كتاب :32. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
==باب الوهم والعلم في الصورة
35- باب الْوَسْمِ وَالْعَلَمِ فِي الصُّورَةِ
5541- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَمَ الصُّورَةُ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ نَهَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُضْرَبَ" تَابَعَهُ
قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا الْعَنْقَزِيُّ عَنْ حَنْظَلَةَ وَقَالَ تُضْرَبُ
الصُّورَةُ"
5542- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ
عَنْ أَنَسٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِأَخٍ لِي يُحَنِّكُهُ وَهُوَ فِي مِرْبَدٍ لَهُ فَرَأَيْتُهُ يَسِمُ شَاةً
حَسِبْتُهُ قَالَ فِي آذَانِهَا"
قوله: "باب العلم" بفتحتين "والوسم" بفتح أوله وسكون المهملة،
وفي بعض النسخ بالمعجمة فقيل هو بمعنى الذي بالمهملة وقيل بالمهملة في الوجه
وبالمعجمة في سائر الجسد، فعلى هذا فالصواب هنا بالمهملة لقوله في الصورة، والمراد
بالوسم أن يعلم الشيء بشيء يؤثر فيه تأثيرا بالغا، وأصله أن يجعل في البهيمة علامة
ليميزها عن غيرها. قوله: "عن حنظلة" هو ابن أبي سفيان الجمحي، وسالم هو
ابن عبد الله بن عمر. قوله: "أن تعلم" بضم أوله أي تجعل فيها
(9/670)
علامة. قوله: "الصورة" في رواية الكشميهني في الموضعين "الصور" بفتح الواو بلا هاء جمع صورة والمراد بالصورة الوجه. قوله: "وقال ابن عمر: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تضرب" هو موصول بالسند المذكور، بدأ بالموقوف وثنى بالمرفوع مستدلا به على ما ذكر من الكراهة، لأنه إذا ثبت النهي عن الضرب كان منع الوسم أولى، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما أخرجه مسلم من حديث جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه" وفي لفظ له "مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بحمار قد وسم في وجه فقال: لعن الله من وسمه". قوله: "تابعه قتيبة قال حدثنا العنقزي" بفتح المهملة والقاف بينهما نون ساكنة وبعد القاف زاي، منسوب إلى العنقز وهو نبت طيب الريح، ويقال هو المرزنجوش بفتح الميم وسكون الراء ثم فتح الزاي وسكون النون بعدها جيم مضمومة وآخره معجمة، وهذا تفسير للشيء بمثله في الخفاء، والمرزنجوش هو الشمار أو الشذاب، وقيل العنقز الريحان، وقيل القصب الغض، واسم العنقزي عمرو بن محمد الكوفي وثقه أحمد والنسائي وغيرهما. وقال ابن حبان في الثقات كان يبيع العنقز. وهذه المتابعة لها حكم الوصل عند ابن الصلاح لأن قتيبة من شيوخ البخاري، وإنما ذكرها لزيادة المحذوف في رواية عبيد الله بن موسى حيث قال: "أن تضرب" فإن الضمير في روايته للصورة لكونها ذكرت أولا وأفصح العنقزي في روايته بذلك، وقوله عن حنظلة يريد بالسند المذكور وهو عن سالم عن أبيه، وقد أخرج الإسماعيلي الحديث من طريق بشر بن السري ومحمد بن عدي فرقهما كلاهما عن حنظلة بالسند المذكور واللفظ المذكور، لكن لفظ رواية بشر بن السري "عن الصورة تضرب" وأخرجه من طريق وكيع عن حنظلة بلفظ: "أن تضرب وجوه البهائم" ومن وجه آخر عنه "أن تضرب الصورة" يعني الوجه، وأخرجه أيضا من طريق محمد بن بكر يعني البرساني وإسحاق بن سليمان الرازي كلاهما عن حنظلة قال: "سمعت" سالما يسأل عن العلم في الصورة فقال: كان ابن عمر يكره أن تعلم الصورة "وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تضرب الصورة" يعني بالصورة الوجه. قال الإسماعيلي المسند منه على اضطراب فيه ضرب الصورة، وأما العلم فإنه من قول ابن عمر وكان المعنى فيه الكي، قلت وهذه الرواية الأخيرة هي المطابقة للفظ الترجمة، وعطفه الوسم عليها إما عطف تفسيري وإما من عطف الأعم على الأخص. وأشار الإسماعيلي بالاضطراب إلى الرواية الأخيرة حيث قال فيها "وبلغنا" فإن الظاهر أنه من قول سالم فيكون مرسلا بخلاف الروايات الأخرى أنها ظاهرة الاتصال لكن اجتماع العدد الكثير أولى من تقصير من قصر به والحكم لهم. ومثل هذا لا يسمى اضطرابا في الاصطلاح لأن شرط الاضطراب أن يتعذر الترجيح بعد تعذر الجمع وليس الأمر هنا كذلك. وجاء في ذكر الوسم في الوجه صريحا حديث جابر قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بحمار قد وسم في وجهه فقال: لعن الله من فعل هذا. لا يسم أحد الوجه ولا يضرب أحد الوجه" أخرجه عبد الرزاق ومسلم والترمذي. وهو شاهد جيد لحديث ابن عمر. وتقدم البحث في ضرب وجه الآدمي في كتاب الجهاد في الكلام على حديث أبي هريرة، وتقدم قبل أبواب النهي عن صبر البهيمة وعن المثلة. قوله: "عن هشام بن زيد" أي ابن أنس ابن مالك. قوله: "عن أنس" هو جده. قوله: "بأخ لي يحنكه" هو أخوه من أمه وهو عبد الله بن أبي طلحة، وسيأتي مطولا في اللباس من وجه آخر. قوله: "في مربد" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة بعدها مهملة مكان الإبل وكأن الغنم أدخلت فيه مع الإبل. قوله: "وهو يسم شاة" في رواية الكشميهني: "شاء" بالهمز وهو جمع شاة مثل شياه، وسيأتي في الرواية التي في اللباس بلفظ: "وهو يسم الظهر الذي قدم عليه" وفيه ما يدل على أن
(9/671)
ذلك بعد رجوعهم من غزوة الفتح وحنين، والمراد بالظهر الإبل، وكأنه كان يسم الإبل والغنم فصادف أول دخول أنس وهو يسم شاة، ورآه يسم غير ذلك، وقد تقدم في العقيقة بيان شيء من هذا. قوله: "حسبته" القائل شعبة، والضمير لهشام بن زيد وقع مبينا في رواية مسلم. قوله: "في آذانها" هذا محل الترجمة وهو العدول عن الوسم في الوجه إلى الوسم في الأذن، فيستفاد منه أن الأذن ليست من الوجه، وفيه حجة للجمهور في جواز وسم البهائم بالكي، وخالف فيه الحنفية تمسكا بعموم النهي عن التعذيب بالنار، ومنهم من ادعى بنسخ وسم البهائم وجعله الجمهور مخصوصا من عموم النهي. والله أعلم.
(9/672)
36- باب إِذَا
أَصَابَ قَوْمٌ غَنِيمَةً فَذَبَحَ بَعْضُهُمْ غَنَمًا أَوْ إِبِلًا بِغَيْرِ
أَمْرِ أَصْحَابِهِمْ لَمْ تُؤْكَلْ
لحَدِيثِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ
طَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ فِي ذَبِيحَةِ السَّارِقِ اطْرَحُوهُ"
5543- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ
مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ
خَدِيجٍ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّنَا
نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى فَقَالَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ
وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلُوهُ مَا لَمْ يَكُنْ سِنٌّ وَلاَ ظُفُرٌ
وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفْرُ
فَمُدَى الْحَبَشَةِ وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَأَصَابُوا مِنْ
الْغَنَائِمِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ النَّاسِ
فَنَصَبُوا قُدُورًا فَأَمَرَ بِهَا فَأُكْفِئَتْ وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ وَعَدَلَ
بَعِيرًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ ثُمَّ نَدَّ بَعِيرٌ مِنْ أَوَائِلِ الْقَوْمِ وَلَمْ
يَكُنْ مَعَهُمْ خَيْلٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ فَقَالَ
إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا فَعَلَ
مِنْهَا هَذَا فَافْعَلُوا مِثْلَ هَذَا"
قوله: "باب إذا أصاب قوم غنيمة" يفتح أوله وزن عظيمة. قوله: "فذبح
بعضهم غنما أو إبلا بغير أمر أصحابه لم تؤكل لحديث رافع" هذا مصير من البخاري
إلى أن سبب منع الأكل من الغنم التي طبخت في القصة التي ذكرها رافع بن خديج كونها
لم تقسم، وقد تقدم البحث في ذلك في "باب التسمية على الذبيحة" وقوله
فيه: "وسأحدثكم عن ذلك" جزم النووي بأنه من جملة المرفوع وهو من كلام
النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر من السياق، وجزم أبو الحسن بن القطان في
"كتاب بيان الوهم والإيهام" بأنه مدرج من قول رافع بن خديج راوي الخبر،
وذكر ما حاصله أن أكثر الرواة عن سعيد ومسروق أوردوه على ظاهر الرفع، وأن أبا
الأحوص قال في روايته عنه بعد قوله: "أو ظفر" : "قال رافع وسأحدثكم
عن ذلك" ونسبت ذلك لرواية أبي داود وهو عجيب فإن أبا داود أخرجه عن مسدد وليس
في شيء من نسخ السنن قوله: "قال رافع" وإنما فيه كما عند المصنف هنا
بدونها، وشيخ أبي داود فيه مسدد هو شيخ البخاري فيه هنا، وقد أورده البخاري في
الباب الذي بعد هذا بلفظ: "غير السن والظفر فإن السن عظم إلخ" وهو ظاهر
جدا في أن الجميع مرفوع. قوله: "وقال طاوس وعكرمة في ذبيحة السارق:
اطرحوه" وصله عبد الرزاق من حديثهما بلفظ: "إنهما سئلا عن ذلك فكرهاها
ونهيا عنها" وتقدم بيان الحكم في ذلك في ذبيحة المرأة. ذكر المصنف حديث رافع
بن خديج وقد تقدم شرحه مستوفي قبل.
(9/672)
37- باب إِذَا
نَدَّ بَعِيرٌ لِقَوْمٍ فَرَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَأَرَادَ
إِصْلاَحَهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ
لِخَبَرِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5544- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ
الطَّنَافِسِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ
جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنْ الإِبِلِ
قَالَ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ قَالَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ لَهَا
أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ
هَكَذَا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَكُونُ فِي الْمَغَازِي
وَالأَسْفَارِ فَنُرِيدُ أَنْ نَذْبَحَ فَلاَ تَكُونُ مُدًى قَالَ أَرِنْ مَا
نَهَرَ أَوْ أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ غَيْرَ السِّنِّ
وَالظُّفُرِ فَإِنَّ السِّنَّ عَظْمٌ وَالظُّفُرَ مُدَى الْحَبَشَةِ"
قوله: "باب إذا ند بعير لقوم فرماه بعضهم بسهم فقتله فأراد إصلاحهم فهو
جائز" في رواية الكشميهني: "إصلاحه" ولكريمة: "صلاحه"
بغير ألف بالإفراد أي البعير وضمير الجمع القوم. ذكر المصنف حديث رافع ابن خديج،
وقد تقدم التنبيه عليه في الذي قبله، ومضى في "باب ذبيحة المرأة" بحث في
خصوص هذه الترجمة، وقوله في هذه الرواية ما أنهر الدم أو نهر شك من الراوي والصواب
"أنهر" بالهمز، وقد ألزمه الإسماعيلي التناقض في هذه الترجمة والتي
قبلها. وأشار إلى عدم الفرق بين الصورتين، والجامع أن كلا منهما متعد بالتذكية،
وأجيب بأن الذين ذبحوا في القصة الأولى ذبحوا ما لم يقسم ليختصوا به فعوقبوا بحرمانه
إذ ذاك حتى يقسم، والذي رمى البعير أراد إبقاء منفعته لمالكه فافترقا. وقال ابن
المنير: نبه بهذه الترجمة على أن ذبح غير المالك إذا كان بطريق التعدي كما في
القصة الأولى فاسد، وأن ذبح غير المالك إذا كان بطريق الإصلاح للمالك خشية أن تفوت
عليه المنفعة ليس بفاسد.
(9/673)
باب أكل المضطر
...
38- باب إِذَا أَكَلَ الْمُضْطَرُّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ
غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} وَقَالَ {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} وَقَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَنْ
لاَ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فُصِّلَ لَكُمْ مَا
حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا
لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُعْتَدِينَ} وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلاَ {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ
إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ
دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلاَلًا طَيِّبًا
وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ
لغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ}"
قوله: "باب إذا أكل المضطر" أي من الميتة، وكأنه أشار إلى الخلاف في ذلك
وهو في موضعين: أحدهما
(9/673)
في الحالة التي يصح الوصف بالاضطرار فيها ليباح الأكل، والثاني في مقدار ما يؤكل، فأما الأول فهو أن يصل به الجوع إلى حد الهلاك أو إلى مرض يفضي إليه، هذا قول الجمهور، وعن بعض المالكية تحديد ذلك بثلاثة أيام، قال ابن أبي جمرة: الحكمة في ذلك أن في الميتة سمية شديدة فلو أكلها ابتداء لأهلكته، فشرع له أن يجوع ليصير في بدنه بالجوع سمية أشد من سمية الميتة فإذا أكل منها حينئذ لا يتضرر ا هـ، وهذا إن ثبت حسن بالغ في غاية الحسن، وأما الثاني فذكره في تفسير قوله تعالى :{ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} وقد فسره قتادة بالمتعدي وهو تفسير معنى. وقال غيره الإثم أن يأكل فوق سد الرمق، وقيل فوق العادة وهو الراجح لإطلاق الآية. ثم محل جواز الشبع أن لا يتوقع غير الميتة عن قرب، فإن توقع امتنع إن قوى على الجوع إلا أن يجده، وذكر إمام الحرمين أن المراد بالشبع ما ينتفي الجوع لا الامتلاء حتى لا يبقى لطعام آخر مساغ فإن ذلك حرام. واستشكل بما في حديث جابر في قصة العنبر حيث قال أبو عبيدة "وقد اضطررتم فكلوا، قال فأكلنا حتى سمنا" وقد تقدم البحث فيه مبسوطا. قوله: "لقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ - إلى قوله- فَلا إِثْمَ} كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة ما حذف، وقوله: {غَيْرَ بَاغٍ} أي في أكل الميتة، وجعل الجمهور من البغي العصيان فمنعوا العاصي بسفره أن يأكل الميتة وقالوا: طريقه أن يتوب ثم يأكل، وجوزه بعضهم مطلقا. قوله: "وقال {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} أي مجاعة {غير مُتَجَانِفٍ} أي مائل. قوله: "وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} زاد في رواية كريمة الآية التي بعدها إلى قوله: {مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وفيه نسخة "إلي بالمعتدين" وبه تظهر مناسبة ذكر ذلك هنا، وإطلاق الاضطرار هنا تمسك به من أجاز أكل الميتة للعاصي وحمل الجمهور المطلق على المقيد في الآيتين الأخيرتين. قوله: "وقوله جل وعلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} ساق في رواية كريمة إلى آخر الآية وهي قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وبذلك يظهر أيضا وجه المناسبة وهو قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ}. قوله: "وقال ابن عباس: مهراقا" أي فسر ابن عباس المسفوح بالمهراق، وهو موصول عند الطبراني من طريق علي بن أبي طلحة عنه. قوله: "وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} كذا ثبت هنا لكريمة والأصيلي وسقط للباقين، وساق في نسخة الصغاني إلى قوله: "خنزير" ثم قال إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال الكرماني وغيره: عقد البخاري هذه للترجمة ولم يذكر فيها حديثا إشارة إلى أن الذي ورد فيها ليس فيه شيء على شرطه، فاكتفى بما ساق فيها من الآيات، ويحتمل أن يكون بيض فانضم بعض ذلك إلى بعض عند تبيض الكتاب. قلت: والثاني أوجه، واللائق بهذا الباب على شرطه حديث جابر في قصة العنبر، فلعله قصد أن يذكر له طريقا أخرى.
(9/674)
الخاتمة
...
"خاتمة": اشتمل كتاب الذبائح والصيد من الأحاديث المرفوعة على ثلاثة
وتسعين حديثا، المعلق منها أحد وعشرون حديثا والبقية موصولة، المكرر منها فيه
وفيما مضى تسعة وسبعون حديثا، والخالص أربعة عشر حديثا، وافقه مسلم على تخريجها
سوى حديث ابن عمر في النهي عن أن تصبر البهيمة، وحديث ابن عباس فيه، وحديث عبد
الله بن زيد في النهي عن المثلة، وحديث ابن عباس والحكم بن عمرو في الحمر الأهلية،
وحديث ابن عمر في النهي عن ضرب الصورة. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أربعة
وأربعون أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(9/674)
المجلد العاشر
كتاب الأضاحي
باب سنة الأضحية
...
المجلد العاشر
بسم الله الرحمن الرحيم
73 - كتاب الأضاحي
1 - باب سُنَّةِ الأُضْحِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ سُنَّةٌ وَمَعْرُوفٌ
5545- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ الإِيَامِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ مَا
نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ مَنْ
فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ
قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ
بْنُ نِيَارٍ وَقَدْ ذَبَحَ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً فَقَالَ اذْبَحْهَا
وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" .
قَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ عَامِرٍ عَنْ الْبَرَاءِ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ
الْمُسْلِمِينَ" .
5546- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ وَمَنْ
ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ
الْمُسْلِمِينَ" .
قوله: "كتاب الأضاحي باب سنة الأضحية" كذا لأبي ذر والنسفي، ولغيرهما
سنة الأضاحي، وهو جمع أضحية بضم الهمزة ويجوز كسرها ويجوز حذف الهمزة فتفتح الضاد
والجمع ضحايا، وهي أضحاة، والجمع أضحى وبه سمي يوم الأضحى، وهو يذكر ويؤنث، وكأن
تسميتها اشتقت من اسم الوقت الذي تشرع فيه، وكأنه ترجم بالسنة إشارة إلى مخالفة من
قال بوجوبها، قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير
واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين، وهي عند الشافعية والجمهور
سنة مؤكدة على الكفاية، وفي وجه للشافعية من فروض الكفاية، وعن أبي حنيفة تجب على
المقيم الموسر، وعن مالك مثله في رواية لكن لم يقيد بالمقيم، ونقل عن الأوزاعي
والليث مثله، وخالف أبو يوسف من الحنفية وأشهب من المالكية فوافقا الجمهور. وقال
أحمد: يكره تركها مع القدرة، وعنه واجبة، وعن محمد بن الحسن هي سنة غير مرخص في
تركها، قال الطحاوي وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدل على وجوبها اهـ. وأقرب ما
يتمسك به للوجوب حديث أبي هريرة رفعه: " من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا"
أخرجه ابن ماجه وأحمد ورجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه
بالصواب قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب. قوله: "قال ابن
عمر: هي سنة ومعروف" وصله حماد بن سلمة في مصنفه بسند جيد إلى ابن عمر،
وللترمذي محسنا من طريق جبلة بن سحيم أن رجلا سأل ابن عمر عن الأضحية: أهي واجبة؟
فقال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده، قال الترمذي: العمل على
هذا عند أهل العلم أن الأضحية ليست بواجبة، وكأنه فهم
(10/3)
من كون ابن عمر لم يقل في الجواب نعم أنه لا يقول بالوجوب، فإن الفعل المجرد لا يدل على ذلك، وكأنه أشار بقوله: "والمسلمون" إلى أنها ليست من الخصائص، وكان ابن عمر حريصا على اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك لم يصرح بعدم الوجوب، وقد احتج من قال بالوجوب بما ورد في حديث مخنف بن سليم رفعه: "على أهل كل بيت أضحية " أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي، ولا حجة فيه لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق، وقد ذكر معها العتيرة، ولبست بواجبة عند من قال بوجوب الأضحية. واستدل من قال بعدم الوجوب بحديث ابن عباس "كتب علي النحر ولم يكتب عليكم" وهو حديث ضعيف أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني والدار قطني وصححه الحاكم فذهل، وقد استوعبت طرقه ورجاله في "الخصائص" من تخريج أحاديث الرافعي، وسيأتي شيء من المباحث في وجوب الأضحية في الكلام على حديث البراء في حديث أبي بردة بن نيار بعد أبواب. ثم ذكر المصنف حديث البراء وأنس في أمر من ذبح قبل الصلاة بالإعادة، وسيأتي شرحهما مستوفى بعد أبواب. وقوله في حديث البراء "إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر " وقع في بعض الروايات "في يومنا هذا نصلي" بحذف "أن" وعليها شرح الكرماني فقال: هو مثل "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وهو على تنزيل الفعل منزلة المصدر، والمراد بالسنة هنا في الحديثين معا الطريقة لا السنة بالاصطلاح التي تقابل الوجوب، والطريقة أعم من أن تكون للوجوب أو للندب، فإذا لم يقم دليل على الوجوب بقي الندب وهو وجه إيرادها في هذه الترجمة. وقد استدل من قال بالوجوب بوقوع الأمر فيهما بالإعادة، وأجيب بأن المقصود بيان شرط الأضحية المشروعة، فهو كما لو قال لمن صلى راتبة الضحى مثلا قبل طلوع الشمس: إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك، وقوله في حديث البراء "وليس من النسك في شيء" النسك يطلق ويراد به الذبيحة ويستعمل في نوع خاص من الدماء المراقة، ويستعمل بمعنى العبادة وهو أعم يقال فلان ناسك أي عابد، وقد استعمل في حديث البراء بالمعنى الثالث وبالمعنى الأول أيضا في قوله في الطريق الأخرى "من نسك قبل الصلاة فلا نسك له" أي من ذبح قبل الصلاة فلا ذبح له أي لا يقع عن الأضحية، وقوله فيه: "وقال مطرف" يعني ابن طريف بالطاء المهملة وزن عظيم، وعامر هو الشعبي، وقد تقدمت رواية مطرف موصولة في العيدين وتأتي أيضا بعد ثمانية أبواب. قوله: "إسماعيل" هو ابن علية، وأيوب هو السختياني، ومحمد هو ابن سيرين، والإسناد كله بصريون.
(10/4)
2 - باب قِسْمَةِ
الإِمَامِ الأَضَاحِيَّ بَيْنَ النَّاسِ
5547- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ
بَعْجَةَ الْجُهَنِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ:
"قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ
ضَحَايَا فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ جَذَعَةٌ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَارَتْ
لِي جَذَعَةٌ قَالَ ضَحِّ بِهَا" .
قوله: "باب قسمة الإمام الأضاحي بين الناس" أي بنفسه أو بأمره. قوله:
"هشام" هو الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن بعجة"
في رواية مسلم من طريق معاوية بن سلام عن يحيى أخبرني بعجة بن عبد الله، وهو بفتح
الموحدة وسكون المهملة بعدها جيم، واسم جده بدر، وهو تابعي معروف ما له في البخاري
إلا هذا الحديث، وقد أزالت رواية مسلم ما يخشى من تدليس يحيى بن أبي كثير. قوله:
"عن عقبة" في رواية مسلم المذكورة
(10/4)
أن عقبة بن عامر أخبره. قوله: "قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ضحايا" سيأتي بعد أربعة أبواب أن عقبة هو الذي باشر القسمة، وتقدم في الشركة "باب وكالة الشريك للشريك في القسمة" وأورده فيه أيضا، وأشار إلى أن عقبة كان له في تلك الغنم نصيب باعتبار أنها كانت من الغنائم، وكذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم فيها نصيب، ومع هذا فوكله في قسمتها وقدمت له هناك توجيها آخر، وهذا التوجيه أقوى منه. قال ابن المنير يحتمل أن يكون المراد أنه أطلق عليها ضحايا باعتبار ما يئول إليه الأمر، ويحتمل أن يكون عينها للأضحية ثم قسمها بينهم ليحوز كل واحد نصيبه، فيؤخذ منه جواز قسمة لحم الأضحية بين الورثة ولا يكون ذلك بيعا، وهي مسألة خلاف للمالكية، قال: وما أرى البخاري مع دقة نظره قصد بالترجمة إلا هذا، كذا قال. قوله: "فصارت لعقبة" أي ابن عامر "جذعة" بفتح الجيم والذال المعجمة هو وصف لسن معين من بهيمة الأنعام، فمن الضأن ما أكمل السنة وهو قول الجمهور، وقيل دونها. ثم اختلف في تقديره فقيل ابن ستة أشهر وقيل ثمانية وقيل عشرة، وحكى الترمذي عن وكيع أنه ابن ستة أشهر أو سبعة أشهر. وعن ابن الأعرابي أن ابن الشابين يجذع لستة أشهر إلى سبعة وابن الهرمين يجذع لثمانية إلى عشرة، قال والضأن أسرع إجذاعا من المعز، وأما الجذع من المعز فهو ما دخل في السنة الثانية ومن البقر ما أكمل الثالثة ومن الإبل ما دخل في الخامسة، وسيأتي بيان المراد بها هنا قريبا، وأنها كانت من المعز بعد أربعة أبواب.
(10/5)
3 - باب
الأُضْحِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ
5548- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَحَاضَتْ
بِسَرِفَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ: مَا لَكِ
أَنَفِسْتِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى
بَنَاتِ آدَمَ فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي
بِالْبَيْتِ" فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ مَا
هَذَا قَالُوا ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ".
قوله: "باب الأضحية للمسافر والنساء" فيه إشارة إلى خلاف من قال إن
المسافر لا أضحية عليه، وقد تقدم نقله في أول الباب، وإشارة إلى خلاف من قال إن
النساء لا أضحية عليهن، ويحتمل أن يشير إلى خلاف من منع من مباشرتهن التضحية، فقد
جاء عن مالك كراهة مباشرة المرأة الحائض للتضحية. قوله: "سفيان" هو ابن
عيينة، ولم يسمع مسدد من سفيان الثوري. قوله: "عن عبد الرحمن بن القاسم"
في رواية علي بن عبد الله عن سفيان "سمعت عبد الرحمن بن القاسم" وتقدمت
في كتاب الحيض. قوله: "بسرف" بفتح المهملة وكسر الراء مكان معروف خارج
مكة. قوله: "أنفست؟" قيده الأصيلي وغيره بضم النون أي حضت، ويجوز الفتح.
وقيل هو في الحيض بالفتح فقط وفي النفاس بالفتح والضم. قوله: "قالت فلما كنا
بمنى أتيت بلحم بقر" تقدم في الحج من وجه آخر عن عائشة أخصر من هذا، وتقدم
شرحه مبينا هناك. وقوله: "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه
بالبقر" ظاهر في أن الذبح المذكور كان على سبيل الأضحية، وحاول ابن التين
تأويله ليوافق مذهبه فقال: المراد أنه ذبحها وقت ذبح الأضحية وهو ضحى يوم النحر،
قال: وإن حمل على ظاهره فيكون تطوعا لا على أنها سنة الأضحية، كذا
(10/5)
قال ولا يخفى بعده، واستدل به الجمهور على أن ضحية الرجل تجزي عنه وعن أهل بيته، وخالف في ذلك الحنفية، وادعى الطحاوي أنه مخصوص أو منسوخ ولم يأت لذلك بدليل، قال القرطبي: لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كل واحدة من نسائه بأضحية مع تكرار سني الضحايا ومع تعددهن، والعادة تقضي بنقل ذلك لو وقع كما نقل غير ذلك من الجزئيات، ويؤيده ما أخرجه مالك وابن ماجه والترمذي وصححه من طريق عطاء بن يسار "سألت أبا أيوب: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال؛ كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، حتى تناهى الناس كما ترى".
(10/6)
4 - باب مَا
يُشْتَهَى مِنْ اللَّحْمِ يَوْمَ النَّحْرِ
5549- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ
سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ
النَّحْرِ: "مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيُعِدْ" فَقَامَ
رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ
وَذَكَرَ جِيرَانَهُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَرَخَّصَ
لَهُ فِي ذَلِكَ فَلاَ أَدْرِي بَلَغَتْ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لاَ ثُمَّ
انْكَفَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَبْشَيْنِ
فَذَبَحَهُمَا وَقَامَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَتَوَزَّعُوهَا أَوْ قَالَ
فَتَجَزَّعُوهَا".
قوله: "باب ما يشتهى من اللحم يوم النحر" أي اتباعا للعادة بالالتذاذ
بأكل اللحم يوم العيد. وقال الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} . قوله:
"حدثنا صدقة" هو ابن الفضل، وابن علية هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم.
قوله: "فقام رجل" هو أبو بردة بن نيار كما في حديث البراء. قوله:
"إن هذا يوم يشتهى فيه اللحم" في رواية داود بن أبي هند الشعبي عند
مسلم: "فقال يا رسول الله، إن هذا يوم اللحم فيه مكروه" وفي لفظ له "مقروم"
وهو بسكون القاف، قال عياض رويناه في مسلم من طريق الفارسي والسجزي
"مكروه" ومن طريق العذري "مقروم" وقد صوب بعضهم هذه الرواية
الثانية وقال معناه يشتهى فيه اللحم يقال قرمت إلى اللحم وقرمته إذا اشتهيته فهو
موافق للرواية الأخرى "إن هذا يوم يشتهى فيه اللحم" قال عياض: وقال بعض
شيوخنا صواب الرواية: "اللحم فيه مكروه" بفتح الحاء وهو اشتهاء اللحم
والمعنى ترك الذبح والتضحية وإبقاء أهله فيه بلا لحم حتى يشتهوه مكروه، قال وقال
لي الأستاذ أبو عبد الله بن سليمان معناه ذبح ما لا يجزي في الأضحية مما هو لحم
اهـ، وبالغ ابن العربي فقال: الرواية بسكون الحاء هنا غلط وإنما هو اللحم
بالتحريك، يقال لحم الرجل بكسر الحاء يلحم بفتحها إذا كان يشتهي اللحم، وأما
القرطبي في "المفهم" فقال تكلف بعضهم ما لا يصح رواية أي اللحم بالتحريك
ولا معنى وهو قول الآخر معنى المكروه أنه مخالف للسنة قال وهو كلام من لم يتأمل سياق
الحديث فإن هذا التأويل لا يلائمه، إذ لا يستقيم أن يقول إن هذا اليوم اللحم فيه
مخالف للسنة وإني عجلت لأطعم أهلي، قال: وأقرب ما يتكلف لهذه الرواية أن معناه
اللحم فيه مكروه التأخير فحذف لفظ التأخير لدلالة قوله عجلت. وقال النووي: ذكر
الحافظ أبو موسى أن معناه هذا يوم طلب اللحم فيه مكروه شاق قال: وهو معنى حسن قلت:
يعني طلبه من الناس كالصديق والجار، فاختار هو أن لا يحتاج أهله إلى ذلك فأغناهم
بما ذبحه عن الطلب. ووقع
(10/6)
في رواية منصور عن الشعبي كما مضى في العيدين "وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، فأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي" ويظهر لي أن بهذه الرواية يحصل الجمع بين الروايتين المتقدمتين، وأن وصفه اللحم بكونه مشتهى وبكونه مكروها لا تناقض فيه وإنما هو باعتبارين: فمن حيث أن العادة جرت فيه بالذبائح فالنفس تتشوق له يكون مشتهى، ومن حيث توارد الجميع عليه حتى يكثر يصير ممولا فأطلقت عليه الكراهة لذلك، فحيث وصفه بكونه مشتهى أراد ابتداء حاله، وحيث وصفه بكونه مكروها أراد انتهاءه، ومن ثم استعجل بالذبح ليفوز بتحصيل الصفة الأولى عند أهله وجيرانه. ووقع في رواية فراس عن الشعبي عند مسلم: "فقال خالي: يا رسول الله قد نكست عن ابن لي" وقد استشكل هذا، وظهر لي أن مراده أنه ضحى لأجله للمعنى الذي ذكره في أهله وجيرانه، فخص ولده بالذكر أنه أخص بذلك عنده حتى يستغني ولده بما عنده عن التشوف إلى ما عند غيره. قوله: "وذكر جيرانه" في رواية عاصم عند مسلم وإني عجلت فيه نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري. قوله: "فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا" قد وقع في حديث البراء اختصاصه بذلك كما سيأتي بعد أبواب، ويأتي البحث فيه، كأن أنسا لم يسمع ذلك، وقد روى ابن عون عن الشعبي حديث البراء وعن ابن سيرين حديث أنس فكان إذا حدث حديث البراء يقف عند قوله: "ولن تجزي عن أحد بعدك" ويحدث بقول أنس "لا أدري أبلغت الرخصة غيره أم لا" ولعله استشكل الخصوصية بذلك لما جاء من ثبوت ذلك لغير أبي بردة كما سيأتي بيانه قريبا. قوله: "ثم انكفأ" مهموز أي مال يقال كفأت الإناء إذا أملته، والمراد أنه رجع عن مكان الخطبة إلى مكان الذبح. قوله: "وقام الناس" كذا هنا، وفي الرواية الآتية في "باب من ذبح قبل الصلاة أعاد" فتمسك به ابن التين في أن من ذبح قبل الإمام لا يجزئه، وسيأتي البحث فيه. قوله: "إلى غنيمة" بغين معجمة ونون مصغر "فتوزعوها أو قال فتجزعوها" شك من الراوي، والأول بالزاي من التوزيع وهو التفرقة أي تفرقوها، والثاني بالجيم والزاي أيضا من الجزع وهو القطع أي اقتسموها حصصا، وليس المراد أنهم اقتسموها بعد الذبح فأخذ كل واحد قطعة من اللحم وإنما المراد أخذ حصة من الغنم، والقطعة تطلق على الحصة من كل شيء، فبهذا التقرير يكون المعنى واحدا وإن كان ظاهره في الأصل الاختلاف.
(10/7)
5 - باب مَنْ قَالَ
الأَضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ
5550- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي
بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ
وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قُلْنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ
بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ بَلَدٍ
هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ
سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ قُلْنَا بَلَى قَالَ
فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى
ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ
قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ
وَأَحْسِبُهُ
(10/7)
قَالَ:
وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ
هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ
أَعْمَالِكُمْ أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلاَلاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ
رِقَابَ بَعْضٍ أَلاَ لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ
يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ وَكَانَ
مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ صَدَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟
مَرَّتَيْنِ" .
قوله: "باب من قال الأضحى يوم النحر" قال ابن المنير أخذه من إضافة
اليوم إلى النحر حيث قال: "أليس يوم النحر" واللام للجنس فلا يبقى نحر
إلا في ذلك اليوم، قال والجواب على مذهب الجماعة أن المراد النحر الكامل واللام
تستعمل كثيرا للكمال كقوله: "الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". قلت:
واختصاص النحر باليوم العاشر قول حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن سيرين وداود الظاهري،
وعن سعيد بن جبير وأبي الشعثاء مثله إلا في منى فيجوز ثلاثة أيام، ويمكن أن يتمسك
لذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه: "أمرت بيوم الأضحى عيدا جعله
الله لهذه الأمة" الحديث صححه ابن حبان. وقال القرطبي: التمسك بإضافة النحر
إلى اليوم الأول ضعيف مع قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ويحتمل أن يكون
أراد أن أيام النحر الأربعة أو الثلاثة لكل واحد منها اسم يخصه، فالأضحى هو اليوم
العاشر والذي يليه يوم القر والذي يليه يوم النفر الأول والرابع يوم النفر الثاني.
وقال ابن التين: مراده أنه يوم تنحر فيه الأضاحي في جميع الأقطار، وقيل مراده لا
ذبح إلا فيه خاصة، يعني كما تقدم نقله عمن قال به. وزاد مالك: ويذبح أيضا في يومين
بعده. وزاد الشافعي اليوم الرابع، قال وقيل يذبح عشرة أيام ولم يعزه لقائل، وقيل
إلى آخر الشهر وهو عن عمر بن عبد العزيز وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار
وغيرهم. وقال به ابن حزم متمسكا بعدم ورود نص بالتقييد. وأخرج ما رواه ابن أبي
شيبة من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار قالا عن النبي صلى الله عليه
وسلم مثله، قال: وهذا سند صحيح إليهما، لكنه مرسل فيلزم من يحتج بالمرسل أن يقول
به. قلت: وسيأتي عن أبي أمامة ابن سهل في الباب الذي يليه شيء من ذلك، وبمثل قول
مالك قال الثوري وأبو حنيفة وأحمد، وبمثل قول الشافعي قال الأوزاعي. قال ابن بطال
تبعا للطحاوي: ولم ينقل عن الصحابة غير هذين القولين، وعن قتادة ستة أيام بعد
العاشر. وحجة الجمهور حيث جبير بن مطعم رفعه: "فجاج منى منحر، وفي كل أيام
التشريق ذبح " أخرجه أحمد لكن في سنده انقطاع، ووصله الدار قطني ورجاله ثقات،
واتفقوا على أنها تشرع ليلا كما تشرع نهارا إلا رواية عن مالك وعن أحمد أيضا. حديث
محمد - وهو ابن سيرين - عن ابن أبي بكرة وهو عبد الرحمن وقد تقدم شرحه في العلم،
وفي "باب الخطبة أيام منى" من كتاب الحج شيء منه، وكذا في تفسير براءة.
قوله: "ثلاث متواليات إلى قوله ورجب مضر" هذا هو الصواب وهو عدها من
سنتين، ومنهم من عدها سنة واحدة فبدأ بالمحرم لكن الأول أليق ببيان المتوالية. وشذ
من أسقط رجبا وأبدله بشوال زاعما أنه بذلك تتوالى الأشهر الحرم وأن ذلك المراد
بقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} حكاه ابن التين.
قوله: "قال وأحسبه" هو ابن سيرين كأنه كان يشك في هذه اللفظة وقد ثبتت
في رواية غيره. وكذا قوله: "فكان محمد إذا ذكره" في رواية الكشميهني:
"ذكر". قوله: "أن يكون أوعى له من بعض من سمعه" كذا للأكثر
بالواو أي أكثر وعيا له وتفهما فيه، ووقع في رواية الأصيلي
(10/8)
والمستملي: "أرعى" بالراء من الرعاية ورجحها بعض الشراح. وقال صاحب "المطالع": هي وهم، وقوله: "قال ألا هل بلغت" القائل هو النبي صلى الله عليه وسلم وهو بقية الحديث، ولكن الراوي فصل بين قوله: "بعض من سمعه" وبين قوله: "ألا هل بلغت" بكلام ابن سيرين المذكور.
(10/9)
6 - باب الأَضْحَى
وَالْمَنْحَرِ بِالْمُصَلَّى
5551- حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا عبيد الله عن
نافع قال: "كان عبد الله ينحر في المنحر". قال عبيد الله: يعني منحر
النبي صلى الله عليه وسلم.
5552- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن كثير بن فرقد عن نافع أن بن عمر رضي الله
عنهما أخبره قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر
بالمصلى".
قوله: "باب الأضحى والنحر بالمصلى" قال ابن بطال: هو سنة للإمام خاصة
عند مالك، قال مالك فيما رواه ابن وهب: إنما يفعل ذلك لئلا يذبح أحد قبله، زاد
المهلب: وليذبحوا بعده على يقين، وليتعلموا منه صفة الذبح. وذكر فيه المؤلف حديث
ابن عمر من وجهين: أحدهما موقوف، والثاني مرفوع "كان النبي صلى الله عليه
وسلم يذبح وينحر بالمصلى" وهو اختلاف على نافع، وقيل بل المرفوع يدل على
الموقوف لأن قوله في الموقوف كان في منحر النبي صلى الله عليه وسلم يريد به المصلى
بدلالة الحديث المرفوع المصرح بذلك. وقال ابن التين: هو مذهب مالك أن الإمام يبرز
أضحيته للمصلى فيذبح هناك، وبالغ بعض أصحابه وهو أبو مصعب فقال: من لم يفعل ذلك لم
يؤتم به. وقال ابن العربي: قال أبو حنيفة ومالك لا يذبح حتى يذبح الإمام إن كان
ممن يذبح، قال ولم أر له دليلا.
(10/9)
7 - باب
أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ
أَقْرَنَيْنِ. وَيُذْكَرُ سَمِينَيْنِ
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ قَالَ:
"كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ
يُسَمِّنُونَ".
5553- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ
وَأَنَا أُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ".
[الحديث 5553 – أطرافه في: 5554، 5558، 5564، 5565، 7399]
5554- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ
أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ".
تَابَعَهُ وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَحَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ
عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ.
5555- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ
أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ غَنَماً يَقْسِمُهَا
عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "ضَحِّ به أَنْتَ" .
(10/9)
8 - باب قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بُرْدَةَ: " ضَحِّ
بِالْجَذَعِ مِنْ الْمَعَزِ وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ"
5556- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
مُطَرِّفٌ عَنْ عَامِرٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عِنْدِي دَاجِناً جَذَعَةً مِنْ الْمَعَزِ
قَالَ اذْبَحْهَا وَلَنْ تَصْلُحَ لِغَيْرِكَ ثُمَّ قَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ
الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَدْ
تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ".
تَابَعَهُ عُبَيْدَةُ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَتَابَعَهُ وَكِيعٌ عَنْ
حُرَيْثٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَقَالَ عَاصِمٌ وَدَاوُدُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عِنْدِي
عَنَاقُ لَبَنٍ وَقَالَ زُبَيْدٌ وَفِرَاسٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ "عِنْدِي
جَذَعَةٌ" وَقَالَ أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنَاقٌ جَذَعَةٌ
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: "عَنَاقٌ جَذَعٌ عَنَاقُ لَبَنٍ".
5557- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ:
"ذَبَحَ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَبْدِلْهَا قَالَ لَيْسَ عِنْدِي إِلاَّ
جَذَعَةٌ قَالَ شُعْبَةُ وَأَحْسِبُهُ
(10/12)
قَالَ هِيَ خَيْرٌ
مِنْ مُسِنَّةٍ قَالَ اجْعَلْهَا مَكَانَهَا وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ
بَعْدَكَ" .
وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ "عَنَاقٌ
جَذَعَةٌ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة ضح بالجذع من المعز، ولن
تجزي عن أحد بعدك" أشار بذلك إلى أن الضمير في قول النبي صلى الله عليه وسلم
في الرواية التي ساقها "اذبحها" للجذعة التي تقدمت في قول الصحابي
"إن عندي داجنا جذعة من المعز". قوله: "حدثنا مطرف" هو ابن
طريف بمهملة وزن عقيل، وعامر هو الشعبي. قوله: "ضحى خال لي يقال له أبو
بردة" في رواية زبيد عن الشعبي في أول الأضاحي "أبو بردة بن نيار"
وهو بكسر النون وتخفيف الياء المثناة من تحت وآخره راء واسمه هانئ واسم جده عمرو
بن عبيد وهو بلوي من حلفاء الأنصار، وقد قيل: إن اسمه الحارث بن عمرو وقيل مالك بن
هبيرة والأول هو الأصح. وأخرج ابن منده من طريق جابر الجعفي عن الشعبي عن البراء
قال: "كان اسم خالي قليلا فسماه النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا. وقال: يا
كثير إنما نسكنا بعد صلاتنا" ثم ذكر حديث الباب بطوله، وجابر ضعيف وأبو بردة
ممن شهد العقبة وبدرا والمشاهد وعاش إلى سنة اثنتين وقيل خمس وأربعين، وله في
البخاري حديث سيأتي في الحدود. قوله: "شاتك شاة لحم" أي ليست أضحية بل
هو لحم ينتفع به كما وقع في رواة زبيد "فإنما هو لحم يقدمه لأهله"
وسيأتي في "باب الذبح بعد الصلاة" وفي رواية فراس عند مسلم قال:
"ذاك شيء عجلته لأهلك" وقد استشكلت الإضافة في قوله شاة لحم، وذلك أن
الإضافة قسمان: معنوية ولفظية، فالمعنوية إما مقدرة بمن كخاتم حديد أو باللام
كغلام زيد أو بفي كضرب اليوم معناه ضرب في اليوم. وأما اللفظية فهي صفة مضافة إلى
معمولها كضارب زيد وحسن الوجه، ولا يصح شيء من الأقسام الخمسة في شاة لحم، قال
الفاكهي: والذي يظهر لي أن أبا بردة لما اعتقد أن شاته شاة أضحية أوقع صلى الله
عليه وسلم في الجواب قوله شاة لحم موقع قوله شاة غير أضحية. قوله: "إن عندي
داجنا" الداجن التي تألف البيوت وتستأنس وليس لها سن معين، ولما صار هذا
الاسم علما على ما يألف البيوت اضمحل الوصف عنه فاستوى فيه المذكر والمؤنث.
والجذعة تقدم بيانها، وقد بين في هذه الرواية أنها من المعز، ووقع في الرواية
الأخرى كما سيأتي بيانه "فإن عندنا عناقا" وفي رواية أخرى "عناق
لبن" والعناق بفتح العين وتخفيف النون الأنثى من ولد المعز عند أهل اللغة،
ولم يصب الداودي في زعمه أن العناق هي التي استحقت أن تحمل وأنها تطلق على الذكر
والأنثى وأنه بين بقوله: "لبن" أنها أنثى، قال ابن التين: غلط في نقل
اللغة وفي تأويل الحديث، فإن معنى "عناق لبن" أنها صغيرة سن ترضع أمها.
ووقع عند الطبراني من طريق سهل بن أبي حثمة "أن أبا بردة ذبح ذبيحته بسحر،
فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما الأضحية ما ذبح بعد الصلاة، اذهب
فضح، فقال: ما عندي إلا جذعة من المعز" الحديث. قلت: وسيأتي بيان ذلك عند ذكر
التعاليق التي ذكرها المصنف عقب هذه الرواية، وزاد في رواية أخرى "هي أحب إلي
من شاتين" وفي رواية لمسلم: "من شاتي لحم" والمعنى أنها أطيب لحما
وأنفع للآكلين لسمنها ونفاستها. وقد استشكل هذا بما ذكر أن عتق نفسين أفضل من عتق
نفس واحدة ولو كانت أنفس منهما، وأجيب بالفرق بين الأضحية والعتق أن الأضحية يطلب
فيها كثرة اللحم فتكون الواحدة السمينة أولى من الهزيلتين. والعتق يطلب فيه التقرب
إلى الله بفك الرقبة فيكون عتق الاثنين أولى من عتق الواحدة، نعم إن عرض للواحد
وصف يقتضي رفعته على غيره
(10/13)
- كالعلم وأنواع الفضل المتعدي - فقد جزم بعض المحققين بأنه أولى لعموم نفعه للمسلمين. ووقع في الرواية الأخرى التي في أواخر الباب وهي "خير من مسنة" وحكى ابن التين عن الداودي أن المسنة التي سقطت أسنانها للبدل. وقال أهل اللغة المسن الثني الذي يلقي سنه، ويكون في ذات الخف في السنة السادسة وفي ذات الظلف والحافر في السنة الثالثة. وقال ابن فارس: إذا دخل ولد الشاة في الثالثة فهو ثني ومسن. قوله: "قال اذبحها ولا تصلح لغيرك" في رواية فراس الآتية في "باب من ذبح قبل الإمام". "أأذبحها؟ قال: نعم، ثم لا تجزي عن أحد بعدك" ولمسلم من هذا الوجه "ولن تجزي الخ" وكذا في رواية أبي جحيفة عن البراء كما في أواخر هذا الباب: "ولن تجزي عن أحد بعدك" وفي حديث سهل بن أبي حثمة "وليست فيها رخصة لأحد بعدك" وقوله: "تجزي" بفتح أوله غير مهموز أي تقضي، يقال جزا عني فلان كذا أي قضى، ومنه {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أي لا تقضي عنها، قال ابن بري: الفقهاء يقولون لا تجزئ بالضم والهمز في موضع لا تقضي والصواب بالفتح وترك الهمز، قال: لكن يجوز الضم والهمز بمعنى الكفاية، يقال أجزأ عنك. وقال صاحب "الأساس": بنو تميم يقولون البدنة تجزي عن سبعة بضم أوله، وأهل الحجاز تجزي بفتح أوله، وبهما قرئ {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} وفي هذا تعقب على من نقل الاتفاق على منع ضم أوله. وفي هذا الحديث تخصيص أبي بردة بإجزاء الجذع من المعز في الأضحية، لكن وقع في عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة، ففي حديث عقبة بن عامر كما تقدم قريبا "ولا رخصة فيها لأحد بعدك" قال البيهقي: إن كانت هذه الزيادة محفوظة كان هذا رخصة لعقبة كما رخص لأبي بردة. قلت: وفي هذا الجمع نظر، لأن في كل منهما صيغة عموم، فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني، وأقرب ما يقال فيه: إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحا، وقد انفصل ابن التين - وتبعه القرطبي - عن هذا الإشكال باحتمال أن يكون العتود كان كبير السن بحيث يجزي، لكنه قال ذلك بناء على أن الزيادة التي في آخره لم تقع له، ولا يتم مراده مع وجودها مع مصادمته لقول أهل اللغة في العتود، وتمسك بعض المتأخرين بكلام ابن التين فضعف الزيادة، وليس بجيد، فإنها خارجة من مخرج الصحيح، فإنها عند البيهقي من طريق عبد الله البوشنجي أحد الأئمة الكبار في الحفظ والفقه وسائر فنون العلم، رواها عن يحيى بن بكير عن الليث بالسند الذي ساقه البخاري، ولكني رأيت الحديث في "المتفق للجوزقي" من طريق عبيد بن عبد الواحد ومن طريق أحمد بن إبراهيم بن ملحان كلاهما عن يحيى بن بكير وليست الزيادة فيه، فهذا هو السر في قول البيهقي إن كانت محفوظة، فكأنه لما رأى التفرد خشي أن يكون دخل على راويها حديث في حديث، وقد وقع في كلام بعضهم أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة أو خمسة، واستشكل الجمع وليس بمشكل، فإن الأحاديث التي وردت في ذلك ليس فيها التصريح بالنفي إلا في قصة أبي بردة في الصحيحين وفي قصة عقبة بن عامر في البيهقي، وأما عدا ذلك فقد أخرج أبو داود وأحمد وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودا جذعا فقال ضح به، فقلت إنه جذع أفأضحي به؟ قال نعم ضح به، فضحيت به" لفظ أحمد، وفي صحيح ابن حبان وابن ماجه من طريق عباد بن تميم "عن عويمر بن أشقر أنه ذبح أضحيته قبل أن يغدو يوم الأضحى، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد أضحية أخرى" وفي الطبراني الأوسط من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحي به" وأخرجه الحاكم
(10/14)
من حديث عائشة وفي سنده ضعف، ولأبي يعلى والحاكم من حديث أبي هريرة "أن رجلا قال: يا رسول الله هذا جذع من الضأن مهزول وهذا جذع من المعز سمين وهو خيرهما أفأضحي به؟ قال: ضح به فإن الله الخير " وفي سنده ضعف. والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث وبين حديثي أبي بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر ثم قرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزي، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك، وإنما قلت ذلك لأن بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا عقبة وأبا بردة في ذلك، والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير، ومنهم من زاد فيهم عويمر بن أشقر وليس في حديثه إلا مطلق الإعادة لكونه ذبح قبل الصلاة، وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي زيد الأنصاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: اذبحها ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك" فهذا يحمل على أنه أبو بردة بن نيار فإنه من الأنصار، وكذا ما أخرجه أبو يعلى والطبراني من حديث أبي جحيفة "أن رجلا ذبح قبل الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجزي عنك، قال إن عندي جذعة، فقال: تجزي عنك ولا تجزي بعد" فلم يثبت الإجزاء لأحد ونفيه عن الغير إلا لأبي بردة وعقبة، وإن تعذر الجمع الذي قدمته فحديث أبي بردة أصح مخرجا والله أعلم. قال الفاكهي: ينبغي النظر في اختصاص أبي بردة بهذا الحكم وكشف السر فيه، وأجيب بأن الماوردي قال: إن فيه وجهين أحدهما أن ذلك كان قبل استقرار الشرع فاستثني، والثاني أنه علم من طاعته وخلوص نيته ما ميزه عمن سواه. قلت: وفي الأول نظر، لأنه لو كان سابقا لامتنع وقوع ذلك لغيره بعد التصريح بعدم الإجزاء لغيره، والفرض ثبوت الإجزاء لعدد غيره كما تقدم. وفي الحديث أن الجذع من المعز لا يجزي وهو قول الجمهور، وعن عطاء وصاحبه الأوزاعي يجوز مطلقا، وهو وجه لبعض الشافعية حكاه الرافعي. وقال النووي: وهو شاذ أو غلط، وأغرب عياض فحكى الإجماع على عدم الإجزاء، قيل والإجزاء مصادر للنص ولكن يحتمل أن يكون قائله قيد ذلك بمن لم يجد غيره، ويكون معنى نفي الإجزاء عن غير من أذن له في ذلك محمولا على من وجد، وأما الجذع من الضأن فقال الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لكن حكى غيره عن ابن عمر والزهري أن الجذع لا يجزي مطلقا سواء كان من الضأن أم من غيره، وممن حكاه عن ابن عمر ابن المنذر في "الأشراف" وبه قال ابن حزم وعزاه لجماعة من السلف وأطنب في الرد على من أجازه، ويحتمل أن يكون ذلك أيضا مقيدا بمن لم يجد، وقد صح فيه حديث جابر رفعه: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم لكن نقل النووي عن الجمهور أنهم حملوه على الأفضل، والتقدير يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فاذبحوا جذعة من الضأن. قال: وليس فيه تصريح بمنع الجذعة من الضأن وأنها لا تجزي، قال: وقد أجمعت الأمة على أن الحديث ليس على ظاهره، لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويله. قلت: ويدل للجمهور الأحاديث الماضية قريبا، وكذا حديث أم هلال بنت هلال عن أبيها رفعه: "يجوز الجذع من الضأن أضحية" أخرجه ابن ماجه، وحديث رجل من بني سليم يقال له مجاشع "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الجذع يوفي ما يوفي منه الثني" أخرجه أبو داود وابن ماجه، وأخرجه النسائي من وجه آخر، لكن لم يسم الصحابي، بل وقع عنده أنه رجل من مزينة، وحديث معاذ بن عبد الله بن حبيب عن عقبة بن عامر "ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجذع من الضأن" أخرجه النسائي بسند قوي، وحديث
(10/15)
أبي هريرة رفعه: "نعمت الأضحية الجذعة من الضأن" أخرجه الترمذي وفي سنده ضعف. واختلف القائلون بإجزاء الجذع من الضأن - وهم الجمهور - في سنه على آراء: أحدها أنه ما أكمل سنة ودخل في الثانية وهو الأصح عند الشافعية وهو الأشهر عند أهل اللغة، ثانيها نصف قول الحنفية والحنابلة، ثالثها سبعة أشهر وحكاه صاحب "الهداية" من الحنفية عن الزعفراني، رابعها ستة أو سبعة حكاه الترمذي عن وكيع، خامسها التفرقة بين ما تولد بين شابين فيكون له نصف سنة أو بين هرمين فيكون ابن ثمانية، سادسها ابن عشر، سابعها لا يجزي حتى يكون عظيما حكاه ابن العربي وقال: إنه مذهب باطل، كذا قال، وقد قال صاحب "الهداية" إنه إذا كانت عظيمة بحيث لو اختلطت بالثنيات اشتبهت على الناظر من بعيد أجزأت. وقال العبادي من الشافعية: لو أجذع قبل السنة أي سقطت أسنانه أجزأ كما لو تمت السنة قبل أن يجذع ويكون ذلك كالبلوغ إما بالسن وإما بالاحتلام، وهكذا قال البغوي: الجذع ما استكمل السنة أو جذع قبلها، والله أعلم. قوله: "ثم قال من ذبح قبل الصلاة" أي صلاة العيد "فإنما يذبح لنفسه" أي وليس أضحية "ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه" أي عبادته "وأصاب سنة المسلمين" أي طريقتهم. هكذا وقع في هذه الرواية أن هذا الكلام وقع بعد قصة أبي بردة بن نيار، والذي في معظم الروايات كما سيأتي قريبا من رواية زبيد عن الشعبي أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم وقع في الخطبة بعد الصلاة وأن خطاب أبي بردة بما وقع له كان قبل ذلك وهو المعتمد ولفظه: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا، فقال أبو بردة: يا رسول الله ذبحت قبل أن أصلي" وتقدم في العيدين من طريق منصور عن الشعبي عن البراء قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فإنه لا نسك له؟ فقال أبو بردة" فذكر الحديث، وسيأتي بيان الحكم في هذا قريبا في "باب من ذبح قبل الصلاة أعاد" إن شاء الله تعالى. واستدل به على وجوب الأضحية على من التزم الأضحية فأفسد ما يضحي به، ورده الطحاوي بأنه لو كان كذلك لتعرض إلى قيمة الأولى ليلزم بمثلها، فلما لم يعتبر ذلك دل على أن الأمر بالإعادة كان على جهة الندب، وفيه بيان ما يجري في الأضحية لا على وجوب الإعادة. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن المرجع في الأحكام إنما هو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد يخص بعض أمته بحكم ويمنع غيره منه ولو كان بغير عذر، وأن خطابه للواحد يعم جميع المكلفين حتى يظهر دليل الخصوصية، لأن السياق يشعر بأن قوله لأبي بردة ضح به أي بالجذع، ولو كان يفهم منه تخصيصه بذلك لما احتاج إلى أن يقول له "ولن تجزي عن أحد بعدك". ويحتمل أن تكون فائدة ذلك قطع إلحاق غيره به في الحكم المذكور لا أن ذلك مأخوذ من مجرد اللفظ وهو قوي. واستدل بقوله: "اذبح مكانها أخرى" وفي لفظ: "أعد نسكا" وفي لفظ: "ضح بها" وغبر ذلك من الألفاظ المصرحة بالأمر بالأضحية على وجوب الأضحية، قال القرطبي في "المفهم": ولا حجة في شيء من ذلك، وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية لمن أراد أن يفعلها أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأ أو جهلا، فبين له وجه تدارك ما فرط منه، وهذا معنى قوله: "لا تجزي عن أحد بعدك" أي لا يحصل له مقصود القربة ولا الثواب، كما يقال في صلاة النفل: لا تجزي إلا بطهارة وستر عورة، قال: وقد استدل بعضهم للوجوب بأن الأضحية من شريعة إبراهيم الخليل وقد أمرنا باتباعه، ولا حجة فيه لأنا نقول بموجبه، ويلزمهم الدليل على أنها كانت في شريعة إبراهيم واجبة ولا سبيل إلى
(10/16)
علم ذلك، ولا دلالة في قصة الذبيح للخصوصية التي فيها، والله أعلم. وفيه أن الإمام يعلم الناس في خطبة العيد أحكام النحر. وفيه جواز الاكتفاء في الأضحية بالشاة الواحدة عن الرجل وعن أهل بيته، وبه قال الجمهور، وقد تقدمت الإشارة إليه قبل، وعن أبي حنيفة والثوري: يكره. وقال الخطابي: لا يجوز أن يضحى بشاة واحدة عن اثنين، وادعى نسخ ما دل عليه حديث عائشة الآتي في "باب من ذبح ضحية غيره"، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه أن العمل وإن وافق نية حسنة لم يصح إلا إذا وقع على وفق الشرع. وفيه جواز أكل اللحم يوم العيد من غير لحم الأضحية لقوله: "إنما هو لحم قدمه لأهله" . وفيه كرم الرب سبحانه وتعالى لكونه شرع لعبيده الأضحية مع ما لهم فيها من الشهوة بالأكل والادخار ومع ذلك فأثبت لهم الأجر في الذبح، ثم من تصدق أثيب وإلا لم يأثم. قوله: "تابعه عبيدة عن الشعبي وإبراهيم، وتابعه وكيع عن حريث عن الشعبي" قلت: أما عبيدة فهو بصيغة التصغير وهو ابن معتب بضم أوله وفتح المهملة وتشديد المثناة وكسرها بعدها موحدة الضبي، وروايته عن الشعبي يعني عن البراء بهذه القصة، وأما قوله: "وإبراهيم" فيعني النخعي، وهو من طريق إبراهيم منقطع، وليس لعبيدة في البخاري سوى هذا الموضع الواحد، وأما متابعة حريث وهو بصيغة التصغير وهو ابن أبي مطر واسمه عمرو الأسدي الكوفي وما له أيضا في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وصله أبو الشيخ في كتاب الأضاحي من طريق سهل بن عثمان العسكري عن وكيع عن حريث عن الشعبي عن البراء " أن خاله سأل " فذكر الحديث وفيه: "عندي جذعة من المعز أوفى منها" وفي هذا تعقب على الدار قطني في "الأفراد" حيث زعم أن عبيد الله بن موسى تفرد بهذا عن حريث وساقه من طريقه بلفظ: "قال: فعندي جذعة معز سمينة". قوله: "وقال عاصم وداود عن الشعبي عندي عناق لبن" أما عاصم فهو ابن سليمان الأحول، وقد وصله مسلم من طريق عبد الواحد بن زياد عنه عن الشعبي عن البراء بلفظ: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم نحر فقال: لا يضحين أحد حتى يصلي. فقال رجل: عندي عناق لبن - وقال في آخره - ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك". وأما داود فهو ابن أبي هند فوصله مسلم أيضا من طريق هشيم عنه عن الشعبي عن البراء بلفظ: "إن خاله أبا بردة بن نيار ذبح قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث وفيه - لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري، فقال: أعد نسكا. فقال: إن عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم، قال: هي خير نسيكتيك، ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك" . قوله: "وقال زبيد وفراس عن الشعبي: عندي جذعة" أما رواية زبيد وهو بالزاي ثم الموحدة مصغر فوصلها المؤلف في أول الأضاحي كذلك، وأما رواية فراس وهو بكسر الفاء وتخفيف الراء وآخره مهملة ابن يحيى فوصلها أيضا المؤلف في "باب من ذبح قبل الصلاة أعاد". قوله: "وقال أبو الأحوص حدثنا منصور عناق جذعة" هو بالتنوين فيهما، ورواية منصور هذه وهو ابن المعتمر وصلها المؤلف من الوجه المذكور عنه عن الشعبي عن البراء في العيدين. قوله: "وقال ابن عون" هو عبد الله "عناق جذع، عناق لبن" يعني أن في روايته عن الشعبي عن البراء باللفظين جميعا لفظ عاصم ومن تابعه ولفظ منصور ومن تابعه، وقد وصل المؤلف رواية ابن عون في كتاب الأيمان والنذور من طريق معاذ عن ابن عون باللفظ المذكور. قوله: "عن سلمة" هو ابن كهيل وصرح أحمد به في روايته عن محمد بن جعفر بهذا الإسناد، وأبو جحيفة هو الصحابي المشهور. قوله: "ذبح أبو بردة" هو ابن نيار الماضي ذكره. قوله: "أبدلها" بموحدة وفتح أوله، وقد تقدم بيانه في قوله: " اذبح مكانها أخرى" . قوله: "قال شعبة وأحسبه قال هي
(10/17)
خير من مسنة" في رواية أبي عامر العقدي عن شعبة عند مسلم: "هي خير من مسنة" ولم يشك. قوله: "اجعلها مكانها" أي اذبحها. وقد تمسك بهذا الأمر من ادعى وجوب الأضحية، ولا دلالة فيه، لأنه ولو كان ظاهر الأمر الوجوب إلا أن قرينة إفساد الأولى تقتضي أن يكون الأمر بالإعادة لتحصيل المقصود، وهو أعم من أن يكون في الأصل واجبا أو مندوبا. وقال الشافعي: يحتمل أن يكون الأمر بالإعادة للوجوب، ويحتمل أن يكون الأمر بالإعادة للإشارة إلى أن التضحية قبل الصلاة لا تقع أضحية، فأمره بالإعادة ليكون في عداد من ضحى، فلما احتمل ذلك وجدنا الدلالة على عدم الوجوب في حديث أم سلمة المرفوع "إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي" قال: فلو كانت الأضحية واجبة لم يكل ذلك إلى الإرادة، وأجاب من قال بالوجوب بأن التعليق على الإرادة لا يمنع القول بالوجوب، فهو كما قيل: من أراد الحج فليكثر من الزاد، فإن ذلك لا يدل على أن الحج لا يجب، وتعقب بأنه لا يلزم من كون ذلك لا يدل على عدم الوجوب ثبوت الوجوب بمجرد الأمر بالإعادة لما تقدم من احتمال إرادة الكمال وهو الظاهر والله أعلم. قوله: "وقال حاتم بن وردان الخ" تقدم ذكر من وصله في الباب الذي قبله، ولم يسق مسلم لفظه، لكنه قال: "بمثل حديثهما " يعني رواية إسماعيل بن علية عن أيوب ورواية هشام عن محمد بن سيرين.
(10/18)
9 - باب مَنْ
ذَبَحَ الأَضَاحِيَّ بِيَدِهِ
5558- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعاً قَدَمَهُ عَلَى
صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ".
قوله: "باب من ذبح الأضاحي بيده" أي وهل يشترط ذلك أو هو الأولى، وقد
اتفقوا على جواز التوكيل فيها للقادر، لكن عند المالكية رواية بعدم الإجزاء مع
القدرة، وعند أكثرهم يكره لكن يستحب أن يشهدها، ويكره أن يستنيب حائضا أو صبيا أو
كتابيا، وأولهم أولى ثم ما يليه. قوله: "ضحى" كذا في رواية شعبة بصيغة
الفعل الماضي وكذا في رواية أبي عوانة الآتية قريبا عن قتادة. وفي رواية همام
الآتية قريبا أيضا عن قتادة "كان يضحي" وهو أظهر في المداومة على ذلك.
قوله: "بكبشين أملحين" زاد في رواية أبي عوانة وفي رواية همام كلاهما عن
قتادة " أقرنين " وسيأتيان قريبا، وتقدم مثله في رواية أبي قلابة قبل
باب. قوله: "فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما" أي على صفاح كل منهما عند
ذبحه، والصفاح بكسر الصاد المهملة وتخفيف الفاء وآخره حاء مهملة الجوانب، والمراد
الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما ثنى إشارة إلى أنه فعل في كل منهما، فهو من
إضافة الجمع إلى المثنى بإرادة التوزيع. قوله: "يسمي ويكبر" في رواية
أبي عوانة "وسمى وكبر" والأول أظهر في وقوع ذلك عند الذبح. وفي الحديث
غير ما تقدم مشروعية التسمية عند الذبح، وقد تقدم في الذبائح بيان من اشترطها في
صفة الذبح، وفيه استحباب التكبير مع التسمية واستحباب وضع الرجل على صفحة عنق
الأضحية الأيمن، واتفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر فيضع رجله على
الجانب الأيمن ليكون أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين وإمساك رأسها بيده
اليسار.
(10/18)
10 - باب مَنْ
ذَبَحَ ضَحِيَّةَ غَيْرِهِ.
وَأَعَانَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فِي بَدَنَتِهِ وَأَمَرَ أَبُو مُوسَى بَنَاتِهِ
أَنْ يُضَحِّينَ بِأَيْدِيهِنَّ
5559- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
"دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَرِفَ
وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ مَا لَكِ أَنَفِسْتِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ هَذَا أَمْرٌ
كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ اقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ
لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ" .
قوله: "باب من ذبح ضحية غيره" أراد بهذه الترجمة بيان أن التي قبلها
ليست للاشتراط. قوله: "وأعان رجل ابن عمر في بدنته" أي عند ذبحها، وهذا
وصله عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: "رأيت ابن عمر ينحر بدنة
بمنى وهي باركة معقولة، ورجل يمسك بحبل في رأسها وابن عمر يطعن". قال ابن
المنير: هذا الأثر لا يطابق الترجمة إلا من جهة أن الاستعانة إذا كانت مشروعة
التحقت بها الاستنابة، وجاء في نحو قصة ابن عمر حديث مرفوع أخرجه أحمد من حديث رجل
من الأنصار "أن النبي صلى الله عليه وسلم أضجع أضحيته فقال: أعني على أضحيتي.
فأعانه" ورجاله ثقات. قوله: "وأمر أبو موسى بناته أن يضحين
بأيديهن" وصله الحاكم في "المستدرك" ووقع لنا بعلو في خبرين كلاهما
من طريق المسيب بن رافع "أن أبا موسى كان يأمر بناته أن يذبحن نسائكهن
بأيديهن" وسنده صحيح، قال ابن التين: فيه جواز ذبيحة المرأة، ونقل محمد عن
مالك كراهته. قلت: وقد سبق في الذبائح مبينا. وهذا الأثر مباين للترجمة، فيحتمل أن
يكون محله في الترجمة التي قبلها أو أراد أن الأمر في ذلك على اختيار المضحي، وعن
الشافعية الأولى للمرأة أن توكل في ذبح أضحيتها ولا تباشر الذبح بنفسها. حديث
عائشة لما حاضت بسرف وفيه: " هذا أمر كتبه الله على بنات آدم - وفي آخره -
وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر" ولمسلم من حديث جابر
"نحر النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه بقرة في حجة الوداع".
(10/19)
11 - باب الذَّبْحِ
بَعْدَ الصَّلاَةِ
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي
زُبَيْدٌ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ:
إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ
نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ فَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمَنْ نَحَرَ
فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُقَدِّمُهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ
فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ
وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ فَقَالَ اجْعَلْهَا مَكَانَهَا وَلَنْ
تَجْزِيَ أَوْ تُوفِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" .
قوله: "باب الذبح بعد الصلاة" ذكر فيه حديث البراء في قصة أبي بردة، وقد
تقدم شرحه قريبا، وسأذكر ما يتعلق بهذه الترجمة في التي بعدها. "ولن تجزي أو
توفي" شك من الراوي، ومعنى توفي أي تكمل الثواب
(10/19)
وعند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه "ولن تفي" بغير واو ولا شك، يقال وفى إذا أنجز فهو بمعنى تجزي بفتح أوله.
(10/20)
12 - باب مَنْ
ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ أَعَادَ
5561- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ
فَلْيُعِدْ" فَقَالَ رَجُلٌ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ وَذَكَرَ
هَنَةً مِنْ جِيرَانِهِ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَذَرَهُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ فَرَخَّصَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ أَدْرِي بَلَغَتْ الرُّخْصَةُ أَمْ لاَ
ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ يَعْنِي فَذَبَحَهُمَا ثُمَّ انْكَفَأَ النَّاسُ
إِلَى غُنَيْمَةٍ فَذَبَحُوهَا".
5562- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ
سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ سُفْيَانَ الْبَجَلِيَّ قَالَ: "شَهِدْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ
أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ"
.
5563- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ
فِرَاسٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا
وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَلاَ يَذْبَحْ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَقَامَ أَبُو
بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلْتُ فَقَالَ: هُوَ شَيْءٌ
عَجَّلْتَهُ قَالَ فَإِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّتَيْنِ
آذْبَحُهَا قَالَ نَعَمْ ثُمَّ لاَ تَجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ قَالَ عَامِرٌ
هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْهِ".
قوله: "باب من ذبح قبل الصلاة أعاد" أي أعاد الذبح. قوله فيه:
"وذكر هنة" بفتح الهاء والنون الخفيفة بعدها هاء تأنيث أي حاجة من
جيرانه إلى اللحم. قوله: "فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عذره" بتخفيف
الذال المعجمة من العذر أي قبل عذره، ولكن لم يجعل ما فعله كافيا ولذلك أمره
بالإعادة. قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى
الأمر لم يعذر بالجهل، والفرق بين المأمورات والمنهيات أن المقصود من المأمورات
إقامة مصالحها، وذلك لا يحصل إلا بالفعل. والمقصود من المنهيات الكف عنها بسبب
مفاسدها، ومع الجهل والنسيان لم يقصد المكلف فعلها فيعذر. قوله: "وعندي
جذعة" هو معطوف على كلام الرجل الذي عنى عنه الراوي بقوله: "وذكر هنة من
جيرانه" تقديره هذا يوم يشتهى فيه اللحم ولجيراني حاجة فذبحت قبل الصلاة، وعندي
جذعة. وقد تقدمت مباحثه قبل ثلاثة أبواب. حديث جندب بن سفيان أورده مختصرا، وتقدم
في الذبائح من طريق أبي عوانة عن الأسود بن قيس أتم منه وأوله "ضحينا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم أضحاة، فإذا ناس ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة" الحديث.
قوله: "ومن لم يذبح فليذبح" في رواية أبي عوانة " ومن كان لم يذبح
حتى صلينا فليذبح على اسم الله" وفي رواية لمسلم: "فليذبح بسم
الله" أي فليذبح قائلا بسم الله أو مسميا، والمجرور متعلق بمحذوف، وهو حال من
الضمير في قوله: "فليذبح" وهذا أولى ما حمل عليه الحديث وصححه النووي،
ويؤيده ما تقدم في حديث أنس "وسمى وكبر" وقال عياض: يحتمل أن يكون معناه
(10/20)
فليذبح لله، والباء تجيء بمعنى اللام، ويحتمل أن يكون معناه بتسمية الله، ويحتمل أن يكون معناه متبركا باسمه كما يقال سر على بركة الله، ويحتمل أن يكون معناه فليذبح بسنة الله. قال: وأما كراهة بعضهم افعل كذا على اسم الله لأنه اسمه على كل شيء فضعيف. قلت: ويحتمل وجها خامسا أن يكون معنى قوله: "بسم الله" مطلق الإذن في الذبيحة حينئذ، لأن السياق يقتضي المنع قبل ذلك والإذن بعد ذلك، كما يقال للمستأذن بسم الله أي ادخل، وقد استدل بهذا الأمر في قوله: "فليذبح مكانها أخرى" من قال بوجوب الأضحية، قال ابن دقيق العيد: صيغة "من" في قوله: "من ذبح" صيغة عموم في حق كل من ذبح قبل أن يصلي، وقد جاءت لتأسيس قاعدة، وتنزيل صيغة العموم إذا وردت لذلك على الصورة النادرة يستنكر، فإذا بعد تخصيصه بمن نذر أضحية معينة بقي التردد هل الأولى حمله على من سبقت له أضحية معينة أو حمله على ابتداء أضحية من غير سبق تعيين؟ فعلى الأولى يكون حجة لمن قال بالوجوب على من اشترى الأضحية كالمالكية، فإن الأضحية عندهم تجب بالتزام اللسان وبنية الشراء وبنية الذبح، وعلى الثاني يكون لا حجة لمن أوجب الضحية مطلقا، لكن حصل الانفصال ممن لم يقل بالوجوب بالأدلة الدالة على عدم الوجوب فيكون الأمر للندب. واستدل به من اشترط تقدم الذبح من الإمام بعد صلاته وخطبته، لأن قوله: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى" إنما صدر منه بعد صلاته وخطبته وذبحه فكأنه قال: من ذبح قبل فعل هذه الأمور فليعد، أي فلا يعتد بما ذبحه. قال ابن دقيق العيد: وهذا استدلال غير مستقيم، لمخالفته التقييد بلفظ الصلاة والتعقيب بالفاء. حديث البراء، أورده من طريق فراس بن يحيى عن الشعبي، وقد تقدمت مباحثه قريبا. قوله: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا" المراد من كان على دين الإسلام. قوله: "فلا يذبح" أي الأضحية " حتى ينصرف" تمسك به الشافعية في أن أول وقت الأضحية قدر فراغ الصلاة والخطبة، وإنما شرطوا فراغ الخطيب لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة في هذه العبادة، فيعتبر مقدار الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزي بعد طلوع الشمس، فإذا ذبح بعد ذلك أجزأه الذبح عن الأضحية، سواء صلى العيد أم لا، وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا، ويستوي في ذلك أهل المصر والحاضر والبادي ونقل الطحاوي عن مالك والأوزاعي والشافعي: لا تجوز أضحية قبل أن يذبح الإمام، وهو معروف عن مالك والأوزاعي لا الشافعي، قال القرطبي: ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة، لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها. وقال أبو حنيفة والليث: لا ذبح قبل الصلاة، ويجوز بعدها ولو لم يذبح الإمام، وهو خاص بأهل المصر، فأما أهل القرى والبوادي فيدخل وقت الأضحية في حقهم إذا طلع الفجر الثاني. وقال مالك: يذبحون إذا نحر أقرب أئمة القرى إليهم، فإن نحروا قبل أجزأهم. وقال عطاء وربيعة: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس. وقال أحمد وإسحاق: إذا فرغ الإمام من الصلاة جازت الأضحية، وهو وجه للشافعية قوي من حيث الدليل وإن ضعفه بعضهم، ومثله قول الثوري: يجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته وفي أثنائها، ويحتمل أن يكون قوله: "حتى ينصرف" أي من الصلاة، كما في الروايات الأخر. وأصرح من ذلك ما وقع عند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه رفعه: "إنما الذبح بعد الصلاة" ووقع في حديث جندب عند مسلم: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى" قال ابن دقيق العيد: هذا اللفظ أظهر في اعتبار فعل الصلاة من حديث البراء، أي حيث جاء فيه: "من ذبح قبل الصلاة" قال: لكن إن أجريناه على ظاهره اقتضى أن لا تجزئ الأضحية في حق من لم يصل العيد، فإن ذهب إليه أحد فهو أسعد
(10/21)
الناس بظاهر هذا الحديث، وإلا وجب الخروج عن الظاهر في هذه الصورة ويبقى ما عداها في محل البحث. وتعقب بأنه قد وقع في صحيح مسلم في رواية أخرى "قبل أن يصلي أو نصلي" بالشك قال النووي: الأولى بالياء والثانية بالنون، وهو شك من الراوي، فعلى هذا إذا كان بلفظ: "يصلي" ساوى لفظ حديث البراء في تعليق الحكم بفعل الصلاة. قلت: وقد وقع عند البخاري في حديث جندب في الذبائح بمثل لفظ البراء، وهو خلاف ما يوهمه سياق صاحب العمدة، فإنه ساقه على لفظ مسلم، وهو ظاهر في اعتبار فعل الصلاة، فإن إطلاق لفظ الصلاة وإرادة وقتها خلاف الظاهر، وأظهر من ذلك قوله: "قبل أن نصلي" بالنون، وكذا قوله: "قبل أن ننصرف" سواء قلنا من الصلاة أم من الخطبة. وادعى بعض الشافعية أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى" أي بعد أن يتوجه من مكان هذا القول، لأنه خاطب بذلك من حضره فكأنه قال: من ذبح قبل فعل هذا من الصلاة والخطبة فليذبح أخرى، أي لا يعتد بما ذبحه ولا يخفى ما فيه. وأورد الطحاوي ما أخرجه مسلم من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر فأمرهم أن يعيدوا" قال ورواه حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "أن رجلا ذبح قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى أن يذبح أحد قبل الصلاة" وصححه ابن حبان. ويشهد لذلك قوله في حديث البراء "أن أول ما نصنع أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فننحر" فإنه دال على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة، ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام. ويؤيده - من طريق النظر - أن الإمام لو لم ينحر لم يكن ذلك مسقطا عن الناس مشروعية النحر، ولو أن الإمام نحر قبل أن يصلي لم يجزئه نحره، فدل على أنه هو والناس في وقت الأضحية سواء. وقال المهلب: إنما كره الذبح قبل الإمام لئلا يشتغل الناس بالذبح عن الصلاة. قوله: "فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله فعلت" أي ذبحت قبل الصلاة. ووقع عند مسلم من هذا الوجه "نسكت عن ابن لي" وقد تقدم توجيهه. قوله: "هي خير من مسنتين" كذا وقع هنا بالتثنية، وهي مبالغة. ووقع في رواية غيره: "من مسنة" بالإفراد وتقدم توجيهه أيضا. قوله: "قال عامر هي خير نسيكتيه" كذا فيه بالتثنية، وفيه ضم الحقيقة إلى المجاز بلفظ واحد، فإن النسيكة، هي التي أجزأت عنه وهي الثانية، والأولى لم تجز عنه، لكن أطلق عليها نسيكة لأنه نحرها على أنها نسيكة أو نحرها في وقت النسيكة، وإنما كانت خيرهما لأنها أجزأت عن الأضحية بخلاف الأولى، وفي الأولى خير في الجملة باعتبار القصد الجميل، ووقع عند مسلم من هذا الوجه "قال ضح بها فإنها خير نسيكة" ونقل ابن التين عن الشيخ أبي الحسن يعني ابن القصار أنه استدل بتسميتها نسيكة على أنه لا يجوز بيعها ولو ذبحت قبل الصلاة، ولا يخفى وجه الضعف عليه.
(10/22)
13 - باب وَضْعِ
الْقَدَمِ عَلَى صَفْحِ الذَّبِيحَةِ
5564- حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة حدثنا أنس رضي الله عنه ثم أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين ووضع رجله على صفحتهما
ويذبحهما بيده".
قوله: "باب وضع القدم على صفح الذبيحة" ذكر فيه حديث أنس "ويضع
رجله على صفحتهما" وقد تقدمت مباحثه قريبا.
(10/22)
14 - باب
التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ
5565- حدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس قال: "ضحى النبي صلى الله
عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع على رجله
صفاحهما".
قوله: "باب التكبير عند الذبح" ذكر فيه حديث أنس أيضا، وقد تقدم أيضا.
(10/23)
15 - باب إِذَا
بَعَثَ بِهَدْيِهِ لِيُذْبَحَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ
5566- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا
إِسْمَاعِيلُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ "أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ
فَقَالَ لَهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَجُلاً يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ إِلَى
الْكَعْبَةِ وَيَجْلِسُ فِي الْمِصْرِ فَيُوصِي أَنْ تُقَلَّدَ بَدَنَتُهُ فَلاَ
يَزَالُ مِنْ ذَلِكِ الْيَوْمِ مُحْرِماً حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ قَالَ
فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَقَالَتْ لَقَدْ كُنْتُ
أَفْتِلُ قَلاَئِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَيَبْعَثُ هَدْيَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِمَّا حَلَّ
لِلرِّجَالِ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ".
قوله: "باب إذا بعث بهديه ليذبح لم يحرم عليه شيء" ذكر فيه حديث عائشة،
وقد تقدمت مباحثه في كتاب الحج. أحمد بن محمد شيخه هو المروزي، وعبد الله هو ابن
المبارك، وإسماعيل هو ابن أبي خالد. وقوله فيه: "إن رجلا يبعث بالهدي"
هو زياد بن أبي سفيان، وقد تقدم نقله عن ابن عباس وغيره. وقوله: "فسمعت
تصفيقها من وراء الحجاب" أي ضربت إحدى يديها على الأخرى تعجبا أو تأسفا على
وقوع ذلك. واستدل الداودي بقولها "هديه" على أن الحديث الذي روته ميمونة
مرفوعا: " إذا دخل عشر ذي الحجة فمن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من
أظفاره" يكون منسوخا بحديث عائشة أو ناسخا. وقال ابن التين: ولا يحتاج إلى
ذلك، لأن عائشة إنما أنكرت أن يصير من يبعث هديه محرما بمجرد بعثه، ولم تتعرض على
ما يستحب في العشر خاصة من اجتناب إزالة الشعر والظفر. ثم قال: لكن عموم الحديث
يدل على ما قال الداودي، وقد استدل به الشافعي على إباحة ذلك في عشر ذي الحجة.
قال: والحديث المذكور أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. قلت: هو من حديث أم
سلمة لا من حديث ميمونة، فوهم الداودي في النقل وفي الاحتجاج أيضا، فإنه لا يلزم
من دلالته على عدم اشتراط ما يجتنبه المحرم على المضحي أنه لا يستحب فعل ما ورد به
الخبر المذكور لغير المحرم، والله أعلم.
(10/23)
16 - باب مَا يُؤْكَلُ
مِنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ وَمَا يُتَزَوَّدُ مِنْهَا
5567- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو
أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ: "كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأَضَاحِيِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ". وَقَالَ غَيْرَ
مَرَّةٍ: "لُحُومَ الْهَدْيِ".
5568- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ ابْنَ خَبَّابٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ
(10/23)
كتاب الأشربة
باب قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان
فاجتنبوه لعلكم تفلحون}
...
بسم الله الرحمن الرحيم
74 - كتاب الأشربة
1 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ
وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ}
5575- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي
الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ" .
5576- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ
فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ" .
تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَابْنُ الْهَادِ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَالزُّبَيْدِيُّ
عَنْ الزُّهْرِيِّ
5577- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا
قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثاً لاَ يُحَدِّثُكُمْ بِهِ
غَيْرِي قَالَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَقِلَّ
الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ
وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمُهُنَّ رَجُلٌ
وَاحِدٌ" .
5578- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ وَابْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولاَنِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ . وَلاَ يَشْرَبُ
الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ . وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ
يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ" . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
هِشَامٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ
يَقُولُ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُلْحِقُ مَعَهُنَّ: "وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً
ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا حِينَ
يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ" .
قوله: "كتاب الأشربة" وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ} " الآية، كذا لأبي ذر،
وساق الباقون إلى {الْمُفْلِحُونَ} كذا ذكر الآية وأربعة أحاديث تتعلق بتحريم
الخمر، وذلك أن الأشربة منها
(10/30)
ما يحل وما يحرم فينظر في حكم كل منهما ثم في الآداب المتعلقة بالشرب، فبدأ بتبيين المحرم منها لقلته بالنسبة إلى الحلال، فإذا عرف ما يحرم كان ما عداه حلالا، وقد بينت في تفسير المائدة الوقت الذي نزلت فيه الآية المذكورة وأنه كان في عام الفتح قبل الفتح، ثم رأيت الدمياطي في سيرته جزم بأن تحريم الخمر كان سنة الحديبية، والحديبية كانت سنة ست. وذكر ابن إسحاق أنه كان في واقعة بني النضير، وهي بعد وقعة أحد وذلك سنة أربع على الراجح، وفيه نظر لأن أنسا كما سيأتي في الباب الذي بعده كان الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع لكان أنس يصغر عن ذلك، وكأن المصنف لمح بذكر الآية إلى بيان السبب في نزولها، وقد مضى بيانه في تفسير المائدة أيضا من حديث عمر وأبي هريرة وغيرهما. وأخرج النسائي والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس أنه لما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر فيقول: صنع هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: والله لو كان بي رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى {مُنْتَهُونَ} قال فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إلى {الْمُحْسِنِينَ} ووقعت هذه الزيادة في حديث أنس في البخاري كما مضى في المائدة، ووقعت أيضا في حديث البراء عند الترمذي وصححه، ومن حديث ابن عباس عند أحمد "لما حرمت الخمر قال ناس: يا رسول الله، أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها" وسنده صحيح. وعند البزار من حديث جابر أن الذي سأل عن ذلك اليهود، وفي حديث أبي هريرة الذي ذكرته في تفسير المائدة نحو الأول، وزاد في آخره: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم" قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: يستفاد تحريم الخمر من هذه الآية من تسميتها رجسا. وقد سمي به ما أجمع على تحريمه وهو لحم الخنزير ومن قوله: "من عمل الشيطان" لأن مهما كان من عمل الشيطان حرم تناوله، ومن الأمر بالاجتناب وهو للوجوب وما وجب اجتنابه حرم تناوله، ومن الفلاح المرتب على الاجتناب، ومن كون الشرب سببا للعداوة والبغضاء بين المؤمنين وتعاطي ما يوقع ذلك حرام، ومن كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن ختام الآية بقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ؟ فإنه استفهام معناه الردع والزجر، ولهذا قال عمر لما سمعها: انتهينا انتهينا. وسبقه إلى نحو ذلك الطبري. وأخرجه الطبراني وابن مردويه وصححه الحاكم من طريق طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما نزل تحريم الخمر مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض فقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك" قيل: يشير إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} الآية، فإن الأنصاب والأزلام من عمل المشركين بتزيين الشيطان، فنسب العمل إليه. قال أبو الليث السمرقندي: المعنى أنه لما نزل فيها أنها رجس من عمل الشيطان وأمر باجتنابها عادلت قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} . وذكر أبو جعفر النحاس أن بعضهم استدل لتحريم الخمر بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقد قال تعالى في الخمر والميسر {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فلما أخبر أن في الخمر إثما كبيرا ثم صرح بتحريم الإثم ثبت تحريم الخمر بذلك، قال: وقول من قال إن الخمر تسمى الإثم لم نجد له أصلا في الحديث ولا في اللغة، ولا دلالة أيضا في قول الشاعر:
(10/31)
شربت الإثم حتى ضل
عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول
فإنه أطلق الإثم على الخمر مجازا بمعنى أنه ينشأ عنها الإثم. واللغة الفصحى تأنيث
الخمر، وأثبت أبو حاتم السجستاني وابن قتيبة وغيرهما جواز التذكير، ويقال لها
الخمرة أثبته فيها جماعة من أهل اللغة منهم الجوهري. وقال ابن مالك في المثلث:
الخمرة هي الخمر في اللغة، وقيل: سميت الخمر لأنها تغطي العقل وتخامره أي تخالطه،
أو لأنها هي تخمر أي تغطى حتى تغلي، أو لأنها تختمر أي تدرك كما يقال للعجين
اختمر، أقوال سيأتي بسطها عند شرح قول عمر رضي الله عنه: "والخمر ما خامر
العقل" إن شاء الله تعالى. الحديث الأول: حديث ابن عمر من طريق مالك عن نافع
عنه وهو من أصح الأسانيد. قوله: "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها
حرمها في الآخرة" حرمها بضم المهملة وكسر الراء الخفيفة من الحرمان، زاد مسلم
عن القعنبي عن مالك في آخره: "لم يسقها"، وله من طريق أيوب عن نافع
بلفظ: " فمات وهو مدمنها لم يشربها في الآخرة" وزاد مسلم في أول الحديث
مرفوعا: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام" وأورد هذه الزيادة مستقلة أيضا من
رواية موسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع، وسيأتي الكلام عليها في
"باب الخمر من العسل" ويأتي كلام ابن بطال فيها في آخر هذا الباب.
وقوله: "ثم لم يتب منها " أي من شربها، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه
مقامه. قال الخطابي والبغوي في "شرح السنة": معنى الحديث لا يدخل الجنة،
لأن الخمر شراب أهل الجنة، فإذا حرم شربها دل على أنه لا يدخل الجنة. وقال ابن عبد
البر: هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة، لأن الله تعالى أخبر أن في الجنة
أنهار الخمر لذة للشاربين، وأنهم لا يصدعون عنها ولا ينزفون. فلو دخلها - وقد علم
أن فيها خمرا أو أنه حرمها عقوبة له - لزم وقوع الهم والحزن في الجنة، ولا هم فيها
ولا حزن، وإن لم يعلم بوجودها في الجنة ولا أنه حرمها عقوبة له لم يكن عليه في
فقدها ألم، فلهذا قال بعض من تقدم: إنه لا يدخل الجنة أصلا، قال: وهو مذهب غير
مرضي، قال: ويحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا
إن عفا الله عنه كما في بقية الكبائر وهو في المشيئة، فعلى هذا فمعنى الحديث:
جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا إن عفا الله عنه. قال: وجائز أن
يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرا ولا تشتهيها نفسه وإن علم بوجودها فيها،
ويؤيده حديث أبي سعيد مرفوعا: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة،
وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" قلت: أخرجه الطيالسي وصححه ابن
حبان. وقريب منه حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "من مات من أمتي وهو يشرب الخمر
حرم الله عليه شربها في الجنة" أخرجه أحمد بسند حسن، وقد لخص عياض كلام ابن
عبد البر وزاد احتمالا آخر وهو أن المراد بحرمانه شربها أنه يحبس عن الجنة مدة إذا
أراد الله عقوبته، ومثله الحديث الآخر "لم يرح رائحة الجنة" قال: ومن
قال لا يشربها في الجنة بأن ينساها أو لا يشتهيها يقول ليس عليه في ذلك حسرة ولا
يكون ترك شهوته إياها عقوبة في حقه، بل هو نقص نعيم بالنسبة إلى من هو أتم نعيما
منه كما تختلف درجاتهم، ولا يلحق من هو أنقص درجة حينئذ بمن هو أعلى درجة منه
استغناء بما أعطي واغتباطا له. وقال ابن العربي: ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر
في الجنة ولا يلبس الحرير فيها، وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به فحرمه
عند ميقاته، كالوارث فإنه إذا قتل مورثه فإنه يحرم ميراثه لاستعجاله. وبهذا قال
نفر من الصحابة ومن العلماء، وهو موضع احتمال وموقف إشكال، والله أعلم كيف يكون
الحال. وفصل بعض المتأخرين بين من يشربها مستحلا
(10/32)
فهو الذي لا يشربها
أصلا لأنه لا يدخل الجنة أصلا، وعدم الدخول يستلزم حرمانها، وبين من يشربها عالما
بتحريمها فهو محل الخلاف، وهو الذي يحرم شربها مدة ولو في حال تعذيبه إن عذب، أو
المعنى أن ذلك جزاؤه إن جوزي والله أعلم. وفي الحديث أن التوبة تكفر المعاصي
الكبائر، وهو في التوبة من الكفر قطعي وفي غيره من الذنوب خلاف بين أهل السنة هل
هو قطعي أو ظني. قال النووي: الأقوى أنه ظني. وقال القرطبي: من استقرأ الشريعة علم
أن الله يقبل توبة الصادقين قطعا. وللتوبة الصادقة شروط سيأتي البحث فيها في كتاب
الرقاق، ويمكن أن يستدل بحديث الباب على صحة التوبة من بعض الذنوب دون بعض، وسيأتي
تحقيق ذلك. وفيه أن الوعيد يتناول من شرب الخمر وإن لم يحصل له السكر، لأنه رتب
الوعيد في الحديث على مجرد الشرب من غير قيد، وهو مجمع عليه في الخمر المتخذ من
عصير العنب وكذا فيما يسكر من غيرها، وأما ما لا يسكر من غيرها فالأمر فيه كذلك
عند الجمهور كما سيأتي بيانه، ويؤخذ من قوله: "ثم لم يتب منها" أن
التوبة مشروعة في جميع العمر ما لم يصل إلى الغرغرة، لما دل عليه "ثم"
من التراخي، وليس المبادرة إلى التوبة شرطا في قبولها، والله أعلم. الحديث الثاني:
حديث أبي هريرة. قوله: "بإيلياء" بكسر الهمز وسكون التحتانية وكسر اللام
وفتح التحتانية الخفيفة مع المد: هي مدينة بيت المقدس، وهو ظاهر في أن عرض ذلك
عليه صلى الله عليه وسلم وقع وهو في بيت المقدس، لكن وقع في رواية الليث التي تأتي
الإشارة إليها "إلى إيلياء" وليست صريحة في ذلك، لجواز أن يريد تعيين
ليلة الإيتاء لا محله، وقد تقدم بيان ذلك مع بقية شرحه في أواخر الكلام على حديث
الإسراء قبل الهجرة إلى المدينة. وقوله فيه: "ولو أخذت الخمر غوت أمتك"
هو محل الترجمة قال ابن عبد البر(1): يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم نفر من
الخمر لأنه تفرس أنها ستحرم لأنها كانت حينئذ مباحة، ولا مانع من افتراق مباحين
مشتركين في أصل الإباحة في أن أحدهما سيحرم والآخر تستمر إباحته. قلت: ويحتمل أن
يكون نفر منها لكونه لم يعتد شربها فوافق بطبعه ما سيقع من تحريمها بعد، حفظا من
الله تعالى له ورعاية، واختار اللبن لكونه مألوفا له، سهلا طيبا طاهرا، سائغا
للشاربين، سليم العاقبة، بخلاف الخمر في جميع ذلك. والمراد بالفطرة هنا الاستقامة
على الدين الحق. وفي الحديث مشروعية الحمد عند حصول ما يحمد ودفع ما يحذر. وقوله:
"غوت أمتك" يحتمل أن يكون أخذه من طريق الفأل، أو تقدم عنده علم بترتب
كل من الأمرين وهو أظهر. قوله: "تابعه معمر وابن الهاد وعثمان بن عمر عن
الزهري" يعني بسنده. ووقع في غير رواية أبي ذر زيادة الزبيدي مع المذكورين
بعد عثمان بن عمر، فأما متابعة معمر فوصلها المؤلف في قصة موسى من أحاديث الأنبياء،
وأول الحديث ذكر موسى وعيسى وصفتهما، وليس فيه ذكر إيلياء، وفيه: "اشرب أيهما
شئت، فأخذت اللبن فشربته" . وأما رواية ابن الهاد - وهو يزيد بن عبد الله بن
أسامة بن الهاد الليثي ينسب لجد أبيه - فوصلها النسائي وأبو عوانة والطبراني في
"الأوسط" من طريق الليث عنه عن عبد الوهاب بن بخت عن ابن شهاب وهو
الزهري، قال الطبراني: تفرد به يزيد بن الهاد عن عبد الوهاب، فعلى هذا فقد سقط ذكر
عبد الوهاب من الأصل بين ابن الهاد وابن شهاب، على أن ابن الهاد قد روى عن الزهري
أحاديث غير هذا بغير واسطة، منها ما تقدم في تفسير المائدة قال البخاري فيه:
"وقال يزيد بن الهاد عن الزهري" فذكره، ووصله أحمد وغيره من طريق ابن
الهاد عن
ـــــــ
(1) في نسخة أخرى "قال ابن المنير".
(10/33)
الزهري بغير واسطة. وأما رواية الزبيدي فوصلها النسائي وابن حبان والطبراني في "مسند الشاميين" من طريق محمد بن حرب عنه لكن ليس فيه ذكر إيلياء أيضا. وأما رواية عثمان بن عمر فوصلها "تمام الرازي في فوائده" من طريق إبراهيم بن المنذر عن عمر بن عثمان عن أبيه عن الزهري به. وأما ما ذكره المزي في "الأطراف" عن الحاكم أنه قال: أراد البخاري بقوله: "تابعه ابن الهاد وعثمان بن عمر عن الزهري" حديث ابن الهاد عن عبد الوهاب وحديث عثمان بن عمر بن فارس عن يونس كلاهما عن الزهري. قلت: وليس كما زعم الحاكم وأقره المزي في عثمان بن عمر، فإنه ظن أنه عثمان بن عمر بن فارس الراوي عن يونس بن يزيد، وليس به، وإنما هو عثمان بن عمر بن موسى بن عبد الله بن عمر التيمي، وليس لعثمان بن عمر بن فارس ولد اسمه عمر يروي عنه، وإنما هو ولد التيمي كما ذكرته من "فوائد تمام" وهو مدني، وقد ذكر عثمان الدارمي أنه سأل يحيى بن معين عن عمر بن عثمان بن عمر المدني عن أبيه عن الزهري فقال: لا أعرفه ولا أعرف أباه. قلت: وقد عرفهما غيره، وذكر الزبير بن بكار في النسب عن عثمان المذكور فقال: إنه ولي قضاء المدينة في زمن مروان بن محمد، ثم ولي القضاء للمنصور ومات معه بالعراق وذكره ابن حبان في الثقات، وأكثر الدار قطني من ذكره في "العلل" عند ذكره للأحاديث التي تختلف رواتها عن الزهري، وكثيرا ما ترجح روايته عن الزهري، والله أعلم. الحديث الثالث: حديث أنس. قوله: "هشام" هو الدستوائي. قوله: "لا يحدثكم به غيري" كأن أنسا حدث به في أواخر عمره فأطلق ذلك، أو كان يعلم أنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا من كان قد مات. قوله: "وتشرب الخمر" في رواية الكشميهني: "وشرب الخمر" بالإضافة، ورواية الجماعة أولى للمشاكلة. قوله: "حتى يكون لخمسين" في رواية الكشميهني: "حتى يكون خمسون امرأة قيمهن رجل واحد" وسبق شرح الحديث مستوفى في كتاب العلم، والمراد أن من أشراط الساعة كثرة شرب الخمر كسائر ما ذكر في الحديث. الحديث الرابع: حديث أبي هريرة "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وقع في أكثر الروايات هنا "لا يزني حين يزني " بحذف الفاعل، فقدر بعض الشراح الرجل أو المؤمن أو الزاني، وقد بينت هذه الرواية تعيين الاحتمال الثالث. قوله: "ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" قال ابن بطال: هذا أشد ما ورد في شرب الخمر، وبه تعلق الخوارج فكفروا مرتكب الكبيرة عامدا عالما بالتحريم، وحمل أهل السنة الإيمان هنا على الكامل، لأن العاصي يصير أنقص حالا في الإيمان ممن لا يعصي، ويحتمل أن يكون المراد أن فاعل ذلك يئول أمره إلى ذهاب الإيمان، كما وقع في حديث عثمان الذي أوله " اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث - وفيه - وإنها لا تجتمع هي والإيمان إلا وأوشك أحدهما أن يخرج صاحبه " أخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا، وصححه ابن حبان مرفوعا. قال ابن بطال: وإنما أدخل البخاري هذه الأحاديث المشتملة على الوعيد الشديد في هذا الباب ليكون عوضا عن حديث ابن عمر "كل مسكر حرام" وإنما لم يذكره في هذا الباب لكونه روي موقوفا، كذا قال، وفيه نظر، لأن في الوعيد قدرا زائدا على مطلق التحريم، وقد ذكر البخاري ما يؤدي معنى حديث ابن عمر كما سيأتي قريبا. قوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "إن أبا بكر أخبره" هو والد عبد الملك شيخ ابن شهاب فيه. قوله: "ثم يقول كان أبو بكر" هو ابن عبد الرحمن المذكور، والمعنى أنه كان يزيد ذلك في حديث أبي هريرة، وقد مضى بيان ذلك عند ذكر شرح الحديث في كتاب المظالم، ويأتي مزيد لذلك في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى.
(10/34)
2 - باب الْخَمْرُ
مِنْ الْعِنَبِ وغيرِه
5579- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ
حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَقَدْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ
مِنْهَا شَيْءٌ".
5580- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَبْدُ رَبِّهِ
بْنُ نَافِعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
"حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ يَعْنِي
بِالْمَدِينَةِ خَمْرَ الأَعْنَابِ إِلاَّ قَلِيلاً وَعَامَّةُ خَمْرِنَا
الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ".
5581- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ حَدَّثَنَا
عَامِرٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَقَالَ: "أَمَّا بَعْدُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ
الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا
خَامَرَ الْعَقْلَ".
قوله: "باب الخمر من العنب وغيره" كذا في شرح ابن بطال، ولم أر لفظ:
"وغيره" في شيء من نسخ الصحيح ولا المستخرجات ولا الشروح سواه. قال ابن
المنير: غرض البخاري الرد على الكوفيين إذ فرقوا بين ماء العنب وغيره فلم يحرموا
من غيره إلا القدر المسكر خاصة، وزعموا أن الخمر ماء العنب خاصة، قال: لكن في
استدلاله بقول ابن عمر - يعني الذي أورده في الباب: "حرمت الخمر وما بالمدينة
منها شيء" - على أن الأنبذة التي كانت يومئذ تسمى خمرا نظر، بل هو بأن يدل
على أن الخمر من العنب خاصة أجدر، لأنه قال: وما منها بالمدينة شيء - يعني الخمر -
وقد كانت الأنبذة من غير العنب موجودة حينئذ بالمدينة، فدل على أن الأنبذة ليست خمرا،
إلا أن يقال إن كلام ابن عمر يتنزل على جواب قول من قال لا خمر إلا من العنب،
فيقال: قد حرمت الخمر وما بالمدينة من خمر العنب شيء، بل كان الموجود بها من
الأشربة ما يصنع من البسر والتمر ونحو ذلك، وفهم الصحابة من تحريم الخمر تحريم ذلك
كله، ولولا ذلك ما بادروا إلى إراقتها. قلت: ويحتمل أن يكون مراد البخاري بهذه
الترجمة وما بعدها أن الخمر يطلق على ما يتخذ من عصير العنب، ويطلق على نبيذ البسر
والتمر، ويطلق على ما يتخذ من العسل، فعقد لكل واحد منها بابا، ولم يرد حصر
التسمية في العنب، بدليل ما أورده بعده. ويحتمل أن يريد بالترجمة الأولى الحقيقة
وبما عداها المجاز، والأول أظهر من تصرفه. وحاصله أنه أراد بيان الأشياء التي وردت
فيها الأخبار على شرطه لما يتخذ منه الخمر، فبدأ بالعنب لكونه المتفق عليه، ثم
أردفه بالبسر والتمر، والحديث الذي أورده فيه عن أنس ظاهر في المراد جدا، ثم ثلث
بالعسل إشارة إلى أن ذلك لا يختص بالتمر والبسر، ثم أتى بترجمة عامة لذلك وغيره
وهي "الخمر ما خامر العقل" والله أعلم. وفيه إشارة إلى ضعف الحديث الذي
جاء عن أبي هريرة مرفوعا: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة" أو
أنه ليس المراد به الحصر فيهما، والمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد فإنه يحرم
تناول قليله وكثيره بالاتفاق. وحكى ابن قتيبة عن قوم من مجان أهل الكلام أن النهي
عنها للكراهة، وهو قول مهجور لا يلتفت إلى قائله. وحكى أبو جعفر النحاس عن قوم أن
الحرام ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه ليس بحرام، قال: وهذا عظيم من القول يلزم
منه القول بحل كل شيء اختلف في تحريمه، ولو كان
(10/35)
مستند الخلاف واهيا. ونقل الطحاوي في "اختلاف العلماء" عن أبي حنيفة: الخمر حرام قليلها وكثيرها، والسكر من غيرها حرام وليس كتحريم الخمر، والنبيذ المطبوخ لا بأس به من أي شيء كان، وإنما يحرم منه القدر الذي يسكر. وعن أبي يوسف: لا بأس بالنقيع من كل شيء وإن غلا إلا الزبيب والتمر، قال: وكذا حكاه محمد عن أبي حنيفة. وعن محمد: ما أسكر كثيره فأحب إلي أن لا أشربه ولا أحرمه. وقال الثوري: أكره نقيع التمر ونقيع الزبيب إذا غلى، ونقيع العسل لا بأس به. قوله: "حدثني الحسن بن صباح" هو البزار آخره راء، ومحمد بن سابق من شيوخ البخاري، وقد يحدث عنه بواسطة كهذا. قوله: "حدثنا مالك هو ابن مغول" كان شيخ البخاري حدث به فقال: "حدثنا مالك" ولم ينسبه فنسبه هو لئلا يلتبس بمالك بن أنس، وقد أخرج الإسماعيلي الحديث المذكور من طريق محمد بن إسحاق الصغاني عن محمد بن سابق فقال: "عن مالك بن مغول". قوله: "وما بالمدينة منها شيء" يحتمل أن يكون ابن عمر نفى ذلك بمقتضى ما علم، أو أراد المبالغة من أجل قلتها حينئذ بالمدينة فأطلق النفي، كما يقال فلان ليس بشيء مبالغة، ويؤيده قول أنس المذكور في الباب: "وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا" ويحتمل أن يكون مراد ابن عمر وما بالمدينة منها شيء أي يعصر، وقد تقدم في تفسير المائدة من وجه آخر عن ابن عمر قال: "نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب" وحمل على ما كان يصنع بها لا على ما يجلب إليها. وأما قول عمر في ثالث أحاديث الباب: "نزل تحريم الخمر وهي من خمسة" فمعناه أنها كانت حينئذ تصنع من الخمسة المذكورة في البلاد، لا في خصوص المدينة كما سيأتي تقريره بعد بابين مع شرحه. قوله: "عن يونس" هو ابن عبيد البصري. قوله: "وعامة خمرنا البسر والتمر" أي النبيذ الذي يصير خمرا كان أكثر ما يتخذ من البسر والتمر. قال الكرماني: قوله: "البسر والتمر" مجاز عن الشراب الذي يصنع منهما، وهو عكس "إني أراني أعصر خمرا" أو فيه حذف تقديره عامة أصل خمرنا أو مادته، وسيأتي في الباب الذي بعده من وجه آخر عن أنس قال: "إن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر" وتقرير الحذف فيه ظاهر. وأخرج النسائي وصححه الحاكم من رواية محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الزبيب والتمر هو الخمر" وسنده صحيح، وظاهره الحصر لكن المراد المبالغة، وهو بالنسبة إلى ما كان حينئذ بالمدينة موجودا كما تقرر في حديث أنس، وقيل: مراد أنس الرد على من خص اسم الخمر بما يتخذ من العنب، وقيل: مراده أن التحريم لا يختص بالخمر المتخذة من العنب بل يشركها في التحريم كل شراب مسكر، وهذا أظهر والله أعلم. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان، وأبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي، وعامر هو الشعبي. قوله: "قام عمر على المنبر فقال: أما بعد نزل تحريم الخمر" ساقه من هذا الوجه مختصرا، وسيأتي بعد قليل مطولا. قال ابن مالك: فيه جواز حذف الفاء في جواب "أما بعد". قلت: لا حجة فيه، لأن هذه رواية مسدد هنا، وسيأتي قريبا عن أحمد بن أبي رجاء عن يحيى القطان بلفظ: "خطب عمر على المنبر فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر" ليس فيه: "أما بعد" وأخرجه الإسماعيلي هنا من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي عن يحيى بن سعيد القطان شيخ مسدد وفيه بلفظ: "أما بعد فإن الخمر" فظهر أن حذف الفاء وإثباتها من تصرف الرواة.
(10/36)
3 - باب نَزَلَ
تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ
5582- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ
أَنَسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ
(10/36)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا
طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ
فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ
فَأَهْرِقْهَا فَأَهْرَقْتُهَا".
5583- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ
أَنَساً قَالَ كُنْتُ قَائِماً عَلَى الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ عُمُومَتِي وَأَنَا
أَصْغَرُهُمْ الْفَضِيخَ فَقِيلَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فَقَالُوا أَكْفِئْهَا
فَكَفَأْتُهَا قُلْتُ لِأَنَسٍ مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وَبُسْرٌ فَقَالَ
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ".
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ:
"كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ".
5584- حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا يُوسُفُ
أَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ
أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ
قوله: "باب نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر" أي تصنع أو تتخذ، وذكر
فيه حديث أنس من رواية إسحاق بن أبي طلحة عنه أتم سياقا من رواية ثابت عنه
المتقدمة في الباب قبله. قوله: "كنت أسقي أبا عبيدة" هو ابن الجراح،
"وأبا طلحة" هو زيد بن سهل زوج أم سليم أم أنس، "وأبي بن
كعب"، كذا اقتصر في هذه الرواية على هؤلاء الثلاثة، فأما أبو طلحة فلكون
القصة كانت في منزله كما مضى في التفسير من طريق ثابت عن أنس "كنت ساقي القوم
في منزل أبي طلحة" وأما أبو عبيدة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينه
وبين أبي طلحة كما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنس، وأما أبي بن كعب فكان كبير
الأنصار وعالمهم. ووقع في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس في تفسير المائدة
"إني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا" كذا وقع بالإبهام، وسمى في
رواية مسلم منهم أبا أيوب، وسيأتي بعد أبواب من رواية هشام عن قتادة عن أنس
"إني كنت لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل ابن بيضاء" وأبو دجانة بضم
الدال المهملة وتخفيف الجيم وبعد الألف نون اسمه سماك بن خرشة بمعجمتين بينهما راء
مفتوحات، ولمسلم من طريق سعيد عن قتادة نحوه وسمى فيهم معاذ بن جبل، ولأحمد عن
يحيى القطان عن حميد عن أنس "كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل ابن بيضاء
ونفرا من الصحابة عند أبي طلحة" ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة
وغيرهما عن أنس أن القوم كانوا أحد عشر رجلا، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية
سبعة منهم، وأبهمهم في رواية سليمان التيمي عن أنس وهي في هذا الباب ولفظه:
"كنت قائما على الحي أسقيهم عمومتي" وقوله عمومتي في موضع خفض على البدل
من قوله: "الحي" وأطلق عليهم عمومته لأنهم كانوا أسن منه ولأن أكثرهم من
الأنصار. ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن
أنس أن أبا بكر وعمر كانا فيهم، وهو منكر مع نظافة سنده، وما أظنه إلا غلطا. وقد
أخرج أبو نعيم في "الحلية" في ترجمة شعبة من حديث عائشة قالت: "حرم
أبو بكر الخمر على نفسه فلم يشربها في جاهلية ولا إسلام" ويحتمل إن كان
محفوظا أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم ولم يشربا معهم. ثم وجدت
عند البزار من وجه آخر عن أنس قال: "كنت ساقي القوم، وكان في القوم رجل يقال
له
(10/37)
أبو بكر، فلما شرب قال: "تحيى بالسلامة أم بكر" الأبيات، فدخل علينا رجل من المسلمين فقال: قد نزل تحريم الخمر" الحديث. وأبو بكر هذا يقال له ابن شغوب، فظن بعضهم أنه أبو بكر الصديق، وليس كذلك، لكن قرينة ذكر عمر تدل على عدم الغلط في وصف الصديق، فحصلنا تسمية عشرة، وقد قدمت في غزوة بدر من المغازي ترجمة أبي بكر بن شغوب المذكور. وفي "كتاب مكة، للفاكهي" من طريق مرسل ما يشيد ذلك. قوله: "من فضيخ زهو وتمر" أما الفضيخ فهو بفاء وضاد معجمتين وزن عظيم: اسم للبسر إذا شدخ ونبذ، وأما الزهو فبفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو: وهو البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب. وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب، كما يطلق على خليط البسر والتمر، وكما يطلق على البسر وحده وعلى التمر وحده كما في الرواية التي آخر الباب. وعند أحمد من طريق قتادة عن أنس "وما خمرهم يومئذ إلا البسر والتمر مخلوطين" ووقع عند مسلم من طريق قتادة عن أنس "أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر". قوله: "فجاءهم آت" لم أقف على اسمه، ووقع في رواية حميد عن أنس عند أحمد بعد قوله: "أسقيهم": "حتى كاد الشراب يأخذ فيهم" ولابن مردويه "حتى أسرعت فيهم" ولابن أبي عاصم "حتى مالت رءوسهم، فدخل داخل" ومضى في المظالم من طريق ثابت عن أنس "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى" ولمسلم من هذا الوجه "فإذا مناد ينادي أن الخمر قد حرمت" وله من رواية سعيد عن قتادة عن أنس نحوه وزاد: "فقال أبو طلحة: أخرج فانظر ما هذا الصوت" ومضى في التفسير من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس بلفظ: "إذ جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: قد حرمت الخمر" وهذا الرجل يحتمل أن يكون هو المنادي، ويحتمل أن يكون غيره سمع المنادي فدخل إليهم فأخبرهم. وقد أخرج ابن مردويه من طريق بكر بن عبد الله عن أنس قال: "لما حرمت الخمر وحلف على أناس من أصحابي وهي بين أيديهم، فضربتها برجلي وقلت: نزل تحريم الخمر" فيحتمل أن يكون أنس خرج فاستخبر الرجل، لكن أخرجه من وجه آخر أن الرجل قام على الباب فذكر لهم تحريمها، ومن وجه آخر "أتانا فلان من عند نبينا فقال: قد حرمت الخمر، قلنا: ما تقول؟ فقال: سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم الساعة، ومن عنده أتيتكم". قوله: "فقال أبو طلحة: قم يا أنس، فهرقها" بفتح الهاء وكسر الراء وسكون القاف، والأصل أرقها، فأبدلت الهمزة هاء، وكذا قوله: "فهرقتها" وقد تستعمل هذه الكلمة بالهمزة والهاء معا وهو نادر، وقد تقدم بسطه في الطهارة. ووقع في رواية ثابت عن أنس في التفسير بلفظ: "فأرقها"، ومن رواية عبد العزيز بن صهيب "فقالوا أرق هذه القلال يا أنس" وهو محمول على أن المخاطب له بذلك أبو طلحة، ورضي الباقون بذلك فنسب الأمر بالإراقة إليهم جميعا. ووقع في الرواية الثانية في الباب: "أكفئها" بكسر الفاء مهموز بمعنى أرقها، وأصل الإكفاء الإمالة. ووقع في "باب إجازة خبر الواحد" من رواية أخرى عن مالك في هذا الحديث: "قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت" وهذا لا ينافي الروايات الأخرى بل يجمع بأنه أراقها وكسر أوانيها، أو أراق بعضا وكسر بعضا. وقد ذكر ابن عبد البر أن إسحاق بن أبي طلحة تفرد عن أنس بذكر الكسر، وأن ثابتا وعبد العزيز بن صهيب وحميدا وعد جماعة من الثقات رووا الحديث بتمامه عن أنس منهم من طوله ومنهم من اختصره، فلم يذكروا إلا إراقتها. والمهراس بكسر الميم وسكون الهاء وآخره مهملة إناء يتخذ من صخر وينقر وقد يكون كبيرا كالحوض وقد يكون صغيرا بحيث يتأتى الكسر به، وكأنه لم يحضره ما
(10/38)
يكسر به غيره، أو كسر بآلة المهراس التي يدق بها فيه كالهاون فأطلق اسمه عليها مجازا. ووقع في رواية حميد عن أنس عند أحمد " فوالله ما قالوا حتى ننظر ونسأل " وفي رواية عبد العزيز بن صهيب في التفسير "فوالله ما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل" ووقع في المظالم "فجرت في سكك المدينة" أي طرقها، وفيه إشارة إلى توارد من كانت عنده من المسلمين على إراقتها حتى جرت في الأزقة من كثرتها. قال القرطبي تمسك بهذه الزيادة بعض من قال إن الخمر المتخذة من غير العنب ليست نجسة لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التخلي في الطرق، فلو كانت نجسة ما أقرهم على إراقتها في الطرقات حتى تجري. والجواب أن القصد بالإراقة كان لإشاعة تحريمها، فإذا اشتهر ذلك كان أبلغ فتحتمل أخف المفسدتين لحصول المصلحة العظيمة الحاصلة من الاشتهار، ويحتمل أنها إنما أريقت في الطرق المنحدرة بحيث تنصب إلى الأسربة والحشوش أو الأودية فتستهلك فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن مردويه من حديث جابر بسند جيد في قصة صب الخمر قال: "فانصبت حتى استنقعت في بطن الوادي". والتمسك بعموم الأمر باجتنابها كاف في القول بنجاستها. قوله: "قلت لأنس" القائل هو سليمان التيمي والد معتمر، وقوله: "فقال أبو بكر بن أنس: وكانت خمرهم" زاد مسلم من هذا الوجه "يومئذ" وقوله: "فلم ينكر أنس" زاد مسلم: "ذلك" والمعنى أن أبا بكر بن أنس كان حاضرا عند أنس لما حدثهم فكأن أنسا حينئذ لم يحدثهم بهذه الزيادة إما نسيانا وإما اختصارا، فذكره بها ابنه أبو بكر فأقره عليها، وقد ثبت تحديث أنس بها كما سأذكره. قوله: "وحدثني بعض أصحابي" القائل هو سليمان التيمي أيضا، وهو موصول بالسند المذكور، وقد أفرد مسلم هذه الطريق عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: "حدثني بعض من كان معي أنه سمع أنسا يقول: "كان خمرهم يومئذ" فيحتمل أن يكون أنس حدث بها حينئذ فلم يسمعه سليمان، أو حدث بها في مجلس آخر فحفظها عنه الرجل الذي حدث بها سليمان، وهذا المبهم يحتمل أن يكون هو بكر بن عبد الله المزني، فإن روايته في آخر الباب تومئ إلى ذلك. ويحتمل أن يكون قتادة، فسيأتي بعد أبواب من طريقه عن أنس بلفظ: "وإنا نعدها يومئذ الخمر" وهو من أقوى الحجج على أن الخمر اسم جنس لكل ما يسكر، سواء كان من العنب أو من نقيع الزبيب أو التمر أو العسل أو غيرها. وأما دعوى بعضهم أن الخمر حقيقة في ماء العنب، مجاز في غيره، فإن سلم في اللغة لزم من قال به جواز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، والكوفيون لا يقولون بذلك انتهى. وأما من حيث الشرع فالخمر حقيقة في الجميع، لثبوت حديث: "كل مسكر خمر" فمن زعم أنه جمع بين الحقيقة والمجاز في هذا اللفظ لزمه أن يجيزه، وهذا ما لا انفكاك لهم عنه. قوله: "حدثني يوسف" هو ابن يزيد، وهو أبو معشر البراء بالتشديد، وهو مشهور بكنيته أكثر من اسمه، ويقال له أيضا القطان وشهرته بالبراء أكثر، وكان يبري السهام؛ وهو بصرى، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر سيأتي في الطب وكلاهما في المتابعات، وقد لينه ابن معين وأبو داود، ووثقه المقدمي، وسعيد بن عبيد الله بالتصغير اسم جده جبير بالجيم والموحدة مصغرا ابن حية بالمهملة وتشديد التحتانية وثقه أحمد وابن معين. وقال الحاكم عن الدار قطني: ليس بالقوي، وما له أيضا في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر تقدم في الجزية. قوله: "أن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر" هكذا رواه أبو معشر مختصرا، وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن عبيد الله بهذا السند مطولا ولفظه عن أنس "نزل تحريم الخمر، فدخلت على أناس من أصحابي وهي بين أيديهم فضربتها برجلي فقلت: انطلقوا فقد نزل تحريم الخمر، وشرابهم
(10/39)
يومئذ البسر والتمر" وهذا الفعل من أنس كأنه بعد أن خرج فسمع النداء بتحريم الخمر، فرجع فأخبرهم. ووقع عند ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أنس "فأراقوا الشراب وتوضأ بعض واغتسل بعض، وأصابوا من طيب أم سليم وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقرأ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية. واستدل بهذا الحديث على أن شرب الخمر كان مباحا لا إلى نهاية، ثم حرمت. وقيل: كان المباح الشرب لا السكر المزيل للعقل، وحكاه أبو نصر بن القشيري في تفسيره عن القفال، ونازعه فيه. وبالغ النووي في "شرح مسلم" فقال: ما يقوله بعض من لا تحصيل عنده أن السكر لم يزل محرما باطل لا أصل له، وقد قال الله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فإن مقتضاه وجود السكر حتى يصل إلى الحد المذكور، ونهوا عن الصلاة في تلك الحالة لا في غيرها، فدل على أن ذلك كان واقعا. ويؤيده قصة حمزة والشارفين كما تقدم تقريره في مكانه. وعلى هذا فهل كانت مباحة بالأصل أو بالشرع ثم نسخت؟ فيه قولان للعلماء، والراجح الأول، واستدل به على أن المتخذ من غير العنب يسمى خمرا، وسيأتي البحث في ذلك قريبا في "باب ما جاء أن الخمر ما خامر العقل" وعلى أن السكر المتخذ من غير العنب يحرم شرب قليله كما يحرم شرب القليل من المتخذ من العنب إذا أسكر كثيره، لأن الصحابة فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم ما يتخذ للسكر من جميع الأنواع، ولم يستفصلوا. وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين. وخالف في ذلك الحنفية ومن قال بقولهم من الكوفيين فقالوا: يحرم المتخذ من العنب قليلا كان أو كثيرا إلا إذا طبخ على تفصيل سيأتي بيانه في باب مفرد، فإنه يحل. وقد انعقد الإجماع على أن القليل من الخمر المتخذ من العنب يحرم قليله وكثيره، وعلى أن العلة في تحريم قليله كونه يدعو إلى تناول كثيره، فيلزم ذلك من فرق في الحكم بين المتخذ من العنب وبين المتخذ من غيرها فقال في المتخذ من العنب: يحرم القليل منه والكثير إلا إذا طبخ كما سيأتي بيانه، وفي المتخذ من غيرها لا يحرم منه إلا القدر الذي يسكر وما دونه لا يحرم، ففرقوا بينهما بدعوى المغايرة في الاسم مع اتحاد العلة فيهما، فإن كل قدر في المتخذ من العنب يقدر في المتخذ من غيرها، قال القرطبي: وهذا من أرفع أنواع القياس لمساواة الفرع فيه للأصل في جميع أوصافه، مع موافقته فيه لظواهر النصوص الصحيحة، والله أعلم. قال الشافعي: قال لي بعض الناس الخمر حرام، والسكر من كل شراب حرام، ولا يحرم المسكر منه حتى يسكر، ولا يحد شاربها. فقلت: كيف خالفت ما جاء به عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن عمر ثم عن علي ولم يقل أحد من الصحابة خلافه؟ قال: وروينا عن عمر، قلت: في سنده مجهول عنده فلا حجة فيه. قال البيهقي: أشار إلى رواية سعيد بن ذي لعوة أنه شرب من سطيحة لعمر فكسر فجلده عمر، قال: إنما شربت من سطيحتك. قال: أضربك على السكر. وسعيد قال البخاري وغيره: لا يعرف. قال: وقال بعضهم سعيد بن ذي حدان، وهو غلط. ثم ذكر البيهقي الأحاديث التي جاءت في كسر النبيذ بالماء، منها حديث همام بن الحارث عن عمر "أنه كان في سفر، فأتي بنبيذ فشرب منه فقطب، ثم قال: إن نبيذ الطائفة له عرام - بضم المهملة وتخفيف الراء - ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شرب" وسنده قوي، وهو أصح شيء ورد في ذلك، وليس نصا في أنه بلغ حد الإسكار، فلو كان بلغ حد الإسكار لم يكن صب الماء عليه مزيلا لتحريمه، وقد اعترف الطحاوي بذلك فقال: لو كان بلغ التحريم لكان لا يخل، ولو ذهبت شدته بصب الماء، فثبت أنه قبل أن يصب عليه الماء كان غير حرام. قلت: وإذا لم يبلغ حد الإسكار فلا خلاف في إباحة شرب قليله وكثيره،
(10/40)
فدل على أن تقطيبه لأمر غير الإسكار. قال البيهقي: حمل هذه الأشربة على أنهم خشوا أن تتغير فتشتد، فجوزوا صب الماء فيها ليمتنع الاشتداد، أولى من حملها على أنها كانت بلغت حد الإسكار، فكان صب الماء عليها لذلك. لأن مزجها بالماء لا يمنع إسكارها إذا كانت قد بلغت حد الإسكار. ويحتمل أن يكون سبب صب الماء كون ذلك الشراب كان حمض، ولهذا قطب عمر لما شربه، فقد قال نافع: والله ما قطب عمر وجهه لأجل الإسكار حين ذاقه، ولكنه كان تخلل. وعن عتبة بن فرقد قال: كان النبيذ الذي شربه عمر قد تخلل، قلت: وهذا الثاني أخرجه النسائي بسند صحيح، وروى الأثرم عن الأوزاعي وعن العمري أن عمر إنما كسره بالماء لشدة حلاوته. قلت: ويمكن الحمل على حالتين: هذه لما لم يقطب حين ذاقه وأما عندما قطب فكان لحموضته. واحتج الطحاوي لمذهبهم أيضا بما أخرجه من طريق النخعي عن علقمة عن ابن مسعود في قوله: "كل مسكر حرام" قال: هي الشربة التي تسكر. وتعقب بأنه ضعيف لأنه تفرد به حجاج بن أرطاة عن حماد بن أبي سليمان عن النخعي وحجاج هو ضعيف ومدلس أيضا. قال البيهقي: ذكر هذا لعبد الله بن المبارك فقال: هذا باطل. وروى بسند له صحيح عن النخعي قال: إذا سكر من شراب لم يحل له أن يعود فيه أبدا. قلت: وهذا أيضا عند النسائي بسند صحيح ثم روى النسائي عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة فيه من وجه صحيح إلا عن النخعي من قوله. وأخرج النسائي والأثرم من طريق خالد بن سعد عن أبي مسعود قال: عطش النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف فأتي بنبيذ من السقاية فقطب، فقيل: أحرام هو؟ قال لا: علي بذنوب من ماء زمزم، فصب عليه وشرب" قال الأثرم: احتج به الكوفيون لمذهبهم، ولا حجة فيه، لأنهم متفقون على أن النبيذ إذا اشتد بغير طبخ لا يحل شربه، فإن زعموا أن الذي شربه النبي صلى الله عليه وسلم كان من هذا القبيل فقد نسبوا إليه أنه شرب المسكر، ومعاذ الله من ذلك. وإن زعموا أنه قطب من حموضته لم يكن لهم فيه حجة، لأن النقيع ما لم يشتد فكثيره وقليله حلال بالاتفاق. قلت: وقد ضعف حديث أبي مسعود المذكور النسائي وأحمد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم، لتفرد يحيى بن يمان برفعه وهو ضعيف. ثم روى النسائي عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة فيه من وجه صحيح إلا عن النخعي من قوله.
(10/41)
4 - باب الْخَمْرُ
مِنْ الْعَسَلِ وَهُوَ الْبِتْعُ
وَقَالَ مَعْنٌ: سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ الْفُقَّاعِ. فَقَالَ: إِذَا
لَمْ يُسْكِرْ فَلاَ بَأْسَ. وَقَالَ ابْنُ الدَّرَاوَرْدِيِّ: سَأَلْنَا عَنْهُ،
فَقَالُوا: لاَ يُسْكِرُ، لاَ بَأْسَ بِهِ.
5585- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:
"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ؟
فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ" .
5586- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن
أن عائشة رضي الله عنها قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع؟
وهو نبيذ العسل. وكان أهل اليمن يشربونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كل شراب أسكر فهو حرام" .
5587- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لاَ تَنْتَبِذُوا فِي
الدُّبَّاءِ وَلاَ فِي الْمُزَفَّتِ" . وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ
مَعَهَا الْحَنْتَمَ وَالنَّقِيرَ".
(10/41)
قوله: "باب الخمر من العسل" وهو البتع بكسر الموحدة وسكون الشاة وقد تفتح وهي لغة يمانية. قوله: "وقال معن" ابن عيسى "سألت مالك بن أنس عن الفقاع" بضم الفاء وتشديد القاف معروف قد يصنع من العسل وأكثر ما يصنع من الزبيب وحكمه حكم سائر الأنبذة ما دام طريا يجوز شربه ما لم يشتد. قوله: "فقال: إذا لم يسكر فلا بأس به" أي وإذا أسكر حرم كثيره وقليله. قوله: "وقال ابن الدراوردي" هو عبد العزيز بن محمد، وهذا من رواية معن بن عيسى عنه أيضا. قوله: "فقالوا: لا يسكر لا بأس به" لم أعرف الذين سألهم الدراوردي عن ذلك لكن الظاهر أنهم فقهاء أهل المدينة في زمانه وهو قد شارك مالكا في لقاء أكثر مشايخه المدنيين. والحكم في الفقاع ما أجابوه به لأنه لا يسمى فقاعا إلا إذا لم يشتد. وهذا الأثر ذكره معن بن عيسى القزاز في الموطأ رواية عن مالك وقد وقع لنا بالإجازة وغفل بعض الشراح فقال أن معن بن عيسى من شيوخ البخاري فيكون له حكم الاتصال كذا قال والبخاري لم يلق معن بن عيسى لأنه مات بالمدينة والبخاري حينئذ ببخارى وعمره حينئذ أربع سنين وكأن البخاري أراد بذكر هذا الأثر في الترجمة أن المراد بتحريم قليل ما أسكر كثيره أن يكون الكثير في تلك الحالة مسكرا فلو كان الكثير في تلك الحالة لا يسكر لم يحرم قليله ولا كثيرة كما لو عصر العنب وشربه في الحال وسيأتي مزيد في بيان ذلك في "باب البازق" إن شاء الله تعالى. قوله: "سئل عن البتع" زاد شعيب عن الزهري وهو ثاني أحاديث الباب: "وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه" ومثله لأبي داود من طريق الزبيدي عن الزهري، وظاهره أن التفسير من كلام عائشة، ويحتمل أن يكون من كلام من دونها، ووقع في رواية معمر عن الزهري عند أحمد مثل رواية مالك، لكن قال في آخره: "والبتع نبيذ العسل" وهو أظهر في احتمال الإدراج. لأنه أكثر ما يقع في آخر الحديث. وقد أخرجه مسلم من طريق معمر لكن لم يسق لفظه، ولم أقف على اسم السائل في حديث عائشة صريحا، لكنني أظنه أبا موسى الأشعري، فقد تقدم في المغازي من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه "عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة تصنع بها فقال: ما هي؟ قال: البتع والمزر، فقال: كل مسكر حرام. قلت لأبي بردة: ما البتع؟ قال: نبيذ العسل" وهو عند مسلم من وجه آخر عن سعيد بن أبي بردة بلفظ: "فقلت يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر من الشعير والذرة ينبذ حتى يشتد، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم وخواتمه، فقال: أنهى عن كل مسكر" وفي رواية أبي داود التصريح بأن تفسير البتع مرفوع ولفظه: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل، فقال: ذاك البتع، قلت: ومن الشعير والذرة، قال: ذاك المزر. ثم قال: أخبر قومك أن كل مسكر حرام" وقد سأل أبو وهب الجيشاني عن شيء ما سأله أبو موسى، فعند الشافعي وأبي داود من حديثه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المزر فأجاب بقوله: "كل مسكر حرام" وهذه الرواية تفسير المراد بقوله في حديث الباب: "كل شراب أسكر" وأنه لم يرد تخصيص التحريم بحالة الإسكار، بل المراد أنه إذا كانت فيه صلاحية الإسكار حرم تناوله ولو لم يسكر المتناول بالقدر الذي تناوله منه. ويؤخذ من لفظ السؤال أنه وقع عن حكم جنس البتع لا عن القدر المسكر منه، لأنه لو أراد السائل ذلك لقال: أخبرني عما يحل منه وما يحرم، وهذا هو المعهود من لسان العرب إذا سألوا عن الجنس قالوا: هل هذا نافع أو ضار؟ مثلا. وإذا سألوا عن القدر قالوا: كم يؤخذ منه؟ وفي الحديث أن المفتي يجيب السائل بزيادة عما سأل عنه إذا كان ذلك مما
(10/42)
يحتاج إليه السائل. وفيه تحريم كل مسكر سواء كان متخذا من عصير العنب أو من غيره، قال المازري: أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال، وعلى أنه إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره، ثم لو حصل له تخلل بنفسه حل بالإجماع أيضا، فوقع النظر في تبدل هذه الأحكام عند هذه المتخذات فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض، ودل على أن علة التحريم الإسكار فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره انتهى. وما ذكره استنباطا ثبت التصريح به في بعض طرق الخبر، فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسكر كثيره فقليله حرام" وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، وسنده إلى عمرو صحيح. ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعا "كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام" ولابن حبان والطحاوي من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره" وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث، لكن قال: اختلفوا في تأويل الحديث، فقال بعضهم: أراد به جنس ما يسكر. وقال بعضهم أراد به ما يقع السكر عنده، ويؤيده أن القاتل لا يسمى قاتلا حتى يقتل، قال: ويدل له حديث ابن عباس رفعه: "حرمت الخمر قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب" . قلت: وهو حديث أخرجه النسائي ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه وفي رفعه ووقفه، وعلى تقدير صحته فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه بلفظ: "والمسكر" بضم الميم وسكون السين لا "السكر" بضم ثم سكون أو بفتحتين، وعلى تقدير ثبوتها فهو حديث فرد ولفظه محتمل، فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث مع صحتها وكثرتها؟ وجاء أيضا عن علي عند الدار قطني وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني وعن خوات بن جبير عند الدار قطني والحاكم والطبراني وعن زيد بن ثابت عند الطبراني وفي أسانيدها مقال، لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة. قال أبو المظفر بن السمعاني - وكان حنفيا فتحول شافعيا -: ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر، ثم ساق كثيرا منها ثم قال: والأخبار في ذلك كثيرة ولا مساغ لأحد في العدول عنها والقول بخلافها، فإنها حجج قواطع. قال: وقد زل الكوفيون في هذا الباب ورووا أخبارا معلولة لا تعارض هذه الأخبار بحال، ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب مسكرا فقد دخل في أمر عظيم وباء بإثم كبير، وإنما الذي شربه كان حلوا ولم يكن مسكرا. وقد روى ثمامة بن حزن القشيري أنه "سأل عائشة عن النبيذ فدعت جارية حبشية فقالت: سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الحبشية: كنت أنبذ له في سقاء من الليل وأوكؤه وأعلقه فإذا أصبح شرب منه" أخرجه مسلم. وروى الحسن البصري عن أمه عن عائشة نحوه ثم قال: فقياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها، والمفاسد التي توجد في الخمر توجد في النبيذ، ومن ذلك أن علة الإسكار في الخمر لكون قليله يدعو إلى كثيره موجودة في النبيذ، لأن السكر مطلوب على العموم، والنبيذ عندهم عند عدم الخمر يقوم مقام الخمر لأن حصول الفرح والطرب موجود في كل منهما، وإن كان في النبيذ غلظ وكدرة وفي الخمر رقة وصفاء لكن الطبع يحتمل ذلك في النبيذ لحصول السكر كما تحتمل المرارة في الخمر لطلب السكر، قال: وعلى الجملة فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر قل أو كثر مغنية عن القياس والله أعلم. وقد قال عبد الله بن المبارك: لا يصح في حل النبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة شيء ولا عن التابعين، إلا عن إبراهيم النخعي، قال: وقد ثبت حديث عائشة "كل شراب أسكر فهو حرام" وأما ما أخرج
(10/43)
ابن أبي شيبة من طريق أبي وائل: كنا ندخل على ابن مسعود فيسقينا نبيذا شديدا، ومن طريق علقمة: أكلت مع ابن مسعود فأتينا بنبيذ شديد نبذته سيرين فشربوا منه، فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: لو حمل على ظاهره لم يكن معارضا للأحاديث الثابتة في تحريم كل مسكر. ثانيها: أنه ثبت عن ابن مسعود تحريم المسكر قليله وكثيره، فإذا اختلف القليل عنه كان الموافق لقول إخوانه من الصحابة مع موافقة الحديث المرفوع أولى. ثالثها: يحتمل أن يكون المراد بالشدة شدة الحلاوة أو شدة الحموضة فلا يكون فيه حجة أصلا. وأسند أبو جعفر النحاس عن يحيى بن معين أن حديث عائشة "كل شراب أسكر فهو حرام" أصح شيء في الباب، وفي هذا تعقب على من نقل عن ابن معين أنه قال: لا أصل له. وقد ذكر الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" وهو من أكثرهم إطلاعا أنه لم يثبت في شيء من كتب الحديث نفل هذا عن ابن معين اهـ. وكيف يتأتى القول بتضعيفه مع وجود مخارجه الصحيحة ثم مع كثرة طرقه، حتى قال الإمام أحمد: إنها جاءت عن عشرين صحابيا، فأورد كثيرا منها في "كتاب الأشربة" المفرد، فمنها ما تقدم ومنها حديث ابن عمر المتقدم ذكره أول الباب، وحديث عمر بلفظ: "كل مسكر حرام" عند أبي يعلى وفيه الإفريقي، وحديث علي بلفظ: "اجتنبوا ما أسكر" عند أحمد وهو حسن، وحديث ابن مسعود عند ابن ماجه من طريق لين بلفظ عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر لين أيضا بلفظ علي، وحديث أنس أخرجه أحمد بسند صحيح بلفظ: "ما أسكر فهو حرام " وحديث أبي سعيد أخرجه البزار بسند صحيح بلفظ عمر، وحديث الأشج العصري أخرجه أبو يعلى كذلك بسند جيد وصححه ابن حبان، وحديث ديلم الحميري أخرجه أبو داود بسند حسن في حديث فيه: "قال هل يسكر؟ قال: نعم، قال: فاجتنبوه" وحديث ميمونة أخرجه أحمد بسند حسن بلفظ: "وكل شراب أسكر فهو حرام" وحديث ابن عباس أخرجه أبو داود من طريق جيد بلفظ عمر، والبزار من طريق لين بلفظ: " واجتنبوا كل مسكر " وحديث قيس بن سعد أخرجه الطبراني بلفظ حديث ابن عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر بلفظ حديث عمر، وحديث النعمان بن بشير أخرجه أبو داود بسند حسن بلفظ: "وإني أنهاكم عن كل مسكر" وحديث معاوية أخرجه ابن ماجه بسند حسن بلفظ عمر، وحديث وائل بن حجر أخرجه ابن أبي عاصم، وحديث قرة بن إياس المزني أخرجه البزار بلفظ عمر بسند لين، وحديث عبد الله بن مغفل أخرجه أحمد بلفظ: "اجتنبوا المسكر " وحديث أم سلمة أخرجه أبو داود بسند حسن بلفظ: "نهي عن كل مسكر ومفتر " وحديث بريدة أخرجه مسلم في أثناء حديث ولفظه مثل لفظ عمر، وحديث أبي هريرة أخرجه النسائي بسند حسن كذلك، ذكر أحاديث هؤلاء الترمذي في الباب، وفيه أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي بلفظ عمر، وعن زيد بن الخطاب أخرجه الطبراني بلفظ علي "اجتنبوا كل مسكر" وعن الرسيم أخرجه أحمد بلفظ: "اشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكرا" وعن أبي بردة بن نيار أخرجه ابن أبي شيبة بنحو هذا اللفظ، وعن طلق بن علي رواه ابن أبي شيبة بلفظ: "يا أيها السائل عن المسكر لا تشربه ولا تسقه أحدا من المسلمين" وعن صحار العبدي أخرجه الطبراني بنحو هذا، وعن أم حبيبة عند أحمد في "كتاب الأشربة" وعن الضحاك بن النعمان عند ابن أبي عاصم في الأشربة وكذا عنده عن خوات بن جبير، فإذا انضمت هذه الأحاديث إلى حديث ابن عمر وأبي موسى وعائشة زادت عن ثلاثين صحابيا، وأكثر الأحاديث عنهم جياد ومضمونها أن المسكر لا يحل تناوله بل يجب اجتنابه والله أعلم. وقد رد أنس الاحتمال الذي جنح إليه الطحاوي فقال أحمد: "حدثنا عبد الله بن إدريس سمعت
(10/44)
المختار بن فلفل يقول: سألت أنسا فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفت وقال: كل مسكر حرام. قال فقلت له: صدقت المسكر حرام، فالشربة والشربتان على الطعام؟ فقال: ما أسكر كثيره فقليله حرام" وهذا سند صحيح على شرط مسلم والصحابي أعرف بالمراد ممن تأخر بعده، ولهذا قال عبد الله بن المبارك ما قال، واستدل بمطلق قوله: "كل مسكر حرام " على تحريم ما يسكر ولو لم يكن شرابا، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها، وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة، وهو مكابرة لأنها تحدث بالمشاهدة ما يحدث الخمر من الطرب والنشأة والمداومة عليها والانهماك فيها، وعلى تقدير تسليم أنها ليست بمسكرة فقد ثبت في أبي داود النهي عن كل مسكر ومفتر وهو بالفاء، والله أعلم. قوله: "وعن الزهري" هو من رواية شعيب أيضا عن الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور. وقد أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" وأفرده عن أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان شيخ البخاري به، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبراني. قوله: "وكان أبو هريرة يلحق معهما الحنتم والنقير" القائل هذا هو الزهري، وقع ذلك عند شعيب عنه مرسلا، وأخرجه مسلم والنسائي من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت" ثم يقول أبو هريرة "واجتنبوا الحناتم" ورفعه كله من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: "نهي عن المزفت والحنتم والنقير" ومثله لابن سعد من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة وزاد فيه: "والدباء" وقد تقدم ضبط هذه الأشياء في شرح حديث وفد عبد القيس في أوائل الصحيح من كتاب الإيمان. وأخرج مسلم من طريق زاذان قال: "سألت ابن عمر عن الأوعية فقلت: أخبرناه بلغتكم وفسره لنا بلغتنا، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتمة وهي الجرة، وعن الدباء وهي القرعة، وعن النقير وهي أصل النخلة تنقر نقرا، وعن المزفت وهو المقير". وأخرج أبو داود الطيالسي وابن أبي عاصم والطبراني من حديث أبي بكر قال: "نهينا عن الدباء والنقير والحنتم والمزفت، فأما الدباء فإنا معشر ثقيف بالطائف كنا نأخذ الدباء فنخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها ثم نتركها حتى تهدر ثم تموت، وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة فيشدخون فيه الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت، وأما الحنتم فجرار جاءت تحمل إلينا فيها الخمر، وأما المزفت فهي هذه الأوعية التي فيها هذا الزفت". وسيأتي بيان نسخ النهي عن الأوعية بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى. "تنبيه": قال المهلب: وجه إدخال حديث أنس في النهي في الانتباذ في الأوعية المذكورة في ترجمة الخمر من العسل أن العسل لا يكون مسكرا إلا بعد الانتباذ، والعسل قبل الانتباذ مباح، فأشار إلى اجتناب بعض ما ينتبذ فيه لكونه يسرع إليه الإسكار.
(10/45)
5 - باب مَا جَاءَ
فِي أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ الشَّرَابِ
5588- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي
حَيَّانَ التَّيْمِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ
خَمْسَةِ أَشْيَاءَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ
وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَثَلاَثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ إِلَيْنَا
عَهْداً الْجَدُّ وَالْكَلاَلَةُ وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا قَالَ
قُلْتُ يَا أَبَا عَمْرٍو فَشَيْءٌ يُصْنَعُ
(10/45)
بِالسِّنْدِ مِنْ
الأُرْزِ قَالَ ذَاكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ".
وَقَالَ حَجَّاجٌ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ: مَكَانَ
"الْعِنَبِ": "الزَّبِيبَ".
5589- حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن بن عمر
عن عمر قال: "الخمر يصنع من خمسة: من الزبيب والتمر والحنطة والشعير
والعسل".
قوله: "باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب" كذا قيده
بالشراب، وهو متفق عليه، ولا يرد عليه أن غير الشراب ما يسكر لأن الكلام إنما هو
في أنه هل يسمى خمرا أم لا. قوله: "حدثني أحمد بن أبي رجاء" هو أبو
الوليد الهروي واسم أبيه عبد الله بن أيوب، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وأبو حيان
هو يحيى بن سعيد التيمي. قوله: "عن الشعبي" في رواية ابن علية عن أبي
حيان "حدثنا الشعبي" أخرجه النسائي. قوله: "خطب عمر" في رواية
ابن إدريس عن أبي حيان بسنده "سمعت عمر يخطب" وقد تقدمت في التفسير وزاد
فيه: "أيها الناس". قوله: "فقال إنه قد نزل" زاد مسدد فيه عن
القطان فيه: "أما بعد" وقد تقدمت في أول الأشربة، وعند البيهقي من وجه
آخر عن مسدد "فحمد الله وأثنى عليه". قوله: "نزل تحريم الخمر، وهي
من خمسة" الجملة حالية أي نزل تحريم الخمر في حال كونها تصنع من خمسة، ويجوز
أن تكون استئنافية أو معطوفة على ما قبلها، والمراد أن الخمر تصنع من هذه الأشياء
لا أن ذلك يختص بوقت نزولها، والأول أظهر لأنه وقع في رواية مسلم بلفظ: "ألا
وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل وهي من خمسة أشياء" نعم وقع في آخر الباب من
وجه آخر "وإن الخمر تصنع من خمسة". قوله: "من العنب الخ" هذا
الحديث أورده أصحاب المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة لأن له عندهم حكم
الرفع لأنه خبر صحابي شهد التنزيل أخبر عن سبب نزولها، وقد خطب به عمر على المنبر
بحضرة كبار الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحد منهم إنكاره، وأراد عمر بنزول تحريم
الخمر الآية المذكورة في أول كتاب الأشربة وهي آية المائدة {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى آخرها. فأراد عمر
التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصا بالمتخذ من العنب بل يتناول
المتخذ من غيرها، ويوافقه حديث أنس الماضي فإنه يدل على أن الصحابة فهموا من تحريم
الخمر تحريم كل مسكر سواء كان من العنب أم من غيرها، وقد جاء هذا الذي قاله عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم صريحا: فأخرج أصحاب السنن الأربعة وصححه ابن حبان من
وجهين عن الشعبي "إن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة، وإني
أنهاكم عن كل مسكر" لفظ أبي داود، وكذا ابن حبان، وزاد فيه أن النعمان خطب
الناس بالكوفة.
ولأبي داود من وجه آخر عن الشعبي عن النعمان بلفظ: " إن من العنب خمرا، وإن
من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا" ،
ومن هذا الوجه أخرجها أصحاب السنن، والتي قبلها فيها الزبيب دون العسل، ولأحمد من
حديث أنس بسند صحيح عنه قال: " الخمر من العنب والتمر والعسل " ولأحمد
من حديث أنس بسند صحيح عنه قال: " الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة
والشعير والذرة " ، أخرجه أبو يعلى من هذا الوجه بلفظ: "حرمت الخمر يوم
حرمت وهي" فذكرها وزاد الذرة. وأخرج الخلعي في فوائده من طريق خلاد بن
(10/46)
السائب عن أبيه رفعه مثل الرواية الثانية، ولكن ذكر الزبيب بدل الشعير، وسنده لا بأس به، ويوافق ذلك ما تقدم في التفسير من حديث ابن عمر: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب. قوله: "الذرة" بضم المعجمة وتخفيف الراء من الحبوب معروفة، وقد تقدم ذكرها في حديث أبي موسى في الباب قبله. قوله: "والخمر ما خامر العقل" أي غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله وهو من مجاز التشبيه، والعقل هو آلة التمييز فلذلك حرم ما غطاه أو غيره، لأن بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده ليقوموا بحقوقه. قال الكرماني: هذا تعريف بحسب اللغة، وأما بحسب العرف فهو ما يخامر العقل من عصير العنب خاصة، كذا قال، وفيه نظر لأن عمر ليس في مقام تعريف اللغة بل هو في مقام تعريف الحكم الشرعي، فكأنه قال: الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشرع هو ما خامر العقل. على أن عند أهل اللغة اختلافا في ذلك كما قدمته، ولو سلم أن الخمر في اللغة يختص بالمتخذ من العنب فالاعتبار بالحقيقة الشرعية وقد تواردت الأحاديث على أن المسكر من المتخذ من غير العنب يسمى خمرا، والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" قال البيهقي. ليس المراد الحصر فيهما لأنه ثبت أن الخمر تتخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره، وإنما فيه الإشارة إلى أن الخمر شرعا لا تختص بالمتخذ من العنب، قلت: وجعل الطحاوي هذه الأحاديث متعارضة، وهي حديث أبي هريرة في أن الخمر من شيئين مع حديث عمر ومن وافقه أن الخمر تتخذ من غيرهما، وكذا حديث ابن عمر "لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء" وحديث أنس يعني المتقدم ذكره وبيان اختلاف ألفاظه منها: "إن الخمر حرمت وشرابهم الفضيخ" وفي لفظ له "إنا نعدها يومئذ خمرا" وفي لفظ له "إن الخمر يوم حرمت البسر والتمر" قال فلما اختلف الصحابة في ذلك ووجدنا اتفاق الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر وأن مستحله كافر دل على أنهم لم يعملوا بحديث أبي هريرة، إذ لو عملوا به لكفروا مستحل نبيذ التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب اهـ. ولا يلزم من كونهم لم يكفروا مستحل نبيذ التمر أن يمنعوا تسميته خمرا فقد يشترك الشيئان في التسمية ويفترقان في بعض الأوصاف، مع أنه هو يوافق على أن حكم المسكر من نبيذ التمر حكم قليل العنب في التحريم، فلم تبق المشاححة إلا في التسمية. والجمع بين حديث أبي هريرة وغيره بحمل حديث أبي هريرة على الغالب؛ أي أكثر ما يتخذ الخمر من العنب والتمر، ويحمل حديث عمر ومن وافقه على إرادة استيعاب ذكر ما عهد حينئذ أنه يتخذ منه الخمر، وأما قول ابن عمر فعلى إرادة تثبيت أن الخمر يطلق على ما لا يتخذ من العنب، لأن نزول تحريم الخمر لم يصادف عند من خوطب بالتحريم حينئذ إلا ما يتخذ من غير العنب أو على إرادة المبالغة، فأطلق نفي وجودها بالمدينة وإن كانت موجودة فيها بقلة، فإن تلك القلة بالنسبة لكثرة المتخذ مما عداها كالعدم. وقد قال الراغب في "مفردات القرآن" سمي الخمر لكونه خامرا للعقل أي ساترا له، وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر وعند بعضهم للمتخذ من العنب خاصة، وعند بعضهم للمتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم لغير المطبوخ، فرجح أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرا حقيقة، وكذا قال أبو نصر بن القشيري في تفسيره: سميت الخمر خمرا لسترها العقل أو لاختمارها. وكذا قال غير واحد من أهل اللغة منهم أبو حنيفة الدينوري وأبو نصر الجوهري، ونقل عن ابن الأعرابي قال: سميت الخمر لأنها تركت حتى اختمرت، واختمارها تغير رائحتها. وقيل: سميت بذلك لمخامرتها العقل. نعم جزم ابن سيده في
(10/47)
"المحكم" بأن الخمر حقيقة إنما هي للعنب، وغيرها من المسكرات يسمى خمرا مجازا. وقال صاحب "الفائق" في حديث: "إياكم والغبيراء فإنها خمر العالم" هي نبيذ الحبشة متخذة من الذرة سميت الغبيراء لما فيها من الغبرة. وقوله: "خمر العالم" أي هي مثل خمر العالم لا فرق بينها وبينها. قلت: وليس تأويله هذا بأولى من تأويل من قال: أراد أنها معظم خمر العالم. وقال صاحب "الهداية" من الحنفية الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد، وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم، قال: وقيل: هو اسم لكل مسكر لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" وقوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" ولأنه من مخامرة العقل وذلك موجود في كل مسكر، قال: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولأن تحريم الخمر قطعي وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظني، قال: وإنما سمي الخمر خمرا لتخمره لا لمخامرة العقل، قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصا فيه، كما في النجم فإنه مشتق من الظهور ثم هو خاص بالثريا اهـ. والجواب عن الحجة الأولى ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمرا. وقال الخطابي: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرا، عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه. وقال ابن عبد البر: قال الكوفيون إن الخمر من العنب لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْراً} قال: فدل على أن الخمر هو ما يعتصر لا ما ينتبذ، قال: ولا دليل فيه على الحصر. وقال أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم: كل مسكر خمر وحكمه حكم ما اتخذ من العنب، ومن الحجة لهم أن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة وهم أهل اللسان أن كل شيء يسمى خمرا يدخل في النهي فأراقوا المتخذ من التمر والرطب ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب. وعلى تقدير التسليم فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمرا من الشرع كان حقيقة شرعية وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية. وعن الثانية ما تقدم من أن اختلاف مشتركين في الحكم في الغلظ لا يلزم منه افتراقهما في التسمية، كالزنا مثلا فإنه يصدق على من وطئ أجنبية وعلى من وطئ امرأة جاره، والثاني أغلظ من الأول، وعلى من وطئ محرما له وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة، وأيضا فالأحكام الفرعية لا يشترط فيها الأدلة القطعية، فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب، وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره، أن لا يكون حراما بل يحكم بتحريمه إذا ثبت بطريق ظني تحريمه، وكذا تسميته خمرا والله أعلم. وعن الثالثة ثبوت النقل عن أعلم الناس بلسان العرب بما نفاه هو، وكيف يستجيز أن يقول لا لمخامرة العقل مع قول عمر بمحضر الصحابة "الخمر ما خامر العقل" كأن مستنده ما ادعاه من اتفاق أهل اللغة فيحمل قول عمر على المجاز، لكن اختلف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر خمرا. فقال أبو بكر بن الأنباري: سميت الخمر خمرا لأنها تخامر العقل أي تخالطه، قال: ومنه قولهم خامره الداء أي خالطه، وقيل: لأنها تخمر العقل أي تستره، ومنه الحديث الآتي قريبا "خمروا آنيتكم" ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها، وهذا أخص من التفسير الأول لأنه لا يلزم من المخالطة التغطية. وقيل: سميت خمرا لأنها تخمر حتى تدرك كما يقال خمرت العجين فتخمر أي تركته حتى أدرك، ومنه خمرت الرأي أي تركته حتى ظهر وتحرر، وقيل: سميت خمرا لأنها تغطى حتى تغلي، ومنه حديث المختار بن فلفل "قلت لأنس: الخمر من العنب أو من غيرها؟ قال: ما خمرت من ذلك فهو الخمر" أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح، ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان. قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في الخمرة لأنها تركت
(10/48)
حتى أدركت وسكنت، فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه. وقال القرطبي: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره - على صحتها وكثرتها - تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه ولم يتوقفوا ولا استفصلوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستكشفوا ويستفصلوا ويتحققوا التحريم لما كان تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلما لم يفعلوا ذلك وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنهم فهموا التحريم نصا، فصار القائل بالتفريق سالكا غير سبيلهم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر بما يوافق ذلك، وهو ممن جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وسمعه الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك. وإذا ثبت أن كل ذلك يسمى خمرا لزم تحريم قليله وكثيره. وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في ذلك. ثم ذكرها قال: وأما الأحاديث عن الصحابة التي تمسك بها المخالف فلا يصح منها شيء على ما قال عبد الله بن المبارك وأحمد وغيرهم، وعلى تقدير ثبوت شيء منها فهو محمول على نقيع الزبيب أو التمر من قبل أن يدخل حد الإسكار جمعا بين الأحاديث. قلت: ويؤيده ثبوت مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في باب نقيع التمر، ولا فرق في الحل بينه وبين عصير العنب أول ما يعصر، وإنما الخلاف فيما اشتد منهما هل يفترق الحكم فيه أو لا؟ وقد ذهب بعض الشافعية إلى موافقة الكوفيين في دعواهم أن اسم الخمر خاص بما يتخذ من العنب مع مخالفتهم له في تفرقتهم في الحكم وقولهم بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كل شراب، فقال الرافعي: ذهب أكثر الشافعية إلى أن الخمر حقيقة فيما يتخذ من العنب مجاز في غيره، وخالفه ابن الرفعة فنقل عن المزني وابن أبي هريرة وأكثر الأصحاب أن الجميع يسمى خمرا حقيقة. قال: وممن نقله عن أكثر الأصحاب القاضيان أبو الطيب والروياني، وأشار ابن الرفعة إلى أن النقل الذي عزاه الرافعي للأكثر لم يجد نقله عن الأكثر إلا في كلام الرافعي، ولم يتعقبه النووي في "الروضة"، لكن كلامه في "شرح مسلم" يوافقه وفي "تهذيب الأسماء" يخالفه، وقد نقل ابن المنذر عن الشافعي ما يوافق ما نقلوا عن المزني فقال: قال إن الخمر من العنب ومن غير العنب عمر وعلي وسعيد وابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عباس وعائشة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث، ويمكن الجمع بأن من أطلق على غير المتخذ من العنب حقيقة يكون أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية. وقد أجاب بهذا ابن عبد البر وقال: إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي دون اللغوي والله أعلم. وقد قدمت في "باب نزول تحريم الخمر، وهو من البسر" إلزام من قال بقول أهل الكوفة إن الخمر حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره أنه يلزمهم أن يجوزوا إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه، لأن الصحابة لما بلغهم تحريم الخمر أراقوا كل ما كان يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازا، وإذا لم يجوزوا ذلك صح أن الكل خمر حقيقة ولا انفكاك عن ذلك، وعلى تقدير إرخاء العنان والتسليم أن الخمر حقيقة في ماء العنب خاصة فإنما ذلك من حيث الحقيقة اللغوية، فأما من حيث الحقيقة الشرعية فالكل خمر حقيقة لحديث: "كل مسكر خمر" فكل ما اشتد
(10/49)
كان خمرا، وكل خمر
يحرم قليله وكثيره، وهذا يخالف قولهم وبالله التوفيق. قوله: "وثلاث" هي
صفة موصوف أي أمور أو أحكام. قوله: "وددت" أي تمنيت، وإنما تمنى ذلك
لأنه أبعد من محذور الاجتهاد وهو الخطأ فيه، فثبت على تقدير وقوعه، ولو كان مأجورا
عليه فإنه يفوته بذلك الأجر الثاني، والعمل بالنص إصابة محضة. قوله: "لم
يفارقنا حتى يعهد إلينا عهدا" في رواية مسلم: "عهدا ينتهي إليه"،
وهذا يدل على أنه لم يكن عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم نص فيها، ويشعر بأنه
كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الخمر ما لم يحتج معه إلى
شيء غيره حتى خطب بذلك جازما به. قوله: "الجد والكلالة وأبواب من أبواب
الربا" أما الجد فالمراد قدر ما يرث لأن الصحابة اختلفوا في ذلك اختلافا
كثيرا، فسيأتي في كتاب الفرائض عن عمر أنه قضى فيه بقضايا مختلفة. وأما الكلالة
بفتح الكاف وتخفيف اللام فسيأتي بيانها أيضا في كتاب الفرائض. وأما أبواب الربا
فلعله يشير إلى ربا الفضل لأن ربا النسيئة متفق عليه بين الصحابة، وسياق عمر يدل
على أنه كان عنده نص في بعض من أبواب الربا دون بعض، فلهذا تمنى معرفة البقية.
قوله: "قلت يا أبا عمرو" القائل هو أبو حيان التيمي، وأبو عمرو هي كنية
الشعبي. قوله: "فشيء يصنع بالسند من الأرز" زاد الإسماعيلي في روايته:
"يقال له السادية، يدعى الجاهل فيشرب منها شربة فتصرعه". قلت: وهذا
الاسم لم يذكره صاحب "النهاية" لا في السين المهملة ولا في الشين
المعجمة، ولا رأيته في "صحاح الجوهري" وما عرفت ضبطه إلى الآن، ولعله
فارسي، فإن كان عربيا فلعله الشاذبة بشين وذال معجمتين ثم موحدة، قال في
"الصحاح": الشاذب المتنحي عن وطنه، فلعل الشاذبة تأنيثه، وسميت الخمر
بذلك لكونها إذا خالطت العقل تنحت به عن وطنه. قوله: "ذاك لم يكن على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم" أي اتخاذ الخمر من الأرز لم يكن على العهد النبوي.
وفي رواية الإسماعيلي: "لم يكن هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو
كان لنهى عنه، ألا ترى أنه قد عم الأشربة كلها فقال: الخمر ما خامر العقل"
قال الإسماعيلي: هذا الكلام الأخير فيه دلالة على أن قوله: "الخمر ما خامر
العقل" من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقال الخطابي: إنما عد عمر الخمسة
المذكورة لاشتهار أسمائها في زمانه، ولم تكن كلها توجد بالمدينة الوجود العام، فإن
الحنطة كانت بها عزيزة، وكذا العسل بل كان أعز، فعد عمر ما عرف فيها، وجعل ما في
معناها مما يتخذ من الأرز وغيره خمرا إن كان مما يخامر العقل، وفي ذلك دليل على
جواز إحداث الاسم بالقياس وأخذه من طريق الاشتقاق، كذا قال، ورد بذلك ابن العربي
في جواب من زعم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" معناه مثل
الخمر، لأن حذف مثل ذلك مسموع شائع، قال: بل الأصل عدم التقدير، ولا يصار إلى
التقدير إلا إلى الحاجة، فإن قيل احتجنا إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث
لبيان الأسماء قلنا: بل بيان الأسماء من جملة الأحكام لمن لا يعلمها. ولا سيما
ليقطع تعلق القصد بها. قال: وأيضا لو لم يكن الفضيخ خمرا ونادى المنادي حرمت الخمر
لم يبادروا إلى إراقتها ولم يفهموا أنها داخلة في مسمى الخمر، وهم الفصح اللسن.
فإن قيل: هذا إثبات اسم بقياس، قلنا: إنما هو إثبات اللغة عن أهلها، فإن الصحابة
عرب فصحاء فهموا من الشرع ما فهموه من اللغة ومن اللغة ما فهموه من الشرع.
وذكر ابن حزم أن بعض الكوفيين احتج بما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عمر بسند جيد قال:
"أما الخمر فحرام لا سبيل إليها، وأما ما عداها من الأشربة فكل مسكر
حرام" قال وجوابه أنه ثبت عن ابن عمر أنه قال: "كل مسكر خمر" فلا
يلزم من تسمية المتخذ من العنب خمرا انحصار اسم الخمر فيه، وكذا احتجوا بحديث ابن
عمر أيضا: "حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء" مراده المتخذ من العنب،
ولم يرد أن غيرها لا يسمى خمرا، بدليل حديثه
(10/50)
الآخر "نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة خمسة أشربة كلها تدعى الخمر ما فيها خمر العنب". وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم ذكر الأحكام على المنبر لتشتهر بين السامعين، وذكر أما بعد فيها، والتنبيه بالنداء، والتنبيه على شرف العقل وفضله، وتمني الخير، وتمني البيان للأحكام، وعدم الاستثناء. قوله: "وقال حجاج" هو ابن منهال، وحماد هو ابن سلمة. قوله: "عن أبي حيان مكان العنب الزبيب" يعني أن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن أبي حيان بهذا السند والمتن فذكر الزبيب بدل العنب، وهذا التعليق وصله علي بن عبد العزيز البغوي في مسنده عن حجاج بن منهال كذلك وليس فيه سؤال أبي حيان الأخير وجواب الشعبي، وكذلك أخرجه ابن أبي خيثمة عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة، ووقع عند مسلم أيضا من رواية علي بن مسهر ومن رواية عيسى بن يونس كلاهما عن أبي حيان الزبيب بدل العنب كما قال حماد بن سلمة، قال البيهقي: وكذلك قال الثوري عن أبي حيان. قلت: وكذلك أخرجه النسائي من طريق محمد بن قيس عن الشعبي، والله أعلم.
(10/51)
6 - باب مَا جَاءَ
فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ
5590- وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ
الْكِلاَبِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِيُّ قَالَ
حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي
سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَيَكُونَنَّ
مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ
وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ
بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ يَعْنِي الْفَقِيرَ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ
ارْجِعْ إِلَيْنَا غَداً فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ
آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
قوله: "باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه" قال الكرماني:
ذكره باعتبار الشراب، وإلا فالخمر مؤنث سماعي. قلت: بل فيه لغة بالتذكير. قال
الكرماني: وفي بعض الروايات تسميتها بغير اسمها. وذكر ابن التين عن الداودي قال:
كأنه يريد بالأمة من يتسمى بهم ويستحل ما لا يحل لهم، فهو كافر إن أظهر ذلك،
ومنافق إن أسره، أو من يرتكب المحارم مجاهرة واستخفافا فهو يقارب الكفر وإن تسمى
بالإسلام، لأن الله لا يخسف بمن تعود عليه رحمته في المعاد. كذا قال؛ وفيه نظر
يأتي توجيهه. وقال ابن المنير: الترجمة مطابقة للحديث إلا في قوله: "ويسميه
بغير اسمه" فكأنه قنع بالاستدلال له بقوله في الحديث: "من أمتي"
لأن من كان من الأمة المحمدية يبعد أن يستحل الخمر بغير تأويل، إذ لو كان عنادا
ومكابرة لكان خارجا عن الأمة، لأن تحريم الخمر قد علم بالضرورة قال: وقد ورد في
غير هذا الحديث التصريح بمقتضى الترجمة، لكن لم يوافق شرطه فاقتنع بما في الرواية
التي ساقها من الإشارة. قلت: الرواية التي أشار إليها أخرجها أبو داود من طريق
مالك بن أبي مريم عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ليشربن
ناس الخمر يسمونها بغير اسمها" وصححه ابن حبان، وله شواهد كثيرة: منها لابن
ماجه من حديث ابن محيريز عن ثابت بن السمط عن عبادة بن الصامت رفعه: "يشرب
ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" ورواه أحمد بلفظ: "ليستحلن طائفة
من أمتي الخمر" وسنده جيد، ولكن أخرجه النسائي من وجه آخر عن ابن محيريز
فقال: "عن رجل من الصحابة" ولابن ماجه أيضا من حديث خالد بن معدان عن
أبي أمامة رفعه: "لا تذهب الأيام والليالي
(10/51)
حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" وللدارمي بسند لين من طريق القاسم عن عائشة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما يكفأ الإسلام كما يكفأ الإناء كفء الخمر، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: يسمونها بغير اسمها فيستحلونها" وأخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن عائشة، ولابن وهب من طريق سعيد بن أبي هلال عن محمد بن عبد الله "أن أبا مسلم الخولاني حج فدخل على عائشة فجعلت تسأله عن الشام وعن بردها فقال: يا أم المؤمنين إنهم يشربون شرابا لهم يقال له الطلاء، فقالت: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ حتى سمعته يقول: إن ناسا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها" وأخرجه البيهقي. قال أبو عبيد: جاءت في الخمر آثار كثيرة بأسماء مختلفة فذكر منها السكر بفتحتين قال: وهو نقيع التمر إذا غلى بغير طبخ، والجعة بكسر الجيم وتخفيف العين نبيذ الشعير، والسكركة خمر الحبشة من الذرة - إلى أن قال - وهذه الأشربة المسماة كلها عندي كناية عن الخمر، وهي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: "يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها" ، ويؤيد ذلك قول عمر: "الخمر ما خامر العقل". قوله: "وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد" هكذا في جميع النسخ من الصحيح من جميع الروايات مع تنوعها عن الفربري، وكذا من رواية النسفي وحماد بن شاكر، وذهل الزركشي في توضيحه فقال: معظم الرواة يذكرون هذا الحديث في البخاري معلقا، وقد أسنده أبو ذر عن شيوخه فقال: "قال البخاري: حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن عمار" قال: فعلى هذا يكون الحديث صحيحا على شرط البخاري. وبذلك يرد على ابن حزم دعواه الانقطاع اهـ. وهذا الذي قاله خطأ نشأ عن عدم تأمل، وذلك أن القائل "حدثنا الحسين بن إدريس" هو العباس بن الفضل شيخ أبي ذر لا البخاري، ثم هو الحسين بضم أوله وزيادة التحتانية الساكنة وهو الهروي لقبه خرم بضم المعجمة وتشديد الراء، وهو من المكثرين، وإنما الذي وقع في رواية أبي ذر من الفائدة أنه استخرج هذا الحديث من رواية نفسه من غير طريق البخاري إلى هشام، على عادة الحفاظ إذا وقع لهم الحديث عاليا عن الطريق التي في الكتاب المروي لهم يوردونها عالية عقب الرواية النازلة، وكذلك إذا وقع في بعض أسانيد الكتاب المروي خلل ما من انقطاع أو غيره وكان عندهم من وجه آخر سالما أوردوه، فجرى أبو ذر على هذه الطريقة، فروى الحديث عن شيوخه الثلاثة عن الفربري عن البخاري قال: "وقال هشام بن عمار" ولما فرغ من سياقه قال أبو ذر: "حدثنا أبو منصور الفضل بن العباس النضروي حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن عمار به" وأما دعوى ابن حزم التي أشار إليها فقد سبقه إليها ابن الصلاح في "علوم الحديث" فقال: التعليق في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها، وصورته صورة الانقطاع وليس حكمه ولا خارجا - ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح - إلى قبيل الضعيف، ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر وأبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف" الحديث من جهة أن البخاري أورده قائلا "قال هشام بن عمار" وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع اهـ. ولفظ ابن حزم في "المحلى": ولم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد. وحكى ابن الصلاح في موضع آخر أن الذي يقول البخاري فيه قال فلان ويسمى
(10/52)
شيخا من شيوخه يكون من قبيل الإسناد المعنعن، وحكي عن بعض الحفاظ أنه يفعل ذلك فيما يتحمله عن شيخه مذاكرة، وعن بعضهم أنه فيما يرويه مناولة. وقد تعقب شيخنا الحافظ أبو الفضل كلام ابن الصلاح بأنه وجد في الصحيح عدة أحاديث يرويها البخاري عن بعض شيوخه قائلا قال فلان ويوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ. قلت: الذي يورده البخاري من ذلك على أنحاء: منها ما يصرح فيه بالسماع عن ذلك الشيخ بعينه إما في نفس الصحيح وإما خارجه، والسبب في الأول إما أن يكون أعاده في عدة أبواب وضاق عليه مخرجه فتصرف فيه حتى لا يعيده على صورة واحدة في مكانين، وفي الثاني أن لا يكون على شرطه إما لقصور في بعض رواته وإما لكونه موقوفا، ومنها ما يورده بواسطة عن ذلك الشيخ والسبب فيه كالأول، لكنه في غالب هذا لا يكون مكثرا عن ذلك الشيخ، ومنها ما لا يورده في مكان آخر من الصحيح مثل حديث الباب، فهذا مما كان أشكل أمره علي، والذي يظهر لي الآن أنه لقصور في سياقه، وهو هنا تردد هشام في اسم الصحابي، وسيأتي من كلامه ما يشير إلى ذلك حيث يقول: إن المحفوظ أنه عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك، وساقه في "التاريخ" من رواية مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم كذلك، وقد أشار المهلب إلى شيء من ذلك. وأما كونه سمعه من هشام بلا واسطة وبواسطة فلا أثر له، لأنه لا يجزم إلا بما يصلح للقبول، ولا سيما حيث يسوقه مساق الاحتجاج. وأما قول ابن الصلاح أن الذي يورده بصيغة " قال: "حكمه حكم الإسناد المعنعن، والعنعنة من غير المدلس محمولة على الاتصال، وليس البخاري مدلسا، فيكون متصلا، فهو بحث وافقه عليه ابن منده والتزمه فقال: "أخرج البخاري" قال: "وهو تدليس"، وتعقبه شيخنا بأن أحدا لم يصف البخاري بالتدليس، والذي يظهر لي أن مراد ابن منده أن صورته صورة التدليس لأنه يورده بالصيغة المحتملة ويوجد بينه وبينه واسطة وهذا هو التدليس بعينه، لكن الشأن في تسليم أن هذه الصيغة من غير المدلس لها حكم العنعنة فقد قال الخطيب: وهو المرجوع إليه في الفن أن "قال" لا تحمل على السماع إلا ممن عرف من عادته أنه يأتي بها في موضع السماع، مثل حجاج بن محمد الأعور، فعلى هذا ففارقت العنعنة فلا تعطى حكمها ولا يترتب عليه أثرها من التدليس ولا سيما ممن عرف من عادته أن يوردها لغرض غير التدليس، وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحا إلى من علق عنه ولو لم يكن من شيوخه، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولا إلى من علقه بشرط الصحة أزال الإشكال، ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع وصنفت كتاب "تعليق التعليق". وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي وفي كلامه على علوم الحديث أن حديث هشام بن عمار جاء عنه موصولا في "مستخرج الإسماعيلي" قال حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار، وأخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" فقال حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد حدثنا هشام بن عمار، قال وأخرجه أبو داود في سننه فقال حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بسنده انتهى. وننبه فيه على موضعين: أحدهما: أن الطبراني أخرج الحديث في معجمه الكبير عن موسى بن سهل الجويني وعن جعفر بن محمد الفريابي كلاهما عن هشام، والمعجم الكبير أشهر من مسند الشاميين فعزوه إليه أولى، وأيضا فقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه على البخاري من رواية عبدان بن محمد المروزي ومن رواية أبي بكر الباغندي كلاهما عن هشام، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن الحسين بن عبد الله القطان عن هشام. ثانيهما: قوله: إن أبا داود أخرجه يوهم أنه عند أبي داود
(10/53)
باللفظ الذي وقع فيه النزاع وهو المعازف، وليس كذلك بل لم يذكر فيه الخمر الذي وقعت ترجمة البخاري لأجله فإن لفظه عند أبي داود بالسند المذكور إلى عبد الرحمن بن يزيد "حدثنا عطية بن قيس سمعت عبد الرحمن بن غنم الأشعري يقول حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني أنه سمع رسول الله يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر - وذكر كلاما قال - يمسخ منهم قردة وخنازير إلى يوم القيامة" نعم ساق الإسماعيلي الحديث من هذا الوجه من رواية دحيم عن بشر بن بكر بهذا الإسناد فقال: "يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" الحديث. قوله: "حدثنا صدقة بن خالد" هو الدمشقي من موالي آل أبي سفيان، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر تقدم في مناقب أبي بكر، وهو من رواية هشام بن عمار عنه أيضا عن زيد بن واقد وصدقة هذا ثقة عند الجميع، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه، ثقة ابن ثقة ليس به بأس، أثبت من الوليد بن مسلم. وذهل شيخنا ابن الملقن تبعا لغيره فقال: ليته - يعني ابن حزم - أعل الحديث بصدقة فإن ابن الجنيد روى عن يحيى بن معين: ليس بشيء، وروى المروزي عن أحمد: ذلك ليس بمستقيم ولم يرضه. وهذا الذي قاله الشيخ خطأ، وإنما قال يحيى وأحمد ذلك في صدقة بن عبد الله السمين وهو أقدم من صدقة بن خالد، وقد شاركه في كونه دمشقيا، وفي الرواية عن بعض شيوخه كزيد بن واقد، وأما صدقة بن خالد فقد قدمت قول أحمد فيه، وأما ابن معين فالمنقول عنه أنه قال: كان صدقة بن خالد أحب إلى أبي مسهر من الوليد بن مسلم، قال وهو أحب إلي من يحيى بن حمزة. ونقل معاوية بن صالح عن ابن معين أن صدقة بن خالد ثقة، ثم إن صدقة لم ينفرد به عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بل تابعه على أصله بشر بن بكر كما تقدم. قوله: "حدثنا عطية بن قيس" هو شامي تابعي قواه أبو حاتم وغيره ومات سنة عشر ومائة وقيل: بعد ذلك، ليس له في البخاري ولا لشيخه إلا هذا الحديث، والإسناد كله شاميون. قوله: "عبد الرحمن بن غنم" بفتح المعجمة وسكون النون ابن كريب بن هانئ مختلف في صحبته، قال ابن سعد: كان أبوه ممن قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة أبي موسى، وذكر ابن يونس أن عبد الرحمن كان مع أبيه حين وفد، وأما أبو زرعة الدمشقي وغيره من حفاظ الشام فقالوا: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، وقدمه دحيم على الصنابحي. وقال ابن سعد أيضا: بعثه عمر يفقه أهل الشام، ووثقه العجلي وآخرون. ومات سنة ثمان وسبعين. ووقع عند الإسماعيلي من الزيادة عن عطية بن قيس قال: "قام ربيعة الجرشي في الناس - فذكر حديثا فيه طول - فإذا عبد الرحمن بن غنم فقال: يمينا حلفت عليها حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري، والله يمينا أخرى حدثني أنه سمع" وفي رواية مالك بن أبي مريم "كنا عند عبد الرحمن بن غنم معنا ربيعة الجرشي فذكروا الشراب" فذكر الحديث. قوله: "حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري" هكذا رواه أكثر الحفاظ عن هشام بن عمار بالشك، وكذا وقع عند الإسماعيلي من رواية بشر بن بكر، لكن وقع عند أبي داود من رواية بشر بن بكر "حدثني أبو مالك" بغير شك، ووقع عند ابن حبان عن الحسين بن عبد الله عن هشام بهذا السند إلى عبد الرحمن بن غنم، "أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الأشعريين يقولان" فذكر الحديث، كذا قال، وعلى تقدير أن يكون المحفوظ هو الشك فالشك في اسم الصحابي لا يضر، وقد أعله ابن حزم وهو مردود، وأعجب منه أن ابن بطال حكى عن المهلب أن سبب كون البخاري لم يقل فيه: "حدثنا هشام بن عمار" وجود الشك في اسم الصحابي، وهو شيء لم يوافق عليه، والمحفوظ رواية الجماعة. وقد أخرجه البخاري في "التاريخ" من طريق إبراهيم بن عبد الحميد عمن
(10/54)
أخبره "عن أبي مالك أو أبي عامر" على الشك أيضا وقال: إنما يعرف هذا عن أبي مالك الأشعري انتهى. وقد أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في "التاريخ" من طريق مالك بن أبي مريم "عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف" الحديث. فظهر بهذا أن الشك فيه من عطية بن قيس لأن مالك بن أبي مريم - وهو رفيقه فيه عن شيخهما - لم يشك في أبي مالك، على أن التردد في اسم الصحابي لا يضر كما تقرر في علوم الحديث فلا التفات إلى من أعل الحديث بسبب التردد، وقد ترجح أنه عن أبي مالك الأشعري وهو صحابي مشهور. قوله: "والله ما كذبني" هذا يؤيد رواية الجماعة أنه عن غير واحد لا عن اثنين. قوله: "يستحلون الحر" ضبطه ابن ناصر بالحاء المهملة المكسورة والراء الخفيفة وهو الفرج، وكذا هو في معظم الروايات من صحيح البخاري، ولم يذكر عياض ومن تبعه غيره. وأغرب ابن التين فقال: إنه عند البخاري بالمعجمتين. وقال ابن العربي: هو بالمعجمتين تصحيف، وإنما رويناه بالمهملتين وهو الفرج والمعنى يستحلون الزنا. قال ابن التين: يريد ارتكاب الفرج بغير حله، وإن كان أهل اللغة لم يذكروا هذه اللفظة بهذا المعنى ولكن العامة تستعمله بكسر المهملة كما في هذه الرواية. وحكى عياض فيه تشديد الراء، والتخفيف هو الصواب. وقيل: أصله بالياء بعد الراء فحذفت. وذكره أبو موسى في "ذيل الغريب" في "ح ر" وقال هو بتخفيف الراء وأصله حرح بكسر أوله وتخفيف الراء بعدها مهملة أيضا وجمعه أحراح قال: ومنهم من يشدد الراء وليس بجيد. وترجم أبو داود للحديث في كتاب اللباس "باب ما جاء في الحر" ووقع في روايته بمعجمتين والتشديد والراجح بالمهملتين، ويؤيده ما وقع في "الزهد لابن المبارك" من حديث علي بلفظ: " يوشك أن تستحل أمتي فروج النساء والحرير" ووقع عند الداودي بالمعجمتين ثم تعقبه بأنه ليس بمحفوظ، لأن كثيرا من الصحابة لبسوه. وقال ابن الأثير: المشهور في رواية هذا الحديث بالإعجام وهو ضرب من الإبريسم، كذا قال، وقد عرف أن المشهور في رواية البخاري بالمهملتين. وقال ابن العربي: الخز بالمعجمتين والتشديد مختلف فيه، والأقوى حله، وليس فيه وعيد ولا عقوبة بإجماع. "تنبيه": لم تقع هذه اللفظة عند الإسماعيلي ولا أبي نعيم من طريق هشام، بل في روايتهما: "يستحلون الحرير والخمر والمعازف " وقوله: "يستحلون" قال ابن العربي: يحتمل أن يكون المعنى يعتقدون ذلك حلالا، ويحتمل أن يكون ذلك مجازا على الاسترسال أي يسترسلون في شربها كالاسترسال في الحلال، وقد سمعنا ورأينا من يفعل ذلك. قوله: "والمعازف" بالعين المهملة والزاي بعدها فاء جمع معزفة بفتح الزاي وهي آلات الملاهي. ونقل القرطبي عن الجوهري أن المعازف الغناء، والذي في صحاحه أنها آلات اللهو، وقيل: أصوات الملاهي. وفي حواشي الدمياطي: المعازف الدفوف وغيرها مما يضرب به، ويطلق على الغناء عزف، وعلى كل لعب عزف، ووقع في رواية مالك بن أبي مريم " تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف" . قوله: "ولينزلن أقوام إلى جنب علم" بفتحتين والجمع أعلام وهو الجبل العالي وقيل: رأس الجبل. قوله: "يروح عليهم" كذا فيه بحذف الفاعل، وهو الراعي بقرينة المقام، إذ السارحة لا بد لها من حافظ. قوله: "بسارحة " بمهملتين الماشية التي تسرح بالغداة إلى رعيها وتروح أي ترجع بالعشي إلى مألفها. ووقع في رواية الإسماعيلي: "سارحة" بغير موحدة في أوله ولا حذف فيها. قوله: "يأتيهم لحاجة" كذا فيه بحذف الفاعل أيضا. قال الكرماني: التقدير الآتي أو الراعي أو المحتاج أو الرجل. قلت: وقع عند الإسماعيلي: "يأتيهم طالب حاجة "
(10/55)
فتعين بعض المقدرات. قوله: "فيبيتهم الله" أي يهلكهم ليلا، والبيات هجوم العدو ليلا. قوله: "ويضع العلم" أي يوقعه عليهم. وقال ابن بطال: إن كان العلم جبلا فيدكدكه وإن كان بناء فيهدمه ونحو ذلك. وأغرب ابن العربي فشرحه على أنه بكسر العين وسكون اللام فقال: وضع العلم إما بذهاب أهله كما سيأتي في حديث عبد الله بن عمرو، وإما بإهانة أهله بتسليط الفجرة عليهم. قوله: "ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " يريد ممن لم يهلك في البيات المذكور، أو من قوم آخرين غير هؤلاء الذين "بيتوا"، ويؤيد الأول أن في رواية الإسماعيلي: "ويمسخ منهم آخرين" قال ابن العربي: يحتمل الحقيقة كما وقع للأمم السالفة، ويحتمل أن يكون كناية عن تبدل أخلاقهم. قلت: والأول أليق بالسياق. وفي هذا الحديث وعيد شديد على من يتحيل في تحليل ما يحرم بتغيير اسمه، وأن الحكم يدور مع العلة. والعلة في تحريم الخمر الإسكار، فمهما وجد الإسكار وجد التحريم ولو لم يستمر الاسم. قال ابن العربي: هو أصل في أن الأحكام إنما تتعلق بمعاني الأسماء لا بألقابها، ردا على من حمله على اللفظ.
(10/56)
7 - باب
الِانْتِبَاذِ فِي الأَوْعِيَةِ وَالتَّوْرِ
5591- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلاً يَقُولُ: "أَتَى
أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي عُرْسِهِ فَكَانَتْ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ وَهِيَ الْعَرُوسُ
قَالَ أَتَدْرُونَ مَا سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ".
قوله: "باب الانتباذ في الأوعية والتور" هو من عطف الخاص على العام، لأن
التور من جملة الأوعية، وهو بفتح المثناة إناء من حجارة أو من نحاس أو من خشب،
ويقال: لا يقال له تور إلا إذا كان صغيرا، وقيل هو قدح كبير كالقدر، وقيل مثل
الطست، وقيل كالإجانة، وهي بكسر الهمزة وتشديد الجيم وبعد الألف نون: وعاء. قوله:
"أتى أبو أسيد الساعدي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه" تقدم
في الوليمة من هذا الوجه بلفظ: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه"
ومن وجه آخر عن أبي حازم "دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه". قوله:
"قال أتدرون" القائل هو سهل و"ما سقت" بفتح القاف وسكون
المثناة. وفي رواية الكشميهني: "قالت وسقيت" بسكون التحتانية بعد القاف
وفي آخره مثناة، وكذا الخلاف في أنقعت ونقعت وأنقع بالهمزة لغة، وفيه لغة أخرى
نقعت بغير ألف، وتقدم في الوليمة بلفظ: "بلت تمرات". قوله: "في
تور" زاد في الوليمة "من حجارة" وإنما قيده لأنه قد يكون من غيرها
كما تقدم. وفي رواية أشعث عن أبي الزبير عن جابر "كان النبي صلى الله عليه
وسلم ينبذ له في سقاء، فإذا لم يكن سقاء ينبذ له في تور" قال أشعث: والتور من
لحاء الشجر، أخرجه ابن أبي شيبة. وعبر المصنف في الترجمة بالانتباذ إشارة إلى أن
النقيع يسمى نبيذا، فيحمل ما ورد في الأخبار بلفظ النبيذ على النقيع، وقد ترجم له
بعد قليل "باب نقيع التمر ما لم يسكر" قال المهلب: النقيع حلال ما لم
يشتد فإذا اشتد وغلى حرم. وشرط الحنفية أن يقذف بالزبد، قال: وإذا نقع من الليل
وشرب النهار أو بالعكس لم يشتد، وفيه حديث عائشة، يشير إلى ما أخرجه مسلم عن عائشة
"كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء توكي أعلاه فيشربه عشاء،
وتنبذه عشاء فيشربه غدوة" وعند أبي داود من وجه آخر عن عائشة أنها "كانت
تنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم غدوة، فإذا كان من العشي تعشى فشرب على عشائه، فإن
فضل شيء صبته ثم تنبذ له بالليل، فإذا أصبح وتغدى شرب على غدائه، قالت نغسل السقاء
غدوة وعشية" وفي حديث عبد الله
(10/56)
ابن الديلمي عن أبيه "قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نصنع بالزبيب؟ قال: انبذوه على عشائكم، واشربوه على غدائكم" أخرجه أبو داود والنسائي. فهذه الأحاديث فيها التقييد باليوم والليلة. وأما ما أخرج مسلم من حديث ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب من الليل في السقاء، فإذا أصبح شربه يومه وليلته ومن الغد، فإذا كان مساء شربه أو سقاه الخدم، فإن فضل شيء أراقه" وقال ابن المنذر: الشراب في المدة التي ذكرتها عائشة يشرب حلوا، وأما الصفة التي ذكرها ابن عباس فقد ينتهي إلى الشدة والغليان، لكن يحمل ما ورد من أمر الخدم بشربه على أنه لم يبلغ ذلك ولكن قرب منه، لأنه لو بلغ ذلك لأسكر ولو أسكر لحرم تناوله مطلقا انتهى. وقد تمسك بهذا الحديث من قال بجواز شرب قليل ما أسكر كثيره، ولا حجة فيه لأنه ثبت أنه بدا فيه بعض تغير في طعمه من حمض أو نحوه فسقاه الخدم، وإلى هذا أشار أبو داود فقال بعد أن أخرجه: قوله: "سقاه الخدم" يريد أنه تبادر به الفساد. انتهى، ويحتمل أن يكون "أو" في الخبر للتنويع لأنه قال: "سقاه الخدم أو أمر به فأهرق" أي إن كان بدا في طعمه بعض التغير ولم يشتد سقاه الخدم، وإن كان اشتد أمر بإهراقه، وبهذا جزم النووي فقال: هو اختلاف على حالين إن ظهر فيه شدة صبه وإن لم تظهر شدة سقاه الخدم لئلا تكون فيه إضاعة مال، وإنما يتركه هو تنزها. وجمع بين حديث ابن عباس وعائشة بأن شرب النقيع في يومه لا يمنع شرب النقيع في أكثر من يوم، ويحتمل أن يكون باختلاف حال أو زمان يحمل الذي يشرب في يومه على ما إذا كان قليلا وذاك على ما إذا كان كثيرا فيفضل منه ما يشربه فيما بعد، وإما بأن يكون في شدة الحر مثلا فيسارع إليه الفساد، وذاك في شدة برد فلا يتسارع إليه.
(10/57)
8 - باب تَرْخِيصِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ
بَعْدَ النَّهْيِ
5592- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمٍ
عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الظُّرُوفِ فَقَالَتْ الأَنْصَارُ إِنَّهُ لاَ بُدَّ
لَنَا مِنْهَا قَالَ فَلاَ إِذاً" . وَقَالَ خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ بِهَذَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا وَقَالَ فِيهِ: "لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الأَوْعِيَةِ".
5593- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَمَّا
نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الأَسْقِيَةِ قِيلَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ
سِقَاءً فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ" .
5594- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي
سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ" .
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ بِهَذَا.
(10/57)
5595- حَدَّثَنِي
عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: "قُلْتُ
لِلأَسْوَدِ هَلْ سَأَلْتَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ
يُنْتَبَذَ فِيهِ فَقَالَ نَعَمْ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّ نَهَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ قَالَتْ
نَهَانَا فِي ذَلِكَ أَهْلَ الْبَيْتِ أَنْ نَنْتَبِذَ فِي الدُّبَّاءِ
وَالْمُزَفَّتِ قُلْتُ أَمَا ذَكَرَتْ الْجَرَّ وَالْحَنْتَمَ قَالَ إِنَّمَا
أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ أَفَأُحَدِّثُ مَا لَمْ أَسْمَعْ؟".
5596- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ الْجَرِّ الأَخْضَرِ قُلْتُ أَنَشْرَبُ فِي الأَبْيَضِ قَالَ:
لاَ".
قوله: "باب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الأوعية والظروف بعد
النهي" ذكر فيه خمسة أحاديث. أولها: حديث جابر وهو عام في الرخصة، ثانيها:
حديث عبد الله بن عمرو وفيه استثناء المزفت، ثالثها: حديث علي في النهي عن الدباء
والمزفت، رابعها: حديث عائشة مثله، خامسها: حديث عبد الله بن أبي أوفى في النهي عن
الجر الأخضر. وظاهر صنيعه أنه يرى أن عموم الرخصة مخصوص بما ذكر في الأحاديث
الأخرى، وهي مسألة خلاف: فذهب مالك إلى ما دل عليه صنيع البخاري. وقال الشافعي
والثوري وابن حبيب من المالكية: يكره ذلك ولا يحرم وقال سائر الكوفيين: يباح، وعن
أحمد روايتان. وقد أسند الطبري عن عمر ما يؤيد قول مالك وهو قوله: "لأن أشرب
من قمقم محمي فيحرق ما أحرق ويبقي ما أبقى أحب إلي من أن أشرب نبيذ الجر" وعن
ابن عباس "لا يشرب نبيذ الجر ولو كان أحلى من العسل" وأسند النهي عن
جماعة من الصحابة. وقال ابن بطال: النهي عن الأوعية إنما كان قطعا للذريعة. فلما
قالوا لا نجد بدا من الانتباذ في الأوعية قال: " انتبذوا. وكل مسكر
حرام" وهكذا الحكم في كل شيء نهي عنه بمعنى النظر إلى غيره فإنه يسقط
للضرورة، كالنهي عن الجلوس في الطرقات، فلما قالوا لا بد لنا منها قال:
"فأعطوا الطريق حقها" . وقال الخطابي: ذهب الجمهور إلى أن النهي إنما
كان أولا ثم نسخ، وذهب جماعة إلى أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية باق، منهم
ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق كذا أطلق، قال: والأول أصح، والمعنى
في النهي أن العهد بإباحة الخمر كان قريبا، فلما اشتهر التحريم أبيح الانتباذ في
كل وعاء بشرط ترك شرب المسكر، وكان من ذهب إلى استمرار النهي لم يبلغه الناسخ.
وقال الحازمي: لمن نصر قول مالك أن يقول ورد النهي عن الظروف كلها ثم نسخ منها
ظروف الأدم والجرار غير المزفتة، واستمر ما عداها على المنع، ثم تعقب ذلك بما ورد
من التصريح في حديث بريدة عند مسلم ولفظه: "نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف
الأدم، فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا" قال وطريق الجمع أن يقال:
لما وقع النهي عاما شكوا إليه الحاجة فرخص لهم في ظروف الأدم، ثم شكوا إليه أن
كلهم لا يجد ذلك فرخص لهم الظروف كلها. قوله: "سفيان" هو الثوري، ومنصور
هو ابن المعتمر. قوله: "عن سالم" وقع مفسرا في الطريق التي بعدها أنه
ابن أبي الجعد. والظروف بظاء مشالة معجمة جمع ظرف بفتح أوله وهو الوعاء. قوله:
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظروف" في رواية مسلم من طريق
أبي الزبير عن جابر "نهى عن الدباء والمزفت" وكأن هذه الطريق لما لم تكن
على شرط البخاري أورد عقب حديث جابر أحاديث
(10/58)
عبد الله بن عمرو وعلي وعائشة الدالة على ذلك. قوله: "لا بد لنا منها" في رواية الحفري عن الثوري عند الإسماعيلي: "ليس لنا وعاء" وفي رواية لأحمد في قصة وفد عبد القيس "فقال رجل من القوم: يا رسول الله إن الناس لا ظروف لهم، فقال: اشربوه إذا طاب، فإذا خبث فذروه" وأخرج أبو يعلى وصححه ابن حبان من حديث الأشج العصري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: " ما لي أرى وجوهكم قد تغيرت؟ قالوا: نحن بأرض وخمة، وكنا نتخذ من هذه الأنبذة ما يقطع اللحمان في بطوننا، فلما نهيتنا عن الظروف فذلك الذي ترى في وجوهنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الظروف لا تحل ولا تحرم، ولكن كل مسكر حرام" . قوله: " فلا إذا " جواب وجزاء، أي إذا كان كذلك لا بد لكم منها فلا تدعوها. وحاصله أن النهي كان ورد على تقدير عدم الاحتياج، أو وقع وحي في الحال بسرعة أو كان الحكم في تلك المسألة مفوضا لرأيه صلى الله عليه وسلم، وهذه احتمالات يرد على من جزم بأن الحديث حجة في أنه كان يحكم بالاجتهاد. قوله: "وقال لي خليفة" هو ابن خياط بمعجمة ثم تحتانية ثقيلة وهو من شيوخ البخاري، ويحيى بن سعيد هو القطان. قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وليس هو أبا بكر بن أبي شيبة وإن كان هو أيضا عبد الله بن محمد. لأن قول البخاري بهذا يشعر بأن سياقه مثل سياق علي بن المديني إلا في اللفظة التي اختلفا فيها، وسياق ابن أبي شيبة لا يشبه سياق علي. قوله: "بهذا" أي بهذا الإسناد إلى علي والمتن، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش فقال: بإسناده مثله، قوله: "عن الأوعية" فيه حذف تقديره: نهى عن الانتباذ في الأوعية، وقد بين ذلك في رواية زياد بن فياض عن أبي عياض أخرجه أبو داود بلفظ: "لا تنبذوا في الدباء والحنتم والنقير" والفرق بين الأسقية من الأدم وبين غيرها أن الأسقية يتخللها الهواء من مسامها فلا يسرع إليها الفساد مثل ما يسرع إلى غيرها من الجرار ونحوها مما نهى عن الانتباذ فيه. وأيضا فالسقاء إذا نبذ فيه ثم ربط أمنت مفسدة الإسكار بما يشرب منه لأنه متى تغير وصار مسكرا شق الجلد، فلما لم يشقه فهو غير مسكر، بخلاف الأوعية لأنها قد تصير النبيذ فيها مسكرا ولا يعلم به، وأما الرخصة في بعض الأوعية دون بعض فمن جهة المحافظة على صيانة المال لثبوت النهي عن إضاعته، لأن التي نهي عنها يسرع التغير إلى ما ينبذ فيها، بخلاف ما أذن فيه فإنه لا يسرع إليه التغير، ولكن حديث بريدة ظاهر في تعميم الإذن في الجميع، يفيد أن لا تشربوا المسكر، فكأن الأمن حصل بالإشارة إلى ترك الشرب من الوعاء ابتداء حتى يختبر حاله هل تغير أو لا، فإنه لا يتعين الاختبار بالشرب بل يقع بغير الشرب، مثل أن يصير شديد الغليان أو يقذف بالزبد ونحو ذلك. قوله: "فقالوا لا بد لنا" في رواية زياد بن فياض أن قائل ذلك أعرابي. قوله: "علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "عن سليمان" في رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا سليمان الأحول" وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من رواية الحميدي كذلك. قوله: "عن أبي عياض العنسي" بالنون، وعياض بكسر المهملة وتخفيف التحتانية وبعد الألف ضاد معجمة واسمه عمرو بن الأسود، وقيل قيس بن ثعلبة وبذلك جزم أبو نصر الكلاباذي في رجال البخاري، وكأنه تبع ما نقله البخاري عن علي بن المديني. وقال النسائي في "الكنى" أبو عياض عمرو بن الأسود العنسي، ثم ساق من طريق شرحبيل بن عمرو بن مسلم عن عمرو بن الأسود الحمصي أبي عياض. ثم روى عن معاوية بن صالح عن يحيى بن معين قال عمرو بن الأسود العنسي يكنى أبا عياض. ومن طريق البخاري قال لي علي - يعني ابن المديني - إن لم يكن اسم أبي عياض قيس بن ثعلبة فلا أدري قال البخاري وقال غيره عمرو بن الأسود. قال النسائي: ويقال كنية عمرو بن الأسود أبو عبد الرحمن. قال: أورد الحاكم أبو أحمد في "الكنى" محصل ما أورده النسائي إلا قول يحيى بن معين، وذكر أنه سمع عمر ومعاوية، وأنه روى عنه مجاهد وخالد بن معدان وأرطاة بن المنذر وغيرهم، وذكر في رواية شرحبيل بن مسلم عن عمرو بن الأسود أنه مر على مجلس فسلم فقالوا: لو جلست إلينا أبا عياض. ومن طريق موسى بن كثير عن مجاهد حدثنا أبو عياض في خلافة معاوية. وروى أحمد في الزهد أن عمر أثنى على أبي عياض. وذكره أبو موسى في "ذيل الصحابة" وعزاه لابن أبي عاصم، وأظنه ذكره لإدراكه ولكن لا تثبت له صحبة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه كان من العلماء الثقات. وإذا تقرر ذلك فالراجع في أبي عياض الذي يروي عنه مجاهد أنه عمرو بن الأسود وأنه شامي، وأما قيس بن ثعلبة فهو أبو عياض آخر وهو كوفي، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال: إنه يروي عن عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم، روى عنه أهل الكوفة. وإنما بسطت ترجمته لأن المزي لم يستوعبها، وخلط ترجمة بترجمة، وأنه صغر اسمه فقال: عمير بن الأسود الشامي العنسي صاحب عبادة بن الصامت، والذي يظهر لي أنه غيره؛ فإن كان كذلك فما له في البخاري سوى هذا الحديث، وإن كان كما قال المزي فإن له عند البخاري حديثا تقدم ذكره في الجهاد من رواية خالد بن معدان عن عمير بن الأسود عن أم حرام بنت ملحان، وكأن عمدته في ذلك أن خالد بن معدان روى عن عمرو بن الأسود أيضا، وقد فرق ابن حبان في الثقات بين عمير بن الأسود الذي يكنى أبا عياض وبين عمير بن الأسود الذي يروي
(10/59)
عن عبادة بن الصامت وقال كل منهما عمير بالتصغير، فإن كان ضبطه فلعل أبا عياض كان يقال له عمرو وعمير، ولكنه آخر غير صاحب عبادة. والله أعلم. قوله: "عن عبد الله بن عمرو" أي ابن العاص، كذا في جميع نسخ البخاري، ووقع في بعض نسخ مسلم عبد الله بن عمر بضم العين، وهو تصحيف نبه عليه أبو علي الجياني. قوله: "لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأسقية" كذا وقع في هذه الرواية. وقد تفطن البخاري لما فيها فقال بعد سياق الحديث: "حدثني عبد الله بن محمد حدثنا سفيان بهذا وقال عن الأوعية" وهذا هو الراجح، وهو الذي رواه أكثر أصحاب ابن عيينة عنه كأحمد والحميدي في مسنديهما وأبي بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر عند مسلم وأحمد بن عبدة عند الإسماعيلي وغيرهم. وقال عياض: ذكر "الأسقية" وهم من الراوي، وإنما هو عن "الأوعية" لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه قط عن الأسقية وإنما نهى عن الظروف وأباح الانتباذ في الأسقية، فقيل له ليس كل الناس يجد سقاء فاستثنى ما يسكر؛ وكذا قال لوفد عبد القيس لما نهاهم عن الانتباذ في الدباء وغيرها، قالوا: ففيم نشرب؟ قال: في أسقية الأدم. قال ويحتمل أن تكون الرواية في الأصل كانت لما نهى عن النبيذ إلا في الأسقية، فسقط من الرواية شيء انتهى. وسبقه إلى هذا الحميدي فقال في "الجمع": لعله نقص من لفظ المتن، وكان في الأصل لما نهى عن النبيذ إلا في الأسقية. وقال ابن التين: معناه لما نهى عن الظروف إلا الأسقية وهو عجيب، والذي قاله الحميدي أقرب، وإلا فحذف أداة الاستثناء مع المستثنى منه وإثبات المستثنى غير جائز إلا إن ادعى ما قال الحميدي أنه سقط على الراوي. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون لما نهى في مسألة الأنبذة عن الجرار بسبب الأسقية قال: ومجيء "عن" سببية شائع، مثل يسمنون عن الأكل أي بسبب الأكل، ومنه "فأزلهما الشيطان عنها" أي بسببها. قلت: ولا يخفى ما فيه. ويظهر لي أن لا غلط ولا سقط، وإطلاق السقاء على كل ما يسقى منه جائز، فقوله: "نهى عن الأسقية" بمعنى الأوعية، لأن المراد بالأوعية، الأوعية التي يستقى منها، واختصاص اسم الأسقية بما يتخذ من الأدم إنما هو بالعرف. وقال ابن السكيت: السقاء يكون للبن والماء والوطب بالواو للبن خاصة، والنحي بكسر النون وسكون المهملة للسمن والقربة للماء، وإلا فمن يجيز القياس في اللغة لا يمنع ما صنع سفيان، فكأنه كان يرى استواء اللفظين، فحدث به مرة هكذا ومرارا هكذا، ومن ثم لم يعدها البخاري وهما. قوله: "فرخص لهم في الجر غير المزفت" في رواية ابن أبي عمر "فأرخص" وهي لغة، يقال أرخص ورخص. وفي رواية ابن أبي شيبة: "فأذن لهم في شيء منه" وفي هذا دلالة على أن الرخصة لم تقع دفعة واحدة، بل وقع النهي عن الانتباذ إلا في سقاء فلما شكوا رخص لهم في بعض الأوعية دون بعض؛ ثم وقعت الرخصة بعد ذلك عامة، لكن يفتقر من قال إن الرخصة وقعت بعد ذلك إلى أن يثبت أن حديث بريدة الدال على ذلك كان متأخرا عن حديث عبد الله بن عمرو هذا. قاله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وليس هو أبا بكر بن أبي شيبة وإن كان هو أيضا عبد الله بن محمد. لأن قول البخاري بهذا يشعر بأن سياقه مثل سياق علي بن المديني إلا في اللفظة التي اختلفا فيها، وسياق ابن أبي شيبة لا يشبه سياق علي. قوله: "بهذا" أي بهذا الإسناد إلى علي والمتن، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش فقال: بإسناده مثله، قوله: "عن الأوعية" فيه حذف تقديره: نهى عن الانتباذ في الأوعية، وقد بين ذلك في رواية زياد بن فياض عن أبي عياض أخرجه أبو داود بلفظ: " لا تنبذوا في الدباء والحنتم والنقير " والفرق بين الأسقية من الأدم
(10/60)
وبين غيرها أن الأسقية يتخللها الهواء من مسامها فلا يسرع إليها الفساد مثل ما يسرع إلى غيرها من الجرار ونحوها مما نهى عن الانتباذ فيه. وأيضا فالسقاء إذا نبذ فيه ثم ربط أمنت مفسدة الإسكار بما يشرب منه لأنه متى تغير وصار مسكرا شق الجلد، فلما لم يشقه فهو غير مسكر، بخلاف الأوعية لأنها قد تصير النبيذ فيها مسكرا ولا يعلم به، وأما الرخصة في بعض الأوعية دون بعض فمن جهة المحافظة على صيانة المال لثبوت النهي عن إضاعته، لأن التي نهي عنها يسرع التغير إلى ما ينبذ فيها، بخلاف ما أذن فيه فإنه لا يسرع إليه التغير، ولكن حديث بريدة ظاهر في تعميم الإذن في الجميع، يفيد أن لا تشربوا المسكر، فكأن الأمن حصل بالإشارة إلى ترك الشرب من الوعاء ابتداء حتى يختبر حاله هل تغير أو لا، فإنه لا يتعين الاختبار بالشرب بل يقع بغير الشرب، مثل أن يصير شديد الغليان أو يقذف بالزبد ونحو ذلك. قوله: "فقالوا لا بد لنا" في رواية زياد بن فياض أن قائل ذلك أعرابي. قوله: "حدثني سليمان" هو الأعمش، وإبراهيم التيمي هو ابن يزيد بن شريك. قوله: "عن الدباء والمزفت" زاد في رواية مالك بن عمير عن علي عند أبي داود "والحنتم والنقير". قوله: "حدثني عثمان" هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد. قوله: "عن إبراهيم" هو النخعي "قلت للأسود" هو ابن يزيد النخعي وهو خال إبراهيم الراوي عنه. قوله: "عم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتبذ فيه" أي أخبرني عما نهى، و"عما" أصلها "عن ما" فأدغمت ولا تشبع الميم غالبا، ووقع في رواية الإسماعيلي: "ما نهى" بحذف "عن". قوله: "أهل البيت" بالفتح على الاختصاص، أو على البدل من الضمير. قوله: "أما ذكرت" القائل هو إبراهيم، وقوله: "قال" أي الأسود، وقوله: "أفنحدث" كذا للأكثر بالنون، وللكشميهني: "أفأحدث" بالإفراد وهو استفهام إنكار. وفي رواية الإسماعيلي: "أفأحدثك ما لم أسمع" وإنما استفهم إبراهيم عن الجر والحنتم لاشتهار الحديث بالنهي عن الانتباذ في الأربعة، ولعل هذا هو السر في التقييد بأهل البيت، فإن الدباء والمزفت كان عندهم متيسرا، فلذلك خص نهيهم عنهما. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد، والشيباني هو أبو إسحاق سليمان بن فيروز، ووقع في رواية الإسماعيلي: "حدثني سليمان الشيباني". قوله: "عن الجر الأخضر" في رواية الإسماعيلي: "عن نبيذ الجر الأخضر". قوله: "قلت" القائل هو الشيباني. قوله: "قال لا" يعني أن حكمه حكم الأخضر، فدل على أن الوصف بالخضرة لا مفهوم له، وكأن الجرار الخضر حينئذ كانت شائعة بينهم فكان ذكر الأخضر لبيان الواقع لا للاحتراز. وقال ابن عبد البر: هذا عندي كلام خرج على جواب سؤال، كأنه قيل الجر الأخضر، فقال: لا تنبذوا فيه، فسمعه الراوي فقال: نهى عن الجر الأخضر. وقد روى ابن عباس "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نبيذ الجر" قال: والجر كل ما يصنع من مدر قلت: وقد أخرج الشافعي عن سفيان عن أبي إسحاق عن ابن أبي أوفى "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر الأخضر والأبيض والأحمر" فإن كان محفوظا ففي الأول اختصار، والحديث الذي ذكره ابن عبد البر أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، قال الخطابي: لم يعلق الحكم في ذلك بالخضرة والبياض، وإنما علق بالإسكار، وذلك أن الجرار تسرع التغير لما ينبذ فيها، فقد يتغير من قبل أن يشعر به، فنهوا عنها. ثم لما وقعت الرخصة أذن لهم في الانتباذ في الأوعية بشرط أن لا يشربوا مسكرا. وقد أخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن أبي أوفى أنه كان يشرب نبيذ الجر الأخضر وأخرج أيضا بسند صحيح عن ابن مسعود "أنه كان ينبذ له في الجر الأخضر" ومن طريق معقل بن يسار وجماعة من الصحابة نحوه، وقد خص جماعة النهي عن الجر بالجرار الخضر كما رواه مسلم عن أبي
(10/61)
هريرة، قال النووي: وبه قال الأكثر - أو الكثير - من أهل اللغة والغريب والمحدثين والفقهاء، وهو أصح الأقوال وأقواها، وقيل إنها جرار مقيرة الأجواف يؤتى بها من مصر أخرجه ابن أبي شيبة عن أنس، وقيل مثله عن عائشة بزيادة: أعناقها في جنوبها، وعن ابن أبي ليلى: جرار أفواهها في جنوبها يجلب فيها الخمر من الطائف وكانوا ينبذون فيها يضاهون بها الخمر. وعن عطاء: جرار تعمل من طين ودم وشعر. ووقع عند مسلم عن ابن عباس أنه فسر الجر بكل شيء من مدر، وكذا فسر ابن عمر الجر بالحرة وأطلق، ومثله عن سعيد بن جبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن.
(10/62)
باب نقيع التمر
مالم يسكر
...
9 - باب نَقِيعِ التَّمْرِ مَا لَمْ يُسْكِرْ
5597- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري عن أبي حازم قال: سمعت
سهل بن سعد الساعدي "أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه
فكانت امرأته خادمهم يومئذ وهي العروس. فقالت: هل تدرون ما أنقعت لرسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور".
قوله: "باب نقيع التمر ما لم يسكر" أورد فيه حديث سهل بن سعد في قصة
امرأة أبي أسيد وفيه: "أنقعت له تمرات" وقد تقدم التنبيه عليه قريبا،
وتقدم بسنده ومتنه في أبواب الوليمة، وأشار بالترجمة إلى أن الذي أخرجه ابن أبي
شيبة عن عبد الرحمن بن معقل وغيره من كراهة نقيع الزبيب محمول على ما تغير وكاد
يبلغ حد الإسكار، أو أراد قائله حسم المادة كما سيأتي عن عبيدة السلماني أنه قال:
"أحدث الناس أشربة لا أدري ما فيها، فما لي شراب إلا الماء واللبن"
الحديث، وتقييده في الترجمة بما لم يسكر مع أن الحديث لا تعرض فيه للسكر لا إثباتا
ولا نفيا، إما من جهة أن المدة التي ذكرها سهل وهو من أول الليل إلى أثناء نهاره
لا يحصل فيها التغير جملة، وإما خصه بما لا يسكر من جهة المقام، والله أعلم.
(10/62)
باب لباذق، ومن نهى
عن كل مسكر من الأشربة
...
10 - باب الْبَاذَقِ وَمَنْ نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ مِنْ الأَشْرِبَةِ
وَرَأَى عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ شُرْبَ الطِّلاَءِ عَلَى الثُّلُثِ.
وَشَرِبَ الْبَرَاءُ وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اشْرَبْ الْعَصِيرَ مَا دَامَ طَرِيّاً.
وَقَالَ عُمَرُ: "وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ شَرَابٍ وَأَنَا
سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ".
5598- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي
الْجُوَيْرِيَةِ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْبَاذَقِ فَقَالَ: سَبَقَ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَاذَقَ فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ
حَرَامٌ قَالَ الشَّرَابُ الْحَلاَلُ الطَّيِّبُ قَالَ لَيْسَ بَعْدَ الْحَلاَلِ
الطَّيِّبِ إِلاَّ الْحَرَامُ الْخَبِيثُ".
5599- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ".
(10/62)
11 - باب مَنْ
رَأَى أَنْ لاَ يَخْلِطَ الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ إِذَا كَانَ مُسْكِراً وَأَنْ لاَ
يَجْعَلَ إِدَامَيْنِ فِي إِدَامٍ
5600- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنِّي لاَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ
(10/66)
وَأَبَا دُجَانَةَ
وَسُهَيْلَ بْنَ الْبَيْضَاءِ خَلِيطَ بُسْرٍ وَتَمْرٍ إِذْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ
فَقَذَفْتُهَا وَأَنَا سَاقِيهِمْ وَأَصْغَرُهُمْ وَإِنَّا نَعُدُّهَا يَوْمَئِذٍ
الْخَمْرَ". وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ سَمِعَ
أَنَساً.
5601- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ
سَمِعَ جَابِراً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْبُسْرِ
وَالرُّطَبِ" .
5602- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي
كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
"نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ
التَّمْرِ وَالزَّهْوِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ" .
قوله: "باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرا" قال ابن
بطال: قوله: "إذا كان مسكرا" خطأ، لأن النهي عن الخليطين عام وإن لم
يسكر كثيرهما، لسرعة سريان الإسكار إليهما من حيث لا يشعر صاحبه به، فليس النهي عن
الخليطين لأنهما يسكران حالا، بل لأنهما يسكران مآلا فإنهما إذا كانا مسكرين في
الحال لا خلاف في النهي عنهما. قال الكرماني: فعلى هذا فليس هو خطأ بل يكون على
سبيل المجاز، وهو استعمال مشهور. وأجاب ابن المنير بأن ذلك لا يرد على البخاري،
إما لأنه يرى جواز الخليطين قبل الإسكار، وإما لأنه ترجم على ما يطابق الحديث
الأول وهو حديث أنس، فإنه لا شك أن الذي كان يسقيه القوم حينئذ كان مسكرا، ولهذا
دخل عندهم في عموم النهي عن الخمر، حتى قال أنس "وإنا لنعدها يومئذ
الخمر" فدل على أنه كان مسكرا. قال: وأما قوله: "وأن لا يجعل إدامين في
إدام" فيطابق حديث جابر وأبي قتادة، ويكون النهي معللا بعلل مستقلة، إما
تحقيق إسكار الكثير وإما توقع الإسكار بالخلط سريعا وإما الإسراف والشره، والتعليل
بالإسراف مبين في حديث النهي عن قران التمر. قلت: والذي يظهر لي أن مراد البخاري
بهذه الترجمة الرد على من أول النهي عن الخليطين بأحد تأويلين: أحدهما حمل الخليط
على المخلوط، وهو أن يكون نبيذ تمر وحده مثلا قد اشتد، ونبيذ زبيب وحده مثلا قد
اشتد، فيخلطان ليصيرا خلا، فيكون النهي من أجل تعمد التخليل، وهذا مطابق للترجمة
من غير تكلف. ثانيهما أن يكون علة النهي عن الخلط الإسراف، فيكون كالنهي عن الجمع
بين إدامين. ويؤيد الثاني قوله في الترجمة "وأن لا يجعل إدامين في إدام"
وقد حكى أبو بكر الأثرم عن قوم أنهم حملوا النهي عن الخليطين على الثاني، وجعلوه
نظير النهي عن القران بن التمر كما تقدم في الأطعمة، قالوا: فإذا ورد النهي عن
القران بين التمرين وهما من نوع واحد فكيف إذا وقع القران بين نوعين؟ ولهذا عبر
المصنف بقوله: "من رأى" ولم يجزم بالحكم. وقد نصر الطحاوي من حمل النهي
عن الخليطين على منع السرف فقال: كان ذلك لما كانوا فيه من ضيق العيش. وساق حديث
ابن عمر في النهي عن القران بين التمرتين، وتعقب بأن ابن عمر أحد من روى النهي عن
الخليطين وكان ينبذ البسر، فإذا نظر إلى بسرة في بعضها ترطيب قطعه كراهة أن يقع في
النهي، وهذا على قاعدتهم يعتمد عليه، لأنه لو فهم أن النهي عن الخليطين كالنهي عن
القران لما خالفه فدل على أنه عنده على غيره. أورد المصنف حديث أنس الذي تقدم شرحه
في أول الباب، وفيه أنه سقاه خليط بسر وتمر، فدل على: أن المراد بالنهي عن
الخليطين ما كانوا يصنعونه قبل ذلك من خلط البسر بالتمر ونحو ذلك، لأن ذلك عادة
يقتضي إسراع الإسكار
(10/67)
بخلاف المنفردين، ولا يمكن حمل حديث أنس هذا في الخليطين على ما ادعاه صاحب التأويل الأول، وحمل علة النهي لخوف الإسراع أظهر من حملها على الإسراف، لأنه لا فرق بين نصف رطل من تمر ونصف رطل من بسر إذا خلطا مثلا، وبين رطل من زبيب صرف، بل هو أولى لقلة الزبيب عندهم إذ ذاك بالنسبة إلى التمر والرطب، وقد وقع الإذن بأن ينبذ كل واحد على حدة، ولم يفرق بين قليل وكثير، فلو كانت العلة الإسراف لما أطلق ذلك. وحكى الطحاوي في "اختلاف العلماء" عن الليث قال: لا أرى بأسا أن يخلط نبيذ التمر ونبيذ الزبيب ثم يشربان جميعا، وإنما جاء النهي أن ينبذا جميعا ثم يشربان لأن أحدهما يشتد به صاحبه. قوله: "وقال عمرو بن الحارث حدثنا قتادة سمع أنسا" أراد بهذا التعليق بيان سماع قتادة، لأنه وقع في الرواية التي ساقها قبل معنعنا، وقد أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث ولفظه: "نهى أن يخلط التمر والزهو ثم يشرب، وأن ذلك كان عامة خمرهم يومئذ"، وهذا السياق أظهر في المراد الذي حملت عليه لفظ الترجمة والله أعلم. وقوله في الإسناد الأول "حدثنا مسلم" وقع في رواية النسفي "حدثنا مسلم بن إبراهيم" وهشام هو الدستوائي. حديث جابر أورده بلفظ: "نهى عن الزبيب والتمر والبسر والرطب" وليس صريحا في النهي عن الخليط، وقد بينه مسلم في روايته من طريق عبد الرزاق ويحيى القطان جميعا عن ابن جريج بلفظ: "لا تجمعوا بين الرطب وبين البسر وبين الزبيب والتمر نبيذا" وأخرج أيضا من طريق الليث عن عطاء "نهي أن ينبذ التمر جميعا والرطب والبسر جميعا". قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم أيضا، وهشام هو الدستوائي أيضا. قوله: "عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه" هو الأنصاري المشهور. قوله: "نهى" في رواية مسلم من طريق إسماعيل ابن علية عن هشام بهذا الإسناد "لا تنبذوا الزهو والرطب جميعا" الحديث. قوله: "ولينبذ كل واحد منهما" أي من كل اثنين منهما، فيكون الجمع بين أكثر بطريق الأولى. قوله: "على حدة" بكسر المهملة وفتح الدال بعدها هاء تأنيث أي وحده، ووقع في رواية الكشميهني: "على حدته" وهذا مما يؤيد رد التأويل المذكور أولا كما بينته، ولمسلم من حديث أبي سعيد "ومن شرب منكم النبيذ فليشربه زبيبا فردا أو تمرا فردا أو بسرا فردا" وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي سبب النهي من طريق الحراني عن ابن عمر قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فضربه ثم سأله عن شرابه فقال شربت نبيذ تمر وزبيب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخلطوهما، فإن كل واحد منهما يكفي وحده". قال النووي: وذهب أصحابنا وغيرهم من العلماء إلى أن سبب النهي عن الخليط أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يشتد فيظن الشارب أنه لم يبلغ حد الإسكار، ويكون قد بلغه. قال: ومذهب الجمهور أن النهي، في ذلك للتنزيه. وإنما يمتنع إذا صار مسكرا، ولا تخفى علامته. وقال بعض المالكية: هو للتحريم. واختلف في خلط نبيذ البسر الذي لم يشتد مع نبيذ التمر الذي لم يشتد عند الشرب هل يمتنع أو يختص النهي عن الخلط عند الانتباذ؟ فقال الجمهور: لا فرق. وقال الليث: لا بأس بذلك عند الشرب. ونقل ابن التين عن الداودي أن سبب النهي أن النبيذ يكون حلوا، فإذا أضيف إليه الآخر أسرعت إليه الشدة. وهذه صورة أخرى، كأنه يخص النهي بما إذا نبذ أحدهما ثم أضيف إليه الآخر، لا ما إذا نبذا معا. واختلف في الخليطين من الأشربة غير النبيذ، فحكى ابن التين عن بعض الفقهاء أنه كره أن يخلط للمريض شرابين، ورده بأنهما لا يسرع إليهما الإسكار اجتماعا وانفرادا، وتعقب باحتمال أن يكون قائل ذلك يرى أن العلة الإسراف كما تقدم، لكن لا يقيد هذا في مسألة المريض بما إذا كان المفرد كافيا في دواء ذلك
(10/68)
المرض، وإلا فلا مانع حينئذ من التركيب. وقال ابن العربي: ثبت تحريم الخمر لما يحدث عنها من السكر، وجواز النبيذ الحلو الذي لا يحدث عنه سكر، وثبت النهي عن الانتباذ في الأوعية ثم نسخ، وعن الخليطين فاختلف العلماء: فقال أحمد وإسحاق وأكثر الشافعية بالتحريم ولو لم يسكر. وقال الكوفيون بالحل. قال: واتفق علماؤنا على الكراهة، لكن اختلقوا هل هو للتحريم أو للتنزيه؟ واختلف في علة المنع: فقيل لأن أحدهما يشد الآخر، وقيل لأن الإسكار يسرع إليهما. قال ولا خلاف أن العسل باللبن ليس بخليطين، لأن اللبن لا ينبذ، لكن قال ابن عبد الحكم: لا يجوز خلط شرابي سكر كالورد والجلاب وهو ضعيف. قال: واختلفوا في الخليطين لأجل التخليل، ثم قال: ويتحصل لنا أربع صور: أن يكون الخليطان منصوصين فهو حرام، أو منصوص ومسكوت عنه فإن كان كل منهما لو انفرد أسكر فهو حرام قياسا على المنصوص، أو مسكوت عنهما وكل منهما لو انفرد لم يسكر جاز. قال: وهنا مرتبة رابعة وهي ما لو خلط شيئين وأضاف إليهما دواء يمنع الإسكار فيجوز في المسكوت عنه ويكره في المنصوص. وما نقله عن أكثر الشافعية وجد نص الشافعي بما يوافقه فقال: ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الخليطين، فلا يجوز بحال. وعن مالك قال: أدركت على ذلك أهل العلم ببلدنا. وقال الخطابي: ذهب إلى تحريم الخليطين وإن لم يكن الشراب منهما مسكرا جماعة عملا بظاهر الحديث، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق، وظاهر مذهب الشافعي. وقالوا: من شرب الخليطين أثم من جهة واحدة، فإن كان بعد الشدة أثم من جهتين، وخص الليث النهي بما إذا نبذ معا اهـ. وجرى ابن حزم على عادته في الجمود فخص النهي عن الخليطين بخلط واحد من خمسة أشياء وهي: التمر والرطب والزهو والبسر والزبيب في أحدها أو في غيرها، فأما لو خلط واحد من غيرها في واحد من غيرها لم يمتنع كاللبن والعسل مثلا، ويرد عليه ما أخرجه أحمد في الأشربة من طريق المختار بن فلفل عن أنس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين شيئين نبيذا مما يبغي أحدهما على صاحبه" وقال القرطبي: النهي عن الخليطين ظاهر في التحريم، وهو قول جمهور فقهاء الأمصار، وعن مالك يكره فقط، وشذ من قال لا بأس به لأن كلا منهما يحل منفردا فلا يكره مجتمعا، قال: وهذه مخالفة للنص، وقياس مع وجود الفارق، فهو فاسد من وجهين. ثم هو منتقض بجواز كل واحدة من الأختين منفردة وتحريمهما مجتمعتين، قال: وأعجب من ذلك تأويل من قال منهم إن النهي إنما هو من باب السرف، قال: وهدا تبديل لا تأويل، ويشهد ببطلانه الأحاديث الصحيحة. وقال: وتسمية الشراب إداما قول من ذهل عن الشرع واللغة والعرف، قال: والذي يفهم من الأحاديث التعليل بخوف إسراع الشدة بالخلط، وعلى هذا يقتصر في النهي عن الخلط على ما يؤثر فيه الإسراع، قال: وأفرط بعض أصحابنا فمنع الخلط وإن لم توجد العلة المذكورة، ويلزمه أن يمنع من خلط العسل واللبن والخل والعسل، قلت: حكاه ابن العربي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وقال: إنه حمل النهي عن الخليطين من الأشربة على عمومه، واستغربه.
(10/69)
باب شرب اللبن،
وقول الله عز وجل: {يخرج من بين فرث ودم لبنا حالصا سائغا للشاربين}
...
12 - باب شُرْبِ اللَّبَنِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ
لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ}
5603- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَقَدَحِ خَمْرٍ".
5604- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ سَمِعَ سُفْيَانَ أَخْبَرَنَا سَالِمٌ أَبُو
النَّضْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَيْراً مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ يُحَدِّثُ
(10/69)
عَنْ أُمِّ
الْفَضْلِ قَالَتْ شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِإِنَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ
فَشَرِبَ فَكَانَ سُفْيَانُ رُبَّمَا قَالَ شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ
أُمُّ الْفَضْلِ" فَإِذَا وُقِّفَ عَلَيْهِ قَالَ: هُوَ عَنْ أُمِّ
الْفَضْلِ.
5605- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ وَأَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "جَاءَ
أَبُو حُمَيْدٍ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ مِنْ النَّقِيعِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ خَمَّرْتَهُ وَلَوْ أَنْ
تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُوداً" .
[الحديث 5605 – طرفه في: 5606]
5606- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَذْكُرُ أُرَاهُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ مِنْ النَّقِيعِ
بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ خَمَّرْتَهُ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ
عُوداً" . وَحَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
5607- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَرَرْنَا بِرَاعٍ وَقَدْ عَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَلَبْتُ
كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فِي قَدَحٍ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ وَأَتَانَا سُرَاقَةُ
بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ فَدَعَا عَلَيْهِ فَطَلَبَ إِلَيْهِ سُرَاقَةُ أَنْ
لاَ يَدْعُوَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَرْجِعَ فَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
5608- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "نِعْمَ
الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً تَغْدُو
بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِآخَرَ" .
5609- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ
لَبَناً فَمَضْمَضَ وَقَالَ إِنَّ لَهُ دَسَماً" .
5610- وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعْتُ
إِلَى السِّدْرَةِ فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهَرَانِ
بَاطِنَانِ فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ وَأَمَّا الْبَاطِنَانِ
فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ فَأُتِيتُ بِثَلاَثَةِ أَقْدَاحٍ: قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ
وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ فَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ
فَقِيلَ لِي أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ" . قَالَ هِشَامٌ
وَسَعِيدٌ وَهَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ
صَعْصَعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَنْهَارِ
نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا ثَلاَثَةَ أَقْدَاحٍ.
(10/70)
قوله: "باب شرب اللبن" قال ابن المنير: أطال التفنن في هذه الترجمة ليرد قول من زعم أن اللبن يسكر كثيره فرد ذلك بالنصوص، وهو قول غير مستقيم لأن اللبن لا يسكر بمجرده وإنما يتفق فيه ذلك نادرا بصفة تحدث. وقال غيره: قد زعم بعضهم أن اللبن إذا طال العهد به وتغير صار يسكر، وهذا ربما يقع نادرا إن ثبت وقوعه، ولا يلزم منه تأثيم شاربه إلا إن علم أن عقله يذهب به فشربه لذلك. نعم قد يقع السكر باللبن إذا جعل فيه ما يصير باختلاطه معه مسكرا فيحرم. قلت: أخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن ابن سيرين أنه سمع أن عمر يسأل عن الأشربة فقال: إن أهل كذا يتخذون من كذا وكذا خمرا حتى عد خمسة أشربة لم أحفظ منها إلا العسل والشعير واللبن، قال فكنت أهاب أن أحدث باللبن حتى أنبئت أنه بأرمينية يصنع شراب من اللبن لا يلبث صاحبه أن يصرع واستدل بالآية المذكورة أول الباب على أن الماء إذا تغير ثم طال مكثه حتى زال التغير بنفسه ورجع إلى ما كان عليه أنه يطهر بذلك، وهذا في الكثير، وبغير النجاسة من القليل متفق عليه، وأما القليل المتغير بالنجاسة ففيما إذا زال تغيره بنفسه خلاف: هل يطهر؟ والمشهور عند المالكية يطهر، وظاهر الاستدلال يقوي القول بالتطهير، لكن في الاستدلال به لذلك نظر، وقريب منه في البعد استدلال من استدل به على طهارة المني، وتقريره أن اللبن خالط الفرث والدم ثم استحال فخرج خالصا طاهرا، وكذلك المني ينقصر من الدم فيكون على غير صفة الدم فلا يكون نجسا. قوله: "وقول الله عز وجل: يخرج {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} ، زاد غير أبي ذر "لبنا خالصا" وزاد غيره وغير النسفي بقية الآية، ووقع بلفظ: "يخرج" في أوله في معظم النسخ، والذي في القرآن {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} وأما لفظ: "يخرج" فهو في الآية الأخرى من السورة {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} ووقع في بعض النسخ وعليه جرى الإسماعيلي وابن بطال وغيرهما بحذف "يخرج" من أوله وأول الباب عندهم: وقول الله {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} فكأن زيادة لفظ: "يخرج" ممن دون البخاري وهذه الآية صريحة في إحلال شرب لبن الأنعام بجميع أنواعه، لوقوع الامتنان به، فيعم جميع ألبان الأنعام في حال حياتها. والفرث بفتح الفاء وسكون الراء بعدها مثلثة هو ما يجتمع في الكرش. وقال القزاز: هو ما ألقي من الكرش، تقول فرثت الشيء إذا أخرجته من وعائه فشربته، فأما بعد خروجه فإنما يقال له سرجين وزبل. وأخرج القزاز عن ابن عباس أن الدابة إذا أكلت العلف واستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلطة عليه فتقسم الدم وتجريه في العروق وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث في الكرش وحده، وقوله تعالى: {لَبَناً خَالِصاً} أي من حمرة الدم وقذارة الفرث، وقوله: {سَائِغاً} أي لذيذا هنيئا لا يغص به شاربه. قوله: "بقدح لبن وقدح خمر" تقدم البحث فيه قريبا، والحكمة في التخيير بين الخمر مع كونه حراما واللبن مع كونه حلالا إما لأن الخمر حينئذ لم تكن حرمت. أو لأنها من الجنة وخمر الجنة ليست حراما. وقوله في الحديث: "ليلة أسري به" حكي فيه تنوين ليلة. والذي أعرفه في الرواية الإضافة. حديث أم الفضل في شرب اللبن بعرفة. وقد تقدم شرحه في الصيام. وقوله في آخره: "وكان سفيان ربما قال: شك الناس في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت إليه أم الفضل، فإذا وقف عليه قال: هو عن أم الفضل" يعني أن سفيان كان ربما أرسل الحديث فلم يقل في الإسناد عن أم الفضل. فإذا سئل عنه هل هو موصول أو مرسل قال: هو عن أم الفضل. وهو في قوة قوله هو موصول. وهذا معنى قوله وقف عليه. وهو
(10/71)
بضم أوله وكسر
القاف. ووقع في رواية أبي ذر "ووقف" بزيادة واو ساكنة بعد الواو
المضمومة، والقائل "وكان سفيان" هو الراوي عنه وهو الحميدي، وقد تقدم في
الحج عن علي بن عبد الله عن سفيان بدون هذه الزيادة. وأغرب الداودي فقال: لا
مخالفة بين الروايتين، لأنه يجوز أن تقول أم الفضل عن نفسها "فأرسلت أم
الفضل" أي على سبيل التجريد، كذا قال. قوله: "عن أبي صالح وأبي
سفيان" كذا رواه أكثر أصحاب الأعمش عنه عن جابر، ورواه أبو معاوية عن الأعمش
عن أبي صالح وحده أخرجه مسلم، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن حفص بن غياث عن
الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، وعن أبي صالح عن أبي هريرة، وهو شاذ والمحفوظ عن
جابر. قوله: "من النقيع" بالنون، قيل هو الموضع الذي حمي لرعي النعم
وقيل: غيره، وقد تقدم في كتاب الجمعة ذكر نقيع الخضمات فدل على التعدد؛ وكان واديا
يجتمع فيه الماء، والماء الناقع هو المجتمع، وقيل: كانت تعمل فيه الآنية، وقيل: هو
الباع حكاه الخطابي، وعن الخليل: الوادي يكون فيه الشجر. وقال ابن التين: رواه أبو
الحسن يعني القابسي بالموحدة، وكذا نقله عياض عن أبي بحر بن العاص، وهو تصحيف، فإن
البقيع مقبرة بالمدينة. وقال القرطبي: الأكثر على النون وهو من ناحية العقيق على
عشرين فرسخا من المدينة. قوله: "ألا" بفتح الهمزة والتشديد بمعنى هلا.
وقوله: "خمرته" بخاء معجمة وتشديد الميم أي غطيته، ومنه خمار المرأة
لأنه يسترها. قوله: "تعرض" بفتح أوله وضم الراء قاله الأصمعي، وهو رواية
الجمهور، وأجاز أبو عبيد كسر الراء وهو مأخوذ من العرض أي تجعل العود عليه بالعرض،
والمعنى أنه إن لم يغطه فلا أقل من أن يعرض عليه شيئا. وأظن السر في الاكتفاء بعرض
العود أن تعاطي التغطية أو العرض يقترن بالتسمية فيكون العرض علامة على التسمية
فتمتنع الشياطين من الدنو منه، وسيأتي شيء من الكلام على هذا الحكم في "باب
في تغطية الإناء" بعد أبواب. "تنبيه": وقع لمسلم من طريق أبي
معاوية عن الأعمش عن أبي صالح وحده عن جابر "كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فاستسقى، فقال رجل: يا رسول الله ألا نسقيك نبيذا؟ قال: بلى، فخرج الرجل يسعى
فجاء بقدح فيه نبيذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا خمرته"
الحديث. ولمسلم أيضا من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول:
"أخبرني أبو حميد الساعدي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن من
النقيع ليس مخمرا" الحديث. والذي يظهر أن قصة اللبن كانت لأبي حميد وأن جابرا
أحضرها، وأن قصة النبيذ حملها جابر عن أبي حميد وأبهم أبو حميد صاحبها، ويحتمل أن
يكون هو أبا حميد راويها أبهم نفسه، ويحتمل أن يكون غيره، وهو الذي يظهر لي والله
أعلم. حديث البراء "قدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وأبو بكر معه"
كذا أورده مختصرا فقال البراء(1) أن هذا القدر هو الذي رواه شعبة عن أبي إسحاق
قال: ورواه إسرائيل وغيره عن أبي إسحاق مطولا. قلت: وقد تقدم في الهجرة وأوله
"أن عازبا باع رحلا لأبي بكر وسأله عن قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم في
الهجرة" وقوله: "فحلبت" وتقدم هناك "فأمرت الراعي فحلب"
فتكون نسبة الحلب لنفسه هنا مجازية. وقوله: "كثبة" بضم أوله وسكون
المثلثة بعدها موحدة قال الخليل: كل قليل جمعته هو كثبة. وقال ابن فارس: هي القطعة
من اللبن أو التمر. وقال أبو زيد: هي من اللبن ملء القدح، وقيل: قدر حلبة ناقة.
ومحمود شيخ البخاري فيه هو ابن غيلان والنضر هو ابن شميل. وأحسن الأجوبة في شرب
النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن مع كون الراعي أخبرهم أن الغنم لغيره أنه كان
في عرفهم التسامح بذلك، أو كان صاحبها أذن للراعي أن يسقي من يمر به إذا التمس ذلك
منه. وقيل فيه احتمالات
ـــــــ
(1) كذا في الأصل
(10/72)
أخرى تقدمت. الحديث الخامس: حديث أبي هريرة "نعم الصدقة اللقحة" بكسر اللام ويجوز فتحها وسكون القاف بعدها مهملة. وهي التي قرب عهدها بالولادة - والصفي - بمهملة وفاء وزن فعيل - هي الكثيرة اللبن وهي بمعنى مفعول أي مصطفاة مختارة. وفي قوله: "تغدو وتروح" إشارة إلى أن المستعير لا يستأصل لبنها. وقد تقدم بيان ذلك مستوفى في كتاب العارية. الحديث السادس: حديث ابن عباس في المضمضة من اللبن أي بسبب شرب اللبن، تقدم شرحه في الطهارة. وقد أخرجه أبو جعفر الطبري من طريق عقيل عن ابن شهاب بصيغة الأمر "تمضمضوا من اللبن" . حديث أنس في الأقداح. قوله: "وقال إبراهيم بن طهمان الخ" وصله أبو عوانة والإسماعيلي والطبراني في الصغير من طريقه، ووقع لنا بعلو في "غرائب شعبة لابن منده" قال الطبراني: لم يروه عن شعبة إلا إبراهيم بن طهمان، تفرد به حفص بن عبد الله النيسابوري عنه. قوله: "رفعت إلى سدرة المنتهى" كذا للأكثر بضم الراء وكسر الفاء وفتح المهملة وسكون المثناة على البناء للمجهول، والسدرة مرفوعة. وللمستملي: "دفعت" بدال بدل الراء وسكون العين وضم المثناة بنسبة الفعل إلى المتكلم، وإلى بالسكون حرف جر. قوله: "وقال هشام" يعني الدستوائي، وهمام يعني ابن يحيى، وسعيد يعني ابن أبي عروبة، يعني أنهم اجتمعوا على رواية الحديث عن قتادة فزادوا هم في الإسناد بعد أنس بن مالك "مالك بن صعصعة" ولم يذكره شعبة. وقوله: "في الأنهار نحوه" يريد أنهم توافقوا من المتن على ذكر الأنهار وزادوا هم قصة الإسراء بطولها وليست في رواية شعبة هذه، ووقع في روايتهم هنا بعد قوله سدرة المنتهى " فإذا نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنها آذان الفيلة، في أصلها أربعة أنهار" واقتصر شعبة على "فإذا أربعة أنهار" . قوله: "ولم يذكروا ثلاثة أقداح" في رواية الكشميهني: "ولم يذكر" بالإفراد، وظاهر هذا النفي أنه لم يقع ذكر الأقداح في رواية الثلاثة، وهو معترض بما تقدم في بدء الخلق عن هدبة عن همام بلفظ: "ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل" فيحتمل أن يكون المراد بالنفي نفي ذكر الأقداح بخصوصها، ويحتمل أن تكون رواية الكشميهني التي بالإفراد هي المحفوظة، والفاعل هشام الدستوائي فإنه تقدم في بدء الخلق من طريق يزيد بن زريع عن سعيد وهشام جميعا عن قتادة بطوله وليس فيه ذكر الآنية أصلا، لكن أخرجه مسلم من رواية عبد الأعلى عن هشام وفيه: " ثم أتيت بإناءين أحدهما خمر والآخر لبن، فعرضا علي" ثم أخرجه من طريق معاذ بن هشام عن أبيه نحوه ولم يسق لفظه، وقد ساقه النسائي من رواية يحيى القطان عن هشام وليس فيه ذكر الآنية أصلا، فوضح من هذا أن رواية همام فيها ذكر ثلاثة، وإن كان لم يصرح بذكر العدد ولا وصف الظرف، ورواية سعيد فيها ذكر إناءين فقط، ورواية هشام ليس فيها ذكر شيء من ذلك أصلا، وقد رجح الإسماعيلي رواية إناءين فقال عقب حديث شعبة هنا: هذا حديث شعبة، وحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة المذكور أول الباب أصح إسنادا من هذا، وأولى من هذا. كذا قال، مع أنه أخرج حديث همام عن جماعة عن هدبة عنه كما أخرجه البخاري سواء، والزيادة من الحافظ مقبولة، وقد توبع، وذكر إناءين لا ينفي الثالث، مع أنني قدمت في الكلام على حديث الإسراء أن عرض الآنية على النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين: قبل المعراج وهو في بيت المقدس، وبعده وهو عند سدرة المنتهى، وبهذا يرتفع الإشكال جملة. قال ابن المنير: لم يذكر السر في عدوله عن العسل إلى اللبن كما ذكر السر في عدوله عن الخمر، ولعل السر في ذلك كون اللبن أنفع، وبه يشتد العظم وينبت اللحم، وهو بمجرده قوت، ولا يدخل في السرف بوجه، وهو أقرب إلى الزهد، ولا
(10/73)
منافاة بينه وبين الورع بوجه. والعسل وإن كان حلالا لكنه من المستلذات التي قد يخشى على صاحبها أن يندرج في قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} . قلت: ويحتمل أن يكون السر فيه ما وقع في بعض طرق الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم عطش - كما تقدم في بعض طرقه مبينا هناك - فأتي بالأقداح، فآثر اللبن دون غيره لما فيه من حصول حاجته دون الخمر والعسل، فهذا هو السبب الأصلي في إيثار اللبن، وصادف مع ذلك رجحانه عليهما من عدة جهات. وقد تقدم شيء من هذا في شرح حديث الإسراء. قال ابن المنير: ولا يعكر على ما ذكرته ما سيأتي قريبا أنه كان يحب الحلوى والعسل، لأنه إنما كان يحبه مقتصدا في تناوله لا في جعله ديدنا ولا تنطعا. ويؤخذ من قول جبريل في الخمر "غوت أمتك" أن الخمر ينشأ عنها الغي، ولا يختص ذلك بقدر معين. ويؤخذ من عرض الآنية عليه صلى الله عليه وسلم إرادة إظهار التيسير عليه، وإشارة إلى تفويض الأمور إليه.
(10/74)
13 - باب
اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ
أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ
إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا
طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا نَزَلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ
لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بَخٍ
ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ أَوْ رَايِحٌ شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا
قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ
أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي
بَنِي عَمِّهِ".
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى "رَايِحٌ".
قوله: "باب استعذاب الماء" بالذال المعجمة أي طلب الماء العذب، والمراد
به الحلو. حديث أنس في صدقة أبي طلحة لقوله فيه: "ويشرب من ماء فيها
طيب" وقد ورد في خصوص هذا اللفظ - وهو استعذاب الماء - حديث عائشة رضي الله
عنها "كان رسول الله يستعذب له الماء من بيوت السقيا" والسقيا بضم
المهملة وبالقاف بعدها تحتانية قال قتيبة: هي عين بينها وبين المدينة يومان، هكذا
أخرجه أبو داود عنه بعد سياق الحديث بسند جيد وصححه الحاكم، وفي قصة أبي الهيثم بن
التيهان أن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءهم يسأل عن أبي الهيثم
"ذهب يستعذب لنا من الماء" وهو عند مسلم كما سأبينه بعد، وذكر الواقدي
من حديث سلمى امرأة أبي رافع "كان أبو أيوب حين نزل عنده النبي صلى الله عليه
وسلم يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس" ثم كان أنس وهند وحارثة
أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا، وكان رباح الأسود عبده
يستقي له من بئر عرس مرة ومن بيوت السقيا مرة. قال ابن بطال: استعذاب الماء لا
ينافي الزهد ولا يدخل في الترفه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه فقد كرهه
مالك لما فيه من السرف، وأما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح، فقد فعله
(10/74)
الصالحون. وليس في شرب الماء الملح فضيلة، قال: وفيه دلالة على أن استطابة الأطعمة جائزة وأن ذلك من فعل أهل الخير، وقد ثبت أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} نزل في الذين أرادوا الامتناع من لذائذ المطاعم، قال: ولو كانت مما لا يريد الله تناوله ما امتن بها على عباده، بل نهيه عن تحريمها يدل على أنه أراد منهم تناولها ليقابلوا نعمته بها عليهم بالشكر لها، وإن كانت نعمه لا يكافئها شكرهم. وقال ابن المنير: أما أن استعذاب الماء لا ينافي الزهد والورع فواضح، وأما الاستدلال بذلك على لذيذ الأطعمة فبعيد. وقال ابن التين: هذا الحديث أصل في جواز شرب الماء من البستان بغير ثمن. قلت: المأذون له في الدخول فيه لا شك فيه، وأما غيره فلما اقتضاه العرف من المسامحة بذلك، وثبوت ذلك بالفعل المذكور فيه نظر. قوله: "ذلك مال رايح أو رابح" الأول بتحتانية والثاني بموحدة والحاء مهملة فيهما، فالأول معناه أن أجره يروح إلى صاحبه أي يصل إليه ولا ينقطع عنه، والثاني: معناه كثير الربح، وأطلق عليه صفة صاحبه المتصدق به. وقوله: "شك عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي، وقوله: "قال إسماعيل" هو ابن أبي أويس ويحيى هو ابن يحيى، ورايح في روايتهما بالتحتانية وقد تقدمت رواية إسماعيل مصرحا فيها بالتحديث في تفسير آل عمران، ورواية يحيى بن يحيى كذلك في الوكالة، وتقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب الوكالة.
(10/75)
14 - باب شُربِ
اللَّبَنِ بِالْمَاءِ
5612- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
"رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ لَبَناً
وَأَتَى دَارَهُ فَحَلَبْتُ شَاةً فَشُبْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبِئْرِ فَتَنَاوَلَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ وَعَنْ
يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ فَأَعْطَى الأَعْرَابِيَّ
فَضْلَهُ ثُمَّ قَالَ: الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ".
5613- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ
حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ كَانَ
عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي شَنَّةٍ وَإِلاَ كَرَعْنَا"
قَالَ وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي حَائِطِهِ قَالَ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي مَاءٌ بَائِتٌ فَانْطَلِقْ إِلَى الْعَرِيشِ قَالَ
فَانْطَلَقَ بِهِمَا فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ
قَالَ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ شَرِبَ
الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ".
[الحديث 5613 – طرفه في: 5621]
قوله: "باب شرب اللبن بالماء" أي ممزوجا، وإنما قيده بالشرب للاحتراز عن
الخلط عند البيع فإنه غش. ووقع في رواية الكشميهني بالواو بدل الراء، والشوب
الخلط، قال ابن المنير: مقصوده أن ذلك لا يدخل في النهي عن الخليطين، وهو يؤيد ما
تقدم من فائدة تقييده الخليطين بالمسكر، أي إنما ينهى عن الخليطين إذا كان كل واحد
(10/75)
منهما من جنس ما يسكر، وإنما كانوا يمزجون اللبن بالماء لأن اللبن عند الحليب يكون حارا وتلك البلاد في الغالب حارة، فكانوا يكسرون حر اللبن بالماء البارد. قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان، وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنا وأتى داره" أي دار أنس، وهي جملة حالية أي رآه حين أتى داره، وقد تقدم في الهبة من طريق أبي طوالة عن أنس بلفظ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا هذه فاستسقى، فحلبنا شاة لنا. قوله: "فحلبت" عين في هذه الرواية أنه هو الذي باشر الحلب، وقوله: "فشبت" كذا للأكثر من الشوب بلفظ المتكلم، ووقع في رواية الأصيلي بكسر المعجمة بعدها تحتانية على البناء للمجهول. قوله: "وأبو بكر عن يساره" زاد في رواية أبي طوالة وعمر تجاهه، وقد تقدم ضبطها في الهبة، وتقدم في الشرب من طريق شعيب عن الزهري في هذا الحديث: "فقال عمر وخاف أن يعطيه الأعرابي: أعط أبا بكر" وفي رواية أبي طوالة "فقال عمر هذا أبو بكر" قال الخطابي وغيره: كانت العادة جارية لملوك الجاهلية ورؤسائهم بتقديم الأيمن في الشرب، حتى قال عمرو بن كلثوم في قصيدة له: "وكان الكأس مجراها اليمينا" فخشي عمر لذلك أن يقدم الأعرابي على أبي بكر في الشرب فنبه عليه لأنه احتمل عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر تقديم أبي بكر على تلك العادة فتصير السنة تقديم الأفضل في الشرب على الأيمن، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله أن تلك العادة لم تغيرها السنة، وأنها مستمرة، وأن الأيمن يقدم على الأفضل في ذلك. ولا يلزم من ذلك حط رتبة الأفضل، وكان ذلك لفضل اليمين على اليسار. قوله: "فأعطى الأعرابي فضله" أي اللبن الذي فضل منه بعد شربه، وقد تقدم في الهبة ذكر من زعم أن اسم هذا الأعرابي خالد بن الوليد وأنه وهم، ووقع عند الطبراني من حديث عبد الله بن أبي حبيبة قال: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء، فجئت فجلست عن يمينه وجلس أبو بكر عن يساره، ثم دعا بشراب فشرب وناولني عن يمينه" وأخرجه أحمد لكن لم يسم الصحابي، ولا يمكن تفسير المبهم في حديث أنس به أيضا لأن هذه القصة كانت بقباء وتلك في دار أنس أيضا فهو أنصاري ولا يقال له أعرابي كما استبعد ذلك في حق خالد بن الوليد. قوله: "ثم قال: الأيمن فالأيمن" في رواية الكشميهني: "وقال" بالواو بدل "ثم" وفي رواية أبي طوالة "الأيمنون فالأيمنون" وفيه حذف تقديره الأيمنون مقدمون أو أحق أو يقدم الأيمنون. وأما رواية الباب فيجوز الرفع على ما سبق، والنصب على تقدير قدموا أو أعطوا. ووقع في الهبة بلفظ: "ألا فيمنوا" والكلام عليها. واستنبط بعضهم من تكرار الأيمن أن السنة إعطاء من على اليمين ثم الذي يليه وهلم جرا، ويلزم منه أن يكون عمر في الصورة التي وردت في هذا الحديث شرب بعد الأعرابي ثم شرب أبو بكر بعده. لكن الظاهر عن عمر إيثاره أبا بكر بتقديمه عليه. والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد غير ما ذكر أن من سبق إلى مجلس علم أو مجلس رئيس لا ينحى منه لمجيء من هو أولى منه بالجلوس في الموضع المذكور، بل يجلس الآتي حيث انتهى به المجلس، لكن إن آثره السابق جاز، وأن من استحق شيئا لما يدفع عنه إلا بإذنه كبيرا كان أو صغيرا إذا كان ممن يجوز إذنه. وفيه أن الجلساء شركاء فيما يقرب إليهم على سبيل الفضل لا اللزوم، للإجماع على أن المطالبة بذلك لا تجب قاله ابن عبد البر، ومحله ما إذا لم يكن فيهم الإمام أو من يقوم مقامه، فإن كان فالتصرف في ذلك له. وفيه دخول الكبير بيت خادمه وصاحبه ولو كان صغير السن وتناوله مما عندهم من طعام وشراب من غير بحث. وسيأتي بقية فوائده بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وأبو
(10/76)
عامر هو العقدي، وسعيد بن الحارث هو الأنصاري. قوله: "دخل على رجل من الأنصار" كنت ذكرت في المقدمة أنه أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري، ثم وقفت عن ذلك لما أخرجه أحمد عن إسحاق بن عيسى عن فليح في أول حديثي الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قوما من الأنصار يعود مريضا لهم، وقصة أبي الهيثم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، واستوعب ابن مردويه في تفسير التكاثر طرقه فزاد عن ابن عباس وأبي عسيب وأبي سعيد ولم يذكر في شيء من طرقه عبادة، فالذي يظهر أنها قصة أخرى، ثم وقفت على المستند في ذلك وهو ما ذكره الواقدي من حديث الهيثم بن نصر الأسلمي قال: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم ولزمت بابه، فكنت آتيه بالماء من بئر جاشم - وهي بئر أبي الهيثم بن التيهان وكان ماؤها طيبا - ولقد دخل يوما صائفا ومعه أبو بكر على أبي الهيثم فقال: هل من ماء بارد؟ فأتاه بشجب فيه ماء كأنه الثلج فصبه على لبن عنز له وسقاه، ثم قال له: إن لنا عريشا باردا فقل فيه يا رسول الله عندنا، فدخله وأبو بكر، وأتى أبو الهيثم بألوان من الرطب" الحديث. والشجب بفتح المعجمة وسكون الجيم ثم موحدة يتخذ من شنة تقطع ويخرز رأسها. قوله: "ومعه صاحبه" هو أبو بكر الصديق كما ترى. قوله: "فقال له" زاد في رواية الإسماعيلي من قبل هذا "وإلى جانبه ماء في ركي" وهو بفتح الراء وكسر الكاف وبعدها شدة البئر المطوية، وزاد في رواية ستأتي بعد خمسة أبواب "فسلم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه فرد الرجل - أي عليهما - السلام". قوله: "إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة" بفتح المعجمة وتشديد النون وهي القربة الخلقة. وقال الداودي: هي التي زال شعرها من البلى. قال المهلب: الحكمة في طلب الماء البائت أنه يكون أبرد وأصفى، وأما مزج اللبن بالماء فلعل ذلك كان في يوم حار كما وقع في قصة أبي بكر مع الراعي. قلت: لكن القصتان مختلفتان، فصنيع أبي بكر ذلك باللبن لشدة الحر، وصنيع الأنصاري لأنه أراد أن لا يسقي النبي صلى الله عليه وسلم ماء صرفا فأراد أن يضيف إليه اللبن فأحضر له ما طلب منه وزاد عليه من جنس جرت عادته بالرغبة فيه. ويؤيد هذا ما في رواية الهيثم بن نصر قبل أن الماء كان مثل الثلج. قوله: "وإلا كرعنا" فيه حذف تقديره: فاسقنا، وإن لم يكن عندك كرعنا. ووقع في رواية ابن ماجه التصريح بطلب السقي. والكرع بالراء تناول الماء بالفم من غير إناء ولا كف. وقال ابن التين حكى أبو عبد الملك أنه الشرب باليدين معا، قال: وأهل اللغة على خلافه. قلت: ويرده ما أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر قال: "مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا بها" الحديث ولكن في سنده ضعف، فإن كان محفوظا فالنهي فيه للتنزيه، والفعل لبيان الجواز، أو قصة جابر قبل النهي، أو النهي في غير حال الضرورة، وهذا الفعل كان لضرورة شرب الماء الذي ليس ببارد فيشرب بالكرع لضرورة العطش لئلا تكرهه نفسه إذا تكررت الجرع، فقد لا يبلغ الغرض من الري، أشار إلى هذا الأخير ابن بطال، وإنما قيل للشرب بالفم كرع لأنه فعل البهائم لشربها بأفواهها والغالب أنها تدخل أكارعها حينئذ في الماء، ووقع عند ابن ماجه من وجه آخر عن ابن عمر فقال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا" وهو الكرع، وسنده أيضا ضعيف، فهذا إن ثبت احتمل أن يكون النهي خاصا بهذه الصورة، وهي أن يكون الشارب منبطحا على بطنه، ويحمل حديث جابر على الشرب بالفم من مكان عال لا يحتاج إلى الانبطاح. ووقع في رواية أحمد "وإلا تجرعنا" بمثناة وجيم وتشديد الراء أي شربنا جرعة جرعة، وهذا قد يعكر على الاحتمال المذكور. والله أعلم. قوله: "والرجل يحول الماء في حائطه" أي ينقل الماء من مكان إلى مكان آخر من البستان ليعم
(10/77)
أشجاره بالسقي، وسيأتي بعد خمسة أبواب من وجه آخر بلفظ: "وهو يحول في حائط له" يعني الماء، وفي لفظ له "يحول الماء في الحائط" فيحتمل أن يكون وقع منه تحويل الماء من البئر مثلا إلى أعلاها ثم حوله من مكان إلى مكان. قوله: "إلى العريش" هو خيمة من خشب وثمام بضم المثلثة مخففا، وهو نبات ضعيف له خواص، وقد يجعل من الجريد كالقبة أو من العيدان ويظلل عليها. قوله: "فسكب في قدح" في رواية أحمد: فسكب ماء في قدح. قوله: "ثم حلب عليه من داجن له" في رواية أحمد وابن ماجه فحلب له شاة ثم صب عليه ماء بات في شن، والداجن بجيم ونون: الشاة التي تألف البيوت. قوله: "ثم شرب الرجل" في رواية أحمد "وشرب النبي صلى الله عليه وسلم وسقى صاحبه" وظاهره أن الرجل شرب فضلة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في رواية لأحمد أيضا وابن ماجه: "ثم سقاه ثم صنع لصاحبه مثل ذلك" أي حلب له أيضا وسكب عليه الماء البائت، هذا هو الظاهر، ويحتمل أن تكون المثلية في مطلق الشرب. قال المهلب: في الحديث أنه لا بأس بشرب الماء البارد في اليوم الحار، وهو من جملة النعم التي امتن الله بها على عباده، وقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رفعه: " أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة: ألم أصح جسمك، وأرويك من الماء البارد؟"
(10/78)
15 - باب شَرَابِ
الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ
لِأَنَّهُ رِجْسٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ
فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
5614- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ
أَخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
"كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ
الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ".
قوله: "باب شراب الحلواء والعسل" في رواية المستملي:
"الحلواء" بالمد ولغيره بالقصر، وهما لغتان، قال الخطابي: هي ما يعقد من
العسل ونحوه. وقال ابن التين عن الداودي: هي النقيع الحلو، وعليه يدل تبويب
البخاري "شراب الحلواء" كذا قال، وإنما هو نوع منها، والذي قاله الخطابي
هو مقتضى العرف. وقال ابن بطال: الحلوى كل شيء حلو، وهو كما قال، لكن استقر العرف
على تسمية ما لا يشرب من أنواع الحلو حلوى ولأنواع ما يشرب مشروب ونقيع أو نحو
ذلك، ولا يلزم مما قال اختصاص الحلوى بالمشروب. قوله: "وقال الزهري: لا يحل
شرب بول الناس لشدة تنزل لأنه رجس، قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ} وصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ووجهه ابن التين أن النبي صلى
الله عليه وسلم سمى البول رجسا. وقال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ} والرجس من جملة الخبائث، ويرد على استدلال الزهري جواز أكل الميتة
عند الشدة وهي رجس أيضا، ولهذا قال ابن بطال: الفقهاء على خلاف قول الزهري، وأشد
حال البول أن يكون في النجاسة والتحريم مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، ولم يختلفوا
في جواز تناولها عند الضرورة. وأجاب بعض العلماء عن الزهري باحتمال أنه كان يرى أن
القياس لا يدخل الرخص، والرخصة في الميتة لا في البول. قلت: وليس هذا بعيدا من
مذهب الزهري، فقد أخرج البيهقي في "الشعب" من رواية ابن أخي الزهري قال:
كان الزهري يصوم يوم عاشوراء في السفر، فقيل له أنت تفطر في
(10/78)
رمضان إذا كنت
مسافرا، فقال: إن الله تعالى قال في رمضان {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وليس
ذلك لعاشوراء. قال ابن التين: وقد يقال إن الميتة لسد الرمق، والبول لا يدفع
العطش، فإن صح هذا صح ما قال الزهري إذ لا فائدة فيه. قلت: وسيأتي نظيره في الأثر
الذي بعده. قوله: "وقال ابن مسعود في السكر: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم
عليكم". قال ابن التين: اختلف في السكر بفتحتين: فقيل هو الخمر، وقيل: ما
يجوز شربه كنقيع التمر قبل أن يشتد وكالخل، وقيل: هو نبيذ التمر إذا اشتد. قلت:
وتقدم في تفسير النحل عن أكثر أهل العلم أن السكر في قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ
مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} وهو ما حرم منها، والرزق الحسن ما أحل. وأخرج
الطبري من طريق أبي رزين أحد كبار التابعين قال: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر.
ومن طريق النخعي نحوه. ومن طريق الحسن البصري بمعناه. ثم أخرج من طريق الشعبي قال:
السكر نقيع الزبيب يعني قبل أن يشتد والخل، واختار الطبري هذا القول وانتصر له
لأنه لا يستلزم منه دعوى نسخ، ويستمر الامتنان بما تضمنته الآية على ظاهره، بخلاف
القول الأول فإنه يستلزم النسخ والأصل عدمه. قلت: وهذا في الآية محتمل، لكنه في
هذا الأثر محمول على المسكر، وقد أخرج النسائي بأسانيد صحيحة عن النخعي والشعبي
وسعيد بن جبير أنهم قالوا: السكر خمر، ويمكن الجمع بأن السكر بلغة العجم الخمر
وبلغة العرب النقيع قبل أن يشتد، ويؤيده ما أخرجه الطبراني من طريق قتادة قال:
السكر خمور الأعاجم، وعلى هذا ينطبق قول ابن مسعود "إن الله لم يجعل شفاءكم
فيما حرم عليكم" ونقل ابن التين عن الشيخ أبي الحسن يعني ابن القصار: إن كان
أراد مسكر الأشربة فلعله سقط من الكلام ذكر السؤال، وإن كان أراد السكر بالضم
وسكون الكاف قال: فأحسبه هذا أراد، لأنني أظن أن عند بعض المفسرين سئل ابن مسعود
عن التداوي بشيء من المحرمات فأجاب بذلك.
والله أعلم بمراد البخاري. قلت: قد رويت الأثر المذكور في "فوائد علي بن حرب
الطائي" عن سفيان بن عيينة عن منصور عن أبي وائل قال: اشتكى رجل منا يقال له
خثيم بن العداء داء ببطنه يقال له الصفر فنعت له السكر، فأرسل إلى ابن مسعود
يسأله، فذكره. وأخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن منصور وسنده صحيح على شرط الشيخين،
وأخرجه أحمد في كتاب الأشربة والطبراني في الكبير من طريق أبي وائل نحوه، وروينا
في "نسخة داود بن نصير الطائي" بسند صحيح عن مسروق قال: "قال عبد
الله هو ابن مسعود: لا تسقوا أولادكم الخمر فإنهم ولدوا على الفطرة، وإن الله لم
يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن مسعود
كذلك، وهذا يؤيد ما قلناه أولا في تفسير السكر. وأخرج إبراهيم الحربي في غريب
الحديث، من هذا الوجه قال: أتينا عبد الله في مجدرين أو محصبين نعت لهم السكر فذكر
مثله. ولجواب ابن مسعود شاهد آخر أخرجه أبو يعلى وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة
قالت: اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغلي
فقال: ما هذا؟ فأخبرته، فقال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم"
. ثم حكى ابن التين عن الداودي قال: قول ابن مسعود حق لأن الله حرم الخمر لم يذكر
فيها ضرورة وأباح الميتة وأخواتها في الضرورة. قال: ففهم الداودي أن ابن مسعود
تكلم على استعمال الخمر عند الضرورة وليس كذلك، وإنما تكلم على التداوي بها فمنعه،
لأن الإنسان يجد مندوحة عن التداوي بها ولا يقطع بنفعه، بخلاف الميتة في سد الرمق.
وكذا قال النووي في الفرق بين جواز إساغة اللقمة لمن شرق بها بالجرعة من الخمر
فيجوز وبين التداوي بها فلا يجوز لأن الإساغة تتحقق بها بخلاف الشفاء فإنه لا يتحقق.
ونقل الطحاوي عن الشافعي أنه
(10/79)
قال: لا يجوز سد الرمق من الجوع ولا من العطش بالخمر لأنها لا تزيده إلا جوعا وعطشا، ولأنها تذهب بالعقل. وتعقبه بأنه إن كانت لا تسد من الجوع ولا تروي من العطش لم يرد السؤال أصلا، وأما إذهابها العقل فليس البحث فيه بل هو فيما يسد به الرمق وقد لا يبلغ إلى حد إذهاب العقل. قلت: والذي يظهر أن الشافعي أراد أن يردد الأمر بأن التناول منها إن كان يسيرا فهو لا يغني من الجوع ولا يروي من العطش، وإن كانت كثيرا فهو يذهب العقل، ولا يمكن القول بجواز التداوي بما يذهب العقل لأنه يستلزم أن يتداوى من شيء فيقع في أشد منه. وقد اختلف في جواز شرب الخمر للتداوي وللعطش، قال مالك لا يشربها لأنها لا تزيده إلا عطشا، وهذا هو الأصح عند الشافعية، لكن التعليل يقتضي قصر المنع على المتخذ من شيء يكون بطبعه حارا كالعنب والزبيب، أما المتخذ من شيء بارد كالشعير فلا. وأما التداوي فإن بعضهم قال إن المنافع التي كانت فيها قبل التحريم سلبت بعد التحريم بدليل الحديث المتقدم ذكره، وأيضا فتحريمها مجزوم به، وكونها دواء مشكوك بل يترجح أنها ليست بدواء بإطلاق الحديث. ثم الخلاف إنما هو فيما لا يسكر منها. أما ما يسكر منها فإنه لا يجوز تعاطيه في التداوي إلا في صورة واحدة وهو من اضطر إلى إزالة عقله لقطع عضو من الأكلة والعياذ بالله، فقد أطلق الرافعي تخريجه على الخلاف في التداوي، وصحح النووي هنا الجواز، وينبغي أن يكون محله فيما إذا تعين ذاك طريقا إلى سلامة بقية الأعضاء ولم يجد مرقدا غيرها، وقد صرح من أجاز التداوي بالثاني، وأجازه الحنفية مطلقا لأن الضرورة تبيح الميتة وهي لا يمكن أن تنقلب إلى حالة تحل فيها، فالخمر التي من شأنها أن تنقلب خلا فتصير حلالا أولى، وعن بعض المالكية إن دعته إليها ضرورة يغلب على ظنه أنه يتخلص بشربها جاز كما لو غص بلقمة، والأصح عند الشافعية في الغص الجواز. وهذا ليس من التداوي المحض، وسيأتي في أواخر الطب ما يدل على النهي عن التداوي بالخمر وهو يؤيد المذهب الصحيح. حديث عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل" قال ابن المنير: ترجم على شيء وأعقبه بضده وبضدها تتبين الأشياء، ثم عاد إلى ما يطابق الترجمة نصا، ويحتمل أن يكون مراده بقول الزهري الإشارة لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى أن الحلواء والعسل من الطيبات فهو حلال، وبقول ابن مسعود الإشارة إلى قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} فدل الامتنان، به على حله، فلم يجعل الله الشفاء فيما حرم، قال ابن المنير: ونبه بقوله شراب الحلواء على أنها ليست الحلوى المعهودة التي يتعاطاها المترفون اليوم، وإنما هي حلو يشرب إما عسل بماء أو غير ذلك مما يشاكله انتهى. ومحتمل أن تكون الحلوى كانت تطلق لما هو أعم مما يعقد أو يؤكل أو يشرب، كما أن العسل قد يؤكل إذا كان جامدا وقد يشرب إذا كان مائعا وقد يخلط فيه الماء ويذاب ثم يشرب، وقد تقدم في كتاب الطلاق من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة في حديث الباب زيادة "وإن امرأة من قوم حفصة أهدت لها عكة عسل فشرب النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة" الحديث في ذكر المغافير. فقوله: "سقته شربة من عسل" محتمل لأن يكون صرفا حيث يكون مائعا، ويحتمل أن يكون ممزوجا. وقال النووي: المراد بالحلوى في هذا الحديث كل شيء حلو، وذكر العسل بعدها للتنبيه على شرفه ومزيته، وهو من الخاص بعد العام، وفيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة، لا سيما إن حصل اتفاقا. وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي سليمان الداراني قال: قول عائشة "كان يعجبه الحلوى" ليس على معنى كثرة التشهي لها وشدة نزاع النفس إليها وتأنق الصنعة في اتخاذها كفعل أهل الترفه والشره. وإنما كان إذا قدمت إليه ينال منها نيلا جيدا فيعلم بذلك أنه
(10/80)
يعجبه طعمها، وفيه دليل على اتخاذ الحلاوات والأطعمة من أخلاط شتى.
(10/81)
16 - باب الشُّرْبِ
قَائِماً
5615- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ قَالَ: "أَتَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ فَشَرِبَ قَائِماً فَقَالَ إِنَّ نَاساً يَكْرَهُ
أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ".
[الحديث 5615 – طرفه في: 5616]
5616- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ
النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ ثُمَّ أُتِيَ
بِمَاءٍ فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ
ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ قَالَ إِنَّ نَاساً
يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قِيَاماً وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ".
5617- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ
عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِماً مِنْ زَمْزَمَ".
قوله: "باب الشرب قائما" قال ابن بطال: أشار بهذه الترجمة إلى أنه لم
يصح عنده الأحاديث الواردة في كراهة الشرب قائما. كذا قال، وليس بجيد، بل الذي
يشبه صنيعه أنه إذا تعارضت عنده الأحاديث لا يثبت الحكم. قوله: "عن
النزال" بفتح النون وتشديد الزاي وآخره لام، في الرواية الثانية "سمعت
النزال بن سبرة" وهو بفتح المهملة وسكون الموحدة، تقدمت له رواية عن ابن
مسعود في فضائل القرآن وغيره، وليس له في البخاري سوى هذين الحديثين. وقد روى مسعر
هذا الحديث عن عبد الملك بن ميسرة مختصرا، ورواه عنه شعبة مطولا، وساقه المصنف في
هذا الباب، ووافق الأعمش شعبة على سياقه مطولا. ومسعر وشيخه وشيخ شيخه هلاليون
كوفيون، وأبو نعيم أيضا كوفي، وعلي نزل الكوفة ومات بها، فالإسناد الأول كله
كوفيون. قوله: "أتى علي" وقوله في الرواية التي تليها "عن
علي" وقع عند النسائي: "رأيت عليا" أخرجه من طريق بهز بن أسد عن
شعبة. قوله: "على باب الرحبة" زاد في رواية شعبة أنه صلى الظهر ثم قعد
في حوائج الناس في رحبة الكوفة، والرحبة بفتح الراء والمهملة والموحدة المكان
المتسع، والرحب بسكون المهملة المتسع أيضا، قال الجوهري: ومنه أرض رحبة بالسكون أي
متسعة، ورحبة المسجد بالتحريك وهي ساحته، قال ابن التين: فعلى هذا يقرأ الحديث
بالسكون، ويحتمل أنها صارت رحبة الكوفة بمنزلة رحبة المسجد فيقرأ بالتحريك، وهذا
هو الصحيح. قوله: "حوائج" هو جمع حاجة على غير القياس، وذكر الأصمعي أنه
مولد، والجمع حاجات وحاج وقال ابن ولاد: الحوجاء الحاجة وجمعها حواجي بالتشديد،
ويجوز التخفيف، قال: فلعل حوائج مقلوبة من حواجي مثل سوائع من سواعي. وقال أبو
عبيد الهروي: قيل: الأصل حائجة فيصح الجمع على حوائج. قوله: "ثم أتي
بماء" في
(10/81)
رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عند الإسماعيلي: "فدعا بوضوء" وللترمذي من طريق الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة "ثم أتي علي بكوز من ماء" ومثله من رواية بهز بن أسد عن شعبة عند النسائي، وكذا لأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة. قوله: "فشرب وغسل وجهه ويديه، وذكر رأسه ورجليه" كذا هنا. وفي رواية بهز "فأخذ منه كفا فمسح وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه". وكذلك عند الطيالسي "فغسل وجهه ويديه ومسح على رأسه ورجليه" ومثله في رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيلي، ويؤخذ منه أنه في الأصل "ومسح على رأسه ورجليه" وأن آدم توقف في سياقه فعبر بقوله: "وذكر رأسه ورجليه" ووقع في رواية الأعمش "فغسل يديه ومضمض واستنشق ومسح بوجهه وذراعيه ورأسه" وفي رواية علي بن الجعد عن شعبة عند الإسماعيلي: "فمسح بوجهه ورأسه ورجليه" ومن رواية أبي الوليد عن شعبة ذكر الغسل والتثليث في الجميع، وهي شاذة مخالفة لرواية أكثر أصحاب شعبة، والظاهر أن الوهم فيها من الراوي عند أحمد بن إبراهيم الواسطي شيخ الإسماعيلي فيها فقد ضعفه الدار قطني، والصفة التي ذكرها هي صفة إسباغ الوضوء الكامل، وقد ثبت في آخر الحديث قول علي: هذا وضوء من لم يحدث كما سيأتي بيانه. قوله: "ثم قام فشرب فضله" هذا هو المحفوظ في الروايات كلها، والذي وقع هنا من ذكر الشرب مرة قبل الوضوء ومرة بعد الفراغ منه لم أره في غير رواية آدم، والمراد بقوله: "فضله" بقية الماء الذي توضأ منه. قوله: "ثم قال: إن ناسا يكرهون الشرب قائما" كذا للأكثر، وكأن المعنى إن ناسا يكرهون أن يشرب كل منهم قائما، ووقع في رواية الكشميهني: "قياما" وهي واضحة، وللطيالسي "أن يشربوا قياما". قوله: "صنع كما صنعت" أي من الشرب قائما، وصرح به الإسماعيلي في روايته فقال: "شرب فضلة وضوئه قائما كما شربت" ولأحمد ورأيته من طريقين آخرين "عن علي أنه شرب قائما، فرأى الناس كأنهم أنكروه فقال: ما تنظرون أن أشرب قائما؟ فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما، وإن شربت قاعدا فقد رأيته يشرب قاعدا" ووقع في رواية النسائي والإسماعيلي زيادة في آخر الحديث من طرق عن شعبة "وهذا وضوء من لم يحدث" وهي على شرط الصحيح، وكذا ثبت في رواية الأعمش عند الترمذي. واستدل بهذا الحديث على جواز الشرب للقائم، وقد عارض ذلك أحاديث صريحة في النهي عنه. ومنها عند مسلم عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما" ومثله عنده عن أبي سعيد بلفظ: "نهى" ومثله للترمذي وحسنه من حديث الجارود، ولمسلم من طريق أبي غطفان عن أبي هريرة بلفظ: "لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسي فليستقيء" ، وأخرجه أحمد من وجه آخر وصححه ابن حبان من طريق أبي صالح عنه بلفظ: " لو يعلم الذي يشرب وهو قائم لاستقاء" ولأحمد من وجه آخر عن أبي هريرة "أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يشرب قائما فقال: قه، قال: لمه؟ قال: أيسرك أن يشرب معك الهر؟ قال: لا. قال قد شرب معك من هو شر منه، الشيطان " وهو من رواية شعبة عن أبي زياد الطحان مولى الحسن بن علي عنه، وأبو زياد لا يعرف اسمه، وقد وثقه يحيى بن معين. وأخرج مسلم من طريق قتادة عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب الرجل قائما، قال قتادة فقلنا لأنس: فالأكل؟ قال ذاك أشر وأخبث" قيل: وإنما جعل الأكل أشر لطول زمنه بالنسبة لزمن الشرب. فهذا ما ورد في المنع من ذلك. قال المازري: اختلف الناس في هذا، فذهب الجمهور إلى الجواز، وكرهه قوم، فقال بعض شيوخنا: لعل النهي ينصرف لمن أتى أصحابه بماء فبادر لشربه قائما قبلهم استبدادا به وخروجا عن كون ساقي القوم آخرهم شربا. قال: وأيضا فإن الأمر في حديث أبي هريرة بالاستقاء لا خلاف بين أهل العلم
(10/82)
في أنه ليس على أحد أن يستقيء. قال: وقال بعض الشيوخ: الأظهر أنه موقوف على أبي هريرة. قال: وتضمن حديث أنس الأكل أيضا، ولا خلاف في جواز الأكل قائما. قال: والذي يظهر لي أن أحاديث شربه قائما تدل على الجواز، وأحاديث النهي تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل. أو لأن في الشرب قائما ضررا فأنكره من أجله وفعله هو لأمنه، قال: وعلى هذا الثاني يحمل قوله: "فمن نسي فليستقيء" على أن ذلك يحرك خلطا يكون القيء دواءه. ويؤيده قول النخعي: إنما نهى عن ذلك لداء البطن. انتهى ملخصا. وقال عياض: لم يخرج مالك ولا البخاري أحاديث النهي، وأخرجها مسلم من رواية قتادة عن أنس ومن روايته عن أبي عيسى عن أبي سعيد وهو معنعن، وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث، وأبو عيسى غير مشهور، واضطراب قتادة فيه مما يعله مع مخالفة الأحاديث الأخرى والأئمة له. وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عمر بن حمزة ولا يحتمل منه مثل هذا لمخالفة غيره له، والصحيح أنه موقوف. انتهى ملخصا. ووقع للنووي ما ملخصه: هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالا باطلة، وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها، ولا وجه لإشاعة الغلطات، بل يذكر الصواب ويشار إلى التحذير عن الغلط، وليس في الأحاديث إشكال ولا فيها ضعيف، بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه، وشربه قائما لبيان الجواز، وأما من زعم نسخا أو غيره فقد غلط، فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ، وفعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروها أصلا، فإنه كان يفعل الشيء للبيان مرة أو مرات، ويواظب على الأفضل، والأمر بالاستقاءة محمول على الاستحباب، فيستحب لمن شرب قائما أن يستقيء لهذا الحديث الصحيح الصريح، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب. وأما قول عياض: لا خلاف بين أهل العلم في أن من شرب قائما ليس عليه أن يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع من استحبابه، فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مجازف، وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات، والدعاوى والترهات؟ اهـ وليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلا، بل ونقل الاتفاق المذكور إنما هو كلام المازري كما مضى، وأما تضعيف عياض للأحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه. وطريق الإنصاف أن لا تدفع حجة العالم بالصدر، فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلسا وقد عنعنه فيجاب عنه بأنه صرح في نفس السند بما يقتضي سماعه له من أنس، فإن فيه: "قلنا لأنس: فالأكل" وأما تضعيفه حديث أبي سعيد بأن أبا عيسى غير مشهور فهو قول سبق إليه ابن المديني لأنه لم يرو عنه إلا قتادة، لكن وثقه الطبري وابن حبان، ومثل هذا يخرج في الشواهد، ودعواه اضطرابه مردودة لأن لقتادة فيه إسنادين وهو حافظ، وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه ومثله يخرج له مسلم في المتابعات، وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما أشرت إليه عند أحمد وابن حبان، فالحديث بمجموع طرقه صحيح والله أعلم. قال النووي وتبعه شيخنا في "شرح الترمذي" إن قوله: "فمن نسي" لا مفهوم له، بل يستحب ذلك للعامد أيضا بطريق الأولى، وإنما خص الناسي بالذكر لكون المؤمن لا يقع ذلك منه بعد النهي غالبا إلا نسيانا. قلت: وقد يطلق النسيان ويراد به الترك فيشمل السهو والعمد، فكأنه قيل من ترك امتثال الأمر وشرب قائما فليستقيء. وقال القرطبي في "المفهم": لم يصر أحد إلى أن النهي فيه للتحريم وإن كان جاريا على أصول الظاهرية والقول به، وتعقب بأن ابن حزم منهم جزم بالتحريم، وتمسك من
(10/83)
لم يقل بالتحريم بحديث علي المذكور في الباب، وصحح الترمذي من حديث ابن عمر "كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام" وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص أخرجه الترمذي أيضا وعن عبد الله بن أنيس أخرجه الطبراني وعن أنس أخرجه البزار والأثرم وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه الترمذي وحسنه وعن عائشة أخرجه البزار وأبو علي الطوسي في "الأحكام" وعن أم سليم نحوه أخرجه ابن شاهين وعن عبد الله بن السائب عن خباب عن أبيه عن جده أخرجه ابن أبي حاتم، وعن كبشة قالت: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فشرب من قربة معلقة" أخرجه الترمذي وصححه، وعن كلثم نحوه أخرجه أبو موسى بسند حسن. وثبت الشرب قائما عن عمر أخرجه الطبري، وفي "الموطأ" أن عمر وعثمان وعليا كانوا يشربون قياما وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأسا، وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين. وسلك العلماء في ذلك مسالك: أحدها: الترجيح وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم فقال: حديث أنس - يعني في النهي - جيد الإسناد ولكن قد جاء عنه خلافه، يعني في الجواز، قال: ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز أن لا يكون الذي يقابله أقوى لأن الثبت قد يروي من هو دونه الشيء فيرجح عليه، فقد رجح نافع على سالم في بعض الأحاديث عن ابن عمر وسالم مقدم على نافع في الثبت، وقدم شريك على الثوري في حديثين وسفيان مقدم عليه في جملة أحاديث. ثم أسند عن أبي هريرة قال: "لا بأس بالشرب قائما" قال الأثرم: فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست ثابتة، وإلا لما قال لا بأس به، قال: ويدل على وهاء أحاديث النهي أيضا اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد شرب قائما أن يستقيء. المسلك الثاني: دعوى النسخ، وإليها جنح الأثرم وابن شاهين فقررا على أن أحاديث النهي - على تقدير ثبوتها - منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومنظم الصحابة والتابعين بالجواز، وقد عكس ذلك ابن حزم فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكا بأن الجواز على وفق الأصل وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع. فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان، فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما سيأتي ذكره في هذا الباب من حديث ابن عباس، وإذا كان ذلك الأخير من فعله صلى الله عليه وسلم دل على الجواز، ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين بعده. المسلك الثالث: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل، فقال أبو الفرج الثقفي في نصره الصحاح: والمراد بالقيام هنا المشي، يقال قام في الأمر إذا مشى فيه، وقمت في حاجتي إذا سعيت فيها وقضيتها، ومنه قوله تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} أي مواظبا بالمشي عليه. وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه، وهذا إن سلم له في بعض ألفاظ الأحاديث لم يسلم له في بقيتها. وسلك آخرون في الجمع حمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين، وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض، وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيرا فقال: إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري وأيده بأنه لو كان جائزا ثم حرمه أو كان حراما ثم جوزه لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا واضحا، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا. وقيل: إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به، فإن الشرب قاعدا أمكن وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق، وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائما. وفي حديث علي من الفوائد أن على العالم إذا رأى الناس اجتنبوا شيئا وهو
(10/84)
يعلم جوازه أن يوضح لهم وجه الصواب فيه خشية أن يطول الأمر فيظن تحريمه، وأنه متى خشي ذلك فعليه أن يبادر للإعلام بالحكم ولو لم يسأل، فإن سئل تأكد الأمر به، وأنه إذا كره من أحد شيئا لا يشهر باسمه لغير غرض بل يكنى عنه كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل في مثل ذلك. قوله: "حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عاصم الأحول" قال الكرماني ذكر الكلاباذي أن أبا نعيم سمع من سفيان الثوري ومن سفيان بن عيينة وأن كلا منهما روى عن عاصم الأحول فيحتمل أن يكون أحدهما. قلت: ليس الاحتمالان فيهما هنا على السواء، فإن أبا نعيم مشهور بالرواية عن الثوري معروف بملازمته، وروايته عن ابن عيينة قليلة، وإذا أطلق اسم شيخه حمل على من هو أشهر بصحبته وروايته عنه أكثر، ولهذا جزم المزي في "الأطراف" أن سفيان هذا هو الثوري، وهذه قاعدة مطردة عند المحدثين في مثل هذا، وللخطيب فيه تصنيف سماه "المكمل لبيان المهمل"، وقد روى هذا الحديث بعينه سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول أخرجه أحمد عنه، وكذا هو عند مسلم رواية ابن عيينة، وأخرجه أحمد أيضا من وجه آخر عن سفيان الثوري عن عاصم الأحول، لكن خصوص رواية أبي نعيم فيه إنما هي عن الثوري كما تقدم. قوله: "شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائما من زمزم" في رواية ابن ماجه من وجه آخر عن عاصم في هذا الحديث: "قال - أي عاصم - فذكرت ذلك لعكرمة فحلف أنه ما كان حينئذ إلا راكبا" وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الحج، وعند أبي داود من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره ثم أناخه بعد طوافه فصلى ركعتين" فلعله حينئذ شرب من زمزم قبل أن يعود إلى بعيره ويخرج إلى الصفا، بل هذا هو الذي يتعين المصير إليه، لأن عمدة عكرمة في إنكار كونه شرب قائما إنما هو ما ثبت عنده أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره وخرج إلى الصفا على بعيره وسعى كذلك، لكن لا بد من تخلل ركعتي الطواف بين ذلك وقد ثبت أنه صلاهما على الأرض فما المانع من كونه شرب حينئذ من سقاية زمزم قائما كما حفظه الشعبي عن ابن عباس؟
(10/85)
باب من شرب واقف
وهو على بعيره
...
17 - باب مَنْ شَرِبَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ
5618- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ "أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ
عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَشَرِبَهُ" زَادَ مَالِكٌ عَنْ أَبِي
النَّضْرِ "عَلَى بَعِيرِهِ".
قوله: "باب من شرب وهو واقف على بعيره" قال ابن العربي: لا حجة في هذا
على الشرب قائما، لأن الراكب على البعير قاعد غير قائم، كذا قال، والذي يظهر لي أن
البخاري أراد حكم هذه الحالة وهل تدخل تحت النهي أو لا وإيراده الحديث من فعله صلى
الله عليه وسلم يدل على الجواز فلا يدخل في الصورة المنهي عنها، وكأنه لمح بما قال
عكرمة أن مراد ابن عباس بقوله في الرواية التي جاءت عن الشعبي في الذي قبله أنه
شرب قائما إنما أراد وهو راكب والراكب يشبه القائم من حيث كونه سائرا؛ ويشبه
القاعد من حيث كونه مستقرا على الدابة. قوله: "حدثنا مالك بن إسماعيل"
هو أبو غسان النهدي الكوفي من كبار شيوخ البخاري، وقوله: بعد ذلك "زاد مالك
الخ" هو ابن أنس والمراد أن مالكا تابع عبد العزيز بن أبي سلمة على روايته
هذا الحديث عن أبي النضر وقال في روايته: "شرب وهو واقف على
(10/85)
بعيره" وقد تقدمت هذه الرواية تامة في كتاب الصيام مع بقية شرح الحديث.
(10/86)
باب الأيمن في
الأيمن في الشرب
...
18 - باب الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ فِي الشُّرْبِ
5619- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن بن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن
شماله أبو بكر فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن" .
قوله: "باب الأيمن فالأيمن في الشرب" ذكر فيه حديث أنس الماضي قريبا في
"باب شرب اللبن" وتقدمت مباحثه هناك. وإسماعيل هو ابن أبي أويس. وكذا في
حديث الباب الذي بعده. وقوله: "الأيمن فالأيمن" أي يقدم من على يمين
الشارب في الشرب ثم الذي عن يمين الثاني وهلم جرا، وهذا مستحب عند الجمهور. وقال
ابن حزم: يجب. وقوله في الترجمة: "في الشرب" يعم الماء وغيره من
المشروبات، ونقل عن مالك وحده أنه خصه بالماء. قال ابن عبد البر: لا يصح عن مالك.
وقال عياض: يشبه أن يكون مراده أن السنة ثبتت نصا في الماء خاصة، وتقديم الأيمن في
غير شرب الماء يكون بالقياس. وقال ابن العربي: كأن اختصاص الماء بذلك لكونه قد قيل
إنه لا يملك، بخلاف سائر المشروبات. ومن ثم اختلف هل يجري الربا فيه، وهل يقطع في
سرقته؟ وظاهر قوله: "في الشرب" أن ذلك لا يجري في الأكل، لكن وقع في
حديث أنس خلافه كما سيأتي.
(10/86)
باب هل يستأذن
الرجل من على يمينه في الشرب ليعطي الأكبر
...
19 - باب هَلْ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الشُّرْبِ لِيُعْطِيَ
الأَكْبَرَ
5620- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ
دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ
وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ فَقَالَ لِلْغُلاَمِ
أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ فَقَالَ الْغُلاَمُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ
اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَداً قَالَ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ" .
قوله: "باب هل يستأذن الرجل من عن يمينه في الشرب ليعطي الأكبر؟" كأنه
لم يجزم بالحكم لكونها واقعة عين فيتطرق إليها احتمال الاختصاص، فلا يطرد الحكم
فيها لكل جليسين. حديث سهل بن سعد في ذلك وقد تقدم في أوائل الشرب، وفيه تسمية
الغلام وبعض الأشياخ. وقوله: "أتأذن لي" لم يقع في حديث أنس أنه استأذن
الأعرابي الذي عن يمينه، فأجاب النووي وغيره بأن السبب فيه أن الغلام كان ابن عمه
فكان له عليه إدلال وكان من على اليسار أقارب الغلام أيضا، وطيب نفسه مع ذلك
بالاستئذان لبيان الحكم وأن السنة تقديم الأيمن ولو كان مفضولا بالنسبة إلى من على
اليسار، وقد وقع في حديث ابن عباس في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف
به حيث قال له "الشربة لك، وإن شئت آثرت بها خالدا" كذا في السنن، وفي
لفظ لأحمد "وإن شئت آثرت به عمك" وإنما أطلق عليه عمه لكونه أسن منه،
ولعل سنه كان قريبا من سن العباس، وإن كان من جهة أخرى من أقرانه لكونه ابن خالته،
وكان خالد مع رياسته في الجاهلية وشرفه في قومه قد تأخر إسلامه فلذلك استأذن له،
بخلاف
(10/86)
20 - باب الْكَرْعِ
فِي الْحَوْضِ
5621- حدثنا يحيى بن صالح حدثنا فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن جابر بن عبد
الله رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار
ومعه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه فرد الرجل فقال يا رسول الله بأبي أنت
وأمي وهي ساعة حارة وهو يحول له يعني الماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان
عندك ماء بات في شنة وإلا كرعنا والرجل يحول الماء فقال الرجل: يا رسول الله عندي
ماء بات في شنة فانطلق إلى العريش فسكب في قدح ماء ثم حلب عليه من داجن له فشرب
النبي صلى الله عليه وسلم ثم أعاد فشرب الرجل الذي جاء معه".
قوله: "باب الكرع في الحوض" ذكر فيه حديث جابر، وقد تقدم شرحه قبل خمسة
أبواب مستوفى، وإنما قيد في الترجمة بالحوض لما بينته هناك أن جابرا أعاد قوله:
"وهو يحول الماء" في أثناء مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم الرجل
مرتين، وأن الظاهر أنه كان ينقله من أسفل البئر إلى أعلاه، فكأنه كان هناك حوض
يجمعه فيه ثم يحوله من جانب إلى جانب.
(10/88)
21 - باب خِدْمَةِ
الصِّغَارِ الْكِبَارَ
5622- حدثنا مسدد حدثنا الفاء عن أبيه قال سمعت أنسا رضي الله عنه قال: "كنت
قائما على الحي أسقيهم عمومتي - وأنا أصغرهم - الفضيخ فقيل: حرمت الخمر فقال:
أكفئها فكفأنا. قلت لأنس: ما شرابهم؟ قال: رطب وبسر. فقال أبو بكر بن أنس: وكانت
خمرهم فلم ينكر أنس".
وحدثني بعض أصحابي أنه سمع أنسا يقول: "كانت خمرهم يومئذ".
قوله: "باب خدمة الصغار الكبار" ذكر فيه حديث أنس "كنت قائما على
الحي أسقيهم وأنا أصغرهم" وهو ظاهر فيما ترجم به، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى
في أوائل الأشربة.
(10/88)
22 - باب
تَغْطِيَةِ الإِنَاءِ
5623- حدثنا إسحاق بن منصور أخبرنا روح بن عبادة أخبرنا بن جريج قال أخبرني عطاء
أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا
ذهب ساعة من الليل فحلوهم فأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح
بابا مغلقا وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله ولو أن
تعرضوا عليها شيئا وأطفئوا مصابيحكم" .
(10/88)
23 - باب
اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ
5625- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ يَعْنِي أَنْ تُكْسَرَ
أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا" .
[الحديث 5625 – طرفه في: 5626]
5626- حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال حدثني عبيد
الله بن عبد الله أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: "سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم ينهى عن اختناث الأسقية". قال عبد الله: قال معمر أو غيره:
"هو الشرب من أفواهها".
قوله: "باب اختناث الأسقية" افتعال من الخنث بالخاء المعجمة والنون
والمثلثة، وهو الانطواء والتكسر والانثناء. والأسقية جمع السقاء والمراد به المتخذ
من الأدم صغيرا كان أو كبيرا. وقيل: القربة قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة، والسقاء
لا يكون إلا صغيرا. قوله: "عن عبيد الله" بالتصغير "ابن عبد
الله" بالتكبير "ابن عتبة" بضم المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة
أي ابن مسعود، وصرح في الرواية التي تليها بتحديث عبيد الله للزهري. قوله:
"عن أبي سعيد" صرح بالسماع في التي تليها أيضا. قوله: "نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم" في التي بعدها "سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم ينهى". قوله: "يعني أن تكسر أفواهها فيشرب منها" المراد
بكسرها ثنيها لا كسرها حقيقة ولا إبانتها، والقائل "يعني" لم يصرح به في
هذه الطريق، ووقع عند أحمد عن أبي النضر عن ابن أبي ذئب بحذف لفظ:
"يعني" فسار التفسير مدرجا في الخبر، ووقع في الرواية الثانية "قال
عبد الله" هو ابن المبارك "قالا معمر" هو ابن راشد "أو غيره
هو الشرب من أفواهها" وعبد الله بن المبارك روى المرفوع عن يونس عن الزهري،
وروى التفسير عن معمر مع التردد، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن وهب يونس وابن
أبي ذئب معا مدرجا ولفظه: "ينهى عن اختناث الأسقية أو الشرب أن يشرب من
أفواهها" كذا فيه بحرف التردد، وهو عند مسلم من طريق ابن وهب عن يونس وحده
بلفظ: "عن اختناث الأسقية أن يشرب من أفواهها" وهذا
(10/89)
أشبه، وهو أنه تفسير الاختناث لا أنه شك من الراوي في أي اللفظين وقع في الحديث، لكن ظاهره أن التفسير في نفس الخبر، وأخرجه مسلم أيضا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ولم يسق لفظه لكن قال: "مثله" قال: "غير أنه قال: واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب" وهو مدرج أيضا، وقد جزم الخطابي أن تفسير الاختناث من كلام الزهري، ويحمل التفسير المطلق وهو الشرب من أفواهها على المقيد بكسر فمها أو قلب رأسها، ووقع في مسند أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب في أول هذا الحديث: "شرب رجل من سقاء فانساب في بطنه جنان، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكره، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي بكر وعثمان بن أبي شيبة فرقهما عن يزيد به. قوله: "أفواهها" جمع فم، وهو على سبيل الرد إلى الأصل في الفم أنه فوه نقصت منه الهاء لاستثقال هاءين عند الضمير لو قال فوهه، فلما لم يحتمل حذف الواو بعد حذف الهاء الإعراب لسكونها عوضت ميما فقيل فم، وهذا إذا أفرد، ويجوز أن يقتصر على الفاء إذا أضيفت لكن تزاد حركة مشبعة يختلف إعرابها بالحروف، فإن أضيف إلى مضمر كفت الحركات ولا يضاف مع الميم إلا في ضرورة شعر كقول الشاعر "يصبح عطشان وفي البحر فمه" فإذا أرادوا الجمع أو التصغير ردوه إلى الأصل فقالوا فويه وأفواه، ولم يقولوا فميم ولا أفمام.
(10/90)
24 - باب الشُّرْبِ
مِنْ فَمِ السِّقَاءِ
5627- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا
أَيُّوبُ قَالَ لَنَا عِكْرِمَةُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ قِصَارٍ
حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوْ السِّقَاءِ وَأَنْ
يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي دَارِهِ" .
5628- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " نَهَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ" .
5629- حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد عن عكرمة عن بن عباس رضي الله
عنهما قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء" .
قوله: "باب الشرب من فم السقاء" الفم بتخفيف الميم ويجوز تشديدها، ووقع
في رواية: "من في السقاء" وقد تقدم توجيهها. قال ابن المنير: لم يقنع
بالترجمة التي قبلها لئلا يظن أن النهي خاص بصورة الاختناث، فبين أن النهي يعم ما
يمكن اختناثه وما لا يمكن كالفخار مثلا. قوله: "حدثنا أيوب قال: قال لنا
عكرمة" في رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا أيوب السختياني أخبرنا
عكرمة" وأخرجه أبو نعيم من طريقه. قوله: "ألا أخبركم بأشياء قصار حدثنا
بها أبو هريرة" في الكلام حذف تقديره مثلا: فقلنا نعم، أو فقلنا حدثنا أو نحو
ذلك فقال: حدثنا أبو هريرة. ووقع في رواية ابن أبي عمر عن سفيان بهذا الإسناد
"سمعت أبا هريرة" أخرجه الإسماعيلي من طريقه. قوله: "من فم القربة
أو السقاء" هو شك من الراوي، وكأنه من سفيان، قد وقع في رواية عبد الجبار بن
العلاء عن سفيان عند الإسماعيلي: "من في السقاء" وفي رواية ابن أبي عمر
عنده من فم القربة. قوله: "وأن
(10/90)
يمنع جاره الخ" تقدم شرحه في أوائل كتاب المظالم. قال الكرماني، "قال ألا أخبركم بأشياء" ولم يذكر إلا شيئين فلعله أخبر بأكثر فاختصره بعض الرواة أو أقل الجمع عنده اثنان. قلت: واختصاره يجوز أن يكون عمدا ويجوز أن يكون نسيانا، وقد أخرج أحمد الحديث المذكور من رواية حماد بن زيد عن أيوب فذكر بهذا الإسناد الشيئين المذكورين وزاد النهي عن الشرب قائما، وفي مسند الحميدي أيضا ما يدل على أنه ذكر ثلاثة أشياء، فإنه ذكر النهي عن الشرب من في السقاء أو القربة وقال هذا آخرها، والله أعلم. "حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل" هو المعروف بابن علية. قوله: "أن يشرب من في السقاء" زاد أحمد عن إسماعيل بهذا الإسناد والمتن "قال أيوب فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية" وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عباد بن موسى عن إسماعيل ووهم الحاكم فأخرج الحديث في "المستدرك" بزيادته والزيادة المذكورة ليست على شرط الصحيح لأن راويها لم يسم وليست موصولة، ولكن أخرجها ابن ماجه من رواية سلمة بن وهرام عن عكرمة بنحو المرفوع، وفي آخره: "وإن رجلا قام من الليل بعد النهي إلى سقاء فاختنثه فخرجت عليه منه حية" وهذا صريح في أن ذلك وقع بعد النهي، بخلاف ما تقدم من رواية ابن أبي ذئب في أن ذلك كان سبب النهي، ويمكن الجمع بأن يكون ذلك وقع قبل النهي فكان من أسباب النهي، ثم وقع بعد النهي تأكيدا. وقال النووي: اتفقوا على أن النهي هنا للتنزيه لا للتحريم، كذا قال، وفي نقل الاتفاق نظر لما سأذكره، فقد نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه القرب وقال: لم يبلغني فيه نهي، وبالغ ابن بطال في رد هذا القول، واعتذر عنه ابن المنير باحتمال أنه كان لا يحمل النهي فيه على التحريم، كذا قال مع النقل عن مالك أنه لم يبلغه فيه نهي، فالاعتذار عنه بهذا القول أولى، والحجة قائمة على من بلغه النهي، قال النووي: ويؤيد كون هذا النهي للتنزيه أحاديث الرخصة في ذلك. قلت: لم أر في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز إلا من فعله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث النهي كلها من قوله. فهي أرجح إذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك، فإن جميع ما ذكره العلماء في ذلك يقتضي أنه مأمون منه صلى الله عليه وسلم، أما أولا فلعصمته ولطيب نكهته، وأما ثانيا فلرفقه في صب الماء وبيان ذلك بسياق ما ورد في علة النهي، فمنها ما تقدم من أنه لا يؤمن دخول شيء من الهوام مع الماء في جوف السقاء فيدخل فم الشارب وهو لا يشعر، وهذا يقتضي أنه لو ملأ السقاء وهو يشاهد الماء يدخل فيه ثم ربطه ربطا محكما ثم لما أراد أن يشرب حله فشربه منه لا يتناوله النهي، ومنها ما أخرجه الحاكم من حديث عائشة بسند قوي بلفظ: "نهى أن يشرب من في السقاء لأن ذلك ينتنه" وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصا بمن يشرب فيتنفس داخل الإناء أو باشر بفمه باطن السقاء، أما من صب من القربة داخل فمه من غير مماسة فلا، ومنها أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء فينصب منه أكثر من حاجته فلا يأمن أن يشرق به أو تبتل ثيابه، قال ابن العربي: وواحدة من الثلاثة تكفي في ثبوت الكراهة، وبمجموعها تقوى الكراهة جدا. وقال الشيخ محمد بن أبي جمرة ما ملخصه: اختلف في علة النهي فقيل: يخشى أن يكون في الوعاء حيوان أو ينصب بقوة فيشرق به أو يقطع العروق الضعيفة التي بإزاء القلب فربما كان سبب الهلاك أو بما يتعلق بفم السقاء من بخار النفس أو بما يخالط الماء من ريق الشارب فيتقذره غيره أو لأن الوعاء يفسد بذلك في العادة فيكون من إضاعة المال، قال: والذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور وفيها ما يقتضي الكراهة وفيها ما يقتضي التحريم، والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم، وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي
(10/91)
وحمل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة، وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة لأنهم كانوا أولا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء فنسخ الجواز. قلت: ومن الأحاديث الواردة في الجواز ما أخرجه الترمذي وصححه من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قالت: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة" وفي الباب عن عبد الله بن أنيس عند أبي داود والترمذي وعن أم سلمة في "الشمائل" وفي مسند أحمد والطبراني والمعاني للطحاوي، قال شيخنا في شرح الترمذي: لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسرا ولم يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ وعلى ذلك تحمل الأحاديث المذكورة، وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي. قلت: ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلقة والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة، ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقا بل على تلك الصورة وحدها، وحملها على حال الضرورة جمعا بين الخبرين أولى من حملها على النسخ والله أعلم. وقد سبق ابن العربي إلى نحو ما أشار إليه شيخنا فقال: يحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة، إما عند الحرب وإما عند عدم الإناء أو مع وجوده لكن لم يتمكن لشغله من التفريغ من السقاء في الإناء، ثم قال: ويحتمل أن يكون شرب من إداوة، والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة لأنها مظنة وجود الهوام، كذا قال، والقربة الصغيرة لا يمتنع وجود شيء من الهوام فيها، والضرر يحصل به ولو كان حقيرا، والله أعلم.
(10/92)
25 - باب النَّهْيِ
عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الإِنَاءِ
5630- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ وَإِذَا
بَالَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَإِذَا تَمَسَّحَ
أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ" .
قوله: "باب النهي عن التنفس في الإناء" ذكر فيه حديث أبي قتادة. وقد
تقدم شرحه في كتاب الطهارة. قوله: "فلا يتنفس في الإناء" زاد ابن أبي
شيبة من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه النهي عن النفخ في الإناء، وله
شاهد من حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي "أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى أن يتنفس في الإناء، وأن ينفخ فيه" وجاء في النهي عن النفخ في الإناء عدة
أحاديث، وكذا النهي عن التنفس في الإناء لأنه ربما حصل له تغير من النفس إما لكون
المتنفس كان متغير الفم بمأكول مثلا، أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة، أو لأن النفس
يصعد ببخار المعدة، والنفخ في هذه الأحوال كلها أشد من التنفس.
(10/92)
باب الشرب بنفس أو
نفسين
...
26 - باب الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ
5631- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ قَالاَ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ
ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كَانَ
أَنَسٌ يَتَنَفَّسُ فِي الإِنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً وَزَعَمَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلاَثاً".
(10/92)
27 - باب الشُّرْبِ
فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ
5632- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ
ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى
فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ فَرَمَاهُ بِهِ فَقَالَ إِنِّي لَمْ
أَرْمِهِ إِلاَّ أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالشُّرْبِ
فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَالَ هُنَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ
لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ ".
قوله: "باب الشرب في آنية الذهب" كذا أطلق الترجمة، وكأنه استغنى عن ذكر
الحكم بما صرح به بعد في كتاب الأحكام أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم على
التحريم حتى يقوم دليل الإباحة. وقد وقع التصريح في حديث الباب بالنهي والإشارة
إلى الوعيد على ذلك، ونقل ابن المنذر الإجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب
والفضة إلا عن معاوية بن قرة أحد التابعين فكأنه لم يبلغه النهي، وعن الشافعي في
القديم ونقل عن نصه في حرملة أن النهي فيه للتنزيه لأن علته ما فيه من التشبه
بالأعاجم، ونص في الجديد على التحريم، ومن أصحابه من قطع به عنه، وهذا اللائق به
لثبوت الوعيد عليه بالنار كما سيأتي في الذي يليه. وإذا ثبت ما نقل عنه فلعله كان
قبل أن يبلغه الحديث المذكور،
(10/94)
ويؤيد وهم النقل أيضا عن نصه في حرملة أن صاحب "التقريب" نقل في كتاب الزكاة عن نصه في حرملة تحريم اتخاذ الإناء من الذهب أو الفضة، وإذا حرم الاتخاذ فتحريم الاستعمال أولى، والعلة المشار إليها ليست متفقا عليها، بل ذكروا للنهي عدة علل: منها ما فيه من كسر قلوب الفقراء، أو من الخيلاء والسرف، ومن تضييق النقدين. قوله: "عن ابن أبي ليلى" هو عبد الرحمن. وفي رواية غندر عن شعبة عن الحكم "سمعت ابن أبي ليلى" أخرجه مسلم والترمذي. قوله: "كان حذيفة بالمدائن"، عند أحمد من طريق يزيد عن ابن أبي ليلى "كنت مع حذيفة بالمدائن" والمدائن اسم بلفظ جمع مدينة، وهو بلد عظيم على دجلة بينها وبين بغداد سبعة فراسخ كانت مسكن ملوك الفرس، وبها إيوان كسرى المشهور، وكان فتحها على يد سعد بن أبي وقاص في خلافة عمر سنة ست عشرة وقيل: قبل ذلك، وكان حذيفة عاملا عليها في خلافة عمر ثم عثمان إلى أن مات بعد قتل عثمان. قوله: "فاستسقى فأتاه دهقان" بكسر الدال المهملة ويجوز ضمها بعدها هاء ساكنة ثم قاف، هو كبير القرية بالفارسية، ووقع في رواية أحمد عن وكيع عن شعبة "استسقى حذيفة من دهقان أو علج" وتقدم في الأطعمة من طريق سيف عن مجاهد عن ابن أبي ليلى "أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى، فسقاه مجوسي" ولم أقف على اسمه بعد البحث. قوله: "بقدح فضة" في رواية أبي داود عن حفص شيخ البخاري فيه: "بإناء من فضة" ولمسلم من طريق عبد الله بن عكيم "كنا عند حذيفة فجاءه دهقان بشراب في إناء من فضة" ويأتي في اللباس عن سليمان بن حرب عن شعبة بلفظ: "بماء في إناء". قوله: "فرماه به" في رواية وكيع "فحذفه به" ويأتي في الذي يليه بلفظ: "فرمى به في وجهه" ولأحمد من رواية يزيد عن ابن أبي ليلى "ما يألو أن يصيب به وجهه" زاد في رواية الإسماعيلي وأصله عند مسلم: فرماه به فكسره. قوله: "فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته" في رواية الإسماعيلي المذكورة "لم أكسره إلا أني نهيته فلم يقبل" وفي رواية وكيع "ثم أقبل على القوم فاعتذر" وفي رواية يزيد "لولا أني تقدمت إليه مرة أو مرتين لم أفعل به هذا" وفي رواية عبد الله بن عكيم "إني أمرته أن لا يسقيني فيه" ويأتي في الذي بعده مزيد فيه. قوله: "وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج" سيأتي في اللباس التصريح ببيان النهي عن لبسهما، وفيه بيان الديباج ما هو. قوله: "والشرب في آنية الذهب والفضة" وقع في الذي يليه بلفظ: "لا تشربوا ولا تلبسوا" وكذا عند أحمد من وجه آخر عن الحكم، كذا وقع في معظم الروايات عن حذيفة الاقتصار على الشرب ووقع عند أحمد من طريق مجاهد عن ابن أبي ليلى بلفظ: "نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة، وأن يؤكل فيها" ويأتي نحوه في حديث أم سلمة في الباب الذي يليه. قوله: "وقال: هن لهم في الدنيا، وهن لكم في الآخرة" كذا فيه بلفظ: "هن" بضم الهاء وتشديد النون في الموضعين. وفي رواية أبي داود عن حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ: "هي" بكسر الهاء ثم التحتانية، وكذا في رواية غندر عن شعبة، ووقع عند الإسماعيلي وأصله في مسلم: "هو" أي جميع ما ذكر. قال الإسماعيلي: ليس المراد بقوله: "في الدنيا" إباحة استعمالهم إياه وإنما المعنى بقوله: "لهم" أي هم الذين يستعملونه مخالفة لزي المسلمين. وكذا قوله "ولكم في الآخرة" أي تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويمنعه أولئك جزاء لهم على معصيتهم باستعماله. قلت: ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطى ذلك في الدنيا لا يتعاطاه في الآخرة كما تقدم في شرب الخمر، ويأتي مثله في لباس الحرير، بل وقع في هذا بخصوصه ما سأبينه في الذي قبله.
(10/95)
28 - باب آنِيَةِ
الْفِضَّةِ
5633- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ
ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ خَرَجْنَا مَعَ
حُذَيْفَةَ وَذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلاَ تَلْبَسُوا
الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي
الْآخِرَةِ" .
5634- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ
عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: "الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا
يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ" .
5635- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ
الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ
الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةِ
الدَّاعِي وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ
وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَعَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ أَوْ قَالَ
آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَالْقَسِّيِّ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ
وَالدِّيبَاجِ وَالإِسْتَبْرَقِ" .
قوله: "باب آنية الفضة" ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول: حديث حذيفة. قوله:
"خرجنا مع حذيفة وذكر النبي صلى الله عليه وسلم" كذا ذكره مختصرا، وقد
أخرجه أحمد عن ابن أبي عدي الذي أخرجه البخاري من طريقه، وأخرجه الإسماعيلي وأصله
في مسلم من طريق معاذ بن معاذ وكلاهما عن عبد الله بن عون بلفظ: "خرجت مع
حذيفة إلى بعض هذا السواد، فاستسقى، فأتاه الدهقان بإناء من فضة، فرمى به في وجهه،
قال فقلنا: اسكتوا، فإنا إن سألناه لم يحدثنا، قال فسكتنا. فلما كان بعد ذلك قال:
أتدرون لم رميت بهذا في وجهه؟ قلنا: لا. قال: ذلك أني كنت نهيته. قال فذكر النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تشربوا في آنية الذهب والفضة" قال أحمد: وفي
رواية معاذ "ولا في الفضة". قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس.
قوله: "عن زيد بن عبد الله بن عمر" هو تابعي ثقة، تقدمت روايته عن أبيه
في إسلام عمر، وليس له في البخاري سوى هذين الحديثين. وهذا الإسناد كله مدنيون،
وقد تابع مالكا عن نافع عليه موسى بن عقبة وأيوب وغيرهما وذلك عند مسلم، وخالفهم
إسماعيل بن أمية عن نافع فلم يذكر زيدا في إسناده، جعله عن نافع عن عبد الله بن
عبد الرحمن، أخرجه النسائي، والحكم لمن زاد من الثقات، ولا سيما وهم حفاظ وقد
اجتمعوا وانفرد إسماعيل. وقال محمد بن إسحاق عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم
سلمة، ووافقه سعد بن إبراهيم عن نافع في صفية لكن خالفه فقال عن عائشة بدل أم
سلمة، وقول محمد بن إسحاق أقرب، فإن كان محفوظا فلعل لنافع فيه إسنادين، وشذ عبد
العزيز بن أبي رواد فقال: "عن نافع عن أبي هريرة" وسلك برد بن سنان
وهشام بن الغاز الجادة فقالا عن نافع عن ابن عمر أخرج الجميع النسائي وقال:
(10/96)
الصواب من ذلك كله رواية أيوب ومن تابعه. قوله: "عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق" هو ابن أخت أم سلمة التي روى عنها هذا الحديث، أمه قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، وهو ثقة ما له في البخاري غير هذا الحديث. قوله: "الذي يشرب في آنية الفضة" في رواية مسلم من طريق عثمان بن مرة عن عبد الله بن عبد الرحمن "من شرب من إناء ذهب أو فضة" وله من رواية علي بن مسهر عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع "إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة" وأشار مسلم إلى تفرد علي بن مسهر بهذه اللفظة، أعني الأكل. قوله: "إنما يجرجر" بضم التحتانية وفتح الجيم وسكون الراء ثم جيم مكسورة ثم راء من الجرجرة وهو صوت يردده البعير في حنجرته إذا هاج نحو صوت اللجام في فك الفرس، قال النووي: اتفقوا على كسر الجيم الثانية من يجرجر، وتعقب بأن الموفق بن حمزة في كلامه على المذهب حكى فتحها، وحكى ابن الفركاح عن والده أنه قال: روي يجرجر على البناء للفاعل والمفعول، وكذا جوزه ابن مالك في "شواهد التوضيح" نعم رد ذلك ابن أبي الفتح تلميذه فقال في جزء جمعه في الكلام على هذا المتن: لقد كثر بحثي على أن أرى أحدا رواه مبنيا للمفعول فلم أجده عند أحد من حفاظ الحديث، وإنما سمعناه من الفقهاء الذين ليست لهم عناية بالرواية، وسألت أبا الحسين اليونيني فقال: ما قرأته على والدي ولا على شيخنا المنذر إلا مبنيا للفاعل. قال: ويبعد اتفاق الحفاظ قديما وحديثا على ترك رواية ثابتة. قال: وأيضا فإسناده إلى الفاعل هو الأصل وإسناده إلى المفعول فرع فلا يصار إليه بغير حاجة، وأيضا فإن علماء العربية قالوا: يحذف الفاعل إما للعلم به أو للجهل به، أو إذا تخوف منه أو عليه، أو لشرفه أو لحقارته، أو لإقامة وزن، وليس هنا شيء من ذلك. قوله: "في بطنه نار جهنم" وقع للأكثر بنصب نار على أن الجرجرة بمعنى الصب أو التجرع فيكون "نار" نصب على المفعولية والفاعل الشارب أي يصب أو يتجرع، وجاء الرفع على أن الجرجرة هي التي تصوت في البطن، قال النووي: النصب أشهر، ويؤيده رواية عثمان بن مرة عند مسلم بلفظ: "فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم" وأجاز الأزهري النصب على أن الفعل عدي إليه، وابن السيد الرفع على أنه خبر إن وما موصولة، قال: ومن نصب جعل "ما" زائدة كافة لأن عن العمل، وهو نحو {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} فقرئ بنصب كيد ورفعه، ويدفعه أنه لم يقع في شيء من النسخ بفصل ما من إن. وقوله: إن النار تصوت في بطنه كما يصوت البعير بالجرجرة مجاز تشبيه، لأن النار لا صوت لها، كذا قيل. وفي النفي نظر لا يخفى. حديث البراء "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع". قوله: "وعن الشرب في الفضة أو قال في آنية الفضة" شك من الراوي. زاد مسلم من طريق أخرى عن البراء "فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة" ومثله في حديث أبي هريرة رفعه: "من شرب في آنية الفضة والذهب في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة، وآنية أهل الجنة الذهب والفضة" أخرجه النسائي بسند قوي، وسيأتي شرح حديث البراء مستوفى في كتاب الأدب، ويأتي ما يتعلق باللباس منه في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. وفي هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف رجلا كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء لأنه ليس من التزين الذي أبيح لها في شيء، قال القرطبي وغيره: في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب والتكحل وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقا، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب لأنه لم يقف على الزيادة في
(10/97)
الأكل، قال: واختلف في علة المنع فقيل: إن ذلك يرجع إلى عينهما، ويؤيده قوله هي لهم وإنها لهم، وقيل: لكونهما الأثمان وقيم المتلفات، فلو أبيح استعمالها لجاز اتخاذ الآلات منهما فيفضي إلى قلتهما بأيدي الناس فيجحف بهم، ومثله الغزالي بالحكام الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو منعوا التصرف لأخل ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين حبس لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس. ويرد على هذا جواز الحلي للنساء من النقدين، ويمكن الانفصال عنه. وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية، وبه صرح أبو علي السنجي وأبو محمد الجويني. وقيل: علة التحريم السرف والخيلاء، أو كسر قلوب الفقراء. ويرد عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة وعاليها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شذ. وقد نقل ابن الصباغ في "الشامل" الإجماع على الجواز، وتبعه الرافعي ومن بعده. لكن في "زوائد العمراني" عن صاحب "الفروع" نقل وجهين. وقيل: العلة في المنع التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك. واختلف في اتخاذ الأواني دون استعمالها كما تقدم، والأشهر المنع وهو قول الجمهور، ورخصت فيه طائفة، وهو مبني على العلة في منع الاستعمال، ويتفرع على ذلك غرامة أرش ما أفسد منها وجواز الاستئجار عليها.
(10/98)
29 - باب الشُّرْبِ
فِي الأَقْدَاحِ
5636- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ
عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ "أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحٍ مِنْ
لَبَنٍ فَشَرِبَهُ".
قوله: "باب الشرب في الأقداح" أي هل يباح أو يمنع لكونه من شعار الفسقة؟
ولعله أشار إلى أن الشرب فيها وإن كان من شعار الفسقة لكن ذلك بالنظر إلى المشروب
وإلى الهيئة الخاصة بهم فيكره التشبه بهم، ولا يلزم من ذلك كراهة الشرب في القدح
إذا سلم من ذلك. قوله: "حدثنا عمرو بن عباس" بمهملتين وموحدة، وشيخه عبد
الرحمن هو ابن مهدي، وقد تقدم التنبيه على حديث أم الفضل المذكور قريبا، وتقدم أنه
مر مشروحا في كتاب الصيام.
(10/98)
30 - باب الشُّرْبِ
مِنْ قَدَحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآنِيَتِهِ
وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: أَلاَ أَسْقِيكَ
فِي قَدَحٍ شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ
5637- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ
حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
"ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ
الْعَرَبِ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا
فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ فَخَرَجَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا
فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَقَالَ قَدْ
أَعَذْتُكِ مِنِّي فَقَالُوا لَهَا أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا قَالَتْ لاَ قَالُوا
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ لِيَخْطُبَكِ
قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ حَتَّى
(10/98)
31 - باب شُرْبِ
الْبَرَكَةِ وَالْمَاءِ الْمُبَارَكِ
5639- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ
قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: " قَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَضَرَتْ الْعَصْرُ وَلَيْسَ
مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ فَجُعِلَ فِي إِنَاءٍ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَفَرَّجَ أَصَابِعَهُ
ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى أَهْلِ الْوُضُوءِ الْبَرَكَةُ مِنْ اللَّهِ فَلَقَدْ
رَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ
وَشَرِبُوا فَجَعَلْتُ لاَ آلُوا مَا جَعَلْتُ فِي بَطْنِي مِنْهُ فَعَلِمْتُ
أَنَّهُ بَرَكَةٌ قُلْتُ لِجَابِرٍ كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ قَالَ أَلْفاً
وَأَرْبَعَ مِائَةٍ" . تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ حُصَيْنٌ وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ "خَمْسَ
عَشْرَةَ مِائَةً" وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ جَابِرٍ
(10/101)
قوله: "باب
شرب البركة، والماء المبارك" قال المهلب: سمي الماء بركة لأن الشيء إذا كان
مباركا فيه يسمى بركة. قوله: "عن جابر بن عبد الله" في رواية حصين
"عن سالم بن أبي الجعد سمعت جابرا" وقد تقدمت في المغازي. قوله:
"قد رأيتني" بضم التاء، وفيه نوع تجريد. قوله: "وحضرت العصر"
أي وقت صلاتها، والجملة حالية. قوله: "ثم قال: حي على أهل الوضوء" كذا
وقع للأكثر. وفي رواية النسفي "حي على الوضوء" بإسقاط لفظ:
"أهل" وهي أصوب، وقد وجهت على تقدير ثبوتها بأن يكون أهل بالنصب على
النداء بحذف حرف النداء كأنه قال: حي على الوضوء المبارك يا أهل الوضوء، كذا قال عياض،
وتعقب بأن المجرور بعلى غير مذكور. وقال غيره: الصواب حي هلا على الوضوء المبارك،
فتحرف لفظ: "هلا" فصارت "أهل" وحولت عن مكانها،
و"حي" اسم فعل للأمر بالإسراع، وتفتح لسكون ما قبلها مثل ليت وهلا
بتخفيف اللام والتنوين كلمة استعجال. قوله: "فجعلت لا آلو" بالمد وتخفيف
اللام المضمومة أي لا أقصر، والمراد أنه جعل يستكثر من شربه من ذلك الماء لأجل
البركة. قال ابن بطال: يؤخذ منه أنه لا سرف ولا شره في الطعام أو الشراب الذي تظهر
فيه البركة بالمعجزة، بل يستحب الاستكثار منه. وقال ابن المنير: في ترجمة البخاري
إشارة إلى أنه يغتفر في الشرب منه الإكثار دون المعتاد الذي ورد باستحباب جعل
الثلث له، ولئلا يظن أن الشرب من غير عطش ممنوع، فإن فعل جابر ما ذكر دال على أن
الحاجة إلى البركة أكثر من الحاجة إلى الري، والظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه
وسلم على ذلك ولو كان ممنوعا لنهاه. قوله: "فقلت لجابر" القائل هو سالم
بن أبي الجعد راويه عنه. قوله: "كم كنتم يومئذ؟ قال: ألف وأربعمائة" كذا
لهم بالرفع، والتقدير نحن يومئذ ألف وأربعمائة، ويجوز النصب على خبر كان، وقد تقدم
بيان الاختلاف على جابر في عددهم يوم الحديبية في "باب غزوة الحديبية"
من المغازي، وبينت هناك أن هذه القصة كانت هناك، وتقدم شيء من شرح المتن في علامات
النبوة. قوله: "تابعه عمرو بن دينار عن جابر" وصله المؤلف في تفسير سورة
الفتح مختصرا "كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة" وهذا القدر هو مقصوده
بالمتابعة المذكورة لا جميع سياق الحديث. قوله: "وقال حصين وعمرو بن مرة عن
سالم" هو ابن أبي الجعد "خمس عشرة مائة" أما رواية حصين فوصلها
المؤلف في المغازي، وأما رواية عمرو بن مرة فوصلها مسلم وأحمد بلفظ ألف وخمسمائة،
والجمع بين هذا الاختلاف عن جابر أنهم كانوا زيادة على ألف وأربعمائة، فمن اقتصر
عليها ألغى الكسر، ومن قال ألف وخمسمائة جبره. وقد تقدم بسط ذلك في كتاب المغازي،
وبيان توجيه من قال ألف وثلاثمائة، ولله الحمد.
" خاتمة " اشتمل كتاب الأشربة من الأحاديث المرفوعة على أحد وتسعين
حديثا، المعلق منها تسعة عشر طريقا والباقي موصول، المكرر منها فيه وفيما مضى
سبعون طريقا والباقي خالص، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي مالك وأبي عامر في
المعازف، وحديث ابن أبي أوفى في الجر الأخضر، وحديث أنس في الأقداح ليلة الإسراء
وهو معلق، وحديث جابر في الكرع، وحديث علي في الشرب قائما، وحديث أبي هريرة في
النهي عن الشرب من فم السقاء، وحديث أبي طلحة في قدح النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أربعة عشر أثرا، والله أعلم.
(10/102)
كتاب المرضى
باب ما جاء في كفارة المرض، وقول الله تعالى: {من يعمل سوءا يجز به}
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
75 - كِتَاب الْمَرْضَى
1 - باب مَا جَاءَ فِي كَفَّارَةِ الْمَرَضِ . وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}
5640- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ
الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ
يُشَاكُهَا" .
5641، 5642- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ
هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ
كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" .
5643- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ
تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ
كَالأَرْزَةِ لاَ تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً" .
وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ حَدَّثَنِي سَعْدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ
كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
5644- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ بَنِي عَامِرِ
بْنِ لُؤَيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ
كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا
فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأُ بِالْبَلاَءِ وَالْفَاجِرُ كَالأَرْزَةِ صَمَّاءَ
مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ" .
[الحديث 5644 – طرفه في: 7466]
5645- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَنَّهُ
قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ أَبَا الْحُبَابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا
هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ
بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ" .
(10/103)
2 - باب شِدَّةِ
الْمَرَضِ
5646- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ ح
وحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا
شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَشَدَّ عَلَيْهِ
الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
5647- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ
عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً وَقُلْتُ إِنَّكَ
لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً قُلْتُ إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ
أَجَلْ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلاَّ حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ
خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ" .
[الحديث 5647 – أطرافه في: 5648، 5660، 5661، 5667]
قوله: "باب شدة المرض" أي وبيان ما فيها من الفضل. قوله: "وحدثني
بشر بن محمد أخبرنا عبد الله" هو ابن
(10/110)
المبارك. قوله: "عن الأعمش" كذا أعاد الأعمش بعد التحويل، ولو وقف في السند الأول عند سفيان وحول ثم قال كلاهما عن الأعمش لكان سائغا، لكن أظنه فعل ذلك لكونه ساقه على لفظ الرواية الثانية وهي رواية شعبة، وقد أخرجها الإسماعيلي من طريق حبان بن موسى عن ابن المبارك بلفظ: "ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وساقه من رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن قبيصة شيخ البخاري فيه بلفظ: "ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع" والباقي سواء، والمراد بالوجع المرض، والعرب تسمي كل وجع مرضا. ثم ذكر المصنف حديث ابن مسعود الآتي في الباب الذي يليه، وقوله في آخره: "إلا حات الله" بحاء مهملة ومد وتشديد المثناة أصله حاتت بمثناتين فأدغمت إحداهما في الأخرى، والمعنى فتت وهي كناية عن إذهاب الخطايا. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري.
(10/111)
3 - باب أَشَدُّ
النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ
5648- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: " دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً
قَالَ أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ قُلْتُ ذَلِكَ
أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ
أَذًى -شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا- إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ
كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" .
قوله: "باب أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل" كذا للأكثر،
وللنسفي "الأول فالأول" وجمعهما المستملي، والمراد بالأول الأولية في
الفضل، والأمثل أفعل من المثالة والجمع أماثل وهم الفضلاء. وصدر هذه الترجمة لفظ
حديث أخرجه الدارمي والنسائي في "الكبرى" وابن ماجه وصححه الترمذي وابن
حبان والحاكم كلهم من طريق عاصم بن بهدلة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال:
" قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل،
يبتلى الرجل على حسب دينه" الحديث وفيه: "حتى يمشي على الأرض وما عليه
خطيئة" ، أخرجه الحاكم من رواية العلاء بين المسيب عن مصعب أيضا. وأخرج له
شاهدا من حديث أبي سعيد ولفظه: "قال: الأنبياء، قال: ثم من؟ قال العلماء قال:
ثم من؟ قال: الصالحون " الحديث، وليس فيه ما في آخر حديث سعد. ولعل الإشارة
بلفظ: "الأول فالأول" إلى ما أخرجه النسائي وصححه الحاكم من حديث فاطمة
بنت اليمان أخت حذيفة قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نساء نعوده،
فإذا بسقاء يقطر عليه من شدة الحمى، فقال: إن من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم
الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قوله: "عن أبي حمزة" هو السكري
بضم المهملة وتشديد الكاف. قوله: "عن إبراهيم التيمي" هو ابن يزيد بن
شريك، والحارث بن سويد هو تيمي أيضا، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق
كوفيون، وليس للحارث بن سويد في البخاري سوى هذا الحديث وآخر يأتي في الدعوات،
لكنهما عنده من طرق عديدة، وله عنده ثالث مضى في الأشربة من روايته عن علي بن أبي
طالب. قوله: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك" في رواية
سفيان التي قبلها "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه" والوعك بفتح
الواو وسكون العين المهملة الحمى وقد تفتح وقيل ألم الحمى، وقيل تعبها، وقيل
إرعادها الموعوك وتحريكها إياه، وعن الأصمعي الوعك
(10/111)
الحر، فإن كان محفوظا فلعل الحمى سميت وعكا لحرارتها. قوله: "ذلك" إشارة إلى مضاعفة الأجر بشدة الحمى، وعرف بهذا أن في الرواية السابقة في الباب قبله حذفا يعرف من هذه الرواية وهو قوله: "إني أوعك كما يوعك رجلان منكم" . قوله: "أجل" أي نعم وزنا ومعنى. قوله: "أذى شوكة" التنوين فيه للتقليل لا للجنس ليصح ترتب فوقها ودونها في العظم والحقارة عليه بالفاء، وهو يحتمل فوقها في العظم ودونها في الحقارة وعكسه، والله أعلم. قوله: "كما تحط" بفتح أوله وضم المهملة وتشديد الطاء المهملة أي تلقيه منتثرا. والحاصل أنه أثبت أن المرض إذا اشتد ضاعف الأجر، ثم زاد عليه بعد ذلك أن المضاعفة تنتهي إلى أن تحط السيئات كلها، أو المعنى: قال نعم شدة المرض ترفع الدرجات وتحط الخطيئات أيضا حتى لا يبقى منها شيء، ويشير إلى ذلك حديث سعد الذي ذكرته قبل "حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" ومثله حديث أبي هريرة عند أحمد وابن أبي شيبة بلفظ: "لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة". قال أبو هريرة: "ما من وجع يصيبني أحب إلي من الحمى، إنها تدخل في كل مفصل من ابن آدم، والله يعطي كل مفصل قسطه من الأجر" ووجه دلالة حديث الباب على الترجمة من جهة قياس الأنبياء على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإلحاق الأولياء بهم لقربهم منهم وإن كانت درجتهم منحطة عنهم، والسر فيه أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد، ومن ثم ضوعف حد الحر على العبد، وقيل لأمهات المؤمنين {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} قال ابن الجوزي: في الحديث دلالة على أن القوي يحمل ما حمل، والضعيف يرفق به إلا أنه كلما قويت المعرفة بالمبتلى هان عليه البلاء، ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء، وأعلى من ذلك درجة من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض، وأرفع منه من شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء، وأنهى المراتب من يتلذذ به لأنه عن اختياره نشأ، والله أعلم.
(10/112)
4 - باب وُجُوبِ
عِيَادَةِ الْمَرِيضِ
5649- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ
وَفُكُّوا الْعَانِيَ" .
5650- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي
أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ
عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " أَمَرَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ
سَبْعٍ نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ
وَالإِسْتَبْرَقِ وَعَنْ الْقَسِّيِّ وَالْمِيثَرَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَتْبَعَ
الْجَنَائِزَ وَنَعُودَ الْمَرِيضَ وَنُفْشِيَ السَّلاَمَ" .
قوله: "باب وجوب عيادة المريض" كذا جزم بالوجوب عل ظاهر الأمر بالعيادة،
وتقدم حديث أبي هريرة في الجنائز "حق المسلم على المسلم خمس" فذكر منها
عيادة المريض، ووقع في رواية مسلم: " خمس تجب للمسلم على المسلم" فذكرها
منها. قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية كإطعام الجائع
وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب للحث على التواصل والألفة، وجزم الداودي بالأول
فقال: هي فرض يحمله
(10/112)
بعض الناس عن بعض. وقال الجمهور: هي في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. وعن الطبري: تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسن فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك، وفي الكافر خلاف كما سيأتي ذكره في باب مفرد. ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب، يعني على الأعيان. وقد تقدم حديث أبي موسى المذكور هنا في الجهاد وفي الوليمة. واستدل بعموم قوله: "عودوا المريض" على مشروعية العيادة في كل مريض، لكن استثنى بعضهم الأرمد لكون عائده قد يرى ما لا يراه هو، وهذا الأمر خارجي قد يأتي مثله في بقية الأمراض كالمغمى عليه، وقد عقبه المصنف به. وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال: "عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني"، أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وهو عند البخاري في "الأدب المفرد" وسياقه أتم. وأما ما أخرجه البيهقي والطبراني مرفوعا: "ثلاثة ليس لهم عيادة: العين والدمل والضرس" فصحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير، ويؤخذ من إطلاقه أيضا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه وهو قول الجمهور، وجزم الغزالي في "الإحياء" بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث" وهذا حديث ضعيف جدا تفرد به مسلمة بن علي وهو متروك، وقد سئل عنه أبو حاتم فقال: هو حديث باطل، ووجدت له شاهدا من حديث أبي هريرة عند الطبراني في "الأوسط" وفيه راو متروك أيضا. ويلتحق بعيادة المريض تعهده وتفقد أحواله والتلطف به، وربما كان ذلك في العادة سببا لوجود نشاطه وانتعاش قوته. وفي إطلاق الحديث أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النهار، وترجمة البخاري في الأدب المفرد "العيادة في الليل"، وساق عن خالد بن الربيع قال: "لما ثقل حذيفة أتوه في جوف الليل أو عند الصبح فقال: أي ساعة هذه؟ فأخبروه، فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النار" الحديث، ونقل الأثرم عن أحمد أنه قيل له بعد ارتفاع النهار في الصيف: تعود فلانا؟ قال: ليس هذا وقت عيادة. ونقل ابن الصلاح عن الفراوي أن العيادة تستحب في الشتاء ليلا وفي الصيف نهارا، وهو غريب. ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض أو يشق على أهله. فإن اقتضت ذلك ضرورة فلا بأس كما في حديث جابر الذي بعده. وقد ورد في فضل العيادة أحاديث كثيرة جياد، منها عند مسلم والترمذي من حديث ثوبان "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة" وخرفة بضم المعجمة وسكون الراء بعدها فاء ثم هاء هي الثمرة إذا نضجت، شبه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه الذي يجتني الثمر. وقيل: المراد بها هنا الطريق، والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنة، والتفسير الأول أولى، فقد أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من هذا الوجه وفيه: "قلت لأبي قلابة: ما خرفة الجنة؟ قال: جناها" وهو عند مسلم من جملة المرفوع. وأخرج البخاري أيضا من طريق عمر بن الحكم عن جابر رفعه: "من عاد مريضا خاض في الرحمة حتى إذا قعد استقر فيها" وأخرجه أحمد والبزار وصححه ابن حبان والحاكم من هذا الوجه وألفاظهم فيه مختلفة، ولأحمد نحوه من حديث كعب بن مالك بسند حسن. حديث البراء أورده مختصرا مقتصرا على بعض الخصال السبع، ويأتي شرحه مستوفى في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى.
(10/113)
5 - باب عِيَادَةِ
الْمُغْمَى عَلَيْهِ
5651- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ
الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
يَقُولُ: "مَرِضْتُ مَرَضاً فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَوَجَدَانِي أُغْمِيَ
عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَبَّ
وَضُوءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي كَيْفَ
أَقْضِي فِي مَالِي فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ
الْمِيرَاثِ" .
قوله: "باب عيادة المغمى عليه" أي الذي يصيبه غشى تتعطل معه قوته
الحساسة. قال ابن المنير: فائدة الترجمة أن لا يعتقد أن عيادة المغمى عليه ساقطة
الفائدة لكونه لا يعلم بعائده، ولكن ليس في حديث جابر التصريح بأنهما علما أنه
مغمى عليه قبل عيادته، فلعله وافق حضورهما. قلت: بل الظاهر من السياق وقوع ذلك حال
مجيئهما وقبل دخولهما عليه، ومجرد علم المريض بعائده لا تتوقف مشروعية العيادة
عليه، لأن وراء ذلك جبر خاطر أهله، وما يرجى من بركة دعاء العائد ووضع يده على
المريض والمسح على جسده والنفث عليه عند التعويذ إلى غير ذلك. تقدم شرح حديث جابر
المذكور في كتاب الطهارة وفي تفسير سورة النساء.
(10/114)
6 - باب فَضْلِ
مَنْ يُصْرَعُ مِنْ الرِّيحِ
5652- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ
حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: "قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ
الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَتْ إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ: إِنْ
شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ
يُعَافِيَكِ فَقَالَتْ أَصْبِرُ فَقَالَتْ إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي
أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا" . حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا
مَخْلَدٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ
تِلْكَ امْرَأَةً طَوِيلَةً سَوْدَاءَ عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ
قوله: "باب فضل من يصرع من الريح" انحباس الريح قد يكون سببا للصرع، وهي
علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن انفعالها منعا غير تام، وسببه ريح غليظة تنحبس في
منافذ الدماغ، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، وقد يتبعه تشنج في الأعضاء
فلا يبقى الشخص معه منتصبا بل يسقط ويقذف بالزبد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصرع من
الجن، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم، إما لاستحسان بعض الصور الإنسية وإما
لإيقاع الأذية به، والأول هو الذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه، والثاني
يجحده كثير منهم، وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاجا إلا بمقاومة الأرواح الخيرة
العلوية لتندفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطل أفعالها. وممن نص على ذلك
أبقراط فقال لما ذكر علاج المصروع: هذا إنما ينفع في الذي سببه أخلاط، وأما الذي
يكون من الأرواح فلا. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان. قوله: "عن
عمران أبي بكر" هو المعروف بالقصير، واسم أبيه مسلم، وهو بصري تابعي صغير.
قوله: "ألا أريك" ألا بتخفيف اللام قبلها همزة مفتوحة. قوله: "هذه
المرأة السوداء" في رواية جعفر المستغفري في "كتاب الصحابة" وأخرجه
أبو موسى في "الذيل" من
(10/114)
طريقه ثم من رواية
عطاء الخراساني عن عطاء بن أبي رباح في هذا الحديث: "فأراني حبشية صفراء
عظيمة فقال: هذه سعيرة الأسدية". قوله: "فقالت إن بي هذه
المؤتة(1)" وهو بضم الميم بعدها همزة ساكنة: الجنون، وأخرجه ابن مردويه في
التفسير من هذا الوجه فقال في روايته: "إن بي هذه المؤتة يعني الجنون"
وزاد في روايته وكذا ابن منده أنها كانت تجمع الصوف والشعر والليف، فإذا اجتمعت
لها كبة عظيمة نقضتها فنزل فيها {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا}
الآية وقد تقدم في تفسير النحل أنها امرأة أخرى. قوله: "وإني أتكشف"
بمثناة وتشديد المعجمة من التكشف، وبالنون الساكنة مخففا من الانكشاف، والمراد
أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر. قوله في الطريق الأخرى "حدثنا
محمد" هو ابن سلام وصرح به في "الأدب المفرد"، ومخلد هو ابن يزيد.
قوله: "أنه رأى أم زفر" بضم الزاي وفتح الفاء. قوله: "تلك
المرأة" في رواية الكشميهني: "تلك امرأة". قوله: "على ستر
الكعبة" بكسر المهملة أي جالسة عليها معتمدة، ويجوز أن يتعلق بقوله:
"رأى". ثم وجدت الحديث في "الأدب المفرد" للبخاري وقد أخرجه
بهذا السند المذكور هنا بعينه وقال: "على سلم الكعبة" فالله أعلم. وعند
البزار من وجه آخر عن ابن عباس في نحو هذه القصة أنها قالت: "إني أخاف الخبيث
أن يجردني، فدعا لها فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها"
وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج هذا الحديث مطولا، وأخرجه ابن عبد البر في
"الاستيعاب" من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم أنه سمع
طاوسا يقول: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالمجانين فيضرب صدر أحدهم
فيبرأ، فأتي بمجنونة يقال لها أم زفر، فضرب صدرها فلم تبرأ، قال ابن جريج وأخبرني
عطاء" فذكر كالذي هنا، وأخرجه ابن منده في "المعرفة" من طريق حنظلة
بن أبي سفيان عن طاوس فزاد: "وكان يثني عليها خيرا" وزاد في آخر
"فقال: إن يتبعها في الدنيا فلها في الآخرة خير" وعرف مما أوردته أن
اسمها سعيرة وهي بمهملتين مصغر، ووقع في رواية ابن منده بقاف بدل العين، وفي أخرى
للمستغفري بالكاف، وذكر ابن سعد وعبد الغني في "المبهمات" من طريق
الزبير أن هذه المرأة هي ماشطة خديجة التي كانت تتعاهد النبي صلى الله عليه وسلم
بالزيارة كما سيأتي ذكرها في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى، وقد يؤخذ من الطرق
التي أوردتها أن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن لا من صرع الخلط. وقد أخرج
البزار وابن حبان من حديث أبي هريرة شبيها بقصتها ولفظه: "جاءت امرأة بها لمم
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله. فقال: إن شئت دعوت الله فشفاك
وإن شئت صبرت ولا حساب عليك. قالت: بل أصبر ولا حساب علي" وفي الحديث فضل من
يصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ
بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه دليل على جواز ترك
التداوي، وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من
العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية
البدنية، ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد، والآخر من
جهة المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل، والله أعلم.
ـــــــ
(1) لعل هذه رواية الشارح، وهي غير رواية الجامع الصحيح الذي في الأيدي.
(10/115)
7 - باب فَضْلِ
مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ
5653- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ
حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي
بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ" . يُرِيدُ
عَيْنَيْه. تَابَعَهُ أَشْعَثُ بْنُ جَابِرٍ وَأَبُو ظِلاَلِ بْنُ هِلاَلٍ عَنْ
أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب فضل من ذهب بصره" سقطت هذه الترجمة وحديثها من رواية النسفي،
وقد جاء بلفظ الترجمة حديث أخرجه البزار عن زيد بن أرقم بلفظ: "ما ابتلي عبد
بعد ذهاب دينه بأشد من ذهاب بصره، ومن ابتلي ببصره فصبر حتى يلقى الله لقي الله
تعالى ولا حساب عليه" وأصله عند أحمد بغير لفظه بسند جيد، وللطبراني من حديث
ابن عمر بلفظ: "من أذهب الله بصره" فذكر نحوه. قوله: "حدثني ابن
الهاد" في رواية المصنف في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن صالح عن
الليث "حدثني يزيد بن الهاد" وهو يزيد بن عبد الله بن أسامة. قوله:
"عن عمرو" أي ابن أبي عمرو ميسرة "مولى المطلب" أي ابن عبد
الله بن حنطب. قوله: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه" بالتثنية، وقد فسرهما
آخر الحديث بقوله: "يريد عينيه" ولم يصرح بالذي فسرهما، والمراد
بالحبيبتين المحبوبتان لأنهما أحب أعضاء الإنسان إليه، لما يحصل له بفقدهما من
الأسف على فوات رؤية ما يريد رؤيته من خير فيسر به، أو شر فيجتنبه. قوله:
"فصبر" زاد الترمذي في روايته عن أنس "واحتسب" وكذا لابن حبان
والترمذي من حديث أبي هريرة، ولابن حبان من حديث ابن عباس أيضا، والمراد أنه يصبر
مستحضرا ما وعد الله به الصابر من الثواب، لا أن يصبر مجردا عن ذلك، لأن الأعمال
بالنيات، وابتلاء الله عبده في الدنيا ليس من سخطه عليه بل إما لدفع مكروه أو
لكفارة ذنوب أو لرفع منزلة، فإذا تلقى ذلك بالرضا تم له المراد وإلا يصير كما جاء
في حديث سلمان "أن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتبا، وإن مرض الفاجر
كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقل ولم أرسل" أخرجه البخاري في
"الأدب المفرد" موقوفا. قوله: "عوضته منهما الجنة" وهذا أعظم
العوض، لأن الالتذاذ بالبصر يفنى بفناء الدنيا والالتذاذ بالجنة باق ببقائها، وهو
شامل لكل من وقع له ذلك بالشرط المذكور. ووقع في حديث أبي أمامة فيه قيد آخر أخرجه
البخاري في "الأدب المفرد" بلفظ: "إذا أخذت كريمتيك فصبرت عند
الصدمة واحتسبت" فأشار إلى أن الصبر النافع هو ما يكون في أول وقوع البلاء
فيفوض ويسلم، وإلا فمتى تضجر وتقلق في أول وهلة ثم يئس فيصبر لا يكون حصل المقصود،
وقد مضى حديث أنس في الجنائز " إنما الصبر عند الصدمة الأولى" وقد وقع
في حديث العرباض فيما صححه ابن حبان فيه بشرط آخر ولفظه: "إذا سلبت من عبدي
كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له ثوابا دون الجنة إذا هو حمدني عليهما" ولم
أر هذه الزيادة في غير هذه الطريق، وإذا كان ثواب من وقع له ذلك الجنة فالذي له
أعمال صالحة أخرى يزاد في رفع الدرجات. قوله: "تابعه أشعث بن جابر وأبو ظلال
بن هلال عن أنس" أما متابعة أشعث بن جابر وهو ابن عبد الله بن جابر نسب إلى
جده وهو أبو عبد الله الأعمى البصري الحداني بضم الحاء وتشديد الدال المهملتين،
وحدان بطن من الأزد، ولهذا يقال له الأزدي، وهو الحملي بضم المهملة وسكون الميم
وهو مختلف فيه. وقال الدار قطني: يعتد به وليس له في البخاري إلا هذا الموضع
فأخرجها أحمد بلفظ: "قال ربكم من أذهبت كريمتيه ثم صبر واحتسب كان ثوابه
الجنة" . وأما متابعة أبي ظلال فأخرجها عبد بن حميد عن يزيد بن هارون عنه
قال: "دخلت على أنس فقال
(10/116)
لي: أدنه، متى ذهب بصرك؟ قلت: وأنا صغير. قال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى" فذكر الحديث بلفظ: "ما لمن أخذت كريمتيه عندي جزاء إلا الجنة" وأخرج الترمذي من وجه آخر عن أبي ظلال بلفظ: "إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة". "تنبيه": أبو ظلال بكسر الظاء المشالة المعجمة والتخفيف اسمه هلال، والذي وقع في الأصل أبو ظلال بن هلال صوابه إما أبو ظلال هلال بحذف "ابن" وإما أبو ظلال بن أبي هلال بزيادة "أبي" واختلف في اسم أبيه فقيل ميمون وقيل سويد وقيل يزيد وقيل زيد، وهو ضعيف عند الجميع، إلا أن البخاري قال إنه مقارب الحديث، وليس له في صحيحه غير هذه المتابعة. وذكر المزي في ترجمته أن ابن حبان ذكره في الثقات، وليس بجيد، لأن ابن حبان ذكره في الضعفاء فقال: لا يجوز الاحتجاج به، وإنما ذكر في الثقات هلال بن أبي هلال آخر روى عنه يحيى بن المتوكل، وقد فرق البخاري بينهما، ولهم شيخ ثالث يقال له هلال بن أبي هلال تابعي أيضا روى عنه ابنه محمد، وهو أصلح حالا في الحديث منهما، والله أعلم.
(10/117)
8 - باب عِيَادَةِ
النِّسَاءِ الرِّجَالَ وَعَادَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ
الْمَسْجِدِ مِنْ الأَنْصَارِ
5654- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، قُلْتُ: يَا أَبَتِ
كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ
إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ
نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ يَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... ِبوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ
وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مِجَنَّةٍ ... وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ
وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ
كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي
مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ" .
قوله: "باب عيادة النساء الرجال" أي ولو كانوا أجانب بالشرط المعتبر.
قوله: "وعادت أم الدرداء رجلا من أهل المسجد من الأنصار" قال الكرماني:
لأبي الدرداء زوجتان كل منهما أم الدرداء، فالكبرى اسمها خيرة بالخاء المعجمة
المفتوحة بعدها تحتانية ساكنة صحابية، والصغرى اسمها هجيمة بالجيم والتصغير وهي
تابعية، والظاهر أن المراد هنا الكبرى، والمسجد مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم
بالمدينة. قلت: وما ادعى أنه الظاهر ليس كذلك، بل هي الصغرى، لأن الأثر المذكور
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق الحارث بن عبيد، وهو شامي
تابعي صغير لم يلحق أم الدرداء الكبرى، فإنها ماتت في خلافة عثمان قبل موت أبي
الدرداء، قال: رأيت أم الدرداء على رحالة أعواد ليس لها غشاء تعود رجلا من الأنصار
في المسجد، وقد تقدم في الصلاة أن أم الدرداء كانت تجلس في
(10/117)
الصلاة جلسة الرجل، وكانت فقيهة، وبينت هناك أنها الصغرى والصغرى عاشت إلى أواخر خلافة عبد الملك بن مروان وماتت في سنة إحدى وثمانين بعد الكبرى بنحو خمسين سنة. حديث عائشة قالت: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما" الحديث، وقد اعترض عليه بأن ذلك قبل الحجاب قطعا. وقد تقدم أن في بعض طرقه: "وذلك قبل الحجاب"، وأجيب بأن ذلك لا يضره فيما ترجم له من عيادة المرأة الرجل فإنه يجوز بشرط التستر، والذي يجمع بين الأمرين ما قبل الحجاب وما بعده الأمن من الفتنة وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أبواب الهجرة من أوائل المغازي، وقوله في البيت الذي أوله "ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد" كذا هو بالتنكير والإبهام، والمراد به وادي مكة. وذكر الجوهري في الصحاح ما يقتضي أن الشعر المذكور ليس لبلال، فإنه قال: كان بلال يتمثل به، وأورده بلفظ: "هل أبيتن ليلة بمكة حولي" وقوله: "شامة وطفيل" هما جبلان عند الجمهور، وصوب الخطابي أنهما عينان، وقوله: "كيف تجدك؟" أي تجد نفسك، والمراد به الإحساس، أي كيف تعلم حال نفسك.
(10/118)
9 - باب عِيَادَةِ
الصِّبْيَانِ
5655- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي
عَاصِمٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ ابْنَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَسَعْدٌ وَأُبَيٌّ نَحْسِبُ أَنَّ ابْنَتِي قَدْ حُضِرَتْ فَاشْهَدْنَا
فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا السَّلاَمَ وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا
أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى فَلْتَحْتَسِبْ وَلْتَصْبِرْ
فَأَرْسَلَتْ تُقْسِمُ عَلَيْهِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقُمْنَا فَرُفِعَ الصَّبِيُّ فِي حَجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفْسُهُ جُئِّثُ فَفَاضَتْ عَيْنَا النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ وَضَعَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ
وَلاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلاَّ الرُّحَمَاءَ" .
قوله: "باب عيادة الصبيان" ذكر فيه حديث أسامة بن زيد في قصة ولد بنت
النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل كتاب الجنائز. قوله في
هذه الطريق "أن ابنة" في رواية الكشميهني: "أن بنتا" وقوله:
"فأشهدنا" كذا للأكثر وعند الكشميهني: "فأشهدها" والمراد به
الحضور، وقوله: "هذه الرحمة" في رواية الكشميهني أيضا: "هذه
رحمة" بالتنكير.
(10/118)
10 - باب عِيَادَةِ
الأَعْرَابِ
5656- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُخْتَارٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى
أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ فَقَالَ لَهُ: لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: قُلْتَ طَهُورٌ، كَلاَ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ
تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ. فَقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "فَنَعَمْ إِذاً" .
(10/118)
11 - باب عِيَادَةِ
الْمُشْرِكِ
5657- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ غُلاَماً لِيَهُودَ كَانَ
يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَالَ أَسْلِمْ
فَأَسْلَمَ".
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ "لَمَّا حُضِرَ أَبُو
طَالِبٍ جَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قوله: "باب عيادة المشرك" قال ابن بطال: إنما تشرع عيادته إذا رجي أن
يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا. انتهى. والذي يظهر أن
ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى. قال الماوردي: عيادة
الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة. ثم ذكر
المصنف حديث أنس في قصة الغلام اليهودي، وتقدم شرحها مستوفى في كتاب الجنائز، وذكر
قول من زعم أن اسمه عبد القدوس. قوله: "وقال سعيد بن المسيب عن أبيه"
تقدم موصولا في تفسير سورة القصص وفي الجنائز أيضا، وتقدم شرحه مستوفى في الجنائز.
(10/119)
12 - باب إِذَا
عَادَ مَرِيضاً فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً
5658- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا
هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
"أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ
يَعُودُونَهُ فِي مَرَضِهِ فَصَلَّى بِهِمْ جَالِساً فَجَعَلُوا يُصَلُّونَ
قِيَاماً فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ اجْلِسُوا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّ الإِمَامَ
لَيُؤْتَمُّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِنْ
صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً" .
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: "هَذَا الْحَدِيثُ
مَنْسُوخٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ مَا صَلَّى
صَلَّى قَاعِداً وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامٌ".
قوله: "باب إذا عاد مريضا فحضرت الصلاة فصلى" أي المريض "بهم"
أي بمن عاده. قوله: "يحيى" هو القطان، وهشام هو ابن عروة. قوله:
"إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه ناس يعودونه" تقدم شرحه في أبواب
الإمامة من كتاب الصلاة، وكذا قول الحميدي المذكور في آخره.
(10/120)
13 - باب وَضْعِ
الْيَدِ عَلَى الْمَرِيضِ
5659- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْجُعَيْدُ عَنْ
عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَاهَا قَالَ: "تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ
شَكْواً شَدِيداً فَجَاءَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَعُودُنِي فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَتْرُكُ مَالاً وَإِنِّي لَمْ
أَتْرُكْ إِلاَّ ابْنَةً وَاحِدَةً فَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي وَأَتْرُكُ
الثُّلُثَ؟ فَقَالَ: لاَ. قُلْتُ: فَأُوصِي بِالنِّصْفِ وَأَتْرُكُ النِّصْفَ؟
قَالَ: لاَ. قُلْتُ: فَأُوصِي بِالثُّلُثِ وَأَتْرُكُ لَهَا الثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ:
الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ مَسَحَ
يَدَهُ عَلَى وَجْهِي وَبَطْنِي ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْداً وَأَتْمِمْ
لَهُ هِجْرَتَهُ فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي فِيمَا يُخَالُ
إِلَيَّ حَتَّى السَّاعَةِ" .
5660- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً. فَقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ
مِنْكُمْ فَقُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "أَجَلْ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ
مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلاَّ حَطَّ اللَّهُ لَهُ
سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" .
قوله: "باب وضع اليد على المريض" قال ابن بطال: في وضع اليد على المريض
تأنيس له وتعرف لشدة مرضه ليدعو له بالعافية على حسب ما يبدو له منه، وربما رقاه
بيده ومسح على ألمه بما ينتفع به العليل إذا كان العائد صالحا. قلت: وقد يكون
العائد عارفا بالعلاج فيعرف العلة فيصف له ما يناسبه. ثم ذكر المصنف في الباب
حديثين
(10/120)
تقدما: أحدهما: حديث سعيد بن أبي وقاص، وقد تقدم شرحه في الوصايا، وأورده هنا عاليا من طريق الجعيد وهو ابن عبد الرحمن، وقوله فيه: "تشكيت بمكة شكوى شديدة" في رواية المستملي: "شديدا" بالتذكير على إرادة المرض والشكوى بالقصر المرض وقوله: "وأترك لها الثلثين" قال الداودي: إن كانت هذه الزيادة محفوظة فلعل ذلك كان قبل نزول الفرائض. وقال غيره: قد يكون من جهة الرد، وفيه نظر لأن سعدا كان له حينئذ عصبات وزوجات فيتعين تأويله، ويكون فيه حذف تقديره: وأترك لها الثلثين، أي ولغيرها من الورثة. وخصها بالذكر لتقدمها عنده. وأما قوله: "ولا يرثني إلا ابنة لي" فتقدم أن معناه من الأولاد، ولم يرد ظاهر الحصر. وقوله: "ثم وضع يده على جبهته" في رواية الكشميهني: "على جبهتي" وبها يتبين أن في الأول تجريدا، وقوله: "فما زلت أجد برده" أي برد يده، وذكر باعتبار العضو أو الكف أو المسح. وقوله: "فيما يخال إلي" قال ابن التين: صوابه فيما يخيل إلي بالتشديد لأنه من التخيل، قال الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} . قلت: وأقره الزركشي، وهو عجيب. فإن الكلمة صواب، وهو بمعنى يخيل قال في "المحكم": خال الشيء يخاله يظنه وتخيله ظنه، وساق الكلام على المادة. الحديث الثاني: حديث ابن مسعود، وقد تقدم شرحه في أوائل كفارة المرضى. وقوله: "فمسسته بيدي" بكسر السين الأولى وهي موضع الترجمة، وجاء عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضا يضع يده على المكان الذي يألم ثم يقول: "بسم الله" أخرجه أبو يعلى بسند حسن. وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة بسند لين رفعه: "تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته فيسأله كيف هو" وأخرجه ابن السني ولفظه: "فيقول: كيف أصبحت أو كيف أمسيت؟".
(10/121)
14 - باب مَا
يُقَالُ لِلْمَرِيضِ وَمَا يُجِيبُ
5661- حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن
عبد الله رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فمسسته
وهو يوعك وعكا شديدا فقلت إنك لتوعك وعكا شديدا وذلك أن لك أجرين قال: أجل وما من
مسلم يصيبه أذى إلا حاتت عنه خطاياه كما تحات ينوي الشجر" .
5662- حدثنا إسحاق حدثنا خالد بن عبد الله عن خالد عن عكرمة عن بن عباس رضي الله
عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده فقال: لا بأس طهور
إن شاء الله . فقال: كلا بل حمى تفور على شيخ كبير كيما تزيره القبور. قال النبي
صلى الله عليه وسلم: "فنعم إذا ".
قوله: "باب ما يقال للمريض وما يجيب" ذكر فيه حديث ابن مسعود المذكور في
الباب قبله وحديث ابن عباس في قصة الأعرابي الذي قال حمى تفور وقد تقدم أيضا
قريبا، وفيه بيان ما ينبغي أن يقال عند المريض وفائدة ذلك. وأخرج ابن ماجة
والترمذي من حديث أبي سعيد رفعه: "إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل
فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب نفس المريض" وفي سنده لين. وقوله:
"نفسوا" أي أطمعوه في الحياة ففي ذلك تنفيس لما هو فيه من
(10/121)
الكرب وطمأنينة لقلبه، قال النووي: هو معنى قوله في حديث ابن عباس للأعرابي لا بأس. وأخرج ابن ماجه أيضا بسند حسن لكن فيه انقطاع عن عمر رفعه "إذا دخلت على مريض فمره يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة". وقد ترجم المصنف في "الأدب المفرد" ما يجيب به المريض وأورد قول ابن عمر للحجاج لما قال له من أصابك قال: "أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله" وقد تقدم هذا في العيدين.
(10/122)
15 - باب عِيَادَةِ
الْمَرِيضِ رَاكِباً وَمَاشِياً وَرِدْفاً عَلَى الْحِمَارِ
5663- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ
عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ
عُبَادَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَسَارَ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ وَفِي
الْمَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ
وَالْيَهُودِ وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتْ
الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ
بِرِدَائِهِ قَالَ لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَفَ وَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَقَرَأَ
عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَا أَيُّهَا
الْمَرْءُ إِنَّهُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقّاً فَلاَ تُؤْذِنَا
بِهِ فِي مَجْلِسِنَا وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ
قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي
مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ
وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَكَتُوا فَرَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ
لَهُ: "أَيْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ" يُرِيدُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْفُ عَنْهُ
وَاصْفَحْ فَلَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ مَا أَعْطَاكَ وَلَقَدْ اجْتَمَعَ أَهْلُ
هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ فَلَمَّا رَدَّ ذَلِكَ
بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ الَّذِي فَعَلَ بِهِ مَا
رَأَيْتَ" .
5664- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ المُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: "جَاءَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَعُودُنِي لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلاَ بِرْذَوْنٍ".
قوله: "باب عيادة المريض راكبا وماشيا وردفا على الحمار" ذكر فيه حديث
أسامة بن زيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على الحمار" وفيه أنه
أردفه يعود سعد بن عبادة، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أواخر تفسير آل عمران.
قوله: "على حمار على إكاف على قطيفة"، "على" الثالثة بدل من
الثانية وهي بدل من الأولى. والحاصل أن الإكاف يلي الحمار والقطيفة فوق الإكاف
والراكب فوق القطيفة، والإكاف بكسر الهمزة وتخفيف الكاف ما يوضع على الدابة
كالبرذعة، والقطيفة كساء. وقوله: "فدكية" بفتح الفاء والدال وكسر الكاف
نسبة إلى فدك القرية المشهورة، كأنها صنعت فيها، وحكى بعضهم أن في رواية:
"فركبه" بفتح الراء والموحدة الخفيفة من
(10/122)
الركوب والضمير للحمار وهو تصحيف بين. قوله في حديث جابر "جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني ليس براكب بغل ولا برذون" هذا القدر أفرده المزي في "الأطراف" وجعله الحميدي من جملة الحديث الذي أوله "مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان" وأظن الذي صنعه هو الصواب.
(10/123)
باب ما رخص للمرض
أن يقول: إني وجع أو وارأساه أو ما أشد ما أجد
...
16 – باب ما رخص للمريض أن يقول: إِنِّي وَجِعٌ أَوْ وَا رَأْسَاهْ أَوْ اشْتَدَّ بِي
الْوَجَعُ
وَقَوْلِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلاَم {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
5665- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ
وَأَيُّوبَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ
كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ الْقِدْرِ فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ
هَوَامُّ رَأْسِكَ قُلْتُ نَعَمْ فَدَعَا الْحَلاَقَ فَحَلَقَهُ ثُمَّ أَمَرَنِي
بِالْفِدَاءِ" .
5666- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَبُو زَكَرِيَّاءَ أَخْبَرَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ
بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ وَارَأْسَاهْ. فَقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرَ لَكِ وَأَدْعُوَ
لَكِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَا ثُكْلِيَاهْ وَاللَّهِ إِنِّي لاَظُنُّكَ تُحِبُّ
مَوْتِي وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّساً بِبَعْضِ
أَزْوَاجِكَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ
لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ
وَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ ثُمَّ
قُلْتُ يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ
وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ" .
[الحديث 5666 – طرفه في: 7217]
5667- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ
إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً قَالَ أَجَلْ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ
مِنْكُمْ قَالَ لَكَ أَجْرَانِ قَالَ نَعَمْ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى
مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلاَّ حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ
الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" .
5668- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَامِرِ بْنِ
سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي زَمَنَ حَجَّةِ
الْوَدَاعِ فَقُلْتُ بَلَغَ بِي مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي
إِلاَّ ابْنَةٌ لِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لاَ قُلْتُ
بِالشَّطْرِ قَالَ لاَ قُلْتُ الثُّلُثُ قَالَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ أَنْ تَدَعَ
وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ
النَّاسَ وَلَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ
أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ" .
قوله: "باب ما رخص للمريض أن يقول إني وجع أو وارأساه أو اشتد بي الوجع، وقول
أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
" أما قوله: "إني وجع" فترجم به في كتاب "الأدب المفرد"
وأورده فيه من طريق
(10/123)
هشام بن عروة عن أبيه قال: "دخلت أنا وعبد الله بن الزبير على أسماء - يعني بنت أبي بكر وهي أمهما - وأسماء وجعة، فقال لها عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت: وجعت" الحديث. وأصرح منه ما روى صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: "دخلت على أبي بكر رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه، فسلمت عليه وسألته: كيف أصبحت؟ فاستوى جالسا، فقلت: أصبحت بحمد الله بارئا؟ قال: أما إني على ما ترى وجع" فذكر القصة، أخرجه الطبراني. وأما قوله: "وارأساه" فصريح في حديث عائشة المذكور في الباب، وأما قوله: "اشتد بي الوجع" فهو في حديث سعد الذي في آخر الباب، وأما قول أيوب عليه السلام فاعترض ابن التين ذكره في الترجمة فقال: هذا لا يناسب التبويب، لأن أيوب إنما قاله داعيا ولم يذكره للمخلوقين. قلت: لعل البخاري أشار إلى أن مطلق الشكوى لا يمنع ردا على من زعم من الصوفية أن الدعاء بكشف البلاء يقدح في الرضا والتسليم، فنبه على أن الطلب من الله ليس ممنوعا، بل فيه زيادة عبادة، لما ثبت مثل ذلك عن المعصوم وأثنى الله عليه بذلك وأثبت له اسم الصبر مع ذلك، وقد روينا في قصة أيوب في فوائد ميمونة وصححه ابن حبان والحاكم من طريق الزهري عن أنس رفعه: "أن أيوب لما طال بلاؤه رفضه القريب والبعيد، غير رجلين من إخوانه، فقال أحدهما لصاحبه: لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، فبلغ ذلك أيوب - يعني فجزع من قوله - ودعا ربه فكشف ما به". وعند ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عبيد بن نمير موقوفا عليه نحوه وقال فيه: "فجزع من قولهما جزعا شديدا ثم قال: بعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف عني، وسجد، فما رفع رأسه حتى كشف عنه". فكأن مراد البخاري أن الذي يجوز من شكوى المريض ما كان على طريق الطلب من الله، أو على غير طريق التسخط للقدر والتضجر، والله أعلم. قال القرطبي: اختلف الناس في هذا الباب، والتحقيق أن الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنفوس مجبولة على وجدان ذلك فلا يستطاع تغييرها عما جبلت عليه، وإنما كلف العبد أن لا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه كالمبالغة في التأوه والجزع الزائد كأن من فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصبر، وأما مجرد التشكي فليس مذموما حتى يحصل التسخط للمقدور، وقد اتفقوا على كراهة شكوى العبد ربه، وشكواه إنما هو ذكره للناس على سبيل التضجر، والله أعلم. وروى أحمد في "الزهد" عن طاوس أنه قال: أنين المريض شكوى، وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن أنين المريض وتأوهه مكروه، وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود، وهذا لم يثبت فيه ذلك. ثم احتج بحديث عائشة في الباب، ثم قال: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى اهـ. ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين، وتشعر بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء. وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتفاقا. حديث كعب بن عجرة في حلق المحرم رأسه إذا آذاه القمل، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج، وقوله: "أيؤذيك هوام رأسك" هو موضع الترجمة لنسبة الأذى للهوام، وهي بتشديد الميم اسم للحشرات لأنها تهم أن تدب، وإذا أضيفت إلى الرأس اختصت بالقمل. قوله: "حدثنا يحيى بن يحيى أبو زكريا" هو النيسابوري الإمام المشهور وليس له في البخاري سوى مواضع يسيرة في الزكاة والوكالة والتفسير والأحلام، وأكثر عنه مسلم، ويقال إنه تفرد بهذا الإسناد وإن أحمد كان يتمنى لو أمكنه الخروج إلى نيسابور ليسمع منه هذا الحديث، ولكن
(10/124)
أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من وجهين آخرين عن سليمان بن بلال. قوله: "وارأساه" هو تفجع على الرأس لشدة ما وقع به من ألم الصداع، وعند أحمد والنسائي وابن ماجه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة "رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه". قوله: "ذاك لو كان وأنا حي" ذاك بكسر الكاف إشارة إلى ما يستلزم المرض من الموت، أي لو مت وأنا حي، ويرشد إليه جواب عائشة، وقد وقع مصرحا به في رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ولفظه: "ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي فكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك" وقولها "واثكلياه" بضم المثلثة وسكون الكاف وفتح اللام وبكسرها مع التحتانية الخفيفة وبعد الألف هاء للندبة، وأصل الثكل فقد الولد أو من يعز على الفاقد، وليست حقيقته هنا مرادة، بل هو كلام كان يجري على ألسنتهم عند حصول المصيبة أو توقعها. وقولها "والله إني لأظنك تحب موتي" كأنها أخذت ذلك من قوله لها "لو مت قبلي" وقولها "ولو كان ذلك" في رواية الكشميهني: "ذاك" بغير لام أي موتها "لظللت آخر يومك معرسا" بفتح العين والمهملة وتشديد الراء المكسورة وسكون العين والتخفيف، يقال أعرس وعرس إذا بنى على زوجته، ثم استعمل في كل جماع، والأول أشهر، فإن التعريس النزول بليل. ووقع في رواية عبيد الله "لكأني بك والله لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقوله "بل أنا وارأساه" هي كلمة إضراب، والمعنى: دعي ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي، وزاد في رواية عبيد الله "ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم". قوله: "لقد هممت أو أردت" شك من الراوي، ووقع في رواية أبي نعيم "أو وددت" بدل "أردت". قوله: "أن أرسل إلى أبي بكر وابنه" كذا للأكثر بالواو وألف الوصل والموحدة والنون، ووقع في رواية مسلم: "أو ابنه" بلفظ أو التي للشك أو للتخيير، وفي أخرى "أو آتيه" بهمزة ممدودة بعدها مثناة مكسورة ثم تحتانية ساكنة من الإتيان بمعنى المجيء، والصواب الأول، ونقل عياض عن بعض المحدثين تصويبها وخطأه. وقال: ويوضح الصواب قولها في الحديث الآخر عند مسلم: " ادعي لي أباك وأخاك" وأيضا فإن مجيئه إلى أبي بكر كان متعسرا لأنه عجز عن حضور الصلاة مع قرب مكانها من بيته. قلت: في هذا التعليل نظر، لأن سياق الحديث يشعر بأن ذلك كان في ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم، وقد استمر يصلي بهم وهو مريض ويدور على نسائه حتى عجز عن ذلك وانقطع في بيت عائشة. ويحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت الخ" وقع بعد المفاوضة التي وقعت بينه وبين عائشة بمدة، وإن كان ظاهر الحديث بخلافه. ويؤيد أيضا ما في الأصل أن المقام كان مقام استمالة قلب عائشة، فكأنه يقول: كما أن الأمر يفوض لأبيك فإن ذلك يقع بحضور أخيك، هذا إن كان المراد بالعهد العهد بالخلافة، وهو ظاهر السياق كما سيأتي تقريره في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، وإن كان لغير ذلك فلعله أراد إحضار بعض محارمها حتى لو احتاج إلى قضاء حاجة أو الإرسال إلى أحد لوجد من يبادر لذلك. قوله: "فأعهد" أي أوصي. قوله: "أن يقول القائلون" أي لئلا يقول، أو كراهة أن يقول. قوله: "أو يتمنى المتمنون" بضم النون جمع متمني بكسرها، واصل الجمع المتمنيون فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فاجتمعت كسرة النون بعدها الواو فضمت النون. وفي الحديث ما طبعت عليه المرأة من الغيرة، وفيه مداعبة الرجل أهله والإفضاء إليهم بما يستره عن غيرهم، وفيه أن ذكر الوجع ليس بشكاية، فكم من
(10/125)
ساكت وهو ساخط، وكم من شاك وهو راض، فالمعول في ذلك على عمل القلب لا على نطق اللسان، والله أعلم. حديث ابن مسعود، وقد تقدم شرحه قريبا. وقوله في هذه الرواية: "فمسسته" وقع في رواية المستملي: "فسمعته" وهو تحريف، ووجهت بأن هناك حذفا والتقدير فسمعت أنينه. حديث عامر بن سعد عن أبيه وهو سعد بن أبي وقاص. قوله: "من وجع اشتد بي" تقدم شرحه مستوفى في كتاب الوصايا، وقوله: "زمن حجة الوداع" موافق لرواية مالك عن الزهري، وتقدم أن ابن عيينة قال في روايته: "أن ذلك في زمن الفتح" والأول أرجح والله أعلم.
(10/126)
17 - باب قَوْلِ
الْمَرِيضِ: قُومُوا عَنِّي
5669- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ. ح
حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا حُضِرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ
فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلُمَّ
أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ
الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا
قَالَ عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلاَفَ عِنْدَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: قُومُوا" قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ
إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ
اخْتِلاَفِهِمْ وَلَغَطِهِمْ".
قوله: "باب قول المريض قوموا عني" أي إذا وقع من الحاضرين عنده ما يقتضي
ذلك. قوله: "هشام" هو ابن يوسف الصنعاني، وقوله: "حدثنا عبد الله
بن محمد" هو المسندي، وساقه المصنف هنا على لفظ هشام، وسبق لفظ عبد الرزاق في
أواخر المغازي، وتقدم شرحه هناك، ووقع هنا "قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: قوموا" وقد تقدم الحديث في كتاب العلم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري
بلفظ: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا عني" وهو المطابق
للترجمة، ولم أستحضره عند الكلام عليه في المغازي فنسبت هذه الزيادة لابن سعد،
وعزوها للبخاري أولى. ويؤخذ من هذا الحديث أن الأدب في العيادة أن لا يطيل العائد
عند المريض حتى يضجره، وأن لا يتكلم عنده بما يزعجه. وجملة آداب العيادة عشرة
أشياء، ومنها ما لا يختص بالعيادة: أن لا يقابل الباب عند الاستئذان، وأن يدق
الباب برفق، وأن لا يبهم نفسه كأن يقول أنا، وأن لا يحضر في وقت يكون غير لائق
بالعيادة كوقت شرب المريض الدواء، وأن يخفف الجلوس، وأن يغض البصر، ويقلل السؤال،
وأن يظهر الرقة، وأن يخلص الدعاء، وأن يوسع للمريض في الأمل، ويشير عليه بالصبر
لما فيه من جزيل الأجر، ويحذره من الجزع لما فيه من الوزر. قوله: "وكان ابن عباس
يقول إن الرزية" سبق الكلام علبه في الوفاة النبوية.
(10/126)
18 - باب مَنْ
ذَهَبَ بِالصَّبِيِّ الْمَرِيضِ لِيُدْعَى لَهُ
5670- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ هُوَ ابْنُ
إِسْمَاعِيلَ عَنْ الْجُعَيْدِ قَالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ يَقُولُ: "
ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ فَمَسَحَ رَأْسِي
وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ وَقُمْتُ
خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ
زِرِّ الْحَجَلَةِ" .
قوله: "باب من ذهب بالصبي المريض ليدعى له" في رواية الكشميهني:
"ليدعو له". ذكر فيه حديث الجعيد وهو ابن عبد الرحمن، والسائب هو ابن
يزيد، وقد تقدم الحديث مشروحا في الترجمة النبوية عند ذكر خاتم النبوة وأن خالة
السائب لا يعرف اسمها، وستأتي الإشارة إلى خصوص المسح على رأس المريض والدعاء
بالبركة في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى.
(10/127)
باب تمني الموت
...
19 - باب تَمَنِّي الْمَرِيضِ الْمَوْتَ
5671- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ فَإِنْ كَانَ
لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ
خَيْراً لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي" .
[الحديث 5671 – طرفاه في: 6351، 7233]
5672- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ
عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: "دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ نَعُودُهُ
وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ فَقَالَ إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ سَلَفُوا
مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمْ الدُّنْيَا وَإِنَّا أَصَبْنَا مَا لاَ نَجِدُ لَهُ
مَوْضِعاً إِلاَّ التُّرَابَ وَلَوْلاَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ ثُمَّ أَتَيْنَاهُ
مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يَبْنِي حَائِطاً لَهُ فَقَالَ إِنَّ الْمُسْلِمَ
لَيُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ إِلاَّ فِي شَيْءٍ يَجْعَلُهُ فِي هَذَا
التُّرَابِ".
[الحديث 5672 – أطرافه في: 6349، 6350، 6430، 6431، 7234]
5673- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: "لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا وَلاَ أَنْتَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لاَ وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ
بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ
الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْراً وَإِمَّا مُسِيئاً
فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ" .
5674- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ
عَنْ هِشَامٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَمِعْتُ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأعلى" .
(10/127)
قوله: "باب تمني المريض الموت" أي هل يمنع مطلقا أو يجوز في حالة؟ ووقع في رواية الكشميهني نهي تمني المريض الموت، وكأن المراد منع تمني المريض. وذكر في الباب خمسة أحاديث: الحديث الأول: عن أنس. قوله: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه" الخطاب للصحابة، والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عموما، وقوله: "من ضر أصابه" حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي، فإن وجد الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي، ويمكن أن يؤخذ ذلك من رواية ابن حبان: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا" على أن "في" في هذا الحديث سببية، أي بسبب أمر من الدنيا، وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة: ففي "الموطأ" عن عمر أنه قال: "اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط"، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن عمر. وأخرج أحمد وغيره من طريق عبس ويقال عابس الغفاري أنه قال: "يا طاعون خذني. فقال له عليم الكندي: لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت؟" فقال: إني سمعته يقول: " بادروا بالموت ستا، إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم" الحديث. وأخرج أحمد أيضا من حديث عوف بن مالك نحو وأنه "قيل له: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عمر المسلم كان خيرا له" الحديث، وفيه الجواب نحوه، وأصرح منه في ذلك حديث معاذ الذي أخرجه أبو داود وصححه الحاكم في القول في دبر كل صلاة وفيه: "وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون" . قوله: " فإن كان لا بد فاعلا " في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس كما سيأتي في الدعوات "فإن كان ولا بد متمنيا للموت". قوله: "فليقل الخ" وهذا يدل على أن النهي عن تمني الموت مقيد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة، لأن في التمني المطلق نوع اعتراض ومراغمة للقدر المحتوم وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض وتسليم للقضاء، وقوله: "فإن كان الخ" فيه ما يصرف الأمر عن حقيقته من الوجوب أو الاستحباب، ويدل على أنه لمطلق الإذن لأن الأمر بعد الحظر لا يبقى على حقيقته. وقريب من هذا السياق ما أخرجه أصحاب السنن من حديث المقدام بن معد يكرب " حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولا بد فثلث للطعام" الحديث، أي إذا كان لا بد من الزيادة على اللقيمات فليقتصر على الثلث، فهو إذن بالاقتصار على الثلث، لا أمر يقتضي الوجوب ولا الاستحباب. قوله: " ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت" عبر في الحياة بقوله: "ما كانت" لأنها حاصلة، فحسن أن يأتي بالصيغة المقتضية للاتصاف بالحياة، ولما كانت الوفاة لم تقع بعد حسن أن يأتي بصيغة الشرط. والظاهر أن هذا التفصيل ما إذا كان الضر دينيا أو دنيويا، وسيأتي في التمني من رواية النضر بن أنس عن أبيه "لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تمنوا الموت لتمنيته" فلعله رأى أن التفصيل المذكور ليس من التمني المنهي عنه. الحديث الثاني: حديث خباب. قوله: "عن إسماعيل بن أبي خالد" لشعبة فيه إسناد آخر أخرجه الترمذي من رواية غندر عنه عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: "دخلت على خباب" فذكر الحديث نحوه. قوله: "وقد اكتوى سبع كيات" في رواية حارثة "وقد اكتوى في بطنه فقال: ما أعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لقي من البلاء ما لقيت" أي من الوجع الذي أصابه، وحكى شيخنا في "شرح الترمذي" احتمال أن يكون أراد بالبلاء ما فتح عليه من المال بعد أن كان لا يجد درهما، كما وقع صريحا في رواية حارثة المذكورة عنه قال: "لقد كنت وما أجد درهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ناحية بيتي أربعون ألفا" يعني الآن، وتعقبه بأن غيره من الصحابة كان أكثر مالا منه كعبد الرحمن بن عوف، واحتمال أن يكون أراد ما لقي من التعذيب في أول الإسلام من
(10/128)
المشركين، وكأنه
رأى أن اتساع الدنيا عليه يكون ثواب ذلك التعذيب، وكان يحب أن لو بقي له أجره
موفرا في الآخرة، قال: ويحتمل أن يكون أراد ما فعل من الكي مع ورود النهي عنه، كما
قال عمران بن حصين "نهينا عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا" أخرجه(1) قال:
وهذا بعيد. قلت: وكذلك الذي قبله، وسيأتي الكلام على حكم الكي قريبا في كتاب الطب
إن شاء الله تعالى. قوله: "إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم
الدنيا" زاد في الرقاق من طريق يحيي القطان عن إسماعيل بن أبي خالد
"شيئا" أي لم تنقص أجورهم، بمعنى أنهم لم يتعجلوها في الدنيا بل بقيت
موفرة لهم في الآخرة، وكأنه عنى بأصحابه بعض الصحابة ممن مات في حياة النبي صلى
الله عليه وسلم فأما من عاش بعده فإنهم اتسعت لهم الفتوح. ويؤيده حديثه الآخر
"هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى
لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير" وقد مضى في الجنائز وفي المغازي
أيضا، ويحتمل أن يكون عني جميع من مات قبله، وأن من اتسعت له الدنيا لم تؤثر فيه
إما لكثرة إخراجهم المال في وجوه البر، وكان من يحتاج إليه إذ ذاك كثيرا فكانت تقع
لهم الموقع، ثم لما اتسع الحال جدا وشمل العدل في زمن الخلفاء الراشدين استغني الناس
بحيث صار الغني لا يجد محتاجا يضع بره فيه، ولهذا قال خباب: "وإنا أصبنا ما
لا نجد له موضعا إلا التراب" أي الإنفاق في البنيان. وأغرب الداودي فقال:
أراد خباب بهذا القول الموت أي لا يجد للمال الذي أصابه إلا وضعه في القبر، حكاه
ابن التين ورده فأصاب. وقال: بل هو عبارة عما أصابوا من المال قلت: وقد وقع لأحمد
عن يزيد بن هارون عن إسماعيل بن أبي خالد في هذا الحديث بعد قوله إلا التراب
"وكان يبني حائطا له" ويأتي في الرقاق نحوه باختصار، وأخرجه أحمد أيضا
عن وكيع عن إسماعيل وأوله "دخلنا على خباب نعوده وهو يبني حائطا له وقد اكتوى
سبعا" الحديث. قوله: "ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو
بالموت لدعوت به" الدعاء بالموت أخص من تمني الموت، وكل دعاء تمني من غير
عكس، فلذلك أدخله في هذه الترجمة. قوله: "ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطا
له" هكذا وقع في رواية شعبة تكرار المجيء، وهو أحفظ الجميع فزيادته مقبولة،
والذي يظهر أن قصة بناء الحائط كانت سبب قوله أيضا: "وإنا أصبنا من الدنيا ما
لا نجد له موضعا إلا التراب". قوله: "إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه
إلا في شيء يجعله في هذا التراب" أي الذي يوضع في البنيان، وهو محمول على ما
زاد على الحاجة، وسيأتي تقرير ذلك في آخر كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى.
"تنبيه" هكذا وقع من هذا الوجه موقوفا، وقد أخرجه الطبراني من طريق عمر
بن إسماعيل بن مجالد "حدثنا أبي عن بيان بن بشر وإسماعيل بن أبي خالد جميعا
عن قيس عن أبي حازم قال: دخلنا على خباب نعوده" فذكر الحديث، وفيه: "وهو
يعالج حائطا له فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المسلم يؤجر في
نفقته كلها إلا ما يجعله في التراب" وعمر كذبه يحيى بن معين. قوله:
"أخبرني أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف" هو أبو عبيد مولى ابن أزهر
واسمه سعيد بن عبيد، وابن أزهر الذي نسب إليه هو عبد الرحمن بن أزهر بن عوف، وهو
ابن أخي عبد الرحمن بن عوف الزهري؛ هكذا اتفق هؤلاء عن الزهري في روايته عن أبي
عبيد، وخالفهم إبراهيم بن سعد عن الزهري فقال: "عن عبيد الله بن عبد الله عن
أبي هريرة" أخرجه النسائي وقال: رواية الزبيدي أولى
ـــــــ
(1) بياض بالأصل
(10/129)
بالصواب، وإبراهيم بن سعد ثقة، يعني ولكنه أخطأ في هذا. قوله: "لن يدخل أحدا عمله الجنة" الحديث يأتي الكلام عليه في كتاب الرقاق، فإنه أورده مفردا من وجه آخر عن أبي هريرة وغيره، وإنما أخرجه هنا استطرادا لا قصدا، والمقصود منه الحديث الذي بعده وهو قوله: "ولا يتمنى الخ" وقد أفرده في كتاب التمني من طريق معمر عن الزهري، وكذا أخرجه النسائي من طريق الزبيدي عن الزهري. قوله: "ولا يتمني" كذا للأكثر بإثبات التحتانية، وهو لفظ نفي بمعني النهي. ووقع في رواية الكشميهني: "لا يتمن" على لفظ النهي، ووقع في رواية معمر الآتية في التمني بلفظ: "لا يتمنى" للأكثر وبلفظ: "لا يتمنين" للكشميهني، وكذا هو في رواية همام عن أبي هريرة بزيادة نون التأكيد، وزاد بعد قوله أحدكم الموت "ولا يدع به من قبل أن يأتيه" وهو قيد في الصورتين، ومفهومه أنه إذا حل به لا يمنع من تمنيه رضا بلقاء الله ولا من طلبه من الله لذلك وهو كذلك، ولهذه النكتة عقب البخاري حديث أبي هريرة بحديث عائشة "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" إشارة إلى أن النهي مختص بالحالة التي قبل نزول الموت، فلله دره ما كان أكثر استحضاره وإيثاره للأخفى على الأجلى شحذا للأذهان. وقد خفي صنيعه هذا على من جعل حديث عائشة في الباب معارضا لأحاديث الباب أو ناسخا لها، وقوي ذلك بقول يوسف عليه السلام {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} قال ابن التين: قيل إن النهى منسوخ بقول يوسف فذكره، وبقول سليمان "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" وبحديث عائشة في الباب، وبدعاء عمر بالموت وغيره. قال وليس الأمر كذلك لأن هؤلاء إنما سألوا ما قارب الموت. قلت: وقد اختلف في مراد يوسف عليه السلام، فقال قتادة: لم يتمني الموت أحد إلا يوسف حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء الله، أخرجه الطبراني بسند صحيح عنه. وقال غيره: بل مراده توفني مسلما عند حضور أجلي، كذا أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك بن مزاحم، وكذلك مراد سليمان عليه السلام. وعلى تقدير الحمل على ما قال قتادة فهو ليس من شرعنا، وإنما يؤخذ بشرع من قبلنا ما لم يرد في شرعنا النهي عنه بالاتفاق، وقد استشكل الإذن في ذلك عند نزول الموت لأن نزول الموت لا يتحقق، فكم من انتهى إلى غاية جرت العادة بموت من يصل إليها ثم عاش. والجواب أنه يحتمل أن يكون المراد أن العبد يكون حاله في ذلك الوقت حال من يتمني نزوله به ويرضاه أن لو وقع به، والمعني أن يطمئن قلبه إلى ما يرد عليه من ربه ويرضى به ولا يقلق، ولو لم يتفق أنه يموت في ذلك المرض. قول "إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب" أي يرجع عن موجب العتب عليه. ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد "وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا" وفيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت والدعاء به هو انقطاع العمل بالموت، فإن الحياة يتسبب منها العمل، والعمل يحصل زيادة الثواب، ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد فهو أفضل الأعمال. ولا يرد على هذا أنه يجوز أن يقع الارتداد والعياذ بالله تعالى عن الإيمان لأن ذلك نادر، والإيمان بعد أن تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وعلى تقدير وقوع ذلك - وقد وقع لكن نادرا - فمن سبق له في علم الله خاتمة السوء فلا بد من وقوعها طال عمره أو قصر، فتعجيله بطلب الموت لا خير له فيه. ويؤيده حديث أبي أمامة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: يا سعد إن كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك أو حسن من عملك فهو خير لك" أخرجه بسند لين، ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد ومسلم: "وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا " واستشكل بأنه قد يعمل السيئات فيزيده عمره شرا، وأجيب بأجوبة: أحدها حمل المؤمن
(10/130)
على الكامل وفيه بعد، والثاني أن المؤمن بصدد أن يعمل ما يكفر ذنوبه إما من اجتناب الكبائر وإما من فعل حسنات أخر تقاوم سيئاته، وما دام الإيمان باق فالحسنات بصدد التضعيف، والسيئات بصدد التكفير. والثالث يقيد ما أطلق في هذه الرواية بما وقع في رواية الباب من الترجي حيث جاء بقوله: "لعله" والترجي مشعر بالوقوع غالبا لا جزما، فخرج الخبر مخرج تحسين الظن بالله، وأن المحسن يرجو من الله الزيادة بأن يوفقه للزيادة من عمله الصالح، وأن المسيء لا ينبغي له القنوط من رحمة الله ولا قطع رجائه، أشار إلى ذلك شيخنا في "شرح الترمذي". ويدل على أن قصر العمر قد يكون خيرا للمؤمن حديث أنس الذي في أول الباب: "وتوفني إذا كان الوفاة خيرا لي" وهو لا ينافي حديث أبي هريرة "أن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا" إذا حمل حديث أبي هريرة على الأغلب ومقابله على النادر، وسيأتي الإلمام بشيء من هذا في كتاب التمني إن شاء الله تعالى. حديث عائشة "وألحقني بالرفيق الأعلى " تقدم شرحه في أواخر المغازي في الوفاة النبوية، وتقدم في الذي قبله أن ذلك لا يعارض النهي عن تمني الموت والدعاء به، وأن هذه الحالة من خصائص الأنبياء أنه لا يقبض نبي حتى يخير بين البقاء في الدنيا وبين الموت. وقد تقدم بسطه واضحا هناك ولله الحمد.
(10/131)
20 - باب دُعَاءِ
الْعَائِدِ لِلْمَرِيضِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا: " اللَّهُمَّ اشْفِ
سَعْداً" قاله النبي صلى الله عليه وسلم
5675- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا
أَتَى مَرِيضاً أَوْ أُتِيَ بِهِ قَالَ: أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ
وَأَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ
سَقَماً" .
وقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مَنْصُورٍ
عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي الضُّحَى "إِذَا أُتِيَ بِالْمَرِيضِ"
وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى وَحْدَهُ وَقَالَ:
"إِذَا أَتَى مَرِيضاً".
[الحديث 5675 – أطرافه في: 5743، 5744، 5750]
قوله: "باب دعاء العائد للمريض" أي بالشفاء ونحوه. قوله: "وقالت
عائشة بنت سعد" أي ابن أبي وقاص، وهذا طرف من حديثه الطويل في الوصية بالثلث،
وقد تقدم موصولا في "باب وضع اليد على المريض" قريبا. قوله: "عن
منصور" هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي. قوله: "إذا أتى مريضا أو
أتي به" شك من الراوي، وقد حكى المصنف الاختلاف فيه في الروايات المعلقة بعد.
قوله: "لا يغادر" بالغين المعجمة أي لا يترك، وفائدة التقييد بذلك أنه
قد يحصل الشفاء من ذلك المرض فيخلفه مرض آخر يتولد منه، فكان يدعو له بالشفاء
المطلق لا بمطلق الشفاء. قوله: "وقال عمرو بن أبي قيس وإبراهيم بن طهمان عن
منصور عن إبراهيم وأبي الضحى "إذا أتى المريض" وقع في رواية الكشميهني:
"إذا أتي بالمريض" وهو أصوب، فأما عمرو بن أبي قيس فهو الرازي وأصله من
الكوفة ولا يعرف اسم أبيه وهو صدوق، ولم يخرج له البخاري إلا تعليقا، وقد وقع لنا
حديثه هذا موصولا في "فوائد أبي العباس محمد بن نجيح" من رواية محمد بن
سعيد بن سابق القزويني عنه بلفظ: "إذا أتي
(10/131)
بالمريض" وأما إبراهيم بن طهمان فوصل طريقه الإسماعيلي من رواية محمد بن سابق التميمي الكوفي نزيل بغداد عنه بلفظ: "إذا أتى بمريض". قوله: "وقال جرير عن منصور عن أبي الضحى وحده وقال: إذا أتى مريضا" وهذا وصله ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جرير بلفظ: "إذا أتى إلى المريض فدعا له" وهي عند مسلم أيضا، وقد دلت رواية كل من جرير وأبي عوانة على أن عمرو بن أبي قيس وإبراهيم بن طهمان حفظا عن منصور أن الحديث عنده عن شيخين، وأنه تارة يحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وقد أخرجه مسلم من طريق إسرائيل عن منصور عنهما كذلك، ورجح عند البخاري رواية منصور عن إبراهيم وحده لأن الثوري رواها عن منصور كذلك كما سيأتي في أثناء كتاب الطب، ووافقه ورقاء عن منصور عند النسائي، وسفيان أحفظ الجميع، لكن رواية جرير غير مرفوعة والله أعلم. وقد استشكل الدعاء للمريض بالشفاء مع ما في المرض من كفارة الذنوب والثواب كما تضافرت الأحاديث بذلك، والجواب أن الدعاء عبادة، ولا ينافي الثواب والكفارة لأنهما يحصلان بأول مرض وبالصبر عليه، والداعي بين حسنتين: إما أن يحصل له مقصوده، أو يعوض عنه بجلب نفع أو دفع ضر، وكل من فضل الله تعالى.
(10/132)
21 - باب وُضُوءِ
الْعَائِدِ لِلْمَرِيضِ
5676- حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن محمد بن المنكدر قال سمعت جابر
بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا
مريض فتوضأ فصب علي أو قال صبوا عليه فعقلت فقلت لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث
فنزلت آية الفرائض".
قوله: "باب وضوء العائد للمريض" ذكر فيه حديث جابر، وقد تقدم التنبيه
عليه قريبا في باب المغمى عليه، ولا يخفى أن محله إذا كان العائد بحيث يتبرك
المريض به.
(10/132)
22 - باب مَنْ
دَعَا بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْحُمَّى
5677- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا
قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ
وَبِلاَلٌ قَالَتْ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ
وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَتْ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ
الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ
نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فَيَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ
وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مِجَنَّةٍ ... وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ
وَطَفِيلُ
(10/132)
كتاب الطب
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
76 - كِتَاب الطِّبِّ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الطب" كذا لهم، إلا النسفي فترجم
"كتاب الطب" أول كفارة المرض ولم يفرد كتاب الطب، وزاد في نسخة الصغاني
"والأدوية". والطب بكسر المهملة وحكى ابن السيد تثليثها. والطبيب هو
الحاذق بالطب، ويقال له أيضا طب بالفتح والكسر ومستطب وامرأة طب بالفتح، يقال
استطب تعانى الطب واستطب استوصفه، ونقل أهل اللغة أن الطب بالكسر يقال بالاشتراك
للمداوى وللتداوي وللداء أيضا فهو من الأضداد، ويقال أيضا للرفق والسحر، ويقال
للشهوة ولطرائق ترى في شعاع الشمس وللحذق بالشيء، والطبيب الحاذق في كل شيء، وخص
به المعالج عرفا، والجمع في القلة أطبة وفي الكثرة أطباء. والطب نوعان: طب جسد وهو
المراد هنا، وطب قلب ومعالجته خاصة بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه
سبحانه وتعالى. وأما طب الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم ومنه
ما جاء عن غيره، وغالبه راجع إلى التجربة. ثم هو نوعان: نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر
بل فطر الله على معرفته الحيوانات، مثل ما يدفع الجوع والعطش. ونوع يحتاج إلى
الفكر والنظر كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال، وهو إما إلى حرارة أو
برودة، وكل منهما إما إلى رطوبة، أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما. وغالب ما يقاوم
الواحد منهما بضده، والدفع قد يقع من خارج البدن وقد يقع من داخله وهو أعسرهما.
والطريق إلى معرفته بتحقق السبب والعلامة، فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق
ما يضر بالبدن جمعه أو عكسه، وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه، ومدار ذلك
على ثلاثة أشياء: حفظ الصحة، والاحتماء عن المؤذي، واستفراغ المادة الفاسدة. وقد
أشير إلى الثلاثة في القرآن: فالأول من قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وذلك أن السفر مظنة
النصب وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر إبقاء على
الجسد. وكذا القول في المرض الثاني وهو الحمية من قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ} فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد. والثالث
من قوله تعالى: {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فإنه أشير بذلك إلى
جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في
الرأس. وأخرج مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم مرسلا "أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لرجلين: أيكما أطب؟ قالا: يا رسول الله وفي الطب خير؟ قال:
أنزل الداء الذي أنزل الدواء" .
(10/134)
باب ما أنزا الله
داء إلا أنزل له شفاء
...
1 - باب مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً
5678- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ
بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً
إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً" .
قوله: "باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" كذا للإسماعيلي وابن
بطال ومن تبعه، ولم أر لفظ: "باب" من نسخ الصحيح إلا للنسفي. قوله:
"أبو أحمد الزبيري" هو محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي، نسب لجده وهو
(10/134)
أسد من بني أسد بن خزيمة، فقد يلتبس بمن ينسب إلى الزبير بن العوام لكونهم من بني أسد بن عبد العزى، وهذا من فنون علم الحديث وصنفوا فيه الأنساب المتفقة في اللفظ المفترقة في الشخص. وقد وقع عند أبي نعيم في الطب من طريق أبي بكر وعثمان بن أبي شيبة: "قالا حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي أبو أحمد الزبيري" وعند الإسماعيلي من طريق هارون بن عبد الله الحمال "حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري". قوله: "عن أبي هريرة" كذا قال عمر بن سعيد عن عطاء، وخالفه شبيب بن بشر فقال: "عن عطاء عن أبي سعيد الخدري" أخرجه الحاكم وأبو نعيم في الطب ورواه طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس، هذه رواية عبد بن حميد عن محمد بن عبيد عنه. وقال معتمر بن سليمان "عن طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة" أخرجه ابن عاصم في الطب وأبو نعيم، وهذا مما يترجح به رواية عمر بن سعيد. قوله: "ما أنزل الله داء" وقع في رواية الإسماعيلي: "من داء" و"من" زائدة، ويحتمل أن يكون مفعول "أنزل" محذوفا فلا تكون من زائدة بل لبيان المحذوف، ولا يخفى تكلفه. قوله: "إلا أنزل له شفاء" في رواية طلحة بن عمرو من الزيادة في أول الحديث: "يا أيها الناس تداووا" ووقع في رواية طارق بن شهاب عن ابن مسعود رفعه: "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا" وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم، ونحوه للطحاوي وأبي نعيم من حديث ابن عباس، ولأحمد عن أنس "إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء، فتداووا" وفي حديث أسامة بن شريك "تداووا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، إلا داء واحدا الهرم" أخرجه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" والأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وفي لفظ: "إلا السام" بمهملة مخففة يعني الموت. ووقع في رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود نحو حديث الباب في آخره: "علمه من علمه وجهله من جهله" أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم. ولمسلم عن جابر رفعه: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى" ولأبي داود من حديث أبي الدرداء رفعه: "إن الله جعل لكل داء دواء فتداووا، ولا تداووا بحرام" وفي مجموع هذه الألفاظ ما يعرف منه المراد بالإنزال في حديث الباب وهو إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وسلم مثلا، أو عبر بالإنزال عن التقدير. وفيها التقييد بالحلال فلا يجوز التداوي بالحرام. وفي حديث جابر منها الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله، وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجع، بل ربما أحدث داء آخر. وفي حديث ابن مسعود الإشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد، وفيها كلها إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره، وأنها لا تنجح بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك، وإليه الإشارة بقوله في حديث جابر "بإذن الله" فمدار ذلك كله على تقدير الله وإرادته. والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك، وسيأتي مزيد لهذا البحث في "باب الرقية" إن شاء الله تعالى. ويدخل في عمومها أيضا الداء القاتل الذي اعترف حذاق الأطباء بأن لا دواء له، وأقروا بالعجز عن مداواته، ولعل الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله: "وجهله من جهله" إلى ذلك فتكون باقية على عمومها، ويحتمل أن يكون في الخبر حذف تقديره: لم ينزل داء يقبل الدواء إلا أنزل له شفاء، والأول أولى. ومما يدخل في قوله: "جهله من جهله" ما يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من داء بدواء فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء بعينه فيتداوى بذلك الدواء بعينه فلا ينجع،
(10/135)
والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الدواء فرب مرضين تشابها ويكون أحدهما مركبا لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبا فيقع الخطأ من هنا، وقد يكون متحدا لكن يريد الله أن لا ينجع فلا ينجع ومن هنا تخضع رقاب الأطباء، وقد أخرج ابن ماجه من طريق أبي خزامة وهو بمعجمة وزاي خفيفة عن أبيه قال: " قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به هل يرد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله تعالى" والحاصل أن حصول الشفاء بالدواء إنما هو كدفع الجوع بالأكل والعطش بالشرب، وهو ينجع في ذلك في الغالب، وقد يتخلف لمانع والله أعلم. ثم الداء والدواء كلاهما بفتح الدال وبالمد، وحكي كسر دال الدواء. واستثناء الموت في حديث أسامة بن شريك واضح، ولعل التقدير إلا داء الموت، أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت. واستثناء الهرم في الرواية الأخرى إما لأنه جعله شبيها بالموت والجامع بينهما نقص الصحة، أو لقربه من الموت وإفضائه إليه. ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا والتقدير: لكن الهرم لا دواء له، والله أعلم.
(10/136)
2 - باب هَلْ
يُدَاوِي الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَوْ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ
5679- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بشر بن المفضل عن خالد بن ذكوان عن ربيع بنت معوذ
بن عفراء قالت: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسقي القوم
ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة".
قوله: "باب هل يداوي الرجل المرأة والمرأة الرجل؟" ذكر فيه حديث الربيع
بالتشديد "كنا نغزو ونسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى
المدينة" وليس في هذا السياق تعرض للمداواة، إلا إن كان يدخل في عموم قولها
"نخدمهم" نعم ورد الحديث المذكور بلفظ: "ونداوي الجرحى ونرد
القتلى" وقد تقدم كذلك في "باب مداواة النساء الجرحى في الغزو" من
كتاب الجهاد، فجرى البخاري على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض ألفاظ الحديث،
ويؤخذ حكم مداواة الرجل المرأة منه بالقياس. وإنما لم يجزم بالحكم لاحتمال أن يكون
ذلك قبل الحجاب، أو كانت المرأة تصنع ذلك بمن يكون زوجا لها أو محرما. وأما حكم
المسألة فتجور مداواة الأجانب عند الضرورة وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس
باليد وغير ذلك، وقد تقدم البحث في شيء من ذلك في كتاب الجهاد.
(10/136)
3 - باب الشِّفَاءُ
فِي ثَلاَثٍ
5680- حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا
مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ حَدَّثَنَا سَالِمٌ الأَفْطَسُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "الشِّفَاءُ فِي
ثَلاَثَةٍ شَرْبَةِ عَسَلٍ وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ وَكَيَّةِ نَارٍ وَأَنْهَى
أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ" . رَفَعَ الْحَدِيثَ.
وَرَوَاهُ الْقُمِّيُّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَسَلِ وَالْحَجْمِ.
[الحديث 5680 – طرفه في: 5681]
5681- حدثني محمد بن عبد الرحيم أخبرنا سريج بن يونس أبو الحارث حدثنا مروان بن
شجاع عن
(10/136)
4 - باب الدَّوَاءِ
بِالْعَسَلِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}
5682- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ
أَخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
"كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ
الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ".
5683- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ال