ خَالِدٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ قَالَ مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ"
قوله: "باب الشواء" بكسر المعجمة وبالمد معروف. قوله: "وقول الله تعالى فجاء بعجل حنيذ" كذا في الأصل وهو سبق قلم والتلاوة "إن جاء" كما سيأتي. قوله: "مشوي" كذا ثبت قوله مشوي في رواية السرخسي، وأورده النسفي بلفظ: "أي مشوي" وهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله تعالى :{فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أي محنوذ وهو المشوي مثل قتيل في مقتول، وروى الطبري عن وهب بن منبه عن سفيان الثوري مثله، وعن ابن عباس أخص منه قال حنيذ أي نضيج، ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد الحنيذ المشوي النضيج، ومن طرق عن قتادة والضحاك وابن إسحاق مثله، ومن طريق السدي قال: الحنيذ المشوي في الرضف أي الحجارة المحماة، وعن مجاهد والضحاك نحوه، وهذا أخص من جهة أخرى وبه جزم الخليل صاحب اللغة. ومن طريق شمر بن عطية قال: الحنيذ قال الذي يقطر ماؤه بعد أن يشوي، وهذا أخص من جهة أخرى والله أعلم. ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس في قصة خالد بن الوليد في الضب، وسيأتي شرحها في كتاب الصيد والذبائح إن شاء الله تعالى. وأشار ابن بطال إلى أن أخذ الحكم للترجمة ظاهر من جهة أنه صلى الله عليه وسلم أهوى ليأكل ثم لم يمتنع إلا لكونه ضبا فلو كان غير ضب لأكل. حديث ابن عباس في قصة خالد بن الوليد في الضب، سيأتي شرحها في كتاب الصيد والذبائح إن شاء الله تعالى. وأشار ابن بطال إلى أن أخذ الحكم للترجمة ظاهر من جهة أنه صلى الله عليه وسلم أهوى ليأكل ثم لم يمتنع إلا لكونه ضبا فلو كان غير ضب لأكل. قوله في آخره "وقال مالك عن ابن شهاب بضب محنوذ" يأتي موصولا في الذبائح من طريق مالك

(9/542)


15- باب الْخَزِيرَةِ، قَالَ النَّضْرُ الْخَزِيرَةُ مِنْ النُّخَالَةِ وَالْحَرِيرَةُ مِنْ اللَّبَنِ
5401- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ

(9/542)


16- باب الأَقِطِ. وَقَالَ حُمَيْدٌ سَمِعْتُ أَنَسًا بَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَفِيَّةَ فَأَلْقَى التَّمْرَ وَالأَقِطَ وَالسَّمْنَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو عَنْ أَنَسٍ صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْسًا"
5402- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَهْدَتْ خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضِبَابًا وَأَقِطًا وَلَبَنًا فَوُضِعَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَتِهِ فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُوضَعْ وَشَرِبَ اللَّبَنَ وَأَكَلَ الأَقِطَ"
قوله: "باب الأقط" بفتح الهمزة وكسر القاف وقد تسكن بعدها طاء مهملة، وهو جبن اللبن المستخرج زبده وقد تقدم تفسيره في "باب زكاة الفطر" وغيره. قوله: "وقال حميد إلخ" تقدم موصولا في "باب الخبز المرقق". قوله: "وقال عمرو بن أبي عمرو عن أنس" تقدم أيضا في الباب المذكور لكن معلقا. وبينت الموضع الذي وصله فيه مع شرحه. ذكر طرفا من حديث ابن عباس في الضب لقوله فيه: "أهدت خالتي ضبابا وأقطا ولبنا" وسيأتي شرحه في الذبائح.

(9/544)


17- باب السِّلْقِ وَالشَّعِيرِ
5403- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ إِنْ كُنَّا لَنَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ أُصُولَ السِّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ لَهَا فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ إِذَا صَلَّيْنَا زُرْنَاهَا فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا وَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى وَلاَ نَقِيلُ إِلاَّ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَاللَّهِ مَا فِيهِ شَحْمٌ وَلاَ وَدَكٌ"

(9/544)


18- باب النَّهْسِ وَانْتِشَالِ اللَّحْمِ
5404- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ تَعَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِفًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
5405- وَعَنْ أَيُّوبَ وَعَاصِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ انْتَشَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرْقًا مِنْ قِدْرٍ فَأَكَلَ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
قوله: "باب النهش وانتشال اللحم" النهش بفتح النون وسكون الهاء بعدها شين معجمة أو مهملة، وهما بمعنى عند الأصمعي وبه جزم الجوهري، وهو القبض على اللحم بالفم وإزالته عن العظم وغيره، وقيل بالمعجمة هذا وبالمهملة تناوله بمقدم الفم، وقيل النهس بالمهملة للقبض على اللحم ونتره عند الأكل، قال شيخنا في "شرح الترمذي" الأمر فيه محمول على الإرشاد، فإنه علله بكونه أهنأ وأمرأ أي أشد هناء ومراءة، ويقال هنيء صار هنيئا ومريء صار مريئا وهو أن لا يثقل على المعدة وينهضم عنها، قال: ولم يثبت النهي عن قطع اللحم بالسكين بل ثبت الحز من الكتف، فيختلف باختلاف اللحم كما إذا عسر نهشه بالسن قطع بالسكين، وكذا إذا لم تحضر السكين، وكذا يختلف بحسب العجلة والتأني والله أعلم. والانتشال بالمعجمة التناول والقطع والاقتلاع، يقال نشلت اللحم من المرق أخرجته منه، ونشلت اللحم إذا أخذت بيدك عضوا فتركت ما عليه، وأكثر ما يستعمل في أخذ اللحم قبل أن ينضح، ويسمى اللحم نشيلا. وقال الإسماعيلي: ذكر الانتشال مع النهش، والانتشال التناول والاستخراج، ولا يسمى نهشا حتى يتناول من اللحم. قلت: فحاصله أن النهش بعد الانتشال، ولم يقع في شيء من الطريقين اللذين ساقهما البخاري بلفظ النهش وإنما ذكره بالمعنى حيث قال: "تعرق كتفا" أي تناول اللحم الذي عليه بفمه، وهذا هو النهش كما تقدم، ولعل البخاري أشار بهذه الترجمة إلى تضعيف الحديث الذي سأذكره في الباب الذي يلي الباب الذي بعد هذا في النهي عن قطع اللحم بالسكين. قوله: "عن محمد" هو ابن سيرين. ووقع منسوبا رواية الإسماعيلي، قال ابن بطال: لا يصح لابن سيرين، سماع من ابن عباس ولا من ابن عمر. قلت: سبق

(9/545)


إلى ذلك يحيى بن معين، وكذا قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: لم يسمع محمد بن سيرين من ابن عباس، يقول: بلغنا. وقال ابن المديني قال شعبة: أحاديث محمد بن سيرين عن عبد الله بن عباس إنما سمعها من عكرمة، لقيه أيام المختار. قلت: وكذا قال خالد الحذاء: كل شيء يقول ابن سيرين "ثبت عن ابن عباس" سمعه من عكرمة ا هـ. واعتماد البخاري في هذا المتن إنما هو على السند الثاني، وقد ذكرت أن ابن الطباع أدخل في الأول عكرمة بين ابن سيرين وابن عباس، وكأن البخاري أشار بإيراد السند الثاني إلى ما ذكرت من أن ابن سيرين لم يسمع من ابن عباس قلت: وماله في البخاري عن ابن عباس غير هذا الحديث، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن عيسى بن الطباع عن حماد بن زيد فأدخل بين محمد بن سيرين وابن عباس عكرمة، وإنما صح عنده لمجيئه بالطريق الأخرى الثانية فأورده على الوجه الذي سمعه. قوله: "تعرق رسول الله صلى الله عليه وسلم كتفا" في رواية عطاء بن يسار عن ابن عباس كما تقدم في الطهارة "أكل كتفا" وعند مسلم من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بهدية خبز ولحم فأكل ثلاث لقم" الحديث، فأفادت تعيين جهة اللحم ومقدار ما أكل منه. قوله: "وعن أيوب" هو معطوف على السند الذي قبله، وأخطأ من زعم أنه معلق. وقد أورده أبو نعيم في "المستخرج" من طريق الفضل بن الحباب عن الحجبي وهو عبد الله بن عبد الوهاب شيخ البخاري فيه بالسند المذكور، حاصله أن الحديث عند حماد بن زيد عن أيوب بسندين على لفظين: أحدها عن ابن سيرين باللفظ الأول، والثاني عنه عن عكرمة وعاصم الأحول باللفظ الثاني، ومفاد الحديثين واحد وهو ترك إيجاب الوضوء مما مست النار، قال الإسماعيلي: وصله إبراهيم بن زياد وأحمد بن إبراهيم الموصلي وعارم ويحيى بن غيلان والحوضي كلهم عن حماد بن زيد، وأرسله محمد بن عبيد بن حساب فلم يذكر فيه ابن عباس. قلت: ووصله صحيح اتفاقا لأنهم أكثر وأحفظ وقد وصلوا وأرسل فالحكم لهم عليه، وقد وصله آخرون غير من سمي عن حماد بن زيد، والله أعلم

(9/546)


19- باب تَعَرُّقِ الْعَضُدِ
5406- حدثني محمد بن المثنى قال حدثني عثمان بن عمر حدثنا فليح حدثنا أبو حازم المدني حدثنا عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو مكة"
5407- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازِلٌ أَمَامَنَا وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي فَلَمْ يُؤْذِنُونِي لَهُ وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ فَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ فَقُمْتُ إِلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقُلْتُ لَهُمْ نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقَالُوا لاَ وَاللَّهِ لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ فَرُحْنَا وَخَبَأْتُ الْعَضُدَ مَعِي فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:

(9/546)


مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا حَتَّى تَعَرَّقَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مِثْلَهُ"
قوله: "باب تعرق العضد" مضى تفسير التعرق، وأما العضد فهو العظم الذي بين الكتف والمرفق. ذكر المصنف حديث أبي قتادة في قصة الحمار الوحشي، وقد مضى شرحه مستوفى في كتاب الحج. وأبو حازم المدني في إسناده هو سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد، ومراده منه قوله في آخره: "فناولته العضد فأكلها حتى تعرقها" أي حتى لم يبق على عظمها لحما. وقوله في آخره: "قال محمد بن جعفر وحدثني زيد بن أسلم" هو معطوف على السند الذي قبله. والحاصل أن لمحمد بن جعفر - أي ابن أبي كثير شيخ شيخ البخاري - فيه إسنادين، ووقع للنسفي والأكثر "قال ابن جعفر" غير مسمى. وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: "قال أبو جعفر" فإن كان محمد بن جعفر يكنى أبا جعفر صحت رواية الكشمهيني، وإلا فهو ابن لا أب. والله أعلم

(9/547)


20- باب قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ
5408- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
قوله: "باب قطع اللحم بالسكين" ذكر فيه حديث عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة الحديث وقد تقدم مشروحا في كتاب الطهارة، حديث عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة الحديث وقد تقدم مشروحا في كتاب الطهارة، ومعنى يحتز يقطع. و أخرج أصحاب السنن الثلاثة من حديث المغيرة بن شعبة "بت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يجز لي من جنب حتى أذن بلال، فطرح السكين. وقال: ماله تربت يداه؟ قال ابن بطال: هذا الحديث يرد حديث أبي معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رفعته " لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم، وانهشوه فإنه أهنأ وأمرأ " قال أبو داود: وهو حديث ليس بالقوى. قلت: له شاهد من حديث صفوان بن أمية أخرجه الترمذي بلفظ: "انهشوا اللحم نهشا فإنه أهنأ وأمرأ" وقال لا نعرفه إلا من حديث عبد الكريم ا هـ. وعبد الكريم هو أبو أمية بن أبي المخارق ضعيف، لكن أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن صفوان بن أمية فهو حسن، لكن ليس فيه ما زاده أبو معشر من التصريح بالنهي عن قطع اللحم بالسكين وأكثر ما في حديث صفوان أن النهش أولى، وقد وقع في أول حديث الشفاعة الطويل الماضي في التفسير من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم الذراع فنهش منها نهشة" الحديث.

(9/547)


باب ماعاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً
...
21- باب مَا عَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا
5409- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا عَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ"
قوله: "باب ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما" أي مباحا، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهي عنه، وذهب بعضهم

(9/547)


22- باب النَّفْخِ فِي الشَّعِيرِ
5410- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَهْلًا هَلْ رَأَيْتُمْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّقِيَّ قَالَ لاَ فَقُلْتُ فَهَلْ كُنْتُمْ تَنْخُلُونَ الشَّعِيرَ قَالَ لاَ وَلَكِنْ كُنَّا نَنْفُخُهُ"
قوله: "باب النفخ في الشعير" أي بعد طحنه لتطير منه قشوره وكأنه نبه بهذه الترجمة على أن النهي عن النفخ في الطعام خاص بالطعام المطبوخ. قوله: "أبو غسان" هو محمد بن مطرف، وأبو حازم هو سلمة بن دينار وهو غير الذي قبله وهو أصغر منه وإن اشتركا في كون كل منهما تابعيا. قوله: "النقي" بفتح النون أي خبز الدقيق الحواري وهو النظيف الأبيض، وفي حديث البعث "يحشر الناس على أرض عفراء كقرصة النقي" وذكره في الباب الذي بعده من وجه آخر عن أبي حازم أتم منه. قوله: "قال لا" هو موافق لحديث أنس المتقدم "ما رأى مرققا قط". قوله: "فهل كنتم تنخلون الشعير" أي بعد طحنه. قوله: "ولكن كنا ننفخه" ذكره في الباب الذي بعده بلفظ: "هل كانت لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ قال: ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منخلا من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله تعالى" وأظنه احترز عما قبل البعثة لكونه صلى الله عليه وسلم كان سافر في تلك المدة إلى الشام تاجرا وكانت الشام إذ ذاك مع الروم، والخبز النقي عندهم كثير، وكذا المناخل وغيرها من آلات الترفه، فلا ريب أنه رأى ذلك عندهم، فأما بعد البعثة فلم يكن إلا بمكة والطائف والمدينة، ووصل إلى تبوك وهي من أطراف الشام لكن لم يفتحها ولا طالت إقامته بها، وقول الكرماني: نخلت الدقيق أي غربلته، الأولى أن يقول: أي أخرجت منه النخالة.

(9/548)


باب ماكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون
...
23- باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ
5411- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبَّاسٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ تَمْرًا فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ فَأَعْطَانِي سَبْعَ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ تَمْرَةٌ أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْهَا شَدَّتْ فِي مَضَاغِي"
[الحديث 5411- طرفاه في: 5441، 5441]
5412- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الْحُبْلَةِ أَوْ الْحَبَلَةِ حَتَّى يَضَعَ أَحَدُنَا مَا تَضَعُ الشَّاةُ ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلاَمِ خَسِرْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِي"
5413- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ فَقُلْتُ هَلْ أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّقِيَّ فَقَالَ سَهْلٌ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّقِيَّ مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ قَالَ فَقُلْتُ هَلْ كَانَتْ لَكُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَاخِلُ قَالَ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْخُلًا مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ قَالَ قُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ قَالَ كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مَا طَارَ وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ فَأَكَلْنَاهُ"
5414- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ فَدَعَوْهُ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ وَقَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ"
5415- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا مُعَاذٌ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ وَلاَ فِي سُكْرُجَةٍ وَلاَ خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قُلْتُ لِقَتَادَةَ عَلاَمَ يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ"
5416- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ"
[الحديث 5416- طرفه في: 6454]
قوله: "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون" أي في زمانه صلى الله عليه وسلم، وذكر فيه ستة أحاديث. حديث أبي هريرة في قسمة التمر، سيأتي شرحه في باب بعد "باب القثاء والرطب" وقوله في هذه الرواية: "شدت من مضاغي" بفتح الميم وقد تكسر وتخفيف الضاد المعجمة وبعد الألف غين معجمة هو ما يمضغ أو هو المضغ نفسه

(9/549)


ومراده أنها كانت فيها قوة عند مضغها فطال مضغه لها كالعلك، وسيأتي بعد أبواب بلفظ: "هي أشدهن لضرسي". حديث إسماعيل وهو ابن خالد عن قيس وهو ابن أبي حازم عن سعد وهو ابن أبي وقاص، ووقع في شرح ابن بطال وتبعه ابن المقن "عن قيس بن سعد عن أبيه" كأنه توهمه قيس بن سعد بن عيادة، وهو غلط فاحش، فقد مضى الحديث في مناقب سعد من طريق وهو ابن أبي حازم "سمعت سعدا" ووقع في رواية مسلم عن قيس "سمعت سعد بن أبي وقاص". قوله: "رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا فيه إشارة إلى قدم إسلامه، وقد تقدم بيان ذلك في مناقبه من كتاب المناقب، ووقع عند ابن أبي خيثمة أن السبعة المذكورين أبو بكر وعثمان وعلي وزيد ابن حارثة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وكان إسلام الأربعة بدعاء أبي بكر لهم إلى الإسلام في أوائل البعثة، وأما علي وزيد بن حارثة فأسلما مع النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بعث. قوله: "إلا ورق الحبلة أو الحبلة" الأول بفتح المهملة وسكون الموحدة، والثاني بضمهما وقيل غير ذلك، والمراد به ثمر العضاه وثمر السمر، وهو يشبه اللوبيا، وقيل المراد عروق الشجر وسيأتي بسطه في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. حديث سهل في النقي والمناخل، تقدم في الباب الذي قبله، وقوله في آخره: "وما بقي ثريناه" بمثلثة وراء ثقيلة أي بللناه بالماء. قوله: "فأكلناه" يحتمل أن يريد أكلوه بغير عجن ولا خبز، ويحتمل أنه أشار بذلك إلى عجنه بعد البل وخبزه ثم أكله. والمنخل من الأدوات التي جاءت بضم أولها. حديث أبي هريرة أنه "مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية" أي مشوية، والصلاء بالكسر والمد الشي. قوله: "فدعوه فأبى أن يأكل" ليس هذا من ترك إجابة الدعوة لأنه في الوليمة لا في كل الطعام، وكأن أبا هريرة استحضر حينئذ ما كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه من شدة العيش فزهد في أكل الشاة ولذلك قال: "خرج ولم يشبع من خبز الشعير" وقد مضت الإشارة إلى ذلك في أول الأطعمة، ويأتي مزيد له في كتاب الرقاق. حديث أنس في الخوان والسكرجة، تقدم شرحه قريبا. حديث عائشة في طعام البر، تقدمت الإشارة إليه في أول الأطعمة، ويأتي في الرقاق أيضا إن شاء الله تعالى.

(9/550)


24- باب التَّلْبِينَةِ
5417- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلاَّ أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتْ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ كُلْنَ مِنْهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ"
[ الحديث 5417، طرفاه في:5686، 5690]
قوله: "باب التلبينة" بفتح المثناة وسكون اللام كسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم نون: طعام يتخذ من دقيق أو نخالة وربما جعل فيها عسل، سميت بذلك لشبهها باللبن في البياض والرقة، والنافع منه ما كان رقيقا نضيجا لا غليظا نيئا. وقوله: "مجمة" بفتح الجيم والميم الثقيلة أي مكان الاستراحة، ورويت بضم الميم أي مريحة، والجمام بكسر الجيم الراحة، وجم الفرس إذا ذهب إعياؤه. سيأتي شرح حديث عائشة في كتاب الطب إن شاء الله تعالى.

(9/550)


25- باب الثَّرِيدِ
5418- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجَمَلِيِّ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ"
5419- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي طُوَالَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ"
5420- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا حَاتِمٍ الأَشْهَلَ بْنَ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غُلاَمٍ لَهُ خَيَّاطٍ فَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَصْعَةً فِيهَا ثَرِيدٌ قَالَ وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ قَالَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ قَالَ فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ فَأَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ فَمَا زِلْتُ بَعْدُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ"
قوله: "باب الثريد "بفتح المثلثة وكسر الراء معروف وهو أن يثرد الخبر بمرق اللحم، وقد يكون معه اللحم، ومن أمثالهم الثريد أحد اللحمين" وربما كان أنفع وأقوى من نفس اللحم النضيج إذا ثرد بمرقته. وذكر المصنف فيه ثلاثة أحاديث. حديث أبي موسى في فضل عائشة، قد تقدم في المناقب وفي أحاديث الأنبياء في ترجمة موسى عليه السلام عند ذكر امرأة فرعون وفي ترجمة مريم. والجملي في إسناد حديث أبي موسى بفتح الجيم وتخفيف الميم نسبة إلى بني جمل حي من مراد، وقد تقدم شرح الحديث هناك، وتقرير فضل الثريد، وورد فيه أخص من هذا: فعند أحمد من حديث أبي هريرة "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة في السحور والثريد" وفي سنده ضعف، وللطبراني من حديث سلمان رفعه: "البركة في ثلاثة: الجماعة والسحور والثريد" حديث أنس في فضل عائشة، قد تقدم في المناقب وفي أحاديث الأنبياء وأبو طوالة في حديث أنس هو عبد الله بن عبد الرحمن بن حرم، ورعم عياض أنه وقع في رواية أبي ذر هنا "عن ابن أبي طوالة" وهو خطأ ولم أره في النسخة التي عندنا من طريق أبي ذر إلا على الصواب، وذكر القابسي "حدثنا خالد بن عبد الله بن أبي طوالة" وهو تصحيف، وإنما هو "عن أبي طوالة" حديث أنس في الخياط. قوله: "سمع أبا حاتم" هو أشهل بن حاتم البصري، ووقع في نسخه الصغاني تسميته وتسمية أبيه في الأصل وفي نسخة حدثنا أشهل بن حاتم، وابن عون هو عبد الله. قوله: "على غلام له خياط" تقدم أنه لم يسم، وتقدم شرح الحديث في "باب من تتبع حوالي القصعة"

(9/551)


26- باب شَاةٍ مَسْمُوطَةٍ وَالْكَتِفِ وَالْجَنْبِ
5421- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ قَالَ كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ

(9/551)


اللَّهُ عَنْهُ وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ قَالَ كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ وَلاَ رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ"
5422- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
قوله: "باب شاة مسموطة والكتف والجنب" ذكر فيه حديث أنس وفيه: "ولا رأى شاة سميطة" وفي رواية الكشميهني: "مسموطة" وحديث عمرو بن أمية "يحتز من كتف شاة" وقد تقدما قريبا. وأما الجنب فأشار به إلى حديث أم سلمة "إنها قربت إلى النبي صلى الله عليه وسلم جنبا مشويا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة" أخرجه الترمذي وصححه، وتقدم في "باب قطع اللحم بالسكين" الإشارة إلى حديث المغيرة بن شعبة، وفيه عند أبي داود والنسائي: "ضعفت النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بجنب فشوى، فأخذ الشفرة - فجعل يحتز لي بها منه" قال ابن بطال: يجمع بين هذا الحديث وكذا حديث عمرو بن أمية وبين قول أنس "إنه صلى الله عليه وسلم ما رأى شاة مسموطة" فذكر ما تقدم في "باب الخبز المرقق" وقد مضى البحث فيه مستوفى.

(9/552)


باب ماكان السلف يدخرون في بيوتهم وأسفارهم من الطعام واللحم وغيره
...
27- باب مَا كَانَ السَّلَفُ يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ صَنَعْنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ سُفْرَةً
5423- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلاَثٍ قَالَتْ مَا فَعَلَهُ إِلاَّ فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ فِيهِ فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ قِيلَ مَا اضْطَرَّكُمْ إِلَيْهِ فَضَحِكَتْ قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ"
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ بِهَذَا"
[الحديث5423- أطرافه في: 5438، 5570، 6687]
5424- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْهَدْيِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَابَعَهُ مُحَمَّدٌ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ أَقَالَ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ لاَ"
قوله: "باب ما كان السلف يدخرون في بيوتهم وأسفارهم من الطعام واللحم" ليس في شيء من أحاديث الباب للطعام ذكر، وإنما يؤخذ منها بطريق الإلحاق، أو من مقتضى قول عائشة "ما شبع من خبز البر المأدوم ثلاثا" فإنه

(9/552)


لا يلزم من نفي كونه مأدوما نفي كونه مطلقا، وفي وجود ذلك ثلاثا مطلقا دلالة على جواز تناوله وإبقائه في البيوت، ويحتمل أن يكون المراد بالطعام ما يطعم فيدخل فيه كل إدام. قوله: "وقالت عائشة وأسماء: صنعنا للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر سفرة" تقدم حديث عائشة موصولا في "باب الهجرة إلى المدينة" مطولا، وحديث أسماء تقدم في الجهاد وسبق الكلام فيه قريبا. قوله: "عن عبد الرحمن بن عابس عن أبيه" هو عابس بمهملة ثم موحدة ثم مهملة ابن ربيعة النخعي الكوفي، تابعه كبير، ويلتبس به عابس بن ربيعة الغطبفي صحابي ذكره ابن يونس وقال: له صحبة وشهد فتح مصر، ولم أحد لهم عنه رواية. قوله: "قالت ما فعله إلا في عام جاع الناس فيه، فأراد أن يطعم الغني الفقير" بينت عائشة في هذا الحديث أن النهي عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث نسخ وأن سبب النهي كان خاصا بذلك العام للعلة التي ذكرتها، وسيأتي بسط هذا في أواخر كتاب الأضاحي إن شاء الله تعالى. وغرض البخاري منه قولها "وإن كنا لنرفع الكراع إلخ" فإن فيه بيان جواز ادخار اللحم وأكل القديد، وثبت أن سبب ذلك قلة اللحم عندهم بحيث أنهم لم يكونوا يشبعون من خبز البر ثلاثة أيام متوالية. قوله: "وقال ابن كثير" هو محمد وهو من مشايخ البخاري، وغرضه تصريح سفيان وهو الثوري بإخبار عبد الرحمن بن عابس له به وقد وصله الطبراني في "الكبير" عن معاذ بن المثنى عن محمد بن كثير به. قوله في حديث جابر "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، وسفيان الذي قبله لي حديث عائشة هو الثوري كما بينته. قوله: "تابعه محمد عن ابن عيينة" قيل إن محمدا هذا هو ابن سلام. وقد وقع لي الحديث في مسند محمد ابن يحيى بن أبي عمر عن سفيان ولفظه: "كنا نعزل عن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل، وكنا نتزود لحوم الهدي إلى المدينة". قوله: "وقال ابن جريج إلخ" وصل المصنف أصل الحديث في "باب ما يؤكل من البدن" من كتاب الحج ولفظه: "كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث. فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا وتزودوا" ولم يذكر هذه الزيادة، وقد ذكرها مسلم في روايته عن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد بالسند الذي أخرجه به البخاري فقال بعد قوله كلوا وتزودوا "قلت لعطاء: أقال جابر حتى جئنا المدينة؟ قال: نعم" كذا وقع عنده بخلاف ما وقع عند البخاري "قال لا" والذي وقع عند البخاري هو المعتمد، فإن أحمد أخرجه في مسنده عن يحيى بن سعيد كذلك، وكذلك أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد، وقد نبه على اختلاف البخاري ومسلم في هذه اللفظة الحميدي في جمعه وتبعه عياض ولم يذكرا ترجيحا، وأغفل ذلك شراح البخاري أصلا فيما وقفت عليه. ثم ليس المراد بقوله: "لا" نفي الحكم بل مراده أن جابرا لم يصرح باستمرار ذلك منهم حتى قدموا، فيكون على هذا معنى قوله في رواية عمرو بن دينار عن عطاء "كنا نتزود لحوم الهدي إلى المدينة" أي لتوجهنا إلى المدينة، ولا يلزم من ذلك بقاؤها معهم حتى يصلوا المدينة والله أعلم، لكن قد أخرج مسلم من حديث ثوبان قال: "ذبح النبي صلى الله عليه وسلم أضحيته ثم قال لي: يا ثوبان أصلح لحم هذه، فلم أزل أطعمه منه حتى قدم المدينة. قال ابن بطال: في الحديث رد على من زعم من الصوفية أنه لا يجوز ادخار طعام لغد، وأن اسم الولاية لا يستحق لمن ادخر شيئا ولو قل، وأن من ادخر أساء الظن بالله. وفي هذه الأحاديث كفاية في الرد على من زعم ذلك.

(9/553)


28- باب الْحَيْسِ
5425- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

(9/553)


حَنْطَبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي طَلْحَةَ الْتَمِسْ غُلاَمًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا نَزَلَ فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ فَلَمْ أَزَلْ أَخْدُمُهُ حَتَّى أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ وَأَقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَدْ حَازَهَا فَكُنْتُ أَرَاهُ يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ أَوْ بِكِسَاءٍ ثُمَّ يُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا فَأَكَلُوا وَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءَهُ بِهَا ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ"
قوله: "باب الحيس" بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها مهملة، تقدم تفسيره مع شرح حديث الباب في قصة صفية في غزوة خيبر من كتاب المغازي. وأصل الحيس ما يتخذ من التمر والأقط والسمن، وقد يجعل عوض الأقط الفتيت أو الدقيق. قوله: "وضلع الدين" بفتح الضاد المعجمة واللام أي ثقله، وحكى ابن التين سكون اللام وفسره بالميل، ويأتي مزيد لشرح هذا الدعاء في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. وقوله: "يحوي" بحاء مهملة وواو ثقيلة أي يجعل لها حوية، وهو كساء محشو يدار حول سنام الراحلة يحفظ راكبها من السقوط ويستريح بالاستناد إليه. قوله: "ثم أقبل حتى بدا له أحد" تقدم الكلام عليه في أواخر الحج، وقوله: "مثل ما حرم به إبراهيم مكة" قال الكرماني "مثل" منصوب بنزع الخافض أي بمثل ما حرم به، وليست لفظة "به" زائدة.

(9/554)


باب الأكل في إناء مغضض
...
29- باب الأَكْلِ فِي إِنَاءٍ مُفَضَّضٍ
5426- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَاسْتَسْقَى فَسَقَاهُ مَجُوسِيٌّ فَلَمَّا وَضَعَ الْقَدَحَ فِي يَدِهِ رَمَاهُ بِهِ وَقَالَ لَوْلاَ أَنِّي نَهَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلاَ مَرَّتَيْنِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَمْ أَفْعَلْ هَذَا وَلَكِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلاَ الدِّيبَاجَ وَلاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلاَ تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ"
قوله: "باب الأكل في إناء مفضض" أي الذي جعلت فيه الفضة، كذا اقتصر من الآنية على هذا، والأكل في جميع الآنية مباح إلا إناء الذهب وإناء الفضة، واختلف في الإناء الذي فيه شيء من ذلك إما بالتضبيب وإما بالخلط وإما بالطلاء، وحديث حذيفة الذي ساقه في الباب فيه النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة، ويؤخذ منع الأكل بطريق الإلحاق وهذا بالنسبة لحديث حذيفة، وقد ورد في حديث أم سلمة عند مسلم كما سيأتي التنبيه عليه في كتاب الأشربة ذكر الأكل، فيكون المنع منه بالنص أيضا، وهذا في الذي جميعه من ذهب أو فضة أما المخلوط أو المضبب

(9/554)


أو المموه وهو المطلي فورد فيه حديث أخرجه الدار قطني والبيهقي عن ابن عمر رفعه: "من شرب في آنية الذهب والفضة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم" قال البيهقي: المشهور عن ابن عمر موقوف عليه، ثم أخرجه كذلك وهو عند ابن أبي شيبة من طريق أخرى عنه أنه كان لا يشرب من قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة فضه، ومن طريق أخرى عنه "أنه كان يكره ذلك" وفي "الأوسط للطبراني" من حديث أم عطية "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفضيض الأقداح، ثم رخص فيه للنساء. قال مغلطاي: لا يطابق الحديث الترجمة إلا إن كان الإناء الذي سقى فيه حذيفة كان مضببا فإن الضبة موضع الشفة عند الشرب، وأجاب الكرماني بأن لفظ مفضض وإن كان ظاهرا فيما فيه فضة لكنه يشمل ما إذا كان متخذا كله من فضة، والنهي عن الشرب في آنية الفضة يلحق به الأكل للعلة الجامعة فيطابق الحديث الترجمة، والله أعلم.

(9/555)


30- باب ذِكْرِ الطَّعَامِ
5427- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ"
5428- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ"
5429- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ"
قوله: "باب ذكر الطعام" ذكر فيه ثلاثة أحاديث. حديث أبي موسى "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن" وقد سبق شرحه في فضائل القرآن، والغرض منه تكرار ذكر الطعم فيه، والطعام يطلق بمعنى الطعم. حديث أنس في فضل عائشة، وقد مضى التنبيه عليه قريبا وذكر فيه الطعام. "السفر قطعة من العذاب" ذكره لقوله فيه: "يمنع أحدكم نومه وطعامه" وقد مضى شرحه في أواخر أبواب العمرة بعد كتاب الحج، قال ابن بطال: معنى هذه الترجمة إباحة أكل الطعام الطيب، وأن الزهد ليس في خلاف ذلك، فإن تشبيه المؤمن بما طعمه طيب وتشبيه الكافر بما طعمه مر ترغيبا في أكل الطعام الطيب والحلو، قال: وإنما كره السلف الإدمان على أكل الطيبات خشية أن يصير ذلك عادة فلا تصبر النفس على فقدها. قال: وأما حديث أبي هريرة ففيه إشارة إلى أن الآدمي لا بد له في الدنيا من طعام يقيم به جسده ويقوى به على طاعة ربه، وأن الله جل وعلا جبل النفوس على ذلك لقوام الحياة، لكن المؤمن يأخذ من ذلك بقدر إيثاره أمر الآخرة على الدنيا. وزعم مغلطاي أن ابن بطال قال قبل حديث أبي هريرة ما معناه: ليس فيه ذكر الطعام، قال مغلطاي: قوله: "ليس

(9/555)


فيه ذكر الطعام" ذهول شديد، فإن لفظ المتن "يمنع أحدكم نومه وطعامه" ا هـ وتعقبه صاحبه الشيخ سراج الدين بن الملقن بأنه لا ذهول، فإن عبارة ابن بطال ليس فيها ذكر أفضل الطعام ولا أدناه، وهو كما قال فلم يذهل.

(9/556)


31- باب الأُدْمِ
5430- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاَثُ سُنَنٍ أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَرِيَهَا فَتُعْتِقَهَا فَقَالَ أَهْلُهَا وَلَنَا الْوَلاَءُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ شِئْتِ شَرَطْتِيهِ لَهُمْ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ قَالَ وَأُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي أَنْ تَقِرَّ تَحْتَ زَوْجِهَا أَوْ تُفَارِقَهُ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَيْتَ عَائِشَةَ وَعَلَى النَّارِ بُرْمَةٌ تَفُورُ فَدَعَا بِالْغَدَاءِ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ أَلَمْ أَرَ لَحْمًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَأَهْدَتْهُ لَنَا فَقَالَ هُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا وَهَدِيَّةٌ لَنَا"
قوله: "باب الأدم" بضم الهمزة والدال المهملة ويجوز إسكانها، جمع إدام، وقيل هو بالإسكان المفرد وبالضم الجمع. ذكر فيه حديث عائشة في قصة بريرة، وفيه: "فأتى بأدم من أدم البيت" وفيه ذكر اللحم الذي تصدق به على بريرة وقد مضى شرحه مستوفى في الكلام على قصة بريرة في الطلاق. وحكى ابن بطال عن الطبري قال: دلت القصة على إيثاره عليه الصلاة والسلام اللحم إذا وجد إليه السبيل. حديث عائشة في قصة بريرة، وفيه: "فأتى بأدم من أدم البيت" وفيه ذكر اللحم الذي تصدق به على بريرة وقد مضى شرحه مستوفى في الكلام على قصة بريرة في الطلاق. وحكى ابن بطال عن الطبري قال: دلت القصة على إيثاره عليه الصلاة والسلام اللحم إذا وجد إليه السبيل. ثم ذكر حديث بريرة رفعه: "سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم" وأما ما ورد عن عمر وغيره من السلف من إيثار أكل غير اللحم على اللحم فإما لقمع النفس عن تعاطي الشهوات والإدمان عليها، وإما لكراهة الإسراف والإسراع في تبذير المال لقلة الشيء عندهم إذ ذاك. ثم ذكر حديث جابر لما أضاف النبي صلى الله عليه وسلم وذبح له الشاة، فلما قدمها إليه قال له: كأنك قد علمت حبنا للحم. وكان ذلك لقلة الشيء عندهم فكان حبهم له لذلك ا هـ ملخصا. وحديث بريرة أخرجه ابن ماجه، وحديث جابر أخرجه أحمد مطولا من طريق نبيح العنزي عنه، وأصله في الصحيح بدون الزيادة. وقد اختلف الناس في الأدم: فالجمهور أنه ما يؤكل به الخبز بما يطيبه سواء كان مرقا أم لا، واشترط أبو حنيفة وأبو يوسف الاصطناع، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى ووقع في حديث عائشة "فقال أهلها ولنا الولاء" هو معطوف على محذوف تقديره نبيعها ولنا الولاء، وفيه: "فقال لو شئت شرطتيه" بإثبات التحتانية وهي ناشئة عن إشباع حركة المثناة، وفيه: "وأعتقت، فخيرت بين أن تقر تحت زوجها أو تفارقه" قال ابن التين: يصح أن يكون أصله من وقر فتكون الراء مخففة يعني والقاف مكسورة، يقال وقرت أقر إذا جلست مستقرا والمحذوف فاء الفعل، قال: ويصح أن تكون القاف مفتوحة - يعني مع تشديد الراء - من قولهم قررت بالمكان أقر، يقال بفتح القاف ويجوز بكسرها من قريقر ا هـ ملخصا، والثالث هو المحفوظ في الرواية. "تنبيه": أورد البخاري هذا الحديث هنا من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة عن القاسم بن محمد قال: كان في بريرة ثلاث سنن. وساق الحديث. وليس فيه أنه أسنده عن عائشة وتعقبه الإسماعيلي فقال: هذا الحديث الذي صححه مرسل. وهو كما قال من ظاهر سياقه، لكن البخاري اعتمد على إيراده موصولا من طريق مالك عن ربيعة عن القاسم عن عائشة كما تقدم في النكاح والطلاق، ولكنه

(9/556)


جرى على عادته من تجنب إيراد الحديث على هيئته كلها في باب آخر، وقد بينت وصل هذا الحديث في "باب لا يكون بيع الأمة طلاقا" من كتاب الطلاق، والله أعلم.

(9/557)


باب الحلوة والعسل
...
32- باب الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ
5431- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ"
5432- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الْفُدَيْكِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كُنْتُ أَلْزَمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشِبَعِ بَطْنِي حِينَ لاَ آكُلُ الْخَمِيرَ وَلاَ أَلْبَسُ الْحَرِيرَ وَلاَ يَخْدُمُنِي فُلاَنٌ وَلاَ فُلاَنَةُ وَأُلْصِقُ بَطْنِي بِالْحَصْبَاءِ وَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ وَهِيَ مَعِي كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي وَخَيْرُ النَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَنْقَلِبُ بِنَا فَيُطْعِمُنَا مَا كَانَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إِلَيْنَا الْعُكَّةَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ فَنَشْتَقُّهَا فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا"
قوله: "باب الحلوى والعسل" كذا لأبي ذر مقصور، ولغيره ممدود وهما لغتان، قال ابن ولاد: هي عند الأصمعي بالقصر تكتب بالياء، وعند الفراء بالمد تكتب بالألف، وقيل تمد وتقصر. وقال الليث: الأكثر على المد، وهو كل حلو يؤكل. وقال الخطابي: اسم الحلوى لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة. وفي المخصص لابن سيده: هي ما عولج من الطعام بحلاوة، وقد تطلق على الفاكهة. قوله: "يحب الحلوى والعسل" كذا في الرواية للجميع بالقصر، وقد تقدم في أبواب الطلاق بالوجهين. وهو طرف من حديث تقدم في قصة التخيير، قال ابن بطال: الحلوى والعسل من جملة الطيبات المذكورة في قوله تعالى :{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} وفيه تقوية لقول من قال المراد به المستلذ من المباحات. ودخل في معنى هذا الحديث كل ما يشابه الحلوى والعسل من أنواع المآكل اللذيذة كما تقدم تقريره في أول كتاب الأطعمة. وقال الخطابي وتبعه ابن التين: لم يكن حبه صلى الله عليه وسلم لها على معنى كثرة التشهي لها وشدة نزاع النفس إليها، وإنما كان ينال منها إذا أحضرت إليه نيلا صالحا فيعلم بذلك أنها تعجبه. ويؤخذ منه جواز اتخاذ الأطعمة من أنواع شتى، وكان بعض أهل الورع يكره ذلك ولا يرخص أن يأكل من الحلاوة إلا ما كان حلوه بطبعه كالتمر والعسل، وهذا الحديث يرد عليه، وإنما تورع عن ذلك من السلف من آثر تأخير تناول الطيبات إلى الآخرة مع القدرة على ذلك في الدنيا تواضعا لا شحا. ووقع في كتاب "فقه اللغة للثعالبي" أن حلوى النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يحبها هي المجيع بالجيم وزن عظيم، وهو ثمر يعجن بلبن، وسيأتي في باب الجمع بين لونين ذكر من روى حديث الله أنه كان يحب الزبد والتمر، وفيه رد على من زعم أن المراد بالحلوى أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب كل يوم قدح عسل يمزج بالماء، وأما الحلوى المصنوعة فما كان يعرفها. وقيل المراد بالحلوى الفالوذج لا المعقودة على النار والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن شيبة" هو عبد الرحمن بن عبد الملك بن محمد بن شيبة الحزامي بالمهملة والزاي المدني نسبه إلى جد أبيه، وغلط بعضهم فقال: عبد الرحمن بن أبي شيبة ولفظ: "أبي"

(9/557)


زيادة على سبيل الغلط المحض، وما لعبد الرحمن في البخاري سوى موضعين هذا أحدهما. قوله: "ابن أبي الفديك" هو محمد بن إسماعيل، وأكثر ما يرد بغير ألف ولام. قوله: "كنت ألزم" تقدم هذا الحديث في المناقب من وجه آخر عن ابن أبي ذئب وأوله "يقول الناس أكثر أبو هريرة" الحديث. قوله: "لشبع بطني" في رواية الكشميهني: "بشبع" بالموحدة والمعنى مختلف، فإن الذي بالباء يشعر بالمعاوضة لكن رواية اللام لا تنفيها. قوله: "ولا ألبس الحرير" كذا هنا للجميع. وتقدم في المناقب بلفظ: "الحبير" بالموحدة بدل الراء الأولى، وتقدم أنه للكشميهني براءين. وقال عياض: هو بالموحدة في رواية القابسي والأصيلي وعبدوس، وكذا لأبي ذر عن الحموي وكذا هو للنسفي، وللباقين براءين كالذي هنا، ورجح عياض الرواية بالموحدة وقال: هو الثوب المحبر، وهو المزين الملون مأخوذ من التحبير وهو التحسين، وقيل الحبير ثوب وشي مخطط، وقيل هو الجديد. وإنما كانت رواية الحرير مرجوحة لأن السياق يشعر بأن أبا هريرة كان يفعل ذلك بعد أن كان لا يفعله، وهو كان لا يلبس الحرير لا أولا ولا آخرا، بخلاف أكله الخمير ولبسه الحبير فإنه صار يفعله بعد أن كان لا يجده. قوله: "ولا يخدمني فلان وفلانة" يحتمل أن يكون أبو هريرة هو الذي كنى وقصد الإبهام لإرادة التعظيم والتهويل، ويحتمل أن يكون سمي معينا وكنى عنه الراوي. وقد أخرج ابن سعد من طريق أيوب عن ابن سرين عن أبي هريرة قال: "ولقد رأيتني وإني لأجير لابن عفان وبنت غزوان بطعام بطنى وعقبة رجلي أسوق بهم إذا ارتحلوا وأخدمهم إذا نزلوا، فقالت لي يوما، لتردن حافيا ولتركبن قائما، فزوجنيها الله تعالى فقلت لها لتردن حافية ولتركبن قائمة" وسنده صحيح، وهو في آخر حديث أخرجه البخاري، والترمذي بدون هذه الزيادة. وأخرج ابن سعد أيضا وابن ماجه من طريق سليم بن حيان سمعت أبي يقول: "سمعت أبا هريرة يقول: نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان" الحديث. قوله: "واستقرئ الرجل الآية وهي معي" تقدم شرح قصته في ذلك مع عمر في أوائل الأطعمة، وقصته في ذلك مع جعفر في كتاب المناقب. قوله: "وخير الناس للمساكين جعفر" تقدم شرحه في المناقب، ووقع في رواية الإسماعيلي من الزيادة في هذا الحديث من طريق إبراهيم المخزومي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة "وكان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه أبا المساكين" قلت: وإبراهيم المخزومي هو ابن الفضل ويقال ابن إسحاق المخزومي مدني ضعيف ليس من شرط هذا الكتاب، وقد أوردت هذه الزيادة في المناقب عن الترمذي وهي من رواية إبراهيم أيضا وأشار إلى ضعف إبراهيم، قال ابن المنير: مناسبة حديث أبي هريرة للترجمة أن الحلوى تطلق على الشيء الحلو، ولما كانت العكة يكون فيها غالبا العسل وربما جاء مصرحا به في بعض طرقه ناسب التبويب قلت: إذا كان ورد في بعض طرقه العسل طابق الترجمة لأنها مشتملة على ذكر الحلوى والعسل معا، فيؤخذ من الحديث أحد ركني الترجمة ولا يشترط أن يشتمل كل حديث في الباب على جميع ما تضمنته الترجمة بل يكفي التوزيع، وإطلاق الحلوى على كل شيء حلو خلاف العرف، وقد جزم الخطابي بخلافه كما تقدم فهو المعتمد. قوله: "فنشتفها" قيده عياض بالشين المعجمة والفاء، ورجح ابن التين أنه بالقاف لأن معنى الذي بالفاء أن يشرب ما في الإناء كما تقدم، والمراد هنا أنهم لعقوا ما في العكة بعد أن قطعوها ليتمكنوا من ذلك.

(9/558)


33- باب الدُّبَّاءِ
5433- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى مَوْلًى لَهُ خَيَّاطًا فَأُتِيَ بِدُبَّاءٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُهُ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُهُ"
قوله: "باب الدباء" ذكر فيه حديث أنس في قصة الخياط من طريق ثمامة عن أنس وقد تقدم شرحه وضبطه، وتقدمت الإشارة إلى موضع شرحه قريبا حديث أنس في قصة الخياط من طريق ثمامة عن أنس وقد تقدم شرحه وضبطه، وتقدمت الإشارة إلى موضع شرحه قريبا وأخرج الترمذي والنساء وابن ماجه من طريق حكيم بن جابر عن أبيه قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وعنده هذا الدباء فقلت ما هذا؟ قال القرع، وهو الدباء، نكثر به طعامنا".

(9/559)


باب الرجل يتكف الطعام لإخوانه
...
24- باب الرَّجُلِ يَتَكَلَّفُ الطَّعَامَ لِإِخْوَانِه ِ
5434- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ كَانَ مِنْ الأَنْصَارِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ وَكَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ فَقَالَ اصْنَعْ لِي طَعَامًا أَدْعُو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ دَعَوْتَنَا خَامِسَ خَمْسَةٍ وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ تَبِعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ قَالَ بَلْ أَذِنْتُ لَهُ"
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُولُ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ عَلَى الْمَائِدَةِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُنَاوِلُوا مِنْ مَائِدَةٍ إِلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى وَلَكِنْ يُنَاوِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي تِلْكَ الْمَائِدَةِ أَوْ يَدَعُوا
قوله: "باب الرجل يتكلف الطعام لإخوانه" قال الكرماني وجه التكلف من حديث الباب أنه حصر العدد بقوله خامس خمسة، ولولا تكلفه لما حصر، وسبق إلى نحو ذلك ابن التين وزاد أن التحديد ينافي البركة، ولذلك لما لم يحدد أبو طلحة حصلت في طعامه البركة حتى وسع العدد الكثير. قوله: "عن أبي وائل عن أبي مسعود" في رواية أبي أسامة عن الأعمش "حدثنا شقيق وهو أبو وائل حدثنا أبو مسعود" وسيأتي بعد اثنين وعشرين بابا. وللأعمش فيه شيخ آخر نبهت عليه في أوائل البيوع أخرجه مسلم من طريق زهير وغيره عن أبي سفيان عن جابر مقرونا برواية أبي وائل عن أبي مسعود وهو عقبة بن عمرو، ووقع في بعض النسخ المتأخرة "عن ابن مسعود" وهو تصحيف. قوله: "كان من الأنصار رجل يقال له أبو شعيب" لم أقف على اسمه، وقد تقدم في أوائل البيوع أن ابن نمير عند أحمد والمحاملي رواه عن الأعمش فقال فيه عن أبي مسعود عن أبي شعيب "جعله من مسند أبي شعيب. قوله: "وكان له غلام لحام" لم أقف على اسمه، وقد تقدم في البيوع من طريق حفص بن غياث عن الأعمش بلفظ: "قصاب" ومضى تفسيره. قوله: "فقال اصنع لي طعاما أدعو رسول الله خامس خمسة" زاد في رواية حفص "اجعل لي طعاما يكفي خمسة فإني أريد أن أدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرفت في وجهه الجوع" وفي رواية أبي أسامة "اجعل لي طعيما" وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم: "اصنع لنا طعاما لخمسة نفر". قوله: "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة" في الكلام حذف تقديره فصنع فدعاه، وصرح بذلك في رواية أبي أسامة، ووقع في رواية أبي معاوية عن الأعمش عند مسلم والترمذي وساق لفظها "فدعاه وجلساءه الذين معه" وكأنهم كانوا أربعة وهو

(9/559)


خامسهم، يقال خامس أربعة وخامس خمسة بمعنى، قال الله تعالى :{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} وقال: {ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} "وفي حديث ابن مسعود "رابع أربعة" ومعنى خامس أربعة أي زائد عليهم وخامس خمسة أي أحدهم، والأجود نصب خامس على الحال، ويجوز الرفع على تقدير حذف أي وهو خامس أو وأنا خامس والجملة حينئذ حالية. قوله: "فتبعهم رجل" في رواية أبي عوانة عن الأعمش في المظالم "فاتبعهم" وهي بالتشديد بمعنى تبعهم وكذا في رواية جرير وأبي معاوية، وذكرها الداودي بهمزة قطع، وتكلف ابن التين في توجهها، ووقع في رواية حفص بن غياث "فجاء معهم رجل". قوله: "وهذا رجل تبعنا" في رواية أبي عوانة وجرير "اتبعنا" بالتشديد. وفي رواية أبي معاوية "لم يكن معنا حين دعوتنا". قوله: "فإن شئت أذنت له وإن شئت تركته" في رواية أبي عوانة "وإن شئت أن يرجع رجع" وفي رواية جرير "وإن شئت رجع" وفي رواية أبي معاوية "فإنه اتبعنا ولم يكن معنا حين دعوتنا فإن أذنت له دخل" قوله: "بل أذنت له" في رواية أبي أسامة "لا بل أذنت له" وفي رواية جرير "لا بل أذنت له يا رسول الله" وفي رواية أبي معاوية "فقد أذنا له فليدخل" ولم أقف على اسم هذا الرجل في شيء من طرق هذا الحديث ولا على اسم واحد من الأربعة. وفي الحديث من الفوائد جواز الاكتساب بصنعة الجزارة واستعمال العبد فيما يطيق من الصنائع وانتفاعه بكسبه منها. وفيه مشروعية الضيافة وتأكد استحبابها لمن غلبت حاجته لذلك. وفيه أن من صنع طعاما لغيره فهو بالخيار بين أن يرسله إليه أو يدعوه إلى منزله، وأن من دعا أحدا استحب أن يدعو معه من يرى من أخصائه وأهل مجالسته، وفيه الحكم بالدليل لقوله: "إني عرفت في وجهه الجوع". وأن الصحابة كانوا يديمون النظر إلى وجهه تبركا به، وكان منهم من لا يطيل النظر في وجهه حياء منه كما صرح به عمرو بن العاص فيما أخرجه مسلم، وفيه أنه كان صلى الله عليه وسلم يجوع أحيانا، وفيه إجابة الإمام والشريف والكبير دعوة من دونهم وأكلهم طعام ذي الحرفة غير الرفيعة كالجزار وأن تعاطى مثل تلك الحرفة لا يضع قدر من يتوقى فيها ما يكره ولا تسقط بمجرد تعاطيها شهادته، وإن من صنع طعاما لجماعة فليكن على قدرهم إن لم يقدر على أكثر ولا ينقص من قدرهم مستندا إلى أن طعام الواحد يكفي الاثنين، وفيه أن من دعا قوما متصفين بصفة ثم طرأ عليهم من لم يكن معهم حينئذ أنه لا يدخل في عموم الدعوة، وإن قال قوم إنه يدخل في الهدية كما تقدم أن جلساء المرء شركاؤه فيما يهدي إليه، وأن من تطفل في الدعوة كان لصاحب الدعوة الاختيار في حرمانه فإن دخل بغير إذنه كان له إخراجه، وإن من قصد التطفيل لم يمنع ابتداء لأن الرجل تبع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرده لاحتمال أن تطيب نفس صاحب الدعوة بالإذن له، وينبغي أن يكون هذا الحديث أصلا في جواز التطفيل لكن يقيد بمن احتاج إليه، وقد جمع الخطيب في أخبار الطفيليين جزءا فيه عدة فوائد: منها أن الطفيلي منسوب إلى رجل كان يقال له طفيل من بني عبد الله بن غطفان كثر منه الإتيان إلى الولائم بغير دعوة فسمى "طفيل العرائس" فسمى من اتصف بعد بصفته طفيليا، وكانت العرب تسميه الوارش بشين معجمة وبقول لمن يتبع المدعو بغير دعوه "ضيفين" بنون زائدة. قال الكرماني: في هذه التسمية مناسبة اللفظ للمعنى في التبعية من حيث أنه تابع للضيف والنون تابعة للكلمة، واستدل به على منع استتباع المدعو غيره إلا إذا علم من الداعي الرضا بذلك، وأن الطفيلي يأكل حراما، ولنصر بن علي الجهضمي في ذلك قصة جرت له مع طفيلي، واحتج نصر بحديث ابن عمر رفعه: "من دخل بغير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا" وهو حديث ضعيف أخرجه أبو داود، واحتج عليه الطفيلي بأشياء يؤخذ منها تقييد المنع بمن لا

(9/560)


يحتاج إلى ذلك ممن يتطفل، وبمن يتكره صاحب الطعام الدخول إليه إما لقلة الشيء أو استثقال الداخل، وهو يوافق قول الشافعية لا يجوز التطفيل إلا لمن كان بينه وبين صاحب الدار انبساط. وفيه أن المدعو لا يمتنع من الإجابة إذا امتنع الداعي من الإذن لبعض من صحبه، وأما ما أخرجه مسلم من حديث أنس "أن فارسيا كان طيب المرق صنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ثم دعاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهذه لعائشة؟ قال: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا" فيجاب عنه بأن الدعوة لم تكن لوليمة وإنما صنع الفارسي طعاما يقدر ما يكفي الواحد فخشي إن أذن لعائشة أن لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون الفرق أن عائشة كانت حاضرة عند الدعوة بخلاف الرجل، وأيضا فالمستحب للداعي أن يدعو خواص المدعو معه كما فعل اللحام بخلاف الفارسي فلذلك امتنع من الإجابة إلا أن يدعوها، أو علم حاجة عائشة لذلك الطعام بعينه، أو أحب أن تأكل معه منه لأنه كان موصوفا بالجودة ولم يعلم مثله في قصة اللحام، وأما قصة أبي طلحة حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصيدة كما تقدم في علامات النبوة فقال لمن معه: قوموا، فأجاب عنه المازري أنه يحتمل أن يكون علم رضا أبي طلحة فلم يستأذنه ولم يعلم رضا أبي شعيب فاستأذنه، ولأن الذي أكله القوم عند أبي طلحة كان مما خرق الله فيه العادة لنبيه صلى الله عليه وسلم، فكان جل ما أكلوه من البركة التي لا صنيع لأبي طلحة فيها فلم يفتقر إلى استئذانه، أو لأنه لم يكن بينه وبين القصاب من المودة ما بيته وبين أبي طلحة، أو لأن أبا طلحة صنع الطعام للنبي صلى الله عليه وسلم فتصرف فيه كيف أراد وأبو شعيب صنعه له ولنفسه ولذلك حدد بعدد معين ليكون ما يفضل عنهم له ولعياله مثلا وأطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فاستأذنه لذلك لأنه أخبر بما يصلح نفسه وعياله. وفيه أنه ينبغي لمن استؤذن في مثل ذلك أن يأذن للطارئ كما فعل أبو شعيب وذلك من مكارم الأخلاق، ولعله سمع الحديث الماضي "طعام الواحد يكفي الاثنين" أو رجا أن يعم الزائد بركة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما استأذنه النبي صلى الله عليه وسلم تطييبا لنفسه، ولعله علم أنه لا يمنع الطارئ. وأما توقف الفارسي في الإذن لعائشة ثلاثا وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من إجابته فأجاب عياض بأنه لعله إنما صنع قدر ما يكفي النبي صلى الله عليه وسلم وحده علم حاجته لذلك فلو تبعه غيره لم يسد حاجته، والنبي صلى الله عليه وسلم اعتمد على ما ألف من إمداد الله تعالى له بالبركة وما اعتاده من الإيثار على نفسه ومن مكارم الأخلاق مع أهله، وكان من شأنه أن لا يراجع بعد ثلاث فلذلك رجع الفارسي عن المنع. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنه اتبعنا رجل لم يكن معنا حين دعوتنا" إشارة إلى أنه لو كان معهم حالة الدعوة لم يحتج إلى الاستئذان عليه، فيؤخذ منه أن الداعي لو قال لرسوله ادع فلانا وجلساءه جاز لكل من كان جليسا له أن يحضر معه، وإن كان ذلك لا يستحب أو لا يجب حيث قلنا بوجوبه إلا بالتعيين. وفيه أنه لا ينبغي أن يظهر الداعي الإجابة وفي نفسه الكراهة لئلا يطعم ما تكرهه نفسه، ولئلا يجمع الرياء والبخل وصفة ذي الوجهين، كذا استدل به عياض، وتعقبه شيخنا في "شرح الترمذي" بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل فيه مطلق الاستئذان والإذن ولم يكلفه أن يطلع على رضاه بقلبه؛ قال: وعلى تقدير أن يكون الداعي يكره ذلك في نفسه فينبغي له مجاهدة نفسه على دفع تلك الكراهة. وما ذكره من أن النفس تكون بذلك طيبة لا شك أنه أولى لكن ليس في سياق هذه القصة ذلك فكأنه أخذه من غير هذا الحديث، والتعقب عليه واضح لأنه ساقه مساق من يستنبطه من حديث الباب وليس ذلك فيه. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "اتبعنا رجل" فأبهمه ولم يعينه أدب حسن لئلا ينكسر خاطر الرجل، ولا بد أن ينضم إلى هذا أنه اطلع على أن الداعي لا يرده وإلا فكان يتعين في ثاني الحال فيحصل كسر خاطره، وأيضا ففي رواية لمسلم: "إن هذا اتبعنا" ويجمع بين الروايتين

(9/561)


بأنه أبهمه لفظا وعينه إشارة، وفيه نوع رفق به بحسب الطاقة. "تنبيه": وقع هنا عند أبي ذر عن المستملي وحده "قال محمد بن يوسف وهو الفريابي سمعت محمد بن إسماعيل هو البخاري يقول: إذا كان القوم على المائدة فليس لهم أن يناولوا من مائدة إلى مائدة أخرى، ولكن يناول بعضهم بعضا في تلك المائدة أو يدعوا" أي يتركوا، وكأنه استنبط ذلك من استئذان النبي صلى الله عليه وسلم الداعي في الرجل الطارئ، ووجه أخذه منه أن الذين دعوا صار لهم بالدعوة عموم إذن بالتصرف في الطعام المدعو إليه بخلاف من لم يدع فيتنزل من وضع بين يديه الشيء منزلة من دعي له أو ينزل الشيء الذي وضع بين يدي غيره منزلة من لم يدع إليه، وأغفل من وقفت على كلامه من الشراح التنبيه على ذلكبأنه أبهمه لفظا وعينه إشارة، وفيه نوع رفق به بحسب الطاقة. "تنبيه": وقع هنا عند أبي ذر عن المستملي وحده "قال محمد بن يوسف وهو الفريابي سمعت محمد بن إسماعيل هو البخاري يقول: إذا كان القوم على المائدة فليس لهم أن يناولوا من مائدة إلى مائدة أخرى، ولكن يناول بعضهم بعضا في تلك المائدة أو يدعوا" أي يتركوا، وكأنه استنبط ذلك من استئذان النبي صلى الله عليه وسلم الداعي في الرجل الطارئ، ووجه أخذه منه أن الذين دعوا صار لهم بالدعوة عموم إذن بالتصرف في الطعام المدعو إليه بخلاف من لم يدع فيتنزل من وضع بين يديه الشيء منزلة من دعي له أو ينزل الشيء الذي وضع بين يدي غيره منزلة من لم يدع إليه، وأغفل من وقفت على كلامه من الشراح التنبيه على ذلك

(9/562)


35- باب مَنْ أَضَافَ رَجُلًا إِلَى طَعَامٍ وَأَقْبَلَ هُوَ عَلَى عَمَلِهِ
4535- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ النَّضْرَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ غُلاَمًا أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غُلاَمٍ لَهُ خَيَّاطٍ فَأَتَاهُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ وَعَلَيْهِ دُبَّاءٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ قَالَ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَجْمَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ فَأَقْبَلَ الْغُلاَمُ عَلَى عَمَلِهِ قَالَ أَنَسٌ لاَ أَزَالُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ مَا صَنَعَ"
قوله: "باب من أضاف رجلا وأقبل هو على عمله" أشار بهذه الترجمة إلى أنه لا يتحتم على الداعي أن يأكل مع المدعو. حديث أنس في قصة الخياط، قد تقدم شرحه مستوفى، وقد تعقبه الإسماعيلي بأن قوله: "وأقبل على عمله" ليس فيه فائدة، قال: وإنما أراد البخاري إيراده من رواية النضر بن شميل عن ابن عون. قلت: بل لترجمته فائدة، ولا مانع من إرادة الفائدتين الإسنادية والمتنية، ومع اعتراف الإسماعيلي بغرابة الحديث من حديث النضر فإنما أخرجه من رواية أزهر عن ابن عون فكأنه لم يقع له من حديث النضر. وقال ابن بطال: لا أعلم في اشتراط أكل الداعي مع الضيف إلا أنه أبسط لوجهه، وأذهب لاحتشامه، فمن فعل فهو أبلغ في قرى الضيف ومن ترك فجائز، وقد تقدم في قصة أضياف أبي بكر أنهم امتنعوا أن يأكلوا حتى يأكل معهم وأنه أنكر ذلك

(9/562)


36- باب الْمَرَقِ
5436- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ فَذَهَبْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَّبَ خُبْزَ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ يَوْمِئِذٍ"
قوله: "باب المرق" أورد فيه حديث أنس المذكور قيل وهو ظاهر فيما ترجم له، قال ابن التين: في قصة الخياط روايات فيما أحضر، ففي بعضها قوب مرقا وفي بعضها قديدا وفي أخرى خبز شعير وفي أخرى ثريدا، قال:

(9/562)


37- باب الْقَدِيدِ
5437- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمَرَقَةٍ فِيهَا دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ يَأْكُلُهَا"
5438- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا فَعَلَهُ إِلاَّ فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاَثًا"
قوله: "باب القديد" ذكر فيه حديث أنس المذكور وهو ظاهر فيه، وحديث عائشة "ما فعله إلا في عام جاع الناس أراد أن يطعم الغني الفقير" الحديث، قلت. وهو مختصر من حديثها الماضي في "باب ما كان السلف يدخرون" وقد تقدم قريبا وأوله سؤال التابعي عن النهي عن الأكل من لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأجابت بذلك، فيعرف منه أن مرجع الضمير في قولها "ما فعله" إلى النهى عن ذلك. قوله: "باب القديد" ذكر فيه حديث أنس المذكور وهو ظاهر فيه، وحديث عائشة "ما فعله إلا في عام جاع الناس أراد أن يطعم الغني الفقير" الحديث، قلت. وهو مختصر من حديثها الماضي في "باب ما كان السلف يدخرون" وقد تقدم قريبا وأوله سؤال التابعي عن النهي عن الأكل من لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأجابت بذلك، فيعرف منه أن مرجع الضمير في قولها "ما فعله" إلى النهى عن ذلك. حديث عائشة "ما فعله إلا في عام جاع الناس أراد أن يطعم الغني الفقير" الحديث، قلت. وهو مختصر من حديثها الماضي في "باب ما كان السلف يدخرون" وقد تقدم قريبا وأوله سؤال التابعي عن النهي عن الأكل من لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأجابت بذلك، فيعرف منه أن مرجع الضمير في قولها "ما فعله" إلى النهى عن ذلك.

(9/563)


38- باب مَنْ نَاوَلَ أَوْ قَدَّمَ إِلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْمَائِدَةِ شَيْئًا
قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلاَ يُنَاوِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَائِدَةِ إِلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى
5439- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ قَالَ أَنَسٌ فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ قَالَ أَنَسٌ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوْلِ الصَّحْفَةِ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ وَقَالَ ثُمَامَةُ عَنْ أَنَسٍ فَجَعَلْتُ أَجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ"
قوله: "باب من ناول أو قدم إلى صاحبه على المائدة شيئا. قال ابن المبارك لا بأس أن يناول بعضهم بعضا ولا يناول من هذه المائدة إلى مائدة أخرى" تقدم هذا المعنى قريبا والأثر فيه عن ابن المبارك موصول عنه في كتاب

(9/563)


39- باب الرُّطَبِ بِالْقِثَّاءِ
5440- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ"
قوله: "باب القثاء بالرطب" أي أكلهما معا، وقد ترجم له بعد سبعة أبواب "الجمع بين اللونين". قوله: "عن أبيه" هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف من صغار التابعين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب من صغار الصحابة. قوله: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب بالقثاء" قال الكرماني: في الحديث أكل الرطب بالقثاء والترجمة بالعكس، وأجاب بأن الباء للمصاحبة أو للملاصقة، فكل منهما مصاحب للآخر أو ملاصق. قلت: وقد وقعت الترجمة في رواية النسفي على وفق لفظ الحديث، وهو عند مسلم عن يحيى بن يحيى وعبد الله ابن عون جميعا عن إبراهيم بن سعد بسند البخاري فيه بلفظ: "يأكل القثاء بالرطب" كلفظ الترجمة، وكذلك أخرجه الترمذي، وسيأتي الكلام على الحديث في "باب الجمع بين اللونين".

(9/564)


باب تضيفت أباهريرة سبعاً فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً
...
40- باب 5441- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبَّاسٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلاَثًا يُصَلِّي هَذَا ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابهِ تَمْرًا فَأَصَابَنِي سَبْعُ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ"
5441م- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَنَا تَمْرًا فَأَصَابَنِي مِنْهُ خَمْسٌ أَرْبَعُ تَمَرَاتٍ وَحَشَفَةٌ ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَشَفَةَ هِيَ أَشَدُّهُنَّ لِضِرْسِي"
قوله باب كذا هو في رواية الجميع بغير ترجمة وسقط ثم الإسماعيلي فاعترض بأنه ليس فيه للرطب والقثاء

(9/564)


41- باب الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تَسَّاقَطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}
5442- وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ شَبِعْنَا مِنْ الأَسْوَدَيْنِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ"
5443- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ يَهُودِيٌّ وَكَانَ يُسْلِفُنِي فِي تَمْرِي إِلَى الْجِدَادِ وَكَانَتْ لِجَابِرٍ الأَرْضُ الَّتِي بِطَرِيقِ رُومَةَ فَجَلَسَتْ فَخَلاَ عَامًا فَجَاءَنِي الْيَهُودِيُّ عِنْدَ الْجَدَادِ وَلَمْ أَجُدَّ مِنْهَا شَيْئًا فَجَعَلْتُ أَسْتَنْظِرُهُ إِلَى قَابِلٍ فَيَأْبَى فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجَابِرٍ مِنْ الْيَهُودِيِّ فَجَاءُونِي فِي نَخْلِي فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ الْيَهُودِيَّ فَيَقُولُ أَبَا الْقَاسِمِ لاَ أُنْظِرُهُ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَطَافَ فِي النَّخْلِ ثُمَّ جَاءَهُ فَكَلَّمَهُ فَأَبَى فَقُمْتُ فَجِئْتُ بِقَلِيلِ رُطَبٍ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ أَيْنَ عَرِيشُكَ يَا جَابِرُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ افْرُشْ لِي فِيهِ فَفَرَشْتُهُ فَدَخَلَ فَرَقَدَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَجِئْتُهُ بِقَبْضَةٍ أُخْرَى فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ قَامَ فَكَلَّمَ الْيَهُودِيَّ فَأَبَى عَلَيْهِ فَقَامَ فِي الرِّطَابِ فِي النَّخْلِ الثَّانِيَةَ ثُمَّ قَالَ يَا جَابِرُ جُدَّ وَاقْضِ فَوَقَفَ فِي الْجَدَادِ فَجَدَدْتُ مِنْهَا مَا قَضَيْتُهُ وَفَضَلَ مِنْهُ فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَشَّرْتُهُ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ عُرُوشٌ وَعَرِيشٌ بِنَاءٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْرُوشَاتٍ مَا يُعَرَّشُ مِنْ الْكُرُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يُقَالُ عُرُوشُهَا أَبْنِيَتُهَا. قال محمد بن يوسف قال أبو جعفر قال محمد بن إسماعيل فحلا ليس عندي مقيدا ثم قال فخلا ليس فيه شك"
قوله: "باب الرطب والتمر" كذا للجميع فيما وقفت عليه، إلا ابن بطال ففيه: "باب الرطب بالتمر" وقع فيه بموحدة بدل الواو، ووقع لعياض في باب ح ل إن في البخاري "باب أكل التمر بالرطب" وليس في حديثي الباب ما يدل لذلك أصلا. قوله: "وقول الله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الآية" وروى عبد بن حميد من طريق شقيق بن سلمة قال: "لو علم الله أن شيئا للنفساء خير من الرطب لأمر مريم به" ومن طريق عمرو بن ميمون قال: "ليس للنفساء خير من الرطب أو التمر" ومن طريق الربيع بن خثيم قال: "ليس للنفساء مثل الرطب، ولا للمريض مثل العسل" أسانيدها صحيحه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى من حديث على رفعه قال: "أطعموا نفساءكم الولد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر" وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم "وفي إسناده ضعف. وقد قرأ الجمهور {تُسَاقِطْ} بتشديد السين وأصله تتساقط، وقراءة حمزة وهي رواية عن أبي عمرو التخفيف على حذف إحدى التاءين، وفيها قراءات أخرى في الشواذ ثم ذكر فيه حديثين: الأول حديث عائشة. قوله: "وقال محمد بن يوسف" هو الفريابي شيخ البخاري، وسفيان هو الثوري، وقد تقدم الحديث

(9/566)


وشرحه في أوائل الأطعمة من طريق، أخرى عن منصور وهو ابن عبد الرحمن بن طلحة العبدري ثم الشيبي الحجبي وأمه هي صفية بنت شيبة من صغار الصحابة، وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق ومن رواية ابن مهدي كلاهما عن سفيان الثوري مثله، وأخرجه مسلم من رواية أبي أحمد الزبيري عن سفيان بلفظ: "وما شبعنا" والصواب رواية الجماعة، فقد أخرجه أحمد ومسلم أيضا من طريق داود بن عبد الرحمن عن منصور بلفظ: "حين شبع الناس" وإطلاق الأسود على الماء من باب التغليب، وكذا إطلاق الشبع موضع الري، والعرب تفعل ذلك في الشيئين يصطحبان فتسميهما معا باسم الأشهر منهما، وأما التسوية بين الماء والتمر مع أن الماء كان عندهم متيسرا لأن الري معه لا يحصل بدون الشبع من الطعام لمضرة شرب الماء صرفا بغير أكل، لكنها قرنت بينهما لعدم التمتع بأحدهما إذا فات ذلك من الآخر، ثم عبرت عن الأمرين الشبع والري بفعل أحدها كما عبرت عن التمر والماء بوصف أحدهما، وقد تقدم شيء من هذا في "باب من أكل حتى شبع". الثاني حديث جابر. قوله: "أبو غسان" هو محمد بن مطرف، وأبو حازم هو سلمة بن دينار. قوله: "عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة" هو المخزومي، واسم أبي ربيعة عمرو ويقال حذيفة وكان يلقب ذا الرمحين، وعبد الله بن أبي ربيعة من مسلمة الفتح وولي الجند من بلاد اليمن لعمر فلم يزل بها إلى أن جاء سنة حصر عثمان لينصره فسقط عن راحلته فمات، ولإبراهيم عنه رواية في النسائي، قال أبو حاتم إنها مرسلة، وليس لإبراهيم في البخاري سوى هذا الحديث، وأمه أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وله رواية عن أمه وخالته عائشة. قوله: "كان بالمدينة يهودي" لم أقف على اسمه. قوله: "وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ" بكسر الجيم ويجوز فتحها والذال معجمة ويجوز إهمالها، أي زمن قطع ثمر النخل وهو الصرام، قد استشكل الإسماعيلي ذلك وأشار إلى شذوذ هذه الرواية فقال: هذه القصة - يعني دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في النخل بالبركة - رواها الثقات المعروفون فيما كان على والد جابر من الدين، وكذا قال ابن التين: الذي في أكثر الأحاديث أن الدين كان على والد جابر قال الإسماعيلي والسلف إلى الجذاذ مما لا يجيزه البخاري وغيره. وفي هذا الإسناد نظر. قلت: ليس في الإسناد من ينظر في حاله سوى إبراهيم، وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وروى عنه أيضا ولده إسماعيل والزهري، وأما ابن القطان فقال: لا يعرف حاله. وأما السلف إلى الجذذ فيعارضه الأمر بالسلم إلى أجل معلوم فيحمل على أنه وقع في الاقتصار على الجذاذ اختصار، وأن الوقت كان في أصل العقد معينا، وأما الشذوذ الذي أشار إليه فيندفع بالتعدد، فإن في السياق اختلافا ظاهرا، فهو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم برك في النخل المخلف عن والد جابر حتى وفى ما كان على أبيه من التمر كما تقدم بيان طرقه واختلاف ألفاظه في علامات النبوة، ثم برك أيضا في النخل المختص بجابر فيما كان عليه هو من الدين والله أعلم. قوله: "وكانت لجابر الأرض التي بطريق رومة" فيه التفات، أو هو مدرج من كلام الراوي، لكن يرده ويعضد الأول أن في رواية أبي نعيم في "المستخرج" من طريق الرمادي عن سعيد بن أبي مريم شيخ البخاري فيه: "وكانت لي الأرض التي بطريق رومة" ورومة بضم الراء وسكون الواو هي البئر التي اشتراها عثمان رضي الله عنه وسبلها وهي في نفس المدينة، وقد قيل إن رومة رجل من بني غفار كانت له البئر قبل أن يشتريها عثمان نسبت إليه، ونقل الكرماني أن في بعض الروايات "دومة" بدال بدل الراء قال ولعلها دومة الجندل. قلت: وهو باطل فإن دومة الجندل لم تكن إذ ذاك فتحت حتى يمكن أن يكون لجابر فيها أرض، وأيضا ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى إلى أرض جابر وأطعمه

(9/567)


من رطبها ونام فيها وقام فبرك فيها حتى أوفاه، فلو كانت بطريق دوم الجندل لاحتاج إلى السفر، لأن بين دومة الجندل وبين المدينة عشر مراحل كل بينه أبو عبيد البكري، وقد أشار صاحب "المطالع" إلى أن دومة هذه هي بئر رومة التي اشتراها عثمان وسبلها وهي داخل المدينة فكأن أرض جابر كانت بين المسجد النبوي ورومة. قوله: "فجلست فخلا عاما" قال عياض: كذا للقابسي وأبي ذر وأكثر الرواة بالجيم واللام، قال: وكان أبو مروان بن سراج يصوب هذه الرواية إلا أنه يضبطها فجلست أي بسكون السين وضم التاء على أنها مخاطبة جابر وتفسيره. أي تأخرت عن القضاء، فخلا بفاء معجمة ولام مشددة من التخلية أو مخففة من الخلو أي تأخر السلف عاما، قال عياض: لكن ذكر الأرض أول الحديث يدل على أن الخبر عن الأرض لا عن نفسه انتهى، فاقتضى ذلك أن ضبط الرواية عند عياض بفتح السين المهملة وسكون التاء والضمير للأرض، وبعده نخلا بنون ثم معجمة ساكنة أي تأخرت الأرض عن الإثمار من جهة النخل، قال: ووقع للأصيلي: "فحبست" بحاء مهملة ثم موحدة، وعند أبي الهيثم "فخاست" بعد الخاء المعجمة ألف أي خالفت معهودها وحملها، يقال خاس عهده إذا خانه أو تغير عن عادته وخاس الشيء إذا تغير قال وهذه الرواية أثبتها. قلت: وحكى غيره: "خنست" بخاء معجمة ثم نون أي تأخرت، ووقع في رواية أبي نعيم في "المستخرج" بهذه الصورة، فما أدري بحاء مهملة ثم موحدة أو بمعجمة ثم نون. وفي رواية الإسماعيلي فخنست علي عاما وأظنها بمعجمة ثم سين مهملة ثقيلة وبعدها على بفتحتين وتشديد التحتانية، فكأن الذي وقع في الأصل بصورة نخلا وكذا فخلا تصحيف من هذه اللفظة، وهي على كتب الياء بألف ثم حرف العين والعلم عند الله. ووقع في رواية أبي ذر عن المستملي: "قال محمد بن يوسف" هو الفربري قال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم وراق البخاري قال محمد بن إسماعيل هو البخاري فحلا ليس عندي مقيدا أي مضبوطا ثم قال: "فخلا ليس فيه شك". قلت: وقد تقدم توجيهه، لكني وجدته في النسخة بجيم وبالحاء المعجمة أظهر. قوله: "ولم أجد" بفتح الهمزة وكسر الجيم بشديد الدال. قوله: "أستنظره" أي أستمهله "إلى قابل" أي إلى عام ثان. قوله: "فأخبر" بضم الهمزة وكسر الموحدة وفتح الراء على الفعل الماضي المبني للمجهول، ويحتمل أن يكون بضم الراء على صيغة المضارعة والفاعل جابر، وذكره كذلك مبالغة في استحضار صورة الحال، ووقع في رواية أبي نعيم في "المستخرج" فأخبرت. قوله: "فيقول أبا القاسم لا أنظره" كذا فيه بحذف أداة النداء. قوله: "أين عريشك" أي المكان الذي اتخذته في البستان لتستظل به وتقيل فيه، وسيأتي الكلام عليه في آخر الحديث. قوله: "فجئته بقبضة أخرى" أي من طب. قوله: "فقام في الرطاب في النخل الثانية" أي المرة الثانية. وفي رواية أبي نعيم "فقام فطاف" بدل قوله في الرطاب. قوله: "ثم قال يا جابر جذ" فعل أمر بالجذاذ "واقض" أي أوف. قوله: "فقال أشهد أني رسول الله" قال ذلك صلى الله عليه وسلم لما فيه من خرق العادة الظاهر من إيفاء الكثير من القليل الذي لم يكن يظن أنه يوفي منه البعض فضلا عن الكل فضلا عن أن تفضل فضلة فضلا عن أن يفضل قدر الذي كان عليه من الدين. قوله: "عرش وعريش بناء. وقال ابن عباس: معروشات ما يعرش من الكرم وغير ذلك، يقال عروشها أبنيتها" ثبت هذا في رواية المستملي، والنقل عن ابن عباس في ذلك تقدم موصولا في أول سورة الأنعام، وفيه النقل عن غيره بأن المعروش من الكرم ما يقوم على ساق، وغير المعروش ما يبسط على وجه الأرض، وقوله عرش وعريش بناء هو تفسير أبي عبيدة، وقد تقدم نقله عنه في تفسير الأعراف،

(9/568)


وقوله: "عروشها أبنيتها" هو تفسير قوله: {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} وهو تفسير أبي عبيدة أيضا، والمراد هنا تفسير عرش جابر الذي رقد النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فالأكثر على أن المراد به ما يستظل به، وقيل المراد به السرير، قال ابن التين: في الحديث أنهم كانوا لا يخلون من دين لقلة الشيء إذ ذاك عندهم، وأن الاستعاذة من الدين أريد بها الكثير منه أو ما لا يجد له وفاء، ومن ثم مات النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير أخذه لأهله. وفيه زيارة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ودخول البساتين والقيلولة فيها والاستظلال بظلالها، والشفاعة في إنظار الواجد غير العين التي استحقت عليه ليكون أرفق به.

(9/569)


42- باب أَكْلِ الْجُمَّارِ
5444- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ إِذَا أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي النَّخْلَةَ فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هِيَ النَّخْلَةُ"
قوله: "باب أكل الجمار" بضم الجيم وتشديد الميم، ذكر فيه حديث ابن عمر في النخلة، وقد تقدم شرحه في كتاب العلم مستوفى، وتقدم الكلام على خصوص الترجمة بأكل الجمار في كتاب البيوع. حديث ابن عمر في النخلة، قد تقدم شرحه في كتاب العلم مستوفى.

(9/569)


43- باب الْعَجْوَةِ
5445- حَدَّثَنَا جُمْعَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ"
قوله: "باب العجوة" بفتح العين المهملة وسكون الجيم نوع من التمر معروف. قوله: "حدثنا جمعة" بضم الجيم وسكون الميم "ابن عبد الله" أي ابن زياد بن شداد السلمي أبو بكر البلخي، يقال إن اسمه يحيى وجمعه لقبه. ويقال له أيضا أبو خاقان، كان من أئمة الرأي أولا ثم صار من أئمة الحديث قاله ابن حبان في الثقات، ومات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وماله في البخاري بل ولا في الكتب الستة سوى هذا الحديث، وسيأتي شرح حديث العجوة في كتاب الطب إن شاء الله تعالى. وقوله هنا "من تصبح كل يوم سبع تمرات" وقع في نسخة الصغاني بزيادة الباء في أوله فقال: "بسبع".

(9/569)


44- باب الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ
4556- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ قَالَ أَصَابَنَا عَامُ سَنَةٍ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَرَزَقَنَا تَمْرًا فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا وَنَحْنُ نَأْكُلُ وَيَقُولُ لاَ تُقَارِنُوا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(9/569)


45- باب الْقِثَّاءِ
5447- حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ"
قوله: "باب القثاء" يأتي شرح حديثه في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى.

(9/572)


46 - باب بَرَكَةِ النَّخْلِ
5448- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً تَكُونُ مِثْلَ الْمُسْلِمِ وَهِيَ النَّخْلَةُ"
قوله: "باب بركة النخلة" ذكر فيه حديث ابن عمر مختصرا وقد تقدم التنبيه عليه قريبا وأنه مر شرحه مستوفي في كتاب العلم.

(9/572)


47- باب جَمْعِ اللَّوْنَيْنِ أَوْ الطَّعَامَيْنِ بِمَرَّةٍ
5449- حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ"
قوله: "باب جمع اللونين أو الطعامين بمرة" أي في حالة واحدة، ورأيت في بعض الشروح "بمرة مرة" ولم أر التكرار في الأصول، ولعل البخاري لمح إلى تضعيف حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بإناء - أو بقعب - فيه لبن وعسل فقال : أدمان في إناء، لا آكله ولا أحرمه" أخرجه الطبراني وفيه راو مجهول. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، وقد تقدم إخراج البخاري لهذا الحديث قبل هذا الباب سواء وكذا فيما قبله بأبواب بأعلى من هذا درجة والسبب في ذلك أن مداره على إبراهيم بن سعد، قال الترمذي صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديثه. قوله: "يأكل الرطب بالقثاء" وقع في رواية الطبراني كيفية أكله لهما، فأخرج في "الأوسط" من حديث عبد الله بن جعفر قال: "رأيت في يمين النبي صلى الله عليه وسلم قثاء وفي شماله رطبا وهو يأكل من ذا مرة ومن ذا مرة" وفي سنده ضعف. وأخرج فيه وهو في الطب لأبي نعيم من حديث أنس "كان يأخذ الرطب بيمينه والبطيخ بيساره، فيأكل الرطب بالبطيخ، وكان أحب الفاكهة إليه" وسنده ضعيف أيضا. وأخرج النسائي بسند صحيح عن حميد عن أنس "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرطب والخربز" وهو بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الموحدة بعدها زاي نوع من البطيخ الأصفر، وقد تكبر القثاء فتصفر من شدة الحر فتصير كالخربز كما شاهدته كذلك بالحجاز، وفي هذا تعقب على من زعم أن المراد بالبطيخ في الحديث الأخضر، واعتل بأن في الأصفر حرارة كما في الرطب، وقد ورد التعليل بأن أحدهما يطفئ حرارة الأخر، والجواب عن ذلك بأن في الأصفر بالنسبة للرطب برودة وإن كان فيه - لحلاوته - طرف حرارة، والله أعلم. وفي النسائي أيضا بسند صحيح عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل البطيخ بالرطب" وفي رواية له جمع بين البطيخ والرطب جميعا. وأخرج ابن ماجه عن عائشة "أرادت أمي تعالجني للسمنة لتدخلني على النبي صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك حتى أكلت الرطب بالقثاء فسمنت كأحسن سمنة" وللنسائي من حديثها "لما تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم عالجوني بغير شيء، فأطعموني القثاء بالتمر فسمنت عليه كأحسن الشحم" وعند أبي نعيم في الطب من وجه آخر عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبويها بذلك" ولابن ماجه من حديث ابن بسر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الزبد والتمر" الحديث، ولأحمد من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه قال: "دخلت على رجل وهو يتمجع لبنا بتمر فقال: ادن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماهما الأطيبين" وإسناده قوي، قال النووي: في حديث الباب جواز أكل الشيئين من الفاكهة وغيرها معا وجواز أكل طعامين معا، ويؤخذ منه جواز التوسع في المطاعم، ولا خلاف بين العلماء في جواز ذلك. وما نقل عن السلف من خلاف هذا محمول على الكراهة منعا لاعتياد التوسع والترفه والإكثار لغير مصلحة دينية. وقال القرطبي، يؤخذ منه جواز مراعاة صفات الأطعمة وطبائعها واستعمالها على الوجه اللائق بها على قاعدة الطب، لأن في الرطب حرارة وفي القثاء برودة، فإذا أكلا معا اعتدلا، وهذا أصل كبير في المركبات من الأدوية. وترجم أبو نعيم في الطب "باب الأشياء التي تؤكل مع الرطب ليذهب ضرره" فساق هذا الحديث، لكن لم يذكر الزيادة التي ترجم بها، وهي عند أبي داود في حديث عائشة بلفظ: "كان يأكل البطيخ بالرطب فيقول: يكسر حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بحر هذا" والطبيخ بتقديم الطاء لغة في البطيخ بوزنه،والمراد

(9/573)


به الأصفر بدليل ورود الحديث بلفظ الخربز بدل البطيخ، وكان يكثر وجوده بأرض الحجاز بخلاف البطيخ الأخضر. "تنبيه": سقطت هذا الترجمة وحديثها من رواية النسفي، ولم يذكرهما الإسماعيلي أيضا.

(9/574)


48- باب مَنْ أَدْخَلَ الضِّيفَانَ عَشَرَةً عَشَرَةً وَالْجُلُوسِ عَلَى الطَّعَامِ عَشَرَةً عَشَرَةً
5450- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَنَسٍ ح وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ سِنَانٍ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ أُمَّهُ عَمَدَتْ إِلَى مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ جَشَّتْهُ وَجَعَلَتْ مِنْهُ خَطِيفَةً وَعَصَرَتْ عُكَّةً عِنْدَهَا ثُمَّ بَعَثَتْنِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَدَعَوْتُهُ قَالَ وَمَنْ مَعِي فَجِئْتُ فَقُلْتُ إِنَّهُ يَقُولُ وَمَنْ مَعِي فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ صَنَعَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ فَدَخَلَ فَجِيءَ بِهِ وَقَالَ أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ قَالَ أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ قَالَ أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً حَتَّى عَدَّ أَرْبَعِينَ ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ"
قوله: "باب من أدخل الضيفان عشرة عشرة، والجلوس على الطعام عشرة عشرة" أي إذا احتيج إلى ذلك لضيق الطعام أو مكان الجلوس عليه. قوله: "عن الجعد أبي عثمان عن أنس، وعن هشام عن محمد عن أنس، وعن سنان أبي ربيعة عن أنس" هذه الأسانيد الثلاثة لحماد بن زيد، وهشام هو ابن حسان، ومحمد هو ابن سيرين، وسنان أبو ربيعة قال عياض وقع في رواية ابن السكن سنان بن أبي ربيعة وهو خطأ وإنما هو سنان أبو ربيعة وأبو ربيعة كنيته. قلت: الخطأ فيه ممن دون ابن السكن، وسنان هو ابن ربيعة وهو أبو ربيعة وافقت كنيته اسم أبيه، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وهو مقرون بغيره، وقد تكلم فيه ابن معين وأبو حاتم. وقال ابن عدي: له أحاديث قليلة، وأرجو أنه لا بأس به. قوله: "جشته" بجيم وشين معجمة أي جعلته جشيشا، والجشيش دقيق غير ناعم. قوله: "خطيفة" بخاء معجمة وطاء مهملة وزن عصيدة ومعناه، كذا تقدم الجزم به في "علامات النبوة" وقيل أصله أن يؤخذ لبن ويدر عليه دقيق ويطبخ ويلعقها الناس فيخطفونها بالأصابع والملاعق فسميت بذلك، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، وقد تقدم شرح هذه القصة مستوفى في "علامات النبوة" وسياق الحديث هناك أتم مما هنا. وقوله في هذه الرواية: "إنما هو شيء صنعته أم سليم" أي هو شيء قليل، لأن الذي يتولى صنعته امرأة بمفردها لا يكون كثيرا في العادة، وقد قدمت في "علامات النبوة" أن في بعض روايات مسلم ما يدل على أن في سياق الباب هنا اختصارا مثل قوله في رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس "فقال أبو طلحة يا رسول الله إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى" وفي رواية عمرو بن عبد الله عن أنس "فقال أبو طلحة: إنما هو قرص، فقال: إن الله سيبارك فيه:" قال ابن بطال: الاجتماع على الطعام من أسباب البركة، وقد روى أبو داود من حديث وحشي بن حرب رفعه: "اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم" قال: وإنما أدخلهم عشرة عشرة والله أعلم لأنها كانت قصعة واحدة ولا يمكن الجماعة الكثيرة أن يقدروا

(9/574)


على التناول منها مع قلة الطعام، فجعلهم عشرة عشرة ليتمكنوا من الأكل ولا يزدحموا، قال: وليس في الحديث المنع عن اجتماع أكثر من عشرة على الطعام.

(9/575)


باب مايكره من الثوم والبقول
...
49- باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الثُّومِ، وَالْبُقُولِ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5441- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ قِيلَ لِأَنَسٍ مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الثُّومِ فَقَالَ مَنْ أَكَلَ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا"
5452- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءٌ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا زَعَمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا"
قوله: "باب ما يكره من الثوم والبقول" أي التي لها رائحة كريهة، وهل النهي عن دخول المسجد لأكلها على التعميم أو على من أكل النيئ منها دون المطبوخ؟ وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الصلاة. ثم ذكر المصنف ثلاثة أحاديث أحدها قوله: "فيه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم" تقدم في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة من رواية نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر "من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يقربن مسجدنا" ووقع لنا سبب هذا الحديث: فأخرج عثمان بن سعيد الدارمي في "كتاب الأطعمة" من رواية أبي عمرو هو بشر بن حرب عنه قال: "جاء قوم مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقد أكلوا الثوم والبصل، فكأنه تأذى بذلك فقال:" فذكره. ثانيها حديث أنس أورده عن مسدد، وتقدم في الصلاة عن أبي معمر، كلاهما عن عبد الوارث وهو ابن سعيد عن عبد العزيز هو ابن صهيب. ثالثها حديث جابر، وقد تقدم أيضا هناك موصولا ومعلقا وفيه ذكر البقول، ولكنه اختصره هنا. وقوله: "كل فإني أناجي من لا تناجي" فيه إباحته لغير صلى الله عليه وسلم حيت لا يتأذى به المصلون جمعا بين الأحاديث. واختلف في حقه هو صلى الله عليه وسلم فقيل: كان ذلك محرما عليه، والأصح أنه مكروه لعموم قوله: "لا" في جواب أحرام هو؟ وحجة الأول أن العلة في المنع ملازمة الملك له صلى الله عليه وسلم، وأنه ما من ساعة إلا وملك يمكن أن يلقاه فيها. وفي هذه الأحاديث بيان جواز أكل الثوم والبصل والكراث، إلا أن من أكلها يكره له حضور المسجد، وقد ألحق بها الفقهاء ما في معناها من البقول الكريهة الرائحة كالفجل، وقد ورد فيه حديث في الطبراني وقيده عياض بمن يتجشى منه، وألحق به بعض الشافعية الشديد البخر ومن به جراحة تفوح رائحتها، واختلف في الكراهية: فالجمهور على التنزيه، وعن الظاهرية التحريم، وأغرب عياض فنقل عن أهل الظاهر تحريم تناول هذه الأشياء مطلقا لأنها تمنع حضور الجماعة، والجماعة فرض عين، ويكن صرح ابن حزم بالجواز، ثم يحرم على من يتعاطى ذلك حضور المسجد، وهو أعلم بمذهبه من غيره.

(9/575)


باب الكباث وهو ورق الأراك
...
50- باب الْكَبَاثِ وَهُوَ ثَمَرُ الأَرَاكِ
5453- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ

(9/575)


باب المضمضة بعض الطعام
...
51- باب الْمَضْمَضَةِ بَعْدَ الطَّعَامِ
5445- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ دَعَا بِطَعَامٍ فَمَا أُتِيَ إِلاَّ بِسَوِيقٍ فَأَكَلْنَا

(9/576)


فَقَامَ إِلَى الصَّلاَةِ فَتَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا"
5455- قَالَ يَحْيَى سَمِعْتُ بُشَيْرًا يَقُولُ حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ قَالَ يَحْيَى وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ دَعَا بِطَعَامٍ فَمَا أُتِيَ إِلاَّ بِسَوِيقٍ فَلُكْنَاهُ فَأَكَلْنَا مَعَهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا مَعَهُ ثُمَّ صَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَقَالَ سُفْيَانُ كَأَنَّكَ تَسْمَعُهُ مِنْ يَحْيَى"
قوله: "باب المضمضة بعد الطعام" ذكر فيه حديث سويد بن النعمان في المضمضة بعد السويق، وساقه بسند واحد بلفظين قال في أحدهما "فأكلنا" وزاد في الآخر "فلكناه" وقد تقدم بإسناده ومتنه في أوائل الأطعمة. حديث سويد بن النعمان في المضمضة بعد السويق، وساقه بسند واحد بلفظين قال في أحدهما "فأكلنا" وزاد في الآخر "فلكناه" وقد تقدم بإسناده ومتنه في أوائل الأطعمة. وقال في آخره هناك "قال سمعته منه عودا على بدء" وقال في آخره هنا "قال سفيان: كأنك تسمعه من يحيى بن سعيد" وهو محمول على أن عليا وهو ابن المديني سمعه من سفيان مرارا فربما غير في بعضها بعض الألفاظ.

(9/577)


52- باب لَعْقِ الأَصَابِعِ وَمَصِّهَا قَبْلَ أَنْ تُمْسَحَ بِالْمِنْدِيلِ
5456- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا"
قوله: "باب لعق الأصابع ومصها قبل أن تمسح بالمنديل" كذا قيده بالمنديل، وأشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرق الحديث كما أخرجه مسلم من طريق سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "فلا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه لكن حديث جابر المذكور في الباب الذي يليه صريح في أنهم لم يكن لهم مناديل، ومفهومه يدل على أنهم لو كانت لهم مناديل لمسحوا بها، فيحمل حدث النهي على من وجد ولا مفهوم له بل الحكم كذلك لو مسح بغير المنديل، وأما قوله في الترجمة "ومصها" فيشير إلى ما وقع في بعض طرقه عن جابر أيضا، وذلك فيما أخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي سفيان عنه بلفظ: "إذا طعم أحدكم فلا يمسح يده حتى يمصها" وذكر القفال في "محاسن الشريعة" أن المراد بالمنديل هنا المنديل المعد لإزالة الزهومة، لا المنديل المعد للمسح بعد الغسل. قوله: "عن عمرو بن دينار عن عطاء" في رواية الحميدي ومن طريقه الإسماعيلي: "حدثنا عمرو بن دينار أخبرني عطاء". قوله: "عن ابن عباس" في رواية ابن جريج عند مسلم: "سمعت عطاء سمعت ابن عباس" زاد ابن أبي عمر في روايته عن سفيان سمعت عمر بن قيس يسأل عمرو بن دينار عن هذا الحديث فقال: هو عن ابن عباس، قال: فإن عطاء حدثناه عن جابر، قال حفظناه عن عطاء عن ابن عباس قبل أن يقدم علينا جابر" ا ه. وهذا إن كان عمر بن قيس حفظه احتمل أن يكون عطاء سمعه من جابر بعد أن سمعه من ابن عباس، ويؤيده ثبوته من حديث جابر عند سلم وإن كان من غير طريق عطاء، وفي سياقه زيادة ليست في حديث ابن عباس، ففي أوله "إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط ما كان بها من أذى ولا يدعها للشيطان" ثم ذكر حديث الباب، وفي آخره زيادة أيضا سأذكرها، فلعل ذلك سبب أخذ عطاء له عن جابر. قوله: "إذا أكل أحدكم" زاد مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وآخرين عن سفيان "طعاما". وفي رواية ابن جريج "إذا أكل أحدكم من الطعام". قوله: "فلا يمسح يده" في حديث كعب بن

(9/577)


مالك عند مسلم : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها" فيحتمل أن يكون أطلق على الأصابع اليد، ويحتمل وهو الأولى أن يكون المراد باليد الكف كلها فيشمل الحكم من أكل بكفه كلها أو بأصابعه فقط أو ببعضها: وقال ابن العربي في "شرح الترمذي" : يدل على الأكل بالكف كلها أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعرق العظم وينهش اللحم، ولا يمكن ذلك عادة إلا بالكف كلها. وقال شيخنا: فيه نظر لأنه يمكن بالثلاث، سلمنا لكن هو ممسك بكفه كلها لا آكل بها، سلمنا لكن محل الضرورة لا يدل على عموم الأحوال. ويؤخذ من حديث كعب بن مالك أن السنة الأكل بثلاث أصابع وإن كان الأكل بأكثر منها جائزا، وقد أخرج سعيد بن منصور عن سفيان "عن عبيد الله ابن أبي يزيد أنه رأى ابن عباس إذا أكل أصابعه الثلاث" قال عياض: والأكل بأكثر منها من الشره وسوء الأدب وتكبير اللقمة، ولأنه غير مضطر إلى ذلك لجمعه اللقمة وإمساكها من جهاتها الثلاث، فإن اضطر إلى ذلك لخفة الطعام وعدم تلفيفه بالثلاث فيدعمه بالرابعة أو الخامسة، وقد أخرج سعيد بن منصور من مرسل ابن شهاب "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل أكل بخمس" فيجمع بينه وبين حديث كعب باختلاف الحال. قوله: "حتى يلعقها" بفتح أوله من الثلاثي أي يلعقها هو "أو يلعقها" بضم أوله من الرباعي أي يلعقها غيره، قال النووي: المراد إلعاق غيره ممن لا يتقذر ذلك من زوجة وجارية وخادم وولد، وكذا من كان في معناهم كتلميذ يعتقد البركة بلعقها، وكذا لو ألعقها شاة ونحوها. وقال البيهقي: إن قوله: "أو" شك من الراوي، ثم قال: فإن كانا جميعا محفوظين فإنما أراد أن يلعقها صغيرا أو من يعلم أنه لا يتقدر بها، ويحتمل أن يكون أراد أن يلعق إصبعه فمه فيكون بمعنى يلعقها، يعني فتكون "أو" للشك. قال ابن دقيق العيد: جاءت علة هذا مبينة في بعض الروايات فإنه "لا يدري في أي طعامه البركة" وقد يعلل بأن مسحها قبل ذلك فيه زيادة تلويث لما يمسح به مع الاستغناء عنه بالريق، لكن إذا صح الحديث بالتعليل لم يعدل عنه. قلت: الحديث صحيح أخرجه مسلم في آخر حديث جابر ولفظه من حديث جابر "إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما أصابها من أذى وليأكلها، ولا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها، فإنه لا يدري أي طعامه البركة" زاد فيه النسائي من هذا الوجه "ولا يرفع الصحفة حتى يلعقها أو يلعقها" ولأحمد من حديث ابن عمر نحوه بسند صحيح، وللطبراني من حديث أبى سعيد نحوه بلفظ: "فإنه لا يدري في أي طعامه يبارك له" ولمسلم نحوه من حديث أنس ومن حديث أبي هريرة أيضا، والعلة المذكورة لا تمنع ما ذكره الشيخ، فقد يكون للحكم علتان فأكثر، والتنصيص على واحدة لا ينفي غيرها، وقد أبدى عياض علة أخرى فقال: إنما أمر بذلك لئلا يتهاون بقليل الطعام. قال النووي: معنى قوله: "في أي طعامه البركة" : أن الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة لا يدري أن تلك البركة فيما أكل أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصيل البركة ا ه. وقد وقع لمسلم في رواية أبي سفيان عن جابر أول الحديث: "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان" وله نحوه في حديث أنس وزاد: "وأمر بأن تسلت القصعة" قال الخطابي: السلت تتبع ما بقي فيها من الطعام، قال النووي: والمراد بالبركة ما تحصل به التغذية وتسلم عاقبته من الأذى ويقوى على الطاعة، والعلم عند الله. وفي الحديث رد على من كره لعق الأصابع استقذارا، نعم يحصل ذلك لو فعله في أثناء الأكل لأنه يعيد أصابعه في الطعام وعليها أثر ريقه، قال الخطابي: عاب قوم أفسد

(9/578)


عقلهم الترفه فزعموا أن لعق الأصابع مستقبح، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي علق بالأصابع أو الصحفة جزء من أجزاء ما أكلوه، وإذا لم يكن سائر أجزائه مستقذرا لم يكن الجزء اليسير منه مستقذرا، وليس في ذلك أكبر من مصه أصابعه بباطن شفتيه. ولا يشك عاقل في أن لا بأس بذلك، فقد يمضمض الإنسان فيدخل إصبعه في فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه ثم لم يقل أحد إن ذلك قذارة أو سوء أدب. وفيه استحباب مسح اليد بعد الطعام، قال عياض: محله فيما لم يحتج فيه إلى الغسل مما ليس فيه غمر ولزوجة مما لا يذهبه إلا الغسل، لما جاء في الحديث من الترغيب في غسله والحذر من تركه. كذا قال وحديث الباب يقتضي منع الغسل والمسح بغير لعق لأنه صريح في الأمر باللعق دونهما تحصيلا للبركة، نعم قد يتعين الندب إلى الغسل بعد اللعق لإزالة الرائحة، وعليه يحمل الحديث الذي أشار إليه، وقد أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة رفعه: "من بات وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه" أخرجه الترمذي دون قوله: "ولم يغسله" وفيه المحافظة على عدم إهمال شيء من فضل الله كالمأكول أو المشروب وإن كان تافها حقيرا في العرف. "تكملة": وقع في حديث كعب بن عجرة عند الطبراني في "الأوسط" صفة لعق الأصابع ولفظه: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث: بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها: الوسطى، ثم التي تليها، ثم الإبهام" قال شيخنا في "شرح الترمذي" كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلويثا لأنها أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما تنزل في الطعام، ويحتمل أن الذي يلعق يكون بطن كفه إلى جهة وجهه، فإذا ابتدأ بالوسطى انتقل إلى السبابة على جهة يمينه وكذلك الإبهام، والله أعلم

(9/579)


53- باب الْمِنْدِيلِ
5457- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَقَالَ لاَ قَدْ كُنَّا زَمَانَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نَجِدُ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ إِلاَّ قَلِيلًا فَإِذَا نَحْنُ وَجَدْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا مَنَادِيلُ إِلاَّ أَكُفَّنَا وَسَوَاعِدَنَا وَأَقْدَامَنَا ثُمَّ نُصَلِّي وَلاَ نَتَوَضَّأُ"
قوله: "باب المنديل" ترجم له ابن ماجه: "مسح اليد بالمنديل". قوله: "حدثني محمد بن فليح" أي ابن سليمان المدني. قوله: "حدثني أبي عن سعيد بن الحارث" أي ابن يحيى المعلى الأنصاري، وقد أخرجه ابن ماجه من رواية ابن وهب عن محمد بن أبي يحيى عن أبيه عن سعيد، فجزم أبو نعيم في "المستخرج" بأن محمد بن أبي يحيى هو ابن فليح لأن فليحا يكنى أبا يحيى وهو معرف بالرواية عن سعيد بن الحارث. وقال غيره: هو محمد بن أبي يحيى الأسلمي والد إبراهيم شيخ الشافعي، واسم أبي يحيى سمعان، وكأن الحامل على ذلك كون ابن وهب يروي عن فليح نفسه فاستبعد قائل ذلك أن يروى عن ابنه محمد بن فليح عنه، ولا عجب في ذلك. والذي ترجح عندي الأول فإن لفظهما واحد. قوله: "سأله عن الوضوء مما مست النار" في رواية الإسماعيلي من طريق أبي عامر عن فليح عن سعيد "قلت لجابر: هل علي فيما مست النار وضوء" ؟ وقد تقدم حكم المسح في الباب الذي قبله، وحكم الوضوء مما مست

(9/579)


النار في كتاب الطهارة.

(9/580)


باب مايقول إذا فرغ من طعامه
...
54- باب مَا يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ
5458- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا"
[الحديث 5458- طرفه في: 5459]
5459- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ وَقَالَ مَرَّةً إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مَكْفُورٍ وَقَالَ مَرَّةً الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى رَبَّنَا"
قوله: "باب ما يقول إذا فرغ من طعامه" قال ابن بطال: اتفقوا على استحباب الحمد بعد الطعام، ووردت في ذلك أنواع، يعني لا يتعين شيء منها. قوله: "سفيان" هو الثوري، وثور بن يزيد هو الشامي، وأول اسم أبيه ياء تحتانية. وقد أورد البخاري هذا الإسناد عن ثور نازلا ثم أورده عاليا عنه ومداره في أكثر الطرق عليه، وقد تابعه بعضه عامر بن جشيب وهو بفتح الجيم وكسر الشين المعجمة وآخره موحدة وزن عظيم، أخرجه الطبراني وابن أبي عاصم من طريقه فقال في سياقه "عن عامر عن خالد قال: شهدنا صنيعا - أي وليمة - في منزل عبد الأعلى ومعنا أبو أمامة" وذكره البخاري في تاريخه من هذا الوجه فقال: "عبد الأعلى بن هلال السلمي". قوله: "إذا رفع مائدته" قد ذكره في الباب بلفظ: "إذا فرغ من طعامه" وأخرجه الإسماعيلي من طريق وكيع عن ثور بلفظ: "إذا فرغ من طعامه ورفعت مائدته" فجمع اللفظين، ومن وجه آخر عن ثور بلفظ: "إذا رفع طعامه من بين يديه" ووقع في رواية عامر بن جشيب بسنده عن أبي أمامة "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول عند فراغي من الطعام ورفع المائدة" الحديث، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم لم يأكل على خوان قط، وقد فسروا المائدة بأنها خوان عليه طعام، وأن بعضهم أجاب أن أنسا ما رأى ذلك ورواه غيره، والمثبت مقدم على النافي، أو المراد بالخوان صفة مخصوصة، والمائدة تطل على كل ما يوضع عليه الطعام لأنها إما من ماد يميد إذا تحرك أو أطعم، ولا يختص ذلك بصفة مخصوصة، وقد تطلق المائدة ويراد بها نفس الطعام أو بقيته أو إناؤه، وقد نقل عن البخاري أنه قال: إذا أكل الطعام على شيء ثم رفع قيل رفعت المائدة. قوله: "الحمد لله كثيرا" في رواية الوليد عن ثور عند ابن ماجه: "الحمد لله حمدا كثيرا". قوله: "غير مكفي" بفتح الميم وسكون الكاف وكسر الفاء وتشديد التحتانية، قال ابن بطال يحتمل أن يكون من كفأت الإناء، فالمعنى: غير مردود عليه إنعامه. ويحتمل أن يكون من الكفاية أي أن الله غير مكفي رزق عباده، لأنه يكفيهم أحد غيره. وقال ابن التين: أي غير محتاج إلى أحد، لكنه هو الذي يطعم عباده ويكفيهم، وهذا قول الخطابي. وقال القزاز:. معناه أنا غير مكتف بنفسي عن كفايته. وقال الداودي: معناه لم أكتف من فضل الله ونعمته. وقال ابن التين: وقول الخطابي أولى لأن مفعولا بمعنى مفتعل فيه بعد وخروج عن الظاهر، وهذا كله على أن الضمير لله، ويحتمل أن يكون الضمير للحمد. وقال إبراهيم الحربي: الضمير للطعام، ومكفي بمعنى

(9/580)


مقلوب من الإكفاء وهو القلب غير أنه لا يكفي الإناء للاستغناء عنه. وذكر ابن الجوزي عن أبي منصور الجواليقي أن الصواب غير مكافأ بالهمزة، أي أن نعمة الله لا تكافأ. قلت: وثبتت هذه اللفظة هكذا في حديث أبي هريرة، لكن الذي في حديث الباب غير مكفي بالياء، ولكل معنى. قوله: "كفانا وأروانا" هذا يؤيد الضمير إلى الله تعالى لأنه تعالى هو الكافي لا المكفي، وكفانا هو من الكفاية، وهي أعم من الشبع والري وغيرهما، فأروانا على هذا من الخاص بعد العام. ووقع في رواية ابن السكن عن الفربري "وأوانا" بالمد من الإيواء. ووقع في حديث أبي سعيد عند أبي داود "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين" ولأبي داود والترمذي من حديث أبي أيوب "الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا" وأخرج النسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة ما في حديث أبي سعيد وأبي أمامة وزيادة في حديث مطول، وللنسائي من طريق عبد الرحمن بن جبير المصري أنه حدثه رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين أنه "كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرب إليه طعامه يقول: بسم الله، فإذا فرغ قال: اللهم أطعمت وسقيت وأغنيت وأقنيت وهديت وأحييت، فلك الحمد على ما أعطيت" وسنده صحيح. قوله: "ولا مكفور" أي مجحود فضله ونعمته، وهذا مما يقوى أن الضمير لله تعالى. قوله: "ولا مودع" بفتح الدال الثقيلة أي غير متروك، ويحتمل كسرها على أنه حال من القائل أي غير تارك. قوله: "ولا مستغنى عنه" بفتح النون وبالتنوين. قوله: "ربنا" بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو ربنا، أو على أنه مبتدأ خبره متقدم، ويجوز النصب على المدح أو الاختصاص أو إضمار أعنى، قال ابن التين ويجوز الجر على أنه يدل على الضمير في عنه. وقال غيره على البدل من الاسم في قوله: "الحمد لله" وقال ابن الجوزي "ربنا" بالنصب على النداء مع حذف أداة النداء. قال الكرماني: بحسب رفع غير أي ونصبه ورفع ربنا ونصبه، والاختلاف في مرجع الضمير يكثر التوجيهات في هذا الحديث.

(9/581)


55- باب الأَكْلِ مَعَ الْخَادِمِ
5460- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلاَجَهُ"
قوله: "باب الأكل مع الخادم" أي على قصد التواضع، والخادم يطلق على الذكر والأنثى أعم من أن يكون رقيقا أو حرا، محله فيما إذا كان السيد رجلا أن يكون الخادم إذا كان أنثى ملكه أو محرمه أو ما في حكمه وبالعكس قوله: "محمد بن زياد" هو الجمحي. قوله: "إذا أتى أحدكم" بالنصب "خادمه" بالرفع. قوله: "فإن لم يجلسه معه" في رواية مسلم: "فليقعده معه فليأكل" وفي رواية إسماعيلي بن أبي خالد عن أبيه عن أبي هريرة عند أحمد والترمذي "فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه فليناوله" وفي رواية لأحمد عن عجلان عن أبي هريرة "فادعه فإن أبي فأطعمه منه" ولابن ماجه من طريق جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة "فليدعه فليأكل معه، فإن لم يفعل" وفاعل أبي وكذا إن لم يفعل يحتمل أن يكون السيد، والمعنى إذا ترفع عن مؤاكلة غلامه، ويحتمل أن يكون الخادم إذا تواضع عن مؤاكلة سيده، ويؤيد الاحتمال الأول أن في رواية جابر عند أحمد "أمرنا أن ندعوه، فإن كره أحدنا

(9/581)


أن يطعم معه فليطعمه في يده" وإسناده حسن. قوله: "فليناوله أكلة أو أكلتين" بضم الهمزة أي اللقمة، وأو للتقسيم بحسب حال الطعام وحال الخادم، وقوله: "أو لقمة أو لقمتين" هو شك من الراوي وقد رواه الترمذي بلفظ: "لقمة" فقط وفي رواية مسلم تقييد ذلك بما إذا كان الطعام قليلا ولفظه: "فإن كان الطعام مشفوها قليلا" وفي رواية أبي داود "يعني قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين" قال أبو داود: يعني لقمة أو لقمتين، ومقتضى ذلك أن الطعام إذا كان كثيرا فإما أن يقعده معه وإما أن يجعل حظه منه كثيرا. قوله: "فإنه ولي حره" أي عند الطبخ "وعلاجه" أي عند تحصيل آلاته، وقبل وضع القدر على النار، ويؤخذ من هذا أن في معنى الطباخ حامل الطعام لوجود المعنى فيه وهو تعلق نفسه به، بل يؤخذ منه الاستحباب في مطلق خدم المرء ممن يعاني ذلك، وإلى ذلك يومئ إطلاق الترجمة، وفي هذا تعليل الأمر المذكور، وإشارة إلى أن للعين حظا في المأكول فينبغي صرفها بإطعام صاحبها من ذلك الطعام لتسكن نفسه فيكون أكف لشره. قال المهلب: هذا الحديث يفسر حديث أبي ذر في الأمر بالتسوية مع الخادم في المطعم والملبس، فإنه جعل الخيار إلى السيد في إجلاس الخادم معه وتركه. قلت: وليس في الأمر في قوله في حديث أبي ذر "أطعموهم مما تطعمون" إلزام بمؤاكلة الخادم، بل فيه أن لا يستأثر عليه بشيء بل يشركه في كل شيء، لكن بحسب ما يدفع به شر عينه. وقد نقل ابن المنذر عن جميع أهل العلم أن الواجب إطعام الخادم من غالب القوت الذي يأكل منه مثله في تلك البلد، وكذلك القول في الأدم والكسوة، وأن للسيد أن يستأثر بالنفيس من ذلك وإن كان الأفضل أن يشرك معه الخادم في ذلك والله أعلم. واختلف حكم هذا الأمر بالإجلاس أو المناولة، فقال الشافع بعد أن ذكر الحديث: هذا عندنا والله أعلم على وجهين: أولهما بمعناه أن إجلاسه معه أفضل، فإن لم فعل فليس بواجب، أو يكون بالخيار بين أن يجلسه أو يناوله، وقد يكون أمره اختيارا غير حتم ا ه. ورجح الرافعي الاحتمال الأخير، وحمل الأول على الوجوب، ومعناه أن الإجلاس لا يتعين، لكن إن فعله كان أفضل وإلا تعينت المناولة، ويحتمل أن الواجب أحدهما لا بعينه. والثاني أن الأمر للندب مطلقا. "تنبيه": في قوله في رواية مسلم: "فإن كان الطعام مشفوها" بالشين المعجمة والفاء فسره بالقليل، وأصله الماء الذي تكثر عليه الشفاه حتى يقل إشارة إلى أن محل الإجلاس أو المناولة ما إذا كان الطعام قليلا وإنما كان كذلك لأنه إذا كان كثيرا وسع السيد والخادم، وقد تقدم أن العلة في الأمر بذلك أن تسكن نفس الخادم بذلك، وهو حاصل مع الكثرة دون القلة، فإن القلة مظنة أن لا يفضل منه شيء. ويؤخذ من قوله: "فإن كان مشفوها" أن الأمر الوارد لمن طبخ بتكثير المرق ليس على سبيل الوجوب، والله أعلم.

(9/582)


56- باب الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ مِثْلُ الصَّائِمِ الصَّابِرِ. فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر. فيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" هذا الحديث من الأحاديث المعلقة التي لم تقع في هذا الكتاب موصولة، وقد أخرجه المصنف في "التاريخ" والحاكم في "المستدرك" من رواية سليمان بن بلال عن محمد بن عبد الله بن أبي حرة بضم المهملة وتشديد الراء عن عمه حكيم بن أبي، حرة عن سليمان الأغر عن أبي هريرة ولفظه: "إن للطاعم الشاكر من الأجر مثل ما للصائم الصابر" وقد اختلف فيه على محمد فأخرجه ابن ماجه من رواية الدراوردي عنه عن عمه حكيم عن سنان بن سنة الأسلمي وقيل عن الدراوردي عن موسى بن عقبة

(9/582)


عن محمد عن عمه عن رجل من أسلم، لكن صرح الدراوردي في رواية أحمد بأن محمد بن أبي حرة أخبره، فلعله كان حمله عن موسى بن عقبة عنه ثم سمعه منه، وقد رجح أبو زرعة رواية الدراوردي هذه، وذكر البخاري في التاريخ من رواية وهيب عن موسى بن عقبة عن حكيم بن أبي حرة عن بعض الصحابة. وأخرج ابن خزيمة وابن ماجه من رواية محمد بن معن بن محمد الغفاري عن أبيه عن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم من رواية محمد بن معن عن أبيه عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وأخرجه ابن خزيمة من رواية عمر بن علي عن معن بن محمد عن سعيد المقبري قال: "كنت أنا وحنظلة بن علي الأسلمي بالبقيع مع أبي هريرة، فحدثنا أبو هريرة به" وهذا محمول على أن معن بن محمد حمله عن سعيد ثم حمله عن حنظلة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية معتمر بن سليمان عن معمر عن سعيد المقبري به لكن هذه الرواية انقطاع خفي على ابن حبان فقد رويناه في "مسند مسدد" عن معتمر عن معمر عن رجل من بني غفار عن المقبري، وكذلك أخرجه عبد الرزاق في جامعه عن معمر، وهذا الرجل هو معن بن محمد الغفاري فيما أظن لاشتهار الحديث من طريقه، قال ابن التين: الطاعم هو الحسن الحال في المطعم وقال ابن بطال: هذا من تفضل الله على عباده أن جعل للطاعم إذا شكر ربه على ما أنعم به عليه ثواب الصائم الصابر. وقال الكرماني: التشبيه هنا في أصل الثواب لا في الكمية ولا الكيفية، والتشبيه لا يستلزم المماثلة من جميع الأوجه. وقال الطيبي: ربما توهم متوهم أن ثواب الشكر بقصر عن ثواب الصبر فأزيل توهمه، أو وجه الشبه اشتراكهما في حبس النفس، فالصابر يحبس نفسه على طاعة المنعم والشاكر يحبس نفسه على محبته ا ه. وفي الحديث الحث على شكر الله على جميع نعمه إذ لا يختص ذلك بالأكل. وفيه رفع الاختلاف المشهور في الغنى الشاكر والفقير الصابر وأنهما سواء، كذا قيل، ومساق الحديث يقتضي تفضيل الفقير الصابر لأن الأصل أن المشبه به أعلى درجة من المشبه، والتحقيق عند أهل الحذق أن لا يجاب في ذلك بجواب كلي، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأحوال. نعم عند الاستواء من كل جهة، وفرض رفع العوارض بأسرها، فالفقير أسلم عاقبة في الدار الآخرة، ولا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيء، والله أعلم. وسيكون لنا عودة إلى الكلام على هذه المسألة في كتاب الرقاق إن لله تعالى. وقد تقدم القول فيها في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة في الكلام على حديث: "ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى".

(9/583)


57- باب الرَّجُلِ يُدْعَى إِلَى طَعَامٍ فَيَقُولُ وَهَذَا مَعِي
وَقَالَ أَنَسٌ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مُسْلِمٍ لاَ يُتَّهَمُ فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ
5461- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ كَانَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ وَكَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَعَرَفَ الْجُوعَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ إِلَى غُلاَمِهِ اللَّحَّامِ فَقَالَ اصْنَعْ لِي طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةً لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ فَصَنَعَ لَهُ طُعَيِّمًا ثُمَّ أَتَاهُ فَدَعَاهُ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يَا أَبَا شُعَيْبٍ إِنَّ رَجُلًا تَبِعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ قَالَ لاَ بَلْ أَذِنْتُ لَهُ"

(9/583)


قوله: "باب الرجل يدعى إلى طعام فيقول: وهذا معي" ذكر فيه حديث أبي مسعود في قصة الغلام اللحام، وقد مضى شرحه مستوفى قبل أكثر من عشرين بابا، واعترضه الإسماعيلي فقال: ترجم الباب بالطاعم الشاكر ولم يذكر فيه شيئا وقال: "وهذا معي" ثم نازعه في أن القصة ليس فيها ما ذكر، وأن الرجل تبعهم من تلقاء نفسه. قلت: أما الجواب عن الأول فكأنه سقط من روايته قول البخاري "فيه عن أبي هريرة" وأما الثاني فأشار به البخاري إلى حديث أنس في قصة الخياط الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وهذه" يعني عائشة، وقد تقدم شرح ذلك مستوفى، وإنما عدل البخاري عن إيراد حديث أنس هنا إلى حديث أبي مسعود إشارة منها إلى تغاير القصتين واختلاف الحالين. قوله: "وقال أنس إذا دخلت على مسلم لا يهتم فكل من طعامه واشرب من شرابه" وصله ابن أبي شيبة من طريق عمير الأنصاري "سمعت أنسا يقول مثله" لكن قال: "على رجل لا تتهمه" وجاء نحو ذلك عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه أحمد والحاكم والطبراني من طرق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما فليأكل من طعامه ولا يسأله عن" قال الطبراني: تفرد به مسلم بن خالد. قلت: وفيه مقال لكن أخرج له الحاكم شاهد من رواية ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رواية بنحوه. وأخرج ابن أبي شيبة من هذا الوجه موقوفا، ومطابقة الأثر للحديث من جهة كون اللحام لم يكن متهما، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم من طعامه ولم يسأله وعلى هذا القيد يحمل مطلق حديث أبي هريرة، والله أعلم حديث أبي مسعود في قصة الغلام اللحام، قد مضى شرحه مستوفى قبل أكثر من عشرين بابا.

(9/584)


58- باب إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ فَلاَ يَعْجَلْ عَنْ عَشَائِهِ
5462- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي كَانَ يَحْتَزُّ بِهَا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
5463- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ"
وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ"
5464- وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَعَشَّى مَرَّةً وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ"
5465- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ وَحَضَرَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ"
قَالَ وُهَيْبٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامٍ إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ"
قوله: "باب إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه" قال الكرماني العشاء في الترجمة يحتمل أن يراد به ضد الغداء وهو بالفتح، ويحتمل أن يراد به صلاة العشاء وهي بالكسر ولفظ: "عن عشائه" بالفتح لا غير. قلت:

(9/584)


الرواية عندنا بالفتح، وإنما في الترجمة عدول عن المضمر إلى المظهر لمعنى قصده، ويبعد الكسر أن الحديث إنما ورد في صلاة المغرب، وقد ورد النهي عن تسميتها عشاء، ولفظ هذه الترجمة وقع معناه في حديث أورده المصنف في الصلاة في أوائل صلاة الجماعة من طريق ابن شهاب عن أنس بلفظ: "إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم" وأورده فيه من حديث ابن عمر بلفظ: "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه". قوله: "وقال الليث حدثني يونس" أي ابن يزيد "عن ابن شهاب" وصله الذهلي في الزهريات عن أبي صالح عن الليث، وأخرجه الإسماعيلي من رواية أبي ضمرة عن يونس. قوله: "فألقاها" أي القطعة اللحم التي كان احتزها. وقال الكرماني: الضمير للكتف، وأنث باعتبار أنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه أو هو مؤنث سماعي، قال: ودلالته على الترجمة من جهة أنه استنبط من اشتغاله صلى الله عليه وسلم بالأكل وقت الصلاة. قلت: ويظهر لي أن البخاري أراد بتقديم هذا الحديث بيان أن الأمر في حديث ابن عمر وعائشة بترك المبادرة إلى الصلاة قبل تناول الطعام ليس على الوجوب. قوله: "وعن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه" هو معطوف على السند الذي قبله، وهو من رواية وهيب عن أيوب، وكذا أثر ابن عمر أنه تعشى، مرة وهو يسمع قراءة الإمام، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن سهل بن عسكر عن معلى بن أسد شيخ البخاري فيه بهذا الإسناد الثاني ولفظه: "إذا وضع العشاء" الحديث. وأخرج أثر ابن عمر من طريق عبد الوارث عن أيوب ولفظه: "قال فتعشى ابن عمر ليلة وهو يسمع قراءة الإمام". قوله في رواية عائشة "قال وهيب ويحيى بن سعيد عن هشام" يعني ابن عروة "إذا وضع العشاء" يعني أن هذين روياه عن هشام بلفظ: "إذا وضع" بدل "إذا حضر" وهي التي وصلها في الباب من رواية سفيان وهو الثوري عن هشام، فأما رواية وهيب فوصلها الإسماعيلي من رواية يحيى بن حسان ومعلى بن أسد قالا حدثنا وهيب به ولفظه: "إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء" وأما رواية يحيى بن سعيد وهو القطان فوصلها أحمد عنه بهذا اللفظ أيضا، وقد أخرجها المصنف بلفظ: "إذا حضر" وفي بعض الروايات عنه "وضع" وأخرجه الإسماعيلي من رواية عمرو بن علي الفلاس عن يحيى بن سعيد بلفظ: "إذا أقيمت الصلاة وقرب العشاء فكلوا ثم صلوا" وذكر الإسماعيلي أن أكثر أصحاب هشام رووه عنه بلفظ: "إذا وضع" وأن بعضهم قال: "إذا حضر" وجاء عن شعبة وضع وحضر. وقال ابن إسحاق "إذا قدم". قلت: قدم وقرب ووضع متقاربات المعنى، فيحمل حضر عليها، وإن كان معناها في الأصل أعم، والله أعلم.

(9/585)


باب قوله تعالى:(فإذا طعمتم فانتشروا).
...
59- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}
5466- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسًا قَالَ أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحِجَابِ كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرُوسًا بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَكَانَ تَزَوَّجَهَا بِالْمَدِينَةِ فَدَعَا النَّاسَ لِلطَّعَامِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ مَعَهُ رِجَالٌ بَعْدَ مَا قَامَ الْقَوْمُ حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَشَى وَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ ثُمَّ

(9/585)


ظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ مَكَانَهُمْ فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ قَامُوا فَضَرَبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سِتْرًا وَأُنْزِلَ الْحِجَابُ"
قوله: "باب قول الله تعالى :{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} ذكر فيه حديث أنس في قصة زينب بنت جحش والبناء عليها ونزول آية الحجاب وقوله: "أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب" العروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة والعرس مدة بناء الرجل بالمرأة وأصله اللزوم، وقد تقدم بيان الاختلاف في الأمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة في أول البيع في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} وأما الانتشار هنا بعد الأكل فالمراد به التوجه عن مكان الطعام للتخفيف عن صاحب المنزل هو مقتضى الآية، وقد مر مستوفى في تفسير سورة الأحزاب. حديث أنس في قصة زينب بنت جحش والبناء عليها ونزول آية الحجاب وقوله: "أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب" العروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة والعرس مدة بناء الرجل بالمرأة وأصله اللزوم، وقد تقدم بيان الاختلاف في الأمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة في أول البيع في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} وأما الانتشار هنا بعد الأكل فالمراد به التوجه عن مكان الطعام للتخفيف عن صاحب المنزل هو مقتضى الآية، وقد مر مستوفى في تفسير سورة الأحزاب. "خاتمة": اشتمل كتاب الأطعمة من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث واثني عشر حديثا، المعلق أربعة عشر طريقا والباقي موصول، المكرر منه فيه وفيما مضى تسعون حديثا والخالص اثنان وعشرون حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة في استقرائه عمر الآية، وحديث أنس "ما رأى شاة سميطا"، وحديث أبى جحيفة "لا آكل متكئا"، وحديث سهل "ما رأى النقى"، وحديث جابر في وفاء دينه لما تقرر أنها قصة له غير قصته في وفاء دين أبيه، وحديث أنس "إذا حضر الطعام والصلاة"، وحديث جابر في المناديل، وحديث أبي أمامة في الدعاء بعد الأكل، وحديث أبي هريرة في الطاعم الشاكر. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ستة آثار. والله أعلم.

(9/586)


كتاب العقيقة
باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه
...
6- كِتَاب الْعَقِيقَةِ
1- باب تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ غَدَاةَ يُولَدُ لِمَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ وَتَحْنِيكِهِ
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب العقيقة" بفتح العين المهملة، وهو اسم لما يذبح عن المولود. واختلف في اشتقاقها، فقال أبو عبيد والأصمعي: أصلها الشعر الذي يخرج على رأس المولود، وتبعه الزمخشري وغيره. وسميت الشاة التي تذبح عنه في تلك الحالة عقيقة لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح. وعن أحمد أنها مأخوذة من العق وهو الشق والقطع، ورجحه ابن عبد البر وطائفة. قال الخطابي: العقيقة اسم الشاة المذبوحة عن الولد، سميت بذلك لأنها تعق مذابحها أي تشق وتقطع. قال: وقيل هي الشعر الذي يحلق. وقال ابن فارس: الشاة التي تذبح والشعر كل منهما يسمى عقيقة، يقال عق يعق إذا حلق عن ابنه عقيقته وذبح للمساكين شاة. وقال القزاز: أصل العق الشق، فكأنها قيل لها عقيقة بمعنى معقوقة، وسمي شعر المولود عقيقة باسم ما يعق عنه، وقيل باسم المكان الذي انعق عنه فيه، وكل مولود من البهائم فشعره عقيقة، فإذا سقط وبر البعير ذهب عقه. ويقال: أعقت الحامل نبتت عقيقة ولدها في بطنها. قلت: ومما ورد في تسمية الشاة عقيقة ما أخرجه البزار من طريق عطاء عن ابن عباس رفعه: "للغلام عقيقتان وللجارية عقيقة" وقال: لا نعلمه بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد ا ه. ووقع في عدة أحاديث "عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة".

(9/586)


5467- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنِي بُرَيْدٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَدَفَعَهُ إِلَيَّ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي مُوسَى"
[الحديث 5467- طرفه في: 6198]
5468- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ يُحَنِّكُهُ فَبَالَ عَلَيْهِ فَأَتْبَعَهُ الْمَاءَ"
5469- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ قَالَتْ فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَنَزَلْتُ قُبَاءً فَوَلَدْتُ بِقُبَاءٍ ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْتُهُ فِي حَجْرِهِ ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَنَّكَهُ بِالتَّمْرَةِ ثُمَّ دَعَا لَهُ فَبَرَّكَ عَلَيْهِ وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلاَمِ فَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا لِأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ الْيَهُودَ قَدْ سَحَرَتْكُمْ فَلاَ يُولَدُ لَكُمْ"
5470- حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ مَا فَعَلَ ابْنِي قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ وَارُوا الصَّبِيَّ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ أَعْرَسْتُمْ اللَّيْلَةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا فَوَلَدَتْ غُلاَمًا قَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَمَعَهُ شَيْءٌ قَالُوا نَعَمْ تَمَرَاتٌ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَغَهَا ثُمَّ أَخَذَ مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ بِهِ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ وَسَاقَ الْحَدِيثَ"
قوله: "باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه" كذا في رواية أبي ذر عن الكشميهني، وسقط لفظة "عن" للجمهور، وللنسفي "وإن لم يعق عنه" بدل "لمن لم يعق عنه" ورواية الفربري أول لأن قضية رواية النسفي تعين التسمية غداة الولادة سواء حصلت العقيقة عن ذلك المولود أم لا، وهذا يعارضه الأخبار الواردة في التسمية يوم السابع كما

(9/587)


سأذكرها قريبا. وقضية رواية الفربري أن من لم يرد أن يعق عنه لا يؤخر تسميته إلى السابع كما وقع في قصة إبراهيم بن أبي موسى وعبد الله بن أبي طلحة وكذلك إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن الزبير، فإنه لم ينقل أنه عق عن أحد منهم، ومن أريد أن يعق عنه تؤخر تسميته إلى السابع كما سيأتي في الأحاديث الأخرى، وهو جمع لطيف لم أره لغير البخاري. قوله: "وتحنيكه" أي غداة يولد، وكأنه قيد بالغداة اتباعا للفظ الخبر. والغداة تطلق ويراد بها مطلق الوقت وهو المراد هنا، وإنما اتفق تأخير ذلك لضرورة الواقع، فلو اتفق أنها تلد نصف النهار مثلا فوقت التحنيك والتسمية بعد الغداة قطعا. والتحنيك مضغ الشيء ووضعه في فم الصبي ودلك حنكه به، يصنع ذلك بالصبي ليتمرن على الأكل ويقوى عليه. وينبغي عند التحنيك أن يفتح فاه حتى ينزل جوفه، وأولاه التمر فإن لم يتيسر تمر فرطب، وإلا فشيء حلو، وغسل النحل أولى من غيره، ثم ما لم تمسه نار كما في نظيره مما يفطر الصائم عليه. ويستفاد من قوله: "وإن لم يعق عنه" الإشارة إلى أن العقيقة لا تجب، قال الشافعي أفرط فيها رجلان قال أحدهما هي بدعة والآخر قال واجبة؛ وأشار بقائل الوجوب إلى الليث بن سعد، ولم يعرف إمام الحرمين الوجوب إلا عن داود فقال: لعل الشافعي أراد غير داود إنما كان بعده، وتعقب بأنه ليس للعل هنا معنى بل هو أمر محقق فإن الشافعي مات ولداود أربع سنين، وقد جاء الوجوب أيضا عن أبي الزناد وهي رواية عن أحمد. والذي نقل عنه أنها بدعة أبو حنيفة قال ابن المنذر: أنكر أصحاب الرأي أن تكون سنة وخالفوا في ذلك الآثار الثابتة، واستدل بعضهم بما رواه مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه "سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: لا أحب العقوق" كأنه كره الاسم وقال: "من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل". وفي رواية سعيد بن منصور عن سفيان عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن عمه "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن العقيقة وهو على المنبر بعرفة فذكره" وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه أبو داود، ويقوى أحد الحديثين بالآخر، قال أبو عمر: لا أعلمه مرفوعا إلا عن هذين. قلت: وقد أخرجه البزار وأبو الشيخ في العقيقة من حديث أبي سعيد، ولا حجة فيه لنفي مشروعيتها. بل آخر الحديث يثبتها، وإنما غايته أن يؤخذ منه أن الأولى أن تسمى نسيكة أو ذبيحة وأن لا تسمى عقيقة. وقد نقله ابن أبي الدم عن بعض الأصحاب قال كما في تسمية العشاء عتمة، وادعى محمد بن الحسن نسخها بحديث: "نسخ الأضحى كل ذبح" أخرجه الدار قطني من حديث علي وفي سنده ضعف. وأما نفي ابن عبد البر وروده فمتعقب، وعلى تقدير أن يثبت أنها كانت واجبة ثم نسخ وجوبها فيبقى الاستحباب كما جاء في صوم عاشوراء، فلا حجة فيه أيضا لمن نفى مشروعيتها. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث. قوله: "بريد" بالموحدة والراء مصغر هو ابن عبد الله بن أبي بردة وهو يروي عن جده أبي ردة عن أبي موسى الأشعري نسخه1 وإبراهيم بن أبي موسى المذكور في هذا الحديث ذكره جماعة في الصحابة لما وقع في هذا الحديث، وذلك يقتضي أن تكون له رواية، وقد ذكره ابن حبان في الصحابة وقال: لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم ذكره في ثقات التابعين وليس ذلك تناقضا منه بل هو بالاعتبارين. قوله: "فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم فحنكه" فيه إشعار بأنه أسرع بإحضاره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تحنيكه كان بعد تسميته،
ـــــــ
(1 ) كذا في النسخ، والذي يظهر انها زائدة.

(9/588)


ففيه تعجيل تسمية المولود ولا ينتظر بها إلى السابع. وأما ما رواه أصحاب السنن الثلاثة من حديث الحسن عن سمرة في حديث العقيقة "تذبح عنه يوم السابع ويسمى" فقد اختلف في هذه اللفظة هل هي "يسمى" أو "يدمى" بالدال بدل السين؟ وسيأتي البحث في ذلك في الباب الذي يليه. ويدل على أن التسمية لا تختص بالسابع ما تقدم في النكاح من حديث أبي أسيد أنه "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بابنه حين ولد فسماه المنذر" وما أخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس رفعه قال: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيف" الحديث. قال البيهقي: تسمية المولود حين أصح من الأحاديث في تسميته يوم السابع. قلت: قد ورد فيه غير ما ذكر، ففي البزار وصحيحي ابن حبان والحاكم بسند صحيح عن عائشة قالت: "عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين يوم السابع وسماها" وللترمذي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسمية المولود لسابعه" وهذا من الأحاديث التي يتعين فيها أن الجد هو الصحابي لا جد عمرو الحقيقي محمد بن عبد الله بن عمرو. وفي الباب عن ابن عباس قال: "سبعة من السنة في الصبي: يوم السابع يسمى ويختن ويماط عنه الأذى وتثقب أذنه ويعق عنه ويحلق رأسه ويلطخ من عقيقته ويتصدق بوزن شعر رأسه ذهبا أو فضة" أخرجه الطبراني في "الأوسط" وفي سنده ضعف، وفيه أيضا عن ابن عمر رفعه: "إذا كان يوم السابع للمولود فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى وسموه" وسنده حسن. قوله: "يحيى" هو القطان وهشام هو ابن عروة. قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصبي يحنكه" تقدم في الطهارة من وجه آخر عن هشام بن عروة ليس فيه ذكر التحنيك، وبينت هناك ما قيل في اسمه. حديث أسماء في ولادة عبد الله بن الزبير، وقد تقدم شرحه مستوفى في باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة "وبيان الاختلاف في سنده. ووقع في آخره هنا من الزيادة" ففرحوا به فرحا شديدا "لأنهم قيل لهم إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم" وهذا يدل على ما قدمته أن ولادته كانت بعد استقرارهم بالمدينة، وما وقع في أول الحديث أنه ولدته بقباء ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أنها أحضرته له بقباء، وإنما حملته من قباء إلى المدينة. وقد أخرج "ابن سعد في الطبقات" من رواية أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن قال: "لما قدم المهاجرون المدينة أقاموا لا يولد لهم، فقالوا: سحرتنا يهود، حتى كثرت في ذلك القالة، فكان أول مولود بعد الهجرة عبد الله بن الزبير، فكبر المسلمون تكبيرة واحدة حتى ارتجت المدينة تكبيرا" وقوله: "وأنا متم" بكسر المثناة أي شارفت تمام الحمل، وقوله: "تفل" بمثناة ثم فاء "وبرك" بالتشديد أي دعا له بالبركة: حديث أنس في قصة ابن أبي طلحة واسمه عبد الله وهو والد إسحاق، وقد تقدم شرحه في الجنائز وفي الزكاة. قوله: "أعرستم" ؟ هو استفهام محذوف الأداة والعين ساكنة، أعرس الرجل إذا بنى بامرأته، ويطلق أيضا على الوطء لأنه يتبع البناء غالبا، ووقع رواية الأصيلي: "أعرستم" ؟ بفتح العين وتشديد الراء فقال عياض: هو غلط لأن التعريس النزول، وأثبت غيره أنها لغة، يقال أعرس وعرس إذا دخل بأهله والأفصح أعرس قاله ابن التيمي في كتاب التحرير في شرح مسلم له. قوله: "قال لي أبو طلحة احفظه" في رواية الكشميهني: "احفظيه" والأول أولى. قوله: "حدثني محمد بن المثنى - إلى أن قال - وساق الحديث" هذا يوهم أنه يريد الحديث الذي قبله وليس كذلك لأن لفظهما مختلف، وهما حديثان عند ابن عون: أحدهما عنده عن أنس بن سيرين وهو المذكور هنا، والثاني عنده عن محمد بن سيرين عن أنس، وقد ساقه المصنف في اللباس بهذا الإسناد ولفظه: "أن أم سليم قالت لي: يا أنس، انظر هذا الغلام

(9/589)


فلا تصيبن شيئا حتى تغدو به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فغدوت به فإذا هو في حائط له وعليه خميصة وهو يسم الظهر الذي قدم عليه في الفتح" ثم وجدت في نسخة الصغاني بعد قوله وساق الحديث: "قال أبو عبد الله اختلفا في أنس بن سيرين ومحمد بن سيرين أي أن ابن أبي عدى ويزيد بن هارون اختلفا شيخ عبد الله بن عون وهذا يتعين أنهما عنده حديث اختلفت ألفاظه. وذكر المزي أن حماد بن سعد وافق ابن أبي عدي أخرجه مسلم من طريقه لكني لم أره في كتاب مسلم مسمى بل قال: "عن ابن سيرين" ويؤيد رواية ابن أبي عدي أن أحمد أخرج الحديث مطولا من طريق همام عن محمد بن سيرين

(9/590)


2- باب إِمَاطَةِ الأَذَى عَنْ الصَّبِيِّ فِي الْعَقِيقَةِ
5471- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ مَعَ الْغُلاَمِ عَقِيقَةٌ وَقَالَ حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ وَقَتَادَةُ وَهِشَامٌ وَحَبِيبٌ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ سَلْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَاصِمٍ وَهِشَامٍ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ الرَّبَابِ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ سَلْمَانَ قَوْلَهُ"
[الحديث 5471- طرفه في: 5472]
5472- وَقَالَ أَصْبَغُ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ حَدَّثَنَا سَلْمَانُ بْنُ عَامِرٍ الضَّبِّيُّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَعَ الْغُلاَمِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى" حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ أَمَرَنِي ابْنُ سِيرِينَ أَنْ أَسْأَلَ الْحَسَنَ مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ
قوله: "باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة" الإماطة الإزالة. قوله: "عن محمد" هو ابن سيرين. قوله: "عن سلمان بن عامر" هو الضبي، وهو صحابي سكن البصرة، ماله في البخاري غير هذا الحديث، وقد أخرجه من عدة طرق موقوفا ومرفوعا موصولا من الطريق الأولى لكنه لم يصرح برفعه فيها؛ ومعلقا من الطرق الأخرى صرح في طريق منها بوقفه وما عداها مرفوع. قال الإسماعيلي لم يخرج البخاري في الباب حديثا صحيحا على شرطه، أما حديث حماد بن زيد يعني الذي أورده موصولا فجاء به موقوفا وليس فيه ذكر إماطة الأذى الذي ترجم به، وأما حديث جرير بن حازم فذكره بلا خبر، وأما حديث حماد بن سلمة فليس من شرطه في الاحتجاج. قلت: أما حديث حماد بن زيد فهو المعتمد عليه عند البخاري، لكنه أورده مختصرا، فكأنه سمعه كذلك من شيخه أبي النعمان، واكتفى به كعادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض الحديث الذي يورده، وقد أخرجه أحمد عن يونس بن محمد عن حماد بن زيد فزاد في المتن "فأهريقوا عنه دما، وأميطوا عنه الأذى" ولم يصرح برفعه، وأخرجه أيضا عن يونس بن محمد عن حماد بن زيد عن هشام عن محمد بن سيرين فصرح برفعه، وأخرجه أيضا عن عبد الوهاب عن ابن عون وسعيد عن محمد بن سيرين عن سلمان مرفوعا، وأخرجه الإسماعيلي من طريق سليمان بن حرب عن حماد

(9/590)


بن زيد عن أيوب فقال فيه: "رفعه:" وأما حديث جرير بن حازم وقوله أنه ذكره بلا خبر، يعني لم يقل في أول الإسناد أنبأنا أصبغ بل قال: "قال أصبغ" لكن أصبغ من شيوخ البخاري قد أكثر عنه في الصحيح، فعلى قول الأكثر هو موصول كما قرره ابن الصلاح في "علوم الحديث:" وعلى قول ابن حزم هو منقطع وهذا كلام الإسماعيلي يشير إلى موافقته، وقد زيف الناس كلام ابن حزم في ذلك، وأما كون حماد ابن سلمة على شرطه في الاحتجاج فمسلم، لكن لا يضره إيراده للاستشهاد كعادته. قوله: "وقال حجاج" هو ابن منهال، وحماد هو ابن سلمة، وقد وصله الطحاوي وابن عبد البر والبيهقي من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي عن حجاج بن منهال "حدثنا حماد بن سلمة به" وقد أخرجه النسائي من رواية عفان والإسماعيلي من طريق حبان بن هلال وعبد الأعلى بن حماد وإبراهيم بن الحجاج كلهم عن حماد بن سلمة فزادوا مع الأربعة الذين ذكرهم البخاري - وهم أيوب وقتادة وهشام وهو ابن حسان وحبيب وهو ابن الشهيد - يونس وهو ابن عبيد ويحيى بن عتيق، لكن ذكر بعضهم عن حماد ما لم يذكر الآخر، وساق المتن كله على لفظ حبان، وصرح برفعه ولفظه: "في الغلام عقيقة فأهرقوا عنه الدم، وأميطوا عنه الأذى" قال الإسماعيلي: وقد رواه الثوري موصولا مجردا ثم ساقه من طريق أبي حذيفة عن سفيان عن أيوب كذلك، فاتفق هؤلاء على أنه من حديث سلمان بن عامر، وخالفهم وهيب فقال: "عن أيوب عن محمد عن أم عطية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مع الغلام" فذكر مثله سواء، أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من رواية حوثرة بن محمد بن أبي هشام عن وهيب به، ووهيب من رجال الصحيحين وأبو هشام اسمه المغيرة بن سلمة احتج به مسلم وأخرج له البخاري تعليقا ووثقه ابن المديني والنسائي وغيرهما، وحوثرة بحاء مهملة ومثلثة وزن جوهرة بصري يكنى أبا الأزهر احتج به ابن خزيمة في صحيحه. وأخرج عنه من الستة ابن ماجه، وذكر أبو علي الجياني أن أبا داود روى عنه في كتاب بدء الوحي خارج السنن، وذكره ابن حبان في الثقات، فالإسناد قوي إلا أنه شاذ، والمحفوظ عن محمد بن سيرين عن سلمان بن عامر، فلعل بعض رواته دخل عليه حديث في حديث. قوله: "وقال غير واحد عن عاصم وهشام عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم" قلت من الذين أبهمهم عن عاصم سفيان بن عيينة أخرجه أحمد عنه بهذا الإسناد فصرح برفعه، وذكر المتن المذكور وحديثين آخرين: أحدهما في الفطر على التمر، والثاني في الصدقة على ذي القرابة، وأخرجه الترمذي من طريق عبد الرزاق والنسائي عن عبد الله بن محمد الزهري كلاهما عن ابن عيينة بقصة العقيقة حسب. وقال النسائي في روايته عن الرباب عن عمها سلمان به، والرباب بفتح الراء وبموحدتين مخففا ما لها في البخاري غير هذا الحديث، وممن رواه عن هشام بن حسان عبد الرزاق أخرجه أحمد عنه عن هشام بالأحاديث الثلاثة، وأخرجه أبو داود والترمذي من طريق عبد الرزاق، ومنهم عبد الله بن نمير أخرجه ابن ماجه من طريقه عن هشام به، وأخرجه أحمد أيضا عن يحيى القطان ومحمد بن جعفر كلاهما عن هشام لكن لم يذكر الرباب في إسناده، وكذا أخرجه الدارمي عن سعيد بن عامر والحارث بن أبي أسامة عن عبد الله بن بكير السهمي كلاهما عن هشام، قوله: "ورواه يزيد بن إبراهيم عن ابن سيرين عن سلمان قوله" قلت: وصله الطحاوي في "بيان المشكل" فقال: "حدثنا محمد بن خزيمة حدثنا حجاج بن منهال حدثنا يزيد بن إبراهيم به موقوفا". قوله: "وقال أصبغ أخبرني ابن وهب إلخ" وصله الطحاوي عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب به قال الإسماعيلي: ذكر البخاري ابن وهب بلا خبر، وقد قال أحمد بن حنبل: حديث جرير بن حازم

(9/591)


كأنه على التوهم أو كما قال. قلت: لفظ الأثرم عن أحمد حدث بالوهم بمصر ولم يكن يحفظ، وكذا ذكر الساجي ا ه وهذا مما حديث به جرير بمصر، لكن قد وافقه غيره على رفعه عن أيوب، نعم قوله عن محمد "حدثنا سلمان بن عامر" هو الذي تفرد به، وبالجملة فهذه الطرق يقوى بعضها بعضا، والحديث مرفوع لا يضره رواية من وقفه. قوله: "مع الغلام عقيقة" تمسك بمفهومه الحسن وقتادة فقالا: يعق عن الصبي ولا يعق عن الجارية، وخالفهم الجمهور فقالوا: يعق عن الجارية أيضا، وحجتهم الأحاديث المصرحة بذكر الجارية، وسأذكرها بعد هذا، فلو ولد اثنان في بطن استحب عن كل واحد عقيقه، ذكره ابن عبد البر عن الليث وقال: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافه. قوله: "فأهريقوا عنه دما" كذا أبهم ما يهراق في هذا الحديث وكذا في حديث سمرة الآتي بعده، وفسر ذلك في عدة أحادث منها حديث عائشة أخرجه الترمذي وصححه من رواية يوسف بن ماهك "أنهم دخلوا على حفصة بنت عبد الرحمن - أي ابن أبي بكر الصديق - فسألوها عن العقيقة، فأخبرتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة" وأخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث أم كرز أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة واحدة، ولا يضركم ذكرانا كن أو إناثا" قال الترمذي صحيح، وأخرجه أبو داود والنسائي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه أثناء حديث قال: "من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل: عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة" قال داود بن قيس رواية عن عمرو "سألت زيد بن أسلم عن قوله مكافئتان فقال: متشابهتان تذبحان جميعا أي لا يؤخر ذبح إحداهما عن الأخرى" وحكى أبو داود عن أحمد المكافئتان المتقاربتان، قال الخطابي: أي في السن. وقال الزمخشري: معناه متعادلتان لما يجزي في الزكاة وفي الأضحية، وأولى من ذلك كله ما وقع في رواية سعيد بن منصور في حديث أم كرز من وجه آخر عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ: "شاتان مثلان" ووقع عند الطبراني في حديث آخر "قيل: ما المكافئتان؟ قال المثلان" وما أشار إليه زيد بن أسلم من ذبح إحداهما عقب الأخرى حسن، ويحتمل الحمل على المعنيين معا، وروى البزار وأبو الشيخ من حديث أبي هريرة رفعه: "أن اليهود تعق عن الغلام كبشا ولا تعق عن الجارية، فعقوا عن الغلام كبشين وعن الجارية كبشا" وعند أحمد من حديث أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العقيقة حق عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة" وعن أبي سعيد نحو حديث عمرو بن شعيب أخرجه أبو الشيخ، وتقدم حديث ابن عباس أول الباب، وهذه الأحاديث حجة للجمهور في التفرقة بين الغلام والجارية، وعن مالك هما سواء فيعق عن كل واحد منهما شاة، واحتج له بما جاء "أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا" أخرجه أبو داود ولا حجة فيه فقد أخرجه أبو الشيخ من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ: "كبشين كبشين" وأخرج أيضا من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، وعلى تقدير ثبوت رواية أبي داود فليس في الحديث ما يرد به الأحاديث المتواردة في التنصيص على التثنية للغلام، بل غايته أن يدل على جواز الاقتصار، وهو كذلك، فإن العدد ليس شرطا بل مستحب. وذكر الحليمي أن الحكمة في كون الأنثى على النصف من الذكر أن المقصود استبقاء النفس فأشبهت الدية، وقواه ابن القيم بالحديث الوارد في أن من أعتق ذكرا أعتق عضو منه، ومن أعتق جاريتين كذلك، إلى غير ذلك مما ورد. ويحتمل أن يكون في ذلك الوقت ما تيسر العدد. واستدل بإطلاق الشاة والشاتين على أنه لا يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية، وفيه وجهان للشافعية، وأصحهما يشترط وهو بالقياس

(9/592)


لا بالخبر، ويذكر الشاة والكبش على أنه يتعين الغنم للعقيقة، وبه ترجم أبو الشيخ الأصبهاني ونقله ابن المنذر عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر. وقال البندنيجي من الشافعية: لا نص للشافعي في ذلك، وعندي أنه لا يجزئ غيرها، والجمهور على إجزاء الإبل والبقر أيضا، وفيه حديث عند الطبراني وأبي الشيخ عن أنس رفعه: "يعق عنه من الإبل والبقر والغنم" ونص أحمد على اشتراط كاملة، وذكر الرافعي بحثا أنها تتأدى بالسبع كما في الأضحية والله أعلم. قوله: "وأميطوا" أي أزيلوا وزنا ومعنى. قوله: "الأذى" وقع عند أبي داود من طريق سعيد بن أبي عروبة وابن عون عن محمد بن سيرين قال: "إن لم يكن الأذى حلق الرأس فلا أدري ما هو" وأخرج الطحاوي من طريق يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال: "لم أجد من يخبرني عن تفسير الأذى" ا ه. وقد جزم الأصمعي بأنه حلق الرأس، وأخرجه أبو داود بسند صحيح عن الحسن كذلك، ووقع في حديث عائشة عند الحاكم "وأمر أن يماط عن رءوسهما الأذى" ولكن لا يتعين ذلك في حلق الرأس، فقد وقع في حديث ابن عباس عند الطبراني "ويماط عنه الأذى ويحلق رأسه" فعطفه عليه، فالأولى حمل الأذى على ما هو أعم من حلق الرأس، ويؤيد ذلك أن في بعض طرق حديث عمرو بن شعيب "ويماط عنه أقذاره" رواه أبو الشيخ. قوله: "حدثنا عبد الله بن أبي الأسود" هو عبد الله بن محمد بن حميد بن الأسود بن أبي الأسود - نسب لجد جده - وربما ينسب لجد أبيه فقيل عبد الله بن الأسود معروف من شيوخ البخاري، وشيخه قريش بن أنس بصري ثقة يكنى أبا أنس، كان قد تغير سنة ثلاث ومائتين، واستمر على ذلك ست سنين، فمن سمع منه قبل ذلك فسماعه صحيح، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد أخرجه الترمذي عن البخاري عن علي بن المديني عنه، ولم أره في نسخ الجامع إلا عن عبد الله بن أبي الأسود، فكأن له فيه شيخين. وقد توقف البرزنجي في صحة هذا الحديث من أجل اختلاط قريش، وزعم أنه تفرد به وأنه وهم، وكأنه تبع في ذلك ما حكاه الأثرم عن أحمد أنه ضعف حديث قريش هذا وقال: ما أراه بشيء لكن وجدنا له متابعا أخرجه أبو الشيخ والبزار عن أبي هريرة كما سأذكره، وأيضا فسماع على بن المديني وأقرانه من قريش كان قبل اختلاطه، فلعل أحمد إنما ضعفه لأنه ظن أنه إنما حدث به بعد الاختلاط. قوله: "حديث العقيقة" لم يقع في البخاري بيان الحديث المذكور وكأنه اكتفى عن إيراده بشهرته، وقد أخرجه أصحاب السنن من رواية قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه، ويسمى" قال الترمذي: حسن صحيح، وقد جاء مثله عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أخرجه البزار وأبو الشيخ في كتاب العقيقة من رواية إسرائيل عن عبد الله بن المختار عنه ورجاله ثقات، فكأن ابن سيرين لما كان الحديث عنده عن أبي هريرة وبلغه أن الحسن يحدث به احتمل عنده أن يكون يرويه عن أبي هريرة أيضا وعن غيره فسأل فأخبر الحسن أنه سمعه من سمرة فقوى الحديث برواية هذين التابعيين الجليلين عن الصحابيين، ولم تقع في حديث أبي هريرة هذه الكلمة الأخيرة وهي "ويسمى" وقد اختلف فيها أصحاب قتادة فقال أكثرهم "يسمى" بالسين. وقال همام عن قتادة "يدمى" بالدال. قال أبو داود: خولف همام وهو وهم منه ولا يؤخذ به، قال: ويسمى أصح. ثم ذكره من رواية غير قتادة بلفظ: "ويسمى" واستشكل ما قاله أبو داود بما في بقية رواية همام عنده أنهم سألوا قتادة عن الدم كيف يصنع به فقال إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت به أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل رأسه بعد ويحلق. فيبعد مع هذا الضبط أن يقال أن هماما وهم عن

(9/593)


قتادة في قوله: "ويدمى" إلا أن يقال إن أصل الحديث: "ويسمى" وأن قتادة ذكر الدم حاكيا عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، ومن ثم قال ابن عبد البر: لا يحتمل همام في هذا الذي انفرد به، فإن كان حفظه فهو منسوخ ا ه. وقد رجح ابن حزم رواية همام وحمل بعض المتأخرين قوله: "ويسمى" على التسمية عند الذبح، لما أخرج ابن أبي شيبة من طريق هشام عن قتادة قال: "يسمى على العقيقة كما سمى على الأضحية: بسم الله عقيقة فلان" ومن طريق سعيد عن قتادة نحوه وزاد: "اللهم منك ولك، عقيقة فلان، بسم الله والله أكبر. ثم ذبح" وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: يسمى يوم يعق عنه ثم يحلق، وكان يقول: يطلي رأسه بالدم. وقد ورد ما يدل على النسخ في عدة أحاديث، منها ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: "كانوا في الجاهلية إذا عقوا عن الصبي خضبوا قطنة بدم العقيقة، فإذا حلقوا رأس الصبي وضعوها على رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا مكان الدم خلوقا" زاد أبو الشيخ "ونهى أن يمس رأس المولود بدم". وأخرج ابن ماجه من رواية أيوب بن موسى عن يزيد ابن عبد الله المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يعق عن الغلام، ولا يمس رأسه بدم" وهذا مرسل، فإن يزيد لا صحبه له، وقد أخرجه البزار من هذا الوجه فقال: "عن يزيد بن عبد الله المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:" ومع ذلك فقالوا إنه مرسل، ولأبي داود والحاكم من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "كنا في الجاهلية" فذكر نحو حديث عائشة ولم يصرح برفعه، قال: "فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران" وهذا شاهد لحديث عائشة، ولهذا كره الجمهور التدمية. ونقل ابن حزم استحباب التدمية عن ابن عمر وعطاء ولم ينقل ابن المنذر استحبابها إلا عن الحسن وقتادة، بل عند ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الحسن أنه كره التدمية، وسيأتي ما يتعلق بالتسمية وآدابها في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. واختلف في معنى قوله: "مرتهن بعقيقته" قال الخطابي: اختلف الناس في هذا، وأجود ما قيل فيه ما ذهب إليه أحمد بن حنبل قال: هذا في الشفاعة، يريد أنه إذا لم يعق عنه فمات طفلا لم يشفع في أبويه، وقيل معناه أن العقيقة لازمة لا بد منها، فشبه المولود في لزومها وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن، وهذا يقوى قول من قال بالوجوب، وقيل المعنى أنه مرهون بأذى شعره، ولذلك جاء "فأميطوا عنه الأذى" ا ه والذي نقل عن أحمد قاله عطاء الخراساني أسنده عنه البيهقي. وأخرج ابن جزم عن بريدة الأسلمي قال: إن الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس، وهذا لو ثبت لكان قولا آخر يتمسك به من قال بوجوب العقيقة، قال ابن حزم: ومثله عن فاطمة بنت الحسين. وقوله: "يذبح عنه يوم السابع" تمسك به من قال إن العقيقة مؤقتة باليوم السابع، وأن من ذبح قبله لم يقع الموقع، وأنها تفوت بعده، وهو قول مالك. وقال أيضا: إن من مات قبل السابع سقطت العقيقة. وفي رواية ابن وهب عن مالك: إن من لم يعق عنه في السابع الأول عق عنه في السابع الثاني، قال ابن وهب: ولا بأس أن يعق عنه في السابع الثالث. ونقل الترمذي عن أهل العلم أنهم يستحبون أن تذبح العقيقة يوم السابع، فإن لم يتهيأ فيوم الرابع عشر، فإن لم يتهيأ عق عنه يوم أحد وعشرين ولم أر هذا صريحا إلا عن أبي عبد الله البوشنجي، ونقله صالح بن أحمد عن أبيه. وورد فيه حديث أخرجه الطبراني من رواية إسماعيل بن مسلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وإسماعيل ضعيف، وذكر الطبراني أنه تفرد به. وعند الحنابلة في اعتبار الأسابيع بعد ذلك روايتان، وعند الشافعية أن ذكر الأسابيع للاختيار لا للتعيين، فنقل الرافعي أنه يدخل وقتها بالولادة، قال: وذكر السابع في الخبر بمعنى أن لا تؤخر عنه اختيارا، ثم قال:

(9/594)


والاختيار أن لا تؤخر عن البلوغ فإن أخرت عن البلوغ سقطت عمن كان يريد أن يعق عنه، لكن إن أراد أن يعق عن نفسه فعل. وأخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين قال: لو أعلم أني لم يعق عني لعققت عن نفسي. واختاره القفال. ونقل عن نص الشافعي في البويطي أنه لا يعق عن كبير، وليس هذا نصا في منع أن يعق الشخص عن نفسه، بل يحتمل أن يريد أن لا يعق عن غيره إذا كبر، وكأنه أشار بذلك إلى أن الحديث الذي ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة لا يثبت. وهو كذلك، فقد أخرجه البزار من رواية عبد الله بن محرر - وهو بمهملات - عن قتادة عن أنس، قال البزار: تفرد به عبد الله وهو ضعيف ا ه. وأخرجه أبو الشيخ من وجهين آخرين: أحدهما من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة وإسماعيل ضعيف أيضا، وقد قال عبد الرزاق: أنهم تركوا حديث عبد الله بن محرر من أجل هذا الحديث، فلعل إسماعيل سرقه منه. ثانيهما من رواية أبي بكر المستملى عن الهيثم بن جميل وداود بن المخبر قالا حدثنا عبد الله بن المثنى عن ثمامة عن أنس، وداود ضعيف لكن الهيثم ثقة، وعبد الله من رجال البخاري، فالحديث قوي الإسناد، وقد أخرجه محمد بن عبد الملك بن أيمن عن إبراهيم بن إسحاق السراج عن عمرو الناقد، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" عن أحمد بن مسعود كلاهما عن الهيثم بن جميل وحده به، فلولا ما في عبد الله بن المثنى من المقال لكان هذا الحديث صحيحا، لكن قد قال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بقوي. وقال أبو داود: لا أخرج حديثه. وقال الساجي: فيه ضعف لم يكن من أهل الحديث روى مناكير. وقال العقيلي: لا يتابع على أكثر حديثه، قال ابن حبان في الثقات: ربما أخطأ، ووثقه العجلي والترمذي وغيرهما، فهذا من الشيوخ الذين إذا انفرد أحدهم بالحديث لم يكن حجة، وقد مشى الحافظ الضياء على ظاهر الإسناد فأخرج هذا الحديث في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين، ويحتمل أن يقال: إن صح هذا الخبر كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما قالوا في تضحيته عمن لم يضح من أمته، وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "من لم يعق عنه أجزأته أضحيته" وعند ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين والحسن "يجزئ عن الغلام الأضحية من العقيقة" وقوله: "يوم السابع" أي من يوم الولادة، وهل يحسب يوم الولادة؟ قال ابن عبد البر نص مالك على أن أول السبعة اليوم الذي يلي يوم الولادة، إلا إن ولد قبل طلوع الفجر، وكذا نقله البويطي عن الشافعي، ونقل الرافعي وجهين ورجح الحسبان، واختلف ترجيح النووي. وقوله: "يذبح" بالضم على البناء للمجهول، فيه أنه لا يتعين الذابح، وعند الشافعية يتعين من تلزمه نفقة المولود، وعن الحنابلة يتعين الأب إلا أن تعذر بموت أو امتناع، قال الرافعي: وكأن الحديث أنه صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين مؤول، قال النووي: يحتمل أن يكون أبواه حينئذ كانا معسرين أو تبرع بإذن الأب، أو قوله: "عق" أي أمر، أو هو من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما ضحى عمن لم يضح من أمته، وقد عده بعضهم من خصائصه، ونص مالك على أنه يعق عن اليتيم من ماله، ومنعه الشافعية، وقوله: "ويحلق رأسه" أي جميعه لثبوت النهي عن القزع كما سيأتي في اللباس، وحكى الماوردي كراهة حلق رأس الجارة، وعن بعض الحنابلة يحلق، وفي حديث علي عند الترمذي والحاكم في حديث العقيقة عن الحسن والحسين "يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره، قال فوزناه فكان درهما أو بعض درهم" وأخرج أحمد من حديث أبي رافع "لما ولدت فاطمة حسنا قالت. يا رسول الله ألا أعق عن ابني بدم؟ قال: لا ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضة، ففعلت، فلما ولدت حسينا فعلت مثل ذلك" قال شيخنا في "شرح الترمذي" يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم كان عق عنه ثم استأذنته فاطمة

(9/595)


أن تعق هي عنه أيضا فمنعها، قلت: ويحتمل أن يكون منعها لضيق ما عندهم حينئذ فأرشدها إلى نوع من الصدقة أخف، ثم تيسر له عن قرب ما عق به عنه، وعلى هذا فقد يقال يختص ذلك بمن لم يعق عنه، لكن أخرج سعيد ابن منصور من مرسل أبي جعفر الباقر صحيحا "إن فاطمة كانت إذا ولدت ولدا حلقت شعره وتصدقت بزنته ورقا" واستدل بقوله: "يذبح ويحلق ويسمى" بالواو على أنه لا يشترط الترتيب في ذلك، وقد وقع في رواية لأبي الشيخ في حديث سمرة "يذبح يوم سابعه ثم يحلق" وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج يبدأ بالذبح قبل الحلق، وحكى عن عطاء عكسه، ونقله الروياني عن نص الشافعي. وقال البغوي في "التهذيب" يستحب الذبح قبل الحلق، وصححه النووي في. "شرح المهذب" والله أعلم

(9/596)


باب القزع
...
3- باب الْفَرَعِ
5473- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ"
وَالْفَرَعُ أَوَّلُ النِّتَاجِ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ وَالْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ
[الحديث 5473، طرفه: 5474]
قوله: "باب الفرع" بفتح الفاء والراء بعدها مهملة، ذكر فيه حديث أبي هريرة "لا فرع ولا عتيرة" من رواية عبد الله - وهو ابن المبارك - عن معمر حدثنا الزهري، وفيه تفسير الفرع والعتيرة، وظاهره الرفع. ووقع في "المحكم" أن الفرع أول نتاج الإبل والغنم، كان أهل الجاهلية يذبحونه لأصنامهم، والفرع ذبح كانوا إذا بلغت الإبل ما تمناه صاحبها ذبحوه، وكذلك إذا بلغت الإبل مائة يعتر منها بعيرا كل عام ولا يأكل منه هو ولا أهل بيته، والفرع أيضا طعام يصنع لنتاج الإبل كالخرس للولادة، وسيأتي القول في العتيرة آخر الباب الذي يليه، ويؤخذ من هذا مناسبة ذكر البخاري حديث الفرع مع العقيقة حديث أبي هريرة "لا فرع ولا عتيرة" من رواية عبد الله - وهو ابن المبارك - عن معمر حدثنا الزهري، وفيه تفسير الفرع والعتيرة، وظاهره الرفع. ووقع في "المحكم" أن الفرع أول نتاج الإبل والغنم، كان أهل الجاهلية يذبحونه لأصنامهم، والفرع ذبح كانوا إذا بلغت الإبل ما تمناه صاحبها ذبحوه، وكذلك إذا بلغت الإبل مائة يعتر منها بعيرا كل عام ولا يأكل منه هو ولا أهل بيته، والفرع أيضا طعام يصنع لنتاج الإبل كالخرس للولادة، وسيأتي القول في العتيرة آخر الباب الذي يليه، ويؤخذ من هذا مناسبة ذكر البخاري حديث الفرع مع العقيقة

(9/596)


4- باب الْعَتِيرَةِ
5474- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ"
قَالَ وَالْفَرَعُ أَوَّلُ نِتَاجٍ كَانَ يُنْتَجُ لَهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيَتِهِمْ وَالْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ
قال: "باب العتيرة"، وذكر فيه الحديث بعينه من رواية سفيان وهو ابن عيينة عن الزهري، ووقع في رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا الزهري" وأخرجه أبو نعيم من طريقه، وشذ ابن أبي عمر فرواه عن سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر أخرجه ابن ماجه وقال إنه من فوائد ابن أبي عمر. قوله: "ولا عتيرة" بفتح المهملة وكسر المثناة بوزن عظيمة، قال القزاز سميت عتيرة بما يفعل من الذبح وهو العتر "فهي فعيلة بمعنى مفعولة هكذا جاء بلفظ النفي والمراد به النهي، وقد ورد بصيغة النهي في رواية النسائي وللإسماعيلي بلفظ: "نهى رسول الله

(9/596)


كتاب الذبائح والصيد
باب التسمية على الصيد
...
7- كِتَاب الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ
1- باب التَّسْمِيَةِ عَلَى الصَّيْدِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْعُقُودُ الْعُهُودُ مَا أُحِلَّ وَحُرِّمَ إِلاَّ {مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} الْخِنْزِيرُ يَجْرِمَنَّكُمْ يَحْمِلَنَّكُمْ شَنَآنُ عَدَاوَةُ الْمُنْخَنِقَةُ تُخْنَقُ فَتَمُوتُ الْمَوْقُوذَةُ تُضْرَبُ بِالْخَشَبِ يُوقِذُهَا فَتَمُوتُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ تَتَرَدَّى مِنْ الْجَبَلِ وَالنَّطِيحَةُ تُنْطَحُ الشَّاةُ فَمَا أَدْرَكْتَهُ يَتَحَرَّكُ بِذَنَبِهِ أَوْ

(9/598)


بِعَيْنِهِ فَاذْبَحْ وَكُلْ"
5475- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ قَالَ مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْكَلْبِ فَقَالَ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ أَوْ كِلاَبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ وَقَدْ قَتَلَهُ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى غَيْرِهِ"
قوله: "باب التسمية على الصيد" سقط "باب" لكريمة والأصيلي وأبي ذر، وثبت للباقين. والصيد في الأصل مصدر صاد يصيد صيدا، وعومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصاد. قوله وقول الله تعالى :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ - إلى قوله- فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وقول الله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} كذا لأبي ذر، وقدم وأخر في رواية كريمة والأصيلي، وزاد بعد قوله: "الصيد" : {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} الآية إلى قوله- عَذَابٌ أَلِيمٌ} وعند النسفي من قوله :{ أحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} الآيتين، وكذا لأبي الوقت لكن قال: "إلى قوله: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وفرقهما في رواية كريمة والأصيلي. قوله: "قال ابن عباس: العقود العهود، ما أحل وحرم" وصله ابن أبي حاتم أتم منه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال في قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}: يعني بالعهود، ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن، ولا تغدروا ولا تنكثوا. وأخرجه الطبري من هذا الوجه مفرقا، ونقل مثله عن مجاهد والسدي وجماعة، ونقل عن قتادة: المراد ما كان في الجاهلية من الحلف. ونقل عن غيره: هي العقود التي يتعاقدها الناس. قال: والأول أولى، لأن الله أتبع ذلك البيان عما أحل وحرم، قال: والعقود جمع عقد، وأصل عقد الشيء بغيره وصله به كما يعقد الحبل بالحبل. قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} :الخنزير، وصله أيضا ابن أبي حاتم عنه من هذا الوجه بلفظ :{ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يعني الميتة والدم ولحم الخنزير". قوله: "يجرمنكم: يحملنكم" يعني قوله تعالى :{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} أي لا يحملنكم بغض قوم على العدوان، وقد وصله ابن أبي حاتم أيضا من الوجه المذكور إلى ابن عباس، وحكى الطبري عن غيره غير ذلك لكنه راجع إلى معناه. قوله: "المنخنقة إلخ" وصله البيهقي بتمامه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقال في آخره: "فما أدركته من هذا يتحرك له ذنب أو تطرف له عين فاذبح واذكر اسم الله عليه فهو حلال" وأخرجه الطبري من هذا الوجه بلفظ: "المنخنقة التي تخنق فتموت، والموقوذة التي تضرب بالخشب حتى يوقذها فتموت، والمتردية التي تتردى من الجبل، والنطيحة الشاة تنطح الشاة، وما أكل السبع ما أخذ السبع، إلا ما ذكيتم إلا ما أدركتم ذكاته من هذا كله يتحرك له ذنب أو تطرف له عين فاذبح واذكر اسم الله عليه فهو حلال" ومن وجه آخر عن ابن عباس أنه قرأ: {وأكيل السبع "ومن طريق قتادة" كل ما ذكر غير الخنزير إذا أدركت منه عينا تطرف أو ذنبا يتحرك أو قائمة ترتكض فذكيته فقد أحل لك "ومن طريق علي نحو قول ابن عباس، ومن طريق قتادة: كان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالعصا حتى إذا ماتت أكلوها

(9/599)


قال: والمتردية التي تتردى في البئر. قوله: "حدثنا زكريا" هو ابن أبي زائدة، وعامر هو الشعبي، وهذا السند كوفيون. قوله: "عن عدي بن حاتم" هو الطائي، في رواية الإسماعيلي من طريق عيسى بن يونس عن زكريا حدثنا عامر حدثنا عدي قال الإسماعيلي ذكرته بقوله: "حدثنا عامر حدثنا عدي" يشير إلى أن زكريا مدلس وقد عنعنه. قلت: وسيأتي في رواية عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي "سمعت عدي بن حاتم" وفي رواية سعيد بن مسروق "حدثني الشعبي سمعت عدي بن حاتم وكان لنا جارا ودخيلا وربيطا بالنهرين" أخرجه مسلم، وأبوه حاتم هو المشهور بالجود، وكان هو أيضا جوادا، وكان إسلامه سنة الفتح، وثبت هو وقومه على الإسلام، وشهد الفتوح بالعراق، ثم كان مع علي وعاش إلى سنة ثمان وستين. قوله: "المعراض" بكسر الميم وسكون المهملة وآخره معجمة، قال الخليل وتبعه جماعة: سهم لا ريش له ولا نصل. وقال ابن دريد وتبعه ابن سيده: سهم طويل له أربع قذذ رقاق، فإذا رمى به اعترض. وقال الخطابي: المعراض نصل عريض له ثقل ورزانة، وقيل عود رقيق الطرفين غليظ الوسط وهو المسمى بالحذافة، وقيل خشبة ثقيلة آخرها عصا محدد رأسها وقد لا يحدد؛ وقوى هذا الأخير النووي تبعا لعياض. وقال القرطبي: إنه المشهور. وقال ابن التين: المعراض عصا في طرفها حديدة يرمي الصائد بها الصيد، فما أصاب بحده فهو ذكي فيؤكل، وما أصاب بغير حده فهو وقيذ. قوله: "وما أصاب بعرضه فهو وقيذ" في رواية ابن أبي السفر عن الشعبي في الباب الذي يليه "بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل" وقيذ بالقاف وآخره ذال معجمة وزن عظيم، فعيل بمعنى مفعول، وهو ما قتل بعصا أو حجر أو ما لا حد له، والموقوذة تقدم تفسيرها وأنها التي تضرب بالخشبة حتى تموت. ووقع في رواية همام بن الحارث عن عدي الآتية بعد باب "قلت إنا نرمي بالمعراض قال: كل ما خزق" وهو بفتح المعجمة والزاي بعدها قاف أي نفذ، يقال سهم خازق أي نافذ، ويقال بالسين المهملة بدل الزاي، وقيل الخزق - بالزاي وقيل تبدل سينا - الخدش ولا يثبت فيه، فإن قيل بالراء فهو أن يثقبه. وحاصله أن السهم وما في معناه إذا أصاب الصيد بحده حل وكانت تلك ذكاته، وإذا أصابه بعرضه لم يحل لأنه في معنى الخشبة الثقيلة والحجر ونحو ذلك من المثقل، وقوله: "بعرضه" بفتح العين أي بغير طرفه المحدد، وهو حجة للجمهور في التفصيل المذكور، وعن الأوزاعي وغيره من فقهاء الشام حل ذلك، وسيأتي في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى.قوله: "وسألته عن صيد الكلب فقال: ما أمسك عليك فكل، فإن أخذ الكلب ذكاة" في رواية ابن أبي السفر "إذا أرسلت كلبك فسميت فكل" وفي رواية بيان بن عمرو عن الشعبي الآتية بعد أبواب "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك" والمراد بالمعلمة التي إذا أغراها صاحبها على الصيد طلبته، وإذا زجرها انزجرت وإذا أخذت الصيد حبسته على صاحبها.وهذا الثالث مختلف في اشتراطه، واختلف متى يعلم ذلك منها فقال البغوي في "التهذيب" : أقله ثلاث مرات، وعن أبي حنيفة وأحمد يكفي مرتين.وقال الرافعي: لم يقدره المعظم لاضطراب العرف واختلاف طباع الجوارح فصار المرجع إلى العرف. ووقع في رواية مجالد عن الشعبي عن عدي في هذا الحديث عند أبي داود والترمذي أما الترمذي فلفظه: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: ما أمسك عليك فكل" وأما أبو داود فلفظه: "ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك.قلت: وإن قتل؟ قال: إذا قتل ولم يأكل منه" قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون بصيد الباز والصقور بأسا ا ه.وفي معنى الباز الصقر والعقاب والباشق والشاهين، وقد فسر مجاهد الجوارح في الآية

(9/600)


بالكلاب والطيور، وهو قول الجمهور إلا ما روى عن ابن عمر وابن عباس من التفرقة بين صيد الكلب والطير.قوله: "إذ أرسلت كلابك المعلمة فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره" في رواية بيان "وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل" وزاد في روايته بعد قوله مما أمسكن عليك "وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلب فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" وفي رواية ابن أبي السفر "قلت، فإن أكل؟ قال: فلا تأكل، فإنه لم يمسك عليك إنما أمسك على نفسه"، وسيأتي بعد أبواب زيادة في رواية عاصم عن الشعبي في رمي الصيد إذا غاب عنه ووجده بعد يوم أو أكثر.وفي الحديث اشتراط التسمية عند الصيد، وقد وقع في حديث أبي ثعلبة كما سيأتي بعد أبواب "وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل" وقد أجمعوا على مشروعيتها إلا أنهم اختلفوا في كونها شرطا في حل الأكل فذهب الشافعي وطائفة - وهي رواية عن مالك وأحمد - أنها سنة، فمن تركها عمدا أو سهوا لم يقدح في حل الأكل. وذهب أحمد في الراجح عنه وأبو ثور وطائفة إلى أنها واجبة لجعلها شرطا في حديث عدي، ولإيقاف الإذن في الأكل عليها في حديث أبي ثعلبة، والمعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم، والشرط أقوى من الوصف، ويتأكد القول بالوجوب بأن الأصل تحريم الميتة، وما أذن فيه منها تراعي صفته، فالمسمى عليها وافق الوصف وغير المسمى باق على أصل التحريم. وذهب أبو حنيفة ومالك والثوري وجماهير العلماء إلى الجواز لمن تركها ساهيا لا عمدا، لكن اختلف عن المالكية: هل تحرم أو تكره؟ وعند الحنفية تحرم، وعند الشافعية في العمد ثلاثة أوجه: أصحها يكره الأكل، وقيل خلاف الأولى، وقيل يأثم بالترك ولا يحرم الأكل. والمشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة، فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث، وسيأتي حجة من لم يشترطه فيها في الذبائح مفصلة، وفيه إباحة الاصطياد بالكلاب المعلمة، واستثنى أحمد وإسحاق الكلب الأسود وقالا: لا يحل الصيد به لأنه شيطان ونقل عن الحسن وإبراهيم وقتادة نحو ذلك. وفيه جواز أكل ما أمسكه الكلب بالشروط المتقدمة ولو لم يذبح لقوله: "إن أخذ الكلب ذكاة" فلو قتل الصيد بظفره أو نابه حل، وكذا بثقله على أحد القولين للشافعي وهو الراجح عندهم، وكذا لو لم يقتله الكلب لكن تركه وبه رمق ولم يبق زمن يمكن صاحبه فيه لحاقه وذبحه فمات حل، لعموم قوله: "فإن أخذ الكلب ذكاة" وهذا في المعلم، فلو وجده حيا حياة مستقرة وأدرك ذكاته لم يحل إلا بالتذكية، فلو لم يذبحه مع الإمكان حرم، سواء كان عدم الذبح اختيارا أو إضرارا كعدم حضور آلة الذبح، فإن كان الكلب غير معلم اشترط إدراك تذكيته، فلو أدركه ميتا لم يحل. وفيه أنه لا يحل أكل ما شاركه فيه كلب آخر في اصطياده، ومحله ما إذا استرسل بنفسه أو أرسله من ليس من أهل الذكاة، فإن تحقق أنه أرسله من هو من أهل الذكاة حل، ثم ينظر فإن أرسلاهما معا فهو لهما وإلا فللأول، ويؤخذ ذلك من التعليل في قوله: "فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره:" فإنه يفهم منه أن المرسل لو سمي على الكلب لحل. ووقع في رواية بيان عن الشعبي "وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل" فيؤخذ منه أنه لو وجده حيا وفيه حياة مستقرة فذكاة حل، لأن الاعتماد في الإباحة على التذكية لا على إمساك الكلب. وفيه تحريم أكل الصيد الذي أكل الكلب منه ولو كان الكلب معلما، وقد علل في الحديث بالخوف من أنه "إنما أمسك على نفسه" وهذا قول الجمهور، وهو الراجح من قولي الشافعي. وقال في القديم - وهو قول مالك ونقل عن بعض الصحابة - يحل، واحتجوا بما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن أعرابيا يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله، إن لي كلابا مكلبة، فأفتني في صيدها. قال: كل مما

(9/601)


أمسكن عليك. قال: وإن أكل منه؟ قال: وإن أكل منه" أخرجه أبو داود. ولا بأس بسنده. وسلك الناس في الجمع بين الحديثين طرقا: منها للقائلين بالتحريم حمل حديث أبي ثعلبة: على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه، ومنها الترجيح فرواية عدي في الصحيحين متفق على صحتها، ورواية أبي ثعلبة المذكورة في غير الصحيحين مختلف في تضعيفها، وأيضا فرواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم وهو خوف الإمساك على نفسه متأيدة بأن الأصل في الميتة التحريم، فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل وظاهر القرآن أيضا وهو قوله تعالى :{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فإن مقتضاها أن الذي يمسكه من غير إرسال لا يباح، ويتقوى أيضا بالشاهد من حديث ابن عباس عند أحمد "إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل، فإنما أمسك على صاحبه" وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع بمعناه، ولو كان مجرد الإمساك كافيا لما احتيج إلى زيادة {عَلَيْكُمْ}. ومنها للقائلين بالإباحة حمل حديث عدي على كراهة التنزيه، وحديث أبي ثعلبة على بيان الجواز. قال بعضهم: ومناسبة ذلك أن عديا كان موسرا فاختير له الحمل على الأولى، بخلاف أبي ثعلبة فإنه كان بعكسه. ولا يخفى ضعف هذا التمسك مع التصريح بالتعليل في الحديث بخوف الإمساك على نفسه. وقال ابن التين: قال بعض أصحابنا هو عام فيحمل على الذي أدركه ميتا من شدة العدو أو من الصدمة فأكل منه، لأنه صار على صفة لا يتعلق بها الإرسال ولا الإمساك على صاحبه، قال: ويحتمل أن يكون معنى قوله: "فإن أكل فلا تأكل أي لا يوجد منه غير مجرد الأكل دون إرسال الصائد له، وتكون هذه الجملة مقطوعة عما قبلها. ولا يخفى تعسف هذا وبعده. وقال ابن القصار: مجرد إرسالنا الكلب إمساك علينا، لأن الكلب لا نية له ولا يصح منه ميزها، وإنما يتصيد بالتعليم؛ فإذا كان الاعتبار بأن يمسك علينا أو على نفسه واختلف الحكم في ذلك وجب أن يتميز ذلك بنية من له نية وهو مرسله، فإذا أرسله فقد أمسك عليه وإذا لم يرسله لم يمسك عليه، كذا قال: ولا يخفى بعده أيضا ومصادمته لسياق الحديث. وقد قال الجمهور: إن معنى قوله: " {أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} صدن لكم، وقد جعل الشارع أكله منه علامة على أنه أمسك لنفسه لا لصاحبه فلا يعدل عن ذلك، وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة: "إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يعلم ما علمته" وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله دل على أنه ليس بمعلم التعليم المشترط. وسلك بعض المالكية الترجيح فقال: هذه اللفظة ذكرها الشعبي ولم يذكرها همام، وعارضها حديث أبي ثعلبة، وهذا ترجيح مردود لما تقدم. وتمسك بعضهم بالإجماع على جواز أكله إذا أخذه الكلب بفيه وهم بأكله فأدرك قبل أن يأكل، قال فلو كان أكله منه دالا على أنه أمسك على نفسه لكان تناوله بفيه وشروعه في أكله كذلك، ولكن يشترط أن يقف الصائد حتى ينظر هل يأكل أو لا والله أعلم. وفيه إباحة الاصطياد للانتفاع بالصيد للأكل والبيع وكذا اللهو، بشرط قصد التذكية والانتفاع، وكرهه مالك، وخالفه. الجمهور. قال الليث: لا أعلم حقا أشبه بباطل منه، فلو لم يقصد الانتفاع به حرم لأنه من الفساد في الأرض بإتلاف نفس عبثا. وينقدح أن يقال: يباح، فإن لازمه وأكثر منه كره، لأنه قد يشغله عن بعض الواجبات وكثير من المندوبات. وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس رفعه: "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل" وله شاهد عن أبي هريرة عند الترمذي أيضا وآخر عند الدار قطني في "الأفراد" من حديث البراء بن عازب وقال: تفرد به شريك. وفيه جواز اقتناء الكلب المعلم للصيد، وسيأتي البحث فيه في حديث: "من اقتنى

(9/602)


كلبا" واستدل به على جواز بيع كلب الصيد للإضافة في قوله: "كلبك" وأجاب من منع بأنها إضافة اختصاص، واستدل به على طهارة سؤر كلب الصيد دون غيره من الكلاب للإذن في الأكل من الموضع الذي أكل منه، ولم يذكر الغسل ولو كان واجبا لبينه لأنه وقت الحاجة إلى البيان. وقال بعض العلماء: يعفى عن معض الكلب ولو كان نجسا لهذا الحديث، وأجاب من قال بنجاسته بأن وجوب الغسل كان قد اشتهر عندهم وعلم فاستغنى عن ذكره، وفيه نظر، وقد يتقوى القول بالعفو لأنه بشدة الجري يجف ريقه فيؤمن معه ما يخشى من إصابة لعابه موضع العض، واستدل بقوله: "كل ما أمسك عليك" بأنه لو أرسل كلبه على صيد فاصطياد غيره حل، للعموم الذي في قوله: "ما أمسك" وهذا قول الجمهور. وقال مالك: لا يخل، وهو رواية البويطي عن الشافعي. "تنبيه": قال ابن المنير ليس في جميع ما ذكر من الآي والأحاديث تعرض للتسمية المترجم عليها إلا آخر حديث عدي، فكأنه عده بيانا لما أجملته الأدلة من التسمية، وعند الأصوليين خلاف في المجمل إذا اقترنت به قرينة لفظية مبينة هل يكون ذلك الدليل المجمل معها أو إباها خاصة؟ انتهى. وقوله: "الأحاديث" يوهم أن في الباب عدة أحاديث، وليس كذلك لأنه لم يذكر فيه إلا حديث عدي، نعم ذكر فيه تفاسير ابن عباس فكأنه عدها أحاديث، بحثه في التسمية المذكورة في آخر حديث عدي مردود، وليس ذلك مراد البخاري، وإنما جرى على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي يورده، وقد أورد البخاري بعده بقليل من طريق ابن أبي السفر عن الشعبي "إذا أرسلت كلبك وسميت فكل" ومن رواية بيان عن الشعبي "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل" فلما كان الأخذ بقيد "المعلم" متفقا عليه وإن لم يذكر في الطريق الأولى كانت التسمية كذلك، والله أعلم

(9/603)


2- باب صَيْدِ الْمِعْرَاضِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الْمَقْتُولَةِ بِالْبُنْدُقَةِ تِلْكَ الْمَوْقُوذَةُ وَكَرِهَهُ سَالِمٌ وَالْقَاسِمُ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَكَرِهَ الْحَسَنُ رَمْيَ الْبُنْدُقَةِ فِي الْقُرَى وَالأَمْصَارِ وَلاَ يَرَى بَأْسًا فِيمَا سِوَاهُ
5476- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمِعْرَاضِ فَقَالَ إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ فَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلاَ تَأْكُلْ فَقُلْتُ أُرْسِلُ كَلْبِي قَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ قُلْتُ فَإِنْ أَكَلَ قَالَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ قُلْتُ أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ قَالَ لاَ تَأْكُلْ فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الآخَرَ"
قوله: "باب صيد المعراض" تقدم تفسيره في الذي قبله. قوله: "وقال ابن عمر في المقتولة بالبندقة: تلك الموقوذة، وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن" أما أثر ابن عمر فوصله البيهقي من طريق أبي عامر العقدي عن زهير هو ابن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه كان يقول: "المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق نافع عن ابن عمر أنه "كان لا يأكل ما أصابت البندقة" ولمالك في الموطأ عن

(9/603)


نافع "رميت طائرين بحجر فأصبتهما، فإما أحدهما فمات فطرحه ابن عمر". وأما سالم وهو ابن عبد الله بن عمر والقاسم وهو ابن محمد بن أبي بكر الصديق فأخرج ابن أبي شيبة عن الثقفي عن عبيد الله بن عمر عنهما "إنهما كانا يكرهان البندقة، إلا ما أدركت ذكاته". ولمالك في "الموطأ" أنه "بلغه أن القاسم بن محمد كان يكره ما قتل بالمعراض والبندقة". وأما مجاهد فأخرج ابن أبي شيبة من وجهين أنه كرهه، زاد في أحدهما "لا تأكل إلا أن يذكى". وأما إبراهيم وهو النخعي فأخرج ابن أبي شيبة من رواية الأعمش عنه "لا تأكل ما أصبت بالبندقة إلا أن يذكى". وأما عطاء فقال عبد الرزاق عن ابن جريج "قال عطاء: إن رميت صيدا ببندقة فأدركت ذكاته فكله، وإلا فلا تأكله" وأما الحسن وهو البصري فقال ابن أبي شيبة: "حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن: إذا رمى الرجل الصيد بالجلاهقة فلا تأكل، إلا أن تدرك ذكاته". والجلاهقة بضم الجيم وتشديد اللام وكسر الهاء بعدها قاف هي البندقة بالفارسية والجمع جلاهق. قوله: "وكره الحسن رمي البندقة في القرى والأمصار، ولا يرى به بأسا فيما سواه" وصله1 ثم ذكر حديث عدي بن حاتم من طريق عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي، وقد تقدم شرحه مستوفى في الباب الذي قبله.

(9/604)


باب مأصاب المعراض بعرضه
...
3- باب مَا أَصَابَ الْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ
5477- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُرْسِلُ الْكِلاَبَ الْمُعَلَّمَةَ قَالَ كُلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ قُلْتُ وَإِنْ قَتَلْنَ قَالَ وَإِنْ قَتَلْنَ قُلْتُ وَإِنَّا نَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ قَالَ كُلْ مَا خَزَقَ وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلاَ تَأْكُلْ"
قوله: "باب ما أصاب المعراض بعرضه" ذكر فيه حديث عدي بن حاتم من طريق همام بن الحارث عنه مختصرا وقد بينت ما فيه في الباب الأول.

(9/604)


4- باب صَيْدِ الْقَوْسِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ إِذَا ضَرَبَ صَيْدًا فَبَانَ مِنْهُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ لاَ تَأْكُلُ الَّذِي بَانَ وَكُلْ سَائِرَهُ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ أَوْ وَسَطَهُ فَكُلْهُ وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ زَيْدٍ اسْتَعْصَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ حِمَارٌ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوهُ حَيْثُ تَيَسَّرَ دَعُوا مَا سَقَطَ مِنْهُ وَكُلُوهُ"
5478- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ فَمَا يَصْلُحُ لِي قَالَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلاَ تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ

(9/604)


باب الخذف والبندقية
...
5- باب الْخَذْفِ وَالْبُنْدُقَةِ
5473- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَاللَّفْظُ لِيَزِيدَ عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ لاَ تَخْذِفْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ أَوْ كَانَ يَكْرَهُ الْخَذْفَ وَقَالَ إِنَّهُ لاَ يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلاَ يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ أَوْ كَرِهَ الْخَذْفَ وَأَنْتَ تَخْذِفُ لاَ أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا"
قوله: "باب الخذف والبندقة" أما الخذف فسيأتي تفسيره في الباب، وأما البندقة معروفة تتخذ من طين وتيبس فيرمى بها، وقد تقدمت أشياء تتعلق بها في "باب صيد المعراض". قوله: "حدثني يوسف بن راشد" وهو يوسف بن موسى بن راشد بن بلال القطان الرازي نزيل بغداد، نسبه البخاري إلى جده، وفي طبقته يوسف بن موسى التستري نزل الري. فلعل البخاري كان يخشى أن يلتبس به. قوله: "واللفظ ليزيد" قلت قد أخرج أحمد الحديث عن وكيع مقتصرا على المتن دون القصة، وأخرجه الإسماعيلي من رواية يحيى القطان ووكيع كلاهما عن كهمس مقرونا وقال: إن السياق ليحيى والمعنى واحد. قوله: "إنه رأى رجلا" لم أقف على اسمه، ووقع في رواية مسلم من رواية معاذ بن معاذ عن كهمس "رأى رجلا من أصحابه" وله من رواية سعيد بن جبير عن عبد الله بن مغفل أنه قريب لعبد الله بن مغفل. قوله: "يخذف" بخاء معجمة وآخره فاء أي يرمي بحصاة أو نواة بين سبابتيه أو بين الإبهام والسبابة أو على ظاهر الوسطى وباطن الإبهام. وقال ابن فارس: خذفت الحصاة رميتها بين أصبعيك، وقيل في حصى الخذف: أن يجعل الحصاة بين السبابة من اليمنى والإبهام من اليسرى ثم يقذفها بالسبابة من اليمين. وقال ابن سيده: خذف بالشيء يخذف فارسي وخص بعضهم به الحصى، قال: والمخذفة التي يوضع فيها الحجر ويرمي بها الطير ويطلق على المقلاع أيضا قاله في الصحاح. قوله: "نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف" في رواية أحمد عن وكيع "نهى عن الحذف" ولم يشك، وأخرجه عن محمد بن جعفر عن كهمس بالشك وبين أن الشك من كهمس. قوله: "إنه لا يصاد به صيد" قال المهلب: أباح الله الصيد على صفة فقال: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} وليس الرمي بالبندقة ونحوها من ذلك وإنما هو وقيذ، وأطلق الشارع أن الحذف لا يصاد به لأنه ليس من المجهزات، وقد اتفق العلماء - إلا من شذ منهم - على تحريم أكل ما قتلته البندقة والحجر انتهى. وإنما كان كذلك لأنه يقتل الصيد بقوة راميه لا بحده. قوله: "ولا ينكأ به عدو" قال عياض: الرواية بفتح الكاف وبهمزة في آخره وهي لغة،

(9/607)


والأشهر بكسر الكاف بغير همز. وقال في شرح مسلم: لا ينكأ بفتح الكاف مهموز، وروى لا ينكي بكسر الكاف وسكون التحتانية، وهو أوجه لأن المهموز إنما هو من نكأت القرحة وليس هذا موضعه فإنه من النكاية، لكن قال في "العين" نكأت لغة في نكيت، فعلى هذا تتوجه هذه الرواية قال: ومعناه المبالغة في الأذى. وقال ابن سيده، نكأ العدو نكاية أصاب منه، ثم قال: نكأت العدو أنكؤهم لغة في نكيتهم، فظهر أن الرواية صحيحة المعنى ولا معنى لتخطئتها. وأغرب ابن التين فلم يعرج على الرواية التي بالهمز أصلا بل شرحه على التي بكسر الكاف بغير همز، ثم قال: ونكأت القرحة بالهمز. قوله: "ولكنها قد تكسر السن" أي الرمية، وأطلق السن فيشمل سن المرمى وغيره من آدمي وغيره. قوله: "لا أكلمك كذا وكذا" في رواية معاذ ومحمد بن جعفر "لا أكلمك كلمة كذا وكذا" وكلمة بالنصب والتنوين، كذا وكذا أبهم الزمان، ووقع في رواية سعيد بن جبير عند مسلم: "لا أكلمك أبدا" وفي الحديث جواز هجران من خالف السنة وترك كلامه، ولا يدخل ذلك في النهي عن الهجر فوق ثلاث فإنه يتعلق بمن هجر لحظ نفسه، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الأدب، وفيه تغيير المنكر ومنع الرمي بالبندقة لأنه إذا نفى الشارع أنه لا يصيد فلا معنى للرمي به بل فيه تعريض للحيوان بالتلف لغير مالكه وقد ورد النهي عن ذلك، نعم قد يدرك ذكاة ما رمي بالبندقة فيحل أكله، ومن ثم اختلف في جوازه فصرح مجلي في "الذخائر" بمنعه وبه أفتى ابن عبد السلام، وجزم النووي له لأنه طريق إلى الاصطياد، والتحقيق التفصيل: فإن كان الأغلب من حال الرمي ما ذكر في الحديث امتنع، وإن كان عكسه جاز ولا سيما أن كان المرمى مما لا يصل إليه الرمي إلا بذلك ثم لا يقتله غالبا، وقد تقدم قبل بابين من هذا الباب قول الحسن في كراهية رمي البندقة في القرى والأمصار، ومفهومه أنه لا يكره في الفلاة، فجعل مدار النهي على خشية إدخال الضرر على أحد من الناس والله أعلم

(9/608)


6- باب مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ
5480- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيَةٍ نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ"
[الحديث 5480- طرفاه في: 5481، 5482]
5481- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمًا يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبًا ضَارِيًا لِصَيْدٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ"
5482- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ"

(9/608)


قوله: "باب من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد أو ماشية" يقال اقتنى الشيء إذا اتخذه للادخار، ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك من ثلاثة طرق عنه، ووقع في الرواية الأولى "ليس بكلب ماشية أو ضارية" وفي الثانية "إلا كلبا ضاريا لصيد أو كلب ماشية" وفي الثالثة "إلا كلب ماشية أو ضاربا" فالرواية الثانية تفسر الأولى والثالثة، فالأولى إما للاستعارة على أن ضاربا صفة للجماعة الضارين أصحاب الكلاب المعتادة الضارية على الصيد، يقال ضرا على الصيد ضراوة أي تعود ذلك واستمر عليه، وضرا الكلب وأضراه صاحبه أي عوده وأغراه بالصيد، والجمع ضوار، وإما للتناسب للفظ ماشية مثل لا دريت ولا تليت والأصل تلوت، والرواية الثالثة فيها حذف تقديره أو كلبا ضاريا، ووقع في الرواية الثانية في غير رواية أبي ذر "إلا كلب ضاري" بالإضافة وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، أو لفظ ضاري صفة للرجل الصائد أي إلا كلب رجل معتاد للصيد، وثبوت الياء في الاسم المنقوص مع حذف الألف واللام منه لغة. وقد أورد المصنف حديث الباب من حديث أبي هريرة في المزارعة وفي بدء الخلق، وأورده فيهما أيضا من حديث سفيان بن أبي زهير، وتقدم شرح المتن مستوفى في كتاب المزارعة، وفيه التنبيه على زيادة أبي هريرة وسفيان بن أبي زهير في الحديث: "أو كلب زرع"، وفي لفظ: "حرث" وكذا وقعت الزيادة في حديث عبد الله بن مغفل عند الترمذي.

(9/609)


7- باب إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} مكلبين وَالْكَوَاسِبُ اجْتَرَحُوا اكْتَسَبُوا {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ - سَرِيعُ الْحِسَابِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَقَدْ أَفْسَدَهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَاللَّهُ يَقُولُ {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} فَتُضْرَبُ وَتُعَلَّمُ حَتَّى يَتْرُكَ وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ شَرِبَ الدَّمَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ
5483- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ بَيَانٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الْكِلاَبِ فَقَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَإِنْ قَتَلْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ خَالَطَهَا كِلاَبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلاَ تَأْكُلْ"
قوله: "باب إذا أكل الكلب" ذكر فيه حديث عدي بن حاتم من رواية بيان بن عمرو عن الشعبي عنه، وقد تقدم شرحه مستوفى في الباب الأول. قوله: "وقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} الآية. مكلبين الكواسب" في رواية الكشميهني: "الصوائد" وجمعهما في نسخة الصغاني، وهو صفة محذوف تقديره الكلاب الصوائد أو الكواسب، وقوله: "مكلبين" أي مؤدبين أو معودين، قيل وليس هو تفعيل من الكلب الحيوان المعروف وإنما هو من الكلب بفتح اللام وهو الحرص، نعم هو راجع إلى الأول لأنه أصل فيه لما طبع عليه من شدة الحرص، ولأن الصيد غالبا إنما بكون بالكلاب، فمن علم الصيد من غيرها كان في معناها. وقال أبو عبيدة في قوله: "مكلبين" : أي أصحاب كلاب. وقال الراغب: الكلاب والمكلب الذي يعلم الكلاب. قوله: "اجترحوا اكتسبوا" هو تفسير

(9/609)


أبي عبيدة، وليست هذه الآية في هذا الموضع وإنما ذكرها استطرادا لبيان أن الاجتراح يطلق على الاكتساب وأن المراد بالمكلبين المعلمين، وهو وإن كان أصل المادة الكلاب لكن ليس الكلب شرطا فيصح الصيد بغير الكلب من أنواع الجوارح، ولفظ أبي عبيدة، وما علمتم من الجوارح أي الصوائد، ويقال فلان جارحة أهله أي كاسبهم. وفي رواية أخرى: ومن يجترح أي يكتسب. وفي رواية أخرى: الذين اجترحوا السيئات اكتسبوا. "تنبيه": اعترض بعض الشراح على قوله: "الكواسب والجوارح" فإنه قال في تفسير براءة في الهوالك ما تقدم ذكره فألزمه التناقض، وليس كما قال، بل الذي هنا على الأصل في جمع المؤنث. قوله: "وقال ابن عباس: إن أكل الكلب فقد أفسده، إنما أمسك على نفسه، والله يقول: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} فتضرب وتعلم حتى تترك وصله سعيد بن منصور مختصرا من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. وأخرج أيضا من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا أرسلت كلبك المعلم فسميت فأكل فلا تأكل، وإذا أكل قبل أن يأتي صاحبه فليس بعالم لقول الله عز وجل :{مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} وينبغي إذا فعل ذلك أن يضربه حتى يدع ذلك الخلق، فعرف بهذا المراد بقوله: "حتى يترك" أي يترك خلقه في الشره ويتمرن على الصبر عن تناول الصيد حتى يجئ صاحبه. قوله: "وكرهه ابن عمر" وصله ابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن ابن عمر قل: إذا أكل الكلب من صيده فإنه ليس بعلم. وأخرج من وجه آخر عن ابن عمر الرخصة فيه. وكذا أخرج سعيد بن منصور وعبد الرزاق. قوله: "وقال عطاء إن شرب الدم ولم يأكل فكل" وصله ابن أبي شيبة من طريق ابن جريج عنه بلفظ: "إن أكل فلا تأكل وإن شرب فلا" وتقدمت مباحث هذه المسألة في الباب الأول. حديث عدي بن حاتم من رواية بيان بن عمرو عن الشعبي عنه، قد تقدم شرحه مستوفى في الباب الأول.

(9/610)


8- باب الصَّيْدِ إِذَا غَابَ عَنْهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً
5484- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَمْسَكَ وَقَتَلَ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِذَا خَالَطَ كِلاَبًا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا فَأَمْسَكْنَ وَقَتَلْنَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَيُّهَا قَتَلَ وَإِنْ رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلاَّ أَثَرُ سَهْمِكَ فَكُلْ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلاَ تَأْكُلْ وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي الصَّيْدَ فَيَقْتَفِرُ أَثَرَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ ثُمَّ يَجِدُهُ مَيِّتًا وَفِيهِ سَهْمُهُ قَالَ يَأْكُلُ إِنْ شَاءَ"
قوله: "باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة" أي عن الصائد. قوله: "ثابت بن يزيد" هو أبو زيد البصري الأحول وحكى الكلاباذي أنه قيل فيه ثابت بن زيد قال والأول أصح. قلت: زيد كنيته لا اسم أبيه، وشيخه عاصم هو ابن سليمان الأحول وقد زاد عن الشعبي في حديث عدي قصة السهم. قوله: "وإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل" ومفهومه أنه إن وجد فيه أثر غير سهمه لا يأكل، وهو نظير ما تقدم في الكلب من التفصيل فيما إذا خالط الكلب الذي أرسله الصائد كلب آخر، لكن التفصيل في مسألة الكلب فيما إذا

(9/610)


شارك الكلب في قتله كلب آخر، وهنا الأثر الذي يوجد فيه من غير سهم الرامي أعم من أن يكون أثر سهم رام آخر أو غير ذلك من الأسباب القاتلة فلا يحل أكله مع التردد، وقد جاءت فيه زيادة من رواية سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم عند الترمذي والنسائي والطحاوي بلفظ: "إذا وجدت سهمك فيه ولم يجد به أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكل منه" قال الرافعي: يؤخذ منه أنه لو جرحه ثم غاب ثم جاء فوجده ميتا أنه لا يحل، وهو ظاهر نص الشافعي في "المختصر". وقال النووي: الحل أصح دليلا. وحكى البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي أنه قال في قول ابن عباس "كل ما أصميت ودع ما أنميت" : معنى "ما أصميت" ما قتله الكلب وأنت تراه، وما "أنميت" وما غاب عنك مقتله. قال وهذا لا يجوز عندي غيره إلا أن يكون جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء فيسقط كل شيء خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقوم معه رأي ولا قياس، قال البيهقي: وقد ثبت الخبر يعني حديث الباب فينبغي أن يكون هو قول الشافعي. قوله: "وإن وقع في الماء فلا تأكل" يؤخذ سبب منع أكله من الذي قبله، لأنه حينئذ يقع التردد هل قتله السهم أو الغرق في الماء؟ فلو تحقق أن السهم أصابه فملت فلم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم فهذا يحل أكله، قال النووي في "شرح مسلم:" إذا وجد الصيد في الماء غريقا حرم بالاتفاق ا ه، وقد صرح الرافعي بأن محله ما لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح، فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلا فقد تمت زكاته، ويؤيده قوله في رواية مسلم: "فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" فدل على أنه إذا علم أن سهمه هو الذي قتله أنه يحل. قوله: "وقال عبد الأعلى" يعني ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة البصري، وداود هو ابن أبي هند، وعامر هو الشعبي، وهذا التعليق وصله أبو داود عن الحسين بن معاذ عن عبد الأعلى به. قوله: "فيفتقر" بفاء ثم مثناة ثم قاف أي يتبع فقاره حتى يتمكن منه، وعلى هذه الرواية اقتصر ابن بطال. وفي رواية الكشميهني فيقتفي أي يتبع، وكذا لمسلم والأصيلي وفي رواية: "فيقفو" وهي أوجه. قوله: "اليومين والثلاثة" فيه زيادة على رواية عاصم بن سليمان "بعد يوم أو يومين" ووقع في رواية سعيد بن جبير "فيغيب عنه الليلة والليلتين" ووقع عند مسلم في حديث أبي ثعلبة بسند فيه معاوية بن صالح "إذا رميت سهمك فغاب عنك فأدركته فكل ما لم ينتن" وفي لفظ في الذي يدرك الصيد بعد ثلاث "كله ما لم ينتن" ونحوه عند أبي داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كما تقدم التنبيه عليه قريبا، فجعل الغاية أن ينتن الصيد فلو وجده مثلا بعد ثلاث ولم ينتن حل، وإن وجده بلونها وقد أنتن فلا، هذا ظاهر الحديث، وأجاب النووي بأن النهي عن أكله إذا أنتن للتنزيه، وسأذكر في ذلك بحثا في "باب صيد البحر" واستدل به على أن الرامي لو أخر الصيد عقب الرمي إلى أن يجده أن يحل بالشروط المتقدمة ولا يحتاج إلى استفصال عن سبب غيبته عنه أكان مع الطلب أو عدمه، لكن يستدل للطلب بما وقع في الرواية الأخيرة حيث قال: "فيقتفي أثره" فدل على أن الجواب خرج على حسب السؤال، فاختصر بعض الرواة السؤال، فلا يتمسك فيه بترك الاستفصال. واختلف في صفة الطلب: فعن أبي حنيفة إن أخر ساعة فلم يطلب لم يحل، وإن اتبعه عقب الرمي فوجده ميتا حل. وعن الشافعية لا بد أن يتبعه. وفي اشتراط العدو وجهان أظهرهما يكفي المشي على عادته حتى لو أسرع وجده حيا حل. وقال إمام الحرمين: لا بد من الإسراع قليلا ليتحقق صورة الطلب، وعند الحنفية نحو هذا الاختلاف.

(9/611)


9- باب إِذَا وَجَدَ مَعَ الصَّيْدِ كَلْبًا آخَرَ
5486- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي وَأُسَمِّي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَخَذَ فَقَتَلَ فَأَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ قُلْتُ إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي أَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ لاَ أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَهُ فَقَالَ لاَ تَأْكُلْ فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ فَقَالَ إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلاَ تَأْكُلْ"
قوله: "باب إذا وجد مع الصيد كلبا آخر" ذكر فيه حديث عدي بن حاتم من رواية عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي، وقد تقدم البحث في ذلك في الباب الأول.

(9/612)


باب ماجاء في التصيد
...
10- باب مَا جَاءَ فِي التَّصَيُّدِ
5487- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنِي ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ بَيَانٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّا قَوْمٌ نَتَصَيَّدُ بِهَذِهِ الْكِلاَبِ فَقَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ خَالَطَهَا كَلْبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلاَ تَأْكُلْ"
5488- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ ح و حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيَّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ نَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ وَأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ وَالَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ تَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ فَلاَ تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيهَا وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بِأَرْضِ صَيْدٍ فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ"
5489- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَوْا عَلَيْهَا حَتَّى لَغِبُوا فَسَعَيْتُ عَلَيْهَا حَتَّى أَخَذْتُهَا فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَبَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَرِكَيْهَا أَوْ فَخِذَيْهَا فَقَبِلَهُ"

(9/612)


5490- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ ثُمَّ سَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطًا فَأَبَوْا فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَى بَعْضُهُمْ فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ"
5490- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مِثْلَهُ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ"؟
قوله: "باب ما جاء في التصيد". قال ابن المنير مقصوده بهذه الترجمة التنبيه على أن الاشتغال بالصيد لمن هو عيشه به مشروع، ولمن عرض له ذلك وعيشه بغيره مباح، وأما التصيد لمجرد اللهو فهو محل الخلاف. قلت: وقد تقدم البحث في ذلك في الباب الأول. وذكر فيه أربعة أحاديث. حديث عدي بن حاتم من رواية بيان بن عمرو عن الشعبي عنه وقد تقدم ما فيه. حديث أبي ثعلبة أخرجه عاليا عن أبي عاصم عن حيوة، ونازلا من رواية ابن المبارك عن حيوة وهو ابن شريح، وساقه على رواية ابن المبارك، وسيأتي لفظ أبي عاصم حيث أفرده بعد ثلاثة أبواب، وقد تقدم قبل خمسة أبواب من وجه آخر عاليا. "أنفجنا أرنبا" يأتي شرحه في أواخر الذبائح حيث عقد للأرنب ترجمة مفردة، ومعنى "أنفجنا" أثرنا. وقوله هنا "لغبوا" بغين معجمة بعد اللام أي تعبوا وزنه ومعناه، وثبت بلفظ تعبوا في رواية الكشميهني، وقوله: "بوركها" كذا للأكثر بالإفراد، وللكشميهني: "بوركيها" بالتثنية. حديث أبي قتادة في قصة الحمار الوحشي، وتقدم شرحها مستوفى في كتاب الحج.

(9/613)


11- باب التَّصَيُّدِ عَلَى الْجِبَالِ
5492- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَأَنَا رَجُلٌ حِلٌّ عَلَى فَرَسٍ وَكُنْتُ رَقَّاءً عَلَى الْجِبَالِ فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ إِذْ رَأَيْتُ النَّاسَ مُتَشَوِّفِينَ لِشَيْءٍ فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ حِمَارُ وَحْشٍ فَقُلْتُ لَهُمْ مَا هَذَا قَالُوا لاَ نَدْرِي قُلْتُ هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ فَقَالُوا هُوَ مَا رَأَيْتَ وَكُنْتُ نَسِيتُ سَوْطِي فَقُلْتُ لَهُمْ نَاوِلُونِي سَوْطِي فَقَالُوا لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُ ثُمَّ ضَرَبْتُ فِي أَثَرِهِ فَلَمْ يَكُنْ إِلاَّ ذَاكَ حَتَّى عَقَرْتُهُ فَأَتَيْتُ إِلَيْهِمْ فَقُلْتُ لَهُمْ قُومُوا فَاحْتَمِلُوا قَالُوا لاَ نَمَسُّهُ فَحَمَلْتُهُ حَتَّى جِئْتُهُمْ بِهِ فَأَبَى بَعْضُهُمْ وَأَكَلَ بَعْضُهُمْ فَقُلْتُ لَهُمْ أَنَا أَسْتَوْقِفُ لَكُمْ

(9/613)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكْتُهُ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ لِي أَبَقِيَ مَعَكُمْ شَيْءٌ مِنْهُ قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ كُلُوا فَهُوَ طُعْمٌ أَطْعَمَكُمُوهُ اللَّهُ"
قوله: "باب التصيد على الجبال" هو بالجيم جمع جبل بالتحريك. أورد فيه حديث أبي قتادة في قصة الحمار الوحشي لقوله فيه: "كنت رقاء على الجبال" وهو بتشديد القاف مهموز أي كثير الصعود عليها. قوله: "أخبرنا عمرو" هو ابن الحارث المصري، وأبو النضر هو المدني واسمه سالم. قوله: "وأبي صالح" هو مولى التوأمة واسمه نبهان، ليس له في البخاري إلا هذا الحديث، وقرنه بنافع مولى أبي قتادة. وغفل الداودي فظن أن أبا صالح هذا هو ولده صالح مولى التوأمة فقال: إنه تغير بأخرة، فمن أخذ عنه قديما مثل ابن أبي ذئب وعمرو بن الحارث فهو صحيح، وذكر أبو علي الجياني أن أبا أحمد كتب على حاشية نسخته مقابل "وأبي صالح" : هذا خطأ، يعني أن الصواب عن نافع وصالح، قال: وليس هو كما ظن، فإن الحديث محفوظ لنبهان لا لابنه صالح، وقد نبه على ذلك عبد الغني بن سعيد الحافظ، فإنه سئل عمن روى هذا الحديث فقال: "عن صالح مولى التوأمة"، فقال: هذا خطأ إنما هو عن نافع وأبي صالح وهو والد صالح، ولم يأت عنه غير هذا الحديث فلذلك غلط فيه. والتوأمة ضبطت في بعض النسخ بضم المثناة حكاه عياض عن المحدثين قال: والصواب بفتح أوله، قال: ومنهم من ينقل حركة الهمزة فيفتح بها الواو، وحكى ابن التين التومة بوزن الحطمة ولعل هذه الضمة أصل ما حكى عن المحدثين، وقوله: "رقاء على الجبال" في رواية أبي صالح دون نافع مولى أبي قتادة، قال ابن المنير: نبه بهذه الترجمة على جواز ارتكاب المشاق لمن له غرض لنفسه أو لدابته إذا كان الغرض مباحا، وأن التصيد في الجبال كهو في السهل، وأن إجراء الخيل في الوعر جائز للحاجة وليس هو من تعذيب الحيوان.

(9/614)


باب قوله تعالى:(أحل لكم صيد البحر)
...
12- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}
وَقَالَ عُمَرُ صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ وَطَعَامُهُ مَا رَمَى بِهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطَّافِي حَلاَلٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ إِلاَّ مَا قَذِرْتَ مِنْهَا وَالْجِرِّيُّ لاَ تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ وَقَالَ عَطَاءٌ أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ يَذْبَحَهُ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ صَيْدُ الأَنْهَارِ وَقِلاَتِ السَّيْلِ أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ قَالَ نَعَمْ ثُمَّ تَلاَ {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا}.
وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلاَم عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلاَبِ الْمَاءِ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لاَطْعَمْتُهُمْ وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرِي ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ"

(9/614)


5493- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن بن جريج قال أخبرني عمرو انه سمع جابرا رضي الله عنه يقول: غزونا جيش الخبط وأميرنا أبو عبيدة فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله يقال له العنبر فأكلنا منه نصف شهر فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته"
حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا سفيان عن عمرو قال سمعت جابرا يقول: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة راكب وأميرنا أبو عبيدة نرصد عيرا لقريش فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فسمى جيش الخبط وألقى البحر حوتا يقال له العنبر فأكلنا نصف شهر وادهنا بودكه حتى صلحت أجسامنا قال فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنصبه فمر الراكب تحته وكان فينا رجل فلما اشتد الجوع نحر ثلاث جزائر ثم ثلاث جزائر ثم نهاه أبو عبيدة"
قوله: "باب قول الله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} كذا للنسفي، واقتصر الباقون على "أحل لكم صيد البحر". قوله: "وقال عمر" هو ابن الخطاب "صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به" وصله المصنف في "التاريخ" وعبد بن حميد من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما قدمت البحرين سألني أهلها عما قذف البحر فأمرتهم أن يأكلوه، فلما قدمت على عمر - فذكر قصة - قال فقال عمر قال الله عز وجل في كتابه {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} فصيده ما صيد، وطعامه ما قذف به". قوله: "وقال أبو بكر" هو الصديق "الطافي حلال" وصله أبو بكر بن أبي شيبة والطحاوي والدار قطني من رواية عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس قال: أشهد على أبي بكر أنه قال: "السمكة الطافية حلال" زاد الطحاوي "لمن أراد أكله" وأخرجه الدار قطني وكذا عبد بن حميد والطبري منها وفي بعضها "أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء" ا ه والطافي بغير همز من طفا يطفو إذا علا الماء ولم يرسب، وللدار قطني من وجه آخر عن ابن عباس عن أبي بكر: إن الله ذبح لكم ما في البحر، فكلوه كله فإنه ذكي. قوله: "وقال ابن عباس: طعامه ميتته إلا ما قذرت منها" وصله الطبري من طريق أبي بكر بن حفص عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} قال طعامه ميتته. وأخرج عبد الرزاق من وجه آخر عن ابن عباس وذكر صيد البحر: لا تأكل منه طافيا. في سنده الأجلح وهو لين، ويوهنه حديث ابن عباس الماضي قبله. قوله: "والجري لا تأكله اليهود ونحن نأكله" وصله عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس أنه سأل عن الجري فقال: لا بأس به، إنما هو كرهته اليهود، وأخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري به. وقال في روايته: سألت ابن عباس عن الجري فقال: لا بأس به، إنما تحرمه اليهود ونحن نأكله. وهذا على شرط الصحيح. وأخرج عن علي وطائفة نحوه. والجري بفتح الجيم قال ابن التين: وفي نسخة بالكسر وهو ضبط الصحاح وكسر الراء الثقيلة قال: ويقال له أيضا الجريت وهو ما لا قشر له. قال وقال ابن حبيب من المالكية: أنا أكرهه لأنه يقال إنه من الممسوخ. وقال الأزهري: الجريت نوع من السمك يشبه الحيات، وقيل سمك لا قشر له، ويقال له أيضا المرماهي والسلور مثله. وقال الخطابي: هو ضرب من السمك يشبه الحيات. وقال غيره: نوع عريض الوسط دقيق الطرفين. قوله: "وقال

(9/615)


شريح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء في البحر مذبوح. وقال عطاء: أما الطير فأرى أن تذبحه" وصله المصنف في "التاريخ" وابن منده في "المعرفة" من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار وأبي الزبير أنهما سمعا شريحا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كل شيء في البحر مذبوح. قال: فذكرت ذلك لعطاء فقال: أما الطير فأرى أن تذبحه". وأخرجه الدار قطني وأبو نعيم في "الصحابة" مرفوعا من حديث شريح، والموقوف أصح. وأخرجه ابن أبي عاصم في الأطعمة من طريق عمرو بن دينار سمعت شيخا كبيرا يحلف بالله ما في البحر دابة إلا قد ذبحها الله لبني آدم" وأخرج الدار قطني من حديث عبد الله بن سرجس رفعه: "إن الله قد ذبح كل ما في البحر لبني آدم" وفي سنده ضعف. والطبراني من حديث ابن عمر رفعه نحوه وسنده ضعيف أيضا. وأخرج عبد الرزاق بسندين جيدين عن عمر ثم عن علي: الحوت ذكي كله. "تنبيه": سقط هذا التعليق من رواية أبي زيد وابن السكن والجرجاني، ووقع في رواية الأصيلي: "وقال أبو شريح وهو وهم نبه على ذلك أبو علي الجياني وتبعه عياض وزاد: وهو شريح بن هانئ أبو هانئ كذا قال، والصواب أنه غيره وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، وشريح بن هانئ لأبيه صحبة، وأما هو فله إدراك ولم يثبت له سماع ولا لقاء. وأما شريح المذكور فذكره البخاري في "التاريخ" وقال: له صحبة. وكذا قال أبو حاتم الرازي وغيره. قوله: "وقال ابن جريج: قلت لعطاء صيد الأنهار وقلات السيل أصيد بحر هو؟ قال: نعم، ثم تلا: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} وصله عبد الرزاق في التفسير عن ابن جريج بهذا سواء، وأخرجه الفاكهي في "كتاب مكة" من رواية عبد المجيد بن أبي داود عن ابن جريج أتم من هذا وفيه: وسألته عن حيتان بركة القشيري - وهي بئر عظيمة في الحرم - أتصاد؟ قال: نعم. وسألته عن ابن الماء وأشباهه أصيد بحر أم صيد بر؟ فقال حيث يكون أكثر فهو صيد. وقلات بكسر القاف وتخفيف اللام وآخره مثناة، ووقع في رواية الأصيلي مثلثة والصواب الأول: جمع قلت بفتح أوله مثل بحر وبحار هو النقرة في الصخرة يستنقع فيها الماء. قوله: "وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء، وفال الشعبي: لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم، ولم ير الحسن بالسلحفاة بأسا" أما قول الحسن الأول فقيل إنه ابن علي وقيل البصري؛ ويؤيد الأول أنه وقع في رواية: "وركب الحسن عليه السلام" وقوله: "على سرج من جلود" أي متخذ من جلود "كلاب الماء"، وأما قول الشعبي فالضفادع جمع ضفدع بكسر أوله وبفتح الدال وبكسرها أيضا، وحكى ضم أوله مع فتح الدال، والضفادي بغير عين لغة فيه، قال ابن التين. لم يبين الشعبي هل تذكى أم لا؟ ومذهب مالك أنها تؤكل بغير تذكية، ومنهم من فصل بين ما مأواه الماء وغيره، وعن الحنفية ورواية عن الشافعي لا بد من التذكية، وأما قول الحسن في السلحفاة فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى بأكل السلحفاة بأسا، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن قال: لا بأس بها، كلها. والسلحفاة بضم المهملة وفتح اللام وسكون المهملة بعدها فاء ثم ألف ثم هاء، ويجوز بدل الهاء همزة حكاه ابن سيده وهي رواية عبدوس، وحكى أيضا في "المحكم" سكون اللام وفتح الحاء، وحكى أيضا سلحفية كالأول لكن بكسر الفاء بعدها تحتانية مفتوحة. قوله: "وقال ابن عباس: كل من صيد البحر نصراني أو يهودي أو مجوسي" قال الكرماني: كذا في النسخ القديمة وفي بعضها "ما صاده" قبل لفظ نصراني. قلت: وهذا التعليق وصله البيهقي من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل ما ألقى البحر وما صيد منه صاده يهودي أو نصراني

(9/616)


أو مجوسي، قال ابن التين: مفهومه أن صيد البحر لا يؤكل إن صاده غير هؤلاء، وهو كذلك عند قوم. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء وسعيد بن جبير، وبسند آخر عن علي كراهية صيد المجوسي السمك. قوله: "وقال أبو الدرداء في المري ذبح الخمر النينان والشمس" قال البيضاوي: ذبح بصيغة الفعل الماضي ونصب راء الخمر على أنه المفعول، قال: ويروى بسكون الموحدة على الإضافة والخمر بالكسر أي تطهيرها. قلت: والأول هو المشهور وهذا الأثر سقط من رواية النسفي، وقد وصله إبراهيم الحربي في "غريب الحديث:" له من طريق أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء فذكره سواء، قال الحربي: هذا مري يعمل بالشام: يؤخذ الخمر فيجعل فيه الملح والسمك ويوضع في الشمس فيتغير عن طعم الخمر. وأخرج أبو بشر الدولابي في "الكنى" من طريق يونس بن ميسرة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أنه قال في مري النينان: غيرته الشمس. ولابن أبي شيبة من طريق مكحول عن أبي الدرداء: لا بأس بالمري ذبحته النار والملح. وهذا منقطع، وعليه اقتصر مغلطاي ومن تبعه، واعترضوا على جزم البخاري به وما عثروا على كلام الحربي، وهو مراد البخاري جزما، وله طرق أخرى أخرجها الطحاوي من طريق بشر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني: أن أبا الدرداء كان يأكل المري الذي يجعل فيه الخمر ويقول ذبحته الشمس والملح. وأخرجه عبد الرزاق من طريق سعيد بن عبد العزيز عن عطية بن قيس قال: مر رجل من أصحاب أبي الدرداء بآخر - فذكر قصة في اختلافهم في المري - فأتيا أبا الدرداء فسألاه فقال: ذبحت خمرها الشمس والملح والحيتان. ورويناه في جزء إسحاق بن الفيض من طريق عطاء الخراساني قال: سئل أبو الدرداء عن أكل المري فقال: ذبحت الشمس سكر الخمر، فنحن نأكل، لا نرى به بأسا. قال أبو موسى في "ذيل الغريب" : عبر عن قوة الملح والشمس وغلبتهما على الخمر وإزالتهما طعمها ورائحتها بالذبح، وإنما ذكر النينان دون الملح لأن المقصود من ذلك يحصل بدونه، ولم يرد أن النينان وحدها هي التي خللته. قال: وكان أبو الدرداء ممن يفتي بجواز تخليل الخمر فقال: إن السمك بالآلة التي أضيفت إليه يغلب على ضراوة الخمر ويزيل شدتها، والشمس تؤثر في تخليلها فتصير حلالا. قال: وكان أهل الريف من الشام يعجنون المري بالخمر وربما يجعلون فيه أيضا السمك الذي يربى بالملح والأبزار مما يسمونه الصحناء، والقصد من المري هضم الطعام فيضيفونه إليه كل ثقيف أو حريف ليزيد في جلاء المعدة واستدعاء الطعام بحرافته. وكان أبو الدرداء وجماعة من الصحابة يأكلون هذا المري المعمول بالخمر وأدخله البخاري في طهارة صيد البحر يريد أن السمك طاهر حلال وأن طهارته وحله يتعدى إلى غيره كالملح حتى يصير الحرام النجس بإضافتها إليه طاهرا حلالا، وهذا رأي من يجوز تحليل الخمر، وهو قول أبي الدرداء وجماعة. وقال ابن الأثير في "النهاية" استعار الذبح للإحلال فكأنه يقول: كما أن الذبح يحل أكل المذبوحة دون الميتة فكذلك هذه الأشياء إذا وضعت في الخمر قامت مقام الذبح فأحلتها. وقال البيضاوي: يريد أنها حلت بالحوت المطروح فيها وطبخها بالشمس، فكان ذلك كالذكاة للحيوان. وقال غيره معنى ذبحتها أبطلت فعلها، وذكر الحاكم في النوع العشرين من "علوم الحديث:" من حديث ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه سمع عثمان بن عفان يقول: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث. قال ابن شهاب: في هذا الحديث أن لا خير في الخمر، وأنها إذا أفسدت لا خير فيها حتى يكون الله هو الذي يفسدها فيطيب حينئذ الخل. قال ابن وهب: وسمعت مالكا يقول سمعت ابن شهاب يسأل عن خمر جعلت في قلة وجعل معها ملح وأخلاط كثيرة ثم تجعل في الشمس حتى

(9/617)


تعود مريا، فقال ابن شهاب: شهدت قبيصة ينهى أن يجعل الخمر مريا إذا أخذ وهو خمر. قلت: وقبيصة من كبار التابعين وأبوه صحابي وولد هو في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فذكر في الصحابة لذلك، وهذا يعارض أثر أبي الدرداء المذكور ويفسر المراد به. والنينان بنونين الأول مكسورة بينهما تحتانية ساكنة جمع نون وهو الحوت، والمري بضم الميم وسكون الراء بعدها تحتانية، وضبط في "النهاية" تبعا للصحاح بتشديد الراء نسبة إلى المر وهو الطعم المشهور، وجزم الشيخ محيي الدين بالأول، ونقل الجواليقي في "لحن العامة" أنهم يحركون الراء والأصل بسكونها، ثم ذكر المصنف حديث جابر في قصة جيش الخبط من طريقين: إحداهما رواية ابن جريج: أخبرني عمرو وهو ابن دينار أنه سمع جابرا، وقد تقدم بسنده ومتنه في المغازي، وزاد هناك عن أبي الزبير عن جابر، وتقدمت مشروحة مع شرح سائر الحديث. الطريق الثانية رواية سفيان عن عمرو بن دينار أيضا، وفيه من الزيادة "وكان فينا رجل نحر ثلاث جزائر ثم ثلاث جزائر ثم نهاه أبو عبيدة، وهذا الرجل هو قيس بن سعد بن عبادة كما تقدم إيضاحه في المغازي، وكان اشترى الجزر من أعرابي جهني كل جزور بوسق من تمر يوفيه إياه بالمدينة، فلما رأى عمر ذلك - وكان في ذلك الجيش - سأل أبا عبيدة أن ينهى قيسا عن النحر، فعزم عليه أبو عبيدة أن ينتهي عن ذلك فأطاعه، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك هناك أيضا. والمراد بقوله: "جزائر" جمع جزور، وفيه نظر فإن جزائر جزيرة والجزور إنما يجمع على جزر بضمتين، فلعله جمع الجمع، والغرض من إيراده هنا قصة الحوت فإنه يستفاد منها جواز أكل ميتة البحر لتصريحه في الحديث بقوله: "فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله يقال له العنبر" وتقدم في المغازي أن في بعض طرقه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه، وبهذا تتم الدلالة، وإلا فمجرد أكل الصحابة منه وهم في حالة المجاعة قد يقال إنه للاضطرار، ولا سيما وفيه قول أبي عبيدة "ميتة" ثم قال: "لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا" وهذه رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم، وتقدمت للمصنف في المغازي من هذا الوجه، لكن قال: "قال أبو عبيدة كلوا" ولم يذكر بقيته. وحاصل قول أبي عبيدة أنه بناه أولا على عموم تحريم الميتة، ثم تذكر تخصيص المضطر بإباحة أكلها إذا كان غير باغ ولا عاد، وهم بهذه الصفة لأنهم في سبيل الله وفي طاعة رسوله وقد تبين من آخر الحديث أن جهة كونها حلالا ليست سبب الاضطرار بل كونها من صيد البحر، ففي آخره عندهما جميعا "فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا رزقا أخرجه الله، أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بعضو فأكله" فتبين لهم أنه حلال مطلقا. وبالغ في البيان بأكله منها لأنه لم يكن مضطرا، فيستفاد منه إباحة ميتة البحر سواء مات بنفسه أو ما مات بالاصطياد، وهو قول الجمهور. وعن الحنفية يكره، وفرقوا بين ما لفظه فمات وبين ما مات فيه من غير آفة، وتمسكوا بحديث أبي الزبير عن جابر "ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه" أخرجه أبو داود مرفوعا من رواية يحيى بن سليم الطائفي عن أبي الزبير عن جابر ثم قال: رواه الثوري وأيوب وغيرهما عن أبي الزبير هذا الحديث موقوفا. وقد أسند من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا. وقال الترمذي: سألت البخاري عنه فقال ليس بمحفوظ، ويروى عن جابر خلافه ا هـ. ويحيى بن سليم صدوق وصفوه بسوء الحفظ. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال يعقوب بن سفيان: إذا حدث من كتابه فحديثه حسن، وإذا حدث حفظا يعرف وينكر. وقال أبو حازم: لم يكن بالحافظ. وقال ابن حبان في الثقات: كان يخطئ، وقد توبع على رفعه. وأخرجه الدار قطني من رواية أبي أحمد الزبيري عن

(9/618)


الثوري مرفوعا لكن قال: خالفه وكيع وغيره فوقفوه عن الثوري وهو الصواب، وروى عن ابن أبي ذئب وإسماعيل بن أمية مرفوعا ولا يصح والصحيح موقوف، وإذا لم يصح إلا موقوفا فقد عارضه قول أبي بكر وغيره، والقياس يقتضي حله، لأنه سمك لو مات في البر لأكل بغير تذكية، ولو نضب عنه الماء أو قتلته سمكة أخرى فمات لأكل، فكذلك إذا مات وهو في البحر. ويستفاد من قوله: "أكلنا منه نصف شهر" جواز أكل اللحم ولو أنتن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكل منه بعد ذلك، واللحم لا يبقى غالبا بلا نتن في هذه المدة لا سيما في الحجاز مع شدة الحر، لكن يحتمل أن يكونوا ملحوه وقددوه فلم يدخله نتن، وقد تقدم قريبا قول النووي: إن النهي عن أكل اللحم إذا أنتن للتنزيه إلا أن خيف منه الضرر فيحرم، وهذا الجواب على مذهبه، ولكن المالكية حملوه على التحريم مطلقا. وهو الظاهر والله أعلم. ويأتي في الطافي نظير ما قاله في النتن إذا خشي منه الضرر، وفيه جواز أكل حيوان البحر مطلقا لأنه لم يكن عند الصحابة نص يخص العنبر وقد أكلوا منه، كذا قال بعضهم، ويخدش فيه أنهم أولا إنما أقدموا عليه بطريق الاضطرار، ويجاب بأنهم أقدموا عليه مطلقا من حيث كونه صيد البحر ثم توقفوا من حيث كونه ميتة، فدل على إباحة الإقدام على أكل ما صيد من البحر، وبين لهم الشارع آخرا أن ميتته أيضا حلال، ولم يفرق بين طاف ولا غيره. واحتج بعض المالكية بأنهم أقاموا يأكلون منه أياما، فلو كانوا أكلوا منه على أنه ميتة بطريق الاضطرار ما داوموا عليه، لأن المضطر إذا أكل الميتة يأكل منها بحسب الحاجة ثم ينتقل لطلب المباح غيرها، وجمع بعض العلماء بين مختلف الأخبار في ذلك بحمل النهي على كراهة التنزيه وما عدا ذلك على الجواز، ولا خلاف بين العلماء في حل السمك على اختلاف أنواعه، وإنما اختلف فيما كان على صورة حيوان البر كالآدمي والكلب والخنزير والثعبان، فعند الحنفية - وهو قول الشافعية - يحرم ما عدا السمك، واحتجوا عليه بهذا الحديث، فإن الحوت المذكور لا يسمى سمكا. وفيه نظر، فإن الخبر ورد في الحوت نصا، وعن الشافعية الحل مطلقا على الأصح المنصوص. وهو مذهب المالكية إلا الخنزير في رواية، وحجتهم قوله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وحديث: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، وعن الشافعية ما يؤكل نظيره في البر حلال ومالا فلا، واستثنوا على الأصح ما يعيش في البحر والبر وهو نوعان: النوع الأول ما ورد في منع أكله شيء يخصه كالضفدع، وكذا استثناه أحمد للنهي عن قتله ورد ذلك من حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي أخرجه أبو داود والنسائي وصححه والحاكم، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن أبي عاصم، وآخر عن عبد الله بن عمر، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" وزاد: فإن نقيقها تسبيح. وذكر الأطباء أن الضفدع نوعان بري وبحري، فالبري يقتل آكله والبحري يضره. ومن المستثنى أيضا التمساح لكونه يعدو بنابه. وعند أحمد فيه رواية، ومثله القرش في البحر الملح خلافا لما أفتى به المحب الطبري، والثعبان والعقرب والسرطان والسلحفاة للاستخباث والضرر اللاحق من السم، ودنيلس قيل إن أصله السرطان فإن ثبت حرم. النوع الثاني ما لم يرد فيه مانع فيحل لكن بشرط التذكية، كالبط وطير الماء والله أعلم. "تنبيه": وقع في أواخر صحيح مسلم في الحديث الطويل من طريق الوليد بن عبادة بن الصامت أنهم "دخلوا على جابر فرأوه يصلي في ثوب" الحديث وفيه قصة النخامة في المسجد، وفيه أنهم خرجوا في غزاة ببطن بواط، وفيه قصة الحوض، وفيه قيام المأمومين خلف الإمام كل ذلك مطول، وفيه قال: "سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوت كل رجل منا تمرة

(9/619)


كل يوم فكان يمصها وكنا نختبط بقسينا ونأكل، وسرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح" فذكر قصة الشجرتين اللتين التقتا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى تستر بهما عند قضاء الحاجة، وفيه قصة القبرين اللذين غرس في كل منهما غصنا، وفيه: "فأتينا العسكر فقال: يا جابر ناد الوضوء" فذكر القصة بطولها في نبع الماء من بين أصابعه، وفيه: "وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال: عسى الله أن يطعمكم. فأتينا سيف البحر، فزجر البحر زجرة فألقى دابة فأورينا على شقها النار فاطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا". وذكر أنه دخل هو وجماعة في عينها، وذكر قصة الذي دخل تحت ضلعها ما يطأطئ رأسه وهو أعظم رجل في الركب على أعظم جمل، وظاهر سياق هذه القصة يقتضي مغايرة القصة المذكورة في هذا الباب وهي من رواية جابر أيضا، حتى قال عبد الحق في "الجمع بين الصحيحين" : هذه واقعة أخرى غير تلك، فإن هذه كانت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وما ذكره ليس بنص في ذلك لاحتمال أن تكون الفاء في قول جابر "فأتينا سيف البحر" هي الفصيحة وهي معقبة لمحذوف تقديره فأرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي عبيدة فأتينا سيف البحر فتتحد القصتان، وهذا هو الراجح عندي، والأصل عدم التعدد. ومما تنبه عليه هنا أيضا أن الواقدي زعم أن قصة بعث أبي عبيدة كانت في رجب سنة ثمان، وهو عندي خطأ لأن في نفس الخبر الصحيح أنهم خرجوا يترصدون عير قريش وقريش في سنة ثمان كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هدنة، وقد نبهت على ذلك في المغازي، وجوزت أن يكون ذلك قبل الهدنة في سنة ست أو قبلها، ثم ظهر لي الآن تقوية ذلك بقول جابر في رواية مسلم هذه أنهم خرجوا في غزاة بواط وغزاة بواط كانت في السنة الثانية من الهجرة قبل وقعة بدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مائتين من أصحابه يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف فبلغ بواطا، وهي بضم الموحدة جبال لجهينة مما يلي الشام، بينها وبين المدينة أربعة برد، فلم يلق أحدا فرجع، فكأنه أفرد أبا عبيدة فيمن معه يرصدون العير المذكورة. ويؤيد تقدم أمرها ما ذكر فيها من القلة والجهد، والواقع أنهم في سنة ثمان كان حالهم اتسع بفتح خيبر وغيرها، والجهد المذكور في القصة يناسب ابتداء الأمر فيرجح ما ذكرته، والله أعلم.

(9/620)


13- باب أَكْلِ الْجَرَادِ
5495- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَوْ سِتًّا كُنَّا نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ"
قَالَ سُفْيَانُ وَأَبُو عَوَانَةَ وَإِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى "سَبْعَ غَزَوَاتٍ"
قوله: "باب أكل الجراد" بفتح الجيم وتخفيف الراء معروف والواحدة جرادة والذكر والأنثى سواء كالحمامة ويقال إنه مشتق من الجرد لأنه لا ينزل على شيء إلا جرده، وخلقه الجراد عجيبة فيها عشرة من الحيوانات ذكر بعضها ابن الشهرزوري في قوله:
لها فخدا بكر وساقا نعامة
وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم
حبتها أفاعي الرمل بطنا وأنعمت
عليها جياد الخيل بالرأس والفم
قيل وفاته عين الفيل وعنق الثور وقرن الآيل وذنب الحية. وهو صنفان طيار ووثاب، ويبيض في الصخر

(9/620)


فيتركه حتى ييبس وينتشر فلا يمر بزرع إلا اجتاحه، وقيل.1 واختلف في أصله فقيل إنه نثرة حوت فلذلك كان أكله بغير ذكاة، وهذا ورد في حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه عن أنس رفعه: "أن الجراد نثرة حوت من البحر" ومن حديث أبى هريرة "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل من جراد، فجعلنا نضرب بنعالنا وأسواطنا، فقال: كلوه فإنه من صيد البحر" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وسنده ضعيف، ولو صح لكان فيه حجة لمن قال لا جزاء فيه إذا قتله المحرم، وجمهور العلماء على خلافه، قال ابن المنذر: لم يقل لا جزاء فيه غير أبي سعيد الخدري وعروة بن الزبير، واختلف عن كعب الأحبار، وإذا ثبت فيه الجزاء دل على أنه بري. وقد أجمع العلماء على جواز أكله بغير تذكية إلا أن المشهور عند المالكية اشتراط تذكيته. واختلفوا في صفتها فقيل بقطع رأسه وقيل إن وقع في قدر أو نار حل.وقال ابن وهب أخذه ذكاته، ووافق مطرف منهم الجمهور في أنه لا يفتقر إلى ذكاته لحديث ابن عمر "أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال" أخرجه أحمد والدار قطني مرفوعا وقال إن الموقوف أصح، ورجح البيهقي أيضا الموقوف إلا أنه قال إن له حكم الرفع. قوله: "عن أبي يعفور" بفتح التحتانية وسكون المهملة وضم الفاء هو العبدي، واسمه وقدان وقيل واقد. وقال مسلم اسمه واقد ولقبه وقدان، وهو الأكبر، وأبو يعفور الأصغر اسمه عبد الرحمن بن عبيد، وكلاهما ثقة من أهل الكوفة، وليس للأكبر في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في الصلاة في أبواب الركوع من صفة الصلاة، وقد ذكرت كلام النووي فيه وجزمه بأنه الأصغر وأن الصواب أنه الأكبر، وبذلك جزم الكلاباذي وغيره والنووي تبع في ذلك ابن العربي وغيره والذي يرجح كلام الكلاباذي جزم الترمذي بعد تخريجه بأن راوي حديث الجراد هو الذي اسمه واقد ويقال وقدان وهذا هو الأكبر، ويؤيده أيضا أن ابن أبي حاتم جزم في ترجمة الأصغر بأنه لم يسمع من عبد الله بن أبي أوفى قوله: "سبع غزوات أو ستا" كذا للأكثر ولا إشكال فيه، ووقع في رواية النسفي "أو ست" بغير تنوين، ووقع في "توضيح ابن مالك، سبع غزوات أو ثماني" وتكلم عليه فقال: الأجود أن يقال سبع غزوات أو ثمانية بالتنوين لأن لفظ ثمان وإن كان كلفظ جوار في أن ثالث حروفه ألف بعدها حرفان ثانيهما ياء فهو يخالفه في أن جواري جمع وثمانية ليس بجمع واللفظ بهما في الرفع والجر سواء، ولكن تنوين ثمان تنوين صرف وتنوين جوار تنوين عوض، وإنما يفترقان بالنصب. واستمر يتكلم على ذلك ثم قال: وفي ذكره له بلا تنوين ثلاثة أوجه أجودها أن يكون حذف المضاف إليه وأبقى المضاف على ما كان عليه قبل الحذف، ومثله قول الشاعر خمس ذود أو ست عوضت منها البيت. الوجه الثاني أن يكون المنصوب كتب بغير ألف على لغة ربيعة، وذكر وجها آخر يختص بالثمان، ولم أره في شيء من طرق الحديث لا في البخاري ولا في غيره بلفظ ثمان، فما أدري كيف وقع هذا. وهذا الشك في عدد الغزوات من شعبة، وقد أخرجه مسلم من رواية شعبة بالشك أيضا؛ والنسائي من روايته بلفظ الست من غير شك، والترمذي من طريق غندر عن شعبة فقال: "غزوات" ولم يذكر عددا. قوله: "وكنا نأكل معه الجراد" يحتمل أن يريد بالمعية مجرد الغزو دون ما تبعه من أكل الجراد، ويحتمل أن يريد مع أكله، ويدل على الثاني أنه وقع في رواية أبي نعيم
ـــــــ
1 بياض بالأصل

(9/621)


في الطب "ويأكل معنا" وهذا إن صح يرد على الصيمري من الشافعية في زعمه أنه صلى الله عليه وسلم عافه كما عاف الضب. ثم وقفت على مستند الصيمري وهو ما أخرجه أبو داود من حديث سلمان "سئل صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال: لا آكله ولا أحرمه" والصواب مرسل، ولابن عدي في ترجمة ثابت بن زهير عن نافع عن ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب فقال: لا آكله ولا أحرمه، وسئل عن الجراد فقال مثل ذلك" وهذا ليس ثابتا لأن ثابتا قال فيه النسائي ليس بثقة، ونقل النووي الإجماع على حل أكل الجراد، لكن فصل ابن العربي في شرح الترمذي بين جراد الحجاز وجراد الأندلس فقال في جراد الأندلس: لا يؤكل لأنه ضرر محض. وهذا إن ثبت أنه يضر أكله بأن يكون فيه سمية تخصه دون غيره من جراد البلاد تعين استثناؤه والله أعلم. قوله: "وقال سفيان" هو الثوري وقد وصله الدارمي عن محمد بن يوسف وهو الفريابي عن سفيان وهو الثوري ولفظه: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد" وكذا أخرجه الترمذي من وجه آخر عن الثوري وأفاد أن سفيان بن عيينة روى هذا الحديث أيضا عن أبي يعفور لكن قال: "ست غزوات". قلت: وكذا أخرجه أحمد بن حنبل عن ابن عيينة جازما بالست. وقال الترمذي: كذا قال ابن عيينة ست وقال غيره سبع. قلت: ودلت رواية شعبة على أن شيخهم كان يشك فيحمل على أنه جزم مرة بالسبع ثم لما طرأ عليه الشك صار يجزم بالست لأنه المتيقن، ويؤيد هذا الحمل أن سماع سفيان بن عيينة عنه متأخر دون الثوري ومن ذكر معه، ولكن وقع عند ابن حبان من رواية أبي الوليد شيخ البخاري فيه: "سبعا أو ستا، يشك شعبة". قوله: "وأبو عوانة" وصله مسلم عن أبي كامل عنه ولفظه مثل الثوري، وذكره البزار من رواية يحيى بن حماد عن أبي عوانة فقال مرة عن أبي يعفور ومرة عن الشيباني، وأشار إلى ترجيح كونه عن أبي يعفور، وهو كذلك كما تقدم صريحا أنه عند أبي داود. قوله: "وإسرائيل" وصله الطبراني من طريق عبد الله بن رجاء عنه ولفظه: "سبع غزوات فكنا نأكل معه الجراد".

(9/622)


14- باب آنِيَةِ الْمَجُوسِ وَالْمَيْتَةِ
5496- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بِأَرْضِ أَهْلِ كِتَابٍ فَلاَ تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إِلاَّ أَنْ لاَ تَجِدُوا بُدًّا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكُمْ بِأَرْضِ صَيْدٍ فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَكُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَكُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْهُ"
5497- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ لَمَّا أَمْسَوْا يَوْمَ فَتَحُوا خَيْبَرَ أَوْقَدُوا النِّيرَانَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَلاَمَ أَوْقَدْتُمْ هَذِهِ النِّيرَانَ قَالُوا لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ قَالَ أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَاكْسِرُوا قُدُورَهَا فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقَالَ نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا فَقال

(9/622)


النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوْ ذَاكَ"
قوله: "باب آنية المجوس" قال ابن التين: كذا ترجم وأتى بحديث أبي ثعلبة وفيه ذكر أهل الكتاب فلعله يرى أنهم أهل كتاب. وقال ابن المنير: ترجم للمجوس والأحاديث في أهل الكتاب لأنه بنى على أن المحذور منهما واحد وهو عدم توقيهم النجاسات. وقال الكرماني: أو حكمه على أحدهما بالقياس على الآخر، أو باعتبار أن المجوس يزعمون أنهم أهل كتاب. قلت: وأحسن من ذلك أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث منصوصا على المجوس، فعند الترمذي من طريق أخرى عن أبي ثعلبة "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قدور المجوس، فقال: أنقوها غسلا واطبخوا فيها" وفي لفظ من وجه آخر عن أبى ثعلبة "قلت إنا نمر بهذا اليهود والنصارى والمجوس فلا تجد غير آنيتهم، الحديث، وهذه طريقة يكثر منها البخاري فما كان في سنده مقال يترجم به ثم يورد في الباب ما يؤخذ الحكم منه بطريق الإلحاق ونحوه، والحكم في آنية المجوس لا يختلف مع الحكم في آنية أهل الكتاب لأن العلة إن كانت لكونهم تحل ذبائحهم كأهل الكتاب فلا إشكال، أو لا تحل كما سيأتي البحث فيه بعد أبواب فتكون الآنية التي يطبخون فيها ذبائحهم ويغرقون قد تنجست بملاقاة الميتة، فأهل الكتاب كذلك باعتبار أنهم لا يتدينون باجتناب النجاسة وبأنهم يطبخون فيها الخنزير ويضعون فيها الخمر وغيرها، ويؤيد الثاني ما أخرجه أبو داود والبزار عن جابر "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين فنستمتع بها فلا يعيب ذلك علينا" لفظ أبي داود. وفي رواية البزار "فنغسلها ونأكل فيها". قوله: "والميتة" قال ابن المنير: نبه بذكر الميتة على أن الحمير لما كانت محرمة لم تؤثر فيها الذكاة فكانت ميتة، ولذلك أمر بغسل الآنية منها. حديث أبي ثعلبة عن أبي عاصم عاليا وساقه على لفظه، وقد تقدم شرحه قبل حديث سلمة بن الأكوع في الحمر الأهلية أورده عاليا وهو من ثلاثياته، وسيأتي شرحه بعد ثلاثة عشر بابا.

(9/623)


15- باب التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَمَنْ تَرَكَ مُتَعَمِّدًا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ نَسِيَ فَلاَ بَأْسَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَالنَّاسِي لاَ يُسَمَّى فَاسِقًا وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}
5498- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فَأَصَبْنَا إِبِلًا وَغَنَمًا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ فَدُفِعَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا قَالَ وَقَالَ جَدِّي إِنَّا لَنَرْجُو أَوْ نَخَافُ أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ فَقَالَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْهُ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا

(9/623)


الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ"
قوله: "باب التسمية على الذبيحة ومن تركه متعمدا" كذا للجميع ووقع في بعض الشروح هنا "كتاب الذبائح" وهو خطأ لأنه ترجم أولا كتاب الصيد والذبائح أو كتاب الذبائح والصيد فلا يحتاج إلى تكرار، وأشار بقوله متعمدا إلى ترجيح التفرقة بين المتعمد لترك التسمية فلا تخل تذكيته ومن نسي فتحل، لأنه استظهر لذلك بقول ابن عباس وبما ذكر بعده من قوله تعالى :{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ثم قال: "والناسي لا يسمى فاسقا" يشير إلى قوله تعالى الآية {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فاستنبط منها أن الوصف للعامد فيختص الحكم به، والتفرقة بين الناسي والعامد في الذبيحة قول أحمد وطائفة وقواه الغزالي في "الإحياء" محتجا بأن ظاهر الآية الإيجاب مطلقا وكذلك الأخبار، وأن الأخبار الدالة على الرخصة تحتمل التعميم وتحتمل الاختصاص بالناسي فكان حمله عليه أولى لتجري الأدلة كلها على ظاهرها ويعذر الناسي دون العامد. قوله: "وقال ابن عباس: من نسي فلا بأس" وصله الدار قطني من طريق شعبة عن مغيرة عن إبراهيم في المسلم يذبح وينسى التسمية قال: لا بأس به. وبه عن شعبة عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء حدثني "ع" عن ابن عباس أنه لم ير به بأسا. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عيينة بهذا الإسناد فقال في سنده عن "ع" يعني عكرمة عن ابن عباس فيمن ذبح ونسي التسمية فقال: المسلم فيه اسم الله وإن لم يذكر التسمية، وسنده صحيح، وهو موقوف. وذكره مالك بلاغا عن ابن عباس، وأخرجه الدار قطني من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا. وأما قول المصنف وقوله تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} فكأنه يشير بذلك إلى الزجر عن الاحتجاج لجواز ترك التسمية بتأويل الآية وحملها على غير ظاهرها لئلا يكون ذلك من وسوسة الشيطان ليصد عن ذكر الله تعالى، وكأنه لمح بما أخرجه أبو داود وابن ماجه والطبري بسند صحيح عن ابن عباس في قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} قال: "كانوا يقولون ما ذكر عليه اسم الله فلا تأكلوه وما لم يذكر عليه اسم الله فكلوه، قال الله تعالى :{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وأخرج أبو داود والطبري أيضا من وجه آخر عن ابن عباس قال: "جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تأكل مما قتلنا ولا تأكل مما قتله الله؟ فنزلت: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إلى آخر الآية. وأخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه وساق إلى قوله: {لَمُشْرِكُونَ} إن أطعتموهم فيما نهيتكم عنه، ومن طريق معمر عن قتادة في هذه الآية {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} قال جادلهم المشركون في الذبيحة فذكر نحوه، ومن طريق أسباط عن السدي نحوه، ومن طريق ابن جريج قلت لعطاء: ما قوله: { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ؟ قال: يأمركم بذكر اسمه على الطعام والشراب والذبح، قلت: فما قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال ينهي عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان. قال الطبري: من قال إن ما ذبحه المسلم فنسى أن يذكر اسم الله عليه لا يحل فهو قول بعيد من الصواب لشذوذه وخروجه عما عليه الجماعة، قال: وأما قوله :{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فإنه يعني أن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة وما أهل به لغير الله فسق، ولم يحك الطبري عن أحد خلاف ذلك. وقد استشكل بعض المتأخرين كون قوله:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} منسوقا على ما قبله، لأن الجملة الأولى طلبية وهذه خبرية وهذا غير سائغ، ورد هذا القول بأن سيبويه ومن تبعه من المحققين يجيزون ذلك، ولهم شواهد كثيرة، وادعى المانع أن الجملة مستأنفة، ومنهم من قال الجملة حالية أي لا تأكلوه والحال أنه فسق

(9/624)


أي لا تأكلوه في حال كونه فسقا، والمراد بالفسق قد بين في قوله تعالى في الآية الأخرى {أ َوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فرجع الزجر إلى النهي عن أكل ما ذبح لغير الله، فليست الآية صريحة في فسق من أكل ما ذبح بغير تسمية ا هـ، ولعل هذا القدر هو الذي حذرت منه الآية، وقد نوزع المذكور فيما حمل عليه الآية ومنع ما ادعاه من كون الآية مجملة والأخرى مبينة لأن ثم شروطا ليست هنا. قوله: "عن سعيد بن مسروق" هو الثوري والد سفيان، ومدار هذا الحديث في الصحيحين عليه. قوله: "عن عباية" بفتح المهملة وتخفيف الموحدة وبعد الألف تحتانية. قوله: "عن جده رافع بن خديج" كذا قال أكثر أصحاب سعيد بن مسروق عنه كما سيأتي في آخر كتاب الصيد والذبائح. وقال أبو الأحوص "عن سعيد عن عباية عن أبيه عن جده" وليس لرفاعة بن رافع ذكر في كتب الأقدمين ممن صنف في الرجال، وإنما ذكروا ولده عباية بن رفاعة. نعم ذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال: إنه يكنى أبا خديج، وتابع أبا الأحوص على زيادته في الإسناد حسان بن إبراهيم الكرماني عن سعيد بن مسروق أخرجه البيهقي من طريقه، وهكذا رواه ليث بن أبي سليم عن أبي سليم عن عباية عن أبيه عن جده، قاله الدار قطني في "العلل"، قال: وكذا قال مبارك بن سعيد الثوري عن أبيه، وتعقب بأن الطبراني أخرجه من طريق مبارك فلم يقل في الإسناد عن أبيه، فلعله اختلف على المبارك فيه فإن الدار قطني لا يتكلم في هذا الفن جزافا، ورواية ليث بن أبي سليم عند الطبراني، وقد أغفل الدار قطني ذكر طريق حسان بن إبراهيم، قال الجياني: روى البخاري حديث رافع من طريق أبي الأحوص فقال: "عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رافع عن أبيه عن جده" هكذا عند أكثر الرواة، وسقط قوله: "عن أبيه" في رواية أبي علي بن السكن عند الفربري وحده وأظنه من إصلاح ابن السكن فإن ابن أبي شيبة أخرجه عن أبي الأحوص بإثبات قوله: "عن أبيه" ثم قال أبو بكر: لم يقل أحد في هذا السند عن أبيه غير أبي الأحوص ا هـ. وقد قدمت في "باب التسمية على الذبيحة" ذكر من تابع أبا الأحوص على ذلك. ثم نقل الجياني عن عبد الغني بن سعيد حافظ مصر أنه قال: خرج البخاري هذا الحديث عن مسدد عن أبي الأحوص على الصواب، يعني بإسقاط "عن أبيه"، قال: وهو أصل يعمل به من بعد البخاري إذا وقع في الحديث خطأ لا يعول عليه، قال: وإنما يحسن هذا في النقص دون الزيادة فيحذف الخطأ، قال الجياني: وإنما تكلم عبد الغني على ما وقع في رواية ابن السكن ظنا منه أنه من عمل البخاري، وليس كذلك لما بينا أن الأكثر رووه عن البخاري بإثبات قوله:" عن أبيه". قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة" زاد سفيان الثوري عن أبيه "من تهامة" تقدمت في الشركة، وذو الحليفة هذا مكان غير ميقات المدينة، لأن الميقات في طريق الذاهب من المدينة ومن الشام إلى مكة، وهذه بالقرب من ذات عرق بين الطائف ومكة، كذا جزم به أبو بكر الحازمي وياقوت، ووقع للقابسي أنها الميقات المشهور وكذا ذكر النووي قالوا: وكان ذلك عند رجوعهم من الطائف سنة ثمان. وتهامة اسم لكل ما نزل من بلاد الحجاز، سميت بذلت من التهم بفتح المثناة والهاء وهو شدة الحر وركود الريح وقيل تغير الهواء. قوله: "فأصاب الناس جوع" كأن الصحابي قال هذا ممهدا لعذرهم في ذبحهم الإبل والغنم التي أصابوا. قوله: "فأصبنا إبلا وغنما" في رواية أبي الأحوص "وتقدم سرعان الناس فأصابوا من المغانم" ووقع في رواية الثوري الآتية بعد أبواب "فأصبنا نهب إبل وغنم". قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس" أخريات جمع أخرى. وفي رواية أبي الأحوص "في آخر الناس"، وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك صونا للعسكر

(9/625)


وحفظا، لأنه لو تقدمهم لخشي أن ينقطع الضعيف منهم دونه، وكان حرصهم على مرافقته شديدا فيلزم من سيره في مقام الساقة صون الضعفاء لوجود من يتأخر معه قصدا من الأقوياء. قوله: "فعجلوا فنصبوا القدور" يعني من الجوع الذي كان بهم، فاستعجلوا فذبحوا الذي غنموه ووضعوه في القدور، ووقع في رواية داود بن عيسى عن سعيد بن مسروق "فانطلق ناس من سرعان الناس فذبحوا ونصبوا قدورهم قبل أن يقسم" وقد تقدم في الشركة من رواية علي بن الحكم عن أبي عوانة "فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور" وفي رواية الثوري "فأغلوا القدور" أي أوقدوا النار تحتها حتى غلت. وفي رواية زائدة عن عمر بن سعيد عند أبي نعيم في "المستخرج على مسلم:" وساق مسلم إسنادها "فعجل أولهم فذبحوا ونصبوا القدور". قوله: "فدفع النبي صلى الله عليه وسلم إليهم" دفع بضم أوله على البناء للمجهول، والمعنى أنه وصل إليهم، ووقع في رواية زائدة عن سعيد بن مسروق "فانتهى إليهم" أخرجه الطبراني. قوله: "فأمر بالقدور فأكفئت" بضم الهمزة وسكون الكاف أي قلبت وأفرغ ما فيها، وقد اختلف في هذا المكان في شيئين: أحدهما سبب الإراقة، والثاني هل أتلف اللحم أم لا؟ فأما الأول فقال عياض: كانوا انتهوا إلى دار الإسلام والمحل الذي لا يجوز فيه الأكل من مال الغنيمة المشتركة إلا بعد القسمة، وأن محل جواز ذلك قبل القسمة إنما هو ما داموا دار الحرب، قال: ويحتمل أن سبب ذلك كونهم انتهبوها، ولم يأخذوها باعتدال وعلى قدر الحاجة. قال: وقد وقع في حديث آخر ما يدل لذلك، يشير إلى ما أخرجه أبو داود من طريق عاصم بن كليب عن أبيه وله صحبة عن رجل من الأنصار قال: "أصاب الناس مجاعة شديدة وجهد فأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي بها إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة" ا ه. وهذا يدل على أنه عملهم من أجل استعجالهم بنقيض قصدهم كما عومل القاتل بمنع الميراث. وأما الثاني فقال النووي: المأمور به من إراقة القدور إنما هو إتلاف المرق عقوبة لهم، وأما اللحم فلم يتلفوه بل يحمل على أنه جمع ورد إلى المغنم، ولا يظن أنه أمر بإتلافه مع أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال وهذا من مال الغانمين، وأيضا فالجناية بطبخه لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة فإن منهم من لم يطبخ ومنهم المستحقون للخمس فإن قيل لم ينقل أنهم حملوا اللحم إلى المغنم قلنا: ولم ينقل أنهم أحرقوه أو أتلفوه، فيجب تأويله على وفق القواعد ا هـ. ويرد عليه حديث أبي داود فإنه جيد الإسناد وترك تسمية الصحابي لا يضر، ورجال الإسناد على شرط مسلم، ولا يقال لا يلزم من تتريب اللحم إتلافه لإمكان تداركه بالغسل، لأن السياق يشعر بأنه أريد المبالغة في الزجر عن ذلك الفعل، فلو كان بصدد أن ينتفع به بعد ذلك لم يكن فيه كبير زجر، لأن الذي يخص الواحد منهم نزر يسير فكان إفسادها عليهم مع تعلق قلوبهم بها وحاجتهم إليها وشهوتهم لها أبلغ في الزجر. وأبعد المهلب فقال: إنما عاقبهم لأنهم استعجلوا وتركوه في آخر القوم متعرضا لمن يقصده من عدو ونحوه، وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم كان مختارا لذلك كما تقدم تقريره، ولا معنى للحمل على الظن مع ورود النص بالسبب. وقال الإسماعيلي: أمره صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور يجوز أن يكون من أجل أن ذبح من لا يملك الشيء كله لا يكون مذكيا، ويجوز أن يكون من أجل أنهم تعجلوا إلى الاختصاص بالشيء دون بقية من يستحقه من قبل أن يقسم ويخرج منه الخمس، فعاقبهم بالمنع من تناول ما سبقوا إليه زجرا لهم عن معاودة مثله، ثم رجح الثاني وزيف الأول بأنه لو كان كذلك لم يحل أكل البعير الناد الذي رماه أحدهم بسهم، إذ لم يأذن لهم الكل في رميه، مع أن رميه ذكاة له كما نص عليه في نفس حديث الباب ا هـ ملخصا.

(9/626)


وقد جنح البخاري إلى المعنى الأول وترجم عليه كما سيأتي في أواخر أبواب الأضاحي، ويمكن الجواب عما ألزمه به الإسماعيلي من قصة البعير بأن يكون الرامي رمى بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم والجماعة فأقروه، فدل سكوتهم على رضاهم بخلاف ما ذبحه أولئك قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، فافترقا، والله أعلم. قوله: "ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير" في رواية1. وهذا محمول على أن هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك، فلعل الإبل كانت قليلة أو نفيسة والغنم كانت كثيرة أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي من أن البعير يجزئ عن سبع شياه، لأن ذلك هو الغالب في قيمة الشاة والبعير المعتدلين، وأما هذه القسمة فكانت واقعة عين فيحتمل أن يكون التعديل لما ذكر من نفاسة الإبل دون الغنم، وحديث جابر عند مسلم صريح في الحكم حيث قال فيه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة" والبدنة تطلق على الناقة والبقرة، وأما حديث ابن عباس "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة تسعة وفي البدنة عشرة" فحسنه الترمذي وصححه ابن حبان وعضده بحديث رافع بن خديج هذا. والذي يتحرر في هذا أن الأصل أن البعير بسبعة ما لم يعرض عارض من نفاسة ونحوها فيتغير الحكم بحسب ذلك، وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك. ثم الذي يظهر من القسمة المذكورة أنها وقعت فيما عدا ما طبخ وأريق من الإبل والغنم التي كانوا غنموها، ويحتمل - إن كانت الواقعة تعددت - أن تكون القصة التي ذكرها ابن عباس أتلف فيها اللحم لكونه كان قطع للطبخ والقصة التي في حديث رافع طبخت الشياه صحاحا مثلا فلما أريق مرقها ضمت إلى المغنم لتقسم ثم يطبخها من وقعت في سهمه، ولعل هذا هو النكتة في انحطاط قيمة الشياه عن العادة، والله أعلم. قوله: "فند" بفتح النون وتشديد الدال أي هرب نافرا. قوله: "منها" أي من الإبل المقسومة. قوله: "وكان في القوم خيل يسيرة" فيه تمهيد لعذرهم في كون البعير الذي ند أتعبهم ولم يقدروا على تحصيله، فكأنه يقول: لو كان فيهم خيول كثيرة لأمكنهم أن يحيطوا به فيأخذوه. ووقع في رواية أبي الأحوص "ولم يكن معهم خيل" أي كثيرة أو شديدة الجري، فيكون النفي لصفة في الخيل لا لأصل الخيل جمعا بين الروايتين. قوله: "فطلبوه فأعياهم" أي أتعبهم ولم يقدروا على تحصيله. قوله: "فأهوى إليه رجل" أي قصد نحوه ورماه، ولم أقف على اسم هذا الرامي. قوله: "فحبسه الله" أي أصابه السهم فوقف. قوله: "إن لهذه البهائم" في رواية الثوري وشعبة المذكورتين بعد "إن لهذه الإبل" قال بعض شراح المصابيح: هذه "اللام" تفيد معنى "من" لأن البعضية تستفاد من اسم إن لكونه نكرة. قوله: "أوابد" جمع آبدة بالمد وكسر الموحدة أي غريبة، يقال جاء فلان بآبدة أي بكلمة أو فعلة منفرة، يقال أبدت بفتح الموحدة تأبد بضمها ويجوز الكسر أبودا، ويقال تأبدت أي توحشت، والمراد أن لها توحشا. قوله: "فما ند عليكم منها فاصنعوا به هكذا" في رواية الثوري "فما غلبكم منها" وفي رواية أبي الأحوص "فما فعل منها هذا فافعلوا مثل هذا" زاد عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه "فاصنعوا به ذلك وكلوه" أخرجه الطبراني، وفيه جواز أكل ما رمى بالسهم فجرح في أي موضع كان من جسده، بشرط أن يكون وحشيا أو متوحشا، وسيأتي البحث فيه بعد ثمانية أبواب. قوله: "وقال جدي" زاد عبد الرزاق عن الثوري في روايته: "يا رسول الله" وهذا صورته مرسل، فإن
ـــــــ
(1) بيان بالأصل.

(9/627)


عباية ابن رفاعة لم يدرك زمان القول، وظاهر سائر الروايات أن عباية نقل ذلك عن جده، ففي رواية شعبة عن جده أنه قال: "يا رسول الله" وفي رواية عمر بن عبيد الآتية أيضا: "قال قلت يا رسول الله" وفي رواية أبي الأحوص "قلت يا رسول الله. قوله: "إنا لنرجو أو نخاف" هو شك من الراوي، وفي التعبير بالرجاء إشارة إلى حرصهم على لقاء العدو لما يرجونه من فضل الشهادة أو الغنيمة، وبالخوف إشارة إلى أنهم لا يحبون أن يهجم عليهم العدو بغتة، ووقع في رواية أبي الأحوص "إنا نلقى العدو غدا" بالجزم، ولعله عرف ذلك بخبر من صدقه أو بالقرائن. وفي رواية يزيد ابن هارون عن الثوري عند أبي نعيم في المستخرج على مسلم: "إنا نلقى العدو غدا وإنا نرجو" كذا بحذف متعلق الرجاء، ولعل مراده الغنيمة. قوله: "وليست معنا مدى" بضم أوله - مخفف مقصور - جمع مدية بسكون الدال بعدها تحتانية وهي السكين، سميت بذلك لأنها تقطع مدى الحيوان أي عمره، والرابط بين قوله: "نلقى العدو وليست معنا مدى" يحتمل أن يكون مراده أنهم إذا لقوا العدو صاروا بصدد أن يغنموا منهم ما يذبحونه، ويحتمل أن يكون مراده أنهم يحتاجون إلى ذبح ما يأكلونه ليتقووا به على العدو إذا لقوه، ويؤيده ما تقدم من قسمة الغنم والإبل بينهم فكان معهم ما يذبحونه، وكرهوا أن يذبحوا بسيوفهم لئلا يضر ذلك بحدها والحاجة ماسة له. فسأل عن الذي يجزئ في الذبح غير السكين والسيف، وهذا وجه الحصر في المدية والقصب ونحوه مع إمكان ما في معنى المدية وهو السيف. وقد وقع في حديث غير هذا "إنكم لاقو العدو غدا والفطر أقوى لكم" فندبهم إلى الفطر ليتقووا. قوله: "أفنذبح بالقصب" ؟ يأتي البحث فيه بعد بابين. قوله: "ما أنهر الدم" أي أساله وصبه بكثرة، شبه بجري الماء في النهر. قال عياض: هذا هو المشهور في الروايات بالراء، وذكره أبو ذر الخشني بالزاي وقال: النهر بمعنى الرفع وهو غريب، و "ما" موصولة في موضع رفع بالابتداء وخبرها "فكلوا" والتقدير ما أنهر الدم فهو حلال فكلوا، ويحتمل أن تكون شرطية، ووقع في رواية أبي إسحاق عن الثوري "كل ما أنهر الدم ذكاة" و "ما" في هذا موصوفة. قوله: "وذكر اسم الله" هكذا وقع هنا، وكذا هو عند مسلم بحذف قوله: "عليه" وثبتت هذه اللفظة في هذا الحديث عند المصنف في الشركة، وكلام النووي في "شرح مسلم:" يوهم أنها ليست في البخاري إذ قال: هكذا هو في النسخ كلها يعني من مسلم وفيه محذوف أي ذكر اسم الله عليه أو معه، ووقع في رواية أبي داود وغيره: "وذكر اسم الله عليه" ا هـ فكأنه لما لم يرها في الذبائح من البخاري أيضا عزاها لأبي داود، إذ لو استحضرها من البخاري ما عدل عن التصريح بذكرها فيه اشتراط التسمية، لأنه علق الإذن بمجموع الأمرين وهما الإنهار والتسمية، والمعلق على شيئين لا يكتفي فيه إلا باجتماعهما وينتفي بانتفاء أحدهما، وقد تقدم البحث في اشتراط التسمية أول الباب، ويأتي أيضا قريبا. قوله: "ليس السن والظفر" بالنصب على الاستثناء بليس، ويجوز الرفع أي ليس السن والظفر مباحا أو مجزئا. ووقع في رواية أبي الأحوص "ما لم يكن سن أو ظفر" وفي رواية عمر بن عبيد "غير السن والظفر". وفي رواية داود بن عيسى "إلا سنا أو ظفرا". قوله: "وسأحدثكم عن ذلك" في رواية غير أبي ذر "وسأخبركم" وسيأتي البحث فيه وهل هو من جملة المرفوع أو مدرج في "باب إذا أصاب قوم غنيمة" قبيل كتاب الأضاحي. قوله: "أما السن فعظم" قال البيضاوي: هو قياس حذفت منه المقدمة الثانية لشهرتها عندهم، والتقدير أما السن فعظم، وكل عظم لا يحل الذبح به، وطوى النتيجة لدلالة الاستثناء عليها. وقال ابن الصلاح في

(9/628)


"مشكل الوسيط" هذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قد قرر كون الذكاة لا تحصل بالعظم فلذلك اقتصر على قوله: "فعظم"، قال: ولم أر بعد البحث من نقل للمنع من الذبح بالعظم معنى يعقل، وكذا وقع في كلام ابن عبد السلام. وقال النووي: معنى الحديث لا تذبحوا بالعظام فإنها تنجس بالدم وقد نهيتكم عن تنجيسها لأنها زاد إخوانكم من الجن ا هـ، وهو محتمل ولا يقال كان يمكن تطهيرها بعد الذبح بها لأن الاستنجاء بها كذلك، وقد تقرر أنه لا يجزئ. وقال ابن الجوزي في "المشكل" : هذا يدل على أن الذبح بالعظم كان معهودا عندهم أنه لا يجزئ، وقررهم الشارع على ذلك وأشار إليه هنا. قلت: وسأذكر بعد بابين من حديث حذيفة ما يصلح أن يكون مستندا لذلك إن ثبت. قوله: "وأما الظفر فمدى الحبشة" أي وهم كفار وقد نهيتم عن التشبه بهم، قاله ابن الصلاح وتبعه النووي: وقيل نهى عنهما لأن الذبح بهما تعذيب للحيوان، ولا يقع به غالبا إلا الخنق الذي ليس هو على صورة الذبح، وقد قالوا: إن الحبشة تدمي مذابح الشاة بالظفر حتى تزهق نفسها خنقا. واعترض على التعليل الأول بأنه لو كان كذلك لامتنع الذبح بالسكين وسائر ما يذبح به الكفار، وأجيب بأن الذبح بالسكين هو الأصل وأما ما يلتحق بها فهو الذي يعتبر فيه التشبيه لضعفها، ومن ثم كانوا يسألون عن جواز الذبح بغير السكين وشبهها كما سيأتي واضحا، ثم وجدت في "المعرفة للبيهقي" من رواية حرملة عن الشافعي أنه حمل الظفر في هذا الحديث على النوع الذي يدخل في البخور فقال: معقول في الحديث أن السن إنما يذكى بها إذا كانت منتزعة، فأما وهي ثابتة فلو ذبح بها لكانت منخنقة، يعني فدل على أن المراد بالسن السن المنتزعة وهذا بخلاف ما نقل عن الحنفية من جوازه بالسن المنفصلة قال: وأما الظفر فلو كان المراد به ظفر الإنسان لقال فيه ما قال في السن، لكن الظاهر أنه أراد به الظفر الذي هو طيب من بلاد الحبشة وهو لا يفري فيكون في معنى الخنق. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم تحريم التصرف في الأموال المشتركة من غير إذن ولو قلت ولو وقع الاحتياج إليها، وفيه انقياد الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى في ترك ما بهم إليه الحاجة الشديدة. وفيه أن للإمام عقوبة الرعية بما فيه إتلاف منفعة ونحوها إذا غلبت المصلحة الشرعية، وأن قسمة الغنيمة يجوز فيها التعديل والتقويم، ولا يشترط قسمة كل شيء منها على حدة، وأن ما توحش من المستأنس يعطي حكم المتوحش وبالعكس، وجواز الذبح بما يحصل المقصود سواء كان حديدا أم لا، وجواز عقر الحيوان الناد لمن عجز عن ذبحه كالصيد البري والمتوحش من الإنسي ويكون جميع أجزائه مذبحا فإذا أصيب فمات من الإصابة حل، أما المقدور عليه فلا يباح إلا بالذبح أو النحر إجماعا. وفيه التنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها فيها. وفيه منع الذبح بالسن والظفر متصلا كان أو منفصلا طاهرا كان أو متنجسا، وفرق الحنفية بين السن والظفر المتصلين فخصوا المنع بهما وأجازوه بالمنفصلين، وفرقوا بأن المتصل يصير في معنى الخنق والمنفصل في معنى الحجر، وجزم ابن دقيق العيد بحمل الحديث على المتصلين ثم قال: واستدل به قوم على منع الذبح بالعظم مطلقا لقوله: "أما السن فعظم" فعلل منع الذبح به لكونه عظما، والحكم يعم بعموم علته، وقد جاء عن مالك في هذه المسألة أربع روايات ثالثها يجوز بالعظم دون السن مطلقا رابعها يجوز بهما مطلقا حكاها ابن المنذر، وحكى الطحاوي الجواز مطلقا عن قوم، واحتجوا بقوله في حديث عدي بن حاتم "أمر الدم بما شئت" أخرجه أبو داود، لكن عمومه مخصوص بالنهي الوارد صحيحا في حديث رافع عملا بالحديثين، وسلك الطحاوي طريقا آخر فاحتج لمذهبه بعموم حديث عدي قال: والاستثناء في حديث رافع يقتضي تخصيص هذا العموم، لكنه في المنزوعين غير محقق وفي غير

(9/629)


المنزوعين محقق من حيث النظر، وأيضا فالذبح بالمتصلين يشبه الخنق وبالمنزوعين يشبه الآلة المستقلة من حجر وخشب. والله أعلم.

(9/630)


باب ماذبح على النصب والأصنام
...
16- باب مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالأَصْنَامِ
5499- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي ابْنَ الْمُخْتَارِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ وَذَاكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ فَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُفْرَةً فِيهَا لَحْمٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ إِنِّي لاَ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلاَ آكُلُ إِلاَّ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ"
قوله: "باب ما ذبح على النصب والأصنام" النصب بضم أوله وبفتحه واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت تنصب حول البيت يذبح عليها باسم الأصنام، وقيل النصب ما يعبد من دون الله، فعلى هذا فعطف الأصنام عطف تفسيري، والأول هو المشهور وهو اللائق بحديث الباب. حديث ابن عمر في قصة زيد ابن عمرو بن نفيل ووقع فيه من الاختلاف نظير ما وقع في الرواية التي في أواخر المناقب، وهو أنه وقع للأكثر "فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة" وللكشميهني: "فقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة" وجمع ابن المنير بين هذا الاختلاف بأن القوم الذين كانوا هناك قدموا السفرة للنبي صلى الله عليه وسلم فقدمها لزيد، فقال زيد مخاطبا لأولئك القوم ما قال، وقوله: "سفرة لحم" في رواية أبي ذر "سفرة فيها لحم" وقد سبق شرح الحديث مستوفى في أواخر المناقب.

(9/630)


17- باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ
5500- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ قَالَ ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُضْحِيَةً ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا أُنَاسٌ قَدْ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَآهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدْ ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم فليذبح على اسم الله" ذكر فيه حديث جندب بن عبد الله في ذبح الضحايا قبل صلاة العيد، وفيه اللفظ المذكور وهو يحتمل أن يكون المراد به الإذن في الذبيحة حينئذ، أو المراد به الأمر بالتسمية على الذبيحة، وسيأتي شرح الحديث مستوفى في كتاب الأضاحي إن شاء الله تعالى. حديث جندب بن عبد الله في ذبح الضحايا قبل صلاة العيد، وفيه اللفظ المذكور وهو يحتمل أن يكون المراد به الإذن في الذبيحة حينئذ، أو المراد به الأمر بالتسمية على الذبيحة، وسيأتي شرح الحديث مستوفى في كتاب الأضاحي إن شاء الله تعالى. وقد استدل به ابن المنير على اشتراط تسمية العامد دون الناسي، ويأتي تقريره هناك إن شاء الله تعالى. ووقع في هذه الرواية: "ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحاة" بفتح أوله بمعنى الأضحية.

(9/630)


باب ماأنهر الدم من القصب والمروة والحديد
...
18- باب مَا أَنْهَرَ الدَّمَ مِنْ الْقَصَبِ وَالْمَرْوَةِ وَالْحَدِيدِ
5501- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ سَمِعَ ابْنَ كَعْبِ بْنِ

(9/630)


19- باب ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ وَالأَمَةِ
5504- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ يُخْبِرُ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبٍ بِهَذَا"
5505- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ سَعْدٍ أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كُلُوهَا"
قوله: "باب ذبيحة الأمة والمرأة" كأنه يشير إلى الرد على من منع ذلك، وقد نقل محمد بن عبد الحكم عن مالك كراهته، وفي "المدونة" جوازه، وفي وجه للشافعية يكره ذبح المرأة الأضحية، وعند سعيد بن منصور بسند صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال في ذبيحة المرأة والصبي: لا بأس إذا أطاق الذبيحة وحفظ التسمية، وهو قول الجمهور. قوله: "عبدة" هو ابن سليمان الكلابي الكوفي وافق معتمر بن سليمان التيمي البصري على روايته عن عبيد الله بن عمر، وذكر الدار قطني أن غيرهما رواه عن عبيد الله فقال: "عن نافع أن رجلا من الأنصار". قلت: وكذا تقدم في الباب الذي قبله من رواية جويرية عن نافع، وكذا علقه هنا من رواية الليث عن نافع، ووصله الإسماعيلي من رواية أحمد بن يونس عن الليث به، قال الدار قطني "وكذا قال محمد بن إسحاق عن نافع" وهو أشبه، وسلك الجادة قوم منهم يزيد بن هارون فقال عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر، وكذا قال مرحوم العطار عن داود العطار عن نافع، وذكر الدار قطني عن غيرهم أنهم رووه كذلك، قال: ومنهم من أرسله عن نافع وهو أشبه بالصواب، وأغفل ما ذكره البخاري أواخر الباب من رواية مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ "أن جارية لكعب" وقد أورده في "الموطآت" له كذلك من حديث جماعة عن مالك، منهم محمد بن الحسن. وقال في روايته عن رجل من الأنصار معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ، وأشار إلى تفرد محمد بذلك. وقال الباقون عن رجل عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ، ومنهم ابن وهب أخرجه من طريقه كالجماعة قال: وأخرجه ابن وهب في غير الموطأ فقال: "أخبرني مالك وغيره من أهل العلم عن رجل من الأنصار أن جارية لكعب بن مالك" فذكره وقال: الصواب ما في الموطأ يعني عن مالك، وأما عن غيره فيحتمل أن يكون ابن وهب أراد الليث وحمل

(9/632)


رواية مالك على روايته، وأغرب ابن التين فقال: فيه رواية صحابي عن تابعي لأن ابن كعب تابعي وابن عمر صحابي قلت: لكن ليس في شيء من طرقه أن ابن عمر رواه عنه، وإنما فيها أن ابن كعب حدث ابن عمر بذلك فحمله عنه نافع، وأما الرواية التي فيها عن ابن عمر فقال راويها فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ابن كعب، وقد تقدم أنها شاذة والله أعلم. وقال الكرماني الشك من الراوي في معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ لا يقدح لأن الصحابة كلهم عدول، وهو كما قال، لكن الراوي الذي لم يسم يقدح في صحة الخبر إلا أنه قد تبين بالطريق الأخرى أن له أصلا. قوله: "جارية" وفي لفظ: "أمة" لا ينافي قوله في الرواية الأخرى "امرأة" لأنها أعم، فيؤخذ بقول من زاد في روايته صفة وهي كونها أمة. قوله: "فذبحتها" في رواية الكشميهني: "فذكتها" ووقع في رواية معن بن عيسى عن مالك في "الموطأ" فأدركت ذكاتها بحجر. قوله: "فسئل النبي صلى الله عليه وسلم "في رواية الليث" فكسرت حجرا فذبحتها به فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: كلوها " فيستفاد من روايته تعيين الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد سبق في الباب الذي قبله من رواية جويرية عن نافع فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم من رواية عبيد الله بن عمر فيه على الشك والله أعلم. وفي الحديث تصديق الأجير الأمين فيما ائتمن عليه حتى يظهر عليه دليل الخيانة. وفيه جواز تصرف الأمين كالمودع بغير إذن المالك بالمصلحة، وقد تقدمت ترجمة المصنف بذلك في كتاب الوكالة. وقال ابن القاسم: إذا ذبح الراعي شاة بغير إذن المالك وقال خشيت عليها الموت لم يضمن على ظاهر هذا الحديث، وتعقب بأن الجارية كانت أمة لصاحب الغنم فلا يتصور تضمينها، وعلى تقدير أن تكون غير ملكه فلم ينقل في الحديث أنه أراد تضمينها، وكذا لو أنزى على الإناث فحلا بغير إذن فهلكت، قال ابن القاسم لا يضمن لأنه من صلاح المال، وقد أومأ البخاري في كتاب الوكالة إلى موافقته حيث قدم الجواز بقصد الإصلاح، وقد تقدم بيان ذلك، وفيه جواز أكل ما ذبح بغير إذن مالكه ولو ضمن الذابح، وخالف في ذلك طاوس وعكرمة كما سيأتي في أواخر كتاب الذبائح، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر، وإليه جنح البخاري لأنه أورد في الباب المذكور حديث رافع بن خديج في الأمر بإكفاء القدور وقد سبق ما فيه، وعورض بحديث الباب، وبما أخرجه أحمد وأبو داود بسند قوي من طريق عاصم بن كليب عن أبيه في قصة الشاة التي ذبحتها المرأة بغير إذن صاحبها فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من أكلها لكنه قال: "أطعموها الأسارى" فلو لم تكن ذكية ما أمر بإطعامها الأسارى. وفيه جواز أكل ما ذبحته المرأة سواء كانت حرة أو أمة كبيرة أو صغيرة مسلمة أو كتابية طاهرا أو غير طاهر، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بأكل ما ذبحته ولم يستفصل، نص على ذلك الشافعي، وهو قول الجمهور، وقد تقدم في صدر الباب.

(9/633)


باب لايذكى بالسن والعظم والظفر
...
20- باب لاَ يُذَكَّى بِالسِّنِّ وَالْعَظْمِ وَالظُّفُرِ
5506- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلْ يَعْنِي مَا أَنْهَرَ الدَّمَ إِلاَّ السِّنَّ وَالظُّفُرَ"
قوله: "باب لا يذكي بالسن والعظم والظفر" قال الكرماني: السن عظم خاص وكذلك الظفر ولكنهما في العرف ليسا بعظمين، وكذا عند الأطباء، وعلى الأول فذكر العظم من عطف العام على الخاص ثم الخاص على العام، ذكر فيه طرفا من حديث رافع بن خديج وقد تقدمت مباحثه، وسفيان هو الثوري. قال الكرماني: ترجم

(9/633)


بالعظم ولم يذكره في الحديث ولكن حكمه يعلم منه. قلت: والبخاري في هذا ماش على عادته في الإشارة إلى ما يتضمنه أصل الحديث، فإن فيه: "أما السن فعظم" وإن كانت هذه الجملة لم تذكر هنا لكنها ثابتة مشهورة في نفس الحديث. حديث رافع بن خديج قد تقدمت مباحثه، وسفيان هو الثوري قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل يعني ما أنهر الدم إلا السن والظفر" كذا عند الجميع، ولم أره عند أحمد ممن رواه عن الثوري بهذا اللفظ، و "كل" فعل أمر بالأكل ولفظ: "يعني" تفسير، كأن الراوي قال كلاما هذا معناه، وقد أخرجه البيهقي من طريق الباغندي عن قبيصة شيخ البخاري فيه بلفظ: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصاب الناس إبلا وغنما" قال وذكر الحديث بنحوه وزاد في آخره: "قال عباية: ثم إن ناضحا تردى بالمدينة فذبح من قبل شاكلته، فأخذ منه ابن عمر عشيرا بدرهمين" وسيأتي الحديث بعد قليل من طريق يحيى القطان عن الثوري مطولا.

(9/634)


21- باب ذَبِيحَةِ الأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ
5507- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ الْمَدَنِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لاَ نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لاَ فَقَالَ سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ قَالَتْ وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ تَابَعَهُ عَلِيٌّ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ وَتَابَعَهُ أَبُو خَالِدٍ وَالطُّفَاوِيُّ"
قوله: "باب ذبيحة الأعراب ونحوهم" كذا للأكثر بالواو والكشميهني بالراء بدل الواو وكذا هو عند النسفي ولكل وجه. قوله: "أسامة بن حفص المدني" هو شيخ لم يزد البخاري في التاريخ في تعريفه على ما في هذا الإسناد، وذكر غيره أنه روى عنه أيضا يحيى بن إبراهيم بن أبي قتيلة بالقاف والمثناة مصغر، ولم يحتج البخاري بأسامة هذا لأنه قد أخرج هذا الحديث من رواية الطفاوي وغيره كما سأبينه. قوله: "تابعه على عن الدراوردي" هو علي بن عبد الله بن المديني شيخ البخاري والدراوردي هو عبد العزيز ابن محمد، وإنما يخرج له البخاري في المتابعات، ومراد البخاري أن الدراوردي رواه عن هشام بن عروة مرفوعا كما رواه أسامة بن حفص، وقد أخرجه الإسماعيلي من طر يق يعقوب بن حميد عن الدراوردي به. قوله: "وتابعه أبو خالد والطفاوي" يعني عن هشام بن عروة في رفعه أيضا، فأما رواية أبي خالد - وهو سليمان بن حبان الأحمر - فقد وصلها عنه المصنف في كتاب التوحيد وقال عقبه "وتابعه محمد بن عبد الرحمن والدراوردي وأسامة بن حفص" وأما رواية الطفاوي وهو محمد بن عبد الرحمن فقد وصلها عنه المصنف في كتاب البيوع، وحالفهم مالك فرواه عن هشام عن أبيه مرسلا ليس فيه عائشة، قال الدار قطني في "العلل" : رواه عبد الرحيم بن سليمان ومحاضر بن المورع والنضر بن شميل وآخرون عن هشام موصولا ورواه مالك مرسلا عن هشام، ووافق مالكا على إرساله الحمادان وابن عيينة والقطان عن هشام، وهو أشبه بالصواب، وذكر أيضا أن يحيى بن أبي طالب رواه عن عبد الوهاب بن عطاء عن مالك موصولا. قلت: رواية عبد الرحيم عند ابن ماجه ورواية النضر عند النسائي ورواية محاضر عند أبي داود، وقد أخرجه البيهقي من رواية جعفر بن عون عن هشام مرسلا، ويستفاد من صنيع البخاري أن الحديث إذا اختلف في وصله وإرساله حكم للواصل بشرطين: أحدهما أن يزيد عدد من وصله على من أرسله، والآخر أن يحتف بقرينة تقوي

(9/634)


الرواية الموصولة، لأن عروة معروف بالرواية عن عائشة مشهور بالأخذ عنها، ففي ذلك إشعار بحفظ من وصله عن هشام دون من أرسله. ويؤخذ من صنيعه أيضا أنه وإن اشترط في الصحيح أن يكون راويه من أهل الضبط والإتقان أنه إن كان في الراوي قصور عن ذلك ووافقه على رواية ذلك الخبر من هو مثله انجبر ذلك القصور بذلك وصح الحديث على شرطه. قوله: "إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم" لم أقف على تعيينهم، ووقع في رواية مالك "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "إن قوما يأتوننا بلحم" في رواية أبي خالد "يأتونا بلحمان" وفي رواية النضر بن شميل عن هشام عند النسائي: "إن ناسا من الأعراب" وفي رواية مالك "من البادية". قوله: "لا ندري أذكر اسم الله عليه" كذا هنا بضم الذال على البناء للمجهول. وفي رواية الطفاوي الماضية في البيوع "اذكروا" وفي رواية أبي خالد "لا ندري يذكرون" زاد أبو داود في روايته: "أم لم يذكروا، أفنأكل منها" ؟. قوله: "سموا عليه أنتم وكلوا" في رواية الطفاوي "سموا الله" وفي رواية النضر وأبي خالد "اذكروا اسم الله" زاد أبو خالد "أنتم". قوله: "قالت وكانوا حديثي عهد بالكفر" وفي لفظ: "حديث عهدهم" وهي جملة إسمية قدم خبرها ووقعت صفة لقوله: "أقواما" ويحتمل أن يكون خبرا ثانيا بعد الخبر الأول وهو قوله: "يأتوننا بلحم". قوله: "بالكفر" وفي لفظ: "بكفر" وفي رواية أبي خالد "بشرك" وفي رواية أبي داود "بجاهلية" زاد مالك في آخره: "وذلك في أول الإسلام" وقد تعلق بهذه الزيادة قوم فزعموا أن هذا الجواب كان قبل نزول قوله تعالى :{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال ابن عبد البر: وهو تعلق ضعيف، وفي الحديث نفسه ما يرده لأنه أمرهم فيه بالتسمية عند الأكل فدل على أن الآية كانت نزلت بالأمر بالتسمية عند الأكل، وأيضا فقد اتفقوا على أن الأنعام مكية وأن هذه القصة جرت بالمدينة، وأن الأعراب المشار إليهم في الحديث هم بادية أهل المدينة، وزاد ابن عيينة في روايته: "اجتهدوا أيمانهم كلوا" أي حلفوهم على أنهم سموا حين ذبحوا، وهذه الزيادة غريبة في هذا الحديث، وابن عيينة ثقة لكن روايته هذه مرسلة، نعم أخرج الطبراني من حديث أبي سعيد نحوه لكن قال: "اجتهدوا أيمانهم أنهم ذبحوها" ورجاله ثقات، وللطحاوي في "المشكل" : "سأل ناس من الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أعاريب يأتوننا بلحمان وجبن وسمن ما ندري ما كنه إسلامهم، قال: انظروا ما حرم الله عليكم فأمسكوا عنه، وما سكت عنه فقد عفا لكم عنه، وما كان ربك نسيا، اذكروا اسم الله عليه" قال المهلب: هذا الحديث أصل في أن التسمية على الذبيحة لا تجب، إذ لو كانت واجبة لاشترطت على كل حال، وقد أجمعوا على أن التسمية على الأكل ليست فرضا، فلما نابت عن التسمية على الذبح دل على أنها سنة لأن السنة لا تنوب عن الفرض، ودل هذا على أن الأمر في حديث عدي وأبي ثعلبة محمول على التنزيه من أجل أنهما كانا يصيدان على مذهب الجاهلية فعلمهما النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصيد والذبح فرضه ومندوبه لئلا يواقعا شبهة من ذلك، وليأخذا بأكمل الأمور فيما يستقبلان، وأما الذين سألوا عن هذه الذبائح فإنهم سألوا عن أمر قد وقع ويقع لغيرهم ليس فيه قدرة على الأخذ بالأكمل، فعرفهم بأصل الحل فيه. وقال ابن التين: يحتمل أن يراد بالتسمية هنا عند الأكل، وبذلك جزم النووي، قال ابن التين: وأما التسمية على ذبح تولاه غيرهم من غير علمهم فلا تكليف عليهم فيه، وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها، ويحتمل أن يريد أن تسميتكم الآن تستبيحون بها أكل ما لم تعلموا أذكر اسم الله عليه أم لا إذا كان الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمي. ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين، لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية،

(9/635)


وبهذا الأخير جزم ابن عبد البر فقال: فيه أن ما ذبحه المسلم يؤكل ويحمل على أنه سمي، لأن المسلم لا يظن به في كل شيء إلا الخير حتى يتبين خلاف ذلك، وعكس هذا الخطابي فقال: فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة لأنها لو كانت شرطا لم تستبح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه، كما لو عرض الشك في نفس الذبح فلم يعلم هل وقعت الذكاة المعتبرة أو لا، وهذا هو المتبادر من سياق الحديث حيث وقع الجواب فيه: "فسموا أنتم وكلوا" كأنه قيل لهم لا تهتموا بذلك بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا، وهذا من أسلوب الحكيم كما نبه عليه الطيبي. ومما يدل على عدم الاشتراط قوله تعالى :{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فأباح الأكل من ذبائحهم مع وجود الشك في أنهم سموا أم لا. "تكملة": قال الغزالي في "الأحياء" في مراتب الشبهات: المرتبة الأولى ما يتأكد الاستحباب في التورع عنه. هو ما يقوى فيه دليل المخالف، فمنه التورع عن أكل متروك التسمية، فإن الآية ظاهرة في الإيجاب، والأخبار متواترة بالأمر بها، ولكن لما صح قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يذبح على اسم الله سمي أو لم يسم" احتمل أن يكون عاما موجبا لصرف الآية والإخبار عن ظاهر الأمر، واحتمل أن يخصص بالناسي ويبقى من عداه على الظاهر، وهذا الاحتمال الثاني أولى والله أعلم. قلت: الحديث الذي اعتمد عليه وحكم بصحته بالغ النووي في إنكاره فقال: هو مجمع على ضعفه، قال: وقد أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة وقال: منكر لا يحتج به. وأخرج أبو داود في "المراسيل" عن الصلت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر" قلت: الصلت يقال له السدوسي وذكره ابن حبان في الثقات، وهو مرسل جيد، وحديث أبي هريرة فيه مروان بن سالم وهو متروك، لكن ثبت ذلك عن ابن عباس كما تقدم في أول "باب التسمية على الذبيحة" واختلف في رفعه ووقفه، فإذا انضم إلى المرسل المذكور قوي، أما كونه يبلغ درجة الصحة فلا. والله أعلم.

(9/636)


22- باب ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشُحُومِهَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهِمْ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لاَ بَأْسَ بِذَبِيحَةِ نَصَارَى الْعَرَبِ وَإِنْ سَمِعْتَهُ يُسَمِّي لِغَيْرِ اللَّهِ فَلاَ تَأْكُلْ وَإِنْ لَمْ تَسْمَعْهُ فَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكَ وَعَلِمَ كُفْرَهُمْ وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ لاَ بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الأَقْلَفِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ
5508- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ فَنَزَوْتُ لِآخُذَهُ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ"
قوله: "باب ذبائح أهل الكتاب وشحومها، من أهل الحرب وغيرهم" أشار إلى جواز ذلك، وهو قول الجمهور وعن مالك وأحمد تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم. وقال ابن القاسم: لأن الذي أباحه الله طعامهم، وليس الشحوم من طعامهم ولا يقصدونها عند الزكاة. وتعقب بأن ابن عباس فسر طعامهم بذبائحهم كما سيأتي آخر

(9/636)


الباب، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح، والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض، وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة، وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر، فكان يلزم على قول هذا القائل أن اليهودي إذا ذبح ماله ظفر لا يحل للمسلم أكله، وأهل الكتاب أيضا يحرمون أكل الإبل فيقع الإلزام كذلك. قوله: "وقوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: {حِلٌّ لَهُمْ}، وبهذه الزيادة يتبين مراده من الاستدلال على الحل لأنه لم يخص ذميا من حربي ولا خص لحما من شحم، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر، لأنها محرمة عليهم لا علينا، وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال أن الذي حرم عليهم منها مسكوت في شرعنا عن تحريمه علينا فيكون على أصل الإباحة. قوله: "وقال الزهري: لا بأس بذبيحة نصارى العرب. وإن سمعته يهل لغير الله فلا تأكل، وإن لم تسمعه فقد أحله الله لك وعلم كفرهم" وصله عبد الرزاق عن معمر قال: سألت الزهري عن ذبائح نصارى العرب فذكر نحوه وزاد في آخره قال: وإهلاله أن يقول: باسم المسيح، وكذا قال الشافعي إن كان لهم ذبح يسمون عليه غير اسم الله مثل اسم المسيح لم يحل، وإن ذكر المسيح على معنى الصلاة عليه لم يحرم، وحكى البيهقي عن الحليمي بحثا أن أهل الكتاب إنما يذبحون لله تعالى، وهم في أصل دينهم لا يقصدون بعبادتهم إلا الله، فإذا كان قصدهم في الأصل ذلك اعتبرت ذبيحتهم ولم يضر قول من قال منهم مثلا باسم المسيح لأنه لا يريد بذلك إلا الله وإن كان قد كفر بذلك الاعتقاد. قوله: "ويذكر عن علي نحوه" لم أقف على من وصله، وكأنه لا يصح عنه، ولذلك ذكره بصيغة التمريض. بل قد جاء عن علي من وجه آخر صحيح المنع من ذبائح بعض نصارى العرب أخرجه الشافعي وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة "عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر" ولا تعارض بين الروايتين عن علي لأن منع الذي منعه فيه أخص من الذي نقل فيه عنه الجواز قوله: "وقال الحسن وإبراهيم لا بأس بذبيحة الأقلف" بالقاف ثم الفاء: هو الذي لم يختن، والقلفة بالقاف ويقال بالغين المعجمة الغرلة وهي الجلدة التي تستر الحشفة، وأثر الحسن أخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: كان الحسن يرخص في الرجل إذا أسلم بعدما يكبر فخاف على نفسه إن اختتن أن لا يختتن، وكان لا يرى بأكل ذبيحته بأسا. وأما أثر إبراهيم فأخرجه أبو بكر الخلال من طريق سعيد بن أبي عروبة عن مغيرة عن إبراهيم النخعي قال: لا بأس بذبيحة الأقلف. وقد ورد ما يخالفه فأخرج ابن المنذر عن ابن عباس: الأقلف لا تؤكل ذبيحته ولا تقبل صلاته ولا شهادته. وقال ابن المنذر: قال جمهور أهل العلم تجوز ذبيحته لأن الله سبحانه أباح ذبائح أهل الكتاب ومنهم من لا يختتن. قوله: "وقال ابن عباس طعامهم ذبائحهم" كذا ثبت هذا التعليق هنا عند المستملي، وثبت عند السرخسي والحموي في آخر الباب عقب الحديث المرفوع، وهو موصول عند البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال: ذبائحهم، وقائل هذا يلزمه أن يجيز ذبيحة الأقلف لأن كثيرا من أهل الكتاب لا يختتنون، وقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم هرقل وقومه بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} وهرقل وقومه ممن لا يختتن وقد سموا أهل الكتاب. حديث عبد الله بن مغفل "كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم فنزوت" بنون وزاي أي وثبت. وفي رواية الكشميهني: "فبدرت" أي سارعت، وقد تقدمت مباحثه في فرض الخمس، وفيه حجة على من منع ما حرم

(9/637)


عليهم كالشحوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ابن مغفل على الانتفاع بالجراب المذكور، وفيه جواز أكل الشحم مما ذبحه أهل الكتاب ولو كانوا أهل حرب.

(9/638)


باب ماند من البهائم فهو بمنزلة الوحش
...
23- باب مَا نَدَّ مِنْ الْبَهَائِمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْشِ
وَأَجَازَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا أَعْجَزَكَ مِنْ الْبَهَائِمِ مِمَّا فِي يَدَيْكَ فَهُوَ كَالصَّيْدِ وَفِي بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ مِنْ حَيْثُ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَذَكِّهِ وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ
5509- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لاَقُو الْعَدُوِّ غَدًا وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى فَقَالَ اعْجَلْ أَوْ أَرِنْ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ وَسَأُحَدِّثُكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِهَذِهِ الإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا"
قوله: "باب ما ند" أي نفر "من البهائم" أي الإنسية "فهو بمنزلة الوحش" أي في جواز عقره على أي صفة اتفقت، وهو مستفاد من قوله في الخبر "فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا" وأما قوله: "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش" فالظاهر أن تقديم ذكر هذا التشبيه كالتمهيد لكونها تشارك المتوحش في الحكم. وقال ابن المنير: بل المراد أنها تنفر كما ينفر الوحش لا أنها تعطي حكمها، كذا قال، وآخر الحديث يرد عليه. قوله: "وأجازه ابن مسعود" يشير إلى ما تقدم في "باب صيد القوس" عن ابن مسعود. وأخرج البيهقي من طريق أبي العميس عن غضبان بن يزيد البجلي عن أبيه قال: "أعرس رجل من الحي فاشترى جزورا فندت فعرقبها وذكر اسم الله، فأمرهم عبد الله - يعني ابن مسعود - أن يأكلوا، فما طابت أنفعهم حتى جعلوا له منها بضعة ثم أتوه بها فأكل". قوله: "وقال ابن عباس: ما أعجزك من البهائم مما في يديك فهو كالصيد، وفي بعير تردى في بئر فذكه من حيث قدرت" في رواية كريمة: "من حيث قدرت عليه فذكه". أما الأثر الأول فوصله ابن أبي شيبة من طريق عكرمة عنه بهذا قال: فهو بمنزلة الصيد، وأما الثاني فوصله عبد الرزاق من وجه آخر عن عكرمة عنه قال: إذا وقع البعير في البئر فاطعنه من قبل خاصرته واذكر اسم الله وكل. قوله:" ورأى ذلك علي وابن عمر وعائشة "أما أثر علي فوصله ابن أبي شيبة من طريق أبي راشد السلماني قال: كنت أرعى منائح لأهلي بظهر الكوفة، فتردى منها بعير، فخشيت أن يسبقني بذكاته" فأخذت حديدة فوجأت بها في جنبه أو سنامه، ثم قطعته أعضاء وفرقته على أهلي، فأبوا أن يأكلوه، فأتيت عليا فقمت على باب قصره ففلت: يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين، فقال: يالبيكاه يالبيكاه، فأخبرته خبره، فقال: كل وأطعمني. وأما أثر ابن عمر فوصله عبد الرزاق في أثر حديث رافع بن خديج من رواية سفيان عن أبيه عن عباية بن رفاعة، وقد تقدم في "باب لا يذكى بالسن والعظم" وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عباية بلفظ: "تردى بعير في ركية، فنزل رجل لينحره فقال: لا أقدر على نحره، فقال له ابن عمر: اذكر اسم الله ثم اقتل

(9/638)


شاكلته - يعني خاصرته - ففعل" وأخرج مقطعا، فأخذ منه ابن عمر عشيرا بدرهمين أو أربعة. وأما أثر عائشة فلم أقف عليه بعد موصولا؛ وقد نقله ابن المنذر وغيره عن الجمهور، وخالفهم مالك والليث، ونقل أيضا عن سعيد بن المسيب وربيعة فقالوا: لا يحل أكل الإنسي إذا توحش إلا بتذكيته في حلقه أو لبته، وحجة الجمهور حديث رافع، ثم ذكر حديث رافع بن خديج من رواية يحيى القطان عن سفيان الثوري، ولم يذكر فيه قصة نصب القدور وإكفائها وذكر سائر الحديث. قوله فيه "عن عباية بن رفاعة بن خديج" كذا فيه نسب رفاعة إلى جده، ووقع في رواية كريمة: "رفاعة بن رافع بن خديج" بغير نقص فيه. قوله: "فقال أعجل أو أرن" في رواية كريمة بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون النون، وكذا ضبطه الخطابي في سنن أبي داود. وفي رواية أبي ذر بسكون الراء وكسر النون، ووقع في رواية الإسماعيلي من هذا الوجه الذي هنا "وأرني" بإثبات الياء آخره، قال الخطابي: هذا حرف طالما استثبت فيه الرواة، وسألت عنه أهل اللغة فلم أجد عندهم ما يقطع بصحته، وقد طلبت له مخرجا. فذكر أوجها: أحدها أن يكون على الرواية بكسر الراء من أران القوم إذا هلكت مواشيهم فيكون المعنى أهلكها ذبحا. ثانيها أن يكون على الرواية بسكون الراء بوزن أعط يعني انظروا نظروا نتظر بمعنى، قال الله تعالى حكاية عمن قال: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} أي انظرونا، أو هو بضم الهمزة بمعنى أدم الحز من قولك رنوت إذا أدمت النظر إلى الشيء، وأراد أدم النظر إليه وراعه ببصرك. ثالثها أن يكون مهموزا من قولك أر أن يرئن إذا نشط وخف، كأنه فعل أمر بالإسراع لئلا يموت خنقا ورجح في "شرح السنن" هذا الوجه الأخير فقال: صوابه أرئن بهمزة ومعناه خف واعجل لئلا تخنقها، فإن الذبح إذا كان بغير الحديد احتاج صاحبه إلى خفة يد وسرعة في إمرار تلك الآلة والإتيان على الحلقوم والأوداج كلها قبل أن تهلك الذبيحة بما ينالها من ألم الضغط قبل قطع مذابحها. ثم قال: وقد ذكرت هذا الحرف في "غريب الحديث:" وذكرت فيه وجوها يحتملها التأويل وكأن قال فيه يجوز أن تكون الكلمة تصحفت، وكان في الأصل أزز بالزاي من قولك أزز الرجل إصبعه إذا جعلها في الشيء، وأززت الجرادة أززا إذا أدخلت ذنبها في الأرض، والمعنى شد يدك على النحر. وزعم أن هذا الوجه أقرب الجميع. قال ابن بطال عرضت كلام الخطابي على بعض أهل النقد فقال: أما أخذه من أران القوم فمعترض لأن أران لا يتعدى وإنما يقال أران هو ولا يقال أران الرجل غنمه. وأما الوجه الذي صوبه ففيه نظر وكأنه من جهة أن الرواية لا تساعده. وأما الوجه الذي جعله أقرب الجميع فهو أبعدها لعدم الرواية به. وقال عياض: ضبطه الأصيلي أرني فعل أمر من الرؤية، ومثله في مسلم لكن الراء ساكنة قال: وأفادني بعضهم أنه وقف على هذه اللفظة في "مسند علي بن عبد العزيز" مضبوطة هكذا أرني أو أعجل، فكأن الراوي شك في أحد اللفظين وهما بمعنى واحد، والمقصود الذبح بما يسرع القطع ويجري الدم، ورجح النووي أن أرن بمعنى أعجل وأنه شك من الراوي، وضبط أعجل بكسر الجيم، وبعضهم قال في رواية لمسلم أرني بسكون الراء وبعد النون ياء أي أحضرني الآلة التي تذبح بها لأراها ثم أضرب عن ذلك فقال: أو أعجل، وأو تجي. للإضراب فكأنه قال قد لا يتيسر إحضار الآلة فيتأخر البيان فعرف الحكم فقال أعجل ما أنهر الدم إلخ، قال وهذا أولى من حمله على الشك. وقال المنذري: اختلف في هذه اللفظة هلى هي بوزن أعط أو بوزن أطع أو هي فعل أمر من الرؤية؟ فعلى الأول المعنى أدم الحز من رنوت إذا أدمت النظر، وعلى الثاني أهلكها ذبحا من أران القوم إذا هلكت مواشيهم، وتعقب بأنه لا يتعدى، وأجيب بأن المعنى كن ذا

(9/639)


شاة هالكة إذا أزهقت نفسها بكل ما أنهر الدم. قلت: ولا يخفى تكلفه. وأما على أنه بصيغة فعل الأمر فمعناه أرني سيلان الدم، ومن سكن الراء اختلس الحركة، ومن حذف الياء جاز، وقوله واعجل بهمزة وصل وفتح الجيم وسكون اللام فعل أمر من العجلة أي اعجل لا تموت الذبيحة خنقة قال: ورواه بعضهم بصيغة أفعل التفضيل أي ليكن الذبح أعجل ما أنهر الدم، قلت: وهذا وإن تمشى على رواية أبي داود بتقديم لفظ أرني على أعجل لم يستقم على رواية البخاري بتأخيرها، وجوز بعضهم في رواية أرن بسكون الراء أن يكون من أرناني حسن ما رأيته أي حملني على الرنو إليه، والمعنى على هذا أحسن الذبح حتى تحب أن ننظر إليك، ويؤيده حديث: "إذا ذبحتم فأحسنوا" أخرجه مسلم. وقد سبقت مباحث هذا الحديث مستوفاة قبل، وسياقه هناك أتم مما هنا. والله أعلم.

(9/640)


باب الذبح والنحر
...
24- باب النَّحْرِ وَالذَّبْحِ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ لاَ ذَبْحَ وَلاَ مَنْحَرَ إِلاَّ فِي الْمَذْبَحِ وَالْمَنْحَرِ قُلْتُ أَيَجْزِي مَا يُذْبَحُ أَنْ أَنْحَرَهُ قَالَ نَعَمْ ذَكَرَ اللَّهُ ذَبْحَ الْبَقَرَةِ فَإِنْ ذَبَحْتَ شَيْئًا يُنْحَرُ جَازَ وَالنَّحْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ وَالذَّبْحُ قَطْعُ الأَوْدَاجِ قُلْتُ فَيُخَلِّفُ الأَوْدَاجَ حَتَّى يَقْطَعَ النِّخَاعَ قَالَ لاَ إِخَالُ وَأَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ نَهَى عَنْ النَّخْعِ يَقُولُ يَقْطَعُ مَا دُونَ الْعَظْمِ ثُمَّ يَدَعُ حَتَّى تَمُوتَ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً - إلى- فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ إِذَا قَطَعَ الرَّأْسَ فَلاَ بَأْسَ"
5510- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ امْرَأَتِي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ"
[الحديث 5510- أطرافه في: 5511، 5512، 5519]
5511- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ سَمِعَ عَبْدَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ فَأَكَلْنَاهُ"
5512- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ تَابَعَهُ وَكِيعٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ فِي النَّحْرِ"
قوله: "باب النحر والذبح" في رواية أبي ذر "والذبائح" بصيغة الجمع، وكأنه جمع باعتبار أنه الأكثر فالنحر في الإبل خاصة، وأما غير الإبل فيذبح، وقد جاءت أحاديث في ذبح الإبل وفي نحر غيرها. وقال ابن التين الأصل في الإبل النحر، وفي الشاة ونحوها الذبح، وأما البقر فجاء في القرآن ذكر ذبحها وفي السنة ذكر نحرها، واختلف في ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح فأجازه الجمهور ومنع ابن القاسم. قوله: "وقال ابن جريج عن عطاء إلخ" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج مقطعا، وقوله والذبح قطع الأوداج جمع ودج بفتح الدال المهملة والجيم وهو العرق الذي في الأخدع، وهما عرقان متقابلان، قيل ليس لكل بهيمة غير ودجين فقط وهما محيطان

(9/640)


بالحلقوم، ففي الإتيان بصيغة الجمع نظر، ويمكن أن يكون أضاف كل ودجين إلى الأنواع كلها، هكذا اقتصر عليه بعض الشراح، وبقي وجه آخر وهو أنه أطلق على ما يقطع في العادة ودجا تغليبا، فقد قال أكثر الحنفية في كتبهم: إذا قطع من الأوداج الأربعة ثلاثة حصلت التذكية، وهما الحلقوم والمريء وعرقان من كل جانب، وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن: إذا قطع الحلقوم والمريء وأكثر من نصف الأوداج أجزأ، فإن قطع أقل فلا خير فيها. وقال الشافعي يكفي ولو لم يقطع من الودجين شيئا، لأنهما قد يسلان من الإنسان وغيره فيعيش. وعن الثوري إن قطع الودجين أجزأ ولو لم يقطع الحلقوم والمريء، وعن مالك والليث يشترط قطع الودجين والحلقوم فقط، واحتج له بما في حديث رافع "ما أنهر الدم" وإنهاره إجراؤه، وذلك يكون بقطع الأوداج لأنها مجرى الدم، وأما المريء فهو مجرى الطعام وليس به من الدم ما يصل به إنهار، كذا قال. وقوله: "فأخبرني نافع" القائل هو ابن جريج، وقوله: "النخع" بفتح النون وسكون الخاء المعجمة فسره في الخبر بأنه قطع ما دون العظم، والنخاع عرق أبيض في فقار الظهر إلى القلب، يقال له خيط الرقبة. وقال الشافعي: النخع أن تذبح الشاة ثم يكسر قفاها من موضع المذبح، أو تضرب ليعجل قطع حركتها. وأخرج أبو عبيد في "الغريب" عن عمر أنه نهى عن الفرس في الذبيحة، ثم حكى عن أبي عبيدة أن الفرس هو النخع، يقال فرست الشاة ونخعتها، وذلك أن ينتهي بالذبح إلى النخاع وهو عظم في الرقبة، قال: ويقال أيضا هو الذي يكون في فقار الصلب شبيه بالمخ وهو متصل بالقفا، نهى أن ينتهي بالذبح إلى ذلك. قال أبو عبيد أما النخع فهو على ما قال، وأما الفرس فيقال هو الكسر، وإنما نهى أن تكسر رقبة الذبيحة قبل أن تبرد. ويبين ذلك أن في الحديث: "ولا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق" قلت يعني في حديث عمر المذكور، وكذا ذكره الشافعي عن عمر. قوله: "وإذ قال موسى لقومه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً - إلى– فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} زاد في رواية كريمة:" وقول الله تعالى :{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} وهذا من تمام الترجمة، وأراد أن يفسر به قول ابن جريج في الأثر المذكور ذكر الله ذبح البقرة، وفي هذا إشارة منه إلى اختصاص البقر بالذبح، وقد روى شيخه إسماعيل بن أبي أويس عن مالك "من نحر البقر فبئس ما صنع. ثم تلا هذه الآية" وعن أشهب إن ذبح بعيرا من غير ضرورة لم يؤكل. قوله: "وقال سعيد عن ابن عباس: الذكاة في الحلق واللبة" وصله سعيد بن منصور والبيهقي من طريق أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الذكاة في الحلق واللبة، وهذا إسناد صحيح، وأخرجه سفيان الثوري في جامعه عن عمر مثله، وجاء مرفوعا من وجه واه. واللبة بفتح اللام وتشديد الموحدة هي موضع القلادة من الصدر وهي المنحر، وكأن المصنف لمح بضعف الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن من رواية حماد ابن سلمة عن أبي المعشر الدارمي عن أبيه قال: "قلت يا رسول الله ما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة، قال لو طعنت في فخذها لأجزأك" لكن من قواه حمله على الوحش والمتوحش. قوله: "وقال ابن عمر وابن عباس وأنس: إذا قطع الرأس فلا بأس" أما أثر ابن عمر فوصله أبو موسى الزمن من رواية أبي مجلز "سألت ابن عمر عن ذبيحة قطع رأسها، فأمر ابن عمر بأكلها" وأما أثر ابن عباس فوصله ابن أبي شيبة بسند صحيح "أن ابن عباس سئل عمن ذبح دجاجة فطير رأسها فقال ذكاة وحية بفتح الواو وكسر الحاء المهملة بعدها تحتانية ثقيلة أي سريعة، منسوبة إلى الوحاء وهو الإسراع والعجلة. وأما

(9/641)


أثر أنس فوصله ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس "أن جزارا لأنس ذبح دجاجة فاضطربت فذبحها من قفاها فأطار رأسها، فأرادوا طرحها، فأمرهم أنس بأكلها. ذكر المصنف في الباب حديث أسماء بنت أبي بكر في أكل الفرس، أورده من رواية سفيان الثوري ومن رواية جرير كلاهما عن هشام بن عروة موصولا بلفظ: "نحرنا" وقال في آخره: "تابعه وكيع وابن عيينة عن هشام في النحر"، وأورده أيضا من رواية عبدة وهو ابن سليمان عن هشام بلفظ: "ذبحنا" ورواية ابن عيينة التي أشار إليها ستأتي موصولة بعد بابين من رواية الحميدي عن سفيان وهو ابن عيينة به وقال: "نحرنا".ورواية وكيع أخرجها أحمد عنه بلفظ: "نحرنا"، وأخرجها مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير "حدثنا أبي وحفص بن غياث ووكيع ثلاثتهم عن هشام" بلفظ: "نحرنا"، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر والثوري جميعا عن هشام بلفظ: "نحرنا" وقال الإسماعيلي: قال همام وعيسى بن يونس وعلي بن مسهر عن هشام بلفظ: "نحرنا"، واختلف على حماد بن زيد وابن عيينة فقال أكثر أصحابهما "نحرنا" وقال بعضهم "ذبحنا"، وأخرجه الدار قطني من رواية مؤمل بن إسماعيل عن الثوري ووهيب بن خالد ومن رواية ابن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ومن رواية يحيى القطان كلهم عن هشام بلفظ: "ذبحنا" ومن رواية أبي معاوية عن هشام "انتحرنا" وكذا أخرجه مسلم من رواية أبي معاوية وأبي أسامة ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوانة عنهما بلفظ: "نحرنا" وهذا الاختلاف كله عن هشام، وفيه إشعار بأنه كان تارة يرويه بلفظ - "ذبحنا" وتارة بلفظ: "نحرنا" وهو مصير منه إلى استواء اللفظين في المعنى، وأن النحر يطلق عليه ذبح والذبح يطلق عليه نحر ولا يتعين مع هذا الاختلاف ما هو الحقيقة في ذلك من المجاز إلا إن رجح أحد الطريقين، وأما أنه يستفاد من هذا الاختلاف جواز نحر المذبوح وذبح المنحور كما قاله بعض الشراح فبعيد، لأنه يستلزم أن يكون الأمر في ذلك وقع مرتين، والأصل عدم التعدد مع اتحاد المخرج، وقد جرى النووي على عادته في الحمل على التعدد فقال بعد أن ذكر اختلاف الرواة في قولها نحرنا وذبحنا: يجمع بين الروايتين بأنهما قضيتان، فمرة نحروها ومرة ذبحوها: ثم قال: ويجوز أن تكون قصة واحدة وأحد اللفظين مجاز والأول أصح، كذا قال والله أعلم

(9/642)


باب مايكره من المثلة والمصبورة والمجثمة
...
25- باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْمُثْلَةِ وَالْمَصْبُورَةِ وَالْمُجَثَّمَةِ
5513- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ عَلَى الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ فَرَأَى غِلْمَانًا أَوْ فِتْيَانًا نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا فَقَالَ أَنَسٌ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ"
5514- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغُلاَمٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلاَمِ مَعَهُ فَقَالَ ازْجُرُوا غُلاَمَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ"

(9/642)


5515- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَمَرُّوا بِفِتْيَةٍ أَوْ بِنَفَرٍ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا الْمِنْهَالُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ وَقَالَ عَدِيٌّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
5516- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ"
قوله: "باب ما يكره من المثلة" بضم الميم وسكون المثلثة هي قطع أطراف الحيوان أو بعضها وهو حي، يقال مثلت به أمثل بالتشديد للمبالغة. قوله: "والمصبورة" بصاد مهملة ساكنة وموحدة مضمومة، "والمجثمة" بالجيم والمثلثة المفتوحة: التي تربط وتجعل غرضا للرمي، فإذا ماتت من ذلك لم يحل أكلها، والجثوم للطير ونحوها بمنزلة البروك للإبل، فلو جثمت بنفسها فهي جاثمة ومجثمة بكسر المثلثة، وتلك إذا صيدت على تلك الحالة فذبحت جاز أكلها، وإن رميت فماتت لم يجز لأنها تصير موقذة. ثم ذكر في الباب أربعة أحاديث. قوله: "عن هشام بن زيد" يعني ابن أنس بن مالك. قوله: "دخلت مع أنس على الحكم بن أيوب" يعني ابن أبي عقيل الثقفي ابن عم الحجاج بن يوسف ونائبه على البصرة وزوج أخته زينب بنت يوسف، وهو الذي يقول فيه جرير يمدحه:
حتى أنخناها على باب الحكم
...
خليفة الحجاج غير المتهم
وقع ذكره في عدة أحاديث، وكان يضاهي في الجور ابن عمه، وليزيد الضبي معه قصة طويلة تدل على ذلك أوردها أبو يعلى الموصلي في مسند أنس له، ووقع في رواية الإسماعيلي بلفظ خرجت مع أنس بن مالك من دار الحكم بن أيوب أمير البصرة. قوله: "فرأى غلمانا أو فتيانا" شك من الراوي، ولم أقف على أسمائهم، وظاهر السياق أنهم من أتباع الحكم بن أيوب المذكور. قوله: "أن تصبر" بضم أوله أي تحبس لترمي حتى تموت. وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: "سمعت أنس بن مالك يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الروح" وأصل الصبر الحبس. وأخرج العقيلي في "الضعفاء" من طريق الحسن عن سمرة قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهيمة، وأن يؤكل لحمها إذا صبرت" قال العقيلي: جاء في النهي عن صبر البهيمة أحاديث جياد، وأما النهي عن أكلها فلا يعرف إلا في هذا. قلت: إن ثبت فهو محمول على أنها ماتت بذلك بغير تذكية كما تقدم في المقتول بالبندقة. قوله: "أنه دخل على يحيى بن سعيد" أي ابن العاص وهو أخو عمرو المعروف بالأشدق ابن سعيد بن العاص والد سعيد بن عمرو راويه من ابن عمر. قوله: "وغلام من بني يحيى" أي ابن سعيد المذكور لم أقف على اسمه، وكان ليحيى من الذكور عثمان وعنبسة وأبان وإسماعيل وسعيد ومحمد وهشام وعمرو، وكان يحيى بن سعيد قد ولى إمرة المدينة وكذا أخوه عمرو. قوله: "فمشى إليها ابن عمر حتى حلها" بتشديد اللام، في رواية السرخسي والمستلمي "حملها" ورواية الكشميهني أوضح لقوله في أول الحديث: "رابط دجاجة" ووقع في رواية الإسماعيلي وأبي نعيم في "المستخرج" : فحل الدجاجة. قوله: "ازجروا غلامكم" في رواية الكشميهني: "غلمانكم".

(9/643)


"عن أن يصبر" في رواية الكشميهني: "أن يصبروا" بصيغة الجمع وهو على نسق الذي قبله، وزاد أبو نعيم في آخر الحديث: "وإن أردتم ذبحها فاذبحوها". قوله: "هذا الطير" قال الكرماني: هذا على لغة قليلة وهي إطلاق الطير على الواحد، واللغة المشهورة في الواحد طائر والجمع الطير. قلت: وهو هنا محتمل لإرادة الجمع، بل الأولى أنه لإرادة الجنس. قوله: "أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل" "أو" للتنويع لا للشك، وهو زائد على حديث أنس فيدخل فيه البهائم والطيور وغيرهما، ونحوه حديث أبي أيوب قال: "والذي نفسي بيده لو كانت دجاجة ما صبرتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتل الصبر" أخرجه أبو داود بسند قوي، ويجمع ذلك حديث شداد بن أوس عند مسلم رفعه: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" قال ابن أبي جمرة: فيه رحمة الله لعباده حتى في حال القتل، فأمر بالقتل، وأمر بالرفق فيه. ويؤخذ منه قهره لجميع عباده لأنه لم يترك لأحد التصرف في شيء إلا وقد حد له فيه كيفية. قوله: "عن أبي بشر" هو جعفر بن أبي وحشية. قوله: "فمروا بفتية أو بنفر" شك من الراوي. وفي رواية الإسماعيلي: "فإذا فتية نصبوا دجاجة يرمونها وله كل خاطئة" يعني أن الذي يصيبها يأخذ السهم الذي ترمي به إذ لم يصبها. قوله: "وقال ابن عمر: من فعل هذا" زاد في رواية الإسماعيلي: "فتفرقوا". قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا" في رواية مسلم: "لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا" بمعجمتين والفتح أي منصوبا للرمي. وفي رواية الإسماعيلي: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل بالحيوان" وفي رواية له "بالبهائم" وفي رواية له "من تجثم" واللعن من دلائل التحريم، ولأحمد من وجه آخر عن أبي صالح الحنفي عن رجل من الصحابة أراه عن ابن عمر رفعه: "من مثل بذي روح ثم لم يتب مثل الله به يوم القيامة" رجاله ثقات. قوله: "تابعه سليمان" هو ابن حرب. قوله: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم من مثل بالحيوان" أي صبره مثله بضم الميم وبالمثلثة، وهذه المتابعة وصلها البيهقي من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب، وزاد فيه أيضا قصة أن ابن عمر خرج في طريق من طرق المدينة فرأى غلمانا، فذكر مثل رواية أبي بشر، وفيه: "فلما رأوه فروا فغضب" الحديث. ووهم مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن وغيره فجزموا بأن سليمان هذا هو أبو داود الطيالسي، واستند إلى أن أبا نعيم أخرجه في مستخرجه من طريق أبي خليفة عن الطيالسي. قلت: وهو غلط ظاهر، فإن الطيالسي الذي يروي عنه أبو خليفة هو أبو الوليد واسمه هشام بن عبد الملك، ولم يدرك أبو خليفة أبا داود الطيالسي فإن مولده بعد وفاته بسنتين، مات أبو داود سنة أربع ومائتين على الصحيح، وولد أبو خليفة سنة ست ومائتين، والمنهال المذكور في السند هو ابن عمرو، يعني أنه تابع أبا بشر في روايته لهذا الحديث عن سعيد بن جبير وخالفهما عدي بن ثابت فرواه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس كما بينه في الطريق التي بعدها. قوله: "وقال عدي" هو ابن ثابت "عن عيد" هو ابن جبير "عن ابن عباس" هو موصول بالإسناد الذي ساقه إلى عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد، وقد ساقه البخاري في تاريخه عن حجاج بن منهال الذي ساق حديث عبد الله بن يزيد به، ولكن لفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا". قوله: "سمعت عبد الله بن يزيد" هو الخطمي بفتح المعجمة وسكون المهملة، تقدم ذكره في الاستسقاء. قوله: "نهى عن النهبى" بضم النون وسكون الهاء ثم بالموحدة مقصور، أي أخذ مال المسلم قهرا جهرا، ومنه أخذ مال الغنيمة قبل القسمة اختطافا بغير تسوية. قوله: "والمثلثة" تقدم ضبطها وتفسيرها وتقدم في المغازي في

(9/644)


"باب قصة عكل وعرينة" لهذا الحديث طريق أخرى، وذكر الإسماعيلي الاختلاف على شعبة فيه، وبين أن يعقوب الحضرمي رواه عن شعبة كما قال حجاج بن منهال، لكن أدخل بين عبد الله بن يزيد والنبي صلى الله عليه وسلم أبا أيوب، ورواية يعقوب بن إسحاق المذكورة وصلها الطبراني. وفي هذه الأحاديث تحريم تعذيب الحيوان الآدمي وغيره، وفي الحديث الأول قوة أنس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع معرفته بشدة الأمير المذكور، لكن كان الخليفة عبد الملك بن مروان نهى الحجاج عن التعرض له بعد أن كان صدر من الحجاج في حقه خشونة، فشكاه لعبد الملك فأغلظ للحجاج وأمره بإكرامه.

(9/645)


26- باب لَحْمِ الدَّجَاجِ
5517- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى يَعْنِي الأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ دَجَاجًا"
5518- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ فَأُتِيَ بِطَعَامٍ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ جَالِسٌ أَحْمَرُ فَلَمْ يَدْنُ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ ادْنُ فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهُ قَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ أَكَلَ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ أَنْ لاَ آكُلَهُ فَقَالَ ادْنُ أُخْبِرْكَ أَوْ أُحَدِّثْكَ إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ وَهُوَ يَقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا قَالَ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْبٍ مِنْ إِبِلٍ فَقَالَ أَيْنَ الأَشْعَرِيُّونَ أَيْنَ الأَشْعَرِيُّونَ قَالَ فَأَعْطَانَا خَمْسَ ذَوْدٍ غُرَّ الذُّرَى فَلَبِثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ فَوَاللَّهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ لاَ نُفْلِحُ أَبَدًا فَرَجَعْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا اسْتَحْمَلْنَاكَ فَحَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا فَظَنَنَّا أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ حَمَلَكُمْ إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا"
قوله: "باب لحم الدجاج" هو اسم جنس مثلث الدال، ذكره المنذري في الحاشية وابن مالك وغيرهما، ولم يحك النووي الضم، والواحدة دجاجة مثلث أيضا، وقيل إن الضم فيه ضعيف، قال الجوهري دخلتها الهاء للوحدة مثل الحمامة، وأفاد إبراهيم الحربي في "غريب الحديث:" أن الدجاج بالكسر اسم للذكران دون الإناث والواحد منها ديك، وبالفتح الإناث دون الذكران والواحدة دجاجة بالفتح أيضا، قال: وسمى لإسراعه في الإقبال والإدبار من دج يدج إذا أسرع. قلت: ودجاجة اسم امرأة وهي بالفتح فقط، ويسمى بها الكبة من الغزل. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن موسى البلخي، نسبه أبو علي بن السكن، وجزم الكلاباذي وأبو نعيم بأنه

(9/645)


ابن جعفر. قوله: "عن أيوب" في الرواية الثانية "ابن أبي تميمة" وهو السختياني، وعند أحمد عن عبد الله بن الوليد عن سفيان "حدثنا أيوب حدثني أبو قلابة". قوله: "عن أبي قلابة" كذا رواه سفيان الثوري عن أيوب ووافقه سفيان بن عيينة عن أيوب عند مسلم، وهكذا قال عبد السلام بن حرب عن أيوب كما مضى في المغازي. وقال عبد الوارث كما في الحديث الذي يليه "عن أيوب عن القاسم" بدل أبي قلابة، وكذا قال ابن علية عن أيوب كما يأتي في الأيمان والنذور أيضا. وقال حماد بن زيد "عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم" قال: "وأنا لحديث قاسم أحفظ" أخرجه في فرض الخمس، وكذا قال وهيب عن أيوب عنهما عند مسلم. قوله: "عن زهدم" بفتح الزاي هو ابن مضرب بضم أوله وبفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها موحدة "الجرمي" بفتح الجيم، بصرى ثقة، ليس له في البخاري سوى حديثين: هذا الحديث وقد أخرجه في مواضع له، وحديث آخر أخرجه عن عمران بن حصين تقدم في المناقب وذكره في مواضع أخرى أيضا. قوله: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل دجاجا" كذا أورده مختصرا، وكذا ساقه أحمد عن وكيع، وأخرجه عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان أتم منه، وساقه الترمذي في "الشمائل" من وجه آخر مطولا، كما ذكره المصنف من طريق عبد الوارث عن أيوب عن القاسم وهو ابن عاصم التميمي، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، فقد أورده عنه في مواضع مقرونا ومفردا مختصرا ومطولا مشتملا على قصة الرجل الذي امتنع من أكل الدجاج وحلف على ذلك، وفتوى أبي موسى له بأن يكفر عن يمينه ويأكل، وقص له الحديث في ذلك وسببه، وهو طلبهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم، وقد أورد المصنف قصة الاستحمال وما يليها من حكم اليمين وكفارته دون قصة الدجاج أيضا من رواية غيلان بن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه في كفارة الأيمان، وأوردها أيضا في المغازي من طريق يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة أتم سياقا منه في قصة الاستحمال، وليس فيه ذكر كفارة اليمين، وقد أحلت في فرض الخمس وفي المغازي بشرحه على كتاب الأيمان والنذور، فأذكر هنا ما يتعلق بالدجاج. قوله: "كنا عند أبي موسى الأشعري وكان بيننا وبينه هذا الحي" بالخفض بدل من الضمير في بينه كذا قال ابن التين، وليس بجيد لأنه يصير تقدير الكلام أن زهدما الجرمي قال كان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء، وليس ذلك المراد، وإنما المراد أن أبا موسى وقومه الأشعريين كانوا أهل مودة وإخاء لقوم زهدم وهم بنو جرم، وقد وقع هنا في رواية الكشميهني: "وكان بيننا وبين هذا الحي" وكذا وقع في رواية إسماعيل عن أيوب عن القاسم وأبي قلابة كما سيأتي في كفارة الأيمان، وهو يؤيد ما قال ابن التين إلا أن المعنى لا يصح، وقد أخرجه في أواخر كتاب التوحيد من طريق عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم كلاهما عن زهدم قال: "كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين ود أو إخاء" وهذه الرواية هي المعتمدة. قوله: "إخاء" بكسر أوله والمد قال ابن التين ضبطه بعضهم بالقصر وهو خطأ. قوله: "وفي القوم رجل جالس أحمر" أي اللون. وفي رواية حماد بن زيد رجل من بني تيم الله أحمر كأنه من الموالي أي العجم، وهذا الرجل هو زهدم الراوي أبهم نفسه، فقد أخرج الترمذي من طريق قتادة عن زهدم قال: "دخلت على أبي موسى وهو يأكل دجاجا فقال: ادن فكل، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله" مختصرا. وقد أشكل هذا لكونه وصف الرجل في رواية الباب بأنه من بني تيم الله وزهدم من بني جرم، فقال بعض الناس: الظاهر أنهما امتنعا معا زهدم والرجل التيمي، وحمله على دعوى التعدد استبعاد أن يكون

(9/646)


الشخص الواحد ينسب إلى تيم الله وإلى جرم، ولا بعد في ذلك بل قد أخرج أحمد الحديث المذكور عن عبد الله ابن الوليد هو العدني عن سفيان هو الثوري فقال في روايته: "عن رجل من بني تيم الله يقال له زهدم قال: كنا عند أبي موسى، فأتى بلحم دجاج" فعلى هذا فلعل زهدما كان تارة ينسب إلى بني جرم وتارة إلى بني تيم الله، وجرم قبيلة في قضاعة ينسبون إلى جرم بن زبان بزاي وموحدة ثقيلة ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، وتيم الله بطن من بني كلب وهم قبيلة في قضاعة أيضا ينسبون إلى تيم الله بن رفيدة - براء وفاء مصغرا - ابن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فحلوان عم جرم، قال الرشاطي في الأنساب: وكثيرا ما ينسبون الرجل إلى أعمامه. قلت: وربما أبهم الرجل نفسه كما تقدم في عدة مواضع، فلا بعد في أن يكون زهدم صاحب القصة والأصل عدم التعدد، وقد أخرج البيهقي من طريق الفريابي عن الثوري بسنده المذكور في هذا الباب إلى زهدم قال: "رأيت أبا موسى يأكل الدجاج فدعاني فقلت: إني رأيته يأكل نتنا، قال ادنه فكل" فذكر الحديث المرفوع. ومن طريق الصعق بن حزن عن مطر الوراق عن زهدم قال: "دخلت على أبي موسى وهو يأكل لحم دجاج فقال: ادن فكل، فقلت إني حلفت لا آكله" الحديث، وقد أخرجه موسى عن شيبان بن فروخ عن الصعق لكن لم يسق لفظه، وكذا أخرجه أبو عوانة في صحيحه من وجه آخر عن زهدم نحوه وقال فيه: "فقال لي: ادن فكل، فقلت: إني لا أريده" الحديث. فهذه عدة طرق صرح زهدم فيها بأنه صاحب القصة فهو المعتمد، ولا يعكر عليه إلا ما وقع في الصحيحين مما ظاهره المغايرة بين زهدم والممتنع من أكل الدجاج، ففي رواية عن زهدم "كنا عند أبي موسى فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي فقال: هلم، فتلكأ" الحديث، فإن ظاهره أن الداخل دخل وزهدم جالس عند أبي موسى، لكن يجوز أن يكون مراد زهدم بقوله: "كنا" قومه الذين دخلوا قبله على أبي موسى، وهذا مجاز قد استعمل غيره مثله كقول ثابت البناني "خطبنا عمران بن حصين" أي خطب أهل البصرة، ولم يدرك ثابت خطبة عمران المذكورة، فيحتمل أن يكون زهدم دخل فجرى له ما ذكر، وغاية ما فيه أنه أبهم نفسه، ولا عجب فيه والله أعلم. قوله: "إني رأيته يأكل شيئا فقذرته" بكسر الذال المعجمة. وفي رواية أبي عوانة "إني رأيتها تأكل قذرا" وكأنه ظن أنها أكثرت من ذلك بحيث صارت جلاله فبين له أبو موسى أنها ليست كذلك أو أنه لا يلزم من كون تلك الدجاجة التي رآها كذلك أن يكون كل الدجاج كذلك. قوله: "فقال ادن" كذا للأكثر فعل أمر من الدنو، ووقع عند المستملي والسرخسي "إذا" بكسر الهمزة وبذال معجمة مع التنوين حرف نصب، وعلى الأول فقوله: "أخبرك" مجزوم، وعلى الثاني هو منصوب، وقوله: "أو أحدثك" شك من الراوي. قوله: "إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" سيأتي شرحه في الأيمان والنذور، وقوله: "فأعطانا خمس ذود غر الذري" الغر بضم المعجمة جمع أغر والأغر الأبيض. والذري بضم المعجمة والقصر جمع ذروة وذروة كل شيء أعلاه، والمراد هنا أسنمة الإبل ولعلها كانت بيضاء حقيقة، أو أراد وصفها بأنها لا علة فيها ولا دبر، ويجوز في غر النصب والجر، وقوله: "خمس ذود" كذا وقع بالإضافة، واستنكره أبو البقاء في غريبه قال: والصواب تنوين خمس وأن يكون ذود بدلا من خمس، فإنه لو كان بغير تنوين لتغير المعنى، لأن العدد المضاف غير المضاف إليه فيلزم أن يكون خمس ذود خمسة عشر بعيرا لأن الإبل الذود ثلاثة انتهى، وما أدري كيف يحكم بفساد المعنى إذا كان العدد كذا؛ وليكن عدد الإبل خمسة عشر بعيرا فما الذي يضر؟ وقد ثبت في بعض طرقه: "خذ هذين

(9/647)


القرينين والقرينين" إلى أن عد ست مرات، والذي قاله إنما يتم أن لو جاءت رواية صريحة أنه لم يعطهم سوى خمسة أبعرة، وعلى تقدير ذلك فأطلق لفظ ذود على الواحد مجازا كإبل، وهذه الرواية الصحيحة لا تمنع إمكان التصوير. وفي الحديث دخول المرء على صديقه في حال أكله، واستدناء صاحب الطعام الداخل وعرضه الطعام عليه ولو كان قليلا، لأن اجتماع الجماعة على الطعام سبب للبركة فيه كما تقدم. وفيه جواز أكل الدجاج إنسيه ووحشيه، وهو بالاتفاق إلا عن بعض المتعمقين على سبيل الورع، إلا أن بعضهم استثنى الجلالة وهي ما تأكل الأقذار، وظاهر صنيع أبي موسى أنه لم يبال بذلك، والجلالة عبارة عن الدابة التي تأكل الجلة بكسر الجيم والتشديد وهي البعر، وادعى ابن حزم اختصاص الجلالة بذوات الأربع، والمعروف التعميم. وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثا. وقال مالك والليث: لا بأس بأكل الجلالة من الدجاج وغيره، وإنما جاء النهي عنها للتقذر، وقد ورد النهي عن أكل الجلالة من طرق أصحها ما أخرجه الترمذي وصححه وأبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عكرمة عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المجثمة، وعن لبن الجلالة، وعن الشرب من في السقاء" وهو على شرط البخاري في رجاله، إلا أن أيوب رواه عن عكرمة فقال: "عن أبي هريرة" وأخرجه البيهقي والبزار من وجه آخر عن أبي هريرة "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة وعن شرب ألبانها وأكلها وركوبها" ولابن أبي شيبة بسند حسن عن جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة أن يؤكل لحمها أو يشرب لبنها، ولأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن الجلالة، عن ركوبها وأكل لحمها" وسنده حسن. وقد أطلق الشافعية كراهة أكل الجلالة إذا تغير لحمها بأكل النجاسة، وفي وجه إذا أكثرت من ذلك، ورجح أكثرهم أنها كراهة تنزيه، وهو قضية صنيع أبي موسى، ومن حجتهم أن العلف الظاهر إذا صار في كرشها تنجس فلا تتغذى إلا بالنجاسة، ومع ذلك فلا يحكم على اللحم واللبن بالنجاسة. فكذلك هذا. وتعقب بأن العلف الطاهر إذا تنجس بالمجاورة جاز إطعامه للدابة لأنها إذا أكلته لا تتغذى بالنجاسة وإنما تتغذى بالعلف، بخلاف الجلالة، وذهب جماعة من الشافعية وهو قول الحنابلة إلى أن النهي للتحريم، وبه جزم ابن دقيق العيد عن الفقهاء، وهو الذي صححه أبو إسحاق المروزي والقفال وإمام الحرمين والبغوي والغزالي وألحقوا بلبنها ولحمها بيضها، وفي معنى الجلالة ما يتغذى بالنجس كالشاة ترضع من كلبة، والمعتبر في جواز أكل الجلالة زوال رائحة النجاسة بعد أن تعلف بالشيء الطاهر على الصحيح، وجاء عن السلف فيه توقيت فعند ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثا، كما تقدم. وأخرج البيهقي بسند فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعا أنها لا تؤكل حتى تعلف أربعين يوما.

(9/648)


27- باب لُحُومِ الْخَيْلِ
5519- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلْنَاهُ"
5520- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ"

(9/648)


قوله: "باب لحوم الخيل" قال ابن المنير: لم يذكر الحكم لتعارض الأدلة، كذا قال، ودليل الجواز ظاهر القوة كما سيأتي. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة، وهشام هو ابن عروة. وفاطمة هي بنت المنذر بن الزبير وهي ابنة عم هشام المذكور وزوجته، وقد تقدم ذلك صريحا في "باب النحر والذبح". وقد اختلف في سنده على هشام فقال أيوب من رواية عبد الوهاب الثقفي عنه عن أبيه عن أسماء، وكذا قال ابن ثوبان من رواية عتبة بن حماد عنه عن هشام ابن عروة. وقال المغيرة بن مسلم عن هشام عن أبيه عن الزبير بن العوام أخرجه البزار، وذكر الدار قطني الاختلاف ثم رجح رواية ابن عيينة ومن وافقه. قوله: "نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه" زاد عبدة بن سليمان عن هشام "ونحن بالمدينة" وقد تقدم ذلك قبل بابين. وفي رواية للدار قطني "فأكلناه نحن وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وتقدم الاختلاف في قولها "نحرنا" و "ذبحنا" واختلف الشارحون في توجيهه فقيل يحمل النحر على الذبح مجازا. وقيل وقع ذلك مرتين، وإليه جنح النووي، وفيه نظر لأن الأصل عدم التعدد والمخرج متحد، والاختلاف فيه على هشام: فبعض الرواة قال عنه نحرنا وبعضهم قال ذبحنا، والمستفاد من ذلك جواز الأمرين عندهم وقيام أحدهما في التذكية مقام الآخر، وإلا لما ساغ لهم الإتيان بهذا موضع هذا، وأما الذي وقع بعينه فلا يتحرر لوقوع التساوي بين الرواة المختلفين في ذلك، ويستفاد من قولها "ونحن بالمدينة" أن ذلك بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع أكلها بعلة أنها من آلات الجهاد، ومن قولها "نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم:" الرد على من زعم أنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بآل أبي بكر أنهم يقدمون على فعل شيء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه، لشدة اختلاطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله عن الأحكام، ومن ثم كان الراجح أن الصحابي إذا قال: "كنا نفعل كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:" كان له حكم الرفع، لأن الظاهر إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابي فكيف بآل أبي بكر الصديق. قوله: "حماد" هو ابن زيد، وعمرو هو ابن دينار، ومحمد بن علي أي ابن الحسين بن علي وهو الباقر أبو جعفر كذا أدخل حماد بن زيد بين عمرو بن دينار وبين جابر في هذا الحديث محمد بن علي ولما أخرجه النسائي قال: لا أعلم أحدا وافق حمادا على ذلك، وأخرجه من طريق حسين بن واقد، وأخرجه هو والترمذي من رواية سفيان بن عيينة كلاهما عن عمرو بن دينار عن جابر ليس فيه محمد بن علي، ومال الترمذي أيضا إلى ترجيح رواية ابن عيينة وقال: سمعت محمدا يقول ابن عيينة أحفظ من حماد. قلت: لكن اقتصر البخاري ومسلم على تخريج طريق حماد بن زيد، وقد وافقه ابن جريج عن عمرو على إدخال الواسطة بين عمرو وجابر لكنه لم يسمه، أخرجه أبو داود من طريق ابن جريج، وله طريق أخرى عن جابر أخرجها مسلم من طريق ابن جريج، وأبو داود من طريق حماد، والنسائي من طريق حسين بن واقد كلهم عن أبي الزبير عنه، وأخرجه النسائي صحيحا عن عطاء عن جابر أيضا، وأغرب البيهقي فجزم بأن عمرو بن دينار لم يسمعه من جابر، واستغرب بعض الفقهاء دعوى الترمذي أن رواية ابن عيينة أصح مع إشارة البيهقي إلى أنها منقطعة، وهو ذهول فإن كلام الترمذي محمول على أنه صح عنده اتصاله، ولا يلزم من دعوى البيهقي انقطاعه كون الترمذي يقول بذلك، والحق أنه إن وجدت رواية فيها تصريح عمرو بالسماع من جابر فتكون رواية حماد من المزيد في متصل بالأسانيد وإلا فرواية حماد بن زيد هي المتصلة وعلى تقدير وجود التعارض

(9/649)


من كل جهة فللحديث طرق أخرى عن جابر غير هذه، فهو صحيح على كل حال. قوله: "يوم خيبر عن لحوم الحمر" زاد مسلم في روايته: "الأهلية". قوله: "ورخص في لحوم الخيل" في رواية مسلم: "وأذن" بدل "رخص"، وله في رواية ابن جريج "أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي" وفي حديث ابن عباس عند الدار قطني "أمر". قال الطحاوي: وذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها، ولو كان ذلك مأخوذا من طريق النظر لما كان بين الخيل والحمر الأهلية فرق، ولكن الآثار إذا صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يقال بها مما يوجبه النظر، ولا سيما وقد أخبر جابر أنه صلى الله عليه وسلم أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر، فدل ذلك على اختلاف حكمهما. قلت: وقد نقل الحل بعض التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عطاء قال: "لم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريج: قلت له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم". وأما ما نقل في ذلك عن ابن عباس من كراهتها فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين، ويدل على ضعف ذلك عنه ما سيأتي في الباب الذي بعده صحيحا عنه أنه استدل لإباحة الحمر الأهلية بقوله تعالى :{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} فإن هذا إن صلح مستمسكا لحل الحمر صلح للخيل ولا فرق، وسيأتي فيه أيضا أنه توقف في سبب المنع من أكل الحمر هل كان تحريما مؤبدا أو بسبب كونها كانت حمولة الناس؟ وهذا يأتي مثله من الخيل أيضا فيبعد أن يثبت عنه القول بتحريم الخيل والقول بالتوقف في الحمر الأهلية، بل أخرج الدار قطني بسند قوي عن ابن عباس مرفوعا مثل حديث جابر ولفظه: "نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل" وصح القول بالكراهة عن الحكم بن عيينة ومالك وبعض الحنفية، وعن بعض المالكية والحنفية التحريم. وقال الفاكهي: المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم. وقال أبو حنيفة في "الجامع الصغير" : أكره لحم الخيل فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم وليس هو عنده كالحمار الأهلي، وصحح عنه أصحاب المحيط والهداية والذخيرة التحريم، وهو قول أكثرهم، وعن بعضهم يأثم آكله ولا يسمى حراما، وروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك المنع وإنه احتج بالآية الآتي ذكرها. وأخرج محمد بن الحسن في "الآثار" عن أبي حنيفة بسند له عن ابن عباس نحو ذلك. وقال القرطبي في "شرح مسلم:" : مذهب مالك الكراهة، واستدل له ابن بطال بالآية. وقال ابن المنير: الشبه الخلقي بينها وبين البغال والحمير مما يؤكد القول بالمنع، فمن ذلك هيئتها وزهومة لحمها، وغلظة، وصفة أرواثها، وأنها لا تجتر، قال: وإذا تأكد الشبة الخلقي التحق بنفي الفارق وبعد الشبه بالأنعام المتفق على أكلها ا هـ. وقد تقدم من كلام الطحاوي ما يؤخذ منه الجواب عن هذا. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الدليل في الجواز مطلقا واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله ولو كثر لأدى إلى قتلها فيفضي إلى فنائها فيئول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى :{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}. قلت: فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكاب محذور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه، وكذا قوله إن وقوع أكلها في الزمن النبوي كان نادرا، فإذا قيل بالكراهة قل استعماله فيوافق ما وقع قبل انتهى. وهذا لا ينهض دليلا للكراهة بل غايته أن يكون خلاف الأولى، ولا يلزم من كون أصل

(9/650)


الحيوان حل أكله فناؤه بالأكل. وأما قول بعض المانعين لو كانت حلالا لجازت الأضحية بها فمنتض بحيوان البر فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية به، ولعل السبب في كون الخيل لا تشرع الأضحية بها استبقاؤها لأنه لو شرع فيها جميع ما جاز في غيرها لفاتت المنفعة بها في أهم الأشياء منها وهو الجهاد. وذكر الطحاوي وأبو بكر الرازي وأبو محمد بن حزم من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر والخيل والبغال" قال الطحاوي: وأهل الحديث يضعفون عكرمة ابن عمار. قلت: لا سيما في يحيى بن أبي كثير، فإن عكرمة وإن كان مختلفا في توثيقه فقد أخرج له مسلم، لكن إنما أخرج له من غير روايته عن يحيى بن أبي كثير، وقد قال يحيى بن سعيد القطان: أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة. وقال البخاري حديثه عن يحيى مضطرب. وقال النسائي: ليس به بأس إلا في يحيى. وقال أحمد: حديثه عن غير إياس بن سلمة مضطرب، وهذا أشد مما قبله، ودخل في عمومه يحيى بن أبي كثير أيضا، وعلى تقدير صحة هذه الطريق فقد اختلف عن عكرمة فيها، فإن الحديث عند أحمد والترمذي من طريقه ليس فيه للخيل ذكر، وعلى تقدير أن يكون الذي زاده حفظه فالروايات المتنوعة عن جابر المفصلة بين لحوم الخيل والحمر في الحكم أظهر اتصالا وأتقن رجالا وأكثر عددا، وأعل بعض الحنفية حديث جابر بما نقله عن ابن إسحاق أنه لم يشهد خيبر، وليس بعلة لأن غايته أن يكون مرسل صحابي، ومن حجج من منع أكل الخيل حديث خالد ابن الوليد المخرج في السنن "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل" وتعقب بأنه شاذ منكر، لأن في سياقه أنه شهد خيبر، وهو خطأ فإنه لم يسلم إلا بعدها على الصحيح، والذي جزم به الأكثر أن إسلامه كان سنة الفتح، والعمدة في ذلك على ما قال مصعب الزبيري وهو أعلم الناس بقريش قال: "كتب الوليد ابن الوليد إلى خالد حين فر من مكة في عمرة القضية حتى لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فذكر القصة في سبب إسلام خالد، وكانت عمرة القضية بعد خيبر جزما، وأعل أيضا بأن في السند راويا مجهولا، لكن قد أخرج الطبري من طريق يحيى بن أبي كثير عن رجل من أهل حمص قال: كنا مع خالد، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها، وأعل بتدليس يحيى وإبهام الرجل، وادعى أبو داود أن حديث خالد بن الوليد منسوخ ولم يبين ناسخه، وكذا قال النسائي: الأحاديث في الإباحة أصح، وهذا إن صح كان منسوخا، وكأنه لما تعارض عنده الخبران ورأى في حديث خالد "نهى" وفي حديث جابر "أذن" حمل الإذن على نسخ التحريم وفيه نظر لأنه لا يلزم من كون النهي سابقا على الإذن أن يكون إسلام خالد سابقا على فتح خيبر، والأكثر على خلافه والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وقد قرر الحازمي النسخ بعد أن ذكر حديث خالد وقال: هو شامي المخرج، جاء من غير وجه بما ورد في حديث جابر من "رخص" و "أذن" لأنه من ذلك يظهر أن المنع كان سابقا والإذن متأخرا فيتعين المصير إليه، قال: ولو لم ترد هذه اللفظة لكانت دعوى النسخ مردودة لعدم معرفة التاريخ ا هـ. وليس في لفظ رخص وأذن ما يتعين معه المصير إلى النسخ، بل الذي يظهر أن الحكم في الخيل والبغال والحمير كان على البراءة الأصلية، فلما نهاهم الشارع يوم خيبر عن الحمر والبغال خشي أن يظنوا أن الخيل كذلك لشبهها بها فأذن في أكلها دون الحمير والبغال، والراجح أن الأشياء قبل بيان حكمها في الشرع لا توصف لا بحل ولا حرمة فلا يثبت النسخ في هذا. ونقل الحازمي أيضا تقرير النسخ بطريق أخرى فقال: إن النهي عن أكل الخيل والحمير كان عاما من أجل أخذهم لها قبل القسمة والتخميس، ولذلك أمر بإكفاء القدور، ثم بين بندائه بأن لحوم الحمر رجس أن تحريمها

(9/651)


لذاتها، وأن النهي عن الخيل إنما كان بسبب ترك القسمة خاصة. ويعكر عليه أن الأمر بإكفاء القدور إنما كان بطبخهم فيها الحمر كما هو مصرح به في الصحيح لا الخيل فلا يتم مراده، والحق أن حديث خالد ولو سلم أنه ثابت لا ينهض معارضا لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء، وقد ضعف حديث خالد أحمد والبخاري وموسى بن هارون والدار قطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون، وجمع بعضهم بين حديث جابر وخالد بأن حديث جابر دال على الجواز في الجملة وحديث خالد دال على المنع في حالة دون حالة، لأن الخيل في خيبر كانت عزيزة وكانوا محتاجين إليها للجهاد، فلا يعارض النهي المذكور، ولا يلزم وصف أكل الخيل بالكراهة المطلقة فضلا عن التحريم. وقد وقع عند الدار قطني في حديث أسماء "كانت لنا فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرادت أن تموت فذبحناها فأكلناها" وأجاب عن حديث أسماء بأنها واقعة عين فلعل تلك الفرس كانت كبرت بحيث صارت لا ينتفع بها في الجهاد فيكون النهي عن الخيل لمعنى خارج لا لذاتها، وهو جمع جيد، وزعم بعضهم أن حديث جابر في الباب دال على التحريم لقوله: "رخص" لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع، فدل على أنه رخص لهم فيها بسبب المخمصة التي أصابتهم بخيبر، فلا يدل ذلك على الحل المطلق. وأجيب بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن وبعضها بالأمر فدل على أن المراد بقوله رخص أذن لا خصوص الرخصة باصطلاح من تأخر عن عهد الصحابة. ونوقض أيضا بأن الإذن في أكل الخيل لو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك لكثرتها وعزة الخيل حينئذ، ولأن الخيل ينتفع بها فيما ينتفع بالحمير من الحمل وغيره، والحمير لا ينتفع بها فيما ينتفع بالخيل من القتال عليها، والواقع كما سيأتي صريحا في الباب الذي يليه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة القدور التي طبخت فيها الحمر مع ما كان بهم من الحاجة فدل ذلك على أن الإذن في أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة، وأما ما نقل عن ابن عباس ومالك وغيرهما من الاحتجاج للمنع بقوله تعالى :{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} فقد تمسك بها أكثر القائلين بالتحريم، وقرروا ذلك بأوجه: أحدها أن اللام للتعليل فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية. ثانيها عطف البغال والحمير فدل على اشتراكها معها في حكم التحريم فيحتاج من أفرد حكمها عن حكم ما عطفت عليه إلى دليل. ثالثها أن الآية سبقت مساق الامتنان، فلو كانت ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم لأنه يتعلق به بقاء البنية بغير واسطة، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها. رابعها لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة، هذا ملخص ما تمسكوا به من هذه الآية، والجواب على سبيل الإجمال أن آية النحل مكية اتفاقا والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية المنع لما أذن في الأكل. وأيضا فآية النحل ليست نصا في منع الأكل، والحديث صريح في جوازه. وأيضا على سبيل التنزل فإنما يدل ما ذكر على ترك الأكل، والترك أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه أو خلاف الأولى، وإذا لم يتعين واحد منها بقي التمسك بالأدلة المصرحة بالجواز وعلى سبيل التفصيل، أما أولا فلو سلمنا أن اللام للتعليل لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير الأكل اتفاقا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل، ونظيره حديث البقرة المذكور في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: "إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث" فإنه مع كونه أصرح في الحصر لم يقصد به الأغلب،

(9/652)


وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا، وأيضا فلو سلم الاستدلال للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير، ولا قائل به. وأما ثانيا فدلالة العطف إنما هي دلالة اقتران، وهي ضعيفة. وأما ثالثا فالامتنان إنما قصد به غالبا ما كان يقع به انتفاعهم بالخيل فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم، بخلاف الأنعام فإن أكثر انتفاعهم بها كان لخمل الأثقال وللأكل فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق للزم مثله في الشق الآخر. وأما رابعا فلو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى للزم مثله في البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان بمنفعة له أخرى، والله أعلم.

(9/653)


28- باب لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ فِيهِ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5521- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَالِمٍ وَنَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ"
5522- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ تَابَعَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَالِمٍ"
5523- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ حُمُرِ الإِنْسِيَّةِ"
5524- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ"
5525، 5526- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَدِيٌّ عَنْ الْبَرَاءِ وَابْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ"
5527- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ قَالَ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَعُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ مَالِكٌ وَمَعْمَرٌ وَالْمَاجِشُونُ وَيُونُسُ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ"
5528- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ أُكِلَتْ الْحُمُرُ ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ أُكِلَتْ الْحُمُرُ ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ أُفْنِيَتْ الْحُمُرُ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ

(9/653)


فَإِنَّهَا رِجْسٌ فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ"
5529- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ حُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَقَالَ قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَاكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ وَلَكِنْ أَبَى ذَاكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}"
قوله: "باب لحوم الحمر الإنسية" القول في عدم جزمه بالحكم في هذا كالقول في الذي قبله، لكن الراجح في الحمر المنع بخلاف الخيل، والإنسية بكسر الهمزة وسكون النون منسوبة إلى الإنس، ويقال فيه أنسية بفتحتين، وزعم ابن الأثير أن في كلام أبي موسى المديني ما يقتضي أنها بالضم ثم السكون لقوله الأنسية هي التي تألف البيوت، والأنس ضد الوحشة، ولا حجة في ذلك لأن أبا موسى إنما قاله بفتحتين، وقد صرح الجوهري أن الأنس بفتحتين ضد الوحشة، ولم يقع في شيء من روايات الحديث بضم ثم سكون مع احتمال جوازه، نعم زيف أبو موسى الرواية بكسر أوله ثم السكون، فقال ابن الأثير: إن أراد من جهة الرواية فعسى، وإلا فهو ثابت في اللغة. ونسبتها إلى الأنس، وقد وقع في حديث أبي ثعلبة وغيره: "الأهلية" بدل الأنسية، ويؤخذ من التقييد بها جواز أكل الحمر الوحشية، وقد تقدم صريحا في حديث أبي قتادة في الحج. قوله: "فيه سلمة" هو ابن الأكوع وقد تقدم حديثه موصولا في المغازي مطولا. ثم ذكر في الباب أحاديث. قوله: "عبدة" هو ابن سليمان وعبيد الله هو العمري. قوله: "عن سالم ونافع" كذا قال عبد الله بن نمير عن عبيد الله عند مسلم ومحمد بن عبيد عنه كما سبق في المغازي، ثم ساقه المصنف من طريق يحيى القطان عن عبيد الله عن نافع وحده، وقوله: "تابعه ابن المبارك" وصله المؤلف في المغازي. قوله: "وقال أبو أسامة عن عبيد الله عن سالم" وصله في المغازي من طريقه، وفصل في روايته بين أكل الثوم والحمر، فبين أن النهي عن الثوم من رواية نافع فقط، وأن النهي عن الحمر عن سالم فقط، وهو تفصيل بالغ، لكن يحيى القطان حافظ فلعل عبيد الله لم يفصله إلا لأبي أسامة، وكان يحدث به عن سالم ونافع معا مدمجا فاقتصر بعض الرواة عنه على أخذ شيخه تمسكا بظاهر الإطلاق. حديث علي، ذكره مختصرا وتقدم مطولا في كتاب النكاح. حديث جابر، قد سبق في الباب الذي قبله. حديث البراء وابن أبي أوفى أورده مختصرا، وقد تقدم عنهما أتم سياقا من هذا في المغازي، وأفرده عن ابن أبي أوفى هنا وفي فرض الخمس وفيه زيادة اختلافهم في السبب. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه، ويعقوب بن إبراهيم أي ابن سعيد، وصالح هو ابن كيسان. قوله: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية" تابعه الزبيدي وعقيل عن الزهري، فرواية الزبيدي وصلها النسائي من طريق بقية قال: "حدثني الزبيدي - ولفظه - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الحمر الأهلية" ورواية عقيل وصلها أحمد بلفظ الباب وزاد: "ولحم كل ذي ناب من السباع" وسيأتي البحث فيه بعد هذا. ووقع عند النسائي من وجه آخر عن أبي ثعلبة فيه قصة ولفظه: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر والناس جياع، فوجدوا حمرا أنسية فذبحوا منها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف فنادى: ألا إن لحوم الحمر الأنسية لا تحل". قوله: "وقال مالك ومعمر والماجشون ويونس وابن إسحاق عن الزهري: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع " يعني لم يتعرضوا فيه لذكر الحمر، فأما حديث مالك

(9/654)


فسيأتي موصولا في الباب الذي يليه، وأما حديث معمر ويونس فوصلهما الحسن بن سفيان من طريق عبد الله بن المبارك عنهما، وأما حديث الماجشون وهو يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة فوصله مسلم عن يحيى بن يحيى عنه، وأما حديث ابن إسحاق فوصلة إسحاق بن راهويه عن عبدة بن سليمان ومحمد بن عبيد كلاهما عنه. حديث أنس في النداء بالنهي عن لحوم الحمر، وقع عند مسلم أن الذي نادى بذلك هو أبو طلحة وعزاه النووي لرواية أبي يعلى فنسب إلى التقصير، ووقع عند مسلم أيضا أن بلالا نادى بذلك، وقد تقدم قريبا عند النسائي أن المنادي بذلك عبد الرحمن بن عوف، ولعل عبد الرحمن نادى أولا بالنهي مطلقا، ثم نادى أبو طلحة وبلال بزيادة على ذلك وهو قوله: "فإنها رجس، فأكفئت القدور وإنها لتفور باللحم" ووقع في "الشرح الكبير للرافعي" أن المنادي بذلك خالد بن الوليد وهو غلط فإنه لم يشهد خيبر وإنما أسلم بعد فتحها. قوله: "جاءه جاء فقال: أكلت الحمر" لم أعرف اسم هذا الرجل ولا اللذين بعده، ويحتمل أن يكونوا واحدا فإنه قال أولا: "أكلت" فإما لم يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وإما لم يكن أمر فيها بشيء، وكذا في الثانية، فلما قال الثالثة "أفنيت الحمر" أي لكثرة ما ذبح منها لتطبخ صادف نزول الأمر بتحريمها، ولعل هذا مستند من قال: إنما نهى عنها لكونها كانت حمولة الناس كما سيأتي. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة وعمرو هو ابن دينار. قوله: "قلت لجابر بن زيد" هو أبو الشعثاء بمعجمة ومثلثة البصري. قوله: "يزعمون" لم أقف على تسمية أحد منهم، وقد تقدم في الباب الذي قبله أن عمرو بن دينار روى ذلك عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله، وأن من الرواة من قال عنه عن جابر بلا واسطة. قوله: "قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة" زاد الحميدي في مسنده عن سفيان بهذا السند "قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وأخرجه أبو داود من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار مضموما إلى حديث جابر بن عبد الله في النهي عن لحوم الحمر مرفوعا. ولم يصرح برفع حديث الحكم. قوله: "ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس" و "أبى" من الإباء أي امتنع، والبحر صفة لابن عباس قيل له لسعة علمه، وهو من تقديم الصفة على الموصوف مبالغة في تعظيم الموصوف كأنه صار علما عليه، وإنما ذكر لشهرته بعد ذلك لاحتمال خفائه على بعض الناس، ووقع في رواية ابن جريج "وأبى ذلك البحر يريد ابن عباس" وهذا يشعر بأن في رواية ابن عيينة إدراجا. قوله: "وقرأ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} في رواية ابن مردويه وصححه الحاكم من طريق محمد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: "كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا" فبعث لله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فيه فهو حلال، وما حرم فيه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو. وتلا هذه: قل لا أجد إلى آخرها "والاستدلال بهذا للحل إنما يتم فيما لم يأت فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمه، وقد تواردت الأخبار بذلك والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل وعلى القياس، وقد تقدم في المغازي عن ابن عباس أنه توقف في النهي عن الحمر: هل كان لمعنى خاص، أو للتأييد؟ ففيه عن الشعبي عنه أنه قال: لا أدري أنهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرمها البتة يوم خيبر؟ وهذا التردد أصح من الخبر الذي جاء عنه بالجزم بالعلة المذكورة، وكذا فيما أخرجه الطبراني وابن ماجه من طريق شقيق بن سلمة عن ابن عباس قال: "إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية مخافة قلة الظهر" وسنده ضعيف، وتقدم في المغازي في حديث ابن أبي أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس "وقال بعضهم نهى

(9/655)


عنها لأنها كانت تأكل العذرة. قلت: وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تخمس أو كانت جلالة أو كانت انتهبت حديث أنس المذكور قبل هذا حيث جاء فيه: "فإنها رجس" وكذا الأمر بغسل الإناء في حديث سلمة، قال القرطبي: قوله: "فإنها رجس" ظاهر في عود الضمير على الحمر لأنها المتحدث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها، وهذا حكم المتنجس، فيستفاد منه تحريم أكلها، وهو دال على تحريمها لعينها لا لمعنى خارج. وقال ابن دقيق العيد: الأمر بإكفاء القدر ظاهر إنه سبب تحريم لحم الحمر، وقد وردت علل أخرى إن صح رفع شيء منها وجب المصير إليه، لكن لا مانع أن يعلل الحكم بأكثر من علة، وحديث أبي ثعلبة صريح في التحريم فلا معدل عنه. وأما التعليل بخشية قلة الظهر فأجاب عنه الطحاوي بالمعارضة بالخيل، فإن في حديث جابر النهي عن الحمر والإذن في الخيل مقرونا، فلو كانت العلة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلتها عندهم وعزتها وشدة حاجتهم إليها. والجواب عن آية الأنعام أنها مكية وخبر التحريم متأخر جدا فهو مقدم، وأيضا فنص الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها، فإنه حينئذ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذكر فيها، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها كالخمر في آية المائدة، وفيها أيضا تحريم ما أهل لغير الله به والمنخنقة إلى آخره، وكتحريم السباع والحشرات، قال النووي: قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافا لهم إلا عن ابن عباس، وعند المالكية ثلاث روايات ثالثها الكراهة، وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود عن غالب بن الحر قال: "أصابتنا سنة، فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة، قال: أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل حوالي القرية" يعني الجلالة، وإسناده ضعيف، والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، فالاعتماد عليها. وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية فقال: أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر؟ قال: نعم، قال فأصب من لحومها" وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة قال: "سألت" فذكر نحوه، ففي السندين مقال، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم. قال الطحاوي: لو تواتر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الحمر الأهلية لكان النظر يقتضي حلها لأن كل ما حرم من الأهلي أجمع على تحريمه إذا كان وحشيا كالخنزير، وقد أجمع العلماء على حل الحمار الوحشي فكان النظر يقتضي حل الحمار الأهلي. قلت: ما ادعاه من الإجماع مردود، فإن كثيرا من الحيوان الأهلي مختلف في نظيره من الحيوان الوحشي كالهر، وفي الحديث أن الذكاة لا تطهر ما لا يحل أكله، وإن كل شيء تنجس بملاقاة النجاسة يكفي غسله مرة واحدة لإطلاق الأمر بالغسل فإنه يصدق بالامتثال بالمرة، والأصل أن لا زيادة عليها، وأن الأصل في الأشياء الإباحة لكون الصحابة أقدموا على ذبحها وطبخها كسائر الحيوان من قبل أن يستأمروا مع توفر دواعيهم على السؤال عما يشكل، وأنه ينبغي لأمير الجيش تفقد أحوال رعيته، ومن رآه فعل ما لا يسوغ في الشرع أشاع منعه إما بنفسه كأن يخاطبهم وإما بغيره بأن يأمر مناديا فينادي لئلا يغتر به من رآه فيظنه جائزا.

(9/656)


29- باب أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ
5530- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ تَابَعَهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَالْمَاجِشُونُ عَنْ الزُّهْرِيِّ"
قوله: "باب أكل كل ذي ناب من السباع" لم يبت القول بالحكم للاختلاف فيه أو للتفصيل كما سأبينه. قوله: "من السباع" يأتي في الطب بلفظ: "من السبع" وليس المراد حقيقة الإفراد بل هو اسم جنس. وفي رواية ابن عيينة في الطب أيضا عن الزهري "قال ولم أسمعه حتى أتيت الشام" ولمسلم من رواية يونس عن الزهري "ولم أسمع ذلك من علمائنا بالحجاز حتى حدثني أبو إدريس وكان من فقهاء أهل الشام" وكأن الزهري لم يبلغه حديث عبيدة بن سفيان وهو مدني عن أبي هريرة، وهو صحيح أخرجه مسلم من طريقه ولفظه: "كل ذي ناب من السباع فأكله حرام" ولمسلم أيضا من طريق ميمون بن مهران عن ابن عباس "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير" والمخلب بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح اللام بعدها موحدة وهو للطير كالظفر لغيره لكنه أشد منه وأغلظ واحد فهو له كالناب للسبع. وأخرج الترمذي من حديث جابر بسند لا بأس به قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الإنسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير" ومن حديث العرباض بن سارية مثله وزاد: "يوم خيبر". قوله: "تابعه يونس ومعمر وابن عيينة والماجشون عن الزهري" تقدم بيان من وصل أحاديثهم في الباب قبله، إلا ابن عيينة فقد أشرت إليه في هذا الباب قريبا، قال الترمذي: العمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وعن بعضهم لا يحرم، وحكى ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك كالجمهور. وقال ابن العربي: المشهور عنه الكراهة. وقال ابن عبد البر: اختلف فيه علي ابن عباس وعائشة وجابر عن ابن عمر من وجه ضعيف، وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير، واحتجوا بعموم {قُلْ لا أَجِدُ} والجواب أنها مكية وحديث التحريم بعد الهجرة. ثم ذكر نحوه ما تقدم من أن نصر الآية عدم تحريم غير ما ذكر إذ ذاك، فليس فيها نفي ما سيأتي، وعن بعضهم أن آية الأنعام خاصة ببهيمة الأنعام لأنه تقدم قبلها حكاية عن الجاهلية أنهم كانوا يحرمون أشياء من الأزواج الثمانية بآرائهم فنزلت الآية {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} أي من المذكورات إلا الميتة منها والدم المسفوح، ولا يرد كون لحم الخنزير ذكر معها لأنها قرنت به علة تحريمه وهو كونه رجسا، ونقل إمام الحرمين عن الشافعي أنه يقول بخصوص السبب إذا ورد في مثل هذه القصة لأنه لم يجعل الآية حاصرة لما يحرم من المأكولات مع ورود صيغة العموم فيها، وذلك أنها وردت في الكفار الذين يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ويحرمون كثيرا مما أباحه الشرع، فكأن الغرض من الآية إبانة حالهم وأنهم يضادون الحق، فكأنه قيل لا حرام إلا ما حللتموه مبالغة في الرد عليهم، وحكى القرطبي عن قوم أن آية الأنعام المذكورة نزلت في حجة الوداع فتكون ناسخة، ورد بأنها مكية كما صرح به كثير من العلماء، ويؤيده ما تقدم قبلها من الآيات من الرد على مشركي العرب في تحريمهم ما حرموه من الأنعام وتخصيصهم بعض ذلك بآلهتهم إلى غير ذلك مما سبق للرد عليهم، وذلك كله قبل الهجرة إلى المدينة. واختلف القائلون بالتحريم في المراد بما له ناب فقيل: إنه ما يتقوى به ويصول على غيره ويصطاد ويعدو بطبعه غالبا كالأسد والفهد والصقر والعقاب، وأما ما لا يعود كالضبع والثعلب فلا، وإلى

(9/657)


هذا ذهب الشافعي والليث ومن تبعهما، وقد ورد في حل الضبع أحاديث لا بأس بها، وأما الثعلب فورد في تحريمه حديث خزيمة بن جزء عند الترمذي وابن ماجه، ولكن سنده ضعيف.
[الحديث 5530- طرفاه في: 5780، 5781]

(9/658)


30- باب جُلُودِ الْمَيْتَةِ
5531- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ هَلاَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا قَالُوا إِنَّهَا مَيِّتَةٌ قَالَ إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا"
5532- حَدَّثَنَا خَطَّابُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلاَنَ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَنْزٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ مَا عَلَى أَهْلِهَا لَوْ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا"
قوله: "باب جلود الميتة" زاد في البيوع "قبل أن تدبغ" فقيده هناك بالدباغ وأطلق هنا، فيحمل مطلقه على مقيده. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان. قوله: "مر بشاة" كذا للأكثر عن الزهري، وزاد في بعض الرواة عن الزهري "عن ابن عباس عن ميمونة" أخرجه مسلم وغيره من رواية ابن عيينة، والراجح عند الحفاظ في حديث الزهري ليس فيه ميمونة، نعم أخرج مسلم والنسائي من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس "أن ميمونة أخبرته". قوله: "بإهابها" بكسر الهمزة وتخفيف الهاء هو الجلد قبل أن يدبغ، وقيل هو الجلد دبغ أو لم يدبغ، وجمعه أهب بفتحتين ويجوز بضمتين، زاد مسلم من طريق ابن عيينة "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" وأخرج مسلم أيضا من طريق ابن عيينة أيضا عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس نحوه قال: "ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به" وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الدار قطني وقال حسن. قوله: "قالوا إنها ميتة" لم أقف على تعيين القائل. قوله: "قال إنما حرم أكلها" قال ابن أبي جمرة: فيه مراجعة الإمام فيما لا يفهم السامع معنى ما أمره، كأنهم قالوا كيف تأمرنا بالانتفاع بها وقد حرمت علينا؟ فبين له وجه التحريم. ويؤخذ منه جواز تخصيص الكتاب بالسنة، لأن لفظ القرآن {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهو شامل لجميع أجزائها في كل حال، فخصت السنة ذلك بالأكل، وفيه حسن مراجعتهم وبلاغتهم في الخطاب لأنهم جمعوا معاني كثيرة في كلمة واحدة وهي قولهم "إنها ميتة" واستدل به الزهري بجواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقا سواء أدبغ أم لم يدبغ، لكن صح التقييد من طرق أخرى بالدباغ، وهي حجة الجمهور، واستثنى الشافعي من الميتات الكلب والخنزير وما تولد منهما لنجاسة عينها عنده، ولم يستثن أبو يوسف وداود شيئا أخذا بعموم الخبر، وهي رواية عن مالك، وقد أخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" ولفظ الشافعي والترمذي وغيرهما من هذا الوجه "أيما إهاب دبغ ففد طهر" وأخرج مسلم إسنادها ولم يسق لفظها، فأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من هذا الوجه باللفظ المذكور، وفي لفظ مسلم من هذا الوجه عن ابن عباس "سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: دباغه طهوره" وفي رواية للبزار من وجه آخر قال: "دباغ الأديم طهوره" وجزم الرافعي وبعض أهل الأصول أن هذا اللفظ ورد في شاة ميمونة، ولكن لم أقف على ذلك صريحا مع قوة الاحتمال فيه لكون الجميع من رواية

(9/658)


ابن عباس، وقد تمسك بعضهم بخصوص هذا السبب فقصر الجواز على المأكول لورود الخبر في الشاة، ويتقوى ذلك من حيث النظر بأن الدباغ لا يزيد في التطهير على الذكاة، وغير المأكول لو ذكى لم يطهر بالذكاة عند الأكثر فكذلك الدباغ، وأجاب من عمم بالتمسك بعموم اللفظ فهو أولى من خصوص السبب وبعموم الإذن بالمنفعة، ولأن الحيوان طاهر ينتفع به قبل الموت فكان الدباغ بعد الموت قائما له مقام الحياة والله أعلم. وذهب قوم إلى أنه لا ينتفع من الميتة بشيء سواء دبغ الجلد أم لم يدبغ، وتمسكوا بحديث عبد الله بن عكيم قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" أخرجه الشافعي وأحمد والأربعة وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي. وفي رواية للشافعي ولأحمد ولأبي داود "قبل موته بشهر" قال الترمذي: كان أحمد يذهب إليه ويقول: هذا آخر الأمر، ثم تركه لما اضطربوا في إسناده، وكذا قال الخلال نحوه، ورد ابن حبان على من ادعى فيه الاضطراب وقال: سمع ابن عكيم الكتاب يقرأ وسمعه من مشايخ من جهينة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا اضطراب، وأعله بعضهم بالانقطاع وهو مردود، وبعضهم بكونه كتابا وليس بعلة قادحة؛ وبعضهم بأن ابن أبي ليلى راويه عن ابن عكيم لم يسمعه منه لما وقع عند أبي داود عنه أنه "انطلق وناس معه إلى عبد الله بن عكيم قال: فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إلي فأخبروني" فهذا يقتضي أن في السند من لم يسم، ولكن صح تصريح عبد الرحمن بن أبي ليلى بسماعه من ابن عكيم فلا أثر لهذه العلة أيضا، وأقوى ما تمسك به من لم يأخذ بظاهره معارضة الأحاديث الصحيحة له وأنها عن سماع وهذا عن كتابة وأنها أصح مخارج، وأقوى من ذلك الجمع بين الحديثين بحمل الإهاب عل الجلد قبل الدباغ وأنه بعد الدباغ لا يسمى إهابا إنما يسمى قربة وغير ذلك، وقد نقل ذلك عن أئمة اللغة كالنضر بن شميل، وهذه طريقة ابن شاهين وابن عبد البر والبيهقي، وأبعد من جمع بينهما بحمل النهي على جلد الكلب والخنزير لكونهما لا يدبغان، وكذا من حمل النهي على باطن الجلد والإذن على ظاهره "وحكى الماوردي عن بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات كان لعبد الله ابن عكيم سنة، وهو كلام باطل فإنه كان رجلا". قوله: "حدثنا خطاب بن عثمان" هو الفوزي بفتح الفاء وسكون الواو بعدها زاي، ومحمد بن حمير بكسر المهملة وسكون الميم وفتح التحتانية، وأخطأ من قاله بالتصغير، وهو قضاعي حمصي، وكذا شيخه والراوي عنه حمصيون ما لهم في البخاري سوى هذا الحديث، إلا محمد بن حمير وله آخر سبق في الهجرة إلى المدينة، فأما ثابت فوثقه ابن معين ودحيم. وقال أحمد: أنا أتوقف فيه، وساق له ابن عدي ثلاثة أحاديث غرائب قال العقيلي: لا يتابع في حديثه، وأما محمد بن حمير فوثقه أيضا ابن معين ودحيم. وقال أبو حاتم لا يحتج به، وأما خطاب فوثقه الدار قطني وابن حبان لكن قال ربما أخطأ، فهذا الحديث من أجل هؤلاء من المتابعات لا من الأصول، والأصل فيه الذي قبله، ويستفاد منه خروج الحديث عن الغرابة، وقد ادعى الخطيب تفرد هؤلاء الرواة به فقال بعد أن أخرجه من طريق عمر بن يحيى بن الحارث الحراني "حدثنا جدي خطاب بن عثمان به هذا حديث عزيز ضيق المخرج" انتهى. وقد وجدت لمحمد بن حمير فيه متابعا أخرجه الطبراني من رواية عبد الملك بن محمد الصغائي عن ثابت بن عجلان، ووجدت لخطاب فيه متابعا أخرجه الإسماعيلي من رواية علي بن بحر عن محمد بن حمير، ولابن عباس حديث آخر في المعنى سيأتي في الأيمان والنذور من طريق عكرمة عنه عن سودة قالت: "ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها" الحديث، والمسك بفتح الميم وسكون المهملة الجلد، وهذا غير حديث الباب جزما، وهو مما يتأيد به من زاد ذكر الدباغ في الحديث؛ وقد أخرجه أحمد مطولا من

(9/659)


طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: "ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة، فقال: فلولا أخذتم مسكها، فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال: إنما قال الله {ُقلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الآية وإنكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به، قال فأرسلت إليها فسخلت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة. الحديث. قوله: "بعنز" بفتح المهملة وسكون النون بعدها زاي هي الماعزة وهي الأنثى من المعز، ولا ينافي رواية سماك "ماتت شاة" لأنه يطلق عليها شاة كالضأن.

(9/660)


31- باب الْمِسْكِ
5533- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ"
5534- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً"
قوله: "باب المسك" بكسر الميم الطيب المعروف. قال الكرماني مناسبة ذكره في الذبائح أنه فضلة من الظبي. قلت: ومناسبته للباب الذي قبله وهو جلد الميتة إذا دبغ تطهر مما سأذكره، قال الجاحظ: هو من دويبة تكون في الصين تصاد لنوافجها وسررها، فإذا صيدت شدت بعصائب وهي مدلية يجتمع فيها دمها، فإذا ذبحت قورت السرة التي عصبت ودفنت في الشعر حتى يستحيل ذلك الدم المختنق الجامد مسكا ذكيا بعد أن كان لا يرام من النتن، ومن ثم قال القفال: إنها تندبغ بما فيها من المسك فتطهر كما يطهر غيرها من المدبوغات، والمشهور أن غزال المسك كالظبي لكن لونه أسود وله نابان لطيفان أبيضان في فكه الأسفل، وإن المسك دم يجتمع في سرته في وقت معلوم من السنة فإذا اجتمع ورم الموضع فمرض الغزال إلى أن يسقط منه، ويقال إن أهل تلك البلاد يجعلون لها أوتادا في البرية تحتك بها ليسقط. ونقل ابن الصلاة في "مشكل الوسيط" أن النافجة في جوف الظبية كالأنفحة في جوف الجدي، وعن علي بن مهدي الطبري الشافعي أنها تلقيها من جوفها كما تلقى الدجاجة البيضة، ويمكن الجمع بأنها تلقيها من سرتها فتتعلق بها إلى أن تحتك، قال النووي: أجمعوا على أن المسك طاهر يجوز استعماله في البدن والثوب، ويجوز بيعه. ونقل أصحابنا عن الشيعة فيه مذهبا باطلا وهو مستثنى من القاعدة: ما أبين من حي فهو ميت ا هـ، وحكى ابن التين عن ابن شعبان من المالكية أن فأرة المسك إنما تؤخذ في حال الحياة أو بذكاة من لا تصح ذكاته من الكفرة، وهي مع ذلك محكوم بطهارتها لأنها تستحيل عن كونها دما حتى تصير مسكا كما يستحيل الدم إلى اللحم فيطهر ويحل أكله، وليست بحيوان حتى يقال نجست بالموت، وإنما هي شيء يحدث بالحيوان كالبيض، وقد أجمع

(9/660)


المسلمون على طهارة المسك إلا ما حكى عن عمر من كراهته، وكذا حكى ابن المنذر عن جماعة ثم قال: ولا يصح المنع فيه إلا عن عطاء بناء على أنه جزء منفصل، وقد أخرج مسلم في أثناء حديث عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسك أطيب الطيب" وأخرجه أبو داود مقتصرا منه على هذا القدر. قوله: "ما من مكلوم" أي مجروح "وكلمه" بفتح الكاف وسكون اللام "يدمى" بفتح أوله وثالثه، وقد تقدم شرح هذا الحديث في كتاب الجهاد، قال النووي: ظاهر قوله: "في سبيل الله" اختصاصه بمن وقع له ذلك في قتال الكفار، لكن يلتحق به من قتل في حرب البغاة وقطاع الطريق وإقامة المعروف لاشتراك الجميع في كونهم شهداء. وقال ابن عبد البر أصل الحديث في الكفار ويلتحق هؤلاء بهم بالمعنى، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد" وتوقف بعض المتأخرين في دخول من قاتل دون ماله لأنه يقصد صون ماله بداعية الطبع، وقد أشار في الحديث إلى اختصاص ذلك بالمخلص حيث قال: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" والجواب أنه يمكن فيه الإخلاص مع إرادة صون المال، كأن يقصد بقتال من أراد أخذه منه صون الذي يقاتله عن ارتكاب المعصية وامتثال أمر الشارع بالدفع، ولا يمحض القصد لصون المال، فهو كمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا مع تشوفه إلى الغنيمة. قال ابن المنير: وجه استدلال البخاري بهذا الحديث على طهارة المسك وكذا بالذي بعده وقوع تشبيه دم الشهيد به، لأنه في سياق التكريم والتعظيم، فلو كان نجسا لكان من الخبائث ولم يحسن التمثيل به في هذا المقام. تقدم شرح حديث أبي موسى في الجليس الصالح في أوائل البيوع، وقوله فيه: "يحذيك" بضم أوله ومهملة ساكنة وذال معجمة مكسورة أي يعطيك وزنا ومعنى.

(9/661)


32- باب الأَرْنَبِ
5535- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغِبُوا فَأَخَذْتُهَا فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا فَبَعَثَ بِوَرِكَيْهَا أَوْ قَالَ بِفَخِذَيْهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلَهَا"
قوله: "باب الأرنب" هو دويبة معروفة تشبه العناق لكن في رجليها طول بخلاف يديها، والأرنب اسم جنس للذكر والأنثى، ويقال للذكر أيضا الخزز وزن عمر بمعجمات، وللأنثى عكرشة، وللصغير خرنق بكسر المعجمة وسكون الراء وفتح النون بعدها قاف، هذا هو المشهور. وقال الجاحظ: لا يقال أرنب إلا للأنثى، ويقال إن الأرنب شديدة الجبن كثيرة الشبق وأنها تكون سنة ذكرا وسنة أنثى وأنها تحيض، وسأذكر من خرجه، ويقال إنها تنام مفتوحة العين. قوله: "أنفجنا" بفاء مفتوحة وجيم ساكنة أي أثرنا. وفي رواية مسلم: "استنفجنا" وهو استفعال منه، يقال نفج الأرانب إذا ثار وعدا، وانتفج كذلك، وأنفجته إذا أثرته من موضعه، ويقال إن الانتفاج الاقشعرار فكأن المعنى جعلناها بطلبنا لها تنتفج، والانتفاج أيضا ارتفاع الشعر وانتفاشه. ووقع في "شرح مسلم: "للمازري" بعجنا "بموحدة وعين مفتوحة، وفسره بالشق من بعج بطنه إذا شقه، وتعقبه عياض بأنه تصحيف، وبأنه لا يصح معناه من سياق الخبر لأن فيه أنهم سعوا في طلبها بعد ذلك، فلو كان شقوا بطنها كيف كانوا يحتاجون إلى السعي خلفها. قوله: "بمر الظهران" مر بفتح الميم وتشديد الراء، والظهران بفتح المعجمة بلفظ تثنية الظهر، اسم موضع على مرحلة من مكة. وقد يسمى بإحدى الكلمتين تخفيفا، وهو المكان الذي

(9/661)


تسميه عوام المصريين بطن مرو والصواب مر بتشديد الراء. قوله: "فسعى القوم فلغبوا" بمعجمة وموحدة أي تعبوا وزنه ومعناه، ووقع بلفظ: "تعبوا" في رواية الكشميهني، وتقدم في الهبة بيان ما وقع للداودي فيه من غلط. قوله: "فأخذتها" زاد في الهبة "فأدركتها فأخذتها" ولمسلم: "فسعيت حتى أدركتها" ولأبي داود من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن زيد "وكنت غلاما حزورا" وهو بفتح المهملة والزاي والواو المشددة بعدها راء ويجوز سكون الزاي وتخفيف الواو وهو المراهق. قوله: "إلى أبي طلحة" وهو زوج أمه. قوله: "فذبحها" زاد في رواية الطيالسي "بمروة" وزاد في رواية حماد المذكورة "فشويتها". قوله: "فبعث بوركيها أو قال بفخذيها" هو شك من الراوي، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الهبة، ووقع في رواية حماد "بعجزها". قوله: "فقبلها" أي الهدية، وتقدم في الهبة من هذا الوجه "قلت وأكل منه؟ قال: وأكل منه" ثم قال: فقبله، وللترمذي من طريق أبي داود الطيالسي فيه: "فأكله، قلت: أكله؟ قال قبله" وهذا الترديد لهشام بن زيد وقف جده أنسا على قوله: "أكله" فكأنه توقف في الجزم به وجزم بالقبول، وقد أخرج الدار قطني من حديث عائشة "أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرنب وأنا نائمة فخبأ لي منها العجز، فلما قمت أطعمني" وهذا لو صح لأشعر بأنه أكل منها، لكن سنده ضعيف. ووقع في "الهداية" للحنفية أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الأرنب حين أهدى إليه مشويا وأمر أصحابه بالأكل منه، وكأنه تلقاه من حديثين: فأوله من حديث الباب وقد ظهر ما فيه، والآخر من حديث أخرجه النسائي من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها فوضعها بين يديه، فأمسك وأمر أصحابه أن يأكلوا" ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافا كثيرا. وفي الحديث جواز أكل الأرنب وهو قول العلماء كافة إلا ما جاء في كراهتها عن عبد الله بن عمر من الصحابة وعن عكرمة من التابعين وعن محمد ابن أبي ليلى من الفقهاء، واحتج بحديث خزيمة بن جزء "قلت يا رسول الله، ما تقول في الأرنب؟ قال لا آكله ولا أحرمه، قالت فإني آكل ما لا تحرمه. ولم يا رسول الله؟ قال نبئت أنها تدمي" وسنده ضعيف، ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة كما سيأتي تقريره في الباب الذي بعد، وله شاهد عن عبد الله بن عمرو بلفظ: "جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكلها ولم ينه عنها" زعم أنها تحيض "أخرجه أبو داود، وله شاهد عن عمر عند إسحاق بن راهويه في مسنده، وحكى الرافعي عن أبي حنيفة أنه حرمها، وغلطه النووي في النقل عن أبي حنيفة. وفي الحديث أيضا جواز استثارة الصيد والغدو في طلبه، وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس رفعه: "من اتبع الصيد غفل" فهو محمول على من واظب على ذلك حتى يشغله عن غيره من المصالح الدينية وغيرها. وفيه أن أخذ الصيد يملكه بأخذه ولا يشاركه من أثاره معه. وفيه هدية الصيد وقبولها من الصائد وإهداء الشيء اليسير الكبير القدر إذا علم من حاله الرضا بذلك، وفيه أن ولي الصبي يتصرف فيما يملكه الصبي بالمصلحة. وفيه استثبات الطالب شيخه عما يقع في حديثه مما يحتمل أنه يضبطه كما وقع لهشام بن زيد مع أنس رضي الله عنه.

(9/662)


33- باب الضَّبِّ
5536- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ وَلاَ أُحَرِّمُهُ"

(9/662)


5537- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ فَقَالُوا هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَفَعَ يَدَهُ فَقُلْتُ أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لاَ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ قَالَ خَالِدٌ فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ"
قوله: "باب الضب" هو دويبة تشبه الجرذون، لكنه أكبر من الجرذون، ويكنى أباحل بمهملتين مكسورة ثم ساكنة، ويقال للأنثى ضبة، وبه سميت القبيلة، وبالخيف من منى جبل يقال له ضب، والضب داء في خف البعير، ويقال إن لأصل ذكر الضب فرعين، ولهذا يقال له ذكران. وذكر ابن خالويه أن الضب يعيش سبعمائة سنة، وأنه لا يشرب الماء، ويبول في كل أربعين يوما قطرة، ولا يسقط له سن، ويقال بل أسنانه قطعة واحدة، وحكى غيره أن أكل لحمه يذهب العطش، ومن الأمثال "لا أفعل كذا حتى يرد الضب" يقوله من أراد أن لا يفعل الشيء لأن الضب لا يرد بل يكتفي بالنسيم وبرد الهواء، ولا يخرج من جحره في الشتاء. وذكر المصنف في الباب حديثين. قوله: "الضب لست آكله ولا أحرمه" كذا أورده مختصرا، وقد أخرجه مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار بلفظ: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب، فقال: لا آكله ولا أحرمه" ومن طريق نافع عن ابن عمر "سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم:" زاد في رواية عن نافع أيضا: "وهو على المنبر" وهذا السائل يحتمل أن يكون خزيمة بن جزء، فقد أخرج ابن ماجه من حديثه "قلت يا رسول الله ما تقول؟ فقال: لا آكله ولا أحرمه، قال: قلت فإني آكل ما لم تحرم" وسنده ضعيف. وعند مسلم والنسائي من حديث أبي سعيد "قال رجل: يا رسول الله أنا بأرض مضبة، فما تأمرنا؟ قال: ذكر لي أن أمة من بني إسرائيل مسخت، فلم يأمر ولم ينه" وقوله: "مضبة" بضم أوله وكسر المعجمة أي كثيرة الضباب، وهذا يمكن أن يفسر بثابت بن وديعة، فقد أخرج أبو داود والنسائي من حديثه قال: "أصبت ضبابا فشويت منها ضبا، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عودا فعد به أصابعه ثم قال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض، وإني لا أدري أي الدواب هي، فلم يأكل ولم ينه" وسنده صحيح. قوله: "عن أبي أمامة بن سهل" أي ابن حنيف الأنصاري، له رؤية ولأبيه صحبة، وتقدم الحديث في أوائل الأطعمة من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: "أخبرني أبو أمامة". قوله: "عن عبد الله بن عباس عن خالد بن الوليد" في رواية يونس المذكورة "أن ابن عباس أخبره أن خالد ابن الوليد الذي يقال له سيف الله أخبره" وهذا الحديث مما اختلف فيه على الزهري هل هو من مسند ابن عباس أو من مسند خالد، وكذا اختلف فيه على مالك فقال الأكثر عن ابن عباس عن خالد. وقال يحيى بن بكير في "الموطأ" وطائفة عن مالك بسنده عن ابن عباس وخالد أنهما دخلا. وقال يحيى بن يحيى التميمي عن مالك بلفظ: "عن ابن عباس قال: دخلت أنا وخالد على النبي صلى الله عليه وسلم:" أخرجه مسلم عنه وكذا أخرجه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بلفظ: "عن ابن عباس قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في بيت ميمونة بضبين مشويين

(9/663)


وقال هشام بن يوسف عن معمر كالجمهور كما تقدم في أوائل الأطعمة، والجمع بين هذه الروايات أن ابن عباس كان حاضرا للقصة في بيت خالته ميمونة كما صرح به في إحدى الروايات، وكأنه استثبت خالد بن الوليد في شيء منه لكونه الذي كان باشر السؤال عن حكم الضب وباشر أكله أيضا، فكان ابن عباس ربما رواه عنه، ويؤيد ذلك أن محمد بن المنكدر حدث به عن أبي أمامة بن سهل عن ابن عباس قال:" أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت ميمونة وعنده خالد بن الوليد بلحم ضب" الحديث أخرجه مسلم، وكذا رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس فلم يذكر فيه خالدا، وقد تقدم في الأطعمة. قوله: "إنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة" زاد يونس في روايته وهي خالته وخالة ابن عباس. قلت: واسم أم خالد لبابة الصغرى، واسم أم ابن عباس لبابة الكبرى وكانت تكنى أم الفضل بابنها الفضل ابن عباس، وهما أختا ميمونة والثلاث بنات الحارث بن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي الهلالي. قوله: "فأتى بضب محنوذ" بمهملة ساكنة ونون مضمومة وآخره ذال معجمة أي مشوي بالحجارة المحماة ووقع في رواية معمر بضب مشوي، والمحنوذ أخص والحنيذ بمعناه، زاد يونس في روايته: "قدمت به أختها حفيدة" وهي بمهملة وفاء مصغر ومضى في رواية سعيد بن جبر "أن أم حفيدة بنت الحارث بن حزن خالة ابن عباس أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم سمنا وأقطا وأضبا" وفي رواية عوف عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن الطحاوي "جاءت أم حفيدة بضب وقنفذ" وذكر القنفذ فيه غريب، وقد قيل في اسمها هزيلة بالتصغير وهي رواية الموطأ من مرسل عطاء بن يسار، فإن كان محفوظا فلعل لها اسمين أو اسم ولقب، وحكى بعض شراح العمدة في اسمها حميدة بميم وفي كنيتها أم حميد بميم بغير هاء. وفي رواية بهاء وبفاء ولكن براء بدل الدال وبعين مهملة بدل الحاء بغير هاء، وكلها تصحيفات. قوله: "فأهوى" زاد يونس "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يقدم يده لطعام حتى يسمى له" وأخرج إسحاق بن راهويه والبيهقي في "الشعب" من طريق يزيد بن الحوتكية عن عمر رضي الله عنه "أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب يهديها إليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل من الهدية حتى يأمر صاحبها فيأكل منها من أجل الشاة التي أهديت إليه بخيبر" الحديث وسنده حسن. قوله: "فقال بعض النسوة أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضب" في رواية يونس "فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتن له، هو الضب يا رسول الله" وكأن المرأة أرادت أن غيرها يخبره، فلما لم يخبروا بادرت هي فأخبرت، وسيأتي في "باب إجازة خبر الواحد" من طريق الشعبي عن ابن عمر قال: "كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سعد بعني ابن أبي وقاص فذهبوا يأكلون من لحم فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:" ولمسلم من طريق يزيد بن الأصم "عن ابن عباس أنه بينما هو عند ميمونة وعندها الفضل بن عباس وخالد بن الوليد وامرأة أخرى إذ قرب إليهم خوان عليه لحم، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل قالت له ميمونة إنه لحم ضب، فكف يده"، وعرف بهذه الرواية اسم التي أبهمت في الرواية الأخرى، وعند الطبراني في "الأوسط" من وجه آخر صحيح "فقالت ميمونة أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو". قوله: "فرفع يده" زاد يونس "عن الضب" ويؤخذ منه أنه أكل من غير الضب مما كان قدم له من غير الضب، كما تقدم أنه كان فيه غير الضب، وقد جاء صريحا في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس كما تقدم في الأطعمة، قال فأكل الأقط وشرب اللبن. قوله : "لم يكن بأرض قومي" في رواية يزيد بن الأصم "هذا لحم لم آكله قط" قال ابن العربي: اعترض بعض الناس على هذه اللفظة "لم يكن بأرض قومي" بأن الضباب كثيرة بأرض الحجاز،

(9/664)


قال ابن العربي: فإن كان أراد تكذيب الخبر فقد كذب هو، فإنه ليس بأرض الحجاز منها شيء، أو ذكرت له بغير اسمها أو حدثت بعد ذلك، وكذا أنكر ابن عبد البر ومن تبعه أن يكون ببلاد الحجاز شيء من الضباب. قلت: ولا يحتاج إلى شيء من هذا بل المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "بأرض قومي" قريشا فقط فيختص النفي بمكة وما حولها، ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز، وقد وقع في رواية يزيد بن الأصم عند مسلم: "دعانا عروس بالمدينة فقرب إلينا ثلاثة عشر ضبا، فآكل وتارك" الحديث، فبهذا يدل على كثرة وجدانها بتلك الديار. قوله: "فأجدني أعافه" بعين مهملة وفاء خفيفة أي أتكره أكله، يقال عفت الشيء أعافه، ووقع في رواية سعيد بن جبير "فتركهن النبي صلى الله عليه وسلم كالمتقذر لهن، ولو كن حراما لما أكلن على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم ولما أمر بأكلهن" كذا أطلق الأمر وكأنه تلقاه من الإذن المستفاد من التقرير، فإنه لم يقع في شيء من طرق حديث ابن عباس بصيغة الأمر إلا في رواية يزيد بن الأصم عند مسلم فإن فيها "فقال لهم كلوا، فأكل الفضل وخالد والمرأة" وكذا في رواية الشعبي عن ابن عمر "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلوا وأطعموا فإنه حلال - أو قال لا بأس به - ولكنه ليس طعامي"، وفي هذا كله بيان سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بسبب أنه ما اعتاده، وقد ورد لذلك سبب آخر أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار فذكر معنى حديث ابن عباس وفي آخره: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلا - يعني لخالد وابن عباس - فإنني يحضرني من الله حاضرة" قال المازري يعني الملائكة، وكأن للحم الضب ريحا فترك أكله لأجل ريحه، كما ترك أكل الثوم مع كونه حلالا. قلت: وهذا إن صح يمكن ضمه إلى الأول ويكون لتركه الأكل من الضب سببان. قوله: "قال خالد فاجتررته" بجيم ورائين، هذا هو المعروف في كتب الحديث، وضبطه بعض شراح "المهذب" بزاي قبل الراء وقد غلطه النووي. قوله: "ينظر" زاد يونس في روايته: "إلى". وفي هذا الحديث من الفوائد جواز أكل الضب، وحكى عياض عن قوم تحريمه وعن الحنفية كراهته وأنكر ذلك النووي وقال: لا أظنه يصح عن أحد، فإن صح فهو محجوج بالنصوص وبإجماع من قبله. قلت: قد نقله ابن المنذر عن علي، فأي إجماع يكون مع مخالفته؟ ونقل الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم؛ وقال الطحاوي في "معاني الآثار" : كره قوم أكل الضب، منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، قال: واحتج محمد بحديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى له ضب فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعطينه مالا تأكلين" ؟ قال الطحاوي: ما في هذا دليل على الكراهة لاحتمال أن تكون عافته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكون ما يتقرب به إلى الله إلا من خير الطعام، كما نهى أن يتصدق بالتمر الرديء ا هـ. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الضب أخرجه أبو داود بسند حسن، فإنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عتبة عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل، وحديث ابن عياش عن الشاميين قوي، وهؤلاء شاميون ثقات، ولا يغتر بقول الخطابي: ليس إسناده بذاك، وقول ابن حزم: فيه ضعفاء ومجهولون، وقول البيهقي: تفرد به إسماعيل بن عياش وليس بحجة، وقول ابن الجوزي: لا يصح، ففي كل ذلك تساهل لا يخفى، فإن رواية إسماعيل عن الشاميين قوية عند البخاري وقد صحح الترمذي بعضها، وقد أخرج أبو داود من حديث عبد الرحمن بن حسنة "نزلنا أرضا كثيرة الضباب" الحديث، وفيه أنهم "طبخوا منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض فأخشى أن تكون هذه فاكفئوها" أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والطحاوي وسنده على شرط

(9/665)


الشيخين إلا الضحاك فلم يخرجا له. وللطحاوي من وجه آخر عن زيد بن وهب ووافقه الحارث بن مالك ويزيد بن أبي زياد ووكيع في آخره: "فقيل له إن الناس قد اشتووها أكلوها، فلم يأكل ولم ينه عنه" والأحاديث الماضية وإن دلت على الحل تصريحا وتلويحا نصا وتقريرا، فالجمع بينها وبين هذا حمل النهي فيه على أول الحال عند تجويز أن يكون مما مسخ وحينئذ أمر بإكفاء القدور، ثم توقف فلم يأمر به ولم ينه عنه، وحمل الأذن فيه على ثاني الحال لما علم أن الممسوخ لا نسل له، ثم بعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه، وأكل على مائدته فدل على الإباحة، وتكون الكراهة للتنزيه في حق من يتقذره، وتحمل أحاديث الإباحة على من لا يتقذره، ولا يلزم من ذلك أنه يكره مطلقا. وقد أفهم كلام ابن العربي أنه لا يحل في حق من يتقذره لما يتوقع في أكله من الضرر وهذا لا يختص بهذا، ووقع في حديث يزيد بن الأصم "أخبرت ابن عباس بقصة الضب، فأكثر القوم حوله حتى قال بعضهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحرمه، فقال ابن عباس: بئس ما قلتم، ما بعث نبي الله إلا محرما أو محللا" أخرجه مسلم. قال ابن العربي: ظن ابن عباس أن الذي أخبر بقوله صلى الله عليه وسلم لا آكله أراد لا أحله فأنكر عليه لأن خروجه من قسم الحلال والحرام محال. وتعقبه شيخنا في "شرح الترمذي" بأن الشيء إذا لم يتضح إلحاقه بالحلال أو الحرام يكون من الشبهات فيكون من حكم الشيء قبل ورود الشرع، والأصح كما قال النووي أنه لا يحكم عليها بحل ولا حرمة. قلت: وفي كون مسألة الكتاب من هذا النوع نظر، لأن هذا إنما هو إذا تعارض الحكم على المجتهد، أما الشارع إذ سئل عن واقعة فلا بد أن يذكر فيها الحكم الشرعي "وهذا هو الذي أراده ابن العربي وجعل محط كلام ابن عباس عليه. ثم وجدت في الحديث زيادة لفظة سقطت من رواية مسلم وبها يتجه إنكار ابن عباس ويستغنى عن تأويل ابن العربي لا آكله بلا أحله وذلك أن أبا بكر بن أبي شيبة وهو شيخ مسلم فيه أخرجه في مسنده بالسند الذي ساقه به عند مسلم فقال في روايته: "لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحله ولا أحرمه" ولعل مسلما حذفها عمدا لشذوذها، لأن ذلك لم يقع في شيء من الطرق لا في حديث ابن عباس ولا غيره، وأشهر من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا آكله ولا أحرمه" ابن عمر كما تقدم، وليس في حديثه "لا أحله" بل جاء التصريح عنه بأنه حلال فلم تثبت هذه اللفظة وهي قوله: "لا أحله" لأنها وإن كانت من رواية يزيد بن الأصم وهو ثقة لكنه أخبر بها عن قوم كانوا عند ابن عباس فكانت رواية عن مجهول، ولم يقل يزيد بن الأصم إنهم صحابة حتى يغتفر عدم تسميتهم. واستدل بعض من منع أكله بحديث أبي سعيد عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذكر لي أن أمة من بني إسرائيل مسخت" وقد ذكرته وشواهده قبل. وقال الطبري: ليس في الحديث الجزم بأن الضب مما مسخ، وإنما خشي أن يكون منهم فتوقف عنه، وإنما قال ذلك قبل أن يعلم الله تعالى نبيه أن الممسوخ لا ينسل، وبهذا أجاب الطحاوي ثم أخرج من طريق المعرور بن سويد عن عبد الله بن مسعود قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ؟ قال: إن الله لم يهلك قوما - أو يمسخ قوما - فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة، وأصل هذا الحديث في مسلم، وكأن لم يستحضره من صحيح مسلم، ويتعجب من ابن العربي حيث قال: قوله إن الممسوخ لا ينسل دعوى، فإنه أمر لا يعرف بالعقل وإنما طريقه النقل، وليس فيه أمر يعول عليه. كذا قال ثم قال الطحاوي بعد أن أخرجه من طرق ثم أخرج حديث ابن عمر: فثبت بهذه الآثار أنه لا بأس بأكل الضب، وبه أقول. قال: وقد احتج محمد ابن الحسن لأصحابه بحديث عائشة، فساقه الطحاوي من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة

(9/666)


"أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه فقال لها: أتعطيه ما لا تأكلين" ؟ قال محمد: دل ذلك على كراهته لنفسه ولغيره وتعقبه الطحاوي باحتمال أن يكون دلك من جنس ما قال الله تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} ثم ساق الأحاديث الدالة على كراهة التصدق بحشف التمر، وقد مر ذكرها في كتاب الصلاة في "باب تعليق القنو في المسجد" وبحديث البراء "كانوا يحبون الصدقة بأرداء تمرهم، فنزلت: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الآية. قال: فلهذا المعنى كره لعائشة الصدقة بالضب لا لكونه حراما ا هـ. وهذا يدل على أنه فهم عن محمد أن الكراهة فيه للتحريم، والمعروف عن أكثر الحنفية فيه كراهة التنزيه. وجنح بعضهم إلى التحريم وقال: اختلفت الأحاديث وتعذرت معرفة المتقدم فرجحنا جانب التحريم تقليلا للنسخ ا هـ. ودعواه التعذر ممنوعة لما تقدم والله أعلم. ويتعجب من ابن العربي حيث قال: قولهم إن الممسوخ لا ينسل دعوى، فإنه أمر لا يعرف بالعقل وإنما طريقه النقل، وليس فيه أمر يعول عليه، كذا قال وكأنه لم يستحضره من صحيح مسلم، ثم قال: وعلى تقدير ثبوت كون الضب ممسوخا فذلك لا يقتضي تحريم أكله لأن كونه آدميا قد زال حكمه ولم يبق له أثر أصلا، وإنما كره صلى الله عليه وسلم الأكل منه لما وقع عليه من سخط الله كما كره الشرب من مياه ثمود ا هـ. ومسألة جواز أكل الآدمي إذا مسخ حيوانا مأكولا لم أرها في كتب فقهائنا. وفي الحديث أيضا الإعلام بما شك فيه لإيضاح حكمه، وأن مطلق النفرة وعدم الاستطابة لا يستلزم التحريم، وأن المنقول عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يعيب الطعام إنما هو فيما صنعه الآدمي لئلا ينكسر خاطره وينسب إلى التقصير فيه؛ وأما الذي خلق كذلك فليس نفور الطبع منه ممتنعا. وفيه أن وقوع مثل ذلك ليس بمعيب ممن يقع منه خلافا لبعض المتنطعة. وفيه أن الطباع تختلف في النفور عن بعض المأكولات، وقد يستنبط منه أن اللحم إذا أنتن لم يحرم لأن بعض الطباع لا تعافه. وفيه دخول أقارب الزوجة بيتها إذا كان بإذن الزوج أو رضاه، وذهل ابن عبد البر هنا ذهولا فاحشا فقال: كان دخول خالد بن الوليد بيت النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قبل نزول الحجاب، وغفل عما ذكره هو أن إسلام خالد كان بين عمرة القضية والفتح، وكان الحجاب قبل ذلك اتفاقا، وقد وقع في حديث الباب: "قال خالد: أحرام هو يا رسول الله" ؟ فلو كانت القصة قبل الحجاب لكانت قبل إسلام خالد، ولو كانت قبل إسلامه لم يسأل عن حلال ولا حرام، ولا خاطب بقوله يا رسول الله. وفيه جواز الأكل من بيت القريب والصهر والصديق، وكأن خالدا ومن وافقه في الأكل أرادوا جبر قلب الذي أهدته، أو لتحقق حكم الحل، أو لامتثال قوله صلى الله عليه وسلم: "كلوا" وفهم من لم يأكل أن الأمر فيه للإباحة. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤاكل أصحابه ويأكل اللحم حيث تيسر؛ وأنه كان لا يعلم من المغيبات إلا ما علمه الله تعالى. وفيه وفور عقل ميمونة أم المؤمنين وعظيم نصحتها للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنها فهمت مظنة نفوره عن أكله بما استقرت منه، فخشيت أن يكون ذلك كذلك فيتأذى بأكله لاستقذاره له فصدقت فراستها. ويؤخذ منه أن من خشي أن يتقذر شيئا لا ينبغي أن يدلس له لئلا يتضرر به، وقد شوهد ذلك من بعض الناس.

(9/667)


34- باب إِذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ
5538- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

(9/667)


عُتْبَةَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُهُ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ قِيلَ لِسُفْيَانَ فَإِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ إِلاَّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مِرَارًا"
5539- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَهُوَ جَامِدٌ أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ الْفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا قَالَ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ ثُمَّ أُكِلَ عَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ"
5540- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ"
قوله: "باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب" أي هل يفترق الحكم أو لا؟ وكأنه ترك الجزم بذلك لقوة الاختلاف، وقد تقدم في الطهارة ما يدل على أنه يختار أنه لا ينجس إلا بالتغير، ولعل هذا هو السر في إيراده طريق يونس المشعرة بالتفصيل. قوله: "عن ميمونة" تقدم في أواخر كتاب الوضوء بيان الاختلاف فيه على الزهري في إثبات ميمونة في الإسناد وعدمه، وأن الراجح إثباتها فيه، وتقدم هناك الاختلاف على مالك في وصله وانقطاعه. قوله: "فقال ألقوها وما حولها" هكذا أورده أكثر أصحاب ابن عيينة عنه ووقع في مسند إسحاق بن راهويه ومن طريقه أخرجه ابن حبان بلفظ: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائبا فلا تقربوه" وهذه الزيادة في رواية ابن عيينة غريبة وسيأتي القول فيها. قوله: "قيل لسفيان" القائل لسفيان ذلك هو علي بن المديني شيخ البخاري، كذلك ذكره في علله. قوله: "فإن معمرا يحدث به إلخ" طريق معمر هذه وصلها أبو داود عن الحسن بن علي الحلواني وأحمد بن صالح كلاهما عن عبد الرزاق عن معمر بإسناده المذكور إلى أبي هريرة، ونقل الترمذي عن البخاري أن هذه الطريق خطأ والمحفوظ رواية الزهري من طريق ميمونة، وجزم الذهلي بأن الطريقين صحيحان، وقد قال أبو داود في روايته عن الحسن بن علي "قال الحسن: وربما حدث به معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة" وأخرجه أبو داود أيضا عن أحمد بن صالح عن عبد الرزاق عن عبد الرحمن بن بوذويه عن معمر كذلك من طريق ميمونة، وكذا أخرجه النسائي عن خشيش بن أصرم عن عبد الرزاق، وذكر الإسماعيلي أن الليث رواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن جامد" الحديث، وهذا يدل على أن لرواية الزهري عن سعيد أصلا، وكون سفيان بن عيينة لم يحفظه عن الزهري إلا من طريق ميمونة لا يقتضي أن لا يكون له عنده إسناد آخر، وقد جاء عن الزهري فيه إسناد ثالث أخرجه الدار قطني من طريق عبد الجبار بن عمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر به، وعبد

(9/668)


الجبار مختلف فيه. قال البيهقي: وجاء من رواية ابن جريج عن الزهري كذلك، لكن السند إلى ابن جريج ضعيف والمحفوظ أنه من قول ابن عمر. قوله: "قال ما سمعت الزهري" القائل هو سفيان "وقوله ولقد سمعته منه مرارا" أي من طريق ميمونة فقط، ووقع في رواية الإسماعيلي عن جعفر الفريابي عن علي بن المديني شيخ البخاري فيه قال سفيان: كم سمعناه من الزهري يعيده ويبدئه. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، ويونس هو ابن زيد. قوله: "عن الزهري عن الدابة" أي في حكم الدابة "تموت في الزيت والسمن إلخ" ظاهر في أن الزهري كان في هذا الحكم لا يفرق بين السمن وغيره ولا بين الجامد منه والذائب، لأنه ذكر ذلك في السؤال ثم استدل بالحديث في السمن، فأما غير السمن فإلحاقه به في القياس عليه واضح، وأما عدم الفرق بين الذائب والجامد فلأنه لم يذكر في اللفظ الذي استدل به، وهذا يقدح في صحة من زاد في هذا الحديث عن الزهري التفرقة بين الجامد والذائب كما ذكر قبل عن إسحاق، وهو مشهور من رواية معمر عن الزهري أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما وصححه ابن حبان وغيره على أنه اختلف عن معمر فيه، فأخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر بغير تفصيل، نعم وقع عند النسائي من رواية ابن القاسم عن مالك وصف السمن في الحديث بأنه جامد، وتقدم التنبيه عليه في الطهارة وكذا وقع عند أحمد من رواية الأوزاعي عن الزهري، وكذا عند البيهقي من رواية حجاج بن منهال عن ابن عيينة، وكذا أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن سفيان وتقدم التنبيه على الزيادة التي وقعت في رواية إسحاق ابن راهويه عن سفيان وأنه تفرد بالتفصيل عن سفيان دون حفاظ أصحابه مثل أحمد والحميدي ومسدد وغيرهم، ووقع التفصيل فيه أيضا في رواية عبد الجبار بن عمر عن الزهري عن سالم عن أبيه، وقد تقدم أن الصواب في هذا الإسناد أنه موقوف، وهذا الذي ينفصل به الحكم فيما يظهر لي بأن التقييد عن الزهري عن سالم عن أبيه من قوله، والإطلاق من روايته مرفوعا، لأنه لو كان عنده مرفوعا ما سوى في فتواه بين الجامد وغير الجامد، وليس الزهري ممن يقال في حقه لعله نسي الطريق المفصلة المرفوعة لأنه كان أحفظ الناس في عصره فخفاء ذلك عنه في غاية البعد. قوله: "عن حديث عبيد الله بن عبد الله" يعني بسنده لكن يظهر لنا هل فيه ميمونة أو لا؟ وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق نعيم بن حماد عن ابن المبارك فقال فيه: "عن عبيد الله بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم:" فذكره مرسلا وأغرب أبو نعيم في "المستخرج" فساقه من طريق الفربري عن البخاري عن عبدان موصولا بذكر ابن عباس وميمونة بالمرفوع دون الموقوف وقال: "أخرجه البخاري عن عبدان، وذكر فيه كلاما، واستدل بهذا الحديث لإحدى الروايتين عن أحمد أن المائع إذا حلت فيه النجاسة لا ينجس إلا بالتغير، وهو اختيار البخاري وقول ابن نافع من المالكية وحكى عن مالك، وقد أخرج أحمد عن إسماعيل بن علية عن عمارة ابن أبي حفصة عن عكرمة "أن ابن عباس سئل عن فأرة ماتت في سمن قال: تؤخذ الفارة وما حولها، فقلت إن أثرها كان في السمن كله، قال إنما كان وهي حية وإنما ماتت حيث وجدت" ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه أحمد من وجه آخر وقال فيه عن جر فيه زيت وقع فيه جرذ وفيه: "أليس جال في الجر كله؟ قال: إنما جال وفيه الروح، ثم استقر حيث مات" وفرق الجمهور بين المائع والجامد عملا بالتفصيل المقدم ذكره، وقد تمسك ابن العربي بقوله: "وما حولها" على أنه كان جامدا، قال: لأنه لو كان مائعا لم يكن له حول، لأنه لو نقل من أي جانب مهما نقل لخلفه غيره في الحال فيصير مما حولها فيحتاج إلى إلقائه كله، كذا قال، وأما ذكر السمن والفأرة فلا عمل بمفهومهما، وجمد ابن حزم

(9/669)


على عادته فخص التفرقة بالفأرة، فلو وقع غير جنس الفأر من الدواب في مائع لم ينجس إلا بالتغير، وضابط المائع عند الجمهور أن يتراد بسرعة إذا أخذ منه شيء. واستدل بقوله: "فماتت" على أن تأثيرها في المائع إنما يكون بموتها فيه فلو وقعت فيه وخرجت بلا موت لم يضره، ولم يقع في رواية مالك التقييد بالموت، فيلزم من لا يقول بحمل المطلق على المقيد أن يقول بالتأثير ولو خرجت وهي في الحياة، وقد التزمه ابن حزم فخالف الجمهور أيضا. قوله: "ألقوها وما حولها" لم يرد في طريق صحيحة تحديد ما يلقي، لكن أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عطاء بن يسار أنه يكون قدر الكف وسنده جيد لولا إرساله، وقد وقع عند الدار قطني من رواية يحيى القطان عن مالك في هذا الحديث: "فأمر أن يقور ما حولها فيرمي به" وهذا أظهر في كونه جامدا من قوله: "وما حولها" فيقوى ما تمسك به ابن العربي، وأما ما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا من التقييد في المأخوذ منه ثلاث غرفات بالكفين فسنده ضعيف، ولو ثبت لكان ظاهرا في المائع. واستدل بقوله في الرواية المفصلة "وإن كان مائعا فلا تقربوه" على أنه لا يجوز الانتفاع به في شيء، فيحتاج من أجاز الانتفاع به في غير الأكل كالشافعية وأجاز بيعه كالحنفية إلى الجواب - أعني الحديث - فإنهم احتجوا به في التفرقة بني الجامد والمائع، وقد احتج بعضهم بما وقع في رواية عبد الجبار بن عمر عند البيهقي في حديث ابن عمر "إن كان السمن مائعا انتفعوا به ولا تأكلوه" وعنده في رواية ابن جريج مثله، وقد تقدم أن الصحيح وقفه. وعنده من طريق الثوري عن أيوب عن نافع عن ابن عمر في فأرة وقعت في زيت قال: "استصبحوا به وادهنوا به أدمكم" وهذا السند على شرط الشيخين إلا أنه موقوف، واستدل به على أن الفأرة طاهرة العين، وأغرب ابن العربي فحكى عن الشافعي وأبي حنيفة أنها نجسة. قوله في رواية مالك "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم" هو كذلك في أكثر الروايات بإبهام السائل، ووقع في رواية الأوزاعي عن أحمد تعيين من سأل، ولفظه عن ميمونة "إنها استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فأرة" الحديث، ومثله في رواية يحيى القطان عن مالك عند الدار قطني بلفظ: "عن ابن عباس أن ميمونة استفتت" والله أعلم.==بعده 

===========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............