السبت، 7 مايو 2022

كتاب :32. و33. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

   كتاب :32. فتح الباري  أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 ==باب الوهم والعلم في الصورة
35- باب الْوَسْمِ وَالْعَلَمِ فِي الصُّورَةِ
5541- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَمَ الصُّورَةُ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُضْرَبَ" تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا الْعَنْقَزِيُّ عَنْ حَنْظَلَةَ وَقَالَ تُضْرَبُ الصُّورَةُ"
5542- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخٍ لِي يُحَنِّكُهُ وَهُوَ فِي مِرْبَدٍ لَهُ فَرَأَيْتُهُ يَسِمُ شَاةً حَسِبْتُهُ قَالَ فِي آذَانِهَا"
قوله: "باب العلم" بفتحتين "والوسم" بفتح أوله وسكون المهملة، وفي بعض النسخ بالمعجمة فقيل هو بمعنى الذي بالمهملة وقيل بالمهملة في الوجه وبالمعجمة في سائر الجسد، فعلى هذا فالصواب هنا بالمهملة لقوله في الصورة، والمراد بالوسم أن يعلم الشيء بشيء يؤثر فيه تأثيرا بالغا، وأصله أن يجعل في البهيمة علامة ليميزها عن غيرها. قوله: "عن حنظلة" هو ابن أبي سفيان الجمحي، وسالم هو ابن عبد الله بن عمر. قوله: "أن تعلم" بضم أوله أي تجعل فيها

(9/670)


علامة. قوله: "الصورة" في رواية الكشميهني في الموضعين "الصور" بفتح الواو بلا هاء جمع صورة والمراد بالصورة الوجه. قوله: "وقال ابن عمر: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تضرب" هو موصول بالسند المذكور، بدأ بالموقوف وثنى بالمرفوع مستدلا به على ما ذكر من الكراهة، لأنه إذا ثبت النهي عن الضرب كان منع الوسم أولى، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما أخرجه مسلم من حديث جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه" وفي لفظ له "مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بحمار قد وسم في وجه فقال: لعن الله من وسمه". قوله: "تابعه قتيبة قال حدثنا العنقزي" بفتح المهملة والقاف بينهما نون ساكنة وبعد القاف زاي، منسوب إلى العنقز وهو نبت طيب الريح، ويقال هو المرزنجوش بفتح الميم وسكون الراء ثم فتح الزاي وسكون النون بعدها جيم مضمومة وآخره معجمة، وهذا تفسير للشيء بمثله في الخفاء، والمرزنجوش هو الشمار أو الشذاب، وقيل العنقز الريحان، وقيل القصب الغض، واسم العنقزي عمرو بن محمد الكوفي وثقه أحمد والنسائي وغيرهما. وقال ابن حبان في الثقات كان يبيع العنقز. وهذه المتابعة لها حكم الوصل عند ابن الصلاح لأن قتيبة من شيوخ البخاري، وإنما ذكرها لزيادة المحذوف في رواية عبيد الله بن موسى حيث قال: "أن تضرب" فإن الضمير في روايته للصورة لكونها ذكرت أولا وأفصح العنقزي في روايته بذلك، وقوله عن حنظلة يريد بالسند المذكور وهو عن سالم عن أبيه، وقد أخرج الإسماعيلي الحديث من طريق بشر بن السري ومحمد بن عدي فرقهما كلاهما عن حنظلة بالسند المذكور واللفظ المذكور، لكن لفظ رواية بشر بن السري "عن الصورة تضرب" وأخرجه من طريق وكيع عن حنظلة بلفظ: "أن تضرب وجوه البهائم" ومن وجه آخر عنه "أن تضرب الصورة" يعني الوجه، وأخرجه أيضا من طريق محمد بن بكر يعني البرساني وإسحاق بن سليمان الرازي كلاهما عن حنظلة قال: "سمعت" سالما يسأل عن العلم في الصورة فقال: كان ابن عمر يكره أن تعلم الصورة "وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تضرب الصورة" يعني بالصورة الوجه. قال الإسماعيلي المسند منه على اضطراب فيه ضرب الصورة، وأما العلم فإنه من قول ابن عمر وكان المعنى فيه الكي، قلت وهذه الرواية الأخيرة هي المطابقة للفظ الترجمة، وعطفه الوسم عليها إما عطف تفسيري وإما من عطف الأعم على الأخص. وأشار الإسماعيلي بالاضطراب إلى الرواية الأخيرة حيث قال فيها "وبلغنا" فإن الظاهر أنه من قول سالم فيكون مرسلا بخلاف الروايات الأخرى أنها ظاهرة الاتصال لكن اجتماع العدد الكثير أولى من تقصير من قصر به والحكم لهم. ومثل هذا لا يسمى اضطرابا في الاصطلاح لأن شرط الاضطراب أن يتعذر الترجيح بعد تعذر الجمع وليس الأمر هنا كذلك. وجاء في ذكر الوسم في الوجه صريحا حديث جابر قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بحمار قد وسم في وجهه فقال: لعن الله من فعل هذا. لا يسم أحد الوجه ولا يضرب أحد الوجه" أخرجه عبد الرزاق ومسلم والترمذي. وهو شاهد جيد لحديث ابن عمر. وتقدم البحث في ضرب وجه الآدمي في كتاب الجهاد في الكلام على حديث أبي هريرة، وتقدم قبل أبواب النهي عن صبر البهيمة وعن المثلة. قوله: "عن هشام بن زيد" أي ابن أنس ابن مالك. قوله: "عن أنس" هو جده. قوله: "بأخ لي يحنكه" هو أخوه من أمه وهو عبد الله بن أبي طلحة، وسيأتي مطولا في اللباس من وجه آخر. قوله: "في مربد" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة بعدها مهملة مكان الإبل وكأن الغنم أدخلت فيه مع الإبل. قوله: "وهو يسم شاة" في رواية الكشميهني: "شاء" بالهمز وهو جمع شاة مثل شياه، وسيأتي في الرواية التي في اللباس بلفظ: "وهو يسم الظهر الذي قدم عليه" وفيه ما يدل على أن

(9/671)


ذلك بعد رجوعهم من غزوة الفتح وحنين، والمراد بالظهر الإبل، وكأنه كان يسم الإبل والغنم فصادف أول دخول أنس وهو يسم شاة، ورآه يسم غير ذلك، وقد تقدم في العقيقة بيان شيء من هذا. قوله: "حسبته" القائل شعبة، والضمير لهشام بن زيد وقع مبينا في رواية مسلم. قوله: "في آذانها" هذا محل الترجمة وهو العدول عن الوسم في الوجه إلى الوسم في الأذن، فيستفاد منه أن الأذن ليست من الوجه، وفيه حجة للجمهور في جواز وسم البهائم بالكي، وخالف فيه الحنفية تمسكا بعموم النهي عن التعذيب بالنار، ومنهم من ادعى بنسخ وسم البهائم وجعله الجمهور مخصوصا من عموم النهي. والله أعلم.

(9/672)


36- باب إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ غَنِيمَةً فَذَبَحَ بَعْضُهُمْ غَنَمًا أَوْ إِبِلًا بِغَيْرِ أَمْرِ أَصْحَابِهِمْ لَمْ تُؤْكَلْ
لحَدِيثِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ طَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ فِي ذَبِيحَةِ السَّارِقِ اطْرَحُوهُ"
5543- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّنَا نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى فَقَالَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلُوهُ مَا لَمْ يَكُنْ سِنٌّ وَلاَ ظُفُرٌ وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَأَصَابُوا مِنْ الْغَنَائِمِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ النَّاسِ فَنَصَبُوا قُدُورًا فَأَمَرَ بِهَا فَأُكْفِئَتْ وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ وَعَدَلَ بَعِيرًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ ثُمَّ نَدَّ بَعِيرٌ مِنْ أَوَائِلِ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ خَيْلٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ فَقَالَ إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا فَافْعَلُوا مِثْلَ هَذَا"
قوله: "باب إذا أصاب قوم غنيمة" يفتح أوله وزن عظيمة. قوله: "فذبح بعضهم غنما أو إبلا بغير أمر أصحابه لم تؤكل لحديث رافع" هذا مصير من البخاري إلى أن سبب منع الأكل من الغنم التي طبخت في القصة التي ذكرها رافع بن خديج كونها لم تقسم، وقد تقدم البحث في ذلك في "باب التسمية على الذبيحة" وقوله فيه: "وسأحدثكم عن ذلك" جزم النووي بأنه من جملة المرفوع وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر من السياق، وجزم أبو الحسن بن القطان في "كتاب بيان الوهم والإيهام" بأنه مدرج من قول رافع بن خديج راوي الخبر، وذكر ما حاصله أن أكثر الرواة عن سعيد ومسروق أوردوه على ظاهر الرفع، وأن أبا الأحوص قال في روايته عنه بعد قوله: "أو ظفر" : "قال رافع وسأحدثكم عن ذلك" ونسبت ذلك لرواية أبي داود وهو عجيب فإن أبا داود أخرجه عن مسدد وليس في شيء من نسخ السنن قوله: "قال رافع" وإنما فيه كما عند المصنف هنا بدونها، وشيخ أبي داود فيه مسدد هو شيخ البخاري فيه هنا، وقد أورده البخاري في الباب الذي بعد هذا بلفظ: "غير السن والظفر فإن السن عظم إلخ" وهو ظاهر جدا في أن الجميع مرفوع. قوله: "وقال طاوس وعكرمة في ذبيحة السارق: اطرحوه" وصله عبد الرزاق من حديثهما بلفظ: "إنهما سئلا عن ذلك فكرهاها ونهيا عنها" وتقدم بيان الحكم في ذلك في ذبيحة المرأة. ذكر المصنف حديث رافع بن خديج وقد تقدم شرحه مستوفي قبل.

(9/672)


37- باب إِذَا نَدَّ بَعِيرٌ لِقَوْمٍ فَرَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَأَرَادَ إِصْلاَحَهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ
لِخَبَرِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5544- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنْ الإِبِلِ قَالَ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ قَالَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَكُونُ فِي الْمَغَازِي وَالأَسْفَارِ فَنُرِيدُ أَنْ نَذْبَحَ فَلاَ تَكُونُ مُدًى قَالَ أَرِنْ مَا نَهَرَ أَوْ أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ غَيْرَ السِّنِّ وَالظُّفُرِ فَإِنَّ السِّنَّ عَظْمٌ وَالظُّفُرَ مُدَى الْحَبَشَةِ"
قوله: "باب إذا ند بعير لقوم فرماه بعضهم بسهم فقتله فأراد إصلاحهم فهو جائز" في رواية الكشميهني: "إصلاحه" ولكريمة: "صلاحه" بغير ألف بالإفراد أي البعير وضمير الجمع القوم. ذكر المصنف حديث رافع ابن خديج، وقد تقدم التنبيه عليه في الذي قبله، ومضى في "باب ذبيحة المرأة" بحث في خصوص هذه الترجمة، وقوله في هذه الرواية ما أنهر الدم أو نهر شك من الراوي والصواب "أنهر" بالهمز، وقد ألزمه الإسماعيلي التناقض في هذه الترجمة والتي قبلها. وأشار إلى عدم الفرق بين الصورتين، والجامع أن كلا منهما متعد بالتذكية، وأجيب بأن الذين ذبحوا في القصة الأولى ذبحوا ما لم يقسم ليختصوا به فعوقبوا بحرمانه إذ ذاك حتى يقسم، والذي رمى البعير أراد إبقاء منفعته لمالكه فافترقا. وقال ابن المنير: نبه بهذه الترجمة على أن ذبح غير المالك إذا كان بطريق التعدي كما في القصة الأولى فاسد، وأن ذبح غير المالك إذا كان بطريق الإصلاح للمالك خشية أن تفوت عليه المنفعة ليس بفاسد.

(9/673)


باب أكل المضطر
...
38- باب إِذَا أَكَلَ الْمُضْطَرُّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} وَقَالَ {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} وَقَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَنْ لاَ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فُصِّلَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلاَ {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلاَلًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}"
قوله: "باب إذا أكل المضطر" أي من الميتة، وكأنه أشار إلى الخلاف في ذلك وهو في موضعين: أحدهما

(9/673)


في الحالة التي يصح الوصف بالاضطرار فيها ليباح الأكل، والثاني في مقدار ما يؤكل، فأما الأول فهو أن يصل به الجوع إلى حد الهلاك أو إلى مرض يفضي إليه، هذا قول الجمهور، وعن بعض المالكية تحديد ذلك بثلاثة أيام، قال ابن أبي جمرة: الحكمة في ذلك أن في الميتة سمية شديدة فلو أكلها ابتداء لأهلكته، فشرع له أن يجوع ليصير في بدنه بالجوع سمية أشد من سمية الميتة فإذا أكل منها حينئذ لا يتضرر ا هـ، وهذا إن ثبت حسن بالغ في غاية الحسن، وأما الثاني فذكره في تفسير قوله تعالى :{ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} وقد فسره قتادة بالمتعدي وهو تفسير معنى. وقال غيره الإثم أن يأكل فوق سد الرمق، وقيل فوق العادة وهو الراجح لإطلاق الآية. ثم محل جواز الشبع أن لا يتوقع غير الميتة عن قرب، فإن توقع امتنع إن قوى على الجوع إلا أن يجده، وذكر إمام الحرمين أن المراد بالشبع ما ينتفي الجوع لا الامتلاء حتى لا يبقى لطعام آخر مساغ فإن ذلك حرام. واستشكل بما في حديث جابر في قصة العنبر حيث قال أبو عبيدة "وقد اضطررتم فكلوا، قال فأكلنا حتى سمنا" وقد تقدم البحث فيه مبسوطا. قوله: "لقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ - إلى قوله- فَلا إِثْمَ} كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة ما حذف، وقوله: {غَيْرَ بَاغٍ} أي في أكل الميتة، وجعل الجمهور من البغي العصيان فمنعوا العاصي بسفره أن يأكل الميتة وقالوا: طريقه أن يتوب ثم يأكل، وجوزه بعضهم مطلقا. قوله: "وقال {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} أي مجاعة {غير مُتَجَانِفٍ} أي مائل. قوله: "وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} زاد في رواية كريمة الآية التي بعدها إلى قوله: {مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وفيه نسخة "إلي بالمعتدين" وبه تظهر مناسبة ذكر ذلك هنا، وإطلاق الاضطرار هنا تمسك به من أجاز أكل الميتة للعاصي وحمل الجمهور المطلق على المقيد في الآيتين الأخيرتين. قوله: "وقوله جل وعلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} ساق في رواية كريمة إلى آخر الآية وهي قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وبذلك يظهر أيضا وجه المناسبة وهو قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ}. قوله: "وقال ابن عباس: مهراقا" أي فسر ابن عباس المسفوح بالمهراق، وهو موصول عند الطبراني من طريق علي بن أبي طلحة عنه. قوله: "وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} كذا ثبت هنا لكريمة والأصيلي وسقط للباقين، وساق في نسخة الصغاني إلى قوله: "خنزير" ثم قال إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال الكرماني وغيره: عقد البخاري هذه للترجمة ولم يذكر فيها حديثا إشارة إلى أن الذي ورد فيها ليس فيه شيء على شرطه، فاكتفى بما ساق فيها من الآيات، ويحتمل أن يكون بيض فانضم بعض ذلك إلى بعض عند تبيض الكتاب. قلت: والثاني أوجه، واللائق بهذا الباب على شرطه حديث جابر في قصة العنبر، فلعله قصد أن يذكر له طريقا أخرى.

(9/674)


الخاتمة
...
"خاتمة": اشتمل كتاب الذبائح والصيد من الأحاديث المرفوعة على ثلاثة وتسعين حديثا، المعلق منها أحد وعشرون حديثا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى تسعة وسبعون حديثا، والخالص أربعة عشر حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر في النهي عن أن تصبر البهيمة، وحديث ابن عباس فيه، وحديث عبد الله بن زيد في النهي عن المثلة، وحديث ابن عباس والحكم بن عمرو في الحمر الأهلية، وحديث ابن عمر في النهي عن ضرب الصورة. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أربعة وأربعون أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(9/674)


المجلد العاشر
كتاب الأضاحي
باب سنة الأضحية
...
المجلد العاشر
بسم الله الرحمن الرحيم
73 - كتاب الأضاحي
1 - باب سُنَّةِ الأُضْحِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ سُنَّةٌ وَمَعْرُوفٌ
5545- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ الإِيَامِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَقَدْ ذَبَحَ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً فَقَالَ اذْبَحْهَا وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" .
قَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ عَامِرٍ عَنْ الْبَرَاءِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ" .
5546- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ" .
قوله: "كتاب الأضاحي باب سنة الأضحية" كذا لأبي ذر والنسفي، ولغيرهما سنة الأضاحي، وهو جمع أضحية بضم الهمزة ويجوز كسرها ويجوز حذف الهمزة فتفتح الضاد والجمع ضحايا، وهي أضحاة، والجمع أضحى وبه سمي يوم الأضحى، وهو يذكر ويؤنث، وكأن تسميتها اشتقت من اسم الوقت الذي تشرع فيه، وكأنه ترجم بالسنة إشارة إلى مخالفة من قال بوجوبها، قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين، وهي عند الشافعية والجمهور سنة مؤكدة على الكفاية، وفي وجه للشافعية من فروض الكفاية، وعن أبي حنيفة تجب على المقيم الموسر، وعن مالك مثله في رواية لكن لم يقيد بالمقيم، ونقل عن الأوزاعي والليث مثله، وخالف أبو يوسف من الحنفية وأشهب من المالكية فوافقا الجمهور. وقال أحمد: يكره تركها مع القدرة، وعنه واجبة، وعن محمد بن الحسن هي سنة غير مرخص في تركها، قال الطحاوي وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدل على وجوبها اهـ. وأقرب ما يتمسك به للوجوب حديث أبي هريرة رفعه: " من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا" أخرجه ابن ماجه وأحمد ورجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب. قوله: "قال ابن عمر: هي سنة ومعروف" وصله حماد بن سلمة في مصنفه بسند جيد إلى ابن عمر، وللترمذي محسنا من طريق جبلة بن سحيم أن رجلا سأل ابن عمر عن الأضحية: أهي واجبة؟ فقال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده، قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم أن الأضحية ليست بواجبة، وكأنه فهم

(10/3)


من كون ابن عمر لم يقل في الجواب نعم أنه لا يقول بالوجوب، فإن الفعل المجرد لا يدل على ذلك، وكأنه أشار بقوله: "والمسلمون" إلى أنها ليست من الخصائص، وكان ابن عمر حريصا على اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك لم يصرح بعدم الوجوب، وقد احتج من قال بالوجوب بما ورد في حديث مخنف بن سليم رفعه: "على أهل كل بيت أضحية " أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي، ولا حجة فيه لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق، وقد ذكر معها العتيرة، ولبست بواجبة عند من قال بوجوب الأضحية. واستدل من قال بعدم الوجوب بحديث ابن عباس "كتب علي النحر ولم يكتب عليكم" وهو حديث ضعيف أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني والدار قطني وصححه الحاكم فذهل، وقد استوعبت طرقه ورجاله في "الخصائص" من تخريج أحاديث الرافعي، وسيأتي شيء من المباحث في وجوب الأضحية في الكلام على حديث البراء في حديث أبي بردة بن نيار بعد أبواب. ثم ذكر المصنف حديث البراء وأنس في أمر من ذبح قبل الصلاة بالإعادة، وسيأتي شرحهما مستوفى بعد أبواب. وقوله في حديث البراء "إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر " وقع في بعض الروايات "في يومنا هذا نصلي" بحذف "أن" وعليها شرح الكرماني فقال: هو مثل "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وهو على تنزيل الفعل منزلة المصدر، والمراد بالسنة هنا في الحديثين معا الطريقة لا السنة بالاصطلاح التي تقابل الوجوب، والطريقة أعم من أن تكون للوجوب أو للندب، فإذا لم يقم دليل على الوجوب بقي الندب وهو وجه إيرادها في هذه الترجمة. وقد استدل من قال بالوجوب بوقوع الأمر فيهما بالإعادة، وأجيب بأن المقصود بيان شرط الأضحية المشروعة، فهو كما لو قال لمن صلى راتبة الضحى مثلا قبل طلوع الشمس: إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك، وقوله في حديث البراء "وليس من النسك في شيء" النسك يطلق ويراد به الذبيحة ويستعمل في نوع خاص من الدماء المراقة، ويستعمل بمعنى العبادة وهو أعم يقال فلان ناسك أي عابد، وقد استعمل في حديث البراء بالمعنى الثالث وبالمعنى الأول أيضا في قوله في الطريق الأخرى "من نسك قبل الصلاة فلا نسك له" أي من ذبح قبل الصلاة فلا ذبح له أي لا يقع عن الأضحية، وقوله فيه: "وقال مطرف" يعني ابن طريف بالطاء المهملة وزن عظيم، وعامر هو الشعبي، وقد تقدمت رواية مطرف موصولة في العيدين وتأتي أيضا بعد ثمانية أبواب. قوله: "إسماعيل" هو ابن علية، وأيوب هو السختياني، ومحمد هو ابن سيرين، والإسناد كله بصريون.

(10/4)


2 - باب قِسْمَةِ الإِمَامِ الأَضَاحِيَّ بَيْنَ النَّاسِ
5547- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ بَعْجَةَ الْجُهَنِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: "قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ جَذَعَةٌ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَارَتْ لِي جَذَعَةٌ قَالَ ضَحِّ بِهَا" .
قوله: "باب قسمة الإمام الأضاحي بين الناس" أي بنفسه أو بأمره. قوله: "هشام" هو الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن بعجة" في رواية مسلم من طريق معاوية بن سلام عن يحيى أخبرني بعجة بن عبد الله، وهو بفتح الموحدة وسكون المهملة بعدها جيم، واسم جده بدر، وهو تابعي معروف ما له في البخاري إلا هذا الحديث، وقد أزالت رواية مسلم ما يخشى من تدليس يحيى بن أبي كثير. قوله: "عن عقبة" في رواية مسلم المذكورة

(10/4)


أن عقبة بن عامر أخبره. قوله: "قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ضحايا" سيأتي بعد أربعة أبواب أن عقبة هو الذي باشر القسمة، وتقدم في الشركة "باب وكالة الشريك للشريك في القسمة" وأورده فيه أيضا، وأشار إلى أن عقبة كان له في تلك الغنم نصيب باعتبار أنها كانت من الغنائم، وكذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم فيها نصيب، ومع هذا فوكله في قسمتها وقدمت له هناك توجيها آخر، وهذا التوجيه أقوى منه. قال ابن المنير يحتمل أن يكون المراد أنه أطلق عليها ضحايا باعتبار ما يئول إليه الأمر، ويحتمل أن يكون عينها للأضحية ثم قسمها بينهم ليحوز كل واحد نصيبه، فيؤخذ منه جواز قسمة لحم الأضحية بين الورثة ولا يكون ذلك بيعا، وهي مسألة خلاف للمالكية، قال: وما أرى البخاري مع دقة نظره قصد بالترجمة إلا هذا، كذا قال. قوله: "فصارت لعقبة" أي ابن عامر "جذعة" بفتح الجيم والذال المعجمة هو وصف لسن معين من بهيمة الأنعام، فمن الضأن ما أكمل السنة وهو قول الجمهور، وقيل دونها. ثم اختلف في تقديره فقيل ابن ستة أشهر وقيل ثمانية وقيل عشرة، وحكى الترمذي عن وكيع أنه ابن ستة أشهر أو سبعة أشهر. وعن ابن الأعرابي أن ابن الشابين يجذع لستة أشهر إلى سبعة وابن الهرمين يجذع لثمانية إلى عشرة، قال والضأن أسرع إجذاعا من المعز، وأما الجذع من المعز فهو ما دخل في السنة الثانية ومن البقر ما أكمل الثالثة ومن الإبل ما دخل في الخامسة، وسيأتي بيان المراد بها هنا قريبا، وأنها كانت من المعز بعد أربعة أبواب.

(10/5)


3 - باب الأُضْحِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ
5548- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَحَاضَتْ بِسَرِفَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ: مَا لَكِ أَنَفِسْتِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ" فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ مَا هَذَا قَالُوا ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ".
قوله: "باب الأضحية للمسافر والنساء" فيه إشارة إلى خلاف من قال إن المسافر لا أضحية عليه، وقد تقدم نقله في أول الباب، وإشارة إلى خلاف من قال إن النساء لا أضحية عليهن، ويحتمل أن يشير إلى خلاف من منع من مباشرتهن التضحية، فقد جاء عن مالك كراهة مباشرة المرأة الحائض للتضحية. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة، ولم يسمع مسدد من سفيان الثوري. قوله: "عن عبد الرحمن بن القاسم" في رواية علي بن عبد الله عن سفيان "سمعت عبد الرحمن بن القاسم" وتقدمت في كتاب الحيض. قوله: "بسرف" بفتح المهملة وكسر الراء مكان معروف خارج مكة. قوله: "أنفست؟" قيده الأصيلي وغيره بضم النون أي حضت، ويجوز الفتح. وقيل هو في الحيض بالفتح فقط وفي النفاس بالفتح والضم. قوله: "قالت فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر" تقدم في الحج من وجه آخر عن عائشة أخصر من هذا، وتقدم شرحه مبينا هناك. وقوله: "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر" ظاهر في أن الذبح المذكور كان على سبيل الأضحية، وحاول ابن التين تأويله ليوافق مذهبه فقال: المراد أنه ذبحها وقت ذبح الأضحية وهو ضحى يوم النحر، قال: وإن حمل على ظاهره فيكون تطوعا لا على أنها سنة الأضحية، كذا

(10/5)


قال ولا يخفى بعده، واستدل به الجمهور على أن ضحية الرجل تجزي عنه وعن أهل بيته، وخالف في ذلك الحنفية، وادعى الطحاوي أنه مخصوص أو منسوخ ولم يأت لذلك بدليل، قال القرطبي: لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كل واحدة من نسائه بأضحية مع تكرار سني الضحايا ومع تعددهن، والعادة تقضي بنقل ذلك لو وقع كما نقل غير ذلك من الجزئيات، ويؤيده ما أخرجه مالك وابن ماجه والترمذي وصححه من طريق عطاء بن يسار "سألت أبا أيوب: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال؛ كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، حتى تناهى الناس كما ترى".

(10/6)


4 - باب مَا يُشْتَهَى مِنْ اللَّحْمِ يَوْمَ النَّحْرِ
5549- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ: "مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيُعِدْ" فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ وَذَكَرَ جِيرَانَهُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلاَ أَدْرِي بَلَغَتْ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لاَ ثُمَّ انْكَفَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَبْشَيْنِ فَذَبَحَهُمَا وَقَامَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَتَوَزَّعُوهَا أَوْ قَالَ فَتَجَزَّعُوهَا".
قوله: "باب ما يشتهى من اللحم يوم النحر" أي اتباعا للعادة بالالتذاذ بأكل اللحم يوم العيد. وقال الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} . قوله: "حدثنا صدقة" هو ابن الفضل، وابن علية هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم. قوله: "فقام رجل" هو أبو بردة بن نيار كما في حديث البراء. قوله: "إن هذا يوم يشتهى فيه اللحم" في رواية داود بن أبي هند الشعبي عند مسلم: "فقال يا رسول الله، إن هذا يوم اللحم فيه مكروه" وفي لفظ له "مقروم" وهو بسكون القاف، قال عياض رويناه في مسلم من طريق الفارسي والسجزي "مكروه" ومن طريق العذري "مقروم" وقد صوب بعضهم هذه الرواية الثانية وقال معناه يشتهى فيه اللحم يقال قرمت إلى اللحم وقرمته إذا اشتهيته فهو موافق للرواية الأخرى "إن هذا يوم يشتهى فيه اللحم" قال عياض: وقال بعض شيوخنا صواب الرواية: "اللحم فيه مكروه" بفتح الحاء وهو اشتهاء اللحم والمعنى ترك الذبح والتضحية وإبقاء أهله فيه بلا لحم حتى يشتهوه مكروه، قال وقال لي الأستاذ أبو عبد الله بن سليمان معناه ذبح ما لا يجزي في الأضحية مما هو لحم اهـ، وبالغ ابن العربي فقال: الرواية بسكون الحاء هنا غلط وإنما هو اللحم بالتحريك، يقال لحم الرجل بكسر الحاء يلحم بفتحها إذا كان يشتهي اللحم، وأما القرطبي في "المفهم" فقال تكلف بعضهم ما لا يصح رواية أي اللحم بالتحريك ولا معنى وهو قول الآخر معنى المكروه أنه مخالف للسنة قال وهو كلام من لم يتأمل سياق الحديث فإن هذا التأويل لا يلائمه، إذ لا يستقيم أن يقول إن هذا اليوم اللحم فيه مخالف للسنة وإني عجلت لأطعم أهلي، قال: وأقرب ما يتكلف لهذه الرواية أن معناه اللحم فيه مكروه التأخير فحذف لفظ التأخير لدلالة قوله عجلت. وقال النووي: ذكر الحافظ أبو موسى أن معناه هذا يوم طلب اللحم فيه مكروه شاق قال: وهو معنى حسن قلت: يعني طلبه من الناس كالصديق والجار، فاختار هو أن لا يحتاج أهله إلى ذلك فأغناهم بما ذبحه عن الطلب. ووقع

(10/6)


في رواية منصور عن الشعبي كما مضى في العيدين "وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، فأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي" ويظهر لي أن بهذه الرواية يحصل الجمع بين الروايتين المتقدمتين، وأن وصفه اللحم بكونه مشتهى وبكونه مكروها لا تناقض فيه وإنما هو باعتبارين: فمن حيث أن العادة جرت فيه بالذبائح فالنفس تتشوق له يكون مشتهى، ومن حيث توارد الجميع عليه حتى يكثر يصير ممولا فأطلقت عليه الكراهة لذلك، فحيث وصفه بكونه مشتهى أراد ابتداء حاله، وحيث وصفه بكونه مكروها أراد انتهاءه، ومن ثم استعجل بالذبح ليفوز بتحصيل الصفة الأولى عند أهله وجيرانه. ووقع في رواية فراس عن الشعبي عند مسلم: "فقال خالي: يا رسول الله قد نكست عن ابن لي" وقد استشكل هذا، وظهر لي أن مراده أنه ضحى لأجله للمعنى الذي ذكره في أهله وجيرانه، فخص ولده بالذكر أنه أخص بذلك عنده حتى يستغني ولده بما عنده عن التشوف إلى ما عند غيره. قوله: "وذكر جيرانه" في رواية عاصم عند مسلم وإني عجلت فيه نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري. قوله: "فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا" قد وقع في حديث البراء اختصاصه بذلك كما سيأتي بعد أبواب، ويأتي البحث فيه، كأن أنسا لم يسمع ذلك، وقد روى ابن عون عن الشعبي حديث البراء وعن ابن سيرين حديث أنس فكان إذا حدث حديث البراء يقف عند قوله: "ولن تجزي عن أحد بعدك" ويحدث بقول أنس "لا أدري أبلغت الرخصة غيره أم لا" ولعله استشكل الخصوصية بذلك لما جاء من ثبوت ذلك لغير أبي بردة كما سيأتي بيانه قريبا. قوله: "ثم انكفأ" مهموز أي مال يقال كفأت الإناء إذا أملته، والمراد أنه رجع عن مكان الخطبة إلى مكان الذبح. قوله: "وقام الناس" كذا هنا، وفي الرواية الآتية في "باب من ذبح قبل الصلاة أعاد" فتمسك به ابن التين في أن من ذبح قبل الإمام لا يجزئه، وسيأتي البحث فيه. قوله: "إلى غنيمة" بغين معجمة ونون مصغر "فتوزعوها أو قال فتجزعوها" شك من الراوي، والأول بالزاي من التوزيع وهو التفرقة أي تفرقوها، والثاني بالجيم والزاي أيضا من الجزع وهو القطع أي اقتسموها حصصا، وليس المراد أنهم اقتسموها بعد الذبح فأخذ كل واحد قطعة من اللحم وإنما المراد أخذ حصة من الغنم، والقطعة تطلق على الحصة من كل شيء، فبهذا التقرير يكون المعنى واحدا وإن كان ظاهره في الأصل الاختلاف.

(10/7)


5 - باب مَنْ قَالَ الأَضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ
5550- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ

(10/7)


قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلاَلاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ أَلاَ لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ وَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ صَدَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟ مَرَّتَيْنِ" .
قوله: "باب من قال الأضحى يوم النحر" قال ابن المنير أخذه من إضافة اليوم إلى النحر حيث قال: "أليس يوم النحر" واللام للجنس فلا يبقى نحر إلا في ذلك اليوم، قال والجواب على مذهب الجماعة أن المراد النحر الكامل واللام تستعمل كثيرا للكمال كقوله: "الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". قلت: واختصاص النحر باليوم العاشر قول حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن سيرين وداود الظاهري، وعن سعيد بن جبير وأبي الشعثاء مثله إلا في منى فيجوز ثلاثة أيام، ويمكن أن يتمسك لذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه: "أمرت بيوم الأضحى عيدا جعله الله لهذه الأمة" الحديث صححه ابن حبان. وقال القرطبي: التمسك بإضافة النحر إلى اليوم الأول ضعيف مع قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ويحتمل أن يكون أراد أن أيام النحر الأربعة أو الثلاثة لكل واحد منها اسم يخصه، فالأضحى هو اليوم العاشر والذي يليه يوم القر والذي يليه يوم النفر الأول والرابع يوم النفر الثاني. وقال ابن التين: مراده أنه يوم تنحر فيه الأضاحي في جميع الأقطار، وقيل مراده لا ذبح إلا فيه خاصة، يعني كما تقدم نقله عمن قال به. وزاد مالك: ويذبح أيضا في يومين بعده. وزاد الشافعي اليوم الرابع، قال وقيل يذبح عشرة أيام ولم يعزه لقائل، وقيل إلى آخر الشهر وهو عن عمر بن عبد العزيز وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وغيرهم. وقال به ابن حزم متمسكا بعدم ورود نص بالتقييد. وأخرج ما رواه ابن أبي شيبة من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار قالا عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، قال: وهذا سند صحيح إليهما، لكنه مرسل فيلزم من يحتج بالمرسل أن يقول به. قلت: وسيأتي عن أبي أمامة ابن سهل في الباب الذي يليه شيء من ذلك، وبمثل قول مالك قال الثوري وأبو حنيفة وأحمد، وبمثل قول الشافعي قال الأوزاعي. قال ابن بطال تبعا للطحاوي: ولم ينقل عن الصحابة غير هذين القولين، وعن قتادة ستة أيام بعد العاشر. وحجة الجمهور حيث جبير بن مطعم رفعه: "فجاج منى منحر، وفي كل أيام التشريق ذبح " أخرجه أحمد لكن في سنده انقطاع، ووصله الدار قطني ورجاله ثقات، واتفقوا على أنها تشرع ليلا كما تشرع نهارا إلا رواية عن مالك وعن أحمد أيضا. حديث محمد - وهو ابن سيرين - عن ابن أبي بكرة وهو عبد الرحمن وقد تقدم شرحه في العلم، وفي "باب الخطبة أيام منى" من كتاب الحج شيء منه، وكذا في تفسير براءة. قوله: "ثلاث متواليات إلى قوله ورجب مضر" هذا هو الصواب وهو عدها من سنتين، ومنهم من عدها سنة واحدة فبدأ بالمحرم لكن الأول أليق ببيان المتوالية. وشذ من أسقط رجبا وأبدله بشوال زاعما أنه بذلك تتوالى الأشهر الحرم وأن ذلك المراد بقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} حكاه ابن التين. قوله: "قال وأحسبه" هو ابن سيرين كأنه كان يشك في هذه اللفظة وقد ثبتت في رواية غيره. وكذا قوله: "فكان محمد إذا ذكره" في رواية الكشميهني: "ذكر". قوله: "أن يكون أوعى له من بعض من سمعه" كذا للأكثر بالواو أي أكثر وعيا له وتفهما فيه، ووقع في رواية الأصيلي

(10/8)


والمستملي: "أرعى" بالراء من الرعاية ورجحها بعض الشراح. وقال صاحب "المطالع": هي وهم، وقوله: "قال ألا هل بلغت" القائل هو النبي صلى الله عليه وسلم وهو بقية الحديث، ولكن الراوي فصل بين قوله: "بعض من سمعه" وبين قوله: "ألا هل بلغت" بكلام ابن سيرين المذكور.

(10/9)


6 - باب الأَضْحَى وَالْمَنْحَرِ بِالْمُصَلَّى
5551- حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا عبيد الله عن نافع قال: "كان عبد الله ينحر في المنحر". قال عبيد الله: يعني منحر النبي صلى الله عليه وسلم.
5552- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن كثير بن فرقد عن نافع أن بن عمر رضي الله عنهما أخبره قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى".
قوله: "باب الأضحى والنحر بالمصلى" قال ابن بطال: هو سنة للإمام خاصة عند مالك، قال مالك فيما رواه ابن وهب: إنما يفعل ذلك لئلا يذبح أحد قبله، زاد المهلب: وليذبحوا بعده على يقين، وليتعلموا منه صفة الذبح. وذكر فيه المؤلف حديث ابن عمر من وجهين: أحدهما موقوف، والثاني مرفوع "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى" وهو اختلاف على نافع، وقيل بل المرفوع يدل على الموقوف لأن قوله في الموقوف كان في منحر النبي صلى الله عليه وسلم يريد به المصلى بدلالة الحديث المرفوع المصرح بذلك. وقال ابن التين: هو مذهب مالك أن الإمام يبرز أضحيته للمصلى فيذبح هناك، وبالغ بعض أصحابه وهو أبو مصعب فقال: من لم يفعل ذلك لم يؤتم به. وقال ابن العربي: قال أبو حنيفة ومالك لا يذبح حتى يذبح الإمام إن كان ممن يذبح، قال ولم أر له دليلا.

(10/9)


7 - باب أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ. وَيُذْكَرُ سَمِينَيْنِ
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ قَالَ: "كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ".
5553- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ وَأَنَا أُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ".
[الحديث 5553 – أطرافه في: 5554، 5558، 5564، 5565، 7399]
5554- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ".
تَابَعَهُ وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَحَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ.
5555- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ غَنَماً يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "ضَحِّ به أَنْتَ" .

(10/9)


8 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بُرْدَةَ: " ضَحِّ بِالْجَذَعِ مِنْ الْمَعَزِ وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ"
5556- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ عَنْ عَامِرٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عِنْدِي دَاجِناً جَذَعَةً مِنْ الْمَعَزِ قَالَ اذْبَحْهَا وَلَنْ تَصْلُحَ لِغَيْرِكَ ثُمَّ قَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ".
تَابَعَهُ عُبَيْدَةُ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَتَابَعَهُ وَكِيعٌ عَنْ حُرَيْثٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَقَالَ عَاصِمٌ وَدَاوُدُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عِنْدِي عَنَاقُ لَبَنٍ وَقَالَ زُبَيْدٌ وَفِرَاسٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ "عِنْدِي جَذَعَةٌ" وَقَالَ أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنَاقٌ جَذَعَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: "عَنَاقٌ جَذَعٌ عَنَاقُ لَبَنٍ".
5557- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "ذَبَحَ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَبْدِلْهَا قَالَ لَيْسَ عِنْدِي إِلاَّ جَذَعَةٌ قَالَ شُعْبَةُ وَأَحْسِبُهُ

(10/12)


قَالَ هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ قَالَ اجْعَلْهَا مَكَانَهَا وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" .
وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ "عَنَاقٌ جَذَعَةٌ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة ضح بالجذع من المعز، ولن تجزي عن أحد بعدك" أشار بذلك إلى أن الضمير في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية التي ساقها "اذبحها" للجذعة التي تقدمت في قول الصحابي "إن عندي داجنا جذعة من المعز". قوله: "حدثنا مطرف" هو ابن طريف بمهملة وزن عقيل، وعامر هو الشعبي. قوله: "ضحى خال لي يقال له أبو بردة" في رواية زبيد عن الشعبي في أول الأضاحي "أبو بردة بن نيار" وهو بكسر النون وتخفيف الياء المثناة من تحت وآخره راء واسمه هانئ واسم جده عمرو بن عبيد وهو بلوي من حلفاء الأنصار، وقد قيل: إن اسمه الحارث بن عمرو وقيل مالك بن هبيرة والأول هو الأصح. وأخرج ابن منده من طريق جابر الجعفي عن الشعبي عن البراء قال: "كان اسم خالي قليلا فسماه النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا. وقال: يا كثير إنما نسكنا بعد صلاتنا" ثم ذكر حديث الباب بطوله، وجابر ضعيف وأبو بردة ممن شهد العقبة وبدرا والمشاهد وعاش إلى سنة اثنتين وقيل خمس وأربعين، وله في البخاري حديث سيأتي في الحدود. قوله: "شاتك شاة لحم" أي ليست أضحية بل هو لحم ينتفع به كما وقع في رواة زبيد "فإنما هو لحم يقدمه لأهله" وسيأتي في "باب الذبح بعد الصلاة" وفي رواية فراس عند مسلم قال: "ذاك شيء عجلته لأهلك" وقد استشكلت الإضافة في قوله شاة لحم، وذلك أن الإضافة قسمان: معنوية ولفظية، فالمعنوية إما مقدرة بمن كخاتم حديد أو باللام كغلام زيد أو بفي كضرب اليوم معناه ضرب في اليوم. وأما اللفظية فهي صفة مضافة إلى معمولها كضارب زيد وحسن الوجه، ولا يصح شيء من الأقسام الخمسة في شاة لحم، قال الفاكهي: والذي يظهر لي أن أبا بردة لما اعتقد أن شاته شاة أضحية أوقع صلى الله عليه وسلم في الجواب قوله شاة لحم موقع قوله شاة غير أضحية. قوله: "إن عندي داجنا" الداجن التي تألف البيوت وتستأنس وليس لها سن معين، ولما صار هذا الاسم علما على ما يألف البيوت اضمحل الوصف عنه فاستوى فيه المذكر والمؤنث. والجذعة تقدم بيانها، وقد بين في هذه الرواية أنها من المعز، ووقع في الرواية الأخرى كما سيأتي بيانه "فإن عندنا عناقا" وفي رواية أخرى "عناق لبن" والعناق بفتح العين وتخفيف النون الأنثى من ولد المعز عند أهل اللغة، ولم يصب الداودي في زعمه أن العناق هي التي استحقت أن تحمل وأنها تطلق على الذكر والأنثى وأنه بين بقوله: "لبن" أنها أنثى، قال ابن التين: غلط في نقل اللغة وفي تأويل الحديث، فإن معنى "عناق لبن" أنها صغيرة سن ترضع أمها. ووقع عند الطبراني من طريق سهل بن أبي حثمة "أن أبا بردة ذبح ذبيحته بسحر، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما الأضحية ما ذبح بعد الصلاة، اذهب فضح، فقال: ما عندي إلا جذعة من المعز" الحديث. قلت: وسيأتي بيان ذلك عند ذكر التعاليق التي ذكرها المصنف عقب هذه الرواية، وزاد في رواية أخرى "هي أحب إلي من شاتين" وفي رواية لمسلم: "من شاتي لحم" والمعنى أنها أطيب لحما وأنفع للآكلين لسمنها ونفاستها. وقد استشكل هذا بما ذكر أن عتق نفسين أفضل من عتق نفس واحدة ولو كانت أنفس منهما، وأجيب بالفرق بين الأضحية والعتق أن الأضحية يطلب فيها كثرة اللحم فتكون الواحدة السمينة أولى من الهزيلتين. والعتق يطلب فيه التقرب إلى الله بفك الرقبة فيكون عتق الاثنين أولى من عتق الواحدة، نعم إن عرض للواحد وصف يقتضي رفعته على غيره

(10/13)


- كالعلم وأنواع الفضل المتعدي - فقد جزم بعض المحققين بأنه أولى لعموم نفعه للمسلمين. ووقع في الرواية الأخرى التي في أواخر الباب وهي "خير من مسنة" وحكى ابن التين عن الداودي أن المسنة التي سقطت أسنانها للبدل. وقال أهل اللغة المسن الثني الذي يلقي سنه، ويكون في ذات الخف في السنة السادسة وفي ذات الظلف والحافر في السنة الثالثة. وقال ابن فارس: إذا دخل ولد الشاة في الثالثة فهو ثني ومسن. قوله: "قال اذبحها ولا تصلح لغيرك" في رواية فراس الآتية في "باب من ذبح قبل الإمام". "أأذبحها؟ قال: نعم، ثم لا تجزي عن أحد بعدك" ولمسلم من هذا الوجه "ولن تجزي الخ" وكذا في رواية أبي جحيفة عن البراء كما في أواخر هذا الباب: "ولن تجزي عن أحد بعدك" وفي حديث سهل بن أبي حثمة "وليست فيها رخصة لأحد بعدك" وقوله: "تجزي" بفتح أوله غير مهموز أي تقضي، يقال جزا عني فلان كذا أي قضى، ومنه {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أي لا تقضي عنها، قال ابن بري: الفقهاء يقولون لا تجزئ بالضم والهمز في موضع لا تقضي والصواب بالفتح وترك الهمز، قال: لكن يجوز الضم والهمز بمعنى الكفاية، يقال أجزأ عنك. وقال صاحب "الأساس": بنو تميم يقولون البدنة تجزي عن سبعة بضم أوله، وأهل الحجاز تجزي بفتح أوله، وبهما قرئ {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} وفي هذا تعقب على من نقل الاتفاق على منع ضم أوله. وفي هذا الحديث تخصيص أبي بردة بإجزاء الجذع من المعز في الأضحية، لكن وقع في عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة، ففي حديث عقبة بن عامر كما تقدم قريبا "ولا رخصة فيها لأحد بعدك" قال البيهقي: إن كانت هذه الزيادة محفوظة كان هذا رخصة لعقبة كما رخص لأبي بردة. قلت: وفي هذا الجمع نظر، لأن في كل منهما صيغة عموم، فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني، وأقرب ما يقال فيه: إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحا، وقد انفصل ابن التين - وتبعه القرطبي - عن هذا الإشكال باحتمال أن يكون العتود كان كبير السن بحيث يجزي، لكنه قال ذلك بناء على أن الزيادة التي في آخره لم تقع له، ولا يتم مراده مع وجودها مع مصادمته لقول أهل اللغة في العتود، وتمسك بعض المتأخرين بكلام ابن التين فضعف الزيادة، وليس بجيد، فإنها خارجة من مخرج الصحيح، فإنها عند البيهقي من طريق عبد الله البوشنجي أحد الأئمة الكبار في الحفظ والفقه وسائر فنون العلم، رواها عن يحيى بن بكير عن الليث بالسند الذي ساقه البخاري، ولكني رأيت الحديث في "المتفق للجوزقي" من طريق عبيد بن عبد الواحد ومن طريق أحمد بن إبراهيم بن ملحان كلاهما عن يحيى بن بكير وليست الزيادة فيه، فهذا هو السر في قول البيهقي إن كانت محفوظة، فكأنه لما رأى التفرد خشي أن يكون دخل على راويها حديث في حديث، وقد وقع في كلام بعضهم أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة أو خمسة، واستشكل الجمع وليس بمشكل، فإن الأحاديث التي وردت في ذلك ليس فيها التصريح بالنفي إلا في قصة أبي بردة في الصحيحين وفي قصة عقبة بن عامر في البيهقي، وأما عدا ذلك فقد أخرج أبو داود وأحمد وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودا جذعا فقال ضح به، فقلت إنه جذع أفأضحي به؟ قال نعم ضح به، فضحيت به" لفظ أحمد، وفي صحيح ابن حبان وابن ماجه من طريق عباد بن تميم "عن عويمر بن أشقر أنه ذبح أضحيته قبل أن يغدو يوم الأضحى، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد أضحية أخرى" وفي الطبراني الأوسط من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحي به" وأخرجه الحاكم

(10/14)


من حديث عائشة وفي سنده ضعف، ولأبي يعلى والحاكم من حديث أبي هريرة "أن رجلا قال: يا رسول الله هذا جذع من الضأن مهزول وهذا جذع من المعز سمين وهو خيرهما أفأضحي به؟ قال: ضح به فإن الله الخير " وفي سنده ضعف. والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث وبين حديثي أبي بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر ثم قرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزي، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك، وإنما قلت ذلك لأن بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا عقبة وأبا بردة في ذلك، والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير، ومنهم من زاد فيهم عويمر بن أشقر وليس في حديثه إلا مطلق الإعادة لكونه ذبح قبل الصلاة، وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي زيد الأنصاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: اذبحها ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك" فهذا يحمل على أنه أبو بردة بن نيار فإنه من الأنصار، وكذا ما أخرجه أبو يعلى والطبراني من حديث أبي جحيفة "أن رجلا ذبح قبل الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجزي عنك، قال إن عندي جذعة، فقال: تجزي عنك ولا تجزي بعد" فلم يثبت الإجزاء لأحد ونفيه عن الغير إلا لأبي بردة وعقبة، وإن تعذر الجمع الذي قدمته فحديث أبي بردة أصح مخرجا والله أعلم. قال الفاكهي: ينبغي النظر في اختصاص أبي بردة بهذا الحكم وكشف السر فيه، وأجيب بأن الماوردي قال: إن فيه وجهين أحدهما أن ذلك كان قبل استقرار الشرع فاستثني، والثاني أنه علم من طاعته وخلوص نيته ما ميزه عمن سواه. قلت: وفي الأول نظر، لأنه لو كان سابقا لامتنع وقوع ذلك لغيره بعد التصريح بعدم الإجزاء لغيره، والفرض ثبوت الإجزاء لعدد غيره كما تقدم. وفي الحديث أن الجذع من المعز لا يجزي وهو قول الجمهور، وعن عطاء وصاحبه الأوزاعي يجوز مطلقا، وهو وجه لبعض الشافعية حكاه الرافعي. وقال النووي: وهو شاذ أو غلط، وأغرب عياض فحكى الإجماع على عدم الإجزاء، قيل والإجزاء مصادر للنص ولكن يحتمل أن يكون قائله قيد ذلك بمن لم يجد غيره، ويكون معنى نفي الإجزاء عن غير من أذن له في ذلك محمولا على من وجد، وأما الجذع من الضأن فقال الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لكن حكى غيره عن ابن عمر والزهري أن الجذع لا يجزي مطلقا سواء كان من الضأن أم من غيره، وممن حكاه عن ابن عمر ابن المنذر في "الأشراف" وبه قال ابن حزم وعزاه لجماعة من السلف وأطنب في الرد على من أجازه، ويحتمل أن يكون ذلك أيضا مقيدا بمن لم يجد، وقد صح فيه حديث جابر رفعه: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم لكن نقل النووي عن الجمهور أنهم حملوه على الأفضل، والتقدير يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فاذبحوا جذعة من الضأن. قال: وليس فيه تصريح بمنع الجذعة من الضأن وأنها لا تجزي، قال: وقد أجمعت الأمة على أن الحديث ليس على ظاهره، لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويله. قلت: ويدل للجمهور الأحاديث الماضية قريبا، وكذا حديث أم هلال بنت هلال عن أبيها رفعه: "يجوز الجذع من الضأن أضحية" أخرجه ابن ماجه، وحديث رجل من بني سليم يقال له مجاشع "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الجذع يوفي ما يوفي منه الثني" أخرجه أبو داود وابن ماجه، وأخرجه النسائي من وجه آخر، لكن لم يسم الصحابي، بل وقع عنده أنه رجل من مزينة، وحديث معاذ بن عبد الله بن حبيب عن عقبة بن عامر "ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجذع من الضأن" أخرجه النسائي بسند قوي، وحديث

(10/15)


أبي هريرة رفعه: "نعمت الأضحية الجذعة من الضأن" أخرجه الترمذي وفي سنده ضعف. واختلف القائلون بإجزاء الجذع من الضأن - وهم الجمهور - في سنه على آراء: أحدها أنه ما أكمل سنة ودخل في الثانية وهو الأصح عند الشافعية وهو الأشهر عند أهل اللغة، ثانيها نصف قول الحنفية والحنابلة، ثالثها سبعة أشهر وحكاه صاحب "الهداية" من الحنفية عن الزعفراني، رابعها ستة أو سبعة حكاه الترمذي عن وكيع، خامسها التفرقة بين ما تولد بين شابين فيكون له نصف سنة أو بين هرمين فيكون ابن ثمانية، سادسها ابن عشر، سابعها لا يجزي حتى يكون عظيما حكاه ابن العربي وقال: إنه مذهب باطل، كذا قال، وقد قال صاحب "الهداية" إنه إذا كانت عظيمة بحيث لو اختلطت بالثنيات اشتبهت على الناظر من بعيد أجزأت. وقال العبادي من الشافعية: لو أجذع قبل السنة أي سقطت أسنانه أجزأ كما لو تمت السنة قبل أن يجذع ويكون ذلك كالبلوغ إما بالسن وإما بالاحتلام، وهكذا قال البغوي: الجذع ما استكمل السنة أو جذع قبلها، والله أعلم. قوله: "ثم قال من ذبح قبل الصلاة" أي صلاة العيد "فإنما يذبح لنفسه" أي وليس أضحية "ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه" أي عبادته "وأصاب سنة المسلمين" أي طريقتهم. هكذا وقع في هذه الرواية أن هذا الكلام وقع بعد قصة أبي بردة بن نيار، والذي في معظم الروايات كما سيأتي قريبا من رواية زبيد عن الشعبي أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم وقع في الخطبة بعد الصلاة وأن خطاب أبي بردة بما وقع له كان قبل ذلك وهو المعتمد ولفظه: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا، فقال أبو بردة: يا رسول الله ذبحت قبل أن أصلي" وتقدم في العيدين من طريق منصور عن الشعبي عن البراء قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فإنه لا نسك له؟ فقال أبو بردة" فذكر الحديث، وسيأتي بيان الحكم في هذا قريبا في "باب من ذبح قبل الصلاة أعاد" إن شاء الله تعالى. واستدل به على وجوب الأضحية على من التزم الأضحية فأفسد ما يضحي به، ورده الطحاوي بأنه لو كان كذلك لتعرض إلى قيمة الأولى ليلزم بمثلها، فلما لم يعتبر ذلك دل على أن الأمر بالإعادة كان على جهة الندب، وفيه بيان ما يجري في الأضحية لا على وجوب الإعادة. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن المرجع في الأحكام إنما هو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد يخص بعض أمته بحكم ويمنع غيره منه ولو كان بغير عذر، وأن خطابه للواحد يعم جميع المكلفين حتى يظهر دليل الخصوصية، لأن السياق يشعر بأن قوله لأبي بردة ضح به أي بالجذع، ولو كان يفهم منه تخصيصه بذلك لما احتاج إلى أن يقول له "ولن تجزي عن أحد بعدك". ويحتمل أن تكون فائدة ذلك قطع إلحاق غيره به في الحكم المذكور لا أن ذلك مأخوذ من مجرد اللفظ وهو قوي. واستدل بقوله: "اذبح مكانها أخرى" وفي لفظ: "أعد نسكا" وفي لفظ: "ضح بها" وغبر ذلك من الألفاظ المصرحة بالأمر بالأضحية على وجوب الأضحية، قال القرطبي في "المفهم": ولا حجة في شيء من ذلك، وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية لمن أراد أن يفعلها أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأ أو جهلا، فبين له وجه تدارك ما فرط منه، وهذا معنى قوله: "لا تجزي عن أحد بعدك" أي لا يحصل له مقصود القربة ولا الثواب، كما يقال في صلاة النفل: لا تجزي إلا بطهارة وستر عورة، قال: وقد استدل بعضهم للوجوب بأن الأضحية من شريعة إبراهيم الخليل وقد أمرنا باتباعه، ولا حجة فيه لأنا نقول بموجبه، ويلزمهم الدليل على أنها كانت في شريعة إبراهيم واجبة ولا سبيل إلى

(10/16)


علم ذلك، ولا دلالة في قصة الذبيح للخصوصية التي فيها، والله أعلم. وفيه أن الإمام يعلم الناس في خطبة العيد أحكام النحر. وفيه جواز الاكتفاء في الأضحية بالشاة الواحدة عن الرجل وعن أهل بيته، وبه قال الجمهور، وقد تقدمت الإشارة إليه قبل، وعن أبي حنيفة والثوري: يكره. وقال الخطابي: لا يجوز أن يضحى بشاة واحدة عن اثنين، وادعى نسخ ما دل عليه حديث عائشة الآتي في "باب من ذبح ضحية غيره"، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه أن العمل وإن وافق نية حسنة لم يصح إلا إذا وقع على وفق الشرع. وفيه جواز أكل اللحم يوم العيد من غير لحم الأضحية لقوله: "إنما هو لحم قدمه لأهله" . وفيه كرم الرب سبحانه وتعالى لكونه شرع لعبيده الأضحية مع ما لهم فيها من الشهوة بالأكل والادخار ومع ذلك فأثبت لهم الأجر في الذبح، ثم من تصدق أثيب وإلا لم يأثم. قوله: "تابعه عبيدة عن الشعبي وإبراهيم، وتابعه وكيع عن حريث عن الشعبي" قلت: أما عبيدة فهو بصيغة التصغير وهو ابن معتب بضم أوله وفتح المهملة وتشديد المثناة وكسرها بعدها موحدة الضبي، وروايته عن الشعبي يعني عن البراء بهذه القصة، وأما قوله: "وإبراهيم" فيعني النخعي، وهو من طريق إبراهيم منقطع، وليس لعبيدة في البخاري سوى هذا الموضع الواحد، وأما متابعة حريث وهو بصيغة التصغير وهو ابن أبي مطر واسمه عمرو الأسدي الكوفي وما له أيضا في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وصله أبو الشيخ في كتاب الأضاحي من طريق سهل بن عثمان العسكري عن وكيع عن حريث عن الشعبي عن البراء " أن خاله سأل " فذكر الحديث وفيه: "عندي جذعة من المعز أوفى منها" وفي هذا تعقب على الدار قطني في "الأفراد" حيث زعم أن عبيد الله بن موسى تفرد بهذا عن حريث وساقه من طريقه بلفظ: "قال: فعندي جذعة معز سمينة". قوله: "وقال عاصم وداود عن الشعبي عندي عناق لبن" أما عاصم فهو ابن سليمان الأحول، وقد وصله مسلم من طريق عبد الواحد بن زياد عنه عن الشعبي عن البراء بلفظ: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم نحر فقال: لا يضحين أحد حتى يصلي. فقال رجل: عندي عناق لبن - وقال في آخره - ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك". وأما داود فهو ابن أبي هند فوصله مسلم أيضا من طريق هشيم عنه عن الشعبي عن البراء بلفظ: "إن خاله أبا بردة بن نيار ذبح قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث وفيه - لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري، فقال: أعد نسكا. فقال: إن عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم، قال: هي خير نسيكتيك، ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك" . قوله: "وقال زبيد وفراس عن الشعبي: عندي جذعة" أما رواية زبيد وهو بالزاي ثم الموحدة مصغر فوصلها المؤلف في أول الأضاحي كذلك، وأما رواية فراس وهو بكسر الفاء وتخفيف الراء وآخره مهملة ابن يحيى فوصلها أيضا المؤلف في "باب من ذبح قبل الصلاة أعاد". قوله: "وقال أبو الأحوص حدثنا منصور عناق جذعة" هو بالتنوين فيهما، ورواية منصور هذه وهو ابن المعتمر وصلها المؤلف من الوجه المذكور عنه عن الشعبي عن البراء في العيدين. قوله: "وقال ابن عون" هو عبد الله "عناق جذع، عناق لبن" يعني أن في روايته عن الشعبي عن البراء باللفظين جميعا لفظ عاصم ومن تابعه ولفظ منصور ومن تابعه، وقد وصل المؤلف رواية ابن عون في كتاب الأيمان والنذور من طريق معاذ عن ابن عون باللفظ المذكور. قوله: "عن سلمة" هو ابن كهيل وصرح أحمد به في روايته عن محمد بن جعفر بهذا الإسناد، وأبو جحيفة هو الصحابي المشهور. قوله: "ذبح أبو بردة" هو ابن نيار الماضي ذكره. قوله: "أبدلها" بموحدة وفتح أوله، وقد تقدم بيانه في قوله: " اذبح مكانها أخرى" . قوله: "قال شعبة وأحسبه قال هي

(10/17)


خير من مسنة" في رواية أبي عامر العقدي عن شعبة عند مسلم: "هي خير من مسنة" ولم يشك. قوله: "اجعلها مكانها" أي اذبحها. وقد تمسك بهذا الأمر من ادعى وجوب الأضحية، ولا دلالة فيه، لأنه ولو كان ظاهر الأمر الوجوب إلا أن قرينة إفساد الأولى تقتضي أن يكون الأمر بالإعادة لتحصيل المقصود، وهو أعم من أن يكون في الأصل واجبا أو مندوبا. وقال الشافعي: يحتمل أن يكون الأمر بالإعادة للوجوب، ويحتمل أن يكون الأمر بالإعادة للإشارة إلى أن التضحية قبل الصلاة لا تقع أضحية، فأمره بالإعادة ليكون في عداد من ضحى، فلما احتمل ذلك وجدنا الدلالة على عدم الوجوب في حديث أم سلمة المرفوع "إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي" قال: فلو كانت الأضحية واجبة لم يكل ذلك إلى الإرادة، وأجاب من قال بالوجوب بأن التعليق على الإرادة لا يمنع القول بالوجوب، فهو كما قيل: من أراد الحج فليكثر من الزاد، فإن ذلك لا يدل على أن الحج لا يجب، وتعقب بأنه لا يلزم من كون ذلك لا يدل على عدم الوجوب ثبوت الوجوب بمجرد الأمر بالإعادة لما تقدم من احتمال إرادة الكمال وهو الظاهر والله أعلم. قوله: "وقال حاتم بن وردان الخ" تقدم ذكر من وصله في الباب الذي قبله، ولم يسق مسلم لفظه، لكنه قال: "بمثل حديثهما " يعني رواية إسماعيل بن علية عن أيوب ورواية هشام عن محمد بن سيرين.

(10/18)


9 - باب مَنْ ذَبَحَ الأَضَاحِيَّ بِيَدِهِ
5558- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعاً قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ".
قوله: "باب من ذبح الأضاحي بيده" أي وهل يشترط ذلك أو هو الأولى، وقد اتفقوا على جواز التوكيل فيها للقادر، لكن عند المالكية رواية بعدم الإجزاء مع القدرة، وعند أكثرهم يكره لكن يستحب أن يشهدها، ويكره أن يستنيب حائضا أو صبيا أو كتابيا، وأولهم أولى ثم ما يليه. قوله: "ضحى" كذا في رواية شعبة بصيغة الفعل الماضي وكذا في رواية أبي عوانة الآتية قريبا عن قتادة. وفي رواية همام الآتية قريبا أيضا عن قتادة "كان يضحي" وهو أظهر في المداومة على ذلك. قوله: "بكبشين أملحين" زاد في رواية أبي عوانة وفي رواية همام كلاهما عن قتادة " أقرنين " وسيأتيان قريبا، وتقدم مثله في رواية أبي قلابة قبل باب. قوله: "فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما" أي على صفاح كل منهما عند ذبحه، والصفاح بكسر الصاد المهملة وتخفيف الفاء وآخره حاء مهملة الجوانب، والمراد الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما ثنى إشارة إلى أنه فعل في كل منهما، فهو من إضافة الجمع إلى المثنى بإرادة التوزيع. قوله: "يسمي ويكبر" في رواية أبي عوانة "وسمى وكبر" والأول أظهر في وقوع ذلك عند الذبح. وفي الحديث غير ما تقدم مشروعية التسمية عند الذبح، وقد تقدم في الذبائح بيان من اشترطها في صفة الذبح، وفيه استحباب التكبير مع التسمية واستحباب وضع الرجل على صفحة عنق الأضحية الأيمن، واتفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر فيضع رجله على الجانب الأيمن ليكون أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين وإمساك رأسها بيده اليسار.

(10/18)


10 - باب مَنْ ذَبَحَ ضَحِيَّةَ غَيْرِهِ.
وَأَعَانَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فِي بَدَنَتِهِ وَأَمَرَ أَبُو مُوسَى بَنَاتِهِ أَنْ يُضَحِّينَ بِأَيْدِيهِنَّ
5559- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَرِفَ وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ مَا لَكِ أَنَفِسْتِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ اقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ" .
قوله: "باب من ذبح ضحية غيره" أراد بهذه الترجمة بيان أن التي قبلها ليست للاشتراط. قوله: "وأعان رجل ابن عمر في بدنته" أي عند ذبحها، وهذا وصله عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: "رأيت ابن عمر ينحر بدنة بمنى وهي باركة معقولة، ورجل يمسك بحبل في رأسها وابن عمر يطعن". قال ابن المنير: هذا الأثر لا يطابق الترجمة إلا من جهة أن الاستعانة إذا كانت مشروعة التحقت بها الاستنابة، وجاء في نحو قصة ابن عمر حديث مرفوع أخرجه أحمد من حديث رجل من الأنصار "أن النبي صلى الله عليه وسلم أضجع أضحيته فقال: أعني على أضحيتي. فأعانه" ورجاله ثقات. قوله: "وأمر أبو موسى بناته أن يضحين بأيديهن" وصله الحاكم في "المستدرك" ووقع لنا بعلو في خبرين كلاهما من طريق المسيب بن رافع "أن أبا موسى كان يأمر بناته أن يذبحن نسائكهن بأيديهن" وسنده صحيح، قال ابن التين: فيه جواز ذبيحة المرأة، ونقل محمد عن مالك كراهته. قلت: وقد سبق في الذبائح مبينا. وهذا الأثر مباين للترجمة، فيحتمل أن يكون محله في الترجمة التي قبلها أو أراد أن الأمر في ذلك على اختيار المضحي، وعن الشافعية الأولى للمرأة أن توكل في ذبح أضحيتها ولا تباشر الذبح بنفسها. حديث عائشة لما حاضت بسرف وفيه: " هذا أمر كتبه الله على بنات آدم - وفي آخره - وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر" ولمسلم من حديث جابر "نحر النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه بقرة في حجة الوداع".

(10/19)


11 - باب الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّلاَةِ
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي زُبَيْدٌ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ فَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمَنْ نَحَرَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُقَدِّمُهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ فَقَالَ اجْعَلْهَا مَكَانَهَا وَلَنْ تَجْزِيَ أَوْ تُوفِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" .
قوله: "باب الذبح بعد الصلاة" ذكر فيه حديث البراء في قصة أبي بردة، وقد تقدم شرحه قريبا، وسأذكر ما يتعلق بهذه الترجمة في التي بعدها. "ولن تجزي أو توفي" شك من الراوي، ومعنى توفي أي تكمل الثواب

(10/19)


وعند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه "ولن تفي" بغير واو ولا شك، يقال وفى إذا أنجز فهو بمعنى تجزي بفتح أوله.

(10/20)


12 - باب مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ أَعَادَ
5561- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيُعِدْ" فَقَالَ رَجُلٌ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ وَذَكَرَ هَنَةً مِنْ جِيرَانِهِ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَذَرَهُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ فَرَخَّصَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ أَدْرِي بَلَغَتْ الرُّخْصَةُ أَمْ لاَ ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ يَعْنِي فَذَبَحَهُمَا ثُمَّ انْكَفَأَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَذَبَحُوهَا".
5562- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ سُفْيَانَ الْبَجَلِيَّ قَالَ: "شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ" .
5563- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَلاَ يَذْبَحْ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلْتُ فَقَالَ: هُوَ شَيْءٌ عَجَّلْتَهُ قَالَ فَإِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّتَيْنِ آذْبَحُهَا قَالَ نَعَمْ ثُمَّ لاَ تَجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ قَالَ عَامِرٌ هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْهِ".
قوله: "باب من ذبح قبل الصلاة أعاد" أي أعاد الذبح. قوله فيه: "وذكر هنة" بفتح الهاء والنون الخفيفة بعدها هاء تأنيث أي حاجة من جيرانه إلى اللحم. قوله: "فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عذره" بتخفيف الذال المعجمة من العذر أي قبل عذره، ولكن لم يجعل ما فعله كافيا ولذلك أمره بالإعادة. قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر لم يعذر بالجهل، والفرق بين المأمورات والمنهيات أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها، وذلك لا يحصل إلا بالفعل. والمقصود من المنهيات الكف عنها بسبب مفاسدها، ومع الجهل والنسيان لم يقصد المكلف فعلها فيعذر. قوله: "وعندي جذعة" هو معطوف على كلام الرجل الذي عنى عنه الراوي بقوله: "وذكر هنة من جيرانه" تقديره هذا يوم يشتهى فيه اللحم ولجيراني حاجة فذبحت قبل الصلاة، وعندي جذعة. وقد تقدمت مباحثه قبل ثلاثة أبواب. حديث جندب بن سفيان أورده مختصرا، وتقدم في الذبائح من طريق أبي عوانة عن الأسود بن قيس أتم منه وأوله "ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحاة، فإذا ناس ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة" الحديث. قوله: "ومن لم يذبح فليذبح" في رواية أبي عوانة " ومن كان لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله" وفي رواية لمسلم: "فليذبح بسم الله" أي فليذبح قائلا بسم الله أو مسميا، والمجرور متعلق بمحذوف، وهو حال من الضمير في قوله: "فليذبح" وهذا أولى ما حمل عليه الحديث وصححه النووي، ويؤيده ما تقدم في حديث أنس "وسمى وكبر" وقال عياض: يحتمل أن يكون معناه

(10/20)


فليذبح لله، والباء تجيء بمعنى اللام، ويحتمل أن يكون معناه بتسمية الله، ويحتمل أن يكون معناه متبركا باسمه كما يقال سر على بركة الله، ويحتمل أن يكون معناه فليذبح بسنة الله. قال: وأما كراهة بعضهم افعل كذا على اسم الله لأنه اسمه على كل شيء فضعيف. قلت: ويحتمل وجها خامسا أن يكون معنى قوله: "بسم الله" مطلق الإذن في الذبيحة حينئذ، لأن السياق يقتضي المنع قبل ذلك والإذن بعد ذلك، كما يقال للمستأذن بسم الله أي ادخل، وقد استدل بهذا الأمر في قوله: "فليذبح مكانها أخرى" من قال بوجوب الأضحية، قال ابن دقيق العيد: صيغة "من" في قوله: "من ذبح" صيغة عموم في حق كل من ذبح قبل أن يصلي، وقد جاءت لتأسيس قاعدة، وتنزيل صيغة العموم إذا وردت لذلك على الصورة النادرة يستنكر، فإذا بعد تخصيصه بمن نذر أضحية معينة بقي التردد هل الأولى حمله على من سبقت له أضحية معينة أو حمله على ابتداء أضحية من غير سبق تعيين؟ فعلى الأولى يكون حجة لمن قال بالوجوب على من اشترى الأضحية كالمالكية، فإن الأضحية عندهم تجب بالتزام اللسان وبنية الشراء وبنية الذبح، وعلى الثاني يكون لا حجة لمن أوجب الضحية مطلقا، لكن حصل الانفصال ممن لم يقل بالوجوب بالأدلة الدالة على عدم الوجوب فيكون الأمر للندب. واستدل به من اشترط تقدم الذبح من الإمام بعد صلاته وخطبته، لأن قوله: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى" إنما صدر منه بعد صلاته وخطبته وذبحه فكأنه قال: من ذبح قبل فعل هذه الأمور فليعد، أي فلا يعتد بما ذبحه. قال ابن دقيق العيد: وهذا استدلال غير مستقيم، لمخالفته التقييد بلفظ الصلاة والتعقيب بالفاء. حديث البراء، أورده من طريق فراس بن يحيى عن الشعبي، وقد تقدمت مباحثه قريبا. قوله: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا" المراد من كان على دين الإسلام. قوله: "فلا يذبح" أي الأضحية " حتى ينصرف" تمسك به الشافعية في أن أول وقت الأضحية قدر فراغ الصلاة والخطبة، وإنما شرطوا فراغ الخطيب لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة في هذه العبادة، فيعتبر مقدار الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزي بعد طلوع الشمس، فإذا ذبح بعد ذلك أجزأه الذبح عن الأضحية، سواء صلى العيد أم لا، وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا، ويستوي في ذلك أهل المصر والحاضر والبادي ونقل الطحاوي عن مالك والأوزاعي والشافعي: لا تجوز أضحية قبل أن يذبح الإمام، وهو معروف عن مالك والأوزاعي لا الشافعي، قال القرطبي: ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة، لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها. وقال أبو حنيفة والليث: لا ذبح قبل الصلاة، ويجوز بعدها ولو لم يذبح الإمام، وهو خاص بأهل المصر، فأما أهل القرى والبوادي فيدخل وقت الأضحية في حقهم إذا طلع الفجر الثاني. وقال مالك: يذبحون إذا نحر أقرب أئمة القرى إليهم، فإن نحروا قبل أجزأهم. وقال عطاء وربيعة: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس. وقال أحمد وإسحاق: إذا فرغ الإمام من الصلاة جازت الأضحية، وهو وجه للشافعية قوي من حيث الدليل وإن ضعفه بعضهم، ومثله قول الثوري: يجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته وفي أثنائها، ويحتمل أن يكون قوله: "حتى ينصرف" أي من الصلاة، كما في الروايات الأخر. وأصرح من ذلك ما وقع عند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه رفعه: "إنما الذبح بعد الصلاة" ووقع في حديث جندب عند مسلم: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى" قال ابن دقيق العيد: هذا اللفظ أظهر في اعتبار فعل الصلاة من حديث البراء، أي حيث جاء فيه: "من ذبح قبل الصلاة" قال: لكن إن أجريناه على ظاهره اقتضى أن لا تجزئ الأضحية في حق من لم يصل العيد، فإن ذهب إليه أحد فهو أسعد

(10/21)


الناس بظاهر هذا الحديث، وإلا وجب الخروج عن الظاهر في هذه الصورة ويبقى ما عداها في محل البحث. وتعقب بأنه قد وقع في صحيح مسلم في رواية أخرى "قبل أن يصلي أو نصلي" بالشك قال النووي: الأولى بالياء والثانية بالنون، وهو شك من الراوي، فعلى هذا إذا كان بلفظ: "يصلي" ساوى لفظ حديث البراء في تعليق الحكم بفعل الصلاة. قلت: وقد وقع عند البخاري في حديث جندب في الذبائح بمثل لفظ البراء، وهو خلاف ما يوهمه سياق صاحب العمدة، فإنه ساقه على لفظ مسلم، وهو ظاهر في اعتبار فعل الصلاة، فإن إطلاق لفظ الصلاة وإرادة وقتها خلاف الظاهر، وأظهر من ذلك قوله: "قبل أن نصلي" بالنون، وكذا قوله: "قبل أن ننصرف" سواء قلنا من الصلاة أم من الخطبة. وادعى بعض الشافعية أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى" أي بعد أن يتوجه من مكان هذا القول، لأنه خاطب بذلك من حضره فكأنه قال: من ذبح قبل فعل هذا من الصلاة والخطبة فليذبح أخرى، أي لا يعتد بما ذبحه ولا يخفى ما فيه. وأورد الطحاوي ما أخرجه مسلم من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر فأمرهم أن يعيدوا" قال ورواه حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "أن رجلا ذبح قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى أن يذبح أحد قبل الصلاة" وصححه ابن حبان. ويشهد لذلك قوله في حديث البراء "أن أول ما نصنع أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فننحر" فإنه دال على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة، ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام. ويؤيده - من طريق النظر - أن الإمام لو لم ينحر لم يكن ذلك مسقطا عن الناس مشروعية النحر، ولو أن الإمام نحر قبل أن يصلي لم يجزئه نحره، فدل على أنه هو والناس في وقت الأضحية سواء. وقال المهلب: إنما كره الذبح قبل الإمام لئلا يشتغل الناس بالذبح عن الصلاة. قوله: "فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله فعلت" أي ذبحت قبل الصلاة. ووقع عند مسلم من هذا الوجه "نسكت عن ابن لي" وقد تقدم توجيهه. قوله: "هي خير من مسنتين" كذا وقع هنا بالتثنية، وهي مبالغة. ووقع في رواية غيره: "من مسنة" بالإفراد وتقدم توجيهه أيضا. قوله: "قال عامر هي خير نسيكتيه" كذا فيه بالتثنية، وفيه ضم الحقيقة إلى المجاز بلفظ واحد، فإن النسيكة، هي التي أجزأت عنه وهي الثانية، والأولى لم تجز عنه، لكن أطلق عليها نسيكة لأنه نحرها على أنها نسيكة أو نحرها في وقت النسيكة، وإنما كانت خيرهما لأنها أجزأت عن الأضحية بخلاف الأولى، وفي الأولى خير في الجملة باعتبار القصد الجميل، ووقع عند مسلم من هذا الوجه "قال ضح بها فإنها خير نسيكة" ونقل ابن التين عن الشيخ أبي الحسن يعني ابن القصار أنه استدل بتسميتها نسيكة على أنه لا يجوز بيعها ولو ذبحت قبل الصلاة، ولا يخفى وجه الضعف عليه.

(10/22)


13 - باب وَضْعِ الْقَدَمِ عَلَى صَفْحِ الذَّبِيحَةِ
5564- حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة حدثنا أنس رضي الله عنه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين ووضع رجله على صفحتهما ويذبحهما بيده".
قوله: "باب وضع القدم على صفح الذبيحة" ذكر فيه حديث أنس "ويضع رجله على صفحتهما" وقد تقدمت مباحثه قريبا.

(10/22)


14 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ
5565- حدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس قال: "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع على رجله صفاحهما".
قوله: "باب التكبير عند الذبح" ذكر فيه حديث أنس أيضا، وقد تقدم أيضا.

(10/23)


15 - باب إِذَا بَعَثَ بِهَدْيِهِ لِيُذْبَحَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ
5566- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ "أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَجُلاً يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَجْلِسُ فِي الْمِصْرِ فَيُوصِي أَنْ تُقَلَّدَ بَدَنَتُهُ فَلاَ يَزَالُ مِنْ ذَلِكِ الْيَوْمِ مُحْرِماً حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ قَالَ فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَقَالَتْ لَقَدْ كُنْتُ أَفْتِلُ قَلاَئِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَبْعَثُ هَدْيَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِمَّا حَلَّ لِلرِّجَالِ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ".
قوله: "باب إذا بعث بهديه ليذبح لم يحرم عليه شيء" ذكر فيه حديث عائشة، وقد تقدمت مباحثه في كتاب الحج. أحمد بن محمد شيخه هو المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك، وإسماعيل هو ابن أبي خالد. وقوله فيه: "إن رجلا يبعث بالهدي" هو زياد بن أبي سفيان، وقد تقدم نقله عن ابن عباس وغيره. وقوله: "فسمعت تصفيقها من وراء الحجاب" أي ضربت إحدى يديها على الأخرى تعجبا أو تأسفا على وقوع ذلك. واستدل الداودي بقولها "هديه" على أن الحديث الذي روته ميمونة مرفوعا: " إذا دخل عشر ذي الحجة فمن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره" يكون منسوخا بحديث عائشة أو ناسخا. وقال ابن التين: ولا يحتاج إلى ذلك، لأن عائشة إنما أنكرت أن يصير من يبعث هديه محرما بمجرد بعثه، ولم تتعرض على ما يستحب في العشر خاصة من اجتناب إزالة الشعر والظفر. ثم قال: لكن عموم الحديث يدل على ما قال الداودي، وقد استدل به الشافعي على إباحة ذلك في عشر ذي الحجة.
قال: والحديث المذكور أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. قلت: هو من حديث أم سلمة لا من حديث ميمونة، فوهم الداودي في النقل وفي الاحتجاج أيضا، فإنه لا يلزم من دلالته على عدم اشتراط ما يجتنبه المحرم على المضحي أنه لا يستحب فعل ما ورد به الخبر المذكور لغير المحرم، والله أعلم.

(10/23)


16 - باب مَا يُؤْكَلُ مِنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ وَمَا يُتَزَوَّدُ مِنْهَا
5567- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأَضَاحِيِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ". وَقَالَ غَيْرَ مَرَّةٍ: "لُحُومَ الْهَدْيِ".
5568- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ ابْنَ خَبَّابٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ

(10/23)


كتاب الأشربة
باب قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}
...
بسم الله الرحمن الرحيم
74 - كتاب الأشربة
1 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
5575- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ" .
5576- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ" .
تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَابْنُ الْهَادِ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَالزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ
5577- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثاً لاَ يُحَدِّثُكُمْ بِهِ غَيْرِي قَالَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمُهُنَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ" .
5578- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولاَنِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ . وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ . وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ" . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَقُولُ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُلْحِقُ مَعَهُنَّ: "وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ" .
قوله: "كتاب الأشربة" وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ} " الآية، كذا لأبي ذر، وساق الباقون إلى {الْمُفْلِحُونَ} كذا ذكر الآية وأربعة أحاديث تتعلق بتحريم الخمر، وذلك أن الأشربة منها

(10/30)


ما يحل وما يحرم فينظر في حكم كل منهما ثم في الآداب المتعلقة بالشرب، فبدأ بتبيين المحرم منها لقلته بالنسبة إلى الحلال، فإذا عرف ما يحرم كان ما عداه حلالا، وقد بينت في تفسير المائدة الوقت الذي نزلت فيه الآية المذكورة وأنه كان في عام الفتح قبل الفتح، ثم رأيت الدمياطي في سيرته جزم بأن تحريم الخمر كان سنة الحديبية، والحديبية كانت سنة ست. وذكر ابن إسحاق أنه كان في واقعة بني النضير، وهي بعد وقعة أحد وذلك سنة أربع على الراجح، وفيه نظر لأن أنسا كما سيأتي في الباب الذي بعده كان الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع لكان أنس يصغر عن ذلك، وكأن المصنف لمح بذكر الآية إلى بيان السبب في نزولها، وقد مضى بيانه في تفسير المائدة أيضا من حديث عمر وأبي هريرة وغيرهما. وأخرج النسائي والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس أنه لما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر فيقول: صنع هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: والله لو كان بي رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى {مُنْتَهُونَ} قال فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إلى {الْمُحْسِنِينَ} ووقعت هذه الزيادة في حديث أنس في البخاري كما مضى في المائدة، ووقعت أيضا في حديث البراء عند الترمذي وصححه، ومن حديث ابن عباس عند أحمد "لما حرمت الخمر قال ناس: يا رسول الله، أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها" وسنده صحيح. وعند البزار من حديث جابر أن الذي سأل عن ذلك اليهود، وفي حديث أبي هريرة الذي ذكرته في تفسير المائدة نحو الأول، وزاد في آخره: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم" قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: يستفاد تحريم الخمر من هذه الآية من تسميتها رجسا. وقد سمي به ما أجمع على تحريمه وهو لحم الخنزير ومن قوله: "من عمل الشيطان" لأن مهما كان من عمل الشيطان حرم تناوله، ومن الأمر بالاجتناب وهو للوجوب وما وجب اجتنابه حرم تناوله، ومن الفلاح المرتب على الاجتناب، ومن كون الشرب سببا للعداوة والبغضاء بين المؤمنين وتعاطي ما يوقع ذلك حرام، ومن كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن ختام الآية بقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ؟ فإنه استفهام معناه الردع والزجر، ولهذا قال عمر لما سمعها: انتهينا انتهينا. وسبقه إلى نحو ذلك الطبري. وأخرجه الطبراني وابن مردويه وصححه الحاكم من طريق طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما نزل تحريم الخمر مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض فقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك" قيل: يشير إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} الآية، فإن الأنصاب والأزلام من عمل المشركين بتزيين الشيطان، فنسب العمل إليه. قال أبو الليث السمرقندي: المعنى أنه لما نزل فيها أنها رجس من عمل الشيطان وأمر باجتنابها عادلت قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} . وذكر أبو جعفر النحاس أن بعضهم استدل لتحريم الخمر بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقد قال تعالى في الخمر والميسر {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فلما أخبر أن في الخمر إثما كبيرا ثم صرح بتحريم الإثم ثبت تحريم الخمر بذلك، قال: وقول من قال إن الخمر تسمى الإثم لم نجد له أصلا في الحديث ولا في اللغة، ولا دلالة أيضا في قول الشاعر:

(10/31)


شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول
فإنه أطلق الإثم على الخمر مجازا بمعنى أنه ينشأ عنها الإثم. واللغة الفصحى تأنيث الخمر، وأثبت أبو حاتم السجستاني وابن قتيبة وغيرهما جواز التذكير، ويقال لها الخمرة أثبته فيها جماعة من أهل اللغة منهم الجوهري. وقال ابن مالك في المثلث: الخمرة هي الخمر في اللغة، وقيل: سميت الخمر لأنها تغطي العقل وتخامره أي تخالطه، أو لأنها هي تخمر أي تغطى حتى تغلي، أو لأنها تختمر أي تدرك كما يقال للعجين اختمر، أقوال سيأتي بسطها عند شرح قول عمر رضي الله عنه: "والخمر ما خامر العقل" إن شاء الله تعالى. الحديث الأول: حديث ابن عمر من طريق مالك عن نافع عنه وهو من أصح الأسانيد. قوله: "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة" حرمها بضم المهملة وكسر الراء الخفيفة من الحرمان، زاد مسلم عن القعنبي عن مالك في آخره: "لم يسقها"، وله من طريق أيوب عن نافع بلفظ: " فمات وهو مدمنها لم يشربها في الآخرة" وزاد مسلم في أول الحديث مرفوعا: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام" وأورد هذه الزيادة مستقلة أيضا من رواية موسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع، وسيأتي الكلام عليها في "باب الخمر من العسل" ويأتي كلام ابن بطال فيها في آخر هذا الباب. وقوله: "ثم لم يتب منها " أي من شربها، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قال الخطابي والبغوي في "شرح السنة": معنى الحديث لا يدخل الجنة، لأن الخمر شراب أهل الجنة، فإذا حرم شربها دل على أنه لا يدخل الجنة. وقال ابن عبد البر: هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة، لأن الله تعالى أخبر أن في الجنة أنهار الخمر لذة للشاربين، وأنهم لا يصدعون عنها ولا ينزفون. فلو دخلها - وقد علم أن فيها خمرا أو أنه حرمها عقوبة له - لزم وقوع الهم والحزن في الجنة، ولا هم فيها ولا حزن، وإن لم يعلم بوجودها في الجنة ولا أنه حرمها عقوبة له لم يكن عليه في فقدها ألم، فلهذا قال بعض من تقدم: إنه لا يدخل الجنة أصلا، قال: وهو مذهب غير مرضي، قال: ويحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا إن عفا الله عنه كما في بقية الكبائر وهو في المشيئة، فعلى هذا فمعنى الحديث: جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا إن عفا الله عنه. قال: وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرا ولا تشتهيها نفسه وإن علم بوجودها فيها، ويؤيده حديث أبي سعيد مرفوعا: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" قلت: أخرجه الطيالسي وصححه ابن حبان. وقريب منه حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة" أخرجه أحمد بسند حسن، وقد لخص عياض كلام ابن عبد البر وزاد احتمالا آخر وهو أن المراد بحرمانه شربها أنه يحبس عن الجنة مدة إذا أراد الله عقوبته، ومثله الحديث الآخر "لم يرح رائحة الجنة" قال: ومن قال لا يشربها في الجنة بأن ينساها أو لا يشتهيها يقول ليس عليه في ذلك حسرة ولا يكون ترك شهوته إياها عقوبة في حقه، بل هو نقص نعيم بالنسبة إلى من هو أتم نعيما منه كما تختلف درجاتهم، ولا يلحق من هو أنقص درجة حينئذ بمن هو أعلى درجة منه استغناء بما أعطي واغتباطا له. وقال ابن العربي: ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر في الجنة ولا يلبس الحرير فيها، وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به فحرمه عند ميقاته، كالوارث فإنه إذا قتل مورثه فإنه يحرم ميراثه لاستعجاله. وبهذا قال نفر من الصحابة ومن العلماء، وهو موضع احتمال وموقف إشكال، والله أعلم كيف يكون الحال. وفصل بعض المتأخرين بين من يشربها مستحلا

(10/32)


فهو الذي لا يشربها أصلا لأنه لا يدخل الجنة أصلا، وعدم الدخول يستلزم حرمانها، وبين من يشربها عالما بتحريمها فهو محل الخلاف، وهو الذي يحرم شربها مدة ولو في حال تعذيبه إن عذب، أو المعنى أن ذلك جزاؤه إن جوزي والله أعلم. وفي الحديث أن التوبة تكفر المعاصي الكبائر، وهو في التوبة من الكفر قطعي وفي غيره من الذنوب خلاف بين أهل السنة هل هو قطعي أو ظني. قال النووي: الأقوى أنه ظني. وقال القرطبي: من استقرأ الشريعة علم أن الله يقبل توبة الصادقين قطعا. وللتوبة الصادقة شروط سيأتي البحث فيها في كتاب الرقاق، ويمكن أن يستدل بحديث الباب على صحة التوبة من بعض الذنوب دون بعض، وسيأتي تحقيق ذلك. وفيه أن الوعيد يتناول من شرب الخمر وإن لم يحصل له السكر، لأنه رتب الوعيد في الحديث على مجرد الشرب من غير قيد، وهو مجمع عليه في الخمر المتخذ من عصير العنب وكذا فيما يسكر من غيرها، وأما ما لا يسكر من غيرها فالأمر فيه كذلك عند الجمهور كما سيأتي بيانه، ويؤخذ من قوله: "ثم لم يتب منها" أن التوبة مشروعة في جميع العمر ما لم يصل إلى الغرغرة، لما دل عليه "ثم" من التراخي، وليس المبادرة إلى التوبة شرطا في قبولها، والله أعلم. الحديث الثاني: حديث أبي هريرة. قوله: "بإيلياء" بكسر الهمز وسكون التحتانية وكسر اللام وفتح التحتانية الخفيفة مع المد: هي مدينة بيت المقدس، وهو ظاهر في أن عرض ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وقع وهو في بيت المقدس، لكن وقع في رواية الليث التي تأتي الإشارة إليها "إلى إيلياء" وليست صريحة في ذلك، لجواز أن يريد تعيين ليلة الإيتاء لا محله، وقد تقدم بيان ذلك مع بقية شرحه في أواخر الكلام على حديث الإسراء قبل الهجرة إلى المدينة. وقوله فيه: "ولو أخذت الخمر غوت أمتك" هو محل الترجمة قال ابن عبد البر(1): يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم نفر من الخمر لأنه تفرس أنها ستحرم لأنها كانت حينئذ مباحة، ولا مانع من افتراق مباحين مشتركين في أصل الإباحة في أن أحدهما سيحرم والآخر تستمر إباحته. قلت: ويحتمل أن يكون نفر منها لكونه لم يعتد شربها فوافق بطبعه ما سيقع من تحريمها بعد، حفظا من الله تعالى له ورعاية، واختار اللبن لكونه مألوفا له، سهلا طيبا طاهرا، سائغا للشاربين، سليم العاقبة، بخلاف الخمر في جميع ذلك. والمراد بالفطرة هنا الاستقامة على الدين الحق. وفي الحديث مشروعية الحمد عند حصول ما يحمد ودفع ما يحذر. وقوله: "غوت أمتك" يحتمل أن يكون أخذه من طريق الفأل، أو تقدم عنده علم بترتب كل من الأمرين وهو أظهر. قوله: "تابعه معمر وابن الهاد وعثمان بن عمر عن الزهري" يعني بسنده. ووقع في غير رواية أبي ذر زيادة الزبيدي مع المذكورين بعد عثمان بن عمر، فأما متابعة معمر فوصلها المؤلف في قصة موسى من أحاديث الأنبياء، وأول الحديث ذكر موسى وعيسى وصفتهما، وليس فيه ذكر إيلياء، وفيه: "اشرب أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته" . وأما رواية ابن الهاد - وهو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي ينسب لجد أبيه - فوصلها النسائي وأبو عوانة والطبراني في "الأوسط" من طريق الليث عنه عن عبد الوهاب بن بخت عن ابن شهاب وهو الزهري، قال الطبراني: تفرد به يزيد بن الهاد عن عبد الوهاب، فعلى هذا فقد سقط ذكر عبد الوهاب من الأصل بين ابن الهاد وابن شهاب، على أن ابن الهاد قد روى عن الزهري أحاديث غير هذا بغير واسطة، منها ما تقدم في تفسير المائدة قال البخاري فيه: "وقال يزيد بن الهاد عن الزهري" فذكره، ووصله أحمد وغيره من طريق ابن الهاد عن
ـــــــ
(1) في نسخة أخرى "قال ابن المنير".

(10/33)


الزهري بغير واسطة. وأما رواية الزبيدي فوصلها النسائي وابن حبان والطبراني في "مسند الشاميين" من طريق محمد بن حرب عنه لكن ليس فيه ذكر إيلياء أيضا. وأما رواية عثمان بن عمر فوصلها "تمام الرازي في فوائده" من طريق إبراهيم بن المنذر عن عمر بن عثمان عن أبيه عن الزهري به. وأما ما ذكره المزي في "الأطراف" عن الحاكم أنه قال: أراد البخاري بقوله: "تابعه ابن الهاد وعثمان بن عمر عن الزهري" حديث ابن الهاد عن عبد الوهاب وحديث عثمان بن عمر بن فارس عن يونس كلاهما عن الزهري. قلت: وليس كما زعم الحاكم وأقره المزي في عثمان بن عمر، فإنه ظن أنه عثمان بن عمر بن فارس الراوي عن يونس بن يزيد، وليس به، وإنما هو عثمان بن عمر بن موسى بن عبد الله بن عمر التيمي، وليس لعثمان بن عمر بن فارس ولد اسمه عمر يروي عنه، وإنما هو ولد التيمي كما ذكرته من "فوائد تمام" وهو مدني، وقد ذكر عثمان الدارمي أنه سأل يحيى بن معين عن عمر بن عثمان بن عمر المدني عن أبيه عن الزهري فقال: لا أعرفه ولا أعرف أباه. قلت: وقد عرفهما غيره، وذكر الزبير بن بكار في النسب عن عثمان المذكور فقال: إنه ولي قضاء المدينة في زمن مروان بن محمد، ثم ولي القضاء للمنصور ومات معه بالعراق وذكره ابن حبان في الثقات، وأكثر الدار قطني من ذكره في "العلل" عند ذكره للأحاديث التي تختلف رواتها عن الزهري، وكثيرا ما ترجح روايته عن الزهري، والله أعلم. الحديث الثالث: حديث أنس. قوله: "هشام" هو الدستوائي. قوله: "لا يحدثكم به غيري" كأن أنسا حدث به في أواخر عمره فأطلق ذلك، أو كان يعلم أنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا من كان قد مات. قوله: "وتشرب الخمر" في رواية الكشميهني: "وشرب الخمر" بالإضافة، ورواية الجماعة أولى للمشاكلة. قوله: "حتى يكون لخمسين" في رواية الكشميهني: "حتى يكون خمسون امرأة قيمهن رجل واحد" وسبق شرح الحديث مستوفى في كتاب العلم، والمراد أن من أشراط الساعة كثرة شرب الخمر كسائر ما ذكر في الحديث. الحديث الرابع: حديث أبي هريرة "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وقع في أكثر الروايات هنا "لا يزني حين يزني " بحذف الفاعل، فقدر بعض الشراح الرجل أو المؤمن أو الزاني، وقد بينت هذه الرواية تعيين الاحتمال الثالث. قوله: "ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" قال ابن بطال: هذا أشد ما ورد في شرب الخمر، وبه تعلق الخوارج فكفروا مرتكب الكبيرة عامدا عالما بالتحريم، وحمل أهل السنة الإيمان هنا على الكامل، لأن العاصي يصير أنقص حالا في الإيمان ممن لا يعصي، ويحتمل أن يكون المراد أن فاعل ذلك يئول أمره إلى ذهاب الإيمان، كما وقع في حديث عثمان الذي أوله " اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث - وفيه - وإنها لا تجتمع هي والإيمان إلا وأوشك أحدهما أن يخرج صاحبه " أخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا، وصححه ابن حبان مرفوعا. قال ابن بطال: وإنما أدخل البخاري هذه الأحاديث المشتملة على الوعيد الشديد في هذا الباب ليكون عوضا عن حديث ابن عمر "كل مسكر حرام" وإنما لم يذكره في هذا الباب لكونه روي موقوفا، كذا قال، وفيه نظر، لأن في الوعيد قدرا زائدا على مطلق التحريم، وقد ذكر البخاري ما يؤدي معنى حديث ابن عمر كما سيأتي قريبا. قوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "إن أبا بكر أخبره" هو والد عبد الملك شيخ ابن شهاب فيه. قوله: "ثم يقول كان أبو بكر" هو ابن عبد الرحمن المذكور، والمعنى أنه كان يزيد ذلك في حديث أبي هريرة، وقد مضى بيان ذلك عند ذكر شرح الحديث في كتاب المظالم، ويأتي مزيد لذلك في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى.

(10/34)


2 - باب الْخَمْرُ مِنْ الْعِنَبِ وغيرِه
5579- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَقَدْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ".
5580- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ يَعْنِي بِالْمَدِينَةِ خَمْرَ الأَعْنَابِ إِلاَّ قَلِيلاً وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ".
5581- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ حَدَّثَنَا عَامِرٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "أَمَّا بَعْدُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ".
قوله: "باب الخمر من العنب وغيره" كذا في شرح ابن بطال، ولم أر لفظ: "وغيره" في شيء من نسخ الصحيح ولا المستخرجات ولا الشروح سواه. قال ابن المنير: غرض البخاري الرد على الكوفيين إذ فرقوا بين ماء العنب وغيره فلم يحرموا من غيره إلا القدر المسكر خاصة، وزعموا أن الخمر ماء العنب خاصة، قال: لكن في استدلاله بقول ابن عمر - يعني الذي أورده في الباب: "حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء" - على أن الأنبذة التي كانت يومئذ تسمى خمرا نظر، بل هو بأن يدل على أن الخمر من العنب خاصة أجدر، لأنه قال: وما منها بالمدينة شيء - يعني الخمر - وقد كانت الأنبذة من غير العنب موجودة حينئذ بالمدينة، فدل على أن الأنبذة ليست خمرا، إلا أن يقال إن كلام ابن عمر يتنزل على جواب قول من قال لا خمر إلا من العنب، فيقال: قد حرمت الخمر وما بالمدينة من خمر العنب شيء، بل كان الموجود بها من الأشربة ما يصنع من البسر والتمر ونحو ذلك، وفهم الصحابة من تحريم الخمر تحريم ذلك كله، ولولا ذلك ما بادروا إلى إراقتها. قلت: ويحتمل أن يكون مراد البخاري بهذه الترجمة وما بعدها أن الخمر يطلق على ما يتخذ من عصير العنب، ويطلق على نبيذ البسر والتمر، ويطلق على ما يتخذ من العسل، فعقد لكل واحد منها بابا، ولم يرد حصر التسمية في العنب، بدليل ما أورده بعده. ويحتمل أن يريد بالترجمة الأولى الحقيقة وبما عداها المجاز، والأول أظهر من تصرفه. وحاصله أنه أراد بيان الأشياء التي وردت فيها الأخبار على شرطه لما يتخذ منه الخمر، فبدأ بالعنب لكونه المتفق عليه، ثم أردفه بالبسر والتمر، والحديث الذي أورده فيه عن أنس ظاهر في المراد جدا، ثم ثلث بالعسل إشارة إلى أن ذلك لا يختص بالتمر والبسر، ثم أتى بترجمة عامة لذلك وغيره وهي "الخمر ما خامر العقل" والله أعلم. وفيه إشارة إلى ضعف الحديث الذي جاء عن أبي هريرة مرفوعا: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة" أو أنه ليس المراد به الحصر فيهما، والمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد فإنه يحرم تناول قليله وكثيره بالاتفاق. وحكى ابن قتيبة عن قوم من مجان أهل الكلام أن النهي عنها للكراهة، وهو قول مهجور لا يلتفت إلى قائله. وحكى أبو جعفر النحاس عن قوم أن الحرام ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه ليس بحرام، قال: وهذا عظيم من القول يلزم منه القول بحل كل شيء اختلف في تحريمه، ولو كان

(10/35)


مستند الخلاف واهيا. ونقل الطحاوي في "اختلاف العلماء" عن أبي حنيفة: الخمر حرام قليلها وكثيرها، والسكر من غيرها حرام وليس كتحريم الخمر، والنبيذ المطبوخ لا بأس به من أي شيء كان، وإنما يحرم منه القدر الذي يسكر. وعن أبي يوسف: لا بأس بالنقيع من كل شيء وإن غلا إلا الزبيب والتمر، قال: وكذا حكاه محمد عن أبي حنيفة. وعن محمد: ما أسكر كثيره فأحب إلي أن لا أشربه ولا أحرمه. وقال الثوري: أكره نقيع التمر ونقيع الزبيب إذا غلى، ونقيع العسل لا بأس به. قوله: "حدثني الحسن بن صباح" هو البزار آخره راء، ومحمد بن سابق من شيوخ البخاري، وقد يحدث عنه بواسطة كهذا. قوله: "حدثنا مالك هو ابن مغول" كان شيخ البخاري حدث به فقال: "حدثنا مالك" ولم ينسبه فنسبه هو لئلا يلتبس بمالك بن أنس، وقد أخرج الإسماعيلي الحديث المذكور من طريق محمد بن إسحاق الصغاني عن محمد بن سابق فقال: "عن مالك بن مغول". قوله: "وما بالمدينة منها شيء" يحتمل أن يكون ابن عمر نفى ذلك بمقتضى ما علم، أو أراد المبالغة من أجل قلتها حينئذ بالمدينة فأطلق النفي، كما يقال فلان ليس بشيء مبالغة، ويؤيده قول أنس المذكور في الباب: "وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا" ويحتمل أن يكون مراد ابن عمر وما بالمدينة منها شيء أي يعصر، وقد تقدم في تفسير المائدة من وجه آخر عن ابن عمر قال: "نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب" وحمل على ما كان يصنع بها لا على ما يجلب إليها. وأما قول عمر في ثالث أحاديث الباب: "نزل تحريم الخمر وهي من خمسة" فمعناه أنها كانت حينئذ تصنع من الخمسة المذكورة في البلاد، لا في خصوص المدينة كما سيأتي تقريره بعد بابين مع شرحه. قوله: "عن يونس" هو ابن عبيد البصري. قوله: "وعامة خمرنا البسر والتمر" أي النبيذ الذي يصير خمرا كان أكثر ما يتخذ من البسر والتمر. قال الكرماني: قوله: "البسر والتمر" مجاز عن الشراب الذي يصنع منهما، وهو عكس "إني أراني أعصر خمرا" أو فيه حذف تقديره عامة أصل خمرنا أو مادته، وسيأتي في الباب الذي بعده من وجه آخر عن أنس قال: "إن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر" وتقرير الحذف فيه ظاهر. وأخرج النسائي وصححه الحاكم من رواية محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الزبيب والتمر هو الخمر" وسنده صحيح، وظاهره الحصر لكن المراد المبالغة، وهو بالنسبة إلى ما كان حينئذ بالمدينة موجودا كما تقرر في حديث أنس، وقيل: مراد أنس الرد على من خص اسم الخمر بما يتخذ من العنب، وقيل: مراده أن التحريم لا يختص بالخمر المتخذة من العنب بل يشركها في التحريم كل شراب مسكر، وهذا أظهر والله أعلم. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان، وأبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي، وعامر هو الشعبي. قوله: "قام عمر على المنبر فقال: أما بعد نزل تحريم الخمر" ساقه من هذا الوجه مختصرا، وسيأتي بعد قليل مطولا. قال ابن مالك: فيه جواز حذف الفاء في جواب "أما بعد". قلت: لا حجة فيه، لأن هذه رواية مسدد هنا، وسيأتي قريبا عن أحمد بن أبي رجاء عن يحيى القطان بلفظ: "خطب عمر على المنبر فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر" ليس فيه: "أما بعد" وأخرجه الإسماعيلي هنا من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي عن يحيى بن سعيد القطان شيخ مسدد وفيه بلفظ: "أما بعد فإن الخمر" فظهر أن حذف الفاء وإثباتها من تصرف الرواة.

(10/36)


3 - باب نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ
5582- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ

(10/36)


عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا فَأَهْرَقْتُهَا".
5583- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَساً قَالَ كُنْتُ قَائِماً عَلَى الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ عُمُومَتِي وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ الْفَضِيخَ فَقِيلَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فَقَالُوا أَكْفِئْهَا فَكَفَأْتُهَا قُلْتُ لِأَنَسٍ مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وَبُسْرٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ".
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: "كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ".
5584- حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا يُوسُفُ أَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ
قوله: "باب نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر" أي تصنع أو تتخذ، وذكر فيه حديث أنس من رواية إسحاق بن أبي طلحة عنه أتم سياقا من رواية ثابت عنه المتقدمة في الباب قبله. قوله: "كنت أسقي أبا عبيدة" هو ابن الجراح، "وأبا طلحة" هو زيد بن سهل زوج أم سليم أم أنس، "وأبي بن كعب"، كذا اقتصر في هذه الرواية على هؤلاء الثلاثة، فأما أبو طلحة فلكون القصة كانت في منزله كما مضى في التفسير من طريق ثابت عن أنس "كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة" وأما أبو عبيدة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين أبي طلحة كما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنس، وأما أبي بن كعب فكان كبير الأنصار وعالمهم. ووقع في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس في تفسير المائدة "إني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا" كذا وقع بالإبهام، وسمى في رواية مسلم منهم أبا أيوب، وسيأتي بعد أبواب من رواية هشام عن قتادة عن أنس "إني كنت لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل ابن بيضاء" وأبو دجانة بضم الدال المهملة وتخفيف الجيم وبعد الألف نون اسمه سماك بن خرشة بمعجمتين بينهما راء مفتوحات، ولمسلم من طريق سعيد عن قتادة نحوه وسمى فيهم معاذ بن جبل، ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس "كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل ابن بيضاء ونفرا من الصحابة عند أبي طلحة" ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس أن القوم كانوا أحد عشر رجلا، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم، وأبهمهم في رواية سليمان التيمي عن أنس وهي في هذا الباب ولفظه: "كنت قائما على الحي أسقيهم عمومتي" وقوله عمومتي في موضع خفض على البدل من قوله: "الحي" وأطلق عليهم عمومته لأنهم كانوا أسن منه ولأن أكثرهم من الأنصار. ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس أن أبا بكر وعمر كانا فيهم، وهو منكر مع نظافة سنده، وما أظنه إلا غلطا. وقد أخرج أبو نعيم في "الحلية" في ترجمة شعبة من حديث عائشة قالت: "حرم أبو بكر الخمر على نفسه فلم يشربها في جاهلية ولا إسلام" ويحتمل إن كان محفوظا أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم ولم يشربا معهم. ثم وجدت عند البزار من وجه آخر عن أنس قال: "كنت ساقي القوم، وكان في القوم رجل يقال له

(10/37)


أبو بكر، فلما شرب قال: "تحيى بالسلامة أم بكر" الأبيات، فدخل علينا رجل من المسلمين فقال: قد نزل تحريم الخمر" الحديث. وأبو بكر هذا يقال له ابن شغوب، فظن بعضهم أنه أبو بكر الصديق، وليس كذلك، لكن قرينة ذكر عمر تدل على عدم الغلط في وصف الصديق، فحصلنا تسمية عشرة، وقد قدمت في غزوة بدر من المغازي ترجمة أبي بكر بن شغوب المذكور. وفي "كتاب مكة، للفاكهي" من طريق مرسل ما يشيد ذلك. قوله: "من فضيخ زهو وتمر" أما الفضيخ فهو بفاء وضاد معجمتين وزن عظيم: اسم للبسر إذا شدخ ونبذ، وأما الزهو فبفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو: وهو البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب. وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب، كما يطلق على خليط البسر والتمر، وكما يطلق على البسر وحده وعلى التمر وحده كما في الرواية التي آخر الباب. وعند أحمد من طريق قتادة عن أنس "وما خمرهم يومئذ إلا البسر والتمر مخلوطين" ووقع عند مسلم من طريق قتادة عن أنس "أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر". قوله: "فجاءهم آت" لم أقف على اسمه، ووقع في رواية حميد عن أنس عند أحمد بعد قوله: "أسقيهم": "حتى كاد الشراب يأخذ فيهم" ولابن مردويه "حتى أسرعت فيهم" ولابن أبي عاصم "حتى مالت رءوسهم، فدخل داخل" ومضى في المظالم من طريق ثابت عن أنس "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى" ولمسلم من هذا الوجه "فإذا مناد ينادي أن الخمر قد حرمت" وله من رواية سعيد عن قتادة عن أنس نحوه وزاد: "فقال أبو طلحة: أخرج فانظر ما هذا الصوت" ومضى في التفسير من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس بلفظ: "إذ جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: قد حرمت الخمر" وهذا الرجل يحتمل أن يكون هو المنادي، ويحتمل أن يكون غيره سمع المنادي فدخل إليهم فأخبرهم. وقد أخرج ابن مردويه من طريق بكر بن عبد الله عن أنس قال: "لما حرمت الخمر وحلف على أناس من أصحابي وهي بين أيديهم، فضربتها برجلي وقلت: نزل تحريم الخمر" فيحتمل أن يكون أنس خرج فاستخبر الرجل، لكن أخرجه من وجه آخر أن الرجل قام على الباب فذكر لهم تحريمها، ومن وجه آخر "أتانا فلان من عند نبينا فقال: قد حرمت الخمر، قلنا: ما تقول؟ فقال: سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم الساعة، ومن عنده أتيتكم". قوله: "فقال أبو طلحة: قم يا أنس، فهرقها" بفتح الهاء وكسر الراء وسكون القاف، والأصل أرقها، فأبدلت الهمزة هاء، وكذا قوله: "فهرقتها" وقد تستعمل هذه الكلمة بالهمزة والهاء معا وهو نادر، وقد تقدم بسطه في الطهارة. ووقع في رواية ثابت عن أنس في التفسير بلفظ: "فأرقها"، ومن رواية عبد العزيز بن صهيب "فقالوا أرق هذه القلال يا أنس" وهو محمول على أن المخاطب له بذلك أبو طلحة، ورضي الباقون بذلك فنسب الأمر بالإراقة إليهم جميعا. ووقع في الرواية الثانية في الباب: "أكفئها" بكسر الفاء مهموز بمعنى أرقها، وأصل الإكفاء الإمالة. ووقع في "باب إجازة خبر الواحد" من رواية أخرى عن مالك في هذا الحديث: "قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت" وهذا لا ينافي الروايات الأخرى بل يجمع بأنه أراقها وكسر أوانيها، أو أراق بعضا وكسر بعضا. وقد ذكر ابن عبد البر أن إسحاق بن أبي طلحة تفرد عن أنس بذكر الكسر، وأن ثابتا وعبد العزيز بن صهيب وحميدا وعد جماعة من الثقات رووا الحديث بتمامه عن أنس منهم من طوله ومنهم من اختصره، فلم يذكروا إلا إراقتها. والمهراس بكسر الميم وسكون الهاء وآخره مهملة إناء يتخذ من صخر وينقر وقد يكون كبيرا كالحوض وقد يكون صغيرا بحيث يتأتى الكسر به، وكأنه لم يحضره ما

(10/38)


يكسر به غيره، أو كسر بآلة المهراس التي يدق بها فيه كالهاون فأطلق اسمه عليها مجازا. ووقع في رواية حميد عن أنس عند أحمد " فوالله ما قالوا حتى ننظر ونسأل " وفي رواية عبد العزيز بن صهيب في التفسير "فوالله ما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل" ووقع في المظالم "فجرت في سكك المدينة" أي طرقها، وفيه إشارة إلى توارد من كانت عنده من المسلمين على إراقتها حتى جرت في الأزقة من كثرتها. قال القرطبي تمسك بهذه الزيادة بعض من قال إن الخمر المتخذة من غير العنب ليست نجسة لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التخلي في الطرق، فلو كانت نجسة ما أقرهم على إراقتها في الطرقات حتى تجري. والجواب أن القصد بالإراقة كان لإشاعة تحريمها، فإذا اشتهر ذلك كان أبلغ فتحتمل أخف المفسدتين لحصول المصلحة العظيمة الحاصلة من الاشتهار، ويحتمل أنها إنما أريقت في الطرق المنحدرة بحيث تنصب إلى الأسربة والحشوش أو الأودية فتستهلك فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن مردويه من حديث جابر بسند جيد في قصة صب الخمر قال: "فانصبت حتى استنقعت في بطن الوادي". والتمسك بعموم الأمر باجتنابها كاف في القول بنجاستها. قوله: "قلت لأنس" القائل هو سليمان التيمي والد معتمر، وقوله: "فقال أبو بكر بن أنس: وكانت خمرهم" زاد مسلم من هذا الوجه "يومئذ" وقوله: "فلم ينكر أنس" زاد مسلم: "ذلك" والمعنى أن أبا بكر بن أنس كان حاضرا عند أنس لما حدثهم فكأن أنسا حينئذ لم يحدثهم بهذه الزيادة إما نسيانا وإما اختصارا، فذكره بها ابنه أبو بكر فأقره عليها، وقد ثبت تحديث أنس بها كما سأذكره. قوله: "وحدثني بعض أصحابي" القائل هو سليمان التيمي أيضا، وهو موصول بالسند المذكور، وقد أفرد مسلم هذه الطريق عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: "حدثني بعض من كان معي أنه سمع أنسا يقول: "كان خمرهم يومئذ" فيحتمل أن يكون أنس حدث بها حينئذ فلم يسمعه سليمان، أو حدث بها في مجلس آخر فحفظها عنه الرجل الذي حدث بها سليمان، وهذا المبهم يحتمل أن يكون هو بكر بن عبد الله المزني، فإن روايته في آخر الباب تومئ إلى ذلك. ويحتمل أن يكون قتادة، فسيأتي بعد أبواب من طريقه عن أنس بلفظ: "وإنا نعدها يومئذ الخمر" وهو من أقوى الحجج على أن الخمر اسم جنس لكل ما يسكر، سواء كان من العنب أو من نقيع الزبيب أو التمر أو العسل أو غيرها. وأما دعوى بعضهم أن الخمر حقيقة في ماء العنب، مجاز في غيره، فإن سلم في اللغة لزم من قال به جواز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، والكوفيون لا يقولون بذلك انتهى. وأما من حيث الشرع فالخمر حقيقة في الجميع، لثبوت حديث: "كل مسكر خمر" فمن زعم أنه جمع بين الحقيقة والمجاز في هذا اللفظ لزمه أن يجيزه، وهذا ما لا انفكاك لهم عنه. قوله: "حدثني يوسف" هو ابن يزيد، وهو أبو معشر البراء بالتشديد، وهو مشهور بكنيته أكثر من اسمه، ويقال له أيضا القطان وشهرته بالبراء أكثر، وكان يبري السهام؛ وهو بصرى، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر سيأتي في الطب وكلاهما في المتابعات، وقد لينه ابن معين وأبو داود، ووثقه المقدمي، وسعيد بن عبيد الله بالتصغير اسم جده جبير بالجيم والموحدة مصغرا ابن حية بالمهملة وتشديد التحتانية وثقه أحمد وابن معين. وقال الحاكم عن الدار قطني: ليس بالقوي، وما له أيضا في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر تقدم في الجزية. قوله: "أن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر" هكذا رواه أبو معشر مختصرا، وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن عبيد الله بهذا السند مطولا ولفظه عن أنس "نزل تحريم الخمر، فدخلت على أناس من أصحابي وهي بين أيديهم فضربتها برجلي فقلت: انطلقوا فقد نزل تحريم الخمر، وشرابهم

(10/39)


يومئذ البسر والتمر" وهذا الفعل من أنس كأنه بعد أن خرج فسمع النداء بتحريم الخمر، فرجع فأخبرهم. ووقع عند ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أنس "فأراقوا الشراب وتوضأ بعض واغتسل بعض، وأصابوا من طيب أم سليم وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقرأ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية. واستدل بهذا الحديث على أن شرب الخمر كان مباحا لا إلى نهاية، ثم حرمت. وقيل: كان المباح الشرب لا السكر المزيل للعقل، وحكاه أبو نصر بن القشيري في تفسيره عن القفال، ونازعه فيه. وبالغ النووي في "شرح مسلم" فقال: ما يقوله بعض من لا تحصيل عنده أن السكر لم يزل محرما باطل لا أصل له، وقد قال الله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فإن مقتضاه وجود السكر حتى يصل إلى الحد المذكور، ونهوا عن الصلاة في تلك الحالة لا في غيرها، فدل على أن ذلك كان واقعا. ويؤيده قصة حمزة والشارفين كما تقدم تقريره في مكانه. وعلى هذا فهل كانت مباحة بالأصل أو بالشرع ثم نسخت؟ فيه قولان للعلماء، والراجح الأول، واستدل به على أن المتخذ من غير العنب يسمى خمرا، وسيأتي البحث في ذلك قريبا في "باب ما جاء أن الخمر ما خامر العقل" وعلى أن السكر المتخذ من غير العنب يحرم شرب قليله كما يحرم شرب القليل من المتخذ من العنب إذا أسكر كثيره، لأن الصحابة فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم ما يتخذ للسكر من جميع الأنواع، ولم يستفصلوا. وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين. وخالف في ذلك الحنفية ومن قال بقولهم من الكوفيين فقالوا: يحرم المتخذ من العنب قليلا كان أو كثيرا إلا إذا طبخ على تفصيل سيأتي بيانه في باب مفرد، فإنه يحل. وقد انعقد الإجماع على أن القليل من الخمر المتخذ من العنب يحرم قليله وكثيره، وعلى أن العلة في تحريم قليله كونه يدعو إلى تناول كثيره، فيلزم ذلك من فرق في الحكم بين المتخذ من العنب وبين المتخذ من غيرها فقال في المتخذ من العنب: يحرم القليل منه والكثير إلا إذا طبخ كما سيأتي بيانه، وفي المتخذ من غيرها لا يحرم منه إلا القدر الذي يسكر وما دونه لا يحرم، ففرقوا بينهما بدعوى المغايرة في الاسم مع اتحاد العلة فيهما، فإن كل قدر في المتخذ من العنب يقدر في المتخذ من غيرها، قال القرطبي: وهذا من أرفع أنواع القياس لمساواة الفرع فيه للأصل في جميع أوصافه، مع موافقته فيه لظواهر النصوص الصحيحة، والله أعلم. قال الشافعي: قال لي بعض الناس الخمر حرام، والسكر من كل شراب حرام، ولا يحرم المسكر منه حتى يسكر، ولا يحد شاربها. فقلت: كيف خالفت ما جاء به عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن عمر ثم عن علي ولم يقل أحد من الصحابة خلافه؟ قال: وروينا عن عمر، قلت: في سنده مجهول عنده فلا حجة فيه. قال البيهقي: أشار إلى رواية سعيد بن ذي لعوة أنه شرب من سطيحة لعمر فكسر فجلده عمر، قال: إنما شربت من سطيحتك. قال: أضربك على السكر. وسعيد قال البخاري وغيره: لا يعرف. قال: وقال بعضهم سعيد بن ذي حدان، وهو غلط. ثم ذكر البيهقي الأحاديث التي جاءت في كسر النبيذ بالماء، منها حديث همام بن الحارث عن عمر "أنه كان في سفر، فأتي بنبيذ فشرب منه فقطب، ثم قال: إن نبيذ الطائفة له عرام - بضم المهملة وتخفيف الراء - ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شرب" وسنده قوي، وهو أصح شيء ورد في ذلك، وليس نصا في أنه بلغ حد الإسكار، فلو كان بلغ حد الإسكار لم يكن صب الماء عليه مزيلا لتحريمه، وقد اعترف الطحاوي بذلك فقال: لو كان بلغ التحريم لكان لا يخل، ولو ذهبت شدته بصب الماء، فثبت أنه قبل أن يصب عليه الماء كان غير حرام. قلت: وإذا لم يبلغ حد الإسكار فلا خلاف في إباحة شرب قليله وكثيره،

(10/40)


فدل على أن تقطيبه لأمر غير الإسكار. قال البيهقي: حمل هذه الأشربة على أنهم خشوا أن تتغير فتشتد، فجوزوا صب الماء فيها ليمتنع الاشتداد، أولى من حملها على أنها كانت بلغت حد الإسكار، فكان صب الماء عليها لذلك. لأن مزجها بالماء لا يمنع إسكارها إذا كانت قد بلغت حد الإسكار. ويحتمل أن يكون سبب صب الماء كون ذلك الشراب كان حمض، ولهذا قطب عمر لما شربه، فقد قال نافع: والله ما قطب عمر وجهه لأجل الإسكار حين ذاقه، ولكنه كان تخلل. وعن عتبة بن فرقد قال: كان النبيذ الذي شربه عمر قد تخلل، قلت: وهذا الثاني أخرجه النسائي بسند صحيح، وروى الأثرم عن الأوزاعي وعن العمري أن عمر إنما كسره بالماء لشدة حلاوته. قلت: ويمكن الحمل على حالتين: هذه لما لم يقطب حين ذاقه وأما عندما قطب فكان لحموضته. واحتج الطحاوي لمذهبهم أيضا بما أخرجه من طريق النخعي عن علقمة عن ابن مسعود في قوله: "كل مسكر حرام" قال: هي الشربة التي تسكر. وتعقب بأنه ضعيف لأنه تفرد به حجاج بن أرطاة عن حماد بن أبي سليمان عن النخعي وحجاج هو ضعيف ومدلس أيضا. قال البيهقي: ذكر هذا لعبد الله بن المبارك فقال: هذا باطل. وروى بسند له صحيح عن النخعي قال: إذا سكر من شراب لم يحل له أن يعود فيه أبدا. قلت: وهذا أيضا عند النسائي بسند صحيح ثم روى النسائي عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة فيه من وجه صحيح إلا عن النخعي من قوله. وأخرج النسائي والأثرم من طريق خالد بن سعد عن أبي مسعود قال: عطش النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف فأتي بنبيذ من السقاية فقطب، فقيل: أحرام هو؟ قال لا: علي بذنوب من ماء زمزم، فصب عليه وشرب" قال الأثرم: احتج به الكوفيون لمذهبهم، ولا حجة فيه، لأنهم متفقون على أن النبيذ إذا اشتد بغير طبخ لا يحل شربه، فإن زعموا أن الذي شربه النبي صلى الله عليه وسلم كان من هذا القبيل فقد نسبوا إليه أنه شرب المسكر، ومعاذ الله من ذلك. وإن زعموا أنه قطب من حموضته لم يكن لهم فيه حجة، لأن النقيع ما لم يشتد فكثيره وقليله حلال بالاتفاق. قلت: وقد ضعف حديث أبي مسعود المذكور النسائي وأحمد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم، لتفرد يحيى بن يمان برفعه وهو ضعيف. ثم روى النسائي عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة فيه من وجه صحيح إلا عن النخعي من قوله.

(10/41)


4 - باب الْخَمْرُ مِنْ الْعَسَلِ وَهُوَ الْبِتْعُ
وَقَالَ مَعْنٌ: سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ الْفُقَّاعِ. فَقَالَ: إِذَا لَمْ يُسْكِرْ فَلاَ بَأْسَ. وَقَالَ ابْنُ الدَّرَاوَرْدِيِّ: سَأَلْنَا عَنْهُ، فَقَالُوا: لاَ يُسْكِرُ، لاَ بَأْسَ بِهِ.
5585- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ؟ فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ" .
5586- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع؟ وهو نبيذ العسل. وكان أهل اليمن يشربونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شراب أسكر فهو حرام" .
5587- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لاَ تَنْتَبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَلاَ فِي الْمُزَفَّتِ" . وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَهَا الْحَنْتَمَ وَالنَّقِيرَ".

(10/41)


قوله: "باب الخمر من العسل" وهو البتع بكسر الموحدة وسكون الشاة وقد تفتح وهي لغة يمانية. قوله: "وقال معن" ابن عيسى "سألت مالك بن أنس عن الفقاع" بضم الفاء وتشديد القاف معروف قد يصنع من العسل وأكثر ما يصنع من الزبيب وحكمه حكم سائر الأنبذة ما دام طريا يجوز شربه ما لم يشتد. قوله: "فقال: إذا لم يسكر فلا بأس به" أي وإذا أسكر حرم كثيره وقليله. قوله: "وقال ابن الدراوردي" هو عبد العزيز بن محمد، وهذا من رواية معن بن عيسى عنه أيضا. قوله: "فقالوا: لا يسكر لا بأس به" لم أعرف الذين سألهم الدراوردي عن ذلك لكن الظاهر أنهم فقهاء أهل المدينة في زمانه وهو قد شارك مالكا في لقاء أكثر مشايخه المدنيين. والحكم في الفقاع ما أجابوه به لأنه لا يسمى فقاعا إلا إذا لم يشتد. وهذا الأثر ذكره معن بن عيسى القزاز في الموطأ رواية عن مالك وقد وقع لنا بالإجازة وغفل بعض الشراح فقال أن معن بن عيسى من شيوخ البخاري فيكون له حكم الاتصال كذا قال والبخاري لم يلق معن بن عيسى لأنه مات بالمدينة والبخاري حينئذ ببخارى وعمره حينئذ أربع سنين وكأن البخاري أراد بذكر هذا الأثر في الترجمة أن المراد بتحريم قليل ما أسكر كثيره أن يكون الكثير في تلك الحالة مسكرا فلو كان الكثير في تلك الحالة لا يسكر لم يحرم قليله ولا كثيرة كما لو عصر العنب وشربه في الحال وسيأتي مزيد في بيان ذلك في "باب البازق" إن شاء الله تعالى. قوله: "سئل عن البتع" زاد شعيب عن الزهري وهو ثاني أحاديث الباب: "وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه" ومثله لأبي داود من طريق الزبيدي عن الزهري، وظاهره أن التفسير من كلام عائشة، ويحتمل أن يكون من كلام من دونها، ووقع في رواية معمر عن الزهري عند أحمد مثل رواية مالك، لكن قال في آخره: "والبتع نبيذ العسل" وهو أظهر في احتمال الإدراج. لأنه أكثر ما يقع في آخر الحديث. وقد أخرجه مسلم من طريق معمر لكن لم يسق لفظه، ولم أقف على اسم السائل في حديث عائشة صريحا، لكنني أظنه أبا موسى الأشعري، فقد تقدم في المغازي من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه "عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة تصنع بها فقال: ما هي؟ قال: البتع والمزر، فقال: كل مسكر حرام. قلت لأبي بردة: ما البتع؟ قال: نبيذ العسل" وهو عند مسلم من وجه آخر عن سعيد بن أبي بردة بلفظ: "فقلت يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر من الشعير والذرة ينبذ حتى يشتد، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم وخواتمه، فقال: أنهى عن كل مسكر" وفي رواية أبي داود التصريح بأن تفسير البتع مرفوع ولفظه: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل، فقال: ذاك البتع، قلت: ومن الشعير والذرة، قال: ذاك المزر. ثم قال: أخبر قومك أن كل مسكر حرام" وقد سأل أبو وهب الجيشاني عن شيء ما سأله أبو موسى، فعند الشافعي وأبي داود من حديثه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المزر فأجاب بقوله: "كل مسكر حرام" وهذه الرواية تفسير المراد بقوله في حديث الباب: "كل شراب أسكر" وأنه لم يرد تخصيص التحريم بحالة الإسكار، بل المراد أنه إذا كانت فيه صلاحية الإسكار حرم تناوله ولو لم يسكر المتناول بالقدر الذي تناوله منه. ويؤخذ من لفظ السؤال أنه وقع عن حكم جنس البتع لا عن القدر المسكر منه، لأنه لو أراد السائل ذلك لقال: أخبرني عما يحل منه وما يحرم، وهذا هو المعهود من لسان العرب إذا سألوا عن الجنس قالوا: هل هذا نافع أو ضار؟ مثلا. وإذا سألوا عن القدر قالوا: كم يؤخذ منه؟ وفي الحديث أن المفتي يجيب السائل بزيادة عما سأل عنه إذا كان ذلك مما

(10/42)


يحتاج إليه السائل. وفيه تحريم كل مسكر سواء كان متخذا من عصير العنب أو من غيره، قال المازري: أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال، وعلى أنه إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره، ثم لو حصل له تخلل بنفسه حل بالإجماع أيضا، فوقع النظر في تبدل هذه الأحكام عند هذه المتخذات فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض، ودل على أن علة التحريم الإسكار فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره انتهى. وما ذكره استنباطا ثبت التصريح به في بعض طرق الخبر، فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسكر كثيره فقليله حرام" وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، وسنده إلى عمرو صحيح. ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعا "كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام" ولابن حبان والطحاوي من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره" وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث، لكن قال: اختلفوا في تأويل الحديث، فقال بعضهم: أراد به جنس ما يسكر. وقال بعضهم أراد به ما يقع السكر عنده، ويؤيده أن القاتل لا يسمى قاتلا حتى يقتل، قال: ويدل له حديث ابن عباس رفعه: "حرمت الخمر قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب" . قلت: وهو حديث أخرجه النسائي ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه وفي رفعه ووقفه، وعلى تقدير صحته فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه بلفظ: "والمسكر" بضم الميم وسكون السين لا "السكر" بضم ثم سكون أو بفتحتين، وعلى تقدير ثبوتها فهو حديث فرد ولفظه محتمل، فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث مع صحتها وكثرتها؟ وجاء أيضا عن علي عند الدار قطني وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني وعن خوات بن جبير عند الدار قطني والحاكم والطبراني وعن زيد بن ثابت عند الطبراني وفي أسانيدها مقال، لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة. قال أبو المظفر بن السمعاني - وكان حنفيا فتحول شافعيا -: ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر، ثم ساق كثيرا منها ثم قال: والأخبار في ذلك كثيرة ولا مساغ لأحد في العدول عنها والقول بخلافها، فإنها حجج قواطع. قال: وقد زل الكوفيون في هذا الباب ورووا أخبارا معلولة لا تعارض هذه الأخبار بحال، ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب مسكرا فقد دخل في أمر عظيم وباء بإثم كبير، وإنما الذي شربه كان حلوا ولم يكن مسكرا. وقد روى ثمامة بن حزن القشيري أنه "سأل عائشة عن النبيذ فدعت جارية حبشية فقالت: سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الحبشية: كنت أنبذ له في سقاء من الليل وأوكؤه وأعلقه فإذا أصبح شرب منه" أخرجه مسلم. وروى الحسن البصري عن أمه عن عائشة نحوه ثم قال: فقياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها، والمفاسد التي توجد في الخمر توجد في النبيذ، ومن ذلك أن علة الإسكار في الخمر لكون قليله يدعو إلى كثيره موجودة في النبيذ، لأن السكر مطلوب على العموم، والنبيذ عندهم عند عدم الخمر يقوم مقام الخمر لأن حصول الفرح والطرب موجود في كل منهما، وإن كان في النبيذ غلظ وكدرة وفي الخمر رقة وصفاء لكن الطبع يحتمل ذلك في النبيذ لحصول السكر كما تحتمل المرارة في الخمر لطلب السكر، قال: وعلى الجملة فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر قل أو كثر مغنية عن القياس والله أعلم. وقد قال عبد الله بن المبارك: لا يصح في حل النبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة شيء ولا عن التابعين، إلا عن إبراهيم النخعي، قال: وقد ثبت حديث عائشة "كل شراب أسكر فهو حرام" وأما ما أخرج

(10/43)


ابن أبي شيبة من طريق أبي وائل: كنا ندخل على ابن مسعود فيسقينا نبيذا شديدا، ومن طريق علقمة: أكلت مع ابن مسعود فأتينا بنبيذ شديد نبذته سيرين فشربوا منه، فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: لو حمل على ظاهره لم يكن معارضا للأحاديث الثابتة في تحريم كل مسكر. ثانيها: أنه ثبت عن ابن مسعود تحريم المسكر قليله وكثيره، فإذا اختلف القليل عنه كان الموافق لقول إخوانه من الصحابة مع موافقة الحديث المرفوع أولى. ثالثها: يحتمل أن يكون المراد بالشدة شدة الحلاوة أو شدة الحموضة فلا يكون فيه حجة أصلا. وأسند أبو جعفر النحاس عن يحيى بن معين أن حديث عائشة "كل شراب أسكر فهو حرام" أصح شيء في الباب، وفي هذا تعقب على من نقل عن ابن معين أنه قال: لا أصل له. وقد ذكر الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" وهو من أكثرهم إطلاعا أنه لم يثبت في شيء من كتب الحديث نفل هذا عن ابن معين اهـ. وكيف يتأتى القول بتضعيفه مع وجود مخارجه الصحيحة ثم مع كثرة طرقه، حتى قال الإمام أحمد: إنها جاءت عن عشرين صحابيا، فأورد كثيرا منها في "كتاب الأشربة" المفرد، فمنها ما تقدم ومنها حديث ابن عمر المتقدم ذكره أول الباب، وحديث عمر بلفظ: "كل مسكر حرام" عند أبي يعلى وفيه الإفريقي، وحديث علي بلفظ: "اجتنبوا ما أسكر" عند أحمد وهو حسن، وحديث ابن مسعود عند ابن ماجه من طريق لين بلفظ عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر لين أيضا بلفظ علي، وحديث أنس أخرجه أحمد بسند صحيح بلفظ: "ما أسكر فهو حرام " وحديث أبي سعيد أخرجه البزار بسند صحيح بلفظ عمر، وحديث الأشج العصري أخرجه أبو يعلى كذلك بسند جيد وصححه ابن حبان، وحديث ديلم الحميري أخرجه أبو داود بسند حسن في حديث فيه: "قال هل يسكر؟ قال: نعم، قال: فاجتنبوه" وحديث ميمونة أخرجه أحمد بسند حسن بلفظ: "وكل شراب أسكر فهو حرام" وحديث ابن عباس أخرجه أبو داود من طريق جيد بلفظ عمر، والبزار من طريق لين بلفظ: " واجتنبوا كل مسكر " وحديث قيس بن سعد أخرجه الطبراني بلفظ حديث ابن عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر بلفظ حديث عمر، وحديث النعمان بن بشير أخرجه أبو داود بسند حسن بلفظ: "وإني أنهاكم عن كل مسكر" وحديث معاوية أخرجه ابن ماجه بسند حسن بلفظ عمر، وحديث وائل بن حجر أخرجه ابن أبي عاصم، وحديث قرة بن إياس المزني أخرجه البزار بلفظ عمر بسند لين، وحديث عبد الله بن مغفل أخرجه أحمد بلفظ: "اجتنبوا المسكر " وحديث أم سلمة أخرجه أبو داود بسند حسن بلفظ: "نهي عن كل مسكر ومفتر " وحديث بريدة أخرجه مسلم في أثناء حديث ولفظه مثل لفظ عمر، وحديث أبي هريرة أخرجه النسائي بسند حسن كذلك، ذكر أحاديث هؤلاء الترمذي في الباب، وفيه أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي بلفظ عمر، وعن زيد بن الخطاب أخرجه الطبراني بلفظ علي "اجتنبوا كل مسكر" وعن الرسيم أخرجه أحمد بلفظ: "اشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكرا" وعن أبي بردة بن نيار أخرجه ابن أبي شيبة بنحو هذا اللفظ، وعن طلق بن علي رواه ابن أبي شيبة بلفظ: "يا أيها السائل عن المسكر لا تشربه ولا تسقه أحدا من المسلمين" وعن صحار العبدي أخرجه الطبراني بنحو هذا، وعن أم حبيبة عند أحمد في "كتاب الأشربة" وعن الضحاك بن النعمان عند ابن أبي عاصم في الأشربة وكذا عنده عن خوات بن جبير، فإذا انضمت هذه الأحاديث إلى حديث ابن عمر وأبي موسى وعائشة زادت عن ثلاثين صحابيا، وأكثر الأحاديث عنهم جياد ومضمونها أن المسكر لا يحل تناوله بل يجب اجتنابه والله أعلم. وقد رد أنس الاحتمال الذي جنح إليه الطحاوي فقال أحمد: "حدثنا عبد الله بن إدريس سمعت

(10/44)


المختار بن فلفل يقول: سألت أنسا فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفت وقال: كل مسكر حرام. قال فقلت له: صدقت المسكر حرام، فالشربة والشربتان على الطعام؟ فقال: ما أسكر كثيره فقليله حرام" وهذا سند صحيح على شرط مسلم والصحابي أعرف بالمراد ممن تأخر بعده، ولهذا قال عبد الله بن المبارك ما قال، واستدل بمطلق قوله: "كل مسكر حرام " على تحريم ما يسكر ولو لم يكن شرابا، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها، وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة، وهو مكابرة لأنها تحدث بالمشاهدة ما يحدث الخمر من الطرب والنشأة والمداومة عليها والانهماك فيها، وعلى تقدير تسليم أنها ليست بمسكرة فقد ثبت في أبي داود النهي عن كل مسكر ومفتر وهو بالفاء، والله أعلم. قوله: "وعن الزهري" هو من رواية شعيب أيضا عن الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور. وقد أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" وأفرده عن أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان شيخ البخاري به، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبراني. قوله: "وكان أبو هريرة يلحق معهما الحنتم والنقير" القائل هذا هو الزهري، وقع ذلك عند شعيب عنه مرسلا، وأخرجه مسلم والنسائي من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت" ثم يقول أبو هريرة "واجتنبوا الحناتم" ورفعه كله من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: "نهي عن المزفت والحنتم والنقير" ومثله لابن سعد من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة وزاد فيه: "والدباء" وقد تقدم ضبط هذه الأشياء في شرح حديث وفد عبد القيس في أوائل الصحيح من كتاب الإيمان. وأخرج مسلم من طريق زاذان قال: "سألت ابن عمر عن الأوعية فقلت: أخبرناه بلغتكم وفسره لنا بلغتنا، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتمة وهي الجرة، وعن الدباء وهي القرعة، وعن النقير وهي أصل النخلة تنقر نقرا، وعن المزفت وهو المقير". وأخرج أبو داود الطيالسي وابن أبي عاصم والطبراني من حديث أبي بكر قال: "نهينا عن الدباء والنقير والحنتم والمزفت، فأما الدباء فإنا معشر ثقيف بالطائف كنا نأخذ الدباء فنخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها ثم نتركها حتى تهدر ثم تموت، وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة فيشدخون فيه الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت، وأما الحنتم فجرار جاءت تحمل إلينا فيها الخمر، وأما المزفت فهي هذه الأوعية التي فيها هذا الزفت". وسيأتي بيان نسخ النهي عن الأوعية بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى. "تنبيه": قال المهلب: وجه إدخال حديث أنس في النهي في الانتباذ في الأوعية المذكورة في ترجمة الخمر من العسل أن العسل لا يكون مسكرا إلا بعد الانتباذ، والعسل قبل الانتباذ مباح، فأشار إلى اجتناب بعض ما ينتبذ فيه لكونه يسرع إليه الإسكار.

(10/45)


5 - باب مَا جَاءَ فِي أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنْ الشَّرَابِ
5588- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَثَلاَثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ إِلَيْنَا عَهْداً الْجَدُّ وَالْكَلاَلَةُ وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا قَالَ قُلْتُ يَا أَبَا عَمْرٍو فَشَيْءٌ يُصْنَعُ

(10/45)


بِالسِّنْدِ مِنْ الأُرْزِ قَالَ ذَاكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ".
وَقَالَ حَجَّاجٌ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ: مَكَانَ "الْعِنَبِ": "الزَّبِيبَ".
5589- حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن بن عمر عن عمر قال: "الخمر يصنع من خمسة: من الزبيب والتمر والحنطة والشعير والعسل".
قوله: "باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب" كذا قيده بالشراب، وهو متفق عليه، ولا يرد عليه أن غير الشراب ما يسكر لأن الكلام إنما هو في أنه هل يسمى خمرا أم لا. قوله: "حدثني أحمد بن أبي رجاء" هو أبو الوليد الهروي واسم أبيه عبد الله بن أيوب، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وأبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي. قوله: "عن الشعبي" في رواية ابن علية عن أبي حيان "حدثنا الشعبي" أخرجه النسائي. قوله: "خطب عمر" في رواية ابن إدريس عن أبي حيان بسنده "سمعت عمر يخطب" وقد تقدمت في التفسير وزاد فيه: "أيها الناس". قوله: "فقال إنه قد نزل" زاد مسدد فيه عن القطان فيه: "أما بعد" وقد تقدمت في أول الأشربة، وعند البيهقي من وجه آخر عن مسدد "فحمد الله وأثنى عليه". قوله: "نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة" الجملة حالية أي نزل تحريم الخمر في حال كونها تصنع من خمسة، ويجوز أن تكون استئنافية أو معطوفة على ما قبلها، والمراد أن الخمر تصنع من هذه الأشياء لا أن ذلك يختص بوقت نزولها، والأول أظهر لأنه وقع في رواية مسلم بلفظ: "ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل وهي من خمسة أشياء" نعم وقع في آخر الباب من وجه آخر "وإن الخمر تصنع من خمسة". قوله: "من العنب الخ" هذا الحديث أورده أصحاب المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة لأن له عندهم حكم الرفع لأنه خبر صحابي شهد التنزيل أخبر عن سبب نزولها، وقد خطب به عمر على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحد منهم إنكاره، وأراد عمر بنزول تحريم الخمر الآية المذكورة في أول كتاب الأشربة وهي آية المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى آخرها. فأراد عمر التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصا بالمتخذ من العنب بل يتناول المتخذ من غيرها، ويوافقه حديث أنس الماضي فإنه يدل على أن الصحابة فهموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر سواء كان من العنب أم من غيرها، وقد جاء هذا الذي قاله عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحا: فأخرج أصحاب السنن الأربعة وصححه ابن حبان من وجهين عن الشعبي "إن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة، وإني أنهاكم عن كل مسكر" لفظ أبي داود، وكذا ابن حبان، وزاد فيه أن النعمان خطب الناس بالكوفة.
ولأبي داود من وجه آخر عن الشعبي عن النعمان بلفظ: " إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا" ، ومن هذا الوجه أخرجها أصحاب السنن، والتي قبلها فيها الزبيب دون العسل، ولأحمد من حديث أنس بسند صحيح عنه قال: " الخمر من العنب والتمر والعسل " ولأحمد من حديث أنس بسند صحيح عنه قال: " الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة " ، أخرجه أبو يعلى من هذا الوجه بلفظ: "حرمت الخمر يوم حرمت وهي" فذكرها وزاد الذرة. وأخرج الخلعي في فوائده من طريق خلاد بن

(10/46)


السائب عن أبيه رفعه مثل الرواية الثانية، ولكن ذكر الزبيب بدل الشعير، وسنده لا بأس به، ويوافق ذلك ما تقدم في التفسير من حديث ابن عمر: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب. قوله: "الذرة" بضم المعجمة وتخفيف الراء من الحبوب معروفة، وقد تقدم ذكرها في حديث أبي موسى في الباب قبله. قوله: "والخمر ما خامر العقل" أي غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله وهو من مجاز التشبيه، والعقل هو آلة التمييز فلذلك حرم ما غطاه أو غيره، لأن بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده ليقوموا بحقوقه. قال الكرماني: هذا تعريف بحسب اللغة، وأما بحسب العرف فهو ما يخامر العقل من عصير العنب خاصة، كذا قال، وفيه نظر لأن عمر ليس في مقام تعريف اللغة بل هو في مقام تعريف الحكم الشرعي، فكأنه قال: الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشرع هو ما خامر العقل. على أن عند أهل اللغة اختلافا في ذلك كما قدمته، ولو سلم أن الخمر في اللغة يختص بالمتخذ من العنب فالاعتبار بالحقيقة الشرعية وقد تواردت الأحاديث على أن المسكر من المتخذ من غير العنب يسمى خمرا، والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" قال البيهقي. ليس المراد الحصر فيهما لأنه ثبت أن الخمر تتخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره، وإنما فيه الإشارة إلى أن الخمر شرعا لا تختص بالمتخذ من العنب، قلت: وجعل الطحاوي هذه الأحاديث متعارضة، وهي حديث أبي هريرة في أن الخمر من شيئين مع حديث عمر ومن وافقه أن الخمر تتخذ من غيرهما، وكذا حديث ابن عمر "لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء" وحديث أنس يعني المتقدم ذكره وبيان اختلاف ألفاظه منها: "إن الخمر حرمت وشرابهم الفضيخ" وفي لفظ له "إنا نعدها يومئذ خمرا" وفي لفظ له "إن الخمر يوم حرمت البسر والتمر" قال فلما اختلف الصحابة في ذلك ووجدنا اتفاق الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر وأن مستحله كافر دل على أنهم لم يعملوا بحديث أبي هريرة، إذ لو عملوا به لكفروا مستحل نبيذ التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب اهـ. ولا يلزم من كونهم لم يكفروا مستحل نبيذ التمر أن يمنعوا تسميته خمرا فقد يشترك الشيئان في التسمية ويفترقان في بعض الأوصاف، مع أنه هو يوافق على أن حكم المسكر من نبيذ التمر حكم قليل العنب في التحريم، فلم تبق المشاححة إلا في التسمية. والجمع بين حديث أبي هريرة وغيره بحمل حديث أبي هريرة على الغالب؛ أي أكثر ما يتخذ الخمر من العنب والتمر، ويحمل حديث عمر ومن وافقه على إرادة استيعاب ذكر ما عهد حينئذ أنه يتخذ منه الخمر، وأما قول ابن عمر فعلى إرادة تثبيت أن الخمر يطلق على ما لا يتخذ من العنب، لأن نزول تحريم الخمر لم يصادف عند من خوطب بالتحريم حينئذ إلا ما يتخذ من غير العنب أو على إرادة المبالغة، فأطلق نفي وجودها بالمدينة وإن كانت موجودة فيها بقلة، فإن تلك القلة بالنسبة لكثرة المتخذ مما عداها كالعدم. وقد قال الراغب في "مفردات القرآن" سمي الخمر لكونه خامرا للعقل أي ساترا له، وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر وعند بعضهم للمتخذ من العنب خاصة، وعند بعضهم للمتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم لغير المطبوخ، فرجح أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرا حقيقة، وكذا قال أبو نصر بن القشيري في تفسيره: سميت الخمر خمرا لسترها العقل أو لاختمارها. وكذا قال غير واحد من أهل اللغة منهم أبو حنيفة الدينوري وأبو نصر الجوهري، ونقل عن ابن الأعرابي قال: سميت الخمر لأنها تركت حتى اختمرت، واختمارها تغير رائحتها. وقيل: سميت بذلك لمخامرتها العقل. نعم جزم ابن سيده في

(10/47)


"المحكم" بأن الخمر حقيقة إنما هي للعنب، وغيرها من المسكرات يسمى خمرا مجازا. وقال صاحب "الفائق" في حديث: "إياكم والغبيراء فإنها خمر العالم" هي نبيذ الحبشة متخذة من الذرة سميت الغبيراء لما فيها من الغبرة. وقوله: "خمر العالم" أي هي مثل خمر العالم لا فرق بينها وبينها. قلت: وليس تأويله هذا بأولى من تأويل من قال: أراد أنها معظم خمر العالم. وقال صاحب "الهداية" من الحنفية الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد، وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم، قال: وقيل: هو اسم لكل مسكر لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" وقوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" ولأنه من مخامرة العقل وذلك موجود في كل مسكر، قال: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولأن تحريم الخمر قطعي وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظني، قال: وإنما سمي الخمر خمرا لتخمره لا لمخامرة العقل، قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصا فيه، كما في النجم فإنه مشتق من الظهور ثم هو خاص بالثريا اهـ. والجواب عن الحجة الأولى ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمرا. وقال الخطابي: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرا، عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه. وقال ابن عبد البر: قال الكوفيون إن الخمر من العنب لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْراً} قال: فدل على أن الخمر هو ما يعتصر لا ما ينتبذ، قال: ولا دليل فيه على الحصر. وقال أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم: كل مسكر خمر وحكمه حكم ما اتخذ من العنب، ومن الحجة لهم أن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة وهم أهل اللسان أن كل شيء يسمى خمرا يدخل في النهي فأراقوا المتخذ من التمر والرطب ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب. وعلى تقدير التسليم فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمرا من الشرع كان حقيقة شرعية وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية. وعن الثانية ما تقدم من أن اختلاف مشتركين في الحكم في الغلظ لا يلزم منه افتراقهما في التسمية، كالزنا مثلا فإنه يصدق على من وطئ أجنبية وعلى من وطئ امرأة جاره، والثاني أغلظ من الأول، وعلى من وطئ محرما له وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة، وأيضا فالأحكام الفرعية لا يشترط فيها الأدلة القطعية، فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب، وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره، أن لا يكون حراما بل يحكم بتحريمه إذا ثبت بطريق ظني تحريمه، وكذا تسميته خمرا والله أعلم. وعن الثالثة ثبوت النقل عن أعلم الناس بلسان العرب بما نفاه هو، وكيف يستجيز أن يقول لا لمخامرة العقل مع قول عمر بمحضر الصحابة "الخمر ما خامر العقل" كأن مستنده ما ادعاه من اتفاق أهل اللغة فيحمل قول عمر على المجاز، لكن اختلف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر خمرا. فقال أبو بكر بن الأنباري: سميت الخمر خمرا لأنها تخامر العقل أي تخالطه، قال: ومنه قولهم خامره الداء أي خالطه، وقيل: لأنها تخمر العقل أي تستره، ومنه الحديث الآتي قريبا "خمروا آنيتكم" ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها، وهذا أخص من التفسير الأول لأنه لا يلزم من المخالطة التغطية. وقيل: سميت خمرا لأنها تخمر حتى تدرك كما يقال خمرت العجين فتخمر أي تركته حتى أدرك، ومنه خمرت الرأي أي تركته حتى ظهر وتحرر، وقيل: سميت خمرا لأنها تغطى حتى تغلي، ومنه حديث المختار بن فلفل "قلت لأنس: الخمر من العنب أو من غيرها؟ قال: ما خمرت من ذلك فهو الخمر" أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح، ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان. قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في الخمرة لأنها تركت

(10/48)


حتى أدركت وسكنت، فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه. وقال القرطبي: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره - على صحتها وكثرتها - تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه ولم يتوقفوا ولا استفصلوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستكشفوا ويستفصلوا ويتحققوا التحريم لما كان تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلما لم يفعلوا ذلك وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنهم فهموا التحريم نصا، فصار القائل بالتفريق سالكا غير سبيلهم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر بما يوافق ذلك، وهو ممن جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وسمعه الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك. وإذا ثبت أن كل ذلك يسمى خمرا لزم تحريم قليله وكثيره. وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في ذلك. ثم ذكرها قال: وأما الأحاديث عن الصحابة التي تمسك بها المخالف فلا يصح منها شيء على ما قال عبد الله بن المبارك وأحمد وغيرهم، وعلى تقدير ثبوت شيء منها فهو محمول على نقيع الزبيب أو التمر من قبل أن يدخل حد الإسكار جمعا بين الأحاديث. قلت: ويؤيده ثبوت مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في باب نقيع التمر، ولا فرق في الحل بينه وبين عصير العنب أول ما يعصر، وإنما الخلاف فيما اشتد منهما هل يفترق الحكم فيه أو لا؟ وقد ذهب بعض الشافعية إلى موافقة الكوفيين في دعواهم أن اسم الخمر خاص بما يتخذ من العنب مع مخالفتهم له في تفرقتهم في الحكم وقولهم بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كل شراب، فقال الرافعي: ذهب أكثر الشافعية إلى أن الخمر حقيقة فيما يتخذ من العنب مجاز في غيره، وخالفه ابن الرفعة فنقل عن المزني وابن أبي هريرة وأكثر الأصحاب أن الجميع يسمى خمرا حقيقة. قال: وممن نقله عن أكثر الأصحاب القاضيان أبو الطيب والروياني، وأشار ابن الرفعة إلى أن النقل الذي عزاه الرافعي للأكثر لم يجد نقله عن الأكثر إلا في كلام الرافعي، ولم يتعقبه النووي في "الروضة"، لكن كلامه في "شرح مسلم" يوافقه وفي "تهذيب الأسماء" يخالفه، وقد نقل ابن المنذر عن الشافعي ما يوافق ما نقلوا عن المزني فقال: قال إن الخمر من العنب ومن غير العنب عمر وعلي وسعيد وابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عباس وعائشة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث، ويمكن الجمع بأن من أطلق على غير المتخذ من العنب حقيقة يكون أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية. وقد أجاب بهذا ابن عبد البر وقال: إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي دون اللغوي والله أعلم. وقد قدمت في "باب نزول تحريم الخمر، وهو من البسر" إلزام من قال بقول أهل الكوفة إن الخمر حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره أنه يلزمهم أن يجوزوا إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه، لأن الصحابة لما بلغهم تحريم الخمر أراقوا كل ما كان يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازا، وإذا لم يجوزوا ذلك صح أن الكل خمر حقيقة ولا انفكاك عن ذلك، وعلى تقدير إرخاء العنان والتسليم أن الخمر حقيقة في ماء العنب خاصة فإنما ذلك من حيث الحقيقة اللغوية، فأما من حيث الحقيقة الشرعية فالكل خمر حقيقة لحديث: "كل مسكر خمر" فكل ما اشتد

(10/49)


كان خمرا، وكل خمر يحرم قليله وكثيره، وهذا يخالف قولهم وبالله التوفيق. قوله: "وثلاث" هي صفة موصوف أي أمور أو أحكام. قوله: "وددت" أي تمنيت، وإنما تمنى ذلك لأنه أبعد من محذور الاجتهاد وهو الخطأ فيه، فثبت على تقدير وقوعه، ولو كان مأجورا عليه فإنه يفوته بذلك الأجر الثاني، والعمل بالنص إصابة محضة. قوله: "لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهدا" في رواية مسلم: "عهدا ينتهي إليه"، وهذا يدل على أنه لم يكن عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم نص فيها، ويشعر بأنه كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الخمر ما لم يحتج معه إلى شيء غيره حتى خطب بذلك جازما به. قوله: "الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا" أما الجد فالمراد قدر ما يرث لأن الصحابة اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا، فسيأتي في كتاب الفرائض عن عمر أنه قضى فيه بقضايا مختلفة. وأما الكلالة بفتح الكاف وتخفيف اللام فسيأتي بيانها أيضا في كتاب الفرائض. وأما أبواب الربا فلعله يشير إلى ربا الفضل لأن ربا النسيئة متفق عليه بين الصحابة، وسياق عمر يدل على أنه كان عنده نص في بعض من أبواب الربا دون بعض، فلهذا تمنى معرفة البقية. قوله: "قلت يا أبا عمرو" القائل هو أبو حيان التيمي، وأبو عمرو هي كنية الشعبي. قوله: "فشيء يصنع بالسند من الأرز" زاد الإسماعيلي في روايته: "يقال له السادية، يدعى الجاهل فيشرب منها شربة فتصرعه". قلت: وهذا الاسم لم يذكره صاحب "النهاية" لا في السين المهملة ولا في الشين المعجمة، ولا رأيته في "صحاح الجوهري" وما عرفت ضبطه إلى الآن، ولعله فارسي، فإن كان عربيا فلعله الشاذبة بشين وذال معجمتين ثم موحدة، قال في "الصحاح": الشاذب المتنحي عن وطنه، فلعل الشاذبة تأنيثه، وسميت الخمر بذلك لكونها إذا خالطت العقل تنحت به عن وطنه. قوله: "ذاك لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم" أي اتخاذ الخمر من الأرز لم يكن على العهد النبوي. وفي رواية الإسماعيلي: "لم يكن هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان لنهى عنه، ألا ترى أنه قد عم الأشربة كلها فقال: الخمر ما خامر العقل" قال الإسماعيلي: هذا الكلام الأخير فيه دلالة على أن قوله: "الخمر ما خامر العقل" من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقال الخطابي: إنما عد عمر الخمسة المذكورة لاشتهار أسمائها في زمانه، ولم تكن كلها توجد بالمدينة الوجود العام، فإن الحنطة كانت بها عزيزة، وكذا العسل بل كان أعز، فعد عمر ما عرف فيها، وجعل ما في معناها مما يتخذ من الأرز وغيره خمرا إن كان مما يخامر العقل، وفي ذلك دليل على جواز إحداث الاسم بالقياس وأخذه من طريق الاشتقاق، كذا قال، ورد بذلك ابن العربي في جواب من زعم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" معناه مثل الخمر، لأن حذف مثل ذلك مسموع شائع، قال: بل الأصل عدم التقدير، ولا يصار إلى التقدير إلا إلى الحاجة، فإن قيل احتجنا إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث لبيان الأسماء قلنا: بل بيان الأسماء من جملة الأحكام لمن لا يعلمها. ولا سيما ليقطع تعلق القصد بها. قال: وأيضا لو لم يكن الفضيخ خمرا ونادى المنادي حرمت الخمر لم يبادروا إلى إراقتها ولم يفهموا أنها داخلة في مسمى الخمر، وهم الفصح اللسن. فإن قيل: هذا إثبات اسم بقياس، قلنا: إنما هو إثبات اللغة عن أهلها، فإن الصحابة عرب فصحاء فهموا من الشرع ما فهموه من اللغة ومن اللغة ما فهموه من الشرع.
وذكر ابن حزم أن بعض الكوفيين احتج بما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عمر بسند جيد قال: "أما الخمر فحرام لا سبيل إليها، وأما ما عداها من الأشربة فكل مسكر حرام" قال وجوابه أنه ثبت عن ابن عمر أنه قال: "كل مسكر خمر" فلا يلزم من تسمية المتخذ من العنب خمرا انحصار اسم الخمر فيه، وكذا احتجوا بحديث ابن عمر أيضا: "حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء" مراده المتخذ من العنب، ولم يرد أن غيرها لا يسمى خمرا، بدليل حديثه

(10/50)


الآخر "نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة خمسة أشربة كلها تدعى الخمر ما فيها خمر العنب". وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم ذكر الأحكام على المنبر لتشتهر بين السامعين، وذكر أما بعد فيها، والتنبيه بالنداء، والتنبيه على شرف العقل وفضله، وتمني الخير، وتمني البيان للأحكام، وعدم الاستثناء. قوله: "وقال حجاج" هو ابن منهال، وحماد هو ابن سلمة. قوله: "عن أبي حيان مكان العنب الزبيب" يعني أن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن أبي حيان بهذا السند والمتن فذكر الزبيب بدل العنب، وهذا التعليق وصله علي بن عبد العزيز البغوي في مسنده عن حجاج بن منهال كذلك وليس فيه سؤال أبي حيان الأخير وجواب الشعبي، وكذلك أخرجه ابن أبي خيثمة عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة، ووقع عند مسلم أيضا من رواية علي بن مسهر ومن رواية عيسى بن يونس كلاهما عن أبي حيان الزبيب بدل العنب كما قال حماد بن سلمة، قال البيهقي: وكذلك قال الثوري عن أبي حيان. قلت: وكذلك أخرجه النسائي من طريق محمد بن قيس عن الشعبي، والله أعلم.

(10/51)


6 - باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ
5590- وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلاَبِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ يَعْنِي الْفَقِيرَ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إِلَيْنَا غَداً فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
قوله: "باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه" قال الكرماني: ذكره باعتبار الشراب، وإلا فالخمر مؤنث سماعي. قلت: بل فيه لغة بالتذكير. قال الكرماني: وفي بعض الروايات تسميتها بغير اسمها. وذكر ابن التين عن الداودي قال: كأنه يريد بالأمة من يتسمى بهم ويستحل ما لا يحل لهم، فهو كافر إن أظهر ذلك، ومنافق إن أسره، أو من يرتكب المحارم مجاهرة واستخفافا فهو يقارب الكفر وإن تسمى بالإسلام، لأن الله لا يخسف بمن تعود عليه رحمته في المعاد. كذا قال؛ وفيه نظر يأتي توجيهه. وقال ابن المنير: الترجمة مطابقة للحديث إلا في قوله: "ويسميه بغير اسمه" فكأنه قنع بالاستدلال له بقوله في الحديث: "من أمتي" لأن من كان من الأمة المحمدية يبعد أن يستحل الخمر بغير تأويل، إذ لو كان عنادا ومكابرة لكان خارجا عن الأمة، لأن تحريم الخمر قد علم بالضرورة قال: وقد ورد في غير هذا الحديث التصريح بمقتضى الترجمة، لكن لم يوافق شرطه فاقتنع بما في الرواية التي ساقها من الإشارة. قلت: الرواية التي أشار إليها أخرجها أبو داود من طريق مالك بن أبي مريم عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ليشربن ناس الخمر يسمونها بغير اسمها" وصححه ابن حبان، وله شواهد كثيرة: منها لابن ماجه من حديث ابن محيريز عن ثابت بن السمط عن عبادة بن الصامت رفعه: "يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" ورواه أحمد بلفظ: "ليستحلن طائفة من أمتي الخمر" وسنده جيد، ولكن أخرجه النسائي من وجه آخر عن ابن محيريز فقال: "عن رجل من الصحابة" ولابن ماجه أيضا من حديث خالد بن معدان عن أبي أمامة رفعه: "لا تذهب الأيام والليالي

(10/51)


حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" وللدارمي بسند لين من طريق القاسم عن عائشة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما يكفأ الإسلام كما يكفأ الإناء كفء الخمر، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: يسمونها بغير اسمها فيستحلونها" وأخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن عائشة، ولابن وهب من طريق سعيد بن أبي هلال عن محمد بن عبد الله "أن أبا مسلم الخولاني حج فدخل على عائشة فجعلت تسأله عن الشام وعن بردها فقال: يا أم المؤمنين إنهم يشربون شرابا لهم يقال له الطلاء، فقالت: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ حتى سمعته يقول: إن ناسا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها" وأخرجه البيهقي. قال أبو عبيد: جاءت في الخمر آثار كثيرة بأسماء مختلفة فذكر منها السكر بفتحتين قال: وهو نقيع التمر إذا غلى بغير طبخ، والجعة بكسر الجيم وتخفيف العين نبيذ الشعير، والسكركة خمر الحبشة من الذرة - إلى أن قال - وهذه الأشربة المسماة كلها عندي كناية عن الخمر، وهي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: "يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها" ، ويؤيد ذلك قول عمر: "الخمر ما خامر العقل". قوله: "وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد" هكذا في جميع النسخ من الصحيح من جميع الروايات مع تنوعها عن الفربري، وكذا من رواية النسفي وحماد بن شاكر، وذهل الزركشي في توضيحه فقال: معظم الرواة يذكرون هذا الحديث في البخاري معلقا، وقد أسنده أبو ذر عن شيوخه فقال: "قال البخاري: حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن عمار" قال: فعلى هذا يكون الحديث صحيحا على شرط البخاري. وبذلك يرد على ابن حزم دعواه الانقطاع اهـ. وهذا الذي قاله خطأ نشأ عن عدم تأمل، وذلك أن القائل "حدثنا الحسين بن إدريس" هو العباس بن الفضل شيخ أبي ذر لا البخاري، ثم هو الحسين بضم أوله وزيادة التحتانية الساكنة وهو الهروي لقبه خرم بضم المعجمة وتشديد الراء، وهو من المكثرين، وإنما الذي وقع في رواية أبي ذر من الفائدة أنه استخرج هذا الحديث من رواية نفسه من غير طريق البخاري إلى هشام، على عادة الحفاظ إذا وقع لهم الحديث عاليا عن الطريق التي في الكتاب المروي لهم يوردونها عالية عقب الرواية النازلة، وكذلك إذا وقع في بعض أسانيد الكتاب المروي خلل ما من انقطاع أو غيره وكان عندهم من وجه آخر سالما أوردوه، فجرى أبو ذر على هذه الطريقة، فروى الحديث عن شيوخه الثلاثة عن الفربري عن البخاري قال: "وقال هشام بن عمار" ولما فرغ من سياقه قال أبو ذر: "حدثنا أبو منصور الفضل بن العباس النضروي حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن عمار به" وأما دعوى ابن حزم التي أشار إليها فقد سبقه إليها ابن الصلاح في "علوم الحديث" فقال: التعليق في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها، وصورته صورة الانقطاع وليس حكمه ولا خارجا - ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح - إلى قبيل الضعيف، ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر وأبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف" الحديث من جهة أن البخاري أورده قائلا "قال هشام بن عمار" وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع اهـ. ولفظ ابن حزم في "المحلى": ولم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد. وحكى ابن الصلاح في موضع آخر أن الذي يقول البخاري فيه قال فلان ويسمى

(10/52)


شيخا من شيوخه يكون من قبيل الإسناد المعنعن، وحكي عن بعض الحفاظ أنه يفعل ذلك فيما يتحمله عن شيخه مذاكرة، وعن بعضهم أنه فيما يرويه مناولة. وقد تعقب شيخنا الحافظ أبو الفضل كلام ابن الصلاح بأنه وجد في الصحيح عدة أحاديث يرويها البخاري عن بعض شيوخه قائلا قال فلان ويوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ. قلت: الذي يورده البخاري من ذلك على أنحاء: منها ما يصرح فيه بالسماع عن ذلك الشيخ بعينه إما في نفس الصحيح وإما خارجه، والسبب في الأول إما أن يكون أعاده في عدة أبواب وضاق عليه مخرجه فتصرف فيه حتى لا يعيده على صورة واحدة في مكانين، وفي الثاني أن لا يكون على شرطه إما لقصور في بعض رواته وإما لكونه موقوفا، ومنها ما يورده بواسطة عن ذلك الشيخ والسبب فيه كالأول، لكنه في غالب هذا لا يكون مكثرا عن ذلك الشيخ، ومنها ما لا يورده في مكان آخر من الصحيح مثل حديث الباب، فهذا مما كان أشكل أمره علي، والذي يظهر لي الآن أنه لقصور في سياقه، وهو هنا تردد هشام في اسم الصحابي، وسيأتي من كلامه ما يشير إلى ذلك حيث يقول: إن المحفوظ أنه عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك، وساقه في "التاريخ" من رواية مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم كذلك، وقد أشار المهلب إلى شيء من ذلك. وأما كونه سمعه من هشام بلا واسطة وبواسطة فلا أثر له، لأنه لا يجزم إلا بما يصلح للقبول، ولا سيما حيث يسوقه مساق الاحتجاج. وأما قول ابن الصلاح أن الذي يورده بصيغة " قال: "حكمه حكم الإسناد المعنعن، والعنعنة من غير المدلس محمولة على الاتصال، وليس البخاري مدلسا، فيكون متصلا، فهو بحث وافقه عليه ابن منده والتزمه فقال: "أخرج البخاري" قال: "وهو تدليس"، وتعقبه شيخنا بأن أحدا لم يصف البخاري بالتدليس، والذي يظهر لي أن مراد ابن منده أن صورته صورة التدليس لأنه يورده بالصيغة المحتملة ويوجد بينه وبينه واسطة وهذا هو التدليس بعينه، لكن الشأن في تسليم أن هذه الصيغة من غير المدلس لها حكم العنعنة فقد قال الخطيب: وهو المرجوع إليه في الفن أن "قال" لا تحمل على السماع إلا ممن عرف من عادته أنه يأتي بها في موضع السماع، مثل حجاج بن محمد الأعور، فعلى هذا ففارقت العنعنة فلا تعطى حكمها ولا يترتب عليه أثرها من التدليس ولا سيما ممن عرف من عادته أن يوردها لغرض غير التدليس، وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحا إلى من علق عنه ولو لم يكن من شيوخه، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولا إلى من علقه بشرط الصحة أزال الإشكال، ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع وصنفت كتاب "تعليق التعليق". وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي وفي كلامه على علوم الحديث أن حديث هشام بن عمار جاء عنه موصولا في "مستخرج الإسماعيلي" قال حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار، وأخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" فقال حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد حدثنا هشام بن عمار، قال وأخرجه أبو داود في سننه فقال حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بسنده انتهى. وننبه فيه على موضعين: أحدهما: أن الطبراني أخرج الحديث في معجمه الكبير عن موسى بن سهل الجويني وعن جعفر بن محمد الفريابي كلاهما عن هشام، والمعجم الكبير أشهر من مسند الشاميين فعزوه إليه أولى، وأيضا فقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه على البخاري من رواية عبدان بن محمد المروزي ومن رواية أبي بكر الباغندي كلاهما عن هشام، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن الحسين بن عبد الله القطان عن هشام. ثانيهما: قوله: إن أبا داود أخرجه يوهم أنه عند أبي داود

(10/53)


باللفظ الذي وقع فيه النزاع وهو المعازف، وليس كذلك بل لم يذكر فيه الخمر الذي وقعت ترجمة البخاري لأجله فإن لفظه عند أبي داود بالسند المذكور إلى عبد الرحمن بن يزيد "حدثنا عطية بن قيس سمعت عبد الرحمن بن غنم الأشعري يقول حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني أنه سمع رسول الله يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر - وذكر كلاما قال - يمسخ منهم قردة وخنازير إلى يوم القيامة" نعم ساق الإسماعيلي الحديث من هذا الوجه من رواية دحيم عن بشر بن بكر بهذا الإسناد فقال: "يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" الحديث. قوله: "حدثنا صدقة بن خالد" هو الدمشقي من موالي آل أبي سفيان، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر تقدم في مناقب أبي بكر، وهو من رواية هشام بن عمار عنه أيضا عن زيد بن واقد وصدقة هذا ثقة عند الجميع، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه، ثقة ابن ثقة ليس به بأس، أثبت من الوليد بن مسلم. وذهل شيخنا ابن الملقن تبعا لغيره فقال: ليته - يعني ابن حزم - أعل الحديث بصدقة فإن ابن الجنيد روى عن يحيى بن معين: ليس بشيء، وروى المروزي عن أحمد: ذلك ليس بمستقيم ولم يرضه. وهذا الذي قاله الشيخ خطأ، وإنما قال يحيى وأحمد ذلك في صدقة بن عبد الله السمين وهو أقدم من صدقة بن خالد، وقد شاركه في كونه دمشقيا، وفي الرواية عن بعض شيوخه كزيد بن واقد، وأما صدقة بن خالد فقد قدمت قول أحمد فيه، وأما ابن معين فالمنقول عنه أنه قال: كان صدقة بن خالد أحب إلى أبي مسهر من الوليد بن مسلم، قال وهو أحب إلي من يحيى بن حمزة. ونقل معاوية بن صالح عن ابن معين أن صدقة بن خالد ثقة، ثم إن صدقة لم ينفرد به عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بل تابعه على أصله بشر بن بكر كما تقدم. قوله: "حدثنا عطية بن قيس" هو شامي تابعي قواه أبو حاتم وغيره ومات سنة عشر ومائة وقيل: بعد ذلك، ليس له في البخاري ولا لشيخه إلا هذا الحديث، والإسناد كله شاميون. قوله: "عبد الرحمن بن غنم" بفتح المعجمة وسكون النون ابن كريب بن هانئ مختلف في صحبته، قال ابن سعد: كان أبوه ممن قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة أبي موسى، وذكر ابن يونس أن عبد الرحمن كان مع أبيه حين وفد، وأما أبو زرعة الدمشقي وغيره من حفاظ الشام فقالوا: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، وقدمه دحيم على الصنابحي. وقال ابن سعد أيضا: بعثه عمر يفقه أهل الشام، ووثقه العجلي وآخرون. ومات سنة ثمان وسبعين. ووقع عند الإسماعيلي من الزيادة عن عطية بن قيس قال: "قام ربيعة الجرشي في الناس - فذكر حديثا فيه طول - فإذا عبد الرحمن بن غنم فقال: يمينا حلفت عليها حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري، والله يمينا أخرى حدثني أنه سمع" وفي رواية مالك بن أبي مريم "كنا عند عبد الرحمن بن غنم معنا ربيعة الجرشي فذكروا الشراب" فذكر الحديث. قوله: "حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري" هكذا رواه أكثر الحفاظ عن هشام بن عمار بالشك، وكذا وقع عند الإسماعيلي من رواية بشر بن بكر، لكن وقع عند أبي داود من رواية بشر بن بكر "حدثني أبو مالك" بغير شك، ووقع عند ابن حبان عن الحسين بن عبد الله عن هشام بهذا السند إلى عبد الرحمن بن غنم، "أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الأشعريين يقولان" فذكر الحديث، كذا قال، وعلى تقدير أن يكون المحفوظ هو الشك فالشك في اسم الصحابي لا يضر، وقد أعله ابن حزم وهو مردود، وأعجب منه أن ابن بطال حكى عن المهلب أن سبب كون البخاري لم يقل فيه: "حدثنا هشام بن عمار" وجود الشك في اسم الصحابي، وهو شيء لم يوافق عليه، والمحفوظ رواية الجماعة. وقد أخرجه البخاري في "التاريخ" من طريق إبراهيم بن عبد الحميد عمن

(10/54)


أخبره "عن أبي مالك أو أبي عامر" على الشك أيضا وقال: إنما يعرف هذا عن أبي مالك الأشعري انتهى. وقد أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في "التاريخ" من طريق مالك بن أبي مريم "عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف" الحديث. فظهر بهذا أن الشك فيه من عطية بن قيس لأن مالك بن أبي مريم - وهو رفيقه فيه عن شيخهما - لم يشك في أبي مالك، على أن التردد في اسم الصحابي لا يضر كما تقرر في علوم الحديث فلا التفات إلى من أعل الحديث بسبب التردد، وقد ترجح أنه عن أبي مالك الأشعري وهو صحابي مشهور. قوله: "والله ما كذبني" هذا يؤيد رواية الجماعة أنه عن غير واحد لا عن اثنين. قوله: "يستحلون الحر" ضبطه ابن ناصر بالحاء المهملة المكسورة والراء الخفيفة وهو الفرج، وكذا هو في معظم الروايات من صحيح البخاري، ولم يذكر عياض ومن تبعه غيره. وأغرب ابن التين فقال: إنه عند البخاري بالمعجمتين. وقال ابن العربي: هو بالمعجمتين تصحيف، وإنما رويناه بالمهملتين وهو الفرج والمعنى يستحلون الزنا. قال ابن التين: يريد ارتكاب الفرج بغير حله، وإن كان أهل اللغة لم يذكروا هذه اللفظة بهذا المعنى ولكن العامة تستعمله بكسر المهملة كما في هذه الرواية. وحكى عياض فيه تشديد الراء، والتخفيف هو الصواب. وقيل: أصله بالياء بعد الراء فحذفت. وذكره أبو موسى في "ذيل الغريب" في "ح ر" وقال هو بتخفيف الراء وأصله حرح بكسر أوله وتخفيف الراء بعدها مهملة أيضا وجمعه أحراح قال: ومنهم من يشدد الراء وليس بجيد. وترجم أبو داود للحديث في كتاب اللباس "باب ما جاء في الحر" ووقع في روايته بمعجمتين والتشديد والراجح بالمهملتين، ويؤيده ما وقع في "الزهد لابن المبارك" من حديث علي بلفظ: " يوشك أن تستحل أمتي فروج النساء والحرير" ووقع عند الداودي بالمعجمتين ثم تعقبه بأنه ليس بمحفوظ، لأن كثيرا من الصحابة لبسوه. وقال ابن الأثير: المشهور في رواية هذا الحديث بالإعجام وهو ضرب من الإبريسم، كذا قال، وقد عرف أن المشهور في رواية البخاري بالمهملتين. وقال ابن العربي: الخز بالمعجمتين والتشديد مختلف فيه، والأقوى حله، وليس فيه وعيد ولا عقوبة بإجماع. "تنبيه": لم تقع هذه اللفظة عند الإسماعيلي ولا أبي نعيم من طريق هشام، بل في روايتهما: "يستحلون الحرير والخمر والمعازف " وقوله: "يستحلون" قال ابن العربي: يحتمل أن يكون المعنى يعتقدون ذلك حلالا، ويحتمل أن يكون ذلك مجازا على الاسترسال أي يسترسلون في شربها كالاسترسال في الحلال، وقد سمعنا ورأينا من يفعل ذلك. قوله: "والمعازف" بالعين المهملة والزاي بعدها فاء جمع معزفة بفتح الزاي وهي آلات الملاهي. ونقل القرطبي عن الجوهري أن المعازف الغناء، والذي في صحاحه أنها آلات اللهو، وقيل: أصوات الملاهي. وفي حواشي الدمياطي: المعازف الدفوف وغيرها مما يضرب به، ويطلق على الغناء عزف، وعلى كل لعب عزف، ووقع في رواية مالك بن أبي مريم " تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف" . قوله: "ولينزلن أقوام إلى جنب علم" بفتحتين والجمع أعلام وهو الجبل العالي وقيل: رأس الجبل. قوله: "يروح عليهم" كذا فيه بحذف الفاعل، وهو الراعي بقرينة المقام، إذ السارحة لا بد لها من حافظ. قوله: "بسارحة " بمهملتين الماشية التي تسرح بالغداة إلى رعيها وتروح أي ترجع بالعشي إلى مألفها. ووقع في رواية الإسماعيلي: "سارحة" بغير موحدة في أوله ولا حذف فيها. قوله: "يأتيهم لحاجة" كذا فيه بحذف الفاعل أيضا. قال الكرماني: التقدير الآتي أو الراعي أو المحتاج أو الرجل. قلت: وقع عند الإسماعيلي: "يأتيهم طالب حاجة "

(10/55)


فتعين بعض المقدرات. قوله: "فيبيتهم الله" أي يهلكهم ليلا، والبيات هجوم العدو ليلا. قوله: "ويضع العلم" أي يوقعه عليهم. وقال ابن بطال: إن كان العلم جبلا فيدكدكه وإن كان بناء فيهدمه ونحو ذلك. وأغرب ابن العربي فشرحه على أنه بكسر العين وسكون اللام فقال: وضع العلم إما بذهاب أهله كما سيأتي في حديث عبد الله بن عمرو، وإما بإهانة أهله بتسليط الفجرة عليهم. قوله: "ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " يريد ممن لم يهلك في البيات المذكور، أو من قوم آخرين غير هؤلاء الذين "بيتوا"، ويؤيد الأول أن في رواية الإسماعيلي: "ويمسخ منهم آخرين" قال ابن العربي: يحتمل الحقيقة كما وقع للأمم السالفة، ويحتمل أن يكون كناية عن تبدل أخلاقهم. قلت: والأول أليق بالسياق. وفي هذا الحديث وعيد شديد على من يتحيل في تحليل ما يحرم بتغيير اسمه، وأن الحكم يدور مع العلة. والعلة في تحريم الخمر الإسكار، فمهما وجد الإسكار وجد التحريم ولو لم يستمر الاسم. قال ابن العربي: هو أصل في أن الأحكام إنما تتعلق بمعاني الأسماء لا بألقابها، ردا على من حمله على اللفظ.

(10/56)


7 - باب الِانْتِبَاذِ فِي الأَوْعِيَةِ وَالتَّوْرِ
5591- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلاً يَقُولُ: "أَتَى أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُرْسِهِ فَكَانَتْ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ وَهِيَ الْعَرُوسُ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ".
قوله: "باب الانتباذ في الأوعية والتور" هو من عطف الخاص على العام، لأن التور من جملة الأوعية، وهو بفتح المثناة إناء من حجارة أو من نحاس أو من خشب، ويقال: لا يقال له تور إلا إذا كان صغيرا، وقيل هو قدح كبير كالقدر، وقيل مثل الطست، وقيل كالإجانة، وهي بكسر الهمزة وتشديد الجيم وبعد الألف نون: وعاء. قوله: "أتى أبو أسيد الساعدي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه" تقدم في الوليمة من هذا الوجه بلفظ: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه" ومن وجه آخر عن أبي حازم "دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه". قوله: "قال أتدرون" القائل هو سهل و"ما سقت" بفتح القاف وسكون المثناة. وفي رواية الكشميهني: "قالت وسقيت" بسكون التحتانية بعد القاف وفي آخره مثناة، وكذا الخلاف في أنقعت ونقعت وأنقع بالهمزة لغة، وفيه لغة أخرى نقعت بغير ألف، وتقدم في الوليمة بلفظ: "بلت تمرات". قوله: "في تور" زاد في الوليمة "من حجارة" وإنما قيده لأنه قد يكون من غيرها كما تقدم. وفي رواية أشعث عن أبي الزبير عن جابر "كان النبي صلى الله عليه وسلم ينبذ له في سقاء، فإذا لم يكن سقاء ينبذ له في تور" قال أشعث: والتور من لحاء الشجر، أخرجه ابن أبي شيبة. وعبر المصنف في الترجمة بالانتباذ إشارة إلى أن النقيع يسمى نبيذا، فيحمل ما ورد في الأخبار بلفظ النبيذ على النقيع، وقد ترجم له بعد قليل "باب نقيع التمر ما لم يسكر" قال المهلب: النقيع حلال ما لم يشتد فإذا اشتد وغلى حرم. وشرط الحنفية أن يقذف بالزبد، قال: وإذا نقع من الليل وشرب النهار أو بالعكس لم يشتد، وفيه حديث عائشة، يشير إلى ما أخرجه مسلم عن عائشة "كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء توكي أعلاه فيشربه عشاء، وتنبذه عشاء فيشربه غدوة" وعند أبي داود من وجه آخر عن عائشة أنها "كانت تنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم غدوة، فإذا كان من العشي تعشى فشرب على عشائه، فإن فضل شيء صبته ثم تنبذ له بالليل، فإذا أصبح وتغدى شرب على غدائه، قالت نغسل السقاء غدوة وعشية" وفي حديث عبد الله

(10/56)


ابن الديلمي عن أبيه "قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نصنع بالزبيب؟ قال: انبذوه على عشائكم، واشربوه على غدائكم" أخرجه أبو داود والنسائي. فهذه الأحاديث فيها التقييد باليوم والليلة. وأما ما أخرج مسلم من حديث ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب من الليل في السقاء، فإذا أصبح شربه يومه وليلته ومن الغد، فإذا كان مساء شربه أو سقاه الخدم، فإن فضل شيء أراقه" وقال ابن المنذر: الشراب في المدة التي ذكرتها عائشة يشرب حلوا، وأما الصفة التي ذكرها ابن عباس فقد ينتهي إلى الشدة والغليان، لكن يحمل ما ورد من أمر الخدم بشربه على أنه لم يبلغ ذلك ولكن قرب منه، لأنه لو بلغ ذلك لأسكر ولو أسكر لحرم تناوله مطلقا انتهى. وقد تمسك بهذا الحديث من قال بجواز شرب قليل ما أسكر كثيره، ولا حجة فيه لأنه ثبت أنه بدا فيه بعض تغير في طعمه من حمض أو نحوه فسقاه الخدم، وإلى هذا أشار أبو داود فقال بعد أن أخرجه: قوله: "سقاه الخدم" يريد أنه تبادر به الفساد. انتهى، ويحتمل أن يكون "أو" في الخبر للتنويع لأنه قال: "سقاه الخدم أو أمر به فأهرق" أي إن كان بدا في طعمه بعض التغير ولم يشتد سقاه الخدم، وإن كان اشتد أمر بإهراقه، وبهذا جزم النووي فقال: هو اختلاف على حالين إن ظهر فيه شدة صبه وإن لم تظهر شدة سقاه الخدم لئلا تكون فيه إضاعة مال، وإنما يتركه هو تنزها. وجمع بين حديث ابن عباس وعائشة بأن شرب النقيع في يومه لا يمنع شرب النقيع في أكثر من يوم، ويحتمل أن يكون باختلاف حال أو زمان يحمل الذي يشرب في يومه على ما إذا كان قليلا وذاك على ما إذا كان كثيرا فيفضل منه ما يشربه فيما بعد، وإما بأن يكون في شدة الحر مثلا فيسارع إليه الفساد، وذاك في شدة برد فلا يتسارع إليه.

(10/57)


8 - باب تَرْخِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ بَعْدَ النَّهْيِ
5592- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الظُّرُوفِ فَقَالَتْ الأَنْصَارُ إِنَّهُ لاَ بُدَّ لَنَا مِنْهَا قَالَ فَلاَ إِذاً" . وَقَالَ خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ بِهَذَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا وَقَالَ فِيهِ: "لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الأَوْعِيَةِ".
5593- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الأَسْقِيَةِ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ" .
5594- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ" .
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ بِهَذَا.

(10/57)


5595- حَدَّثَنِي عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: "قُلْتُ لِلأَسْوَدِ هَلْ سَأَلْتَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ فَقَالَ نَعَمْ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ قَالَتْ نَهَانَا فِي ذَلِكَ أَهْلَ الْبَيْتِ أَنْ نَنْتَبِذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ قُلْتُ أَمَا ذَكَرَتْ الْجَرَّ وَالْحَنْتَمَ قَالَ إِنَّمَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ أَفَأُحَدِّثُ مَا لَمْ أَسْمَعْ؟".
5596- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَرِّ الأَخْضَرِ قُلْتُ أَنَشْرَبُ فِي الأَبْيَضِ قَالَ: لاَ".
قوله: "باب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الأوعية والظروف بعد النهي" ذكر فيه خمسة أحاديث. أولها: حديث جابر وهو عام في الرخصة، ثانيها: حديث عبد الله بن عمرو وفيه استثناء المزفت، ثالثها: حديث علي في النهي عن الدباء والمزفت، رابعها: حديث عائشة مثله، خامسها: حديث عبد الله بن أبي أوفى في النهي عن الجر الأخضر. وظاهر صنيعه أنه يرى أن عموم الرخصة مخصوص بما ذكر في الأحاديث الأخرى، وهي مسألة خلاف: فذهب مالك إلى ما دل عليه صنيع البخاري. وقال الشافعي والثوري وابن حبيب من المالكية: يكره ذلك ولا يحرم وقال سائر الكوفيين: يباح، وعن أحمد روايتان. وقد أسند الطبري عن عمر ما يؤيد قول مالك وهو قوله: "لأن أشرب من قمقم محمي فيحرق ما أحرق ويبقي ما أبقى أحب إلي من أن أشرب نبيذ الجر" وعن ابن عباس "لا يشرب نبيذ الجر ولو كان أحلى من العسل" وأسند النهي عن جماعة من الصحابة. وقال ابن بطال: النهي عن الأوعية إنما كان قطعا للذريعة. فلما قالوا لا نجد بدا من الانتباذ في الأوعية قال: " انتبذوا. وكل مسكر حرام" وهكذا الحكم في كل شيء نهي عنه بمعنى النظر إلى غيره فإنه يسقط للضرورة، كالنهي عن الجلوس في الطرقات، فلما قالوا لا بد لنا منها قال: "فأعطوا الطريق حقها" . وقال الخطابي: ذهب الجمهور إلى أن النهي إنما كان أولا ثم نسخ، وذهب جماعة إلى أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية باق، منهم ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق كذا أطلق، قال: والأول أصح، والمعنى في النهي أن العهد بإباحة الخمر كان قريبا، فلما اشتهر التحريم أبيح الانتباذ في كل وعاء بشرط ترك شرب المسكر، وكان من ذهب إلى استمرار النهي لم يبلغه الناسخ. وقال الحازمي: لمن نصر قول مالك أن يقول ورد النهي عن الظروف كلها ثم نسخ منها ظروف الأدم والجرار غير المزفتة، واستمر ما عداها على المنع، ثم تعقب ذلك بما ورد من التصريح في حديث بريدة عند مسلم ولفظه: "نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا" قال وطريق الجمع أن يقال: لما وقع النهي عاما شكوا إليه الحاجة فرخص لهم في ظروف الأدم، ثم شكوا إليه أن كلهم لا يجد ذلك فرخص لهم الظروف كلها. قوله: "سفيان" هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر. قوله: "عن سالم" وقع مفسرا في الطريق التي بعدها أنه ابن أبي الجعد. والظروف بظاء مشالة معجمة جمع ظرف بفتح أوله وهو الوعاء. قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظروف" في رواية مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر "نهى عن الدباء والمزفت" وكأن هذه الطريق لما لم تكن على شرط البخاري أورد عقب حديث جابر أحاديث

(10/58)


عبد الله بن عمرو وعلي وعائشة الدالة على ذلك. قوله: "لا بد لنا منها" في رواية الحفري عن الثوري عند الإسماعيلي: "ليس لنا وعاء" وفي رواية لأحمد في قصة وفد عبد القيس "فقال رجل من القوم: يا رسول الله إن الناس لا ظروف لهم، فقال: اشربوه إذا طاب، فإذا خبث فذروه" وأخرج أبو يعلى وصححه ابن حبان من حديث الأشج العصري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: " ما لي أرى وجوهكم قد تغيرت؟ قالوا: نحن بأرض وخمة، وكنا نتخذ من هذه الأنبذة ما يقطع اللحمان في بطوننا، فلما نهيتنا عن الظروف فذلك الذي ترى في وجوهنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الظروف لا تحل ولا تحرم، ولكن كل مسكر حرام" . قوله: " فلا إذا " جواب وجزاء، أي إذا كان كذلك لا بد لكم منها فلا تدعوها. وحاصله أن النهي كان ورد على تقدير عدم الاحتياج، أو وقع وحي في الحال بسرعة أو كان الحكم في تلك المسألة مفوضا لرأيه صلى الله عليه وسلم، وهذه احتمالات يرد على من جزم بأن الحديث حجة في أنه كان يحكم بالاجتهاد. قوله: "وقال لي خليفة" هو ابن خياط بمعجمة ثم تحتانية ثقيلة وهو من شيوخ البخاري، ويحيى بن سعيد هو القطان. قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وليس هو أبا بكر بن أبي شيبة وإن كان هو أيضا عبد الله بن محمد. لأن قول البخاري بهذا يشعر بأن سياقه مثل سياق علي بن المديني إلا في اللفظة التي اختلفا فيها، وسياق ابن أبي شيبة لا يشبه سياق علي. قوله: "بهذا" أي بهذا الإسناد إلى علي والمتن، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش فقال: بإسناده مثله، قوله: "عن الأوعية" فيه حذف تقديره: نهى عن الانتباذ في الأوعية، وقد بين ذلك في رواية زياد بن فياض عن أبي عياض أخرجه أبو داود بلفظ: "لا تنبذوا في الدباء والحنتم والنقير" والفرق بين الأسقية من الأدم وبين غيرها أن الأسقية يتخللها الهواء من مسامها فلا يسرع إليها الفساد مثل ما يسرع إلى غيرها من الجرار ونحوها مما نهى عن الانتباذ فيه. وأيضا فالسقاء إذا نبذ فيه ثم ربط أمنت مفسدة الإسكار بما يشرب منه لأنه متى تغير وصار مسكرا شق الجلد، فلما لم يشقه فهو غير مسكر، بخلاف الأوعية لأنها قد تصير النبيذ فيها مسكرا ولا يعلم به، وأما الرخصة في بعض الأوعية دون بعض فمن جهة المحافظة على صيانة المال لثبوت النهي عن إضاعته، لأن التي نهي عنها يسرع التغير إلى ما ينبذ فيها، بخلاف ما أذن فيه فإنه لا يسرع إليه التغير، ولكن حديث بريدة ظاهر في تعميم الإذن في الجميع، يفيد أن لا تشربوا المسكر، فكأن الأمن حصل بالإشارة إلى ترك الشرب من الوعاء ابتداء حتى يختبر حاله هل تغير أو لا، فإنه لا يتعين الاختبار بالشرب بل يقع بغير الشرب، مثل أن يصير شديد الغليان أو يقذف بالزبد ونحو ذلك. قوله: "فقالوا لا بد لنا" في رواية زياد بن فياض أن قائل ذلك أعرابي. قوله: "علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "عن سليمان" في رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا سليمان الأحول" وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من رواية الحميدي كذلك. قوله: "عن أبي عياض العنسي" بالنون، وعياض بكسر المهملة وتخفيف التحتانية وبعد الألف ضاد معجمة واسمه عمرو بن الأسود، وقيل قيس بن ثعلبة وبذلك جزم أبو نصر الكلاباذي في رجال البخاري، وكأنه تبع ما نقله البخاري عن علي بن المديني. وقال النسائي في "الكنى" أبو عياض عمرو بن الأسود العنسي، ثم ساق من طريق شرحبيل بن عمرو بن مسلم عن عمرو بن الأسود الحمصي أبي عياض. ثم روى عن معاوية بن صالح عن يحيى بن معين قال عمرو بن الأسود العنسي يكنى أبا عياض. ومن طريق البخاري قال لي علي - يعني ابن المديني - إن لم يكن اسم أبي عياض قيس بن ثعلبة فلا أدري قال البخاري وقال غيره عمرو بن الأسود. قال النسائي: ويقال كنية عمرو بن الأسود أبو عبد الرحمن. قال: أورد الحاكم أبو أحمد في "الكنى" محصل ما أورده النسائي إلا قول يحيى بن معين، وذكر أنه سمع عمر ومعاوية، وأنه روى عنه مجاهد وخالد بن معدان وأرطاة بن المنذر وغيرهم، وذكر في رواية شرحبيل بن مسلم عن عمرو بن الأسود أنه مر على مجلس فسلم فقالوا: لو جلست إلينا أبا عياض. ومن طريق موسى بن كثير عن مجاهد حدثنا أبو عياض في خلافة معاوية. وروى أحمد في الزهد أن عمر أثنى على أبي عياض. وذكره أبو موسى في "ذيل الصحابة" وعزاه لابن أبي عاصم، وأظنه ذكره لإدراكه ولكن لا تثبت له صحبة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه كان من العلماء الثقات. وإذا تقرر ذلك فالراجع في أبي عياض الذي يروي عنه مجاهد أنه عمرو بن الأسود وأنه شامي، وأما قيس بن ثعلبة فهو أبو عياض آخر وهو كوفي، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال: إنه يروي عن عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم، روى عنه أهل الكوفة. وإنما بسطت ترجمته لأن المزي لم يستوعبها، وخلط ترجمة بترجمة، وأنه صغر اسمه فقال: عمير بن الأسود الشامي العنسي صاحب عبادة بن الصامت، والذي يظهر لي أنه غيره؛ فإن كان كذلك فما له في البخاري سوى هذا الحديث، وإن كان كما قال المزي فإن له عند البخاري حديثا تقدم ذكره في الجهاد من رواية خالد بن معدان عن عمير بن الأسود عن أم حرام بنت ملحان، وكأن عمدته في ذلك أن خالد بن معدان روى عن عمرو بن الأسود أيضا، وقد فرق ابن حبان في الثقات بين عمير بن الأسود الذي يكنى أبا عياض وبين عمير بن الأسود الذي يروي

(10/59)


عن عبادة بن الصامت وقال كل منهما عمير بالتصغير، فإن كان ضبطه فلعل أبا عياض كان يقال له عمرو وعمير، ولكنه آخر غير صاحب عبادة. والله أعلم. قوله: "عن عبد الله بن عمرو" أي ابن العاص، كذا في جميع نسخ البخاري، ووقع في بعض نسخ مسلم عبد الله بن عمر بضم العين، وهو تصحيف نبه عليه أبو علي الجياني. قوله: "لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأسقية" كذا وقع في هذه الرواية. وقد تفطن البخاري لما فيها فقال بعد سياق الحديث: "حدثني عبد الله بن محمد حدثنا سفيان بهذا وقال عن الأوعية" وهذا هو الراجح، وهو الذي رواه أكثر أصحاب ابن عيينة عنه كأحمد والحميدي في مسنديهما وأبي بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر عند مسلم وأحمد بن عبدة عند الإسماعيلي وغيرهم. وقال عياض: ذكر "الأسقية" وهم من الراوي، وإنما هو عن "الأوعية" لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه قط عن الأسقية وإنما نهى عن الظروف وأباح الانتباذ في الأسقية، فقيل له ليس كل الناس يجد سقاء فاستثنى ما يسكر؛ وكذا قال لوفد عبد القيس لما نهاهم عن الانتباذ في الدباء وغيرها، قالوا: ففيم نشرب؟ قال: في أسقية الأدم. قال ويحتمل أن تكون الرواية في الأصل كانت لما نهى عن النبيذ إلا في الأسقية، فسقط من الرواية شيء انتهى. وسبقه إلى هذا الحميدي فقال في "الجمع": لعله نقص من لفظ المتن، وكان في الأصل لما نهى عن النبيذ إلا في الأسقية. وقال ابن التين: معناه لما نهى عن الظروف إلا الأسقية وهو عجيب، والذي قاله الحميدي أقرب، وإلا فحذف أداة الاستثناء مع المستثنى منه وإثبات المستثنى غير جائز إلا إن ادعى ما قال الحميدي أنه سقط على الراوي. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون لما نهى في مسألة الأنبذة عن الجرار بسبب الأسقية قال: ومجيء "عن" سببية شائع، مثل يسمنون عن الأكل أي بسبب الأكل، ومنه "فأزلهما الشيطان عنها" أي بسببها. قلت: ولا يخفى ما فيه. ويظهر لي أن لا غلط ولا سقط، وإطلاق السقاء على كل ما يسقى منه جائز، فقوله: "نهى عن الأسقية" بمعنى الأوعية، لأن المراد بالأوعية، الأوعية التي يستقى منها، واختصاص اسم الأسقية بما يتخذ من الأدم إنما هو بالعرف. وقال ابن السكيت: السقاء يكون للبن والماء والوطب بالواو للبن خاصة، والنحي بكسر النون وسكون المهملة للسمن والقربة للماء، وإلا فمن يجيز القياس في اللغة لا يمنع ما صنع سفيان، فكأنه كان يرى استواء اللفظين، فحدث به مرة هكذا ومرارا هكذا، ومن ثم لم يعدها البخاري وهما. قوله: "فرخص لهم في الجر غير المزفت" في رواية ابن أبي عمر "فأرخص" وهي لغة، يقال أرخص ورخص. وفي رواية ابن أبي شيبة: "فأذن لهم في شيء منه" وفي هذا دلالة على أن الرخصة لم تقع دفعة واحدة، بل وقع النهي عن الانتباذ إلا في سقاء فلما شكوا رخص لهم في بعض الأوعية دون بعض؛ ثم وقعت الرخصة بعد ذلك عامة، لكن يفتقر من قال إن الرخصة وقعت بعد ذلك إلى أن يثبت أن حديث بريدة الدال على ذلك كان متأخرا عن حديث عبد الله بن عمرو هذا. قاله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وليس هو أبا بكر بن أبي شيبة وإن كان هو أيضا عبد الله بن محمد. لأن قول البخاري بهذا يشعر بأن سياقه مثل سياق علي بن المديني إلا في اللفظة التي اختلفا فيها، وسياق ابن أبي شيبة لا يشبه سياق علي. قوله: "بهذا" أي بهذا الإسناد إلى علي والمتن، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش فقال: بإسناده مثله، قوله: "عن الأوعية" فيه حذف تقديره: نهى عن الانتباذ في الأوعية، وقد بين ذلك في رواية زياد بن فياض عن أبي عياض أخرجه أبو داود بلفظ: " لا تنبذوا في الدباء والحنتم والنقير " والفرق بين الأسقية من الأدم

(10/60)


وبين غيرها أن الأسقية يتخللها الهواء من مسامها فلا يسرع إليها الفساد مثل ما يسرع إلى غيرها من الجرار ونحوها مما نهى عن الانتباذ فيه. وأيضا فالسقاء إذا نبذ فيه ثم ربط أمنت مفسدة الإسكار بما يشرب منه لأنه متى تغير وصار مسكرا شق الجلد، فلما لم يشقه فهو غير مسكر، بخلاف الأوعية لأنها قد تصير النبيذ فيها مسكرا ولا يعلم به، وأما الرخصة في بعض الأوعية دون بعض فمن جهة المحافظة على صيانة المال لثبوت النهي عن إضاعته، لأن التي نهي عنها يسرع التغير إلى ما ينبذ فيها، بخلاف ما أذن فيه فإنه لا يسرع إليه التغير، ولكن حديث بريدة ظاهر في تعميم الإذن في الجميع، يفيد أن لا تشربوا المسكر، فكأن الأمن حصل بالإشارة إلى ترك الشرب من الوعاء ابتداء حتى يختبر حاله هل تغير أو لا، فإنه لا يتعين الاختبار بالشرب بل يقع بغير الشرب، مثل أن يصير شديد الغليان أو يقذف بالزبد ونحو ذلك. قوله: "فقالوا لا بد لنا" في رواية زياد بن فياض أن قائل ذلك أعرابي. قوله: "حدثني سليمان" هو الأعمش، وإبراهيم التيمي هو ابن يزيد بن شريك. قوله: "عن الدباء والمزفت" زاد في رواية مالك بن عمير عن علي عند أبي داود "والحنتم والنقير". قوله: "حدثني عثمان" هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد. قوله: "عن إبراهيم" هو النخعي "قلت للأسود" هو ابن يزيد النخعي وهو خال إبراهيم الراوي عنه. قوله: "عم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتبذ فيه" أي أخبرني عما نهى، و"عما" أصلها "عن ما" فأدغمت ولا تشبع الميم غالبا، ووقع في رواية الإسماعيلي: "ما نهى" بحذف "عن". قوله: "أهل البيت" بالفتح على الاختصاص، أو على البدل من الضمير. قوله: "أما ذكرت" القائل هو إبراهيم، وقوله: "قال" أي الأسود، وقوله: "أفنحدث" كذا للأكثر بالنون، وللكشميهني: "أفأحدث" بالإفراد وهو استفهام إنكار. وفي رواية الإسماعيلي: "أفأحدثك ما لم أسمع" وإنما استفهم إبراهيم عن الجر والحنتم لاشتهار الحديث بالنهي عن الانتباذ في الأربعة، ولعل هذا هو السر في التقييد بأهل البيت، فإن الدباء والمزفت كان عندهم متيسرا، فلذلك خص نهيهم عنهما. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد، والشيباني هو أبو إسحاق سليمان بن فيروز، ووقع في رواية الإسماعيلي: "حدثني سليمان الشيباني". قوله: "عن الجر الأخضر" في رواية الإسماعيلي: "عن نبيذ الجر الأخضر". قوله: "قلت" القائل هو الشيباني. قوله: "قال لا" يعني أن حكمه حكم الأخضر، فدل على أن الوصف بالخضرة لا مفهوم له، وكأن الجرار الخضر حينئذ كانت شائعة بينهم فكان ذكر الأخضر لبيان الواقع لا للاحتراز. وقال ابن عبد البر: هذا عندي كلام خرج على جواب سؤال، كأنه قيل الجر الأخضر، فقال: لا تنبذوا فيه، فسمعه الراوي فقال: نهى عن الجر الأخضر. وقد روى ابن عباس "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نبيذ الجر" قال: والجر كل ما يصنع من مدر قلت: وقد أخرج الشافعي عن سفيان عن أبي إسحاق عن ابن أبي أوفى "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر الأخضر والأبيض والأحمر" فإن كان محفوظا ففي الأول اختصار، والحديث الذي ذكره ابن عبد البر أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، قال الخطابي: لم يعلق الحكم في ذلك بالخضرة والبياض، وإنما علق بالإسكار، وذلك أن الجرار تسرع التغير لما ينبذ فيها، فقد يتغير من قبل أن يشعر به، فنهوا عنها. ثم لما وقعت الرخصة أذن لهم في الانتباذ في الأوعية بشرط أن لا يشربوا مسكرا. وقد أخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن أبي أوفى أنه كان يشرب نبيذ الجر الأخضر وأخرج أيضا بسند صحيح عن ابن مسعود "أنه كان ينبذ له في الجر الأخضر" ومن طريق معقل بن يسار وجماعة من الصحابة نحوه، وقد خص جماعة النهي عن الجر بالجرار الخضر كما رواه مسلم عن أبي

(10/61)


هريرة، قال النووي: وبه قال الأكثر - أو الكثير - من أهل اللغة والغريب والمحدثين والفقهاء، وهو أصح الأقوال وأقواها، وقيل إنها جرار مقيرة الأجواف يؤتى بها من مصر أخرجه ابن أبي شيبة عن أنس، وقيل مثله عن عائشة بزيادة: أعناقها في جنوبها، وعن ابن أبي ليلى: جرار أفواهها في جنوبها يجلب فيها الخمر من الطائف وكانوا ينبذون فيها يضاهون بها الخمر. وعن عطاء: جرار تعمل من طين ودم وشعر. ووقع عند مسلم عن ابن عباس أنه فسر الجر بكل شيء من مدر، وكذا فسر ابن عمر الجر بالحرة وأطلق، ومثله عن سعيد بن جبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن.

(10/62)


باب نقيع التمر مالم يسكر
...
9 - باب نَقِيعِ التَّمْرِ مَا لَمْ يُسْكِرْ
5597- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري عن أبي حازم قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي "أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه فكانت امرأته خادمهم يومئذ وهي العروس. فقالت: هل تدرون ما أنقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور".
قوله: "باب نقيع التمر ما لم يسكر" أورد فيه حديث سهل بن سعد في قصة امرأة أبي أسيد وفيه: "أنقعت له تمرات" وقد تقدم التنبيه عليه قريبا، وتقدم بسنده ومتنه في أبواب الوليمة، وأشار بالترجمة إلى أن الذي أخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن معقل وغيره من كراهة نقيع الزبيب محمول على ما تغير وكاد يبلغ حد الإسكار، أو أراد قائله حسم المادة كما سيأتي عن عبيدة السلماني أنه قال: "أحدث الناس أشربة لا أدري ما فيها، فما لي شراب إلا الماء واللبن" الحديث، وتقييده في الترجمة بما لم يسكر مع أن الحديث لا تعرض فيه للسكر لا إثباتا ولا نفيا، إما من جهة أن المدة التي ذكرها سهل وهو من أول الليل إلى أثناء نهاره لا يحصل فيها التغير جملة، وإما خصه بما لا يسكر من جهة المقام، والله أعلم.

(10/62)


باب لباذق، ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة
...
10 - باب الْبَاذَقِ وَمَنْ نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ مِنْ الأَشْرِبَةِ
وَرَأَى عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ شُرْبَ الطِّلاَءِ عَلَى الثُّلُثِ. وَشَرِبَ الْبَرَاءُ وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اشْرَبْ الْعَصِيرَ مَا دَامَ طَرِيّاً.
وَقَالَ عُمَرُ: "وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ شَرَابٍ وَأَنَا سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ".
5598- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْبَاذَقِ فَقَالَ: سَبَقَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَاذَقَ فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ قَالَ الشَّرَابُ الْحَلاَلُ الطَّيِّبُ قَالَ لَيْسَ بَعْدَ الْحَلاَلِ الطَّيِّبِ إِلاَّ الْحَرَامُ الْخَبِيثُ".
5599- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ".

(10/62)


11 - باب مَنْ رَأَى أَنْ لاَ يَخْلِطَ الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ إِذَا كَانَ مُسْكِراً وَأَنْ لاَ يَجْعَلَ إِدَامَيْنِ فِي إِدَامٍ
5600- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنِّي لاَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ

(10/66)


وَأَبَا دُجَانَةَ وَسُهَيْلَ بْنَ الْبَيْضَاءِ خَلِيطَ بُسْرٍ وَتَمْرٍ إِذْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فَقَذَفْتُهَا وَأَنَا سَاقِيهِمْ وَأَصْغَرُهُمْ وَإِنَّا نَعُدُّهَا يَوْمَئِذٍ الْخَمْرَ". وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ سَمِعَ أَنَساً.
5601- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِراً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَالرُّطَبِ" .
5602- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ" .
قوله: "باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرا" قال ابن بطال: قوله: "إذا كان مسكرا" خطأ، لأن النهي عن الخليطين عام وإن لم يسكر كثيرهما، لسرعة سريان الإسكار إليهما من حيث لا يشعر صاحبه به، فليس النهي عن الخليطين لأنهما يسكران حالا، بل لأنهما يسكران مآلا فإنهما إذا كانا مسكرين في الحال لا خلاف في النهي عنهما. قال الكرماني: فعلى هذا فليس هو خطأ بل يكون على سبيل المجاز، وهو استعمال مشهور. وأجاب ابن المنير بأن ذلك لا يرد على البخاري، إما لأنه يرى جواز الخليطين قبل الإسكار، وإما لأنه ترجم على ما يطابق الحديث الأول وهو حديث أنس، فإنه لا شك أن الذي كان يسقيه القوم حينئذ كان مسكرا، ولهذا دخل عندهم في عموم النهي عن الخمر، حتى قال أنس "وإنا لنعدها يومئذ الخمر" فدل على أنه كان مسكرا. قال: وأما قوله: "وأن لا يجعل إدامين في إدام" فيطابق حديث جابر وأبي قتادة، ويكون النهي معللا بعلل مستقلة، إما تحقيق إسكار الكثير وإما توقع الإسكار بالخلط سريعا وإما الإسراف والشره، والتعليل بالإسراف مبين في حديث النهي عن قران التمر. قلت: والذي يظهر لي أن مراد البخاري بهذه الترجمة الرد على من أول النهي عن الخليطين بأحد تأويلين: أحدهما حمل الخليط على المخلوط، وهو أن يكون نبيذ تمر وحده مثلا قد اشتد، ونبيذ زبيب وحده مثلا قد اشتد، فيخلطان ليصيرا خلا، فيكون النهي من أجل تعمد التخليل، وهذا مطابق للترجمة من غير تكلف. ثانيهما أن يكون علة النهي عن الخلط الإسراف، فيكون كالنهي عن الجمع بين إدامين. ويؤيد الثاني قوله في الترجمة "وأن لا يجعل إدامين في إدام" وقد حكى أبو بكر الأثرم عن قوم أنهم حملوا النهي عن الخليطين على الثاني، وجعلوه نظير النهي عن القران بن التمر كما تقدم في الأطعمة، قالوا: فإذا ورد النهي عن القران بين التمرين وهما من نوع واحد فكيف إذا وقع القران بين نوعين؟ ولهذا عبر المصنف بقوله: "من رأى" ولم يجزم بالحكم. وقد نصر الطحاوي من حمل النهي عن الخليطين على منع السرف فقال: كان ذلك لما كانوا فيه من ضيق العيش. وساق حديث ابن عمر في النهي عن القران بين التمرتين، وتعقب بأن ابن عمر أحد من روى النهي عن الخليطين وكان ينبذ البسر، فإذا نظر إلى بسرة في بعضها ترطيب قطعه كراهة أن يقع في النهي، وهذا على قاعدتهم يعتمد عليه، لأنه لو فهم أن النهي عن الخليطين كالنهي عن القران لما خالفه فدل على أنه عنده على غيره. أورد المصنف حديث أنس الذي تقدم شرحه في أول الباب، وفيه أنه سقاه خليط بسر وتمر، فدل على: أن المراد بالنهي عن الخليطين ما كانوا يصنعونه قبل ذلك من خلط البسر بالتمر ونحو ذلك، لأن ذلك عادة يقتضي إسراع الإسكار

(10/67)


بخلاف المنفردين، ولا يمكن حمل حديث أنس هذا في الخليطين على ما ادعاه صاحب التأويل الأول، وحمل علة النهي لخوف الإسراع أظهر من حملها على الإسراف، لأنه لا فرق بين نصف رطل من تمر ونصف رطل من بسر إذا خلطا مثلا، وبين رطل من زبيب صرف، بل هو أولى لقلة الزبيب عندهم إذ ذاك بالنسبة إلى التمر والرطب، وقد وقع الإذن بأن ينبذ كل واحد على حدة، ولم يفرق بين قليل وكثير، فلو كانت العلة الإسراف لما أطلق ذلك. وحكى الطحاوي في "اختلاف العلماء" عن الليث قال: لا أرى بأسا أن يخلط نبيذ التمر ونبيذ الزبيب ثم يشربان جميعا، وإنما جاء النهي أن ينبذا جميعا ثم يشربان لأن أحدهما يشتد به صاحبه. قوله: "وقال عمرو بن الحارث حدثنا قتادة سمع أنسا" أراد بهذا التعليق بيان سماع قتادة، لأنه وقع في الرواية التي ساقها قبل معنعنا، وقد أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث ولفظه: "نهى أن يخلط التمر والزهو ثم يشرب، وأن ذلك كان عامة خمرهم يومئذ"، وهذا السياق أظهر في المراد الذي حملت عليه لفظ الترجمة والله أعلم. وقوله في الإسناد الأول "حدثنا مسلم" وقع في رواية النسفي "حدثنا مسلم بن إبراهيم" وهشام هو الدستوائي. حديث جابر أورده بلفظ: "نهى عن الزبيب والتمر والبسر والرطب" وليس صريحا في النهي عن الخليط، وقد بينه مسلم في روايته من طريق عبد الرزاق ويحيى القطان جميعا عن ابن جريج بلفظ: "لا تجمعوا بين الرطب وبين البسر وبين الزبيب والتمر نبيذا" وأخرج أيضا من طريق الليث عن عطاء "نهي أن ينبذ التمر جميعا والرطب والبسر جميعا". قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم أيضا، وهشام هو الدستوائي أيضا. قوله: "عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه" هو الأنصاري المشهور. قوله: "نهى" في رواية مسلم من طريق إسماعيل ابن علية عن هشام بهذا الإسناد "لا تنبذوا الزهو والرطب جميعا" الحديث. قوله: "ولينبذ كل واحد منهما" أي من كل اثنين منهما، فيكون الجمع بين أكثر بطريق الأولى. قوله: "على حدة" بكسر المهملة وفتح الدال بعدها هاء تأنيث أي وحده، ووقع في رواية الكشميهني: "على حدته" وهذا مما يؤيد رد التأويل المذكور أولا كما بينته، ولمسلم من حديث أبي سعيد "ومن شرب منكم النبيذ فليشربه زبيبا فردا أو تمرا فردا أو بسرا فردا" وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي سبب النهي من طريق الحراني عن ابن عمر قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فضربه ثم سأله عن شرابه فقال شربت نبيذ تمر وزبيب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخلطوهما، فإن كل واحد منهما يكفي وحده". قال النووي: وذهب أصحابنا وغيرهم من العلماء إلى أن سبب النهي عن الخليط أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يشتد فيظن الشارب أنه لم يبلغ حد الإسكار، ويكون قد بلغه. قال: ومذهب الجمهور أن النهي، في ذلك للتنزيه. وإنما يمتنع إذا صار مسكرا، ولا تخفى علامته. وقال بعض المالكية: هو للتحريم. واختلف في خلط نبيذ البسر الذي لم يشتد مع نبيذ التمر الذي لم يشتد عند الشرب هل يمتنع أو يختص النهي عن الخلط عند الانتباذ؟ فقال الجمهور: لا فرق. وقال الليث: لا بأس بذلك عند الشرب. ونقل ابن التين عن الداودي أن سبب النهي أن النبيذ يكون حلوا، فإذا أضيف إليه الآخر أسرعت إليه الشدة. وهذه صورة أخرى، كأنه يخص النهي بما إذا نبذ أحدهما ثم أضيف إليه الآخر، لا ما إذا نبذا معا. واختلف في الخليطين من الأشربة غير النبيذ، فحكى ابن التين عن بعض الفقهاء أنه كره أن يخلط للمريض شرابين، ورده بأنهما لا يسرع إليهما الإسكار اجتماعا وانفرادا، وتعقب باحتمال أن يكون قائل ذلك يرى أن العلة الإسراف كما تقدم، لكن لا يقيد هذا في مسألة المريض بما إذا كان المفرد كافيا في دواء ذلك

(10/68)


المرض، وإلا فلا مانع حينئذ من التركيب. وقال ابن العربي: ثبت تحريم الخمر لما يحدث عنها من السكر، وجواز النبيذ الحلو الذي لا يحدث عنه سكر، وثبت النهي عن الانتباذ في الأوعية ثم نسخ، وعن الخليطين فاختلف العلماء: فقال أحمد وإسحاق وأكثر الشافعية بالتحريم ولو لم يسكر. وقال الكوفيون بالحل. قال: واتفق علماؤنا على الكراهة، لكن اختلقوا هل هو للتحريم أو للتنزيه؟ واختلف في علة المنع: فقيل لأن أحدهما يشد الآخر، وقيل لأن الإسكار يسرع إليهما. قال ولا خلاف أن العسل باللبن ليس بخليطين، لأن اللبن لا ينبذ، لكن قال ابن عبد الحكم: لا يجوز خلط شرابي سكر كالورد والجلاب وهو ضعيف. قال: واختلفوا في الخليطين لأجل التخليل، ثم قال: ويتحصل لنا أربع صور: أن يكون الخليطان منصوصين فهو حرام، أو منصوص ومسكوت عنه فإن كان كل منهما لو انفرد أسكر فهو حرام قياسا على المنصوص، أو مسكوت عنهما وكل منهما لو انفرد لم يسكر جاز. قال: وهنا مرتبة رابعة وهي ما لو خلط شيئين وأضاف إليهما دواء يمنع الإسكار فيجوز في المسكوت عنه ويكره في المنصوص. وما نقله عن أكثر الشافعية وجد نص الشافعي بما يوافقه فقال: ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الخليطين، فلا يجوز بحال. وعن مالك قال: أدركت على ذلك أهل العلم ببلدنا. وقال الخطابي: ذهب إلى تحريم الخليطين وإن لم يكن الشراب منهما مسكرا جماعة عملا بظاهر الحديث، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق، وظاهر مذهب الشافعي. وقالوا: من شرب الخليطين أثم من جهة واحدة، فإن كان بعد الشدة أثم من جهتين، وخص الليث النهي بما إذا نبذ معا اهـ. وجرى ابن حزم على عادته في الجمود فخص النهي عن الخليطين بخلط واحد من خمسة أشياء وهي: التمر والرطب والزهو والبسر والزبيب في أحدها أو في غيرها، فأما لو خلط واحد من غيرها في واحد من غيرها لم يمتنع كاللبن والعسل مثلا، ويرد عليه ما أخرجه أحمد في الأشربة من طريق المختار بن فلفل عن أنس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين شيئين نبيذا مما يبغي أحدهما على صاحبه" وقال القرطبي: النهي عن الخليطين ظاهر في التحريم، وهو قول جمهور فقهاء الأمصار، وعن مالك يكره فقط، وشذ من قال لا بأس به لأن كلا منهما يحل منفردا فلا يكره مجتمعا، قال: وهذه مخالفة للنص، وقياس مع وجود الفارق، فهو فاسد من وجهين. ثم هو منتقض بجواز كل واحدة من الأختين منفردة وتحريمهما مجتمعتين، قال: وأعجب من ذلك تأويل من قال منهم إن النهي إنما هو من باب السرف، قال: وهدا تبديل لا تأويل، ويشهد ببطلانه الأحاديث الصحيحة. وقال: وتسمية الشراب إداما قول من ذهل عن الشرع واللغة والعرف، قال: والذي يفهم من الأحاديث التعليل بخوف إسراع الشدة بالخلط، وعلى هذا يقتصر في النهي عن الخلط على ما يؤثر فيه الإسراع، قال: وأفرط بعض أصحابنا فمنع الخلط وإن لم توجد العلة المذكورة، ويلزمه أن يمنع من خلط العسل واللبن والخل والعسل، قلت: حكاه ابن العربي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وقال: إنه حمل النهي عن الخليطين من الأشربة على عمومه، واستغربه.

(10/69)


باب شرب اللبن، وقول الله عز وجل: {يخرج من بين فرث ودم لبنا حالصا سائغا للشاربين}
...
12 - باب شُرْبِ اللَّبَنِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ}
5603- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَقَدَحِ خَمْرٍ".
5604- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ سَمِعَ سُفْيَانَ أَخْبَرَنَا سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَيْراً مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ يُحَدِّثُ

(10/69)


عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ قَالَتْ شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِإِنَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ فَشَرِبَ فَكَانَ سُفْيَانُ رُبَّمَا قَالَ شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ" فَإِذَا وُقِّفَ عَلَيْهِ قَالَ: هُوَ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ.
5605- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ مِنْ النَّقِيعِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ خَمَّرْتَهُ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُوداً" .
[الحديث 5605 – طرفه في: 5606]
5606- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَذْكُرُ أُرَاهُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ مِنْ النَّقِيعِ بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ خَمَّرْتَهُ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُوداً" . وَحَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
5607- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَرَرْنَا بِرَاعٍ وَقَدْ عَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَلَبْتُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فِي قَدَحٍ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ وَأَتَانَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ فَدَعَا عَلَيْهِ فَطَلَبَ إِلَيْهِ سُرَاقَةُ أَنْ لاَ يَدْعُوَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَرْجِعَ فَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
5608- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِآخَرَ" .
5609- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ لَبَناً فَمَضْمَضَ وَقَالَ إِنَّ لَهُ دَسَماً" .
5610- وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ وَأَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ فَأُتِيتُ بِثَلاَثَةِ أَقْدَاحٍ: قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ فَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ فَقِيلَ لِي أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ" . قَالَ هِشَامٌ وَسَعِيدٌ وَهَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَنْهَارِ نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا ثَلاَثَةَ أَقْدَاحٍ.

(10/70)


قوله: "باب شرب اللبن" قال ابن المنير: أطال التفنن في هذه الترجمة ليرد قول من زعم أن اللبن يسكر كثيره فرد ذلك بالنصوص، وهو قول غير مستقيم لأن اللبن لا يسكر بمجرده وإنما يتفق فيه ذلك نادرا بصفة تحدث. وقال غيره: قد زعم بعضهم أن اللبن إذا طال العهد به وتغير صار يسكر، وهذا ربما يقع نادرا إن ثبت وقوعه، ولا يلزم منه تأثيم شاربه إلا إن علم أن عقله يذهب به فشربه لذلك. نعم قد يقع السكر باللبن إذا جعل فيه ما يصير باختلاطه معه مسكرا فيحرم. قلت: أخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن ابن سيرين أنه سمع أن عمر يسأل عن الأشربة فقال: إن أهل كذا يتخذون من كذا وكذا خمرا حتى عد خمسة أشربة لم أحفظ منها إلا العسل والشعير واللبن، قال فكنت أهاب أن أحدث باللبن حتى أنبئت أنه بأرمينية يصنع شراب من اللبن لا يلبث صاحبه أن يصرع واستدل بالآية المذكورة أول الباب على أن الماء إذا تغير ثم طال مكثه حتى زال التغير بنفسه ورجع إلى ما كان عليه أنه يطهر بذلك، وهذا في الكثير، وبغير النجاسة من القليل متفق عليه، وأما القليل المتغير بالنجاسة ففيما إذا زال تغيره بنفسه خلاف: هل يطهر؟ والمشهور عند المالكية يطهر، وظاهر الاستدلال يقوي القول بالتطهير، لكن في الاستدلال به لذلك نظر، وقريب منه في البعد استدلال من استدل به على طهارة المني، وتقريره أن اللبن خالط الفرث والدم ثم استحال فخرج خالصا طاهرا، وكذلك المني ينقصر من الدم فيكون على غير صفة الدم فلا يكون نجسا. قوله: "وقول الله عز وجل: يخرج {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} ، زاد غير أبي ذر "لبنا خالصا" وزاد غيره وغير النسفي بقية الآية، ووقع بلفظ: "يخرج" في أوله في معظم النسخ، والذي في القرآن {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} وأما لفظ: "يخرج" فهو في الآية الأخرى من السورة {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} ووقع في بعض النسخ وعليه جرى الإسماعيلي وابن بطال وغيرهما بحذف "يخرج" من أوله وأول الباب عندهم: وقول الله {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} فكأن زيادة لفظ: "يخرج" ممن دون البخاري وهذه الآية صريحة في إحلال شرب لبن الأنعام بجميع أنواعه، لوقوع الامتنان به، فيعم جميع ألبان الأنعام في حال حياتها. والفرث بفتح الفاء وسكون الراء بعدها مثلثة هو ما يجتمع في الكرش. وقال القزاز: هو ما ألقي من الكرش، تقول فرثت الشيء إذا أخرجته من وعائه فشربته، فأما بعد خروجه فإنما يقال له سرجين وزبل. وأخرج القزاز عن ابن عباس أن الدابة إذا أكلت العلف واستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلطة عليه فتقسم الدم وتجريه في العروق وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث في الكرش وحده، وقوله تعالى: {لَبَناً خَالِصاً} أي من حمرة الدم وقذارة الفرث، وقوله: {سَائِغاً} أي لذيذا هنيئا لا يغص به شاربه. قوله: "بقدح لبن وقدح خمر" تقدم البحث فيه قريبا، والحكمة في التخيير بين الخمر مع كونه حراما واللبن مع كونه حلالا إما لأن الخمر حينئذ لم تكن حرمت. أو لأنها من الجنة وخمر الجنة ليست حراما. وقوله في الحديث: "ليلة أسري به" حكي فيه تنوين ليلة. والذي أعرفه في الرواية الإضافة. حديث أم الفضل في شرب اللبن بعرفة. وقد تقدم شرحه في الصيام. وقوله في آخره: "وكان سفيان ربما قال: شك الناس في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت إليه أم الفضل، فإذا وقف عليه قال: هو عن أم الفضل" يعني أن سفيان كان ربما أرسل الحديث فلم يقل في الإسناد عن أم الفضل. فإذا سئل عنه هل هو موصول أو مرسل قال: هو عن أم الفضل. وهو في قوة قوله هو موصول. وهذا معنى قوله وقف عليه. وهو

(10/71)


بضم أوله وكسر القاف. ووقع في رواية أبي ذر "ووقف" بزيادة واو ساكنة بعد الواو المضمومة، والقائل "وكان سفيان" هو الراوي عنه وهو الحميدي، وقد تقدم في الحج عن علي بن عبد الله عن سفيان بدون هذه الزيادة. وأغرب الداودي فقال: لا مخالفة بين الروايتين، لأنه يجوز أن تقول أم الفضل عن نفسها "فأرسلت أم الفضل" أي على سبيل التجريد، كذا قال. قوله: "عن أبي صالح وأبي سفيان" كذا رواه أكثر أصحاب الأعمش عنه عن جابر، ورواه أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح وحده أخرجه مسلم، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، وعن أبي صالح عن أبي هريرة، وهو شاذ والمحفوظ عن جابر. قوله: "من النقيع" بالنون، قيل هو الموضع الذي حمي لرعي النعم وقيل: غيره، وقد تقدم في كتاب الجمعة ذكر نقيع الخضمات فدل على التعدد؛ وكان واديا يجتمع فيه الماء، والماء الناقع هو المجتمع، وقيل: كانت تعمل فيه الآنية، وقيل: هو الباع حكاه الخطابي، وعن الخليل: الوادي يكون فيه الشجر. وقال ابن التين: رواه أبو الحسن يعني القابسي بالموحدة، وكذا نقله عياض عن أبي بحر بن العاص، وهو تصحيف، فإن البقيع مقبرة بالمدينة. وقال القرطبي: الأكثر على النون وهو من ناحية العقيق على عشرين فرسخا من المدينة. قوله: "ألا" بفتح الهمزة والتشديد بمعنى هلا. وقوله: "خمرته" بخاء معجمة وتشديد الميم أي غطيته، ومنه خمار المرأة لأنه يسترها. قوله: "تعرض" بفتح أوله وضم الراء قاله الأصمعي، وهو رواية الجمهور، وأجاز أبو عبيد كسر الراء وهو مأخوذ من العرض أي تجعل العود عليه بالعرض، والمعنى أنه إن لم يغطه فلا أقل من أن يعرض عليه شيئا. وأظن السر في الاكتفاء بعرض العود أن تعاطي التغطية أو العرض يقترن بالتسمية فيكون العرض علامة على التسمية فتمتنع الشياطين من الدنو منه، وسيأتي شيء من الكلام على هذا الحكم في "باب في تغطية الإناء" بعد أبواب. "تنبيه": وقع لمسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح وحده عن جابر "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسقى، فقال رجل: يا رسول الله ألا نسقيك نبيذا؟ قال: بلى، فخرج الرجل يسعى فجاء بقدح فيه نبيذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا خمرته" الحديث. ولمسلم أيضا من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: "أخبرني أبو حميد الساعدي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن من النقيع ليس مخمرا" الحديث. والذي يظهر أن قصة اللبن كانت لأبي حميد وأن جابرا أحضرها، وأن قصة النبيذ حملها جابر عن أبي حميد وأبهم أبو حميد صاحبها، ويحتمل أن يكون هو أبا حميد راويها أبهم نفسه، ويحتمل أن يكون غيره، وهو الذي يظهر لي والله أعلم. حديث البراء "قدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وأبو بكر معه" كذا أورده مختصرا فقال البراء(1) أن هذا القدر هو الذي رواه شعبة عن أبي إسحاق قال: ورواه إسرائيل وغيره عن أبي إسحاق مطولا. قلت: وقد تقدم في الهجرة وأوله "أن عازبا باع رحلا لأبي بكر وسأله عن قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة" وقوله: "فحلبت" وتقدم هناك "فأمرت الراعي فحلب" فتكون نسبة الحلب لنفسه هنا مجازية. وقوله: "كثبة" بضم أوله وسكون المثلثة بعدها موحدة قال الخليل: كل قليل جمعته هو كثبة. وقال ابن فارس: هي القطعة من اللبن أو التمر. وقال أبو زيد: هي من اللبن ملء القدح، وقيل: قدر حلبة ناقة. ومحمود شيخ البخاري فيه هو ابن غيلان والنضر هو ابن شميل. وأحسن الأجوبة في شرب النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن مع كون الراعي أخبرهم أن الغنم لغيره أنه كان في عرفهم التسامح بذلك، أو كان صاحبها أذن للراعي أن يسقي من يمر به إذا التمس ذلك منه. وقيل فيه احتمالات
ـــــــ
(1) كذا في الأصل

(10/72)


أخرى تقدمت. الحديث الخامس: حديث أبي هريرة "نعم الصدقة اللقحة" بكسر اللام ويجوز فتحها وسكون القاف بعدها مهملة. وهي التي قرب عهدها بالولادة - والصفي - بمهملة وفاء وزن فعيل - هي الكثيرة اللبن وهي بمعنى مفعول أي مصطفاة مختارة. وفي قوله: "تغدو وتروح" إشارة إلى أن المستعير لا يستأصل لبنها. وقد تقدم بيان ذلك مستوفى في كتاب العارية. الحديث السادس: حديث ابن عباس في المضمضة من اللبن أي بسبب شرب اللبن، تقدم شرحه في الطهارة. وقد أخرجه أبو جعفر الطبري من طريق عقيل عن ابن شهاب بصيغة الأمر "تمضمضوا من اللبن" . حديث أنس في الأقداح. قوله: "وقال إبراهيم بن طهمان الخ" وصله أبو عوانة والإسماعيلي والطبراني في الصغير من طريقه، ووقع لنا بعلو في "غرائب شعبة لابن منده" قال الطبراني: لم يروه عن شعبة إلا إبراهيم بن طهمان، تفرد به حفص بن عبد الله النيسابوري عنه. قوله: "رفعت إلى سدرة المنتهى" كذا للأكثر بضم الراء وكسر الفاء وفتح المهملة وسكون المثناة على البناء للمجهول، والسدرة مرفوعة. وللمستملي: "دفعت" بدال بدل الراء وسكون العين وضم المثناة بنسبة الفعل إلى المتكلم، وإلى بالسكون حرف جر. قوله: "وقال هشام" يعني الدستوائي، وهمام يعني ابن يحيى، وسعيد يعني ابن أبي عروبة، يعني أنهم اجتمعوا على رواية الحديث عن قتادة فزادوا هم في الإسناد بعد أنس بن مالك "مالك بن صعصعة" ولم يذكره شعبة. وقوله: "في الأنهار نحوه" يريد أنهم توافقوا من المتن على ذكر الأنهار وزادوا هم قصة الإسراء بطولها وليست في رواية شعبة هذه، ووقع في روايتهم هنا بعد قوله سدرة المنتهى " فإذا نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنها آذان الفيلة، في أصلها أربعة أنهار" واقتصر شعبة على "فإذا أربعة أنهار" . قوله: "ولم يذكروا ثلاثة أقداح" في رواية الكشميهني: "ولم يذكر" بالإفراد، وظاهر هذا النفي أنه لم يقع ذكر الأقداح في رواية الثلاثة، وهو معترض بما تقدم في بدء الخلق عن هدبة عن همام بلفظ: "ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل" فيحتمل أن يكون المراد بالنفي نفي ذكر الأقداح بخصوصها، ويحتمل أن تكون رواية الكشميهني التي بالإفراد هي المحفوظة، والفاعل هشام الدستوائي فإنه تقدم في بدء الخلق من طريق يزيد بن زريع عن سعيد وهشام جميعا عن قتادة بطوله وليس فيه ذكر الآنية أصلا، لكن أخرجه مسلم من رواية عبد الأعلى عن هشام وفيه: " ثم أتيت بإناءين أحدهما خمر والآخر لبن، فعرضا علي" ثم أخرجه من طريق معاذ بن هشام عن أبيه نحوه ولم يسق لفظه، وقد ساقه النسائي من رواية يحيى القطان عن هشام وليس فيه ذكر الآنية أصلا، فوضح من هذا أن رواية همام فيها ذكر ثلاثة، وإن كان لم يصرح بذكر العدد ولا وصف الظرف، ورواية سعيد فيها ذكر إناءين فقط، ورواية هشام ليس فيها ذكر شيء من ذلك أصلا، وقد رجح الإسماعيلي رواية إناءين فقال عقب حديث شعبة هنا: هذا حديث شعبة، وحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة المذكور أول الباب أصح إسنادا من هذا، وأولى من هذا. كذا قال، مع أنه أخرج حديث همام عن جماعة عن هدبة عنه كما أخرجه البخاري سواء، والزيادة من الحافظ مقبولة، وقد توبع، وذكر إناءين لا ينفي الثالث، مع أنني قدمت في الكلام على حديث الإسراء أن عرض الآنية على النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين: قبل المعراج وهو في بيت المقدس، وبعده وهو عند سدرة المنتهى، وبهذا يرتفع الإشكال جملة. قال ابن المنير: لم يذكر السر في عدوله عن العسل إلى اللبن كما ذكر السر في عدوله عن الخمر، ولعل السر في ذلك كون اللبن أنفع، وبه يشتد العظم وينبت اللحم، وهو بمجرده قوت، ولا يدخل في السرف بوجه، وهو أقرب إلى الزهد، ولا

(10/73)


منافاة بينه وبين الورع بوجه. والعسل وإن كان حلالا لكنه من المستلذات التي قد يخشى على صاحبها أن يندرج في قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} . قلت: ويحتمل أن يكون السر فيه ما وقع في بعض طرق الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم عطش - كما تقدم في بعض طرقه مبينا هناك - فأتي بالأقداح، فآثر اللبن دون غيره لما فيه من حصول حاجته دون الخمر والعسل، فهذا هو السبب الأصلي في إيثار اللبن، وصادف مع ذلك رجحانه عليهما من عدة جهات. وقد تقدم شيء من هذا في شرح حديث الإسراء. قال ابن المنير: ولا يعكر على ما ذكرته ما سيأتي قريبا أنه كان يحب الحلوى والعسل، لأنه إنما كان يحبه مقتصدا في تناوله لا في جعله ديدنا ولا تنطعا. ويؤخذ من قول جبريل في الخمر "غوت أمتك" أن الخمر ينشأ عنها الغي، ولا يختص ذلك بقدر معين. ويؤخذ من عرض الآنية عليه صلى الله عليه وسلم إرادة إظهار التيسير عليه، وإشارة إلى تفويض الأمور إليه.

(10/74)


13 - باب اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا نَزَلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ أَوْ رَايِحٌ شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ".
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى "رَايِحٌ".
قوله: "باب استعذاب الماء" بالذال المعجمة أي طلب الماء العذب، والمراد به الحلو. حديث أنس في صدقة أبي طلحة لقوله فيه: "ويشرب من ماء فيها طيب" وقد ورد في خصوص هذا اللفظ - وهو استعذاب الماء - حديث عائشة رضي الله عنها "كان رسول الله يستعذب له الماء من بيوت السقيا" والسقيا بضم المهملة وبالقاف بعدها تحتانية قال قتيبة: هي عين بينها وبين المدينة يومان، هكذا أخرجه أبو داود عنه بعد سياق الحديث بسند جيد وصححه الحاكم، وفي قصة أبي الهيثم بن التيهان أن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءهم يسأل عن أبي الهيثم "ذهب يستعذب لنا من الماء" وهو عند مسلم كما سأبينه بعد، وذكر الواقدي من حديث سلمى امرأة أبي رافع "كان أبو أيوب حين نزل عنده النبي صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس" ثم كان أنس وهند وحارثة أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا، وكان رباح الأسود عبده يستقي له من بئر عرس مرة ومن بيوت السقيا مرة. قال ابن بطال: استعذاب الماء لا ينافي الزهد ولا يدخل في الترفه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه فقد كرهه مالك لما فيه من السرف، وأما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح، فقد فعله

(10/74)


الصالحون. وليس في شرب الماء الملح فضيلة، قال: وفيه دلالة على أن استطابة الأطعمة جائزة وأن ذلك من فعل أهل الخير، وقد ثبت أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} نزل في الذين أرادوا الامتناع من لذائذ المطاعم، قال: ولو كانت مما لا يريد الله تناوله ما امتن بها على عباده، بل نهيه عن تحريمها يدل على أنه أراد منهم تناولها ليقابلوا نعمته بها عليهم بالشكر لها، وإن كانت نعمه لا يكافئها شكرهم. وقال ابن المنير: أما أن استعذاب الماء لا ينافي الزهد والورع فواضح، وأما الاستدلال بذلك على لذيذ الأطعمة فبعيد. وقال ابن التين: هذا الحديث أصل في جواز شرب الماء من البستان بغير ثمن. قلت: المأذون له في الدخول فيه لا شك فيه، وأما غيره فلما اقتضاه العرف من المسامحة بذلك، وثبوت ذلك بالفعل المذكور فيه نظر. قوله: "ذلك مال رايح أو رابح" الأول بتحتانية والثاني بموحدة والحاء مهملة فيهما، فالأول معناه أن أجره يروح إلى صاحبه أي يصل إليه ولا ينقطع عنه، والثاني: معناه كثير الربح، وأطلق عليه صفة صاحبه المتصدق به. وقوله: "شك عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي، وقوله: "قال إسماعيل" هو ابن أبي أويس ويحيى هو ابن يحيى، ورايح في روايتهما بالتحتانية وقد تقدمت رواية إسماعيل مصرحا فيها بالتحديث في تفسير آل عمران، ورواية يحيى بن يحيى كذلك في الوكالة، وتقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب الوكالة.

(10/75)


14 - باب شُربِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ
5612- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ "رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ لَبَناً وَأَتَى دَارَهُ فَحَلَبْتُ شَاةً فَشُبْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبِئْرِ فَتَنَاوَلَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ فَأَعْطَى الأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ ثُمَّ قَالَ: الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ".
5613- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي شَنَّةٍ وَإِلاَ كَرَعْنَا" قَالَ وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي حَائِطِهِ قَالَ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي مَاءٌ بَائِتٌ فَانْطَلِقْ إِلَى الْعَرِيشِ قَالَ فَانْطَلَقَ بِهِمَا فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ قَالَ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ شَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ".
[الحديث 5613 – طرفه في: 5621]
قوله: "باب شرب اللبن بالماء" أي ممزوجا، وإنما قيده بالشرب للاحتراز عن الخلط عند البيع فإنه غش. ووقع في رواية الكشميهني بالواو بدل الراء، والشوب الخلط، قال ابن المنير: مقصوده أن ذلك لا يدخل في النهي عن الخليطين، وهو يؤيد ما تقدم من فائدة تقييده الخليطين بالمسكر، أي إنما ينهى عن الخليطين إذا كان كل واحد

(10/75)


منهما من جنس ما يسكر، وإنما كانوا يمزجون اللبن بالماء لأن اللبن عند الحليب يكون حارا وتلك البلاد في الغالب حارة، فكانوا يكسرون حر اللبن بالماء البارد. قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان، وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنا وأتى داره" أي دار أنس، وهي جملة حالية أي رآه حين أتى داره، وقد تقدم في الهبة من طريق أبي طوالة عن أنس بلفظ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا هذه فاستسقى، فحلبنا شاة لنا. قوله: "فحلبت" عين في هذه الرواية أنه هو الذي باشر الحلب، وقوله: "فشبت" كذا للأكثر من الشوب بلفظ المتكلم، ووقع في رواية الأصيلي بكسر المعجمة بعدها تحتانية على البناء للمجهول. قوله: "وأبو بكر عن يساره" زاد في رواية أبي طوالة وعمر تجاهه، وقد تقدم ضبطها في الهبة، وتقدم في الشرب من طريق شعيب عن الزهري في هذا الحديث: "فقال عمر وخاف أن يعطيه الأعرابي: أعط أبا بكر" وفي رواية أبي طوالة "فقال عمر هذا أبو بكر" قال الخطابي وغيره: كانت العادة جارية لملوك الجاهلية ورؤسائهم بتقديم الأيمن في الشرب، حتى قال عمرو بن كلثوم في قصيدة له: "وكان الكأس مجراها اليمينا" فخشي عمر لذلك أن يقدم الأعرابي على أبي بكر في الشرب فنبه عليه لأنه احتمل عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر تقديم أبي بكر على تلك العادة فتصير السنة تقديم الأفضل في الشرب على الأيمن، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله أن تلك العادة لم تغيرها السنة، وأنها مستمرة، وأن الأيمن يقدم على الأفضل في ذلك. ولا يلزم من ذلك حط رتبة الأفضل، وكان ذلك لفضل اليمين على اليسار. قوله: "فأعطى الأعرابي فضله" أي اللبن الذي فضل منه بعد شربه، وقد تقدم في الهبة ذكر من زعم أن اسم هذا الأعرابي خالد بن الوليد وأنه وهم، ووقع عند الطبراني من حديث عبد الله بن أبي حبيبة قال: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء، فجئت فجلست عن يمينه وجلس أبو بكر عن يساره، ثم دعا بشراب فشرب وناولني عن يمينه" وأخرجه أحمد لكن لم يسم الصحابي، ولا يمكن تفسير المبهم في حديث أنس به أيضا لأن هذه القصة كانت بقباء وتلك في دار أنس أيضا فهو أنصاري ولا يقال له أعرابي كما استبعد ذلك في حق خالد بن الوليد. قوله: "ثم قال: الأيمن فالأيمن" في رواية الكشميهني: "وقال" بالواو بدل "ثم" وفي رواية أبي طوالة "الأيمنون فالأيمنون" وفيه حذف تقديره الأيمنون مقدمون أو أحق أو يقدم الأيمنون. وأما رواية الباب فيجوز الرفع على ما سبق، والنصب على تقدير قدموا أو أعطوا. ووقع في الهبة بلفظ: "ألا فيمنوا" والكلام عليها. واستنبط بعضهم من تكرار الأيمن أن السنة إعطاء من على اليمين ثم الذي يليه وهلم جرا، ويلزم منه أن يكون عمر في الصورة التي وردت في هذا الحديث شرب بعد الأعرابي ثم شرب أبو بكر بعده. لكن الظاهر عن عمر إيثاره أبا بكر بتقديمه عليه. والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد غير ما ذكر أن من سبق إلى مجلس علم أو مجلس رئيس لا ينحى منه لمجيء من هو أولى منه بالجلوس في الموضع المذكور، بل يجلس الآتي حيث انتهى به المجلس، لكن إن آثره السابق جاز، وأن من استحق شيئا لما يدفع عنه إلا بإذنه كبيرا كان أو صغيرا إذا كان ممن يجوز إذنه. وفيه أن الجلساء شركاء فيما يقرب إليهم على سبيل الفضل لا اللزوم، للإجماع على أن المطالبة بذلك لا تجب قاله ابن عبد البر، ومحله ما إذا لم يكن فيهم الإمام أو من يقوم مقامه، فإن كان فالتصرف في ذلك له. وفيه دخول الكبير بيت خادمه وصاحبه ولو كان صغير السن وتناوله مما عندهم من طعام وشراب من غير بحث. وسيأتي بقية فوائده بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وأبو

(10/76)


عامر هو العقدي، وسعيد بن الحارث هو الأنصاري. قوله: "دخل على رجل من الأنصار" كنت ذكرت في المقدمة أنه أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري، ثم وقفت عن ذلك لما أخرجه أحمد عن إسحاق بن عيسى عن فليح في أول حديثي الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قوما من الأنصار يعود مريضا لهم، وقصة أبي الهيثم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، واستوعب ابن مردويه في تفسير التكاثر طرقه فزاد عن ابن عباس وأبي عسيب وأبي سعيد ولم يذكر في شيء من طرقه عبادة، فالذي يظهر أنها قصة أخرى، ثم وقفت على المستند في ذلك وهو ما ذكره الواقدي من حديث الهيثم بن نصر الأسلمي قال: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم ولزمت بابه، فكنت آتيه بالماء من بئر جاشم - وهي بئر أبي الهيثم بن التيهان وكان ماؤها طيبا - ولقد دخل يوما صائفا ومعه أبو بكر على أبي الهيثم فقال: هل من ماء بارد؟ فأتاه بشجب فيه ماء كأنه الثلج فصبه على لبن عنز له وسقاه، ثم قال له: إن لنا عريشا باردا فقل فيه يا رسول الله عندنا، فدخله وأبو بكر، وأتى أبو الهيثم بألوان من الرطب" الحديث. والشجب بفتح المعجمة وسكون الجيم ثم موحدة يتخذ من شنة تقطع ويخرز رأسها. قوله: "ومعه صاحبه" هو أبو بكر الصديق كما ترى. قوله: "فقال له" زاد في رواية الإسماعيلي من قبل هذا "وإلى جانبه ماء في ركي" وهو بفتح الراء وكسر الكاف وبعدها شدة البئر المطوية، وزاد في رواية ستأتي بعد خمسة أبواب "فسلم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه فرد الرجل - أي عليهما - السلام". قوله: "إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة" بفتح المعجمة وتشديد النون وهي القربة الخلقة. وقال الداودي: هي التي زال شعرها من البلى. قال المهلب: الحكمة في طلب الماء البائت أنه يكون أبرد وأصفى، وأما مزج اللبن بالماء فلعل ذلك كان في يوم حار كما وقع في قصة أبي بكر مع الراعي. قلت: لكن القصتان مختلفتان، فصنيع أبي بكر ذلك باللبن لشدة الحر، وصنيع الأنصاري لأنه أراد أن لا يسقي النبي صلى الله عليه وسلم ماء صرفا فأراد أن يضيف إليه اللبن فأحضر له ما طلب منه وزاد عليه من جنس جرت عادته بالرغبة فيه. ويؤيد هذا ما في رواية الهيثم بن نصر قبل أن الماء كان مثل الثلج. قوله: "وإلا كرعنا" فيه حذف تقديره: فاسقنا، وإن لم يكن عندك كرعنا. ووقع في رواية ابن ماجه التصريح بطلب السقي. والكرع بالراء تناول الماء بالفم من غير إناء ولا كف. وقال ابن التين حكى أبو عبد الملك أنه الشرب باليدين معا، قال: وأهل اللغة على خلافه. قلت: ويرده ما أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر قال: "مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا بها" الحديث ولكن في سنده ضعف، فإن كان محفوظا فالنهي فيه للتنزيه، والفعل لبيان الجواز، أو قصة جابر قبل النهي، أو النهي في غير حال الضرورة، وهذا الفعل كان لضرورة شرب الماء الذي ليس ببارد فيشرب بالكرع لضرورة العطش لئلا تكرهه نفسه إذا تكررت الجرع، فقد لا يبلغ الغرض من الري، أشار إلى هذا الأخير ابن بطال، وإنما قيل للشرب بالفم كرع لأنه فعل البهائم لشربها بأفواهها والغالب أنها تدخل أكارعها حينئذ في الماء، ووقع عند ابن ماجه من وجه آخر عن ابن عمر فقال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا" وهو الكرع، وسنده أيضا ضعيف، فهذا إن ثبت احتمل أن يكون النهي خاصا بهذه الصورة، وهي أن يكون الشارب منبطحا على بطنه، ويحمل حديث جابر على الشرب بالفم من مكان عال لا يحتاج إلى الانبطاح. ووقع في رواية أحمد "وإلا تجرعنا" بمثناة وجيم وتشديد الراء أي شربنا جرعة جرعة، وهذا قد يعكر على الاحتمال المذكور. والله أعلم. قوله: "والرجل يحول الماء في حائطه" أي ينقل الماء من مكان إلى مكان آخر من البستان ليعم

(10/77)


أشجاره بالسقي، وسيأتي بعد خمسة أبواب من وجه آخر بلفظ: "وهو يحول في حائط له" يعني الماء، وفي لفظ له "يحول الماء في الحائط" فيحتمل أن يكون وقع منه تحويل الماء من البئر مثلا إلى أعلاها ثم حوله من مكان إلى مكان. قوله: "إلى العريش" هو خيمة من خشب وثمام بضم المثلثة مخففا، وهو نبات ضعيف له خواص، وقد يجعل من الجريد كالقبة أو من العيدان ويظلل عليها. قوله: "فسكب في قدح" في رواية أحمد: فسكب ماء في قدح. قوله: "ثم حلب عليه من داجن له" في رواية أحمد وابن ماجه فحلب له شاة ثم صب عليه ماء بات في شن، والداجن بجيم ونون: الشاة التي تألف البيوت. قوله: "ثم شرب الرجل" في رواية أحمد "وشرب النبي صلى الله عليه وسلم وسقى صاحبه" وظاهره أن الرجل شرب فضلة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في رواية لأحمد أيضا وابن ماجه: "ثم سقاه ثم صنع لصاحبه مثل ذلك" أي حلب له أيضا وسكب عليه الماء البائت، هذا هو الظاهر، ويحتمل أن تكون المثلية في مطلق الشرب. قال المهلب: في الحديث أنه لا بأس بشرب الماء البارد في اليوم الحار، وهو من جملة النعم التي امتن الله بها على عباده، وقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رفعه: " أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة: ألم أصح جسمك، وأرويك من الماء البارد؟"

(10/78)


15 - باب شَرَابِ الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ لِأَنَّهُ رِجْسٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
5614- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ".
قوله: "باب شراب الحلواء والعسل" في رواية المستملي: "الحلواء" بالمد ولغيره بالقصر، وهما لغتان، قال الخطابي: هي ما يعقد من العسل ونحوه. وقال ابن التين عن الداودي: هي النقيع الحلو، وعليه يدل تبويب البخاري "شراب الحلواء" كذا قال، وإنما هو نوع منها، والذي قاله الخطابي هو مقتضى العرف. وقال ابن بطال: الحلوى كل شيء حلو، وهو كما قال، لكن استقر العرف على تسمية ما لا يشرب من أنواع الحلو حلوى ولأنواع ما يشرب مشروب ونقيع أو نحو ذلك، ولا يلزم مما قال اختصاص الحلوى بالمشروب. قوله: "وقال الزهري: لا يحل شرب بول الناس لشدة تنزل لأنه رجس، قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ووجهه ابن التين أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى البول رجسا. وقال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} والرجس من جملة الخبائث، ويرد على استدلال الزهري جواز أكل الميتة عند الشدة وهي رجس أيضا، ولهذا قال ابن بطال: الفقهاء على خلاف قول الزهري، وأشد حال البول أن يكون في النجاسة والتحريم مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، ولم يختلفوا في جواز تناولها عند الضرورة. وأجاب بعض العلماء عن الزهري باحتمال أنه كان يرى أن القياس لا يدخل الرخص، والرخصة في الميتة لا في البول. قلت: وليس هذا بعيدا من مذهب الزهري، فقد أخرج البيهقي في "الشعب" من رواية ابن أخي الزهري قال: كان الزهري يصوم يوم عاشوراء في السفر، فقيل له أنت تفطر في

(10/78)


رمضان إذا كنت مسافرا، فقال: إن الله تعالى قال في رمضان {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وليس ذلك لعاشوراء. قال ابن التين: وقد يقال إن الميتة لسد الرمق، والبول لا يدفع العطش، فإن صح هذا صح ما قال الزهري إذ لا فائدة فيه. قلت: وسيأتي نظيره في الأثر الذي بعده. قوله: "وقال ابن مسعود في السكر: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". قال ابن التين: اختلف في السكر بفتحتين: فقيل هو الخمر، وقيل: ما يجوز شربه كنقيع التمر قبل أن يشتد وكالخل، وقيل: هو نبيذ التمر إذا اشتد. قلت: وتقدم في تفسير النحل عن أكثر أهل العلم أن السكر في قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} وهو ما حرم منها، والرزق الحسن ما أحل. وأخرج الطبري من طريق أبي رزين أحد كبار التابعين قال: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر. ومن طريق النخعي نحوه. ومن طريق الحسن البصري بمعناه. ثم أخرج من طريق الشعبي قال: السكر نقيع الزبيب يعني قبل أن يشتد والخل، واختار الطبري هذا القول وانتصر له لأنه لا يستلزم منه دعوى نسخ، ويستمر الامتنان بما تضمنته الآية على ظاهره، بخلاف القول الأول فإنه يستلزم النسخ والأصل عدمه. قلت: وهذا في الآية محتمل، لكنه في هذا الأثر محمول على المسكر، وقد أخرج النسائي بأسانيد صحيحة عن النخعي والشعبي وسعيد بن جبير أنهم قالوا: السكر خمر، ويمكن الجمع بأن السكر بلغة العجم الخمر وبلغة العرب النقيع قبل أن يشتد، ويؤيده ما أخرجه الطبراني من طريق قتادة قال: السكر خمور الأعاجم، وعلى هذا ينطبق قول ابن مسعود "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" ونقل ابن التين عن الشيخ أبي الحسن يعني ابن القصار: إن كان أراد مسكر الأشربة فلعله سقط من الكلام ذكر السؤال، وإن كان أراد السكر بالضم وسكون الكاف قال: فأحسبه هذا أراد، لأنني أظن أن عند بعض المفسرين سئل ابن مسعود عن التداوي بشيء من المحرمات فأجاب بذلك.
والله أعلم بمراد البخاري. قلت: قد رويت الأثر المذكور في "فوائد علي بن حرب الطائي" عن سفيان بن عيينة عن منصور عن أبي وائل قال: اشتكى رجل منا يقال له خثيم بن العداء داء ببطنه يقال له الصفر فنعت له السكر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله، فذكره. وأخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن منصور وسنده صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه أحمد في كتاب الأشربة والطبراني في الكبير من طريق أبي وائل نحوه، وروينا في "نسخة داود بن نصير الطائي" بسند صحيح عن مسروق قال: "قال عبد الله هو ابن مسعود: لا تسقوا أولادكم الخمر فإنهم ولدوا على الفطرة، وإن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن مسعود كذلك، وهذا يؤيد ما قلناه أولا في تفسير السكر. وأخرج إبراهيم الحربي في غريب الحديث، من هذا الوجه قال: أتينا عبد الله في مجدرين أو محصبين نعت لهم السكر فذكر مثله. ولجواب ابن مسعود شاهد آخر أخرجه أبو يعلى وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة قالت: اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغلي فقال: ما هذا؟ فأخبرته، فقال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" . ثم حكى ابن التين عن الداودي قال: قول ابن مسعود حق لأن الله حرم الخمر لم يذكر فيها ضرورة وأباح الميتة وأخواتها في الضرورة. قال: ففهم الداودي أن ابن مسعود تكلم على استعمال الخمر عند الضرورة وليس كذلك، وإنما تكلم على التداوي بها فمنعه، لأن الإنسان يجد مندوحة عن التداوي بها ولا يقطع بنفعه، بخلاف الميتة في سد الرمق. وكذا قال النووي في الفرق بين جواز إساغة اللقمة لمن شرق بها بالجرعة من الخمر فيجوز وبين التداوي بها فلا يجوز لأن الإساغة تتحقق بها بخلاف الشفاء فإنه لا يتحقق. ونقل الطحاوي عن الشافعي أنه

(10/79)


قال: لا يجوز سد الرمق من الجوع ولا من العطش بالخمر لأنها لا تزيده إلا جوعا وعطشا، ولأنها تذهب بالعقل. وتعقبه بأنه إن كانت لا تسد من الجوع ولا تروي من العطش لم يرد السؤال أصلا، وأما إذهابها العقل فليس البحث فيه بل هو فيما يسد به الرمق وقد لا يبلغ إلى حد إذهاب العقل. قلت: والذي يظهر أن الشافعي أراد أن يردد الأمر بأن التناول منها إن كان يسيرا فهو لا يغني من الجوع ولا يروي من العطش، وإن كانت كثيرا فهو يذهب العقل، ولا يمكن القول بجواز التداوي بما يذهب العقل لأنه يستلزم أن يتداوى من شيء فيقع في أشد منه. وقد اختلف في جواز شرب الخمر للتداوي وللعطش، قال مالك لا يشربها لأنها لا تزيده إلا عطشا، وهذا هو الأصح عند الشافعية، لكن التعليل يقتضي قصر المنع على المتخذ من شيء يكون بطبعه حارا كالعنب والزبيب، أما المتخذ من شيء بارد كالشعير فلا. وأما التداوي فإن بعضهم قال إن المنافع التي كانت فيها قبل التحريم سلبت بعد التحريم بدليل الحديث المتقدم ذكره، وأيضا فتحريمها مجزوم به، وكونها دواء مشكوك بل يترجح أنها ليست بدواء بإطلاق الحديث. ثم الخلاف إنما هو فيما لا يسكر منها. أما ما يسكر منها فإنه لا يجوز تعاطيه في التداوي إلا في صورة واحدة وهو من اضطر إلى إزالة عقله لقطع عضو من الأكلة والعياذ بالله، فقد أطلق الرافعي تخريجه على الخلاف في التداوي، وصحح النووي هنا الجواز، وينبغي أن يكون محله فيما إذا تعين ذاك طريقا إلى سلامة بقية الأعضاء ولم يجد مرقدا غيرها، وقد صرح من أجاز التداوي بالثاني، وأجازه الحنفية مطلقا لأن الضرورة تبيح الميتة وهي لا يمكن أن تنقلب إلى حالة تحل فيها، فالخمر التي من شأنها أن تنقلب خلا فتصير حلالا أولى، وعن بعض المالكية إن دعته إليها ضرورة يغلب على ظنه أنه يتخلص بشربها جاز كما لو غص بلقمة، والأصح عند الشافعية في الغص الجواز. وهذا ليس من التداوي المحض، وسيأتي في أواخر الطب ما يدل على النهي عن التداوي بالخمر وهو يؤيد المذهب الصحيح. حديث عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل" قال ابن المنير: ترجم على شيء وأعقبه بضده وبضدها تتبين الأشياء، ثم عاد إلى ما يطابق الترجمة نصا، ويحتمل أن يكون مراده بقول الزهري الإشارة لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى أن الحلواء والعسل من الطيبات فهو حلال، وبقول ابن مسعود الإشارة إلى قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} فدل الامتنان، به على حله، فلم يجعل الله الشفاء فيما حرم، قال ابن المنير: ونبه بقوله شراب الحلواء على أنها ليست الحلوى المعهودة التي يتعاطاها المترفون اليوم، وإنما هي حلو يشرب إما عسل بماء أو غير ذلك مما يشاكله انتهى. ومحتمل أن تكون الحلوى كانت تطلق لما هو أعم مما يعقد أو يؤكل أو يشرب، كما أن العسل قد يؤكل إذا كان جامدا وقد يشرب إذا كان مائعا وقد يخلط فيه الماء ويذاب ثم يشرب، وقد تقدم في كتاب الطلاق من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة في حديث الباب زيادة "وإن امرأة من قوم حفصة أهدت لها عكة عسل فشرب النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة" الحديث في ذكر المغافير. فقوله: "سقته شربة من عسل" محتمل لأن يكون صرفا حيث يكون مائعا، ويحتمل أن يكون ممزوجا. وقال النووي: المراد بالحلوى في هذا الحديث كل شيء حلو، وذكر العسل بعدها للتنبيه على شرفه ومزيته، وهو من الخاص بعد العام، وفيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة، لا سيما إن حصل اتفاقا. وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي سليمان الداراني قال: قول عائشة "كان يعجبه الحلوى" ليس على معنى كثرة التشهي لها وشدة نزاع النفس إليها وتأنق الصنعة في اتخاذها كفعل أهل الترفه والشره. وإنما كان إذا قدمت إليه ينال منها نيلا جيدا فيعلم بذلك أنه

(10/80)


يعجبه طعمها، وفيه دليل على اتخاذ الحلاوات والأطعمة من أخلاط شتى.

(10/81)


16 - باب الشُّرْبِ قَائِماً
5615- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ قَالَ: "أَتَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ فَشَرِبَ قَائِماً فَقَالَ إِنَّ نَاساً يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ".
[الحديث 5615 – طرفه في: 5616]
5616- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ قَالَ إِنَّ نَاساً يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قِيَاماً وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ".
5617- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِماً مِنْ زَمْزَمَ".
قوله: "باب الشرب قائما" قال ابن بطال: أشار بهذه الترجمة إلى أنه لم يصح عنده الأحاديث الواردة في كراهة الشرب قائما. كذا قال، وليس بجيد، بل الذي يشبه صنيعه أنه إذا تعارضت عنده الأحاديث لا يثبت الحكم. قوله: "عن النزال" بفتح النون وتشديد الزاي وآخره لام، في الرواية الثانية "سمعت النزال بن سبرة" وهو بفتح المهملة وسكون الموحدة، تقدمت له رواية عن ابن مسعود في فضائل القرآن وغيره، وليس له في البخاري سوى هذين الحديثين. وقد روى مسعر هذا الحديث عن عبد الملك بن ميسرة مختصرا، ورواه عنه شعبة مطولا، وساقه المصنف في هذا الباب، ووافق الأعمش شعبة على سياقه مطولا. ومسعر وشيخه وشيخ شيخه هلاليون كوفيون، وأبو نعيم أيضا كوفي، وعلي نزل الكوفة ومات بها، فالإسناد الأول كله كوفيون. قوله: "أتى علي" وقوله في الرواية التي تليها "عن علي" وقع عند النسائي: "رأيت عليا" أخرجه من طريق بهز بن أسد عن شعبة. قوله: "على باب الرحبة" زاد في رواية شعبة أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، والرحبة بفتح الراء والمهملة والموحدة المكان المتسع، والرحب بسكون المهملة المتسع أيضا، قال الجوهري: ومنه أرض رحبة بالسكون أي متسعة، ورحبة المسجد بالتحريك وهي ساحته، قال ابن التين: فعلى هذا يقرأ الحديث بالسكون، ويحتمل أنها صارت رحبة الكوفة بمنزلة رحبة المسجد فيقرأ بالتحريك، وهذا هو الصحيح. قوله: "حوائج" هو جمع حاجة على غير القياس، وذكر الأصمعي أنه مولد، والجمع حاجات وحاج وقال ابن ولاد: الحوجاء الحاجة وجمعها حواجي بالتشديد، ويجوز التخفيف، قال: فلعل حوائج مقلوبة من حواجي مثل سوائع من سواعي. وقال أبو عبيد الهروي: قيل: الأصل حائجة فيصح الجمع على حوائج. قوله: "ثم أتي بماء" في

(10/81)


رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عند الإسماعيلي: "فدعا بوضوء" وللترمذي من طريق الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة "ثم أتي علي بكوز من ماء" ومثله من رواية بهز بن أسد عن شعبة عند النسائي، وكذا لأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة. قوله: "فشرب وغسل وجهه ويديه، وذكر رأسه ورجليه" كذا هنا. وفي رواية بهز "فأخذ منه كفا فمسح وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه". وكذلك عند الطيالسي "فغسل وجهه ويديه ومسح على رأسه ورجليه" ومثله في رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيلي، ويؤخذ منه أنه في الأصل "ومسح على رأسه ورجليه" وأن آدم توقف في سياقه فعبر بقوله: "وذكر رأسه ورجليه" ووقع في رواية الأعمش "فغسل يديه ومضمض واستنشق ومسح بوجهه وذراعيه ورأسه" وفي رواية علي بن الجعد عن شعبة عند الإسماعيلي: "فمسح بوجهه ورأسه ورجليه" ومن رواية أبي الوليد عن شعبة ذكر الغسل والتثليث في الجميع، وهي شاذة مخالفة لرواية أكثر أصحاب شعبة، والظاهر أن الوهم فيها من الراوي عند أحمد بن إبراهيم الواسطي شيخ الإسماعيلي فيها فقد ضعفه الدار قطني، والصفة التي ذكرها هي صفة إسباغ الوضوء الكامل، وقد ثبت في آخر الحديث قول علي: هذا وضوء من لم يحدث كما سيأتي بيانه. قوله: "ثم قام فشرب فضله" هذا هو المحفوظ في الروايات كلها، والذي وقع هنا من ذكر الشرب مرة قبل الوضوء ومرة بعد الفراغ منه لم أره في غير رواية آدم، والمراد بقوله: "فضله" بقية الماء الذي توضأ منه. قوله: "ثم قال: إن ناسا يكرهون الشرب قائما" كذا للأكثر، وكأن المعنى إن ناسا يكرهون أن يشرب كل منهم قائما، ووقع في رواية الكشميهني: "قياما" وهي واضحة، وللطيالسي "أن يشربوا قياما". قوله: "صنع كما صنعت" أي من الشرب قائما، وصرح به الإسماعيلي في روايته فقال: "شرب فضلة وضوئه قائما كما شربت" ولأحمد ورأيته من طريقين آخرين "عن علي أنه شرب قائما، فرأى الناس كأنهم أنكروه فقال: ما تنظرون أن أشرب قائما؟ فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما، وإن شربت قاعدا فقد رأيته يشرب قاعدا" ووقع في رواية النسائي والإسماعيلي زيادة في آخر الحديث من طرق عن شعبة "وهذا وضوء من لم يحدث" وهي على شرط الصحيح، وكذا ثبت في رواية الأعمش عند الترمذي. واستدل بهذا الحديث على جواز الشرب للقائم، وقد عارض ذلك أحاديث صريحة في النهي عنه. ومنها عند مسلم عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما" ومثله عنده عن أبي سعيد بلفظ: "نهى" ومثله للترمذي وحسنه من حديث الجارود، ولمسلم من طريق أبي غطفان عن أبي هريرة بلفظ: "لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسي فليستقيء" ، وأخرجه أحمد من وجه آخر وصححه ابن حبان من طريق أبي صالح عنه بلفظ: " لو يعلم الذي يشرب وهو قائم لاستقاء" ولأحمد من وجه آخر عن أبي هريرة "أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يشرب قائما فقال: قه، قال: لمه؟ قال: أيسرك أن يشرب معك الهر؟ قال: لا. قال قد شرب معك من هو شر منه، الشيطان " وهو من رواية شعبة عن أبي زياد الطحان مولى الحسن بن علي عنه، وأبو زياد لا يعرف اسمه، وقد وثقه يحيى بن معين. وأخرج مسلم من طريق قتادة عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب الرجل قائما، قال قتادة فقلنا لأنس: فالأكل؟ قال ذاك أشر وأخبث" قيل: وإنما جعل الأكل أشر لطول زمنه بالنسبة لزمن الشرب. فهذا ما ورد في المنع من ذلك. قال المازري: اختلف الناس في هذا، فذهب الجمهور إلى الجواز، وكرهه قوم، فقال بعض شيوخنا: لعل النهي ينصرف لمن أتى أصحابه بماء فبادر لشربه قائما قبلهم استبدادا به وخروجا عن كون ساقي القوم آخرهم شربا. قال: وأيضا فإن الأمر في حديث أبي هريرة بالاستقاء لا خلاف بين أهل العلم

(10/82)


في أنه ليس على أحد أن يستقيء. قال: وقال بعض الشيوخ: الأظهر أنه موقوف على أبي هريرة. قال: وتضمن حديث أنس الأكل أيضا، ولا خلاف في جواز الأكل قائما. قال: والذي يظهر لي أن أحاديث شربه قائما تدل على الجواز، وأحاديث النهي تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل. أو لأن في الشرب قائما ضررا فأنكره من أجله وفعله هو لأمنه، قال: وعلى هذا الثاني يحمل قوله: "فمن نسي فليستقيء" على أن ذلك يحرك خلطا يكون القيء دواءه. ويؤيده قول النخعي: إنما نهى عن ذلك لداء البطن. انتهى ملخصا. وقال عياض: لم يخرج مالك ولا البخاري أحاديث النهي، وأخرجها مسلم من رواية قتادة عن أنس ومن روايته عن أبي عيسى عن أبي سعيد وهو معنعن، وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث، وأبو عيسى غير مشهور، واضطراب قتادة فيه مما يعله مع مخالفة الأحاديث الأخرى والأئمة له. وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عمر بن حمزة ولا يحتمل منه مثل هذا لمخالفة غيره له، والصحيح أنه موقوف. انتهى ملخصا. ووقع للنووي ما ملخصه: هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالا باطلة، وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها، ولا وجه لإشاعة الغلطات، بل يذكر الصواب ويشار إلى التحذير عن الغلط، وليس في الأحاديث إشكال ولا فيها ضعيف، بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه، وشربه قائما لبيان الجواز، وأما من زعم نسخا أو غيره فقد غلط، فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ، وفعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروها أصلا، فإنه كان يفعل الشيء للبيان مرة أو مرات، ويواظب على الأفضل، والأمر بالاستقاءة محمول على الاستحباب، فيستحب لمن شرب قائما أن يستقيء لهذا الحديث الصحيح الصريح، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب. وأما قول عياض: لا خلاف بين أهل العلم في أن من شرب قائما ليس عليه أن يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع من استحبابه، فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مجازف، وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات، والدعاوى والترهات؟ اهـ وليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلا، بل ونقل الاتفاق المذكور إنما هو كلام المازري كما مضى، وأما تضعيف عياض للأحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه. وطريق الإنصاف أن لا تدفع حجة العالم بالصدر، فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلسا وقد عنعنه فيجاب عنه بأنه صرح في نفس السند بما يقتضي سماعه له من أنس، فإن فيه: "قلنا لأنس: فالأكل" وأما تضعيفه حديث أبي سعيد بأن أبا عيسى غير مشهور فهو قول سبق إليه ابن المديني لأنه لم يرو عنه إلا قتادة، لكن وثقه الطبري وابن حبان، ومثل هذا يخرج في الشواهد، ودعواه اضطرابه مردودة لأن لقتادة فيه إسنادين وهو حافظ، وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه ومثله يخرج له مسلم في المتابعات، وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما أشرت إليه عند أحمد وابن حبان، فالحديث بمجموع طرقه صحيح والله أعلم. قال النووي وتبعه شيخنا في "شرح الترمذي" إن قوله: "فمن نسي" لا مفهوم له، بل يستحب ذلك للعامد أيضا بطريق الأولى، وإنما خص الناسي بالذكر لكون المؤمن لا يقع ذلك منه بعد النهي غالبا إلا نسيانا. قلت: وقد يطلق النسيان ويراد به الترك فيشمل السهو والعمد، فكأنه قيل من ترك امتثال الأمر وشرب قائما فليستقيء. وقال القرطبي في "المفهم": لم يصر أحد إلى أن النهي فيه للتحريم وإن كان جاريا على أصول الظاهرية والقول به، وتعقب بأن ابن حزم منهم جزم بالتحريم، وتمسك من

(10/83)


لم يقل بالتحريم بحديث علي المذكور في الباب، وصحح الترمذي من حديث ابن عمر "كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام" وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص أخرجه الترمذي أيضا وعن عبد الله بن أنيس أخرجه الطبراني وعن أنس أخرجه البزار والأثرم وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه الترمذي وحسنه وعن عائشة أخرجه البزار وأبو علي الطوسي في "الأحكام" وعن أم سليم نحوه أخرجه ابن شاهين وعن عبد الله بن السائب عن خباب عن أبيه عن جده أخرجه ابن أبي حاتم، وعن كبشة قالت: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فشرب من قربة معلقة" أخرجه الترمذي وصححه، وعن كلثم نحوه أخرجه أبو موسى بسند حسن. وثبت الشرب قائما عن عمر أخرجه الطبري، وفي "الموطأ" أن عمر وعثمان وعليا كانوا يشربون قياما وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأسا، وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين. وسلك العلماء في ذلك مسالك: أحدها: الترجيح وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم فقال: حديث أنس - يعني في النهي - جيد الإسناد ولكن قد جاء عنه خلافه، يعني في الجواز، قال: ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز أن لا يكون الذي يقابله أقوى لأن الثبت قد يروي من هو دونه الشيء فيرجح عليه، فقد رجح نافع على سالم في بعض الأحاديث عن ابن عمر وسالم مقدم على نافع في الثبت، وقدم شريك على الثوري في حديثين وسفيان مقدم عليه في جملة أحاديث. ثم أسند عن أبي هريرة قال: "لا بأس بالشرب قائما" قال الأثرم: فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست ثابتة، وإلا لما قال لا بأس به، قال: ويدل على وهاء أحاديث النهي أيضا اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد شرب قائما أن يستقيء. المسلك الثاني: دعوى النسخ، وإليها جنح الأثرم وابن شاهين فقررا على أن أحاديث النهي - على تقدير ثبوتها - منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومنظم الصحابة والتابعين بالجواز، وقد عكس ذلك ابن حزم فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكا بأن الجواز على وفق الأصل وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع. فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان، فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما سيأتي ذكره في هذا الباب من حديث ابن عباس، وإذا كان ذلك الأخير من فعله صلى الله عليه وسلم دل على الجواز، ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين بعده. المسلك الثالث: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل، فقال أبو الفرج الثقفي في نصره الصحاح: والمراد بالقيام هنا المشي، يقال قام في الأمر إذا مشى فيه، وقمت في حاجتي إذا سعيت فيها وقضيتها، ومنه قوله تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} أي مواظبا بالمشي عليه. وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه، وهذا إن سلم له في بعض ألفاظ الأحاديث لم يسلم له في بقيتها. وسلك آخرون في الجمع حمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين، وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض، وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيرا فقال: إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري وأيده بأنه لو كان جائزا ثم حرمه أو كان حراما ثم جوزه لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا واضحا، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا. وقيل: إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به، فإن الشرب قاعدا أمكن وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق، وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائما. وفي حديث علي من الفوائد أن على العالم إذا رأى الناس اجتنبوا شيئا وهو

(10/84)


يعلم جوازه أن يوضح لهم وجه الصواب فيه خشية أن يطول الأمر فيظن تحريمه، وأنه متى خشي ذلك فعليه أن يبادر للإعلام بالحكم ولو لم يسأل، فإن سئل تأكد الأمر به، وأنه إذا كره من أحد شيئا لا يشهر باسمه لغير غرض بل يكنى عنه كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل في مثل ذلك. قوله: "حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عاصم الأحول" قال الكرماني ذكر الكلاباذي أن أبا نعيم سمع من سفيان الثوري ومن سفيان بن عيينة وأن كلا منهما روى عن عاصم الأحول فيحتمل أن يكون أحدهما. قلت: ليس الاحتمالان فيهما هنا على السواء، فإن أبا نعيم مشهور بالرواية عن الثوري معروف بملازمته، وروايته عن ابن عيينة قليلة، وإذا أطلق اسم شيخه حمل على من هو أشهر بصحبته وروايته عنه أكثر، ولهذا جزم المزي في "الأطراف" أن سفيان هذا هو الثوري، وهذه قاعدة مطردة عند المحدثين في مثل هذا، وللخطيب فيه تصنيف سماه "المكمل لبيان المهمل"، وقد روى هذا الحديث بعينه سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول أخرجه أحمد عنه، وكذا هو عند مسلم رواية ابن عيينة، وأخرجه أحمد أيضا من وجه آخر عن سفيان الثوري عن عاصم الأحول، لكن خصوص رواية أبي نعيم فيه إنما هي عن الثوري كما تقدم. قوله: "شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائما من زمزم" في رواية ابن ماجه من وجه آخر عن عاصم في هذا الحديث: "قال - أي عاصم - فذكرت ذلك لعكرمة فحلف أنه ما كان حينئذ إلا راكبا" وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الحج، وعند أبي داود من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره ثم أناخه بعد طوافه فصلى ركعتين" فلعله حينئذ شرب من زمزم قبل أن يعود إلى بعيره ويخرج إلى الصفا، بل هذا هو الذي يتعين المصير إليه، لأن عمدة عكرمة في إنكار كونه شرب قائما إنما هو ما ثبت عنده أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره وخرج إلى الصفا على بعيره وسعى كذلك، لكن لا بد من تخلل ركعتي الطواف بين ذلك وقد ثبت أنه صلاهما على الأرض فما المانع من كونه شرب حينئذ من سقاية زمزم قائما كما حفظه الشعبي عن ابن عباس؟

(10/85)


باب من شرب واقف وهو على بعيره
...
17 - باب مَنْ شَرِبَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ
5618- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ "أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَشَرِبَهُ" زَادَ مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ "عَلَى بَعِيرِهِ".
قوله: "باب من شرب وهو واقف على بعيره" قال ابن العربي: لا حجة في هذا على الشرب قائما، لأن الراكب على البعير قاعد غير قائم، كذا قال، والذي يظهر لي أن البخاري أراد حكم هذه الحالة وهل تدخل تحت النهي أو لا وإيراده الحديث من فعله صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز فلا يدخل في الصورة المنهي عنها، وكأنه لمح بما قال عكرمة أن مراد ابن عباس بقوله في الرواية التي جاءت عن الشعبي في الذي قبله أنه شرب قائما إنما أراد وهو راكب والراكب يشبه القائم من حيث كونه سائرا؛ ويشبه القاعد من حيث كونه مستقرا على الدابة. قوله: "حدثنا مالك بن إسماعيل" هو أبو غسان النهدي الكوفي من كبار شيوخ البخاري، وقوله: بعد ذلك "زاد مالك الخ" هو ابن أنس والمراد أن مالكا تابع عبد العزيز بن أبي سلمة على روايته هذا الحديث عن أبي النضر وقال في روايته: "شرب وهو واقف على

(10/85)


بعيره" وقد تقدمت هذه الرواية تامة في كتاب الصيام مع بقية شرح الحديث.

(10/86)


باب الأيمن في الأيمن في الشرب
...
18 - باب الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ فِي الشُّرْبِ
5619- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن بن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن شماله أبو بكر فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن" .
قوله: "باب الأيمن فالأيمن في الشرب" ذكر فيه حديث أنس الماضي قريبا في "باب شرب اللبن" وتقدمت مباحثه هناك. وإسماعيل هو ابن أبي أويس. وكذا في حديث الباب الذي بعده. وقوله: "الأيمن فالأيمن" أي يقدم من على يمين الشارب في الشرب ثم الذي عن يمين الثاني وهلم جرا، وهذا مستحب عند الجمهور. وقال ابن حزم: يجب. وقوله في الترجمة: "في الشرب" يعم الماء وغيره من المشروبات، ونقل عن مالك وحده أنه خصه بالماء. قال ابن عبد البر: لا يصح عن مالك. وقال عياض: يشبه أن يكون مراده أن السنة ثبتت نصا في الماء خاصة، وتقديم الأيمن في غير شرب الماء يكون بالقياس. وقال ابن العربي: كأن اختصاص الماء بذلك لكونه قد قيل إنه لا يملك، بخلاف سائر المشروبات. ومن ثم اختلف هل يجري الربا فيه، وهل يقطع في سرقته؟ وظاهر قوله: "في الشرب" أن ذلك لا يجري في الأكل، لكن وقع في حديث أنس خلافه كما سيأتي.

(10/86)


باب هل يستأذن الرجل من على يمينه في الشرب ليعطي الأكبر
...
19 - باب هَلْ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الشُّرْبِ لِيُعْطِيَ الأَكْبَرَ
5620- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ فَقَالَ لِلْغُلاَمِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ فَقَالَ الْغُلاَمُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَداً قَالَ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ" .
قوله: "باب هل يستأذن الرجل من عن يمينه في الشرب ليعطي الأكبر؟" كأنه لم يجزم بالحكم لكونها واقعة عين فيتطرق إليها احتمال الاختصاص، فلا يطرد الحكم فيها لكل جليسين. حديث سهل بن سعد في ذلك وقد تقدم في أوائل الشرب، وفيه تسمية الغلام وبعض الأشياخ. وقوله: "أتأذن لي" لم يقع في حديث أنس أنه استأذن الأعرابي الذي عن يمينه، فأجاب النووي وغيره بأن السبب فيه أن الغلام كان ابن عمه فكان له عليه إدلال وكان من على اليسار أقارب الغلام أيضا، وطيب نفسه مع ذلك بالاستئذان لبيان الحكم وأن السنة تقديم الأيمن ولو كان مفضولا بالنسبة إلى من على اليسار، وقد وقع في حديث ابن عباس في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف به حيث قال له "الشربة لك، وإن شئت آثرت بها خالدا" كذا في السنن، وفي لفظ لأحمد "وإن شئت آثرت به عمك" وإنما أطلق عليه عمه لكونه أسن منه، ولعل سنه كان قريبا من سن العباس، وإن كان من جهة أخرى من أقرانه لكونه ابن خالته، وكان خالد مع رياسته في الجاهلية وشرفه في قومه قد تأخر إسلامه فلذلك استأذن له، بخلاف

(10/86)


20 - باب الْكَرْعِ فِي الْحَوْضِ
5621- حدثنا يحيى بن صالح حدثنا فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار ومعه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه فرد الرجل فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي وهي ساعة حارة وهو يحول له يعني الماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان عندك ماء بات في شنة وإلا كرعنا والرجل يحول الماء فقال الرجل: يا رسول الله عندي ماء بات في شنة فانطلق إلى العريش فسكب في قدح ماء ثم حلب عليه من داجن له فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أعاد فشرب الرجل الذي جاء معه".
قوله: "باب الكرع في الحوض" ذكر فيه حديث جابر، وقد تقدم شرحه قبل خمسة أبواب مستوفى، وإنما قيد في الترجمة بالحوض لما بينته هناك أن جابرا أعاد قوله: "وهو يحول الماء" في أثناء مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم الرجل مرتين، وأن الظاهر أنه كان ينقله من أسفل البئر إلى أعلاه، فكأنه كان هناك حوض يجمعه فيه ثم يحوله من جانب إلى جانب.

(10/88)


21 - باب خِدْمَةِ الصِّغَارِ الْكِبَارَ
5622- حدثنا مسدد حدثنا الفاء عن أبيه قال سمعت أنسا رضي الله عنه قال: "كنت قائما على الحي أسقيهم عمومتي - وأنا أصغرهم - الفضيخ فقيل: حرمت الخمر فقال: أكفئها فكفأنا. قلت لأنس: ما شرابهم؟ قال: رطب وبسر. فقال أبو بكر بن أنس: وكانت خمرهم فلم ينكر أنس".
وحدثني بعض أصحابي أنه سمع أنسا يقول: "كانت خمرهم يومئذ".
قوله: "باب خدمة الصغار الكبار" ذكر فيه حديث أنس "كنت قائما على الحي أسقيهم وأنا أصغرهم" وهو ظاهر فيما ترجم به، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الأشربة.

(10/88)


22 - باب تَغْطِيَةِ الإِنَاءِ
5623- حدثنا إسحاق بن منصور أخبرنا روح بن عبادة أخبرنا بن جريج قال أخبرني عطاء أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من الليل فحلوهم فأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئا وأطفئوا مصابيحكم" .

(10/88)


23 - باب اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ
5625- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ يَعْنِي أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا" .
[الحديث 5625 – طرفه في: 5626]
5626- حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال حدثني عبيد الله بن عبد الله أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن اختناث الأسقية". قال عبد الله: قال معمر أو غيره: "هو الشرب من أفواهها".
قوله: "باب اختناث الأسقية" افتعال من الخنث بالخاء المعجمة والنون والمثلثة، وهو الانطواء والتكسر والانثناء. والأسقية جمع السقاء والمراد به المتخذ من الأدم صغيرا كان أو كبيرا. وقيل: القربة قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة، والسقاء لا يكون إلا صغيرا. قوله: "عن عبيد الله" بالتصغير "ابن عبد الله" بالتكبير "ابن عتبة" بضم المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة أي ابن مسعود، وصرح في الرواية التي تليها بتحديث عبيد الله للزهري. قوله: "عن أبي سعيد" صرح بالسماع في التي تليها أيضا. قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في التي بعدها "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى". قوله: "يعني أن تكسر أفواهها فيشرب منها" المراد بكسرها ثنيها لا كسرها حقيقة ولا إبانتها، والقائل "يعني" لم يصرح به في هذه الطريق، ووقع عند أحمد عن أبي النضر عن ابن أبي ذئب بحذف لفظ: "يعني" فسار التفسير مدرجا في الخبر، ووقع في الرواية الثانية "قال عبد الله" هو ابن المبارك "قالا معمر" هو ابن راشد "أو غيره هو الشرب من أفواهها" وعبد الله بن المبارك روى المرفوع عن يونس عن الزهري، وروى التفسير عن معمر مع التردد، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن وهب يونس وابن أبي ذئب معا مدرجا ولفظه: "ينهى عن اختناث الأسقية أو الشرب أن يشرب من أفواهها" كذا فيه بحرف التردد، وهو عند مسلم من طريق ابن وهب عن يونس وحده بلفظ: "عن اختناث الأسقية أن يشرب من أفواهها" وهذا

(10/89)


أشبه، وهو أنه تفسير الاختناث لا أنه شك من الراوي في أي اللفظين وقع في الحديث، لكن ظاهره أن التفسير في نفس الخبر، وأخرجه مسلم أيضا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ولم يسق لفظه لكن قال: "مثله" قال: "غير أنه قال: واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب" وهو مدرج أيضا، وقد جزم الخطابي أن تفسير الاختناث من كلام الزهري، ويحمل التفسير المطلق وهو الشرب من أفواهها على المقيد بكسر فمها أو قلب رأسها، ووقع في مسند أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب في أول هذا الحديث: "شرب رجل من سقاء فانساب في بطنه جنان، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكره، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي بكر وعثمان بن أبي شيبة فرقهما عن يزيد به. قوله: "أفواهها" جمع فم، وهو على سبيل الرد إلى الأصل في الفم أنه فوه نقصت منه الهاء لاستثقال هاءين عند الضمير لو قال فوهه، فلما لم يحتمل حذف الواو بعد حذف الهاء الإعراب لسكونها عوضت ميما فقيل فم، وهذا إذا أفرد، ويجوز أن يقتصر على الفاء إذا أضيفت لكن تزاد حركة مشبعة يختلف إعرابها بالحروف، فإن أضيف إلى مضمر كفت الحركات ولا يضاف مع الميم إلا في ضرورة شعر كقول الشاعر "يصبح عطشان وفي البحر فمه" فإذا أرادوا الجمع أو التصغير ردوه إلى الأصل فقالوا فويه وأفواه، ولم يقولوا فميم ولا أفمام.

(10/90)


24 - باب الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ
5627- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ لَنَا عِكْرِمَةُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ قِصَارٍ حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوْ السِّقَاءِ وَأَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي دَارِهِ" .
5628- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ" .
5629- حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد عن عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء" .
قوله: "باب الشرب من فم السقاء" الفم بتخفيف الميم ويجوز تشديدها، ووقع في رواية: "من في السقاء" وقد تقدم توجيهها. قال ابن المنير: لم يقنع بالترجمة التي قبلها لئلا يظن أن النهي خاص بصورة الاختناث، فبين أن النهي يعم ما يمكن اختناثه وما لا يمكن كالفخار مثلا. قوله: "حدثنا أيوب قال: قال لنا عكرمة" في رواية الحميدي عن سفيان "حدثنا أيوب السختياني أخبرنا عكرمة" وأخرجه أبو نعيم من طريقه. قوله: "ألا أخبركم بأشياء قصار حدثنا بها أبو هريرة" في الكلام حذف تقديره مثلا: فقلنا نعم، أو فقلنا حدثنا أو نحو ذلك فقال: حدثنا أبو هريرة. ووقع في رواية ابن أبي عمر عن سفيان بهذا الإسناد "سمعت أبا هريرة" أخرجه الإسماعيلي من طريقه. قوله: "من فم القربة أو السقاء" هو شك من الراوي، وكأنه من سفيان، قد وقع في رواية عبد الجبار بن العلاء عن سفيان عند الإسماعيلي: "من في السقاء" وفي رواية ابن أبي عمر عنده من فم القربة. قوله: "وأن

(10/90)


يمنع جاره الخ" تقدم شرحه في أوائل كتاب المظالم. قال الكرماني، "قال ألا أخبركم بأشياء" ولم يذكر إلا شيئين فلعله أخبر بأكثر فاختصره بعض الرواة أو أقل الجمع عنده اثنان. قلت: واختصاره يجوز أن يكون عمدا ويجوز أن يكون نسيانا، وقد أخرج أحمد الحديث المذكور من رواية حماد بن زيد عن أيوب فذكر بهذا الإسناد الشيئين المذكورين وزاد النهي عن الشرب قائما، وفي مسند الحميدي أيضا ما يدل على أنه ذكر ثلاثة أشياء، فإنه ذكر النهي عن الشرب من في السقاء أو القربة وقال هذا آخرها، والله أعلم. "حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل" هو المعروف بابن علية. قوله: "أن يشرب من في السقاء" زاد أحمد عن إسماعيل بهذا الإسناد والمتن "قال أيوب فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية" وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عباد بن موسى عن إسماعيل ووهم الحاكم فأخرج الحديث في "المستدرك" بزيادته والزيادة المذكورة ليست على شرط الصحيح لأن راويها لم يسم وليست موصولة، ولكن أخرجها ابن ماجه من رواية سلمة بن وهرام عن عكرمة بنحو المرفوع، وفي آخره: "وإن رجلا قام من الليل بعد النهي إلى سقاء فاختنثه فخرجت عليه منه حية" وهذا صريح في أن ذلك وقع بعد النهي، بخلاف ما تقدم من رواية ابن أبي ذئب في أن ذلك كان سبب النهي، ويمكن الجمع بأن يكون ذلك وقع قبل النهي فكان من أسباب النهي، ثم وقع بعد النهي تأكيدا. وقال النووي: اتفقوا على أن النهي هنا للتنزيه لا للتحريم، كذا قال، وفي نقل الاتفاق نظر لما سأذكره، فقد نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه القرب وقال: لم يبلغني فيه نهي، وبالغ ابن بطال في رد هذا القول، واعتذر عنه ابن المنير باحتمال أنه كان لا يحمل النهي فيه على التحريم، كذا قال مع النقل عن مالك أنه لم يبلغه فيه نهي، فالاعتذار عنه بهذا القول أولى، والحجة قائمة على من بلغه النهي، قال النووي: ويؤيد كون هذا النهي للتنزيه أحاديث الرخصة في ذلك. قلت: لم أر في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز إلا من فعله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث النهي كلها من قوله. فهي أرجح إذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك، فإن جميع ما ذكره العلماء في ذلك يقتضي أنه مأمون منه صلى الله عليه وسلم، أما أولا فلعصمته ولطيب نكهته، وأما ثانيا فلرفقه في صب الماء وبيان ذلك بسياق ما ورد في علة النهي، فمنها ما تقدم من أنه لا يؤمن دخول شيء من الهوام مع الماء في جوف السقاء فيدخل فم الشارب وهو لا يشعر، وهذا يقتضي أنه لو ملأ السقاء وهو يشاهد الماء يدخل فيه ثم ربطه ربطا محكما ثم لما أراد أن يشرب حله فشربه منه لا يتناوله النهي، ومنها ما أخرجه الحاكم من حديث عائشة بسند قوي بلفظ: "نهى أن يشرب من في السقاء لأن ذلك ينتنه" وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصا بمن يشرب فيتنفس داخل الإناء أو باشر بفمه باطن السقاء، أما من صب من القربة داخل فمه من غير مماسة فلا، ومنها أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء فينصب منه أكثر من حاجته فلا يأمن أن يشرق به أو تبتل ثيابه، قال ابن العربي: وواحدة من الثلاثة تكفي في ثبوت الكراهة، وبمجموعها تقوى الكراهة جدا. وقال الشيخ محمد بن أبي جمرة ما ملخصه: اختلف في علة النهي فقيل: يخشى أن يكون في الوعاء حيوان أو ينصب بقوة فيشرق به أو يقطع العروق الضعيفة التي بإزاء القلب فربما كان سبب الهلاك أو بما يتعلق بفم السقاء من بخار النفس أو بما يخالط الماء من ريق الشارب فيتقذره غيره أو لأن الوعاء يفسد بذلك في العادة فيكون من إضاعة المال، قال: والذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور وفيها ما يقتضي الكراهة وفيها ما يقتضي التحريم، والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم، وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي

(10/91)


وحمل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة، وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة لأنهم كانوا أولا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء فنسخ الجواز. قلت: ومن الأحاديث الواردة في الجواز ما أخرجه الترمذي وصححه من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قالت: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة" وفي الباب عن عبد الله بن أنيس عند أبي داود والترمذي وعن أم سلمة في "الشمائل" وفي مسند أحمد والطبراني والمعاني للطحاوي، قال شيخنا في شرح الترمذي: لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسرا ولم يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ وعلى ذلك تحمل الأحاديث المذكورة، وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي. قلت: ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلقة والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة، ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقا بل على تلك الصورة وحدها، وحملها على حال الضرورة جمعا بين الخبرين أولى من حملها على النسخ والله أعلم. وقد سبق ابن العربي إلى نحو ما أشار إليه شيخنا فقال: يحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة، إما عند الحرب وإما عند عدم الإناء أو مع وجوده لكن لم يتمكن لشغله من التفريغ من السقاء في الإناء، ثم قال: ويحتمل أن يكون شرب من إداوة، والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة لأنها مظنة وجود الهوام، كذا قال، والقربة الصغيرة لا يمتنع وجود شيء من الهوام فيها، والضرر يحصل به ولو كان حقيرا، والله أعلم.

(10/92)


25 - باب النَّهْيِ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الإِنَاءِ
5630- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ وَإِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَإِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ" .
قوله: "باب النهي عن التنفس في الإناء" ذكر فيه حديث أبي قتادة. وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة. قوله: "فلا يتنفس في الإناء" زاد ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه النهي عن النفخ في الإناء، وله شاهد من حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء، وأن ينفخ فيه" وجاء في النهي عن النفخ في الإناء عدة أحاديث، وكذا النهي عن التنفس في الإناء لأنه ربما حصل له تغير من النفس إما لكون المتنفس كان متغير الفم بمأكول مثلا، أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة، أو لأن النفس يصعد ببخار المعدة، والنفخ في هذه الأحوال كلها أشد من التنفس.

(10/92)


باب الشرب بنفس أو نفسين
...
26 - باب الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ
5631- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ قَالاَ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كَانَ أَنَسٌ يَتَنَفَّسُ فِي الإِنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلاَثاً".

(10/92)


27 - باب الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ
5632- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ فَرَمَاهُ بِهِ فَقَالَ إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلاَّ أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَالَ هُنَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ ".
قوله: "باب الشرب في آنية الذهب" كذا أطلق الترجمة، وكأنه استغنى عن ذكر الحكم بما صرح به بعد في كتاب الأحكام أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم حتى يقوم دليل الإباحة. وقد وقع التصريح في حديث الباب بالنهي والإشارة إلى الوعيد على ذلك، ونقل ابن المنذر الإجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة إلا عن معاوية بن قرة أحد التابعين فكأنه لم يبلغه النهي، وعن الشافعي في القديم ونقل عن نصه في حرملة أن النهي فيه للتنزيه لأن علته ما فيه من التشبه بالأعاجم، ونص في الجديد على التحريم، ومن أصحابه من قطع به عنه، وهذا اللائق به لثبوت الوعيد عليه بالنار كما سيأتي في الذي يليه. وإذا ثبت ما نقل عنه فلعله كان قبل أن يبلغه الحديث المذكور،

(10/94)


ويؤيد وهم النقل أيضا عن نصه في حرملة أن صاحب "التقريب" نقل في كتاب الزكاة عن نصه في حرملة تحريم اتخاذ الإناء من الذهب أو الفضة، وإذا حرم الاتخاذ فتحريم الاستعمال أولى، والعلة المشار إليها ليست متفقا عليها، بل ذكروا للنهي عدة علل: منها ما فيه من كسر قلوب الفقراء، أو من الخيلاء والسرف، ومن تضييق النقدين. قوله: "عن ابن أبي ليلى" هو عبد الرحمن. وفي رواية غندر عن شعبة عن الحكم "سمعت ابن أبي ليلى" أخرجه مسلم والترمذي. قوله: "كان حذيفة بالمدائن"، عند أحمد من طريق يزيد عن ابن أبي ليلى "كنت مع حذيفة بالمدائن" والمدائن اسم بلفظ جمع مدينة، وهو بلد عظيم على دجلة بينها وبين بغداد سبعة فراسخ كانت مسكن ملوك الفرس، وبها إيوان كسرى المشهور، وكان فتحها على يد سعد بن أبي وقاص في خلافة عمر سنة ست عشرة وقيل: قبل ذلك، وكان حذيفة عاملا عليها في خلافة عمر ثم عثمان إلى أن مات بعد قتل عثمان. قوله: "فاستسقى فأتاه دهقان" بكسر الدال المهملة ويجوز ضمها بعدها هاء ساكنة ثم قاف، هو كبير القرية بالفارسية، ووقع في رواية أحمد عن وكيع عن شعبة "استسقى حذيفة من دهقان أو علج" وتقدم في الأطعمة من طريق سيف عن مجاهد عن ابن أبي ليلى "أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى، فسقاه مجوسي" ولم أقف على اسمه بعد البحث. قوله: "بقدح فضة" في رواية أبي داود عن حفص شيخ البخاري فيه: "بإناء من فضة" ولمسلم من طريق عبد الله بن عكيم "كنا عند حذيفة فجاءه دهقان بشراب في إناء من فضة" ويأتي في اللباس عن سليمان بن حرب عن شعبة بلفظ: "بماء في إناء". قوله: "فرماه به" في رواية وكيع "فحذفه به" ويأتي في الذي يليه بلفظ: "فرمى به في وجهه" ولأحمد من رواية يزيد عن ابن أبي ليلى "ما يألو أن يصيب به وجهه" زاد في رواية الإسماعيلي وأصله عند مسلم: فرماه به فكسره. قوله: "فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته" في رواية الإسماعيلي المذكورة "لم أكسره إلا أني نهيته فلم يقبل" وفي رواية وكيع "ثم أقبل على القوم فاعتذر" وفي رواية يزيد "لولا أني تقدمت إليه مرة أو مرتين لم أفعل به هذا" وفي رواية عبد الله بن عكيم "إني أمرته أن لا يسقيني فيه" ويأتي في الذي بعده مزيد فيه. قوله: "وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج" سيأتي في اللباس التصريح ببيان النهي عن لبسهما، وفيه بيان الديباج ما هو. قوله: "والشرب في آنية الذهب والفضة" وقع في الذي يليه بلفظ: "لا تشربوا ولا تلبسوا" وكذا عند أحمد من وجه آخر عن الحكم، كذا وقع في معظم الروايات عن حذيفة الاقتصار على الشرب ووقع عند أحمد من طريق مجاهد عن ابن أبي ليلى بلفظ: "نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة، وأن يؤكل فيها" ويأتي نحوه في حديث أم سلمة في الباب الذي يليه. قوله: "وقال: هن لهم في الدنيا، وهن لكم في الآخرة" كذا فيه بلفظ: "هن" بضم الهاء وتشديد النون في الموضعين. وفي رواية أبي داود عن حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ: "هي" بكسر الهاء ثم التحتانية، وكذا في رواية غندر عن شعبة، ووقع عند الإسماعيلي وأصله في مسلم: "هو" أي جميع ما ذكر. قال الإسماعيلي: ليس المراد بقوله: "في الدنيا" إباحة استعمالهم إياه وإنما المعنى بقوله: "لهم" أي هم الذين يستعملونه مخالفة لزي المسلمين. وكذا قوله "ولكم في الآخرة" أي تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويمنعه أولئك جزاء لهم على معصيتهم باستعماله. قلت: ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطى ذلك في الدنيا لا يتعاطاه في الآخرة كما تقدم في شرب الخمر، ويأتي مثله في لباس الحرير، بل وقع في هذا بخصوصه ما سأبينه في الذي قبله.

(10/95)


28 - باب آنِيَةِ الْفِضَّةِ
5633- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ خَرَجْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ وَذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ" .
5634- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ" .
5635- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَعَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ أَوْ قَالَ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَالْقَسِّيِّ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالإِسْتَبْرَقِ" .
قوله: "باب آنية الفضة" ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول: حديث حذيفة. قوله: "خرجنا مع حذيفة وذكر النبي صلى الله عليه وسلم" كذا ذكره مختصرا، وقد أخرجه أحمد عن ابن أبي عدي الذي أخرجه البخاري من طريقه، وأخرجه الإسماعيلي وأصله في مسلم من طريق معاذ بن معاذ وكلاهما عن عبد الله بن عون بلفظ: "خرجت مع حذيفة إلى بعض هذا السواد، فاستسقى، فأتاه الدهقان بإناء من فضة، فرمى به في وجهه، قال فقلنا: اسكتوا، فإنا إن سألناه لم يحدثنا، قال فسكتنا. فلما كان بعد ذلك قال: أتدرون لم رميت بهذا في وجهه؟ قلنا: لا. قال: ذلك أني كنت نهيته. قال فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تشربوا في آنية الذهب والفضة" قال أحمد: وفي رواية معاذ "ولا في الفضة". قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن زيد بن عبد الله بن عمر" هو تابعي ثقة، تقدمت روايته عن أبيه في إسلام عمر، وليس له في البخاري سوى هذين الحديثين. وهذا الإسناد كله مدنيون، وقد تابع مالكا عن نافع عليه موسى بن عقبة وأيوب وغيرهما وذلك عند مسلم، وخالفهم إسماعيل بن أمية عن نافع فلم يذكر زيدا في إسناده، جعله عن نافع عن عبد الله بن عبد الرحمن، أخرجه النسائي، والحكم لمن زاد من الثقات، ولا سيما وهم حفاظ وقد اجتمعوا وانفرد إسماعيل. وقال محمد بن إسحاق عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة، ووافقه سعد بن إبراهيم عن نافع في صفية لكن خالفه فقال عن عائشة بدل أم سلمة، وقول محمد بن إسحاق أقرب، فإن كان محفوظا فلعل لنافع فيه إسنادين، وشذ عبد العزيز بن أبي رواد فقال: "عن نافع عن أبي هريرة" وسلك برد بن سنان وهشام بن الغاز الجادة فقالا عن نافع عن ابن عمر أخرج الجميع النسائي وقال:

(10/96)


الصواب من ذلك كله رواية أيوب ومن تابعه. قوله: "عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق" هو ابن أخت أم سلمة التي روى عنها هذا الحديث، أمه قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، وهو ثقة ما له في البخاري غير هذا الحديث. قوله: "الذي يشرب في آنية الفضة" في رواية مسلم من طريق عثمان بن مرة عن عبد الله بن عبد الرحمن "من شرب من إناء ذهب أو فضة" وله من رواية علي بن مسهر عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع "إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة" وأشار مسلم إلى تفرد علي بن مسهر بهذه اللفظة، أعني الأكل. قوله: "إنما يجرجر" بضم التحتانية وفتح الجيم وسكون الراء ثم جيم مكسورة ثم راء من الجرجرة وهو صوت يردده البعير في حنجرته إذا هاج نحو صوت اللجام في فك الفرس، قال النووي: اتفقوا على كسر الجيم الثانية من يجرجر، وتعقب بأن الموفق بن حمزة في كلامه على المذهب حكى فتحها، وحكى ابن الفركاح عن والده أنه قال: روي يجرجر على البناء للفاعل والمفعول، وكذا جوزه ابن مالك في "شواهد التوضيح" نعم رد ذلك ابن أبي الفتح تلميذه فقال في جزء جمعه في الكلام على هذا المتن: لقد كثر بحثي على أن أرى أحدا رواه مبنيا للمفعول فلم أجده عند أحد من حفاظ الحديث، وإنما سمعناه من الفقهاء الذين ليست لهم عناية بالرواية، وسألت أبا الحسين اليونيني فقال: ما قرأته على والدي ولا على شيخنا المنذر إلا مبنيا للفاعل. قال: ويبعد اتفاق الحفاظ قديما وحديثا على ترك رواية ثابتة. قال: وأيضا فإسناده إلى الفاعل هو الأصل وإسناده إلى المفعول فرع فلا يصار إليه بغير حاجة، وأيضا فإن علماء العربية قالوا: يحذف الفاعل إما للعلم به أو للجهل به، أو إذا تخوف منه أو عليه، أو لشرفه أو لحقارته، أو لإقامة وزن، وليس هنا شيء من ذلك. قوله: "في بطنه نار جهنم" وقع للأكثر بنصب نار على أن الجرجرة بمعنى الصب أو التجرع فيكون "نار" نصب على المفعولية والفاعل الشارب أي يصب أو يتجرع، وجاء الرفع على أن الجرجرة هي التي تصوت في البطن، قال النووي: النصب أشهر، ويؤيده رواية عثمان بن مرة عند مسلم بلفظ: "فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم" وأجاز الأزهري النصب على أن الفعل عدي إليه، وابن السيد الرفع على أنه خبر إن وما موصولة، قال: ومن نصب جعل "ما" زائدة كافة لأن عن العمل، وهو نحو {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} فقرئ بنصب كيد ورفعه، ويدفعه أنه لم يقع في شيء من النسخ بفصل ما من إن. وقوله: إن النار تصوت في بطنه كما يصوت البعير بالجرجرة مجاز تشبيه، لأن النار لا صوت لها، كذا قيل. وفي النفي نظر لا يخفى. حديث البراء "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع". قوله: "وعن الشرب في الفضة أو قال في آنية الفضة" شك من الراوي. زاد مسلم من طريق أخرى عن البراء "فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة" ومثله في حديث أبي هريرة رفعه: "من شرب في آنية الفضة والذهب في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة، وآنية أهل الجنة الذهب والفضة" أخرجه النسائي بسند قوي، وسيأتي شرح حديث البراء مستوفى في كتاب الأدب، ويأتي ما يتعلق باللباس منه في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. وفي هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف رجلا كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء لأنه ليس من التزين الذي أبيح لها في شيء، قال القرطبي وغيره: في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب والتكحل وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقا، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب لأنه لم يقف على الزيادة في

(10/97)


الأكل، قال: واختلف في علة المنع فقيل: إن ذلك يرجع إلى عينهما، ويؤيده قوله هي لهم وإنها لهم، وقيل: لكونهما الأثمان وقيم المتلفات، فلو أبيح استعمالها لجاز اتخاذ الآلات منهما فيفضي إلى قلتهما بأيدي الناس فيجحف بهم، ومثله الغزالي بالحكام الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو منعوا التصرف لأخل ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين حبس لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس. ويرد على هذا جواز الحلي للنساء من النقدين، ويمكن الانفصال عنه. وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية، وبه صرح أبو علي السنجي وأبو محمد الجويني. وقيل: علة التحريم السرف والخيلاء، أو كسر قلوب الفقراء. ويرد عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة وعاليها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شذ. وقد نقل ابن الصباغ في "الشامل" الإجماع على الجواز، وتبعه الرافعي ومن بعده. لكن في "زوائد العمراني" عن صاحب "الفروع" نقل وجهين. وقيل: العلة في المنع التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك. واختلف في اتخاذ الأواني دون استعمالها كما تقدم، والأشهر المنع وهو قول الجمهور، ورخصت فيه طائفة، وهو مبني على العلة في منع الاستعمال، ويتفرع على ذلك غرامة أرش ما أفسد منها وجواز الاستئجار عليها.

(10/98)


29 - باب الشُّرْبِ فِي الأَقْدَاحِ
5636- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ "أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَهُ".
قوله: "باب الشرب في الأقداح" أي هل يباح أو يمنع لكونه من شعار الفسقة؟ ولعله أشار إلى أن الشرب فيها وإن كان من شعار الفسقة لكن ذلك بالنظر إلى المشروب وإلى الهيئة الخاصة بهم فيكره التشبه بهم، ولا يلزم من ذلك كراهة الشرب في القدح إذا سلم من ذلك. قوله: "حدثنا عمرو بن عباس" بمهملتين وموحدة، وشيخه عبد الرحمن هو ابن مهدي، وقد تقدم التنبيه على حديث أم الفضل المذكور قريبا، وتقدم أنه مر مشروحا في كتاب الصيام.

(10/98)


30 - باب الشُّرْبِ مِنْ قَدَحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآنِيَتِهِ
وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: أَلاَ أَسْقِيكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ
5637- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَقَالَ قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي فَقَالُوا لَهَا أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا قَالَتْ لاَ قَالُوا هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ لِيَخْطُبَكِ قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ حَتَّى

(10/98)


31 - باب شُرْبِ الْبَرَكَةِ وَالْمَاءِ الْمُبَارَكِ
5639- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: " قَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَضَرَتْ الْعَصْرُ وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ فَجُعِلَ فِي إِنَاءٍ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَفَرَّجَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى أَهْلِ الْوُضُوءِ الْبَرَكَةُ مِنْ اللَّهِ فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ وَشَرِبُوا فَجَعَلْتُ لاَ آلُوا مَا جَعَلْتُ فِي بَطْنِي مِنْهُ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ بَرَكَةٌ قُلْتُ لِجَابِرٍ كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ قَالَ أَلْفاً وَأَرْبَعَ مِائَةٍ" . تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ حُصَيْنٌ وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ "خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً" وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ جَابِرٍ

(10/101)


قوله: "باب شرب البركة، والماء المبارك" قال المهلب: سمي الماء بركة لأن الشيء إذا كان مباركا فيه يسمى بركة. قوله: "عن جابر بن عبد الله" في رواية حصين "عن سالم بن أبي الجعد سمعت جابرا" وقد تقدمت في المغازي. قوله: "قد رأيتني" بضم التاء، وفيه نوع تجريد. قوله: "وحضرت العصر" أي وقت صلاتها، والجملة حالية. قوله: "ثم قال: حي على أهل الوضوء" كذا وقع للأكثر. وفي رواية النسفي "حي على الوضوء" بإسقاط لفظ: "أهل" وهي أصوب، وقد وجهت على تقدير ثبوتها بأن يكون أهل بالنصب على النداء بحذف حرف النداء كأنه قال: حي على الوضوء المبارك يا أهل الوضوء، كذا قال عياض، وتعقب بأن المجرور بعلى غير مذكور. وقال غيره: الصواب حي هلا على الوضوء المبارك، فتحرف لفظ: "هلا" فصارت "أهل" وحولت عن مكانها، و"حي" اسم فعل للأمر بالإسراع، وتفتح لسكون ما قبلها مثل ليت وهلا بتخفيف اللام والتنوين كلمة استعجال. قوله: "فجعلت لا آلو" بالمد وتخفيف اللام المضمومة أي لا أقصر، والمراد أنه جعل يستكثر من شربه من ذلك الماء لأجل البركة. قال ابن بطال: يؤخذ منه أنه لا سرف ولا شره في الطعام أو الشراب الذي تظهر فيه البركة بالمعجزة، بل يستحب الاستكثار منه. وقال ابن المنير: في ترجمة البخاري إشارة إلى أنه يغتفر في الشرب منه الإكثار دون المعتاد الذي ورد باستحباب جعل الثلث له، ولئلا يظن أن الشرب من غير عطش ممنوع، فإن فعل جابر ما ذكر دال على أن الحاجة إلى البركة أكثر من الحاجة إلى الري، والظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولو كان ممنوعا لنهاه. قوله: "فقلت لجابر" القائل هو سالم بن أبي الجعد راويه عنه. قوله: "كم كنتم يومئذ؟ قال: ألف وأربعمائة" كذا لهم بالرفع، والتقدير نحن يومئذ ألف وأربعمائة، ويجوز النصب على خبر كان، وقد تقدم بيان الاختلاف على جابر في عددهم يوم الحديبية في "باب غزوة الحديبية" من المغازي، وبينت هناك أن هذه القصة كانت هناك، وتقدم شيء من شرح المتن في علامات النبوة. قوله: "تابعه عمرو بن دينار عن جابر" وصله المؤلف في تفسير سورة الفتح مختصرا "كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة" وهذا القدر هو مقصوده بالمتابعة المذكورة لا جميع سياق الحديث. قوله: "وقال حصين وعمرو بن مرة عن سالم" هو ابن أبي الجعد "خمس عشرة مائة" أما رواية حصين فوصلها المؤلف في المغازي، وأما رواية عمرو بن مرة فوصلها مسلم وأحمد بلفظ ألف وخمسمائة، والجمع بين هذا الاختلاف عن جابر أنهم كانوا زيادة على ألف وأربعمائة، فمن اقتصر عليها ألغى الكسر، ومن قال ألف وخمسمائة جبره. وقد تقدم بسط ذلك في كتاب المغازي، وبيان توجيه من قال ألف وثلاثمائة، ولله الحمد.
" خاتمة " اشتمل كتاب الأشربة من الأحاديث المرفوعة على أحد وتسعين حديثا، المعلق منها تسعة عشر طريقا والباقي موصول، المكرر منها فيه وفيما مضى سبعون طريقا والباقي خالص، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي مالك وأبي عامر في المعازف، وحديث ابن أبي أوفى في الجر الأخضر، وحديث أنس في الأقداح ليلة الإسراء وهو معلق، وحديث جابر في الكرع، وحديث علي في الشرب قائما، وحديث أبي هريرة في النهي عن الشرب من فم السقاء، وحديث أبي طلحة في قدح النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أربعة عشر أثرا، والله أعلم.

(10/102)


كتاب المرضى
باب ما جاء في كفارة المرض، وقول الله تعالى: {من يعمل سوءا يجز به}
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
75 - كِتَاب الْمَرْضَى
1 - باب مَا جَاءَ فِي كَفَّارَةِ الْمَرَضِ . وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}
5640- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا" .
5641، 5642- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" .
5643- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالأَرْزَةِ لاَ تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً" .
وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ حَدَّثَنِي سَعْدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
5644- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأُ بِالْبَلاَءِ وَالْفَاجِرُ كَالأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ" .
[الحديث 5644 – طرفه في: 7466]
5645- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ أَبَا الْحُبَابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ" .

(10/103)


2 - باب شِدَّةِ الْمَرَضِ
5646- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ ح
وحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
5647- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً وَقُلْتُ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً قُلْتُ إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ أَجَلْ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلاَّ حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ" .
[الحديث 5647 – أطرافه في: 5648، 5660، 5661، 5667]
قوله: "باب شدة المرض" أي وبيان ما فيها من الفضل. قوله: "وحدثني بشر بن محمد أخبرنا عبد الله" هو ابن

(10/110)


المبارك. قوله: "عن الأعمش" كذا أعاد الأعمش بعد التحويل، ولو وقف في السند الأول عند سفيان وحول ثم قال كلاهما عن الأعمش لكان سائغا، لكن أظنه فعل ذلك لكونه ساقه على لفظ الرواية الثانية وهي رواية شعبة، وقد أخرجها الإسماعيلي من طريق حبان بن موسى عن ابن المبارك بلفظ: "ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وساقه من رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن قبيصة شيخ البخاري فيه بلفظ: "ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع" والباقي سواء، والمراد بالوجع المرض، والعرب تسمي كل وجع مرضا. ثم ذكر المصنف حديث ابن مسعود الآتي في الباب الذي يليه، وقوله في آخره: "إلا حات الله" بحاء مهملة ومد وتشديد المثناة أصله حاتت بمثناتين فأدغمت إحداهما في الأخرى، والمعنى فتت وهي كناية عن إذهاب الخطايا. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري.

(10/111)


3 - باب أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ
5648- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً قَالَ أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى -شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا- إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" .
قوله: "باب أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل" كذا للأكثر، وللنسفي "الأول فالأول" وجمعهما المستملي، والمراد بالأول الأولية في الفضل، والأمثل أفعل من المثالة والجمع أماثل وهم الفضلاء. وصدر هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الدارمي والنسائي في "الكبرى" وابن ماجه وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم كلهم من طريق عاصم بن بهدلة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: " قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه" الحديث وفيه: "حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" ، أخرجه الحاكم من رواية العلاء بين المسيب عن مصعب أيضا. وأخرج له شاهدا من حديث أبي سعيد ولفظه: "قال: الأنبياء، قال: ثم من؟ قال العلماء قال: ثم من؟ قال: الصالحون " الحديث، وليس فيه ما في آخر حديث سعد. ولعل الإشارة بلفظ: "الأول فالأول" إلى ما أخرجه النسائي وصححه الحاكم من حديث فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نساء نعوده، فإذا بسقاء يقطر عليه من شدة الحمى، فقال: إن من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قوله: "عن أبي حمزة" هو السكري بضم المهملة وتشديد الكاف. قوله: "عن إبراهيم التيمي" هو ابن يزيد بن شريك، والحارث بن سويد هو تيمي أيضا، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق كوفيون، وليس للحارث بن سويد في البخاري سوى هذا الحديث وآخر يأتي في الدعوات، لكنهما عنده من طرق عديدة، وله عنده ثالث مضى في الأشربة من روايته عن علي بن أبي طالب. قوله: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك" في رواية سفيان التي قبلها "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه" والوعك بفتح الواو وسكون العين المهملة الحمى وقد تفتح وقيل ألم الحمى، وقيل تعبها، وقيل إرعادها الموعوك وتحريكها إياه، وعن الأصمعي الوعك

(10/111)


الحر، فإن كان محفوظا فلعل الحمى سميت وعكا لحرارتها. قوله: "ذلك" إشارة إلى مضاعفة الأجر بشدة الحمى، وعرف بهذا أن في الرواية السابقة في الباب قبله حذفا يعرف من هذه الرواية وهو قوله: "إني أوعك كما يوعك رجلان منكم" . قوله: "أجل" أي نعم وزنا ومعنى. قوله: "أذى شوكة" التنوين فيه للتقليل لا للجنس ليصح ترتب فوقها ودونها في العظم والحقارة عليه بالفاء، وهو يحتمل فوقها في العظم ودونها في الحقارة وعكسه، والله أعلم. قوله: "كما تحط" بفتح أوله وضم المهملة وتشديد الطاء المهملة أي تلقيه منتثرا. والحاصل أنه أثبت أن المرض إذا اشتد ضاعف الأجر، ثم زاد عليه بعد ذلك أن المضاعفة تنتهي إلى أن تحط السيئات كلها، أو المعنى: قال نعم شدة المرض ترفع الدرجات وتحط الخطيئات أيضا حتى لا يبقى منها شيء، ويشير إلى ذلك حديث سعد الذي ذكرته قبل "حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" ومثله حديث أبي هريرة عند أحمد وابن أبي شيبة بلفظ: "لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة". قال أبو هريرة: "ما من وجع يصيبني أحب إلي من الحمى، إنها تدخل في كل مفصل من ابن آدم، والله يعطي كل مفصل قسطه من الأجر" ووجه دلالة حديث الباب على الترجمة من جهة قياس الأنبياء على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإلحاق الأولياء بهم لقربهم منهم وإن كانت درجتهم منحطة عنهم، والسر فيه أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد، ومن ثم ضوعف حد الحر على العبد، وقيل لأمهات المؤمنين {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} قال ابن الجوزي: في الحديث دلالة على أن القوي يحمل ما حمل، والضعيف يرفق به إلا أنه كلما قويت المعرفة بالمبتلى هان عليه البلاء، ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء، وأعلى من ذلك درجة من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض، وأرفع منه من شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء، وأنهى المراتب من يتلذذ به لأنه عن اختياره نشأ، والله أعلم.

(10/112)


4 - باب وُجُوبِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ
5649- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ" .
5650- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَعَنْ الْقَسِّيِّ وَالْمِيثَرَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَتْبَعَ الْجَنَائِزَ وَنَعُودَ الْمَرِيضَ وَنُفْشِيَ السَّلاَمَ" .
قوله: "باب وجوب عيادة المريض" كذا جزم بالوجوب عل ظاهر الأمر بالعيادة، وتقدم حديث أبي هريرة في الجنائز "حق المسلم على المسلم خمس" فذكر منها عيادة المريض، ووقع في رواية مسلم: " خمس تجب للمسلم على المسلم" فذكرها منها. قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية كإطعام الجائع وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب للحث على التواصل والألفة، وجزم الداودي بالأول فقال: هي فرض يحمله

(10/112)


بعض الناس عن بعض. وقال الجمهور: هي في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. وعن الطبري: تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسن فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك، وفي الكافر خلاف كما سيأتي ذكره في باب مفرد. ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب، يعني على الأعيان. وقد تقدم حديث أبي موسى المذكور هنا في الجهاد وفي الوليمة. واستدل بعموم قوله: "عودوا المريض" على مشروعية العيادة في كل مريض، لكن استثنى بعضهم الأرمد لكون عائده قد يرى ما لا يراه هو، وهذا الأمر خارجي قد يأتي مثله في بقية الأمراض كالمغمى عليه، وقد عقبه المصنف به. وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال: "عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني"، أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وهو عند البخاري في "الأدب المفرد" وسياقه أتم. وأما ما أخرجه البيهقي والطبراني مرفوعا: "ثلاثة ليس لهم عيادة: العين والدمل والضرس" فصحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير، ويؤخذ من إطلاقه أيضا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه وهو قول الجمهور، وجزم الغزالي في "الإحياء" بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث" وهذا حديث ضعيف جدا تفرد به مسلمة بن علي وهو متروك، وقد سئل عنه أبو حاتم فقال: هو حديث باطل، ووجدت له شاهدا من حديث أبي هريرة عند الطبراني في "الأوسط" وفيه راو متروك أيضا. ويلتحق بعيادة المريض تعهده وتفقد أحواله والتلطف به، وربما كان ذلك في العادة سببا لوجود نشاطه وانتعاش قوته. وفي إطلاق الحديث أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النهار، وترجمة البخاري في الأدب المفرد "العيادة في الليل"، وساق عن خالد بن الربيع قال: "لما ثقل حذيفة أتوه في جوف الليل أو عند الصبح فقال: أي ساعة هذه؟ فأخبروه، فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النار" الحديث، ونقل الأثرم عن أحمد أنه قيل له بعد ارتفاع النهار في الصيف: تعود فلانا؟ قال: ليس هذا وقت عيادة. ونقل ابن الصلاح عن الفراوي أن العيادة تستحب في الشتاء ليلا وفي الصيف نهارا، وهو غريب. ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض أو يشق على أهله. فإن اقتضت ذلك ضرورة فلا بأس كما في حديث جابر الذي بعده. وقد ورد في فضل العيادة أحاديث كثيرة جياد، منها عند مسلم والترمذي من حديث ثوبان "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة" وخرفة بضم المعجمة وسكون الراء بعدها فاء ثم هاء هي الثمرة إذا نضجت، شبه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه الذي يجتني الثمر. وقيل: المراد بها هنا الطريق، والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنة، والتفسير الأول أولى، فقد أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من هذا الوجه وفيه: "قلت لأبي قلابة: ما خرفة الجنة؟ قال: جناها" وهو عند مسلم من جملة المرفوع. وأخرج البخاري أيضا من طريق عمر بن الحكم عن جابر رفعه: "من عاد مريضا خاض في الرحمة حتى إذا قعد استقر فيها" وأخرجه أحمد والبزار وصححه ابن حبان والحاكم من هذا الوجه وألفاظهم فيه مختلفة، ولأحمد نحوه من حديث كعب بن مالك بسند حسن. حديث البراء أورده مختصرا مقتصرا على بعض الخصال السبع، ويأتي شرحه مستوفى في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى.

(10/113)


5 - باب عِيَادَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ
5651- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "مَرِضْتُ مَرَضاً فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَوَجَدَانِي أُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ" .
قوله: "باب عيادة المغمى عليه" أي الذي يصيبه غشى تتعطل معه قوته الحساسة. قال ابن المنير: فائدة الترجمة أن لا يعتقد أن عيادة المغمى عليه ساقطة الفائدة لكونه لا يعلم بعائده، ولكن ليس في حديث جابر التصريح بأنهما علما أنه مغمى عليه قبل عيادته، فلعله وافق حضورهما. قلت: بل الظاهر من السياق وقوع ذلك حال مجيئهما وقبل دخولهما عليه، ومجرد علم المريض بعائده لا تتوقف مشروعية العيادة عليه، لأن وراء ذلك جبر خاطر أهله، وما يرجى من بركة دعاء العائد ووضع يده على المريض والمسح على جسده والنفث عليه عند التعويذ إلى غير ذلك. تقدم شرح حديث جابر المذكور في كتاب الطهارة وفي تفسير سورة النساء.

(10/114)


6 - باب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ مِنْ الرِّيحِ
5652- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: "قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ: إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ فَقَالَتْ أَصْبِرُ فَقَالَتْ إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا" . حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ تِلْكَ امْرَأَةً طَوِيلَةً سَوْدَاءَ عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ
قوله: "باب فضل من يصرع من الريح" انحباس الريح قد يكون سببا للصرع، وهي علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن انفعالها منعا غير تام، وسببه ريح غليظة تنحبس في منافذ الدماغ، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصبا بل يسقط ويقذف بالزبد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصرع من الجن، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم، إما لاستحسان بعض الصور الإنسية وإما لإيقاع الأذية به، والأول هو الذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه، والثاني يجحده كثير منهم، وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاجا إلا بمقاومة الأرواح الخيرة العلوية لتندفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطل أفعالها. وممن نص على ذلك أبقراط فقال لما ذكر علاج المصروع: هذا إنما ينفع في الذي سببه أخلاط، وأما الذي يكون من الأرواح فلا. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان. قوله: "عن عمران أبي بكر" هو المعروف بالقصير، واسم أبيه مسلم، وهو بصري تابعي صغير. قوله: "ألا أريك" ألا بتخفيف اللام قبلها همزة مفتوحة. قوله: "هذه المرأة السوداء" في رواية جعفر المستغفري في "كتاب الصحابة" وأخرجه أبو موسى في "الذيل" من

(10/114)


طريقه ثم من رواية عطاء الخراساني عن عطاء بن أبي رباح في هذا الحديث: "فأراني حبشية صفراء عظيمة فقال: هذه سعيرة الأسدية". قوله: "فقالت إن بي هذه المؤتة(1)" وهو بضم الميم بعدها همزة ساكنة: الجنون، وأخرجه ابن مردويه في التفسير من هذا الوجه فقال في روايته: "إن بي هذه المؤتة يعني الجنون" وزاد في روايته وكذا ابن منده أنها كانت تجمع الصوف والشعر والليف، فإذا اجتمعت لها كبة عظيمة نقضتها فنزل فيها {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} الآية وقد تقدم في تفسير النحل أنها امرأة أخرى. قوله: "وإني أتكشف" بمثناة وتشديد المعجمة من التكشف، وبالنون الساكنة مخففا من الانكشاف، والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر. قوله في الطريق الأخرى "حدثنا محمد" هو ابن سلام وصرح به في "الأدب المفرد"، ومخلد هو ابن يزيد. قوله: "أنه رأى أم زفر" بضم الزاي وفتح الفاء. قوله: "تلك المرأة" في رواية الكشميهني: "تلك امرأة". قوله: "على ستر الكعبة" بكسر المهملة أي جالسة عليها معتمدة، ويجوز أن يتعلق بقوله: "رأى". ثم وجدت الحديث في "الأدب المفرد" للبخاري وقد أخرجه بهذا السند المذكور هنا بعينه وقال: "على سلم الكعبة" فالله أعلم. وعند البزار من وجه آخر عن ابن عباس في نحو هذه القصة أنها قالت: "إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها" وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج هذا الحديث مطولا، وأخرجه ابن عبد البر في "الاستيعاب" من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم أنه سمع طاوسا يقول: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالمجانين فيضرب صدر أحدهم فيبرأ، فأتي بمجنونة يقال لها أم زفر، فضرب صدرها فلم تبرأ، قال ابن جريج وأخبرني عطاء" فذكر كالذي هنا، وأخرجه ابن منده في "المعرفة" من طريق حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس فزاد: "وكان يثني عليها خيرا" وزاد في آخر "فقال: إن يتبعها في الدنيا فلها في الآخرة خير" وعرف مما أوردته أن اسمها سعيرة وهي بمهملتين مصغر، ووقع في رواية ابن منده بقاف بدل العين، وفي أخرى للمستغفري بالكاف، وذكر ابن سعد وعبد الغني في "المبهمات" من طريق الزبير أن هذه المرأة هي ماشطة خديجة التي كانت تتعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بالزيارة كما سيأتي ذكرها في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى، وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن لا من صرع الخلط. وقد أخرج البزار وابن حبان من حديث أبي هريرة شبيها بقصتها ولفظه: "جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله. فقال: إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت صبرت ولا حساب عليك. قالت: بل أصبر ولا حساب علي" وفي الحديث فضل من يصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه دليل على جواز ترك التداوي، وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل، والله أعلم.
ـــــــ
(1) لعل هذه رواية الشارح، وهي غير رواية الجامع الصحيح الذي في الأيدي.

(10/115)


7 - باب فَضْلِ مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ
5653- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ" . يُرِيدُ عَيْنَيْه. تَابَعَهُ أَشْعَثُ بْنُ جَابِرٍ وَأَبُو ظِلاَلِ بْنُ هِلاَلٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب فضل من ذهب بصره" سقطت هذه الترجمة وحديثها من رواية النسفي، وقد جاء بلفظ الترجمة حديث أخرجه البزار عن زيد بن أرقم بلفظ: "ما ابتلي عبد بعد ذهاب دينه بأشد من ذهاب بصره، ومن ابتلي ببصره فصبر حتى يلقى الله لقي الله تعالى ولا حساب عليه" وأصله عند أحمد بغير لفظه بسند جيد، وللطبراني من حديث ابن عمر بلفظ: "من أذهب الله بصره" فذكر نحوه. قوله: "حدثني ابن الهاد" في رواية المصنف في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن صالح عن الليث "حدثني يزيد بن الهاد" وهو يزيد بن عبد الله بن أسامة. قوله: "عن عمرو" أي ابن أبي عمرو ميسرة "مولى المطلب" أي ابن عبد الله بن حنطب. قوله: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه" بالتثنية، وقد فسرهما آخر الحديث بقوله: "يريد عينيه" ولم يصرح بالذي فسرهما، والمراد بالحبيبتين المحبوبتان لأنهما أحب أعضاء الإنسان إليه، لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات رؤية ما يريد رؤيته من خير فيسر به، أو شر فيجتنبه. قوله: "فصبر" زاد الترمذي في روايته عن أنس "واحتسب" وكذا لابن حبان والترمذي من حديث أبي هريرة، ولابن حبان من حديث ابن عباس أيضا، والمراد أنه يصبر مستحضرا ما وعد الله به الصابر من الثواب، لا أن يصبر مجردا عن ذلك، لأن الأعمال بالنيات، وابتلاء الله عبده في الدنيا ليس من سخطه عليه بل إما لدفع مكروه أو لكفارة ذنوب أو لرفع منزلة، فإذا تلقى ذلك بالرضا تم له المراد وإلا يصير كما جاء في حديث سلمان "أن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتبا، وإن مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقل ولم أرسل" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" موقوفا. قوله: "عوضته منهما الجنة" وهذا أعظم العوض، لأن الالتذاذ بالبصر يفنى بفناء الدنيا والالتذاذ بالجنة باق ببقائها، وهو شامل لكل من وقع له ذلك بالشرط المذكور. ووقع في حديث أبي أمامة فيه قيد آخر أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" بلفظ: "إذا أخذت كريمتيك فصبرت عند الصدمة واحتسبت" فأشار إلى أن الصبر النافع هو ما يكون في أول وقوع البلاء فيفوض ويسلم، وإلا فمتى تضجر وتقلق في أول وهلة ثم يئس فيصبر لا يكون حصل المقصود، وقد مضى حديث أنس في الجنائز " إنما الصبر عند الصدمة الأولى" وقد وقع في حديث العرباض فيما صححه ابن حبان فيه بشرط آخر ولفظه: "إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له ثوابا دون الجنة إذا هو حمدني عليهما" ولم أر هذه الزيادة في غير هذه الطريق، وإذا كان ثواب من وقع له ذلك الجنة فالذي له أعمال صالحة أخرى يزاد في رفع الدرجات. قوله: "تابعه أشعث بن جابر وأبو ظلال بن هلال عن أنس" أما متابعة أشعث بن جابر وهو ابن عبد الله بن جابر نسب إلى جده وهو أبو عبد الله الأعمى البصري الحداني بضم الحاء وتشديد الدال المهملتين، وحدان بطن من الأزد، ولهذا يقال له الأزدي، وهو الحملي بضم المهملة وسكون الميم وهو مختلف فيه. وقال الدار قطني: يعتد به وليس له في البخاري إلا هذا الموضع فأخرجها أحمد بلفظ: "قال ربكم من أذهبت كريمتيه ثم صبر واحتسب كان ثوابه الجنة" . وأما متابعة أبي ظلال فأخرجها عبد بن حميد عن يزيد بن هارون عنه قال: "دخلت على أنس فقال

(10/116)


لي: أدنه، متى ذهب بصرك؟ قلت: وأنا صغير. قال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى" فذكر الحديث بلفظ: "ما لمن أخذت كريمتيه عندي جزاء إلا الجنة" وأخرج الترمذي من وجه آخر عن أبي ظلال بلفظ: "إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة". "تنبيه": أبو ظلال بكسر الظاء المشالة المعجمة والتخفيف اسمه هلال، والذي وقع في الأصل أبو ظلال بن هلال صوابه إما أبو ظلال هلال بحذف "ابن" وإما أبو ظلال بن أبي هلال بزيادة "أبي" واختلف في اسم أبيه فقيل ميمون وقيل سويد وقيل يزيد وقيل زيد، وهو ضعيف عند الجميع، إلا أن البخاري قال إنه مقارب الحديث، وليس له في صحيحه غير هذه المتابعة. وذكر المزي في ترجمته أن ابن حبان ذكره في الثقات، وليس بجيد، لأن ابن حبان ذكره في الضعفاء فقال: لا يجوز الاحتجاج به، وإنما ذكر في الثقات هلال بن أبي هلال آخر روى عنه يحيى بن المتوكل، وقد فرق البخاري بينهما، ولهم شيخ ثالث يقال له هلال بن أبي هلال تابعي أيضا روى عنه ابنه محمد، وهو أصلح حالا في الحديث منهما، والله أعلم.

(10/117)


8 - باب عِيَادَةِ النِّسَاءِ الرِّجَالَ وَعَادَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْ الأَنْصَارِ
5654- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، قُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ يَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... ِبوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مِجَنَّةٍ ... وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ" .
قوله: "باب عيادة النساء الرجال" أي ولو كانوا أجانب بالشرط المعتبر. قوله: "وعادت أم الدرداء رجلا من أهل المسجد من الأنصار" قال الكرماني: لأبي الدرداء زوجتان كل منهما أم الدرداء، فالكبرى اسمها خيرة بالخاء المعجمة المفتوحة بعدها تحتانية ساكنة صحابية، والصغرى اسمها هجيمة بالجيم والتصغير وهي تابعية، والظاهر أن المراد هنا الكبرى، والمسجد مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة. قلت: وما ادعى أنه الظاهر ليس كذلك، بل هي الصغرى، لأن الأثر المذكور أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق الحارث بن عبيد، وهو شامي تابعي صغير لم يلحق أم الدرداء الكبرى، فإنها ماتت في خلافة عثمان قبل موت أبي الدرداء، قال: رأيت أم الدرداء على رحالة أعواد ليس لها غشاء تعود رجلا من الأنصار في المسجد، وقد تقدم في الصلاة أن أم الدرداء كانت تجلس في

(10/117)


الصلاة جلسة الرجل، وكانت فقيهة، وبينت هناك أنها الصغرى والصغرى عاشت إلى أواخر خلافة عبد الملك بن مروان وماتت في سنة إحدى وثمانين بعد الكبرى بنحو خمسين سنة. حديث عائشة قالت: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما" الحديث، وقد اعترض عليه بأن ذلك قبل الحجاب قطعا. وقد تقدم أن في بعض طرقه: "وذلك قبل الحجاب"، وأجيب بأن ذلك لا يضره فيما ترجم له من عيادة المرأة الرجل فإنه يجوز بشرط التستر، والذي يجمع بين الأمرين ما قبل الحجاب وما بعده الأمن من الفتنة وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أبواب الهجرة من أوائل المغازي، وقوله في البيت الذي أوله "ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد" كذا هو بالتنكير والإبهام، والمراد به وادي مكة. وذكر الجوهري في الصحاح ما يقتضي أن الشعر المذكور ليس لبلال، فإنه قال: كان بلال يتمثل به، وأورده بلفظ: "هل أبيتن ليلة بمكة حولي" وقوله: "شامة وطفيل" هما جبلان عند الجمهور، وصوب الخطابي أنهما عينان، وقوله: "كيف تجدك؟" أي تجد نفسك، والمراد به الإحساس، أي كيف تعلم حال نفسك.

(10/118)


9 - باب عِيَادَةِ الصِّبْيَانِ
5655- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَاصِمٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ ابْنَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعْدٌ وَأُبَيٌّ نَحْسِبُ أَنَّ ابْنَتِي قَدْ حُضِرَتْ فَاشْهَدْنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا السَّلاَمَ وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى فَلْتَحْتَسِبْ وَلْتَصْبِرْ فَأَرْسَلَتْ تُقْسِمُ عَلَيْهِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْنَا فَرُفِعَ الصَّبِيُّ فِي حَجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفْسُهُ جُئِّثُ فَفَاضَتْ عَيْنَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ وَضَعَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَلاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلاَّ الرُّحَمَاءَ" .
قوله: "باب عيادة الصبيان" ذكر فيه حديث أسامة بن زيد في قصة ولد بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل كتاب الجنائز. قوله في هذه الطريق "أن ابنة" في رواية الكشميهني: "أن بنتا" وقوله: "فأشهدنا" كذا للأكثر وعند الكشميهني: "فأشهدها" والمراد به الحضور، وقوله: "هذه الرحمة" في رواية الكشميهني أيضا: "هذه رحمة" بالتنكير.

(10/118)


10 - باب عِيَادَةِ الأَعْرَابِ
5656- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ فَقَالَ لَهُ: لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: قُلْتَ طَهُورٌ، كَلاَ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَنَعَمْ إِذاً" .

(10/118)


11 - باب عِيَادَةِ الْمُشْرِكِ
5657- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ غُلاَماً لِيَهُودَ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَالَ أَسْلِمْ فَأَسْلَمَ".
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ "لَمَّا حُضِرَ أَبُو طَالِبٍ جَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قوله: "باب عيادة المشرك" قال ابن بطال: إنما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا. انتهى. والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى. قال الماوردي: عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة. ثم ذكر المصنف حديث أنس في قصة الغلام اليهودي، وتقدم شرحها مستوفى في كتاب الجنائز، وذكر قول من زعم أن اسمه عبد القدوس. قوله: "وقال سعيد بن المسيب عن أبيه" تقدم موصولا في تفسير سورة القصص وفي الجنائز أيضا، وتقدم شرحه مستوفى في الجنائز.

(10/119)


12 - باب إِذَا عَادَ مَرِيضاً فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً
5658- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ يَعُودُونَهُ فِي مَرَضِهِ فَصَلَّى بِهِمْ جَالِساً فَجَعَلُوا يُصَلُّونَ قِيَاماً فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ اجْلِسُوا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّ الإِمَامَ لَيُؤْتَمُّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِنْ صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً" .
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: "هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ مَا صَلَّى صَلَّى قَاعِداً وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامٌ".
قوله: "باب إذا عاد مريضا فحضرت الصلاة فصلى" أي المريض "بهم" أي بمن عاده. قوله: "يحيى" هو القطان، وهشام هو ابن عروة. قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه ناس يعودونه" تقدم شرحه في أبواب الإمامة من كتاب الصلاة، وكذا قول الحميدي المذكور في آخره.

(10/120)


13 - باب وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَرِيضِ
5659- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْجُعَيْدُ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَاهَا قَالَ: "تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ شَكْواً شَدِيداً فَجَاءَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَتْرُكُ مَالاً وَإِنِّي لَمْ أَتْرُكْ إِلاَّ ابْنَةً وَاحِدَةً فَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي وَأَتْرُكُ الثُّلُثَ؟ فَقَالَ: لاَ. قُلْتُ: فَأُوصِي بِالنِّصْفِ وَأَتْرُكُ النِّصْفَ؟ قَالَ: لاَ. قُلْتُ: فَأُوصِي بِالثُّلُثِ وَأَتْرُكُ لَهَا الثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِي وَبَطْنِي ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْداً وَأَتْمِمْ لَهُ هِجْرَتَهُ فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي فِيمَا يُخَالُ إِلَيَّ حَتَّى السَّاعَةِ" .
5660- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ فَقُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلاَّ حَطَّ اللَّهُ لَهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" .
قوله: "باب وضع اليد على المريض" قال ابن بطال: في وضع اليد على المريض تأنيس له وتعرف لشدة مرضه ليدعو له بالعافية على حسب ما يبدو له منه، وربما رقاه بيده ومسح على ألمه بما ينتفع به العليل إذا كان العائد صالحا. قلت: وقد يكون العائد عارفا بالعلاج فيعرف العلة فيصف له ما يناسبه. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين

(10/120)


تقدما: أحدهما: حديث سعيد بن أبي وقاص، وقد تقدم شرحه في الوصايا، وأورده هنا عاليا من طريق الجعيد وهو ابن عبد الرحمن، وقوله فيه: "تشكيت بمكة شكوى شديدة" في رواية المستملي: "شديدا" بالتذكير على إرادة المرض والشكوى بالقصر المرض وقوله: "وأترك لها الثلثين" قال الداودي: إن كانت هذه الزيادة محفوظة فلعل ذلك كان قبل نزول الفرائض. وقال غيره: قد يكون من جهة الرد، وفيه نظر لأن سعدا كان له حينئذ عصبات وزوجات فيتعين تأويله، ويكون فيه حذف تقديره: وأترك لها الثلثين، أي ولغيرها من الورثة. وخصها بالذكر لتقدمها عنده. وأما قوله: "ولا يرثني إلا ابنة لي" فتقدم أن معناه من الأولاد، ولم يرد ظاهر الحصر. وقوله: "ثم وضع يده على جبهته" في رواية الكشميهني: "على جبهتي" وبها يتبين أن في الأول تجريدا، وقوله: "فما زلت أجد برده" أي برد يده، وذكر باعتبار العضو أو الكف أو المسح. وقوله: "فيما يخال إلي" قال ابن التين: صوابه فيما يخيل إلي بالتشديد لأنه من التخيل، قال الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} . قلت: وأقره الزركشي، وهو عجيب. فإن الكلمة صواب، وهو بمعنى يخيل قال في "المحكم": خال الشيء يخاله يظنه وتخيله ظنه، وساق الكلام على المادة. الحديث الثاني: حديث ابن مسعود، وقد تقدم شرحه في أوائل كفارة المرضى. وقوله: "فمسسته بيدي" بكسر السين الأولى وهي موضع الترجمة، وجاء عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضا يضع يده على المكان الذي يألم ثم يقول: "بسم الله" أخرجه أبو يعلى بسند حسن. وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة بسند لين رفعه: "تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته فيسأله كيف هو" وأخرجه ابن السني ولفظه: "فيقول: كيف أصبحت أو كيف أمسيت؟".

(10/121)


14 - باب مَا يُقَالُ لِلْمَرِيضِ وَمَا يُجِيبُ
5661- حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فمسسته وهو يوعك وعكا شديدا فقلت إنك لتوعك وعكا شديدا وذلك أن لك أجرين قال: أجل وما من مسلم يصيبه أذى إلا حاتت عنه خطاياه كما تحات ينوي الشجر" .
5662- حدثنا إسحاق حدثنا خالد بن عبد الله عن خالد عن عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده فقال: لا بأس طهور إن شاء الله . فقال: كلا بل حمى تفور على شيخ كبير كيما تزيره القبور. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فنعم إذا ".
قوله: "باب ما يقال للمريض وما يجيب" ذكر فيه حديث ابن مسعود المذكور في الباب قبله وحديث ابن عباس في قصة الأعرابي الذي قال حمى تفور وقد تقدم أيضا قريبا، وفيه بيان ما ينبغي أن يقال عند المريض وفائدة ذلك. وأخرج ابن ماجة والترمذي من حديث أبي سعيد رفعه: "إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب نفس المريض" وفي سنده لين. وقوله: "نفسوا" أي أطمعوه في الحياة ففي ذلك تنفيس لما هو فيه من

(10/121)


الكرب وطمأنينة لقلبه، قال النووي: هو معنى قوله في حديث ابن عباس للأعرابي لا بأس. وأخرج ابن ماجه أيضا بسند حسن لكن فيه انقطاع عن عمر رفعه "إذا دخلت على مريض فمره يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة". وقد ترجم المصنف في "الأدب المفرد" ما يجيب به المريض وأورد قول ابن عمر للحجاج لما قال له من أصابك قال: "أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله" وقد تقدم هذا في العيدين.

(10/122)


15 - باب عِيَادَةِ الْمَرِيضِ رَاكِباً وَمَاشِياً وَرِدْفاً عَلَى الْحِمَارِ
5663- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَسَارَ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ وَفِي الْمَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ قَالَ لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَفَ وَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقّاً فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَكَتُوا فَرَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ: "أَيْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ" يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ فَلَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ مَا أَعْطَاكَ وَلَقَدْ اجْتَمَعَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ فَلَمَّا رَدَّ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ الَّذِي فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ" .
5664- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ المُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلاَ بِرْذَوْنٍ".
قوله: "باب عيادة المريض راكبا وماشيا وردفا على الحمار" ذكر فيه حديث أسامة بن زيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على الحمار" وفيه أنه أردفه يعود سعد بن عبادة، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أواخر تفسير آل عمران. قوله: "على حمار على إكاف على قطيفة"، "على" الثالثة بدل من الثانية وهي بدل من الأولى. والحاصل أن الإكاف يلي الحمار والقطيفة فوق الإكاف والراكب فوق القطيفة، والإكاف بكسر الهمزة وتخفيف الكاف ما يوضع على الدابة كالبرذعة، والقطيفة كساء. وقوله: "فدكية" بفتح الفاء والدال وكسر الكاف نسبة إلى فدك القرية المشهورة، كأنها صنعت فيها، وحكى بعضهم أن في رواية: "فركبه" بفتح الراء والموحدة الخفيفة من

(10/122)


الركوب والضمير للحمار وهو تصحيف بين. قوله في حديث جابر "جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني ليس براكب بغل ولا برذون" هذا القدر أفرده المزي في "الأطراف" وجعله الحميدي من جملة الحديث الذي أوله "مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان" وأظن الذي صنعه هو الصواب.

(10/123)


باب ما رخص للمرض أن يقول: إني وجع أو وارأساه أو ما أشد ما أجد
...
16 – باب ما رخص للمريض أن يقول: إِنِّي وَجِعٌ أَوْ وَا رَأْسَاهْ أَوْ اشْتَدَّ بِي الْوَجَعُ
وَقَوْلِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلاَم {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
5665- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَأَيُّوبَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ الْقِدْرِ فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ قُلْتُ نَعَمْ فَدَعَا الْحَلاَقَ فَحَلَقَهُ ثُمَّ أَمَرَنِي بِالْفِدَاءِ" .
5666- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَبُو زَكَرِيَّاءَ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ وَارَأْسَاهْ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرَ لَكِ وَأَدْعُوَ لَكِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَا ثُكْلِيَاهْ وَاللَّهِ إِنِّي لاَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّساً بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ وَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ ثُمَّ قُلْتُ يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ" .
[الحديث 5666 – طرفه في: 7217]
5667- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً قَالَ أَجَلْ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ قَالَ لَكَ أَجْرَانِ قَالَ نَعَمْ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلاَّ حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" .
5668- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي زَمَنَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقُلْتُ بَلَغَ بِي مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لاَ قُلْتُ بِالشَّطْرِ قَالَ لاَ قُلْتُ الثُّلُثُ قَالَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ" .
قوله: "باب ما رخص للمريض أن يقول إني وجع أو وارأساه أو اشتد بي الوجع، وقول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} " أما قوله: "إني وجع" فترجم به في كتاب "الأدب المفرد" وأورده فيه من طريق

(10/123)


هشام بن عروة عن أبيه قال: "دخلت أنا وعبد الله بن الزبير على أسماء - يعني بنت أبي بكر وهي أمهما - وأسماء وجعة، فقال لها عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت: وجعت" الحديث. وأصرح منه ما روى صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: "دخلت على أبي بكر رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه، فسلمت عليه وسألته: كيف أصبحت؟ فاستوى جالسا، فقلت: أصبحت بحمد الله بارئا؟ قال: أما إني على ما ترى وجع" فذكر القصة، أخرجه الطبراني. وأما قوله: "وارأساه" فصريح في حديث عائشة المذكور في الباب، وأما قوله: "اشتد بي الوجع" فهو في حديث سعد الذي في آخر الباب، وأما قول أيوب عليه السلام فاعترض ابن التين ذكره في الترجمة فقال: هذا لا يناسب التبويب، لأن أيوب إنما قاله داعيا ولم يذكره للمخلوقين. قلت: لعل البخاري أشار إلى أن مطلق الشكوى لا يمنع ردا على من زعم من الصوفية أن الدعاء بكشف البلاء يقدح في الرضا والتسليم، فنبه على أن الطلب من الله ليس ممنوعا، بل فيه زيادة عبادة، لما ثبت مثل ذلك عن المعصوم وأثنى الله عليه بذلك وأثبت له اسم الصبر مع ذلك، وقد روينا في قصة أيوب في فوائد ميمونة وصححه ابن حبان والحاكم من طريق الزهري عن أنس رفعه: "أن أيوب لما طال بلاؤه رفضه القريب والبعيد، غير رجلين من إخوانه، فقال أحدهما لصاحبه: لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، فبلغ ذلك أيوب - يعني فجزع من قوله - ودعا ربه فكشف ما به". وعند ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عبيد بن نمير موقوفا عليه نحوه وقال فيه: "فجزع من قولهما جزعا شديدا ثم قال: بعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف عني، وسجد، فما رفع رأسه حتى كشف عنه". فكأن مراد البخاري أن الذي يجوز من شكوى المريض ما كان على طريق الطلب من الله، أو على غير طريق التسخط للقدر والتضجر، والله أعلم. قال القرطبي: اختلف الناس في هذا الباب، والتحقيق أن الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنفوس مجبولة على وجدان ذلك فلا يستطاع تغييرها عما جبلت عليه، وإنما كلف العبد أن لا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه كالمبالغة في التأوه والجزع الزائد كأن من فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصبر، وأما مجرد التشكي فليس مذموما حتى يحصل التسخط للمقدور، وقد اتفقوا على كراهة شكوى العبد ربه، وشكواه إنما هو ذكره للناس على سبيل التضجر، والله أعلم. وروى أحمد في "الزهد" عن طاوس أنه قال: أنين المريض شكوى، وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن أنين المريض وتأوهه مكروه، وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود، وهذا لم يثبت فيه ذلك. ثم احتج بحديث عائشة في الباب، ثم قال: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى اهـ. ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين، وتشعر بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء. وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتفاقا. حديث كعب بن عجرة في حلق المحرم رأسه إذا آذاه القمل، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج، وقوله: "أيؤذيك هوام رأسك" هو موضع الترجمة لنسبة الأذى للهوام، وهي بتشديد الميم اسم للحشرات لأنها تهم أن تدب، وإذا أضيفت إلى الرأس اختصت بالقمل. قوله: "حدثنا يحيى بن يحيى أبو زكريا" هو النيسابوري الإمام المشهور وليس له في البخاري سوى مواضع يسيرة في الزكاة والوكالة والتفسير والأحلام، وأكثر عنه مسلم، ويقال إنه تفرد بهذا الإسناد وإن أحمد كان يتمنى لو أمكنه الخروج إلى نيسابور ليسمع منه هذا الحديث، ولكن

(10/124)


أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من وجهين آخرين عن سليمان بن بلال. قوله: "وارأساه" هو تفجع على الرأس لشدة ما وقع به من ألم الصداع، وعند أحمد والنسائي وابن ماجه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة "رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه". قوله: "ذاك لو كان وأنا حي" ذاك بكسر الكاف إشارة إلى ما يستلزم المرض من الموت، أي لو مت وأنا حي، ويرشد إليه جواب عائشة، وقد وقع مصرحا به في رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ولفظه: "ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي فكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك" وقولها "واثكلياه" بضم المثلثة وسكون الكاف وفتح اللام وبكسرها مع التحتانية الخفيفة وبعد الألف هاء للندبة، وأصل الثكل فقد الولد أو من يعز على الفاقد، وليست حقيقته هنا مرادة، بل هو كلام كان يجري على ألسنتهم عند حصول المصيبة أو توقعها. وقولها "والله إني لأظنك تحب موتي" كأنها أخذت ذلك من قوله لها "لو مت قبلي" وقولها "ولو كان ذلك" في رواية الكشميهني: "ذاك" بغير لام أي موتها "لظللت آخر يومك معرسا" بفتح العين والمهملة وتشديد الراء المكسورة وسكون العين والتخفيف، يقال أعرس وعرس إذا بنى على زوجته، ثم استعمل في كل جماع، والأول أشهر، فإن التعريس النزول بليل. ووقع في رواية عبيد الله "لكأني بك والله لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقوله "بل أنا وارأساه" هي كلمة إضراب، والمعنى: دعي ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي، وزاد في رواية عبيد الله "ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم". قوله: "لقد هممت أو أردت" شك من الراوي، ووقع في رواية أبي نعيم "أو وددت" بدل "أردت". قوله: "أن أرسل إلى أبي بكر وابنه" كذا للأكثر بالواو وألف الوصل والموحدة والنون، ووقع في رواية مسلم: "أو ابنه" بلفظ أو التي للشك أو للتخيير، وفي أخرى "أو آتيه" بهمزة ممدودة بعدها مثناة مكسورة ثم تحتانية ساكنة من الإتيان بمعنى المجيء، والصواب الأول، ونقل عياض عن بعض المحدثين تصويبها وخطأه. وقال: ويوضح الصواب قولها في الحديث الآخر عند مسلم: " ادعي لي أباك وأخاك" وأيضا فإن مجيئه إلى أبي بكر كان متعسرا لأنه عجز عن حضور الصلاة مع قرب مكانها من بيته. قلت: في هذا التعليل نظر، لأن سياق الحديث يشعر بأن ذلك كان في ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم، وقد استمر يصلي بهم وهو مريض ويدور على نسائه حتى عجز عن ذلك وانقطع في بيت عائشة. ويحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت الخ" وقع بعد المفاوضة التي وقعت بينه وبين عائشة بمدة، وإن كان ظاهر الحديث بخلافه. ويؤيد أيضا ما في الأصل أن المقام كان مقام استمالة قلب عائشة، فكأنه يقول: كما أن الأمر يفوض لأبيك فإن ذلك يقع بحضور أخيك، هذا إن كان المراد بالعهد العهد بالخلافة، وهو ظاهر السياق كما سيأتي تقريره في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، وإن كان لغير ذلك فلعله أراد إحضار بعض محارمها حتى لو احتاج إلى قضاء حاجة أو الإرسال إلى أحد لوجد من يبادر لذلك. قوله: "فأعهد" أي أوصي. قوله: "أن يقول القائلون" أي لئلا يقول، أو كراهة أن يقول. قوله: "أو يتمنى المتمنون" بضم النون جمع متمني بكسرها، واصل الجمع المتمنيون فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فاجتمعت كسرة النون بعدها الواو فضمت النون. وفي الحديث ما طبعت عليه المرأة من الغيرة، وفيه مداعبة الرجل أهله والإفضاء إليهم بما يستره عن غيرهم، وفيه أن ذكر الوجع ليس بشكاية، فكم من

(10/125)


ساكت وهو ساخط، وكم من شاك وهو راض، فالمعول في ذلك على عمل القلب لا على نطق اللسان، والله أعلم. حديث ابن مسعود، وقد تقدم شرحه قريبا. وقوله في هذه الرواية: "فمسسته" وقع في رواية المستملي: "فسمعته" وهو تحريف، ووجهت بأن هناك حذفا والتقدير فسمعت أنينه. حديث عامر بن سعد عن أبيه وهو سعد بن أبي وقاص. قوله: "من وجع اشتد بي" تقدم شرحه مستوفى في كتاب الوصايا، وقوله: "زمن حجة الوداع" موافق لرواية مالك عن الزهري، وتقدم أن ابن عيينة قال في روايته: "أن ذلك في زمن الفتح" والأول أرجح والله أعلم.

(10/126)


17 - باب قَوْلِ الْمَرِيضِ: قُومُوا عَنِّي
5669- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ. ح حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلاَفَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا" قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلاَفِهِمْ وَلَغَطِهِمْ".
قوله: "باب قول المريض قوموا عني" أي إذا وقع من الحاضرين عنده ما يقتضي ذلك. قوله: "هشام" هو ابن يوسف الصنعاني، وقوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو المسندي، وساقه المصنف هنا على لفظ هشام، وسبق لفظ عبد الرزاق في أواخر المغازي، وتقدم شرحه هناك، ووقع هنا "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا" وقد تقدم الحديث في كتاب العلم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري بلفظ: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا عني" وهو المطابق للترجمة، ولم أستحضره عند الكلام عليه في المغازي فنسبت هذه الزيادة لابن سعد، وعزوها للبخاري أولى. ويؤخذ من هذا الحديث أن الأدب في العيادة أن لا يطيل العائد عند المريض حتى يضجره، وأن لا يتكلم عنده بما يزعجه. وجملة آداب العيادة عشرة أشياء، ومنها ما لا يختص بالعيادة: أن لا يقابل الباب عند الاستئذان، وأن يدق الباب برفق، وأن لا يبهم نفسه كأن يقول أنا، وأن لا يحضر في وقت يكون غير لائق بالعيادة كوقت شرب المريض الدواء، وأن يخفف الجلوس، وأن يغض البصر، ويقلل السؤال، وأن يظهر الرقة، وأن يخلص الدعاء، وأن يوسع للمريض في الأمل، ويشير عليه بالصبر لما فيه من جزيل الأجر، ويحذره من الجزع لما فيه من الوزر. قوله: "وكان ابن عباس يقول إن الرزية" سبق الكلام علبه في الوفاة النبوية.

(10/126)


18 - باب مَنْ ذَهَبَ بِالصَّبِيِّ الْمَرِيضِ لِيُدْعَى لَهُ
5670- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ الْجُعَيْدِ قَالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ يَقُولُ: " ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ وَقُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ" .
قوله: "باب من ذهب بالصبي المريض ليدعى له" في رواية الكشميهني: "ليدعو له". ذكر فيه حديث الجعيد وهو ابن عبد الرحمن، والسائب هو ابن يزيد، وقد تقدم الحديث مشروحا في الترجمة النبوية عند ذكر خاتم النبوة وأن خالة السائب لا يعرف اسمها، وستأتي الإشارة إلى خصوص المسح على رأس المريض والدعاء بالبركة في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى.

(10/127)


باب تمني الموت
...
19 - باب تَمَنِّي الْمَرِيضِ الْمَوْتَ
5671- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْراً لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي" .
[الحديث 5671 – طرفاه في: 6351، 7233]
5672- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: "دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ نَعُودُهُ وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ فَقَالَ إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ سَلَفُوا مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمْ الدُّنْيَا وَإِنَّا أَصَبْنَا مَا لاَ نَجِدُ لَهُ مَوْضِعاً إِلاَّ التُّرَابَ وَلَوْلاَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يَبْنِي حَائِطاً لَهُ فَقَالَ إِنَّ الْمُسْلِمَ لَيُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ إِلاَّ فِي شَيْءٍ يَجْعَلُهُ فِي هَذَا التُّرَابِ".
[الحديث 5672 – أطرافه في: 6349، 6350، 6430، 6431، 7234]
5673- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لاَ وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْراً وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ" .
5674- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأعلى" .

(10/127)


قوله: "باب تمني المريض الموت" أي هل يمنع مطلقا أو يجوز في حالة؟ ووقع في رواية الكشميهني نهي تمني المريض الموت، وكأن المراد منع تمني المريض. وذكر في الباب خمسة أحاديث: الحديث الأول: عن أنس. قوله: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه" الخطاب للصحابة، والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عموما، وقوله: "من ضر أصابه" حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي، فإن وجد الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي، ويمكن أن يؤخذ ذلك من رواية ابن حبان: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا" على أن "في" في هذا الحديث سببية، أي بسبب أمر من الدنيا، وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة: ففي "الموطأ" عن عمر أنه قال: "اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط"، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن عمر. وأخرج أحمد وغيره من طريق عبس ويقال عابس الغفاري أنه قال: "يا طاعون خذني. فقال له عليم الكندي: لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت؟" فقال: إني سمعته يقول: " بادروا بالموت ستا، إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم" الحديث. وأخرج أحمد أيضا من حديث عوف بن مالك نحو وأنه "قيل له: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عمر المسلم كان خيرا له" الحديث، وفيه الجواب نحوه، وأصرح منه في ذلك حديث معاذ الذي أخرجه أبو داود وصححه الحاكم في القول في دبر كل صلاة وفيه: "وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون" . قوله: " فإن كان لا بد فاعلا " في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس كما سيأتي في الدعوات "فإن كان ولا بد متمنيا للموت". قوله: "فليقل الخ" وهذا يدل على أن النهي عن تمني الموت مقيد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة، لأن في التمني المطلق نوع اعتراض ومراغمة للقدر المحتوم وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض وتسليم للقضاء، وقوله: "فإن كان الخ" فيه ما يصرف الأمر عن حقيقته من الوجوب أو الاستحباب، ويدل على أنه لمطلق الإذن لأن الأمر بعد الحظر لا يبقى على حقيقته. وقريب من هذا السياق ما أخرجه أصحاب السنن من حديث المقدام بن معد يكرب " حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولا بد فثلث للطعام" الحديث، أي إذا كان لا بد من الزيادة على اللقيمات فليقتصر على الثلث، فهو إذن بالاقتصار على الثلث، لا أمر يقتضي الوجوب ولا الاستحباب. قوله: " ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت" عبر في الحياة بقوله: "ما كانت" لأنها حاصلة، فحسن أن يأتي بالصيغة المقتضية للاتصاف بالحياة، ولما كانت الوفاة لم تقع بعد حسن أن يأتي بصيغة الشرط. والظاهر أن هذا التفصيل ما إذا كان الضر دينيا أو دنيويا، وسيأتي في التمني من رواية النضر بن أنس عن أبيه "لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تمنوا الموت لتمنيته" فلعله رأى أن التفصيل المذكور ليس من التمني المنهي عنه. الحديث الثاني: حديث خباب. قوله: "عن إسماعيل بن أبي خالد" لشعبة فيه إسناد آخر أخرجه الترمذي من رواية غندر عنه عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: "دخلت على خباب" فذكر الحديث نحوه. قوله: "وقد اكتوى سبع كيات" في رواية حارثة "وقد اكتوى في بطنه فقال: ما أعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لقي من البلاء ما لقيت" أي من الوجع الذي أصابه، وحكى شيخنا في "شرح الترمذي" احتمال أن يكون أراد بالبلاء ما فتح عليه من المال بعد أن كان لا يجد درهما، كما وقع صريحا في رواية حارثة المذكورة عنه قال: "لقد كنت وما أجد درهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ناحية بيتي أربعون ألفا" يعني الآن، وتعقبه بأن غيره من الصحابة كان أكثر مالا منه كعبد الرحمن بن عوف، واحتمال أن يكون أراد ما لقي من التعذيب في أول الإسلام من

(10/128)


المشركين، وكأنه رأى أن اتساع الدنيا عليه يكون ثواب ذلك التعذيب، وكان يحب أن لو بقي له أجره موفرا في الآخرة، قال: ويحتمل أن يكون أراد ما فعل من الكي مع ورود النهي عنه، كما قال عمران بن حصين "نهينا عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا" أخرجه(1) قال: وهذا بعيد. قلت: وكذلك الذي قبله، وسيأتي الكلام على حكم الكي قريبا في كتاب الطب إن شاء الله تعالى. قوله: "إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا" زاد في الرقاق من طريق يحيي القطان عن إسماعيل بن أبي خالد "شيئا" أي لم تنقص أجورهم، بمعنى أنهم لم يتعجلوها في الدنيا بل بقيت موفرة لهم في الآخرة، وكأنه عنى بأصحابه بعض الصحابة ممن مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فأما من عاش بعده فإنهم اتسعت لهم الفتوح. ويؤيده حديثه الآخر "هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير" وقد مضى في الجنائز وفي المغازي أيضا، ويحتمل أن يكون عني جميع من مات قبله، وأن من اتسعت له الدنيا لم تؤثر فيه إما لكثرة إخراجهم المال في وجوه البر، وكان من يحتاج إليه إذ ذاك كثيرا فكانت تقع لهم الموقع، ثم لما اتسع الحال جدا وشمل العدل في زمن الخلفاء الراشدين استغني الناس بحيث صار الغني لا يجد محتاجا يضع بره فيه، ولهذا قال خباب: "وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب" أي الإنفاق في البنيان. وأغرب الداودي فقال: أراد خباب بهذا القول الموت أي لا يجد للمال الذي أصابه إلا وضعه في القبر، حكاه ابن التين ورده فأصاب. وقال: بل هو عبارة عما أصابوا من المال قلت: وقد وقع لأحمد عن يزيد بن هارون عن إسماعيل بن أبي خالد في هذا الحديث بعد قوله إلا التراب "وكان يبني حائطا له" ويأتي في الرقاق نحوه باختصار، وأخرجه أحمد أيضا عن وكيع عن إسماعيل وأوله "دخلنا على خباب نعوده وهو يبني حائطا له وقد اكتوى سبعا" الحديث. قوله: "ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به" الدعاء بالموت أخص من تمني الموت، وكل دعاء تمني من غير عكس، فلذلك أدخله في هذه الترجمة. قوله: "ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطا له" هكذا وقع في رواية شعبة تكرار المجيء، وهو أحفظ الجميع فزيادته مقبولة، والذي يظهر أن قصة بناء الحائط كانت سبب قوله أيضا: "وإنا أصبنا من الدنيا ما لا نجد له موضعا إلا التراب". قوله: "إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب" أي الذي يوضع في البنيان، وهو محمول على ما زاد على الحاجة، وسيأتي تقرير ذلك في آخر كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى. "تنبيه" هكذا وقع من هذا الوجه موقوفا، وقد أخرجه الطبراني من طريق عمر بن إسماعيل بن مجالد "حدثنا أبي عن بيان بن بشر وإسماعيل بن أبي خالد جميعا عن قيس عن أبي حازم قال: دخلنا على خباب نعوده" فذكر الحديث، وفيه: "وهو يعالج حائطا له فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المسلم يؤجر في نفقته كلها إلا ما يجعله في التراب" وعمر كذبه يحيى بن معين. قوله: "أخبرني أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف" هو أبو عبيد مولى ابن أزهر واسمه سعيد بن عبيد، وابن أزهر الذي نسب إليه هو عبد الرحمن بن أزهر بن عوف، وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف الزهري؛ هكذا اتفق هؤلاء عن الزهري في روايته عن أبي عبيد، وخالفهم إبراهيم بن سعد عن الزهري فقال: "عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة" أخرجه النسائي وقال: رواية الزبيدي أولى
ـــــــ
(1) بياض بالأصل

(10/129)


بالصواب، وإبراهيم بن سعد ثقة، يعني ولكنه أخطأ في هذا. قوله: "لن يدخل أحدا عمله الجنة" الحديث يأتي الكلام عليه في كتاب الرقاق، فإنه أورده مفردا من وجه آخر عن أبي هريرة وغيره، وإنما أخرجه هنا استطرادا لا قصدا، والمقصود منه الحديث الذي بعده وهو قوله: "ولا يتمنى الخ" وقد أفرده في كتاب التمني من طريق معمر عن الزهري، وكذا أخرجه النسائي من طريق الزبيدي عن الزهري. قوله: "ولا يتمني" كذا للأكثر بإثبات التحتانية، وهو لفظ نفي بمعني النهي. ووقع في رواية الكشميهني: "لا يتمن" على لفظ النهي، ووقع في رواية معمر الآتية في التمني بلفظ: "لا يتمنى" للأكثر وبلفظ: "لا يتمنين" للكشميهني، وكذا هو في رواية همام عن أبي هريرة بزيادة نون التأكيد، وزاد بعد قوله أحدكم الموت "ولا يدع به من قبل أن يأتيه" وهو قيد في الصورتين، ومفهومه أنه إذا حل به لا يمنع من تمنيه رضا بلقاء الله ولا من طلبه من الله لذلك وهو كذلك، ولهذه النكتة عقب البخاري حديث أبي هريرة بحديث عائشة "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" إشارة إلى أن النهي مختص بالحالة التي قبل نزول الموت، فلله دره ما كان أكثر استحضاره وإيثاره للأخفى على الأجلى شحذا للأذهان. وقد خفي صنيعه هذا على من جعل حديث عائشة في الباب معارضا لأحاديث الباب أو ناسخا لها، وقوي ذلك بقول يوسف عليه السلام {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} قال ابن التين: قيل إن النهى منسوخ بقول يوسف فذكره، وبقول سليمان "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" وبحديث عائشة في الباب، وبدعاء عمر بالموت وغيره. قال وليس الأمر كذلك لأن هؤلاء إنما سألوا ما قارب الموت. قلت: وقد اختلف في مراد يوسف عليه السلام، فقال قتادة: لم يتمني الموت أحد إلا يوسف حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء الله، أخرجه الطبراني بسند صحيح عنه. وقال غيره: بل مراده توفني مسلما عند حضور أجلي، كذا أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك بن مزاحم، وكذلك مراد سليمان عليه السلام. وعلى تقدير الحمل على ما قال قتادة فهو ليس من شرعنا، وإنما يؤخذ بشرع من قبلنا ما لم يرد في شرعنا النهي عنه بالاتفاق، وقد استشكل الإذن في ذلك عند نزول الموت لأن نزول الموت لا يتحقق، فكم من انتهى إلى غاية جرت العادة بموت من يصل إليها ثم عاش. والجواب أنه يحتمل أن يكون المراد أن العبد يكون حاله في ذلك الوقت حال من يتمني نزوله به ويرضاه أن لو وقع به، والمعني أن يطمئن قلبه إلى ما يرد عليه من ربه ويرضى به ولا يقلق، ولو لم يتفق أنه يموت في ذلك المرض. قول "إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب" أي يرجع عن موجب العتب عليه. ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد "وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا" وفيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت والدعاء به هو انقطاع العمل بالموت، فإن الحياة يتسبب منها العمل، والعمل يحصل زيادة الثواب، ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد فهو أفضل الأعمال. ولا يرد على هذا أنه يجوز أن يقع الارتداد والعياذ بالله تعالى عن الإيمان لأن ذلك نادر، والإيمان بعد أن تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وعلى تقدير وقوع ذلك - وقد وقع لكن نادرا - فمن سبق له في علم الله خاتمة السوء فلا بد من وقوعها طال عمره أو قصر، فتعجيله بطلب الموت لا خير له فيه. ويؤيده حديث أبي أمامة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: يا سعد إن كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك أو حسن من عملك فهو خير لك" أخرجه بسند لين، ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد ومسلم: "وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا " واستشكل بأنه قد يعمل السيئات فيزيده عمره شرا، وأجيب بأجوبة: أحدها حمل المؤمن

(10/130)


على الكامل وفيه بعد، والثاني أن المؤمن بصدد أن يعمل ما يكفر ذنوبه إما من اجتناب الكبائر وإما من فعل حسنات أخر تقاوم سيئاته، وما دام الإيمان باق فالحسنات بصدد التضعيف، والسيئات بصدد التكفير. والثالث يقيد ما أطلق في هذه الرواية بما وقع في رواية الباب من الترجي حيث جاء بقوله: "لعله" والترجي مشعر بالوقوع غالبا لا جزما، فخرج الخبر مخرج تحسين الظن بالله، وأن المحسن يرجو من الله الزيادة بأن يوفقه للزيادة من عمله الصالح، وأن المسيء لا ينبغي له القنوط من رحمة الله ولا قطع رجائه، أشار إلى ذلك شيخنا في "شرح الترمذي". ويدل على أن قصر العمر قد يكون خيرا للمؤمن حديث أنس الذي في أول الباب: "وتوفني إذا كان الوفاة خيرا لي" وهو لا ينافي حديث أبي هريرة "أن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا" إذا حمل حديث أبي هريرة على الأغلب ومقابله على النادر، وسيأتي الإلمام بشيء من هذا في كتاب التمني إن شاء الله تعالى. حديث عائشة "وألحقني بالرفيق الأعلى " تقدم شرحه في أواخر المغازي في الوفاة النبوية، وتقدم في الذي قبله أن ذلك لا يعارض النهي عن تمني الموت والدعاء به، وأن هذه الحالة من خصائص الأنبياء أنه لا يقبض نبي حتى يخير بين البقاء في الدنيا وبين الموت. وقد تقدم بسطه واضحا هناك ولله الحمد.

(10/131)


20 - باب دُعَاءِ الْعَائِدِ لِلْمَرِيضِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا: " اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْداً" قاله النبي صلى الله عليه وسلم
5675- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضاً أَوْ أُتِيَ بِهِ قَالَ: أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَماً" .
وقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي الضُّحَى "إِذَا أُتِيَ بِالْمَرِيضِ" وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى وَحْدَهُ وَقَالَ: "إِذَا أَتَى مَرِيضاً".
[الحديث 5675 – أطرافه في: 5743، 5744، 5750]
قوله: "باب دعاء العائد للمريض" أي بالشفاء ونحوه. قوله: "وقالت عائشة بنت سعد" أي ابن أبي وقاص، وهذا طرف من حديثه الطويل في الوصية بالثلث، وقد تقدم موصولا في "باب وضع اليد على المريض" قريبا. قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي. قوله: "إذا أتى مريضا أو أتي به" شك من الراوي، وقد حكى المصنف الاختلاف فيه في الروايات المعلقة بعد. قوله: "لا يغادر" بالغين المعجمة أي لا يترك، وفائدة التقييد بذلك أنه قد يحصل الشفاء من ذلك المرض فيخلفه مرض آخر يتولد منه، فكان يدعو له بالشفاء المطلق لا بمطلق الشفاء. قوله: "وقال عمرو بن أبي قيس وإبراهيم بن طهمان عن منصور عن إبراهيم وأبي الضحى "إذا أتى المريض" وقع في رواية الكشميهني: "إذا أتي بالمريض" وهو أصوب، فأما عمرو بن أبي قيس فهو الرازي وأصله من الكوفة ولا يعرف اسم أبيه وهو صدوق، ولم يخرج له البخاري إلا تعليقا، وقد وقع لنا حديثه هذا موصولا في "فوائد أبي العباس محمد بن نجيح" من رواية محمد بن سعيد بن سابق القزويني عنه بلفظ: "إذا أتي

(10/131)


بالمريض" وأما إبراهيم بن طهمان فوصل طريقه الإسماعيلي من رواية محمد بن سابق التميمي الكوفي نزيل بغداد عنه بلفظ: "إذا أتى بمريض". قوله: "وقال جرير عن منصور عن أبي الضحى وحده وقال: إذا أتى مريضا" وهذا وصله ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جرير بلفظ: "إذا أتى إلى المريض فدعا له" وهي عند مسلم أيضا، وقد دلت رواية كل من جرير وأبي عوانة على أن عمرو بن أبي قيس وإبراهيم بن طهمان حفظا عن منصور أن الحديث عنده عن شيخين، وأنه تارة يحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وقد أخرجه مسلم من طريق إسرائيل عن منصور عنهما كذلك، ورجح عند البخاري رواية منصور عن إبراهيم وحده لأن الثوري رواها عن منصور كذلك كما سيأتي في أثناء كتاب الطب، ووافقه ورقاء عن منصور عند النسائي، وسفيان أحفظ الجميع، لكن رواية جرير غير مرفوعة والله أعلم. وقد استشكل الدعاء للمريض بالشفاء مع ما في المرض من كفارة الذنوب والثواب كما تضافرت الأحاديث بذلك، والجواب أن الدعاء عبادة، ولا ينافي الثواب والكفارة لأنهما يحصلان بأول مرض وبالصبر عليه، والداعي بين حسنتين: إما أن يحصل له مقصوده، أو يعوض عنه بجلب نفع أو دفع ضر، وكل من فضل الله تعالى.

(10/132)


21 - باب وُضُوءِ الْعَائِدِ لِلْمَرِيضِ
5676- حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن محمد بن المنكدر قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فتوضأ فصب علي أو قال صبوا عليه فعقلت فقلت لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث فنزلت آية الفرائض".
قوله: "باب وضوء العائد للمريض" ذكر فيه حديث جابر، وقد تقدم التنبيه عليه قريبا في باب المغمى عليه، ولا يخفى أن محله إذا كان العائد بحيث يتبرك المريض به.

(10/132)


22 - باب مَنْ دَعَا بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْحُمَّى
5677- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ قَالَتْ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَتْ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فَيَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مِجَنَّةٍ ... وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

(10/132)


كتاب الطب
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
76 - كِتَاب الطِّبِّ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الطب" كذا لهم، إلا النسفي فترجم "كتاب الطب" أول كفارة المرض ولم يفرد كتاب الطب، وزاد في نسخة الصغاني "والأدوية". والطب بكسر المهملة وحكى ابن السيد تثليثها. والطبيب هو الحاذق بالطب، ويقال له أيضا طب بالفتح والكسر ومستطب وامرأة طب بالفتح، يقال استطب تعانى الطب واستطب استوصفه، ونقل أهل اللغة أن الطب بالكسر يقال بالاشتراك للمداوى وللتداوي وللداء أيضا فهو من الأضداد، ويقال أيضا للرفق والسحر، ويقال للشهوة ولطرائق ترى في شعاع الشمس وللحذق بالشيء، والطبيب الحاذق في كل شيء، وخص به المعالج عرفا، والجمع في القلة أطبة وفي الكثرة أطباء. والطب نوعان: طب جسد وهو المراد هنا، وطب قلب ومعالجته خاصة بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه سبحانه وتعالى. وأما طب الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم ومنه ما جاء عن غيره، وغالبه راجع إلى التجربة. ثم هو نوعان: نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر بل فطر الله على معرفته الحيوانات، مثل ما يدفع الجوع والعطش. ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال، وهو إما إلى حرارة أو برودة، وكل منهما إما إلى رطوبة، أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما. وغالب ما يقاوم الواحد منهما بضده، والدفع قد يقع من خارج البدن وقد يقع من داخله وهو أعسرهما. والطريق إلى معرفته بتحقق السبب والعلامة، فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضر بالبدن جمعه أو عكسه، وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء: حفظ الصحة، والاحتماء عن المؤذي، واستفراغ المادة الفاسدة. وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن: فالأول من قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وذلك أن السفر مظنة النصب وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر إبقاء على الجسد. وكذا القول في المرض الثاني وهو الحمية من قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد. والثالث من قوله تعالى: {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فإنه أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس. وأخرج مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم مرسلا "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجلين: أيكما أطب؟ قالا: يا رسول الله وفي الطب خير؟ قال: أنزل الداء الذي أنزل الدواء" .

(10/134)


باب ما أنزا الله داء إلا أنزل له شفاء
...
1 - باب مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً
5678- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً" .
قوله: "باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" كذا للإسماعيلي وابن بطال ومن تبعه، ولم أر لفظ: "باب" من نسخ الصحيح إلا للنسفي. قوله: "أبو أحمد الزبيري" هو محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي، نسب لجده وهو

(10/134)


أسد من بني أسد بن خزيمة، فقد يلتبس بمن ينسب إلى الزبير بن العوام لكونهم من بني أسد بن عبد العزى، وهذا من فنون علم الحديث وصنفوا فيه الأنساب المتفقة في اللفظ المفترقة في الشخص. وقد وقع عند أبي نعيم في الطب من طريق أبي بكر وعثمان بن أبي شيبة: "قالا حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي أبو أحمد الزبيري" وعند الإسماعيلي من طريق هارون بن عبد الله الحمال "حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري". قوله: "عن أبي هريرة" كذا قال عمر بن سعيد عن عطاء، وخالفه شبيب بن بشر فقال: "عن عطاء عن أبي سعيد الخدري" أخرجه الحاكم وأبو نعيم في الطب ورواه طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس، هذه رواية عبد بن حميد عن محمد بن عبيد عنه. وقال معتمر بن سليمان "عن طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة" أخرجه ابن عاصم في الطب وأبو نعيم، وهذا مما يترجح به رواية عمر بن سعيد. قوله: "ما أنزل الله داء" وقع في رواية الإسماعيلي: "من داء" و"من" زائدة، ويحتمل أن يكون مفعول "أنزل" محذوفا فلا تكون من زائدة بل لبيان المحذوف، ولا يخفى تكلفه. قوله: "إلا أنزل له شفاء" في رواية طلحة بن عمرو من الزيادة في أول الحديث: "يا أيها الناس تداووا" ووقع في رواية طارق بن شهاب عن ابن مسعود رفعه: "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا" وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم، ونحوه للطحاوي وأبي نعيم من حديث ابن عباس، ولأحمد عن أنس "إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء، فتداووا" وفي حديث أسامة بن شريك "تداووا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، إلا داء واحدا الهرم" أخرجه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" والأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وفي لفظ: "إلا السام" بمهملة مخففة يعني الموت. ووقع في رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود نحو حديث الباب في آخره: "علمه من علمه وجهله من جهله" أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم. ولمسلم عن جابر رفعه: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى" ولأبي داود من حديث أبي الدرداء رفعه: "إن الله جعل لكل داء دواء فتداووا، ولا تداووا بحرام" وفي مجموع هذه الألفاظ ما يعرف منه المراد بالإنزال في حديث الباب وهو إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وسلم مثلا، أو عبر بالإنزال عن التقدير. وفيها التقييد بالحلال فلا يجوز التداوي بالحرام. وفي حديث جابر منها الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله، وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجع، بل ربما أحدث داء آخر. وفي حديث ابن مسعود الإشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد، وفيها كلها إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره، وأنها لا تنجح بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك، وإليه الإشارة بقوله في حديث جابر "بإذن الله" فمدار ذلك كله على تقدير الله وإرادته. والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك، وسيأتي مزيد لهذا البحث في "باب الرقية" إن شاء الله تعالى. ويدخل في عمومها أيضا الداء القاتل الذي اعترف حذاق الأطباء بأن لا دواء له، وأقروا بالعجز عن مداواته، ولعل الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله: "وجهله من جهله" إلى ذلك فتكون باقية على عمومها، ويحتمل أن يكون في الخبر حذف تقديره: لم ينزل داء يقبل الدواء إلا أنزل له شفاء، والأول أولى. ومما يدخل في قوله: "جهله من جهله" ما يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من داء بدواء فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء بعينه فيتداوى بذلك الدواء بعينه فلا ينجع،

(10/135)


والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الدواء فرب مرضين تشابها ويكون أحدهما مركبا لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبا فيقع الخطأ من هنا، وقد يكون متحدا لكن يريد الله أن لا ينجع فلا ينجع ومن هنا تخضع رقاب الأطباء، وقد أخرج ابن ماجه من طريق أبي خزامة وهو بمعجمة وزاي خفيفة عن أبيه قال: " قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به هل يرد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله تعالى" والحاصل أن حصول الشفاء بالدواء إنما هو كدفع الجوع بالأكل والعطش بالشرب، وهو ينجع في ذلك في الغالب، وقد يتخلف لمانع والله أعلم. ثم الداء والدواء كلاهما بفتح الدال وبالمد، وحكي كسر دال الدواء. واستثناء الموت في حديث أسامة بن شريك واضح، ولعل التقدير إلا داء الموت، أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت. واستثناء الهرم في الرواية الأخرى إما لأنه جعله شبيها بالموت والجامع بينهما نقص الصحة، أو لقربه من الموت وإفضائه إليه. ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا والتقدير: لكن الهرم لا دواء له، والله أعلم.

(10/136)


2 - باب هَلْ يُدَاوِي الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَوْ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ
5679- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بشر بن المفضل عن خالد بن ذكوان عن ربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة".
قوله: "باب هل يداوي الرجل المرأة والمرأة الرجل؟" ذكر فيه حديث الربيع بالتشديد "كنا نغزو ونسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة" وليس في هذا السياق تعرض للمداواة، إلا إن كان يدخل في عموم قولها "نخدمهم" نعم ورد الحديث المذكور بلفظ: "ونداوي الجرحى ونرد القتلى" وقد تقدم كذلك في "باب مداواة النساء الجرحى في الغزو" من كتاب الجهاد، فجرى البخاري على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض ألفاظ الحديث، ويؤخذ حكم مداواة الرجل المرأة منه بالقياس. وإنما لم يجزم بالحكم لاحتمال أن يكون ذلك قبل الحجاب، أو كانت المرأة تصنع ذلك بمن يكون زوجا لها أو محرما. وأما حكم المسألة فتجور مداواة الأجانب عند الضرورة وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك، وقد تقدم البحث في شيء من ذلك في كتاب الجهاد.

(10/136)


3 - باب الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثٍ
5680- حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ حَدَّثَنَا سَالِمٌ الأَفْطَسُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ شَرْبَةِ عَسَلٍ وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ وَكَيَّةِ نَارٍ وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ" . رَفَعَ الْحَدِيثَ.
وَرَوَاهُ الْقُمِّيُّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَسَلِ وَالْحَجْمِ.
[الحديث 5680 – طرفه في: 5681]
5681- حدثني محمد بن عبد الرحيم أخبرنا سريج بن يونس أبو الحارث حدثنا مروان بن شجاع عن

(10/136)


4 - باب الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}
5682- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ".
5683- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ أَوْ يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ" .
[الحديث 5683 – أطرافه في: 5697، 5702، 5704]
5684- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ "أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلاً ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلاً ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلاً ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ قَدْ فَعَلْتُ فَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ اسْقِهِ عَسَلاً فَسَقَاهُ فَبَرَأَ" .
[الحديث 5684 – طرفه في: 5716]

(10/139)


قوله: "باب الدواء بالعسل، وقول الله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} " كأنه أشار بذكر الآية إلى أن الضمير فيها للعسل وهو قول الجمهور، وزعم بعض أهل التفسير أنه للقرآن. وذكر ابن بطال أن بعضهم قال: إن قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أي لبعضهم، وحمله على ذلك أن تناول العسل قد يضر ببعض الناس كمن يكون حار المزاج، لكن لا يحتاج إلى ذلك لأنه ليس في حمله على العموم ما يمنع أنه قد يضر الأبدان بطريق العرض. والعسل يذكر ويؤنث، وأسماؤه تزيد على المائة، وفيه من المنافع ما لخصه الموفق البغدادي وغيره فقالوا: يجلو الأوساخ التي في العروق والأمعاء، ويدفع الفضلات، ويغسل خمل المعدة، ويسخنها تسخينا معتدلا، ويفتح أفواه العروق ويشد المعدة والكبد والكلى والمثانة والمنافذ، وفيه تحليل للرطوبات أكلا وطلاء وتغذية، وفيه حفظ المعجونات وإذهاب لكيفية الأدوية المستكرهة، وتنقية الكبد والصدر، وإدرار البول والطمث، ونفع للسعال الكائن من البلغم، ونفع لأصحاب البلغم والأمزجة الباردة. وإذا أضيف إليه الخل نفع أصحاب الصفراء. ثم هو غذاء من الأغذية، ودواء من الأدوية، وشراب من الأشربة، وحلوى من الحلاوات، وطلاء من الأطلية، ومفرح من المفرحات. ومن منافعه أنه إذا شرب حارا بدهن الورد نفع من نهش الحيوان، وإذا شرب وحده بماء نفع من عضة الكلب، وإذا جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر، وكذلك الخيار والقرع والباذنجان والليمون ونحو ذلك من الفواكه، وإذا لطخ به البدن للقمل قتل القمل والصئبان، وطول الشعر وحسنه ونعمه، وإن اكتحل به جلا ظلمة البصر، وإن استن به صقل الأسنان وحفظ صحتها. وهو عجيب في حفظ جثث الموتى فلا يسرع إليها البلى، وهو مع ذلك مأمون الغائلة قليل المضرة، ولم يكن يعول قدماء الأطباء في الأدوية المركبة إلا عليه، ولا ذكر للسكر في أكثر كتبهم أصلا. وقد أخرج أبو نعيم في "الطب النبوي" بسند ضعيف من حديث أبي هريرة رفعه وابن ماجه بسند ضعيف من حديث جابر رفعه: "من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم بلاء" والله أعلم. حديث عائشة "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل" قال الكرماني: الإعجاب أعم من أن يكون على سبيل الدواء أو الغذاء. فتؤخذ المناسبة بهذه الطريق، وقد تقدم باقي الكلام عليه في كتاب الأطعمة. قوله: "عبد الرحمن ابن الغسيل" اسم الغسيل حنظلة بن أبي عامر الأوسي الأنصاري، استشهد بأحد وهو جنب فغسلته الملائكة فقيل له الغسيل، وهو فعيل بمعنى مفعول، وهو جد جد عبد الرحمن، فهو ابن سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة، وعبد الرحمن معدود في صغار التابعين لأنه رأى أنسا وسهل بن سعد، وجل روايته عن التابعين، وهو ثقة عند الأكثر واختلف فيه قول النسائي. وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرا. اهـ. وكان قد عمر فجاز المائة فلعله تغير حفظه في الآخر وقد احتج به الشيخان، وشيخه عاصم بن عمر بن قتادة أي ابن النعمان الأنصاري الأوسي يكنى أبا عمر ما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في "باب من بنى مسجدا" في أوائل الصلاة، وهو تابعي ثقة عندهم، وأغرب عبد الحق فقال في "الأحكام": وثقة ابن معين وأبو زرعة وضعفه غيرهما. ورد ذلك أبو الحسن بن القطان على عبد الحق فقال: لا أعرف أحدا ضعفه ولا ذكره في الضعفاء اهـ. وهو كما قال. قوله: "إن كان في شيء من أدويتكم أو يكون في شيء من أدويتكم" كذا وقع بالشك، وكذا لأحمد عن أبي أحمد الزبيري عن ابن الغسيل، وسيأتي بعد أبواب باللفظ الأول بغير شك، وكذا لمسلم، وذكرت فيه في "باب الحجامة من الداء" قصة. وقوله:

(10/140)


"أو يكون" قال ابن التين صوابه "أو يكن" لأنه معطوف على مجزوم فيكون مجزوما. قلت: وقد وقع في رواية أحمد "إن كان أو إن يكن" فلعل الراوي أشبع الضمة فظن السامع أن فيها واوا فأثبتها، ويحتمل أن يكون التقدير: إن كان في شيء أو إن كان يكون في شيء، فيكون التردد لإثبات لفظ يكون وعدمها، وقرأها بعضهم بتشديد الواو وسكون النون، وليس ذلك بمحفوظ. قوله: "ففي شرطة محجم" بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم. قوله: "أو لذعة بنار" بذال معجمة ساكنة وعين مهملة، اللذع هو الخفيف من حرق النار. وأما اللدغ بالدال المهملة والغين المعجمة فهو ضرب أو عض ذات السم. قوله: "توافق الداء" فيه إشارة إلى أن الكي إنما يشرع منه ما يتعين طريقا إلى إزالة ذلك الداء، وأنه لا ينبغي التجربة لذلك ولا استعماله إلا بعد التحقق، ويحتمل أن يكون المراد بالموافقة موافقة القدر. قوله: "وما أحب أن أكتوي" سيأتي بيانه بعد أبواب. حديث أبي سعيد في الذي اشتكى بطنه فأمر بشرب العسل، وسيأتي شرحه في "باب دواء المبطون". وشيخه عباس فيه هو بالموحدة ثم مهملة النرسي بنون ومهملة، وعبد الأعلى شيخه هو ابن عبد الأعلى، وسعيد هو ابن أبي عروبة، والإسناد كله بصريون.

(10/141)


5 - باب الدَّوَاءِ بِأَلْبَانِ الإِبِلِ
5685- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا سَلاَمُ بْنُ مِسْكِينٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ نَاساً كَانَ بِهِمْ سَقَمٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ آوِنَا وَأَطْعِمْنَا فَلَمَّا صَحُّوا قَالُوا إِنَّ الْمَدِينَةَ وَخِمَةٌ فَأَنْزَلَهُمْ الْحَرَّةَ فِي ذَوْدٍ لَهُ فَقَالَ اشْرَبُوا أَلْبَانَهَا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا ذَوْدَهُ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَكْدِمُ الأَرْضَ بِلِسَانِهِ حَتَّى يَمُوتَ" .
قَالَ سَلاَمٌ: "فَبَلَغَنِي أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِأَنَسٍ حَدِّثْنِي بِأَشَدِّ عُقُوبَةٍ عَاقَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ بِهَذَا فَبَلَغَ الْحَسَنَ فَقَالَ وَدِدْتُ أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْهُ بِهَذَا".
قوله: "باب الدواء بألبان الإبل" أي في المرض الملائم له. قوله: "سلام بن مسكين" هو الأزدي، وهو بالتشديد، وما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر سيأتي في كتاب الأدب. ووقع في اللباس عن موسى بن إسماعيل "حدثنا سلام عن عثمان بن عبد الله" فزعم الكلاباذي أنه سلام بن مسكين، وليس كذلك بل هو سلام بن أبي مطيع، وسأذكر الحجة لذلك هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا ثابت" هو البناني، ووقع للإسماعيلي من رواية بهز بن أسد "عن سلام بن مسكين قال حدث ثابت الحسن وأصحابه وأنا شاهد منهم" فيؤخذ من ذلك أنه لا يشترط في قول الراوي حدثنا فلان أن يكون فلان قد قصد إليه بالتحديث، بل إن سمع منه اتفاقا جاز أن يقول حدثنا فلان، ورجال هذا الإسناد أيضا كلهم بصريون. قوله: "أن ناسا" زاد بهز في روايته: "من أهل الحجاز" وقد تقدم في الطهارة أنهم من عكل أو عرينة بالشك، وثبت أنهم كانوا ثمانية وأن أربعة منهم كانوا من عكل وثلاثة من عرينة والرابع كان تبعا لهم. قوله: "كان بهم سقم فقالوا: يا رسول الله آونا وأطعمنا، فلما صحوا" في

(10/141)


السياق حذف تقديره فآواهم وأطعمهم، فلما صحوا قالوا إن المدينة وخمة، وكان السقم الذي بهم أولا من الجوع أو من التعب فلما زال ذلك عنهم خشوا من وخم المدينة إما لكونهم أهل ريف فلم يعتادوا بالحضر، وإما بسبب ما كان بالمدينة من الحمى، وهذا هو المراد بقوله في الرواية التي بعدها "اجتووا المدينة" وتقدم تفسير الجوى في كتاب الطهارة. ووقع في رواية بهز بن أسد "بهم ضر وجهد" وهو يشير إلى ما قلناه. قوله: "في ذود له" ذكر ابن سعد أن عدد الذود كان خمس عشرة. وفي رواية بهز بن أسد: أن الذود كان مع الراعي بجانب الحرة. قوله: "فقال اشربوا ألبانها" كذا هنا، وتقدم من رواية أبي قلابة وغيره عن أنس "من ألبانها وأبوالها". قوله: "فلما صحوا" في السياق حذف تقديره: فخرجوا فشربوا فلما صحوا. قوله: "وسمر أعينهم" كذا للأكثر، وللكشميهني باللام بدل الراء، وقد تقدم شرحها. قوله: "فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت" زاد بهز في روايته: "مما يجد من الغم والوجع" وفي صحيح أبي عوانة هنا "يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة". قوله: "قال سلام" هو موصول بالسند المذكور، وقوله: "فبلغني أن الحجاج" هو ابن يوسف الأمير المشهور. وفي رواية أنس "فذكر ذلك قوم للحجاج فبعث إلى أنس فقال: هذا خاتمي فليكن بيدك - أي يصير خازنا له - فقال أنس: إني أعجز عن ذلك. قال فحدثني بأشد عقوبة" الحديث. قوله: "بأشد عقوبة عاقبه النبي صلى الله عليه وسلم" كذا بالتذكير على إرادة العقاب. وفي رواية بهز "عاقبها" على ظاهر اللفظ. قوله: "فبلغ الحسن" هو ابن أبي الحسن البصري "فقال: وددت أنه لم يحدثه" زاد الكشميهني: "بهذا" وفي رواية بهز "فوالله ما انتهى الحجاج حتى قام بها على المنبر فقال: حدثنا أنس" فذكره وقال: "قطع النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي والأرجل وسمل الأعين في معصية الله، أفلا نفعل نحن ذلك في معصية الله؟" وساق الإسماعيلي من وجه آخر عن ثابت "حدثني أنس قال: ما ندمت على شيء ما ندمت على حديث حدثت به الحجاج" فذكره، وإنما ندم أنس على ذلك لأن الحجاج كان مسرفا في العقوبة، وكان يتعلق بأدنى شبهة. ولا حجة له في قصة العرنيين لأنه وقع التصريح في بعض طرقه أنهم ارتدوا، وكان ذلك أيضا قبل أن تنزل الحدود كما في الذي بعده، وقبل النهي عن المثلة كما تقدم في المغازي، وقد حضر أبو هريرة الأمر بالتعذيب بالنار ثم حضر نسخه والنهي عن التعذيب بالنار كما مر في كتاب الجهاد، وكان إسلام أبي هريرة متأخرا عن قصة العرنيين، وقد تقدم بسط القول في ذلك في "باب الإبل والدواب" في كتاب الطهارة، وإنما أشرت إلى اليسير منه لبعد العهد به.

(10/142)


6 - باب الدَّوَاءِ بِأَبْوَالِ الإِبِلِ
5686- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ نَاساً اجْتَوَوْا فِي الْمَدِينَةِ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ يَعْنِي الإِبِلَ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَلَحِقُوا بِرَاعِيهِ فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَلَحَتْ أَبْدَانُهُمْ فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَسَاقُوا الإِبِلَ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِمْ فَجِيءَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ" .
قَالَ قَتَادَةُ: "فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ".

(10/142)


قوله: "باب الدواء بأبوال الإبل" ذكر فيه حديث العرنيين، ووقع في خصوص التداوي بأبوال الإبل حديث أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس رفعه: "عليكم بأبوال الإبل فإنها نافعة للذربة بطونهم" والذربة بفتح المعجمة وكسر الراء جمع ذرب، والذرب بفتحتين فساد المعدة. قوله: "أن ناسا اجتووا في المدينة" كذا هنا بإثبات "في" وهي ظرفية أي حصل لهم الجوى وهم في المدينة، ووقع في رواية أبي قلابة عن أنس "اجتووا المدينة". قوله: "أن يلحقوا براعيه يعني الإبل" كذا في الأصل. وفي رواية مسلم من هذا الوجه "أن يلحقوا براعي الإبل". قوله: "حتى صلحت" في رواية الكشميهني: "صحت". قوله: "قال قتادة" هو موصول بالإسناد المذكور، وقوله: "فحدثني محمد بن سيرين الخ" يعكر عليه ما أخرجه مسلم من طريق سليمان التيمي عن أنس قال: "إنما سملهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم سملوا أعين الرعاة" وسيأتي بيان ذلك واضحا في كتاب الديات إن شاء الله تعالى.

(10/143)


7 - باب الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ
5687- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "خَرَجْنَا وَمَعَنَا غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ فَمَرِضَ فِي الطَّرِيقِ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَعَادَهُ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ فَقَالَ لَنَا عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحُبَيْبَةِ السَّوْدَاءِ فَخُذُوا مِنْهَا خَمْساً أَوْ سَبْعاً فَاسْحَقُوهَا ثُمَّ اقْطُرُوهَا فِي أَنْفِهِ بِقَطَرَاتِ زَيْتٍ فِي هَذَا الْجَانِبِ وَفِي هَذَا الْجَانِبِ فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ مِنْ السَّامِ قُلْتُ وَمَا السَّامُ قَالَ الْمَوْتُ" .
5688- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ السَّامَ" . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: "وَالسَّامُ الْمَوْتُ وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ".
قوله: "باب الحبة السوداء" سيأتي بيان المراد بها في آخر الباب. قوله: "حدثني عبد الله بن أبي شيبة" كذا سماه ونسبه لجده وهو أبو بكر، مشهور بكنيته أكثر من اسمه وأبو شيبة جده، وهو ابن محمد بن إبراهيم، وكان إبراهيم أبو شيبة قاضي واسط. قوله: "حدثنا عبيد الله" بالتصغير كذا للجميع غير منسوب، وكذا أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبيد الله غير منسوب، وجزم أبو نعيم في "المستخرج" بأنه عبيد الله بن موسى، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي بكر الأعين والخطيب في كتاب "رواية الآباء عن الأبناء" من طريق أبي مسعود الرازي، وهو عندنا بعلو من طريقه، وأخرجه أيضا أحمد بن حازم عن أبي غرزة - بفتح المعجمة والراء والزاي - في مسنده، ومن طريقه الخطيب أيضا كلهم عن عبيد الله بن موسى، وهو الكوفي المشهور، ورجال الإسناد كلهم كوفيون، وعبيد الله بن موسى من كبار شيوخ البخاري، وربما حدث عنه بواسطة كالذي هنا. قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر. قوله: "عن خالد بن سعد" هو مولى أبي مسعود البدري الأنصاري، وما له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد أخرجه المنجنيقي في كتاب رواية الأكابر عن الأصاغر

(10/143)


عن عبيد الله بن موسى بهذا الإسناد فأدخل بين منصور وخالد بن سعد مجاهدا، وتعقبه الخطيب بعد أن أخرجه من طريق المنجنيقي بأن ذكر مجاهد فيه وهم. ووقع في رواية المنجنيقي أيضا: "خالد بن سعيد" بزيادة ياء في اسم أبيه، وهو وهم نبه عليه الخطيب أيضا. قوله: "ومعنا غالب بن أبجر" بموحدة وجيم وزن أحمد، يقال إنه الصحابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية. وحديثه عند أبي داود. قوله: "فعاده ابن أبي عتيق" في رواية أبي بكر الأعين "فعاده أبو بكر بن أبي عتيق" وكذا قال سائر أصحاب عبد الله بن موسى إلا المنجنيقي فقال في روايته: "عن خالد بن سعد عن غالب بن أبجر عن أبي بكر الصديق عن عائشة" واختصر القصة، وبسياقها يتبين الصواب، قال الخطيب: وقوله في السند "عن غالب بن أبحر" وهم فليس لغالب فيه رواية، وإنما سمعه خالد مع غالب من أبي بكر بن أبي عتيق، قال وأبو بكر بن أبي عتيق هذا هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وأبو عتيق كنية أبيه محمد بن عبد الرحمن، وهو معدود في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوه وجده وجد أبيه صحابة مشهورون. قوله: "عليكم بهذه الحبيبة السويداء" كذا هنا بالتصغير فيهما إلا الكشميهني فقال: "السوداء" وهي رواية الأكثر ممن قدمت ذكره أنه أخرج الحديث. قوله: "فإن عائشة حدثتني أن هذه الحبة السوداء شفاء" وللكشميهني: "أن في هذه الحبة شفاء" كذا للأكثر. وفي رواية الأعين "هذه الحبة السوداء التي تكون في الملح" وكان هذا قد أشكل علي، ثم ظهر لي أنه يريد الكمون وكانت عادتهم جرت أن يخلط بالملح. قوله: "إلا من السام" بالمهملة بغير همز، ولابن ماجه: "إلا أن يكون الموت"، وفي هذا أن الموت داء من جملة الأدواء، قال الشاعر: "وداء الموت ليس له دواء" وقد تقدم توجيه إطلاق الداء على الموت في الباب الأول. قوله: "قلت وما السام؟ قال: الموت" لم أعرف اسم السائل ولا القائل، وأظن السائل خالد بن سعد والمجيب ابن أبي عتيق. وهذا الذي أشار إليه ابن أبي عتيق ذكره الأطباء في علاج الزكام العارض منه عطاس كثير وقالوا: تقلى الحبة السوداء ثم تدق ناعما ثم تنقع في زيت ثم يقطر منه في الأنف ثلاث قطرات، فلعل غالب بن أبجر كان مزكوما فلذلك وصف له ابن أبي عتيق الصفة المذكورة، وظاهر سياقه أنها موقوفة عليه، ويحتمل أن تكون عنده مرفوعة أيضا، فقد وقع في رواية الأعين عند الإسماعيلي بعد قوله من كل داء "وأقطروا عليها شيئا من الزيت" وفي رواية له أخرى "وربما قال وأقطروا الخ" وادعى الإسماعيلي أن هذه الزيادة مدرجة في الخبر، وقد أوضحت ذلك رواية ابن أبي شيبة؛ ثم وجدتها مرفوعة من حديث بريدة فأخرج المستغفري في "كتاب الطب" من طريق حسام بن مصك عن عبيد الله بن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الحبة السوداء فيها شفاء" الحديث، قال وفي لفظ: "قيل: وما الحبة السوداء؟ قال: الشونيز قال: وكيف أصنع بها؟ قال: تأخذ إحدى وعشرين حبة فتصرها في خرقة ثم تضعها في ماء ليلة، فإذا أصبحت قطرت في المنخر الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتين، فإذا كان من الغد قطرت في المنخر الأيمن اثنتين وفي الأيسر واحدة، فإذا كان اليوم الثالث قطرت في الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتين" ويؤخذ من ذلك أن معنى كون الحبة شفاء من كل داء أنها لا تستعمل في كل داء صرفا بل ربما استعملت مفردة، وربما استعملت مركبة، وربما استعملت مسحوقة وغير مسحوقة، وربما استعملت أكلا وشربا وسعوطا وضمادا وغير ذلك. وقيل أن قوله: "كل داء" تقديره يقبل العلاج بها، فإنها تنفع من الأمراض الباردة، وأما الحارة فلا. نعم قد تدخل في بعض الأمراض الحارة اليابسة بالعرض فتوصل قوى الأدوية الرطبة الباردة إليها بسرعة تنفيذها، ويستعمل

(10/144)


الحار في بعض الأمراض الحارة لخاصية فيه لا يستنكر كالعنزروت فإنه حار ويستعمل في أدوية الرمد المركبة، مع أن الرمد ورم حار باتفاق الأطباء، وقد قال أهل العلم بالطب: إن طبع الحبة السوداء حار يابس، وهي مذهبة للنفخ، نافعة من حمى الربع والبلغم، مفتحة للسدد والريح، مجففة لبلة المعدة، وإذا دقت وعجنت بالعسل وشربت بالماء الحار أذابت الحصاة وأدرت البول والطمث، وفيها جلاء وتقطيع، وإذا دقت وربطت بخرقة من كتان وأديم شمها نفع من الزكام البارد، وإذا نقع منها سبع حبات في لبن امرأة وسعط به صاحب اليرقان أفاده، وإذا شرب منها وزن مثقال بماء أفاد من ضيق النفس، والضماد بها ينفع من الصداع البارد، وإذا طبخت بخل وتمضمض بها نفعت من وجع الأسنان الكائن عن برد، وقد ذكر ابن البيطار وغيره ممن صنف في المفردات في منافعها هذا الذي ذكرته وأكثر منه. وقال الخطابي: قوله: "من كل داء" هو من العام الذي يراد به الخاص، لأنه ليس في طبع شيء من النبات ما يجمع جميع الأمور التي تقابل الطبائع في معالجة الأدواء بمقابلها، وإنما المراد أنها شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة. وقال أبو بكر بن العربي: العسل عند الأطباء أقرب إلى أن يكون دواء من كل داء من الحبة السوداء، ومع ذلك فإن من الأمراض ما لو شرب صاحبه العسل لتأذى به، فإن كان المراد بقوله في العسل "فيه شفاء للناس" الأكثر الأغلب فحمل الحبة السوداء على ذلك أولى. وقال غيره: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصف الدواء بحسب ما يشاهده من حال المريض، فلعل قوله في الحبة السوداء وافق مرض من مزاجه بارد، فيكون معني قوله: "شفاء من كل داء" أي من هذا الجنس الذي وقع القول فيه، والتخصيص بالحيثية كثير شائع والله أعلم. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: تكلم الناس في هذا الحديث وخصوا عمومه وردوه إلى قول أهل الطب والتجربة، ولا خفاء بغلط قائل ذلك، لأنا إذا صدقنا أهل الطب - ومدار علمهم غالبا إنما هو على التجربة التي بناؤها على ظن غالب - فتصديق من لا ينطق عن الهوى أولى بالقبول من كلامهم. انتهى. وقد تقدم توجيه حمله على عمومه بأن يكون المراد بذلك ما هو أعم من الإفراد والتركيب، ولا محذور في ذلك ولا خروج عن ظاهر الحديث، والله أعلم. قوله: "أخبرني أبو سلمة" هو ابن عبد الرحمن بن عوف. قوله: "وسعيد هو ابن المسيب" كذا في رواية عقيل، وأخرجه مسلم من وجهين اقتصر في كل منهما على واحد منهما، وأخرجه مسلم أيضا من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: "ما من داء إلا وفي الحبة السوداء منه شفاء إلا السام". قوله: "والحبة السوداء الشونيز" كذا عطفه على تفسير ابن شهاب للسام، فاقتضى ذلك أن تفسير الحبة السوداء أيضا له. والشونيز بضم المعجمة وسكون الواو وكسر النون وسكون التحتانية بعدها زاي. وقال القرطبي: قيد بعض مشايخنا الشين بالفتح وحكى عياض عن ابن الأعرابي أنه كسرها فأبدل الواو ياء فقال الشينيز، وتفسير الحبة السوداء بالشونيز لشهوة الشونيز عندهم إذ ذاك، وأما الآن فالأمر بالعكس، والحبة السوداء أشهر عند أهل هذا العصر من الشونيز بكثير، وتفسيرها بالشونيز هو الأكثر الأشهر وهي الكمون الأسود ويقال له أيضا الكمون الهندي. ونقل إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" عن الحسن البصري أنها الخردل، وحكى أبو عبيد الهروي في "الغريبين" أنها ثمرة البطم بضم الموحدة وسكون المهملة، واسم شجرتها الضرو بكسر المعجمة وسكون الراء. وقال الجوهري: هو صمغ شجرة تدعى الكمكام تجلب من اليمن، ورائحتها طيبة، وتستعمل في البخور. قلت: وليست المراد هنا جزما. وقال القرطبي: تفسيرها بالشونيز أولى من وجهين: أحدهما أنه قول الأكثر، والثاني كثرة منافعها بخلاف الخردل والبطم.

(10/145)


8 - باب التَّلْبِينَةِ لِلْمَرِيضِ
5689- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ وَكَانَتْ تَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ" .
5690- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينَةِ وَتَقُولُ هُوَ الْبَغِيضُ النَّافِعُ".
قوله: "باب التلبينة للمريض" هي بفتح المثناة وسكون اللام وكسر الموحدة بعدها تحتانية ثم نون ثم هاء، وقد يقال بلا هاء، قال الأصمعي: هي حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيه عسل قال غيره: أو لبن. سميت تلبينة تشبيها لها باللبن في بياضها ورقتها. وقال ابن قتيبة: وعلى قول من قال يخلط فيها لبن سميت بذلك لمخالطة اللبن لها. وقال أبو نعيم في الطب: هي دقيق بحت. وقال قوم: فيه شحم. وقال الداودي: يؤخذ العجين غير خمير فيخرج ماؤه فيجعل حسوا فيكون لا يخالطه شيء، فلذلك كثر نفعه. وقال الموفق البغدادي: التلبينة الحساء ويكون في قوام اللبن، وهو الدقيق النضيج لا الغليظ النيئ. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "حدثنا يونس بن يزيد عن عقيل" هو من رواية الأقران. وذكر النسائي فيما رواه أبو على الأسيوطي عنه أن عقيلا تفرد به عن الزهري. ووقع في الترمذي عقب حديث محمد بن السائب بن بركة عن أمه عن عائشة في التلبينة، وقد رواه الزهري عن عروة عن عائشة "حدثنا بذلك الحسين بن محمد حدثنا أبو إسحاق الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن يونس عن الزهري" قال المزي: كذا في النسخ ليس فيه عقيل. قلت: وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية نعيم بن حماد ومن رواية عبد الله بن سنان كلاهما عن ابن المبارك ليس فيه عقيل، وأخرجه أيضا من رواية علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك بإثباته، وهذا هو المحفوظ، وكأن من لم يذكر فيه عقيلا جرى على الجادة لأن يونس مكثر عن الزهري، وقد رواه عن عقيل أيضا الليث بن سعد وتقدم حديثه في كتاب الأطعمة. قوله: "أنها كانت تأمر بالتلبين" في رواية الإسماعيلي: "بالتلبينة" بزيادة الهاء. قوله: "للمريض وللمحزون" أي بصنعه لكل منهما، وتقدم في رواية الليث عن عقيل "إن عائشة كانت إذا مات الميت من أهلها ثم اجتمع لذلك النساء ثم تفرقن أمرت ببرمة تلبينة فطبخت ثم قالت: كلوا منها". قوله: "عليكم بالتلبينة" أي كلوها. قوله: "فإنها تجم" بفتح المثناة وضم الجيم وبضم أوله وكسر ثانيه وهما بمعنى، ووقع في رواية الليث "فإنها مجمة" بفتح الميم والجيم وتشديد الميم الثانية هذا هو المشهور، وروي بضم أوله وكسر ثانيه وهما بمعنى، يقال جم وأجم، والمعني أنها تريح فؤاده وتزيل عنه الهم وتنشطه، والجام بالتشديد المستريح، والمصدر الجمام والإجمام، ويقال جم الفرس وأجم إذا أريح فلم يركب فيكون أدعى لنشاطه. وحكى ابن بطال أنه روي تخم بخاء معجمة قال: والمخمة المكنسة. "حدثنا فروة" بفتح الفاء "ابن أبي المغراء" بفتح الميم وسكون المعجمة وبالمد هو الكندي الكوفي، واسم أبي المغراء معد يكرب وكنية فروة أبو القاسم، من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري ولم يكثر عنه. قوله: "أنها

(10/146)


كانت تأمرنا بالتلبينة وتقول: هو البغيض النافع" كذا فيه موقوفا، وقد حذف الإسماعيلي هذه الطريق وضاقت على أبي نعيم فأخرجها من طريق البخاري هذه عن فروة، ووقع عند أحمد وابن ماجه من طريق كلثم عن عائشة مرفوعا: "عليكم بالبغيض النافع التلبينة يعني الحساء " وأخرجه النسائي من وجه آخر عن عائشة وزاد: " والذي نفس محمد بيده إنها لتغسل بطن أحدكم كما يغسل أحدكم الوسخ عن وجهه بالماء" وله وهو عند أحمد والترمذي من طريق محمد بن السائب بن بركة عن أمه عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك أمر بالحساء فصنع، ثم أمرهم فحسوا منه ثم قال: إنه يرتو فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم، كما تسرو إحداكن الوسخ عن وجهها بالماء" . ويرتو بفتح أوله وسكون الراء وضم المثناة ويسرو وزنه بسين مهملة ثم راء، ومعني يرتو يقوي ومعنى يسرو يكشف، والبغيض بوزن عظيم من البغض أي يبغضه المريض مع كونه ينفعه كسائر الأدوية. وحكى عياض أنه وقع في رواية أبي زيد المروزي بالنون بدل الموحدة، قال: ولا معني له هنا. قال الموفق البغدادي: إذا شئت معرفة منافع التلبينة فاعرف منافع ماء الشعير ولا سيما إذا كان نخالة، فإنه يجلو وينفذ بسرعة ويغذي غذاء لطيفا، وإذا شرب حارا كان أجلى وأقوى نفوذا وأنمى للحرارة الغريزية. قال: والمراد بالفؤاد في الحديث رأس المعدة فإن فؤاد الحزين يضعف باستيلاء اليبس على أعضائه وعلى معدته خاصة لتقليل الغذاء، والحساء يرطبها ويغذيها ويقويها، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض، لكن المريض كثيرا ما يجتمع في معدته خلط مراري أو بلغمي أو صديدي، وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة. قال: وسماه البغيض النافع لأن المريض يعافه وهو نافع له، قال: ولا شيء أنفع من الحساء لمن يغلب عليه في غذائه الشعير، وأما من يغلب على غذائه الحنطة فالأولى به في مرضه حساء الشعير. وقال صاحب "الهدى": التلبينة أنفع من الحساء لأنها تطبخ مطحونة فتخرج خاصة الشعير بالطحن، وهي أكثر تغذية وأقوى فعلا وأكثر جلاء، وإنما اختار الأطباء النضيج لأنه أرق وألطف فلا يثقل على طبيعة المريض. وينبغي أن يختلف الانتفاع بذلك بحسب اختلاف العادة في البلاد، ولعل اللائق بالمريض ماء الشعير إذا طبخ صحيحا، وبالحزين إذا طبخ مطحونا، لما تقدمت الإشارة من الفرق بينهما في الخاصية والله أعلم.

(10/147)


9 - باب السَّعُوطِ
5691- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَاسْتَعَطَ".
قوله: "باب السعوط" بمهملتين: ما يجعل في الأنف مما يتداوى به. قوله: "واستعط" أي استعمل السعوط وهو أن يستلقي على ظهره ويجعل بين كتفيه ما يرفعهما لينحدر رأسه ويقطر في أنفه ماء أو دهن فيه دواء مفرد أو مركب، ليتمكن بذلك من الوصول إلى دماغه لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس، وسيأتي ذكر ما يستعط به في الباب الذي يليه. وأخرج الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس رفعه: "أن خير ما تداويتم به السعوط".

(10/147)


10 - باب السَّعُوطِ بِالْقُسْطِ الْهِنْدِيِّ وَالْبَحْرِيِّ
وَهُوَ الْكُسْتُ مِثْلُ الْكَافُورِ وَالْقَافُورِ مِثْلُ كُشِطَتْ وَقُشِطَتْ نُزِعَتْ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ قُشِطَتْ
5692- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ قَالَتْ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ يُسْتَعَطُ بِهِ مِنْ الْعُذْرَةِ وَيُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ".
[الحديث 5692 – أطرافه في: 5713، 5715، 5718]
5693- "وَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنٍ لِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَيْهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّ عَلَيْهِ".
قوله: "باب السعوط بالقسط الهندي والبحري" قال أبو بكر بن العربي القسط نوعان: هندي وهو أسود، وبحري وهو أبيض، والهندي أشدهما حرارة. قوله: "وهو الكست" يعني أنه يقال بالقاف وبالكاف، ويقال بالطاء وبالمثناة، وذلك لقرب كل من المخرجين بالآخر، وعلى هذا أيضا مع القاف بالمثناة ومع الكاف بالطاء، وقد تقدم في حديث أم عطية عند الطهر من الحيض "نبذة من الكست" وفي رواية عنها "من قسط" ومضى للمصنف في ذلك كلام في "باب القسط للحادة". قوله: "مثل الكافور والقافور" تقدم هذا في "باب القسط للحادة". قوله: "ومثل كشطت وقشطت، وقرأ عبد الله قشطت" زاد النسفي "أي نزعت" يريد أن عبد الله بن مسعود قرأ: {وَإِذَا السَّمَاءُ قُشِطَتْ} بالقاف ولم تشتهر هذه القراءة، وقد وجدت سلف البخاري في هذا: فقرأت في كتاب "معاني القرآن، للفراء" في قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} قال يعني نزعت، وفي قراءة عبد الله قشطت بالقاف والمعنى واحد، والعرب تقول: الكافور والقافور والقشط والكشط وإذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في المخرج هكذا رأيته في نسخة جيدة منه "الكشط" بالكاف والطاء والله أعلم. قوله: "عن عبيد الله" سيأتي بلفظ: "أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة". قوله: "عن أم قيس بنت محصن" وقع عند مسلم التصريح بسماعه له منها، وسيأتي أيضا قريبا. قوله: "عليكم بهذا العود الهندي " كذا وقع هنا مختصرا، ويأتي بعد أبواب في أوله قصة "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لي وقد أعلقت عليه من العذرة فقال: عليكن بهذا العود الهندي". وأخرج أحمد وأصحاب السنن من حديث جابر مرفوعا: "أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه فلتأخذ قسطا هنديا فتحكه بماء ثم تسعطه إياه" وفي حديث أنس الآتي بعد بابين "إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري" وهو محمول على أنه وصف لكل ما يلائمه، فحيث وصف الهندي كان لاحتياج في المعالجة إلى دواء شديد الحرارة، وحيث وصف البحري كان دون ذلك في الحرارة، لأن الهندي كما تقدم أشد حرارة من البحري. وقال ابن سينا: القسط حار في الثالثة يابس في الثانية. قوله: "فإن فيه سبعة أشفية" جمع شفاء كدواء وأدوية. قوله: "يسعط به من العذرة، ويلد به من ذات الجنب" كذا وقع الاقتصار في الحديث من السبعة على اثنين، فأما أن يكون ذكر السبعة فاختصره الراوي أو اقتصر على الاثنين لوجودهما حينئذ دون غيرهما، وسيأتي ما يقوي الاحتمال الثاني. وقد ذكر الأطباء من منافع القسط أنه يدر الطمث والبول ويقتل ديدان الأمعاء ويدفع السم وحمى الربع والورد ويسخن المعدة ويحرك شهوة الجماع ويذهب الكلف طلاء، فذكروا أكثر من سبعة، وأجاب بعض الشراح بأن السبعة علمت بالوحي وما زاد عليها

(10/148)


بالتجربة، فاقتصر على ما هو بالوحي لتحققه وقيل ذكر ما يحتاج إليه دون غيره لأنه لم يبعث بتفاصيل ذلك قلت: ويحتمل أن تكون السبعة أصول صفة التداوي بها؛ لأنها إما طلاء أو شرب أو تكميد أو تنطيل أو تبخير أو سعوط أو لدود؛ فالطلاء يدخل في المراهم ويحلى بالزيت ويلطخ، وكذا التكميد، والشرب يسحق ويجعل في عسل أو ماء أو غيرهما، وكذا التنطيل، والسعوط يسحق في زيت ويقطر في الأنف، وكذا الدهن، والتبخير واضح، وتحت كل واحدة من السبعة منافع لأدواء مختلفة ولا يستغرب ذلك ممن أوتي جوامع الكلم. وأما العذرة فهي بضم المهملة وسكون المعجمة وجع في الحلق يعتري الصبيان غالبا، وقيل هي قرحة تخرج بين الأذن والحلق أو في الخرم الذي بين الأنف والحلق، قيل سميت بذلك لأنها تخرج غالبا عند طلوع العذرة؛ وهي خمسة كواكب تحت الشعري العبور، ويقال لها أيضا العذاري، وطلوعها يقع وسط الحر. وقد استشكل معالجتها بالقسط مع كونه حارا والعذرة إنما تعرض في زمن الحر بالصبيان وأمزجتهم حارة ولا سيما وقطر الحجاز حار، وأجيب بأن مادة العذرة دم يغلب عليه البلغم، وفي القسط تخفيف للرطوبة. وقد يكون نفعه في هذا الدواء بالخاصية، وأيضا فالأدوية الحارة قد تنفع في الأمراض الحارة بالعرض كثيرا، بل وبالذات أيضا. وقد ذكر ابن سينا في معالجة سعوط اللهاة القسط مع الشب اليماني وغيره. على أننا لو لم نجد شيئا من التوجيهات لكان أمر المعجزة خارجا عن القواعد الطبية. وسيأتي بيان ذات الجنب في "باب اللدود" وفيه شرح بقية حديث أم قيس هذا. وقولها "ودخلت على النبي صلى الله عليه وسلم بابن لي" تقدم مطولا في الطهارة، وهو حديث آخر لأم قيس وقع ذكره هنا استطرادا، والله أعلم.

(10/149)


11 - باب أَيَّ سَاعَةٍ يَحْتَجِمُ؟ وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلاً
5694- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ".
قوله: "باب أية ساعة يحتجم" في رواية الكشميهني: "أي ساعة" بلا هاء، والمراد بالساعة في الترجمة مطلق الزمان لا خصوص الساعة المتعارفة. قوله: "واحتجم أبو موسى ليلا" تقدم موصولا في كتاب الصيام، وفيه أن امتناعه من الحجامة نهارا كان بسبب الصيام لئلا يدخله خلل، وإلى ذلك ذهب مالك فكره الحجامة للصائم لئلا يغرر بصومه، لا لكون الحجامة تفطر الصائم. وقد تقدم البحث في حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" هناك وورد في الأوقات اللائقة بالحجامة أحاديث ليس فيها شيء على شرطه، فكأنه أشار إلى أنها تصنع عند الاحتياج ولا تتقيد بوقت دون وقت، لأنه ذكر الاحتجام ليلا. ذكر حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" وهو يقتضي كون ذلك وقع منه نهارا، وعند الأطباء أن أنفع الحجامة ما يقع في الساعة الثانية أو الثالثة، وأن لا يقع عقب استفراغ عن جماع أو حمام أو غيرهما ولا عقب شبع ولا جوع. وقد ورد في تعيين الأيام للحجامة حديث لابن عمر عند ابن ماجه رفعه في أثناء حديث وفيه: "فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء؛ واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء والجمعة والسبت والأحد" أخرجه من طريقين ضعيفين، وله طريق ثالثة ضعيفة أيضا عند الدار قطني في "الأفراد" وأخرجه بسند جيد عن ابن عمر موقوفا، ونقل الخلال عن أحمد أنه كره الحجامة في الأيام المذكورة وأن الحديث لم يثبت، وحكى أن رجلا احتجم يوم الأربعاء فأصابه برص

(10/149)


لكونه تهاون بالحديث. وأخرج أبو داود من حديث أبي بكرة أنه كان يكره الحجامة يوم الثلاثاء وقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوم الثلاثاء يوم الدم، وفيه ساعة لا يرقأ فيها" . وورد في عدد من الشهر أحاديث: منها ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رفعه: "من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء" وهو من رواية سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن سهيل بن أبي صالح، وسعيد وثقه الأكثر ولينه بعضهم من قبل حفظه. وله شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي ورجاله ثقات، لكنه معلول. وشاهد آخر من حديث أنس عند ابن ماجه، وسنده ضعيف. وهو عند الترمذي من وجه آخر عن أنس لكن من فعله صلى الله عليه وسلم، ولكون هذه الأحاديث لم يصح منها شيء قال حنبل بن إسحاق: كان أحمد يحتجم أي وقت هاج به الدم وأي ساعة كانت. وقد اتفق الأطباء على أن الحجامة في النصف الثاني من الشهر ثم في الربع الثالث من أرباعه أنفع من الحجامة في أوله وآخره، قال الموفق البغدادي: وذلك أن الأخلاط في أول الشهر تهيج وفي آخره تسكن، فأولى ما يكون الاستفراغ في أثنائه. والله أعلم.

(10/150)


12 - باب الْحَجْمِ فِي السَّفَرِ وَالإِحْرَامِ، قَالَهُ ابْنُ بُحَيْنَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5695- حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو عن طاوس وعطاء عن بن عباس قال: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم".
قوله: "باب الحجم في السفر والإحرام، قاله ابن بحينة عن النبي صلى الله عليه وسلم" كأنه يشير إلى ما أورده في الباب الذي يليه موصولا عن عبيد الله بن بحينة "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في طريق مكة" وقد تبين في حديث ابن عباس أنه كان حينئذ محرما، فانتزعت الترجمة من الحديثين معا، على أن حديث ابن عباس وحده كاف في ذلك، لأن من لازم كونه صلى الله عليه وسلم كان محرما أن يكون مسافرا، لأنه لم يحرم قط وهو مقيم. وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بحجامة المحرم في كتاب الحج، وأما الحجامة للمسافر فعلى ما تقدم أنها تفعل عند الاحتياج إليها من هيجان الدم ونحو ذلك فلا يختص ذلك بحالة دون حالة، والله أعلم.

(10/150)


13 - باب الْحِجَامَةِ مِنْ الدَّاءِ
5696- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَجْرِ الْحَجَّامِ فَقَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفُوا عَنْهُ وَقَالَ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ وَقَالَ لاَ تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ مِنْ الْعُذْرَةِ وَعَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ" .
5697- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو وَغَيْرُهُ أَنَّ بُكَيْراً حَدَّثَهُ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَادَ الْمُقَنَّعَ ثُمَّ قَالَ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى تَحْتَجِمَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ فِيهِ شِفَاءً" .

(10/150)


14 - باب الْحِجَامَةِ عَلَى الرَّأْسِ
5698- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ بُحَيْنَةَ يُحَدِّثُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ".
5699- وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فِي رَأْسِهِ".
قوله: "باب الحجامة على الرأس" ورد في فضل الحجامة في الرأس حديث ضعيف أخرجه ابن عدي من طريق عمر بن رباح عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رفعه: "الحجامة في الرأس تنفع من سبع: من الجنون والجذام والبرص والنعاس والصداع ووجع الضرس والعين". وعمر متروك رماه الفلاس وغيره بالكذب، ولكن قال الأطباء: إن الحجامة في وسط الرأس نافعة جدا، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلها كما في أول حديثي الباب وآخرهما وإن كان مطلقا فهو مقيد بأولهما، وورد أنه صلى الله عليه وسلم احتجم أيضا في الأخدعين والكاهل أخرجه الترمذي وحسنه وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم. قال أهل العلم بالطب: فصد الباسليق ينفع حرارة الكبد والطحال والرئة ومن الشوصة وذات الجنب وسائر الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك، وفصد الأكحل ينفع الامتلاء العارض في جميع البدن إذا كان دمويا ولا سيما إن كان فسد، وفصد القيفال ينفع من علل الرأس والرقبة إذا كثر الدم أو فسد، وفصد الودجين لوجع الطحال والربو ووجه الجنبين، والحجامة على الكاهل تنفع من وجه المنكب والحلق وتنوب عن فصد الباسليق، والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه كالأذنين والعينين والأسنان والأنف والحلق وتنوب عن فصد القيفال، والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم وتنقي الرأس، والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصد الصافن وهو عرق عند الكعب وتنفع من قروح الفخذين والساقين وانقطاع الطمث والحكة العارضة في الأنثيين، والحجامة على أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ وجربه وبثوره ومن النقرس والبواسير وداء الفيل وحكة الطهر، ومحل ذلك كله إذا كان عن دم هائج وصادفه وقت الاحتياج إليه، والحجامة على المقعدة تنقع الأمعاء وفساد الحيض. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وسليمان هو ابن بلال، وعلقمة هو ابن أبي علقمة، والسند كله مدنيون، وقد تقدم بيان حاله في أبواب المحصر في الحج. قوله: "احتجم بلحمه جمل" كذا وقع بالتثنية وتقدم بلفظ الإفراد واللام مفتوحة ويجوز كسرها، وجمل بفتح الجيم والميم، قال ابن وضاح: هي بقعة معروفة وهي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا، وزعم بعضهم أنه الآلة التي احتجم بها أي احتجم بعظم جمل، والأول المعتمد، وسأذكر في حديث ابن عباس التصريح بقصة ذلك. قوله: "في وسط رأسه" بفتح السين المهملة ويجوز تسكينها، وتقدم بيانه

(10/152)


في كتاب الحج وقول من فرق بينهما. قوله: "وقال الأنصاري" وصله الإسماعيلي قال: "حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا عبيد الله بن فضالة حدثنا محمد بن عبد الأنصاري" فذكره بلفظ: "احتجم احتجامة في رأسه" ووصله البيهقي من طريق أبي حاتم الرازي حدثنا الأنصاري بلفظ: "احتجم وهو محرم من صداع كان به أو داء، واحتجم فيما يقال له لحي جمل" وهكذا أخرجه أحمد عن الأنصاري، وسيأتي في الباب الذي بعده في حديث ابن عباس بلفظ: "بما يقال له لحي جمل".

(10/153)


15 - باب الْحِجَامَةِ مِنْ الشَّقِيقَةِ وَالصُّدَاعِ
5700- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ لُحْيُ جَمَلٍ".
5701- وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ".
5702- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ قَالَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ لَذْعَةٍ مِنْ نَارٍ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ" .
قوله: "باب الحجامة من الشقيقة والصداع" أي بسببهما، وقد سقطت هذه الترجمة من رواية النسفي، وأورد ما فيها في الذي قبله، وهو متجه. والشقيقة بشين معجمة وقافين وزن عظيمة: وجع يأخذ في أحد جانبي الرأس أو في مقدمه، وذكر أهل الطب أنه من الأمراض المزمنة، وسببه أبخرة مرتفعة أو أخلاط حارة أو باردة ترتفع إلى الدماغ، فإن لم تجد منفذا أحدث الصداع، فإن مال إلى أحد شقي الرأس أحدث الشقيقة، وإن ملك قمة الرأس أحدث داء البيضة. وذكر الصداع بعده من العام بعد الخاص. وأسباب الصداع كثيرة جدا: منها ما تقدم، ومنها ما يكون عن ورم في المعدة أو في عروقها، أو ريح غليظة فيها أو لامتلائها، ومنها ما يكون من الحركة العنيفة كالجماع والقيء والاستفراغ أو السهر أو كثرة الكلام، ومنها ما يحدث عن الأغراض النفسانية كالهم والغم والحزن والجوع والحمى، ومنها ما يحدث عن حادث في الرأس كضربة تصيبه، أو ورم في صفاق الدماغ، أو حمل شيء ثقيل يضغط الرأس، أو تسخينه بلبس شيء خارج عن الاعتدال، أو تبريده بملاقاة الهواء أو الماء في البرد. وأما الشقيقة بخصوصها فهي في شرايين الرأس وحدها، وتختص بالموضع الأضعف من الرأس؛ وعلاجها بشد العصابة وقد أخرج أحمد من حديث بريدة "أنه صلى الله عليه وسلم كان ربما أخذته الشقيقة؛ فيمكث اليوم واليومين لا يخرج" الحديث. وتقدم في الوفاة النبوية حديث ابن عباس "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عصب رأسه". "عن هشام" هو ابن حسان، وقوله: "من وجع" كان قد بينه في الرواية التي بعد. قوله: "وقال محمد بن سواء" بمهملة ومد هو السدوسي، واسم جده عنبر بمهملة ونون وموحدة؛ بصري يكني أبا الخطاب، ما له في البخاري

(10/153)


سوى حديث موصول مضى في المناقب؛ وآخر يأتي في الأدب وهذا المعلق، وقد وصله الإسماعيلي قال: "حدثنا أبو يعلي حدثنا محمد بن عبد الله الأزدي حدثنا محمد بن سواء" فذكره سواء. وقد اتفقت هذه الطرق عن ابن عباس أنه احتجم صلى الله عليه وسلم وهو محرم في رأسه، ووافقها حديث ابن بحينة، وخالف ذلك حديث أنس: فأخرج أبو داود والترمذي في "الشمائل" والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق معمر عن قتادة عنه قال، احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به، ورجاله رجال الصحيح؛ إلا أن أبا داود حكى عن أحمد أن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة فأرسله، وسعيد أحفظ من معمر، وليست هذه بعلة قادحة، والجمع بين حديثي ابن عباس وأنس واضح بالحمل على التعدد؛ أشار إلى ذلك الطبري. وفي الحديث أيضا جواز الحجامة للمحرم وأن إخراجه الدم لا يقدح في إحرامه، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الحج، وحاصله أن المحرم إن احتجم وسط رأسه لعذر جاز مطلقا، فإن قطع الشعر وجبت عليه الفدية، فإن احتجم لغير عذر وقطع حرم؛ والله أعلم. قوله: "حدثنا إسماعيل بن أبان" هو الوراق الأزدي الكوفي أبو إسحاق - أو أبو إبراهيم - من كبار شيوخ البخاري. وهو صدوق، تكلم فيه الجوزجاني لأجل التشيع، قال ابن عدي: وهو مع ذلك صدوق. وفي عصره إسماعيل بن أبان آخر يقال له الغنوي، قال ابن معين: الغنوي كذاب والوراق ثقة. وقال ابن المديني: الوراق لا بأس به والغنوي كتبت عنه وتركته، وضعفه جدا. وكذا فرق بينهما أحمد وعثمان بن أبي شيبة وجماعة، وغفل من خلطهما. وكانت وفاة الغنوي قبل الوراق بست سنين، والله أعلم. قوله: "حدثنا ابن الغسيل" هو عبد الرحمن بن سليمان، تقدم شرح حاله قريبا.

(10/154)


16 - باب الْحَلْقِ مِنْ الأَذَى
5703- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِداً عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبٍ هُوَ ابْنُ عُجْرَةَ قَالَ: "أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ بُرْمَةٍ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَنْ رَأْسِي فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَاحْلِقْ وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةً أَوْ انْسُكْ نَسِيكَةً" قَالَ أَيُّوبُ: لاَ أَدْرِي بِأَيَّتِهِنَّ بَدَأَ.
قوله: "باب الحلق من الأذى" أي حلق شعر الرأس وغيره. ذكر فيه حديث كعب بن عجرة في حلق رأسه وهو محرم بسبب كثرة القمل، مضى شرحه مستوفى في كتاب الحج، وكأنه أورده عقب حديث الحجامة وسط الرأس للإشارة إلى أن جواز حلق الشعر للمحرم لأجل الحجامة عند الحاجة إليها يستنبط من جواز حلق جميع الرأس للمحرم عند الحاجة.

(10/154)


17 - باب مَنْ اكْتَوَى أَوْ كَوَى غَيْرَهُ وَفَضْلِ مَنْ لَمْ يَكْتَوِ
5704- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ جَابِراً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ

(10/154)


18 - باب الإِثْمِدِ وَالْكُحْلِ مِنْ الرَّمَدِ. فِيهِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ
5706- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا فَذَكَرُوهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرُوا لَهُ الْكُحْلَ وَأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى عَيْنِهَا فَقَالَ لَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي بَيْتِهَا فِي شَرِّ أَحْلاَسِهَا أَوْ فِي أَحْلاَسِهَا فِي شَرِّ بَيْتِهَا فَإِذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بَعْرَةً فَهَلاَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ".
قوله: "باب الإثمد والكحل من الرمد" أي بسب الرمد، والرمد بفتح الراء والميم: ورم حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين وهو بياضها الظاهر، وسببه انصباب أحد الأخلاط أو أبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ فإن اندفع إلى الخياشيم أحدث الزكام، أو إلى العين أحدث الرمد، أو إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخنان بالخاء المعجمة والنون، أو إلى الصدر أحدث النزلة، أو إلى القلب أحدث الشوصة، وإن لم ينحدر وطلب نفاذا فلم يجد أحدث الصداع كما تقدم. قوله: "فيه عن أم عطية" يشير إلى حديث أم عطية مرفوعا: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد فوق ثلاث إلا على زوج" فإنها لا تكتحل، وقد تقدم في أبواب العدة، لكن لم أر في شيء من طرقه ذكر الإثمد، فكأنه ذكره لكون العرب غالبا إنما تكتحل به، وقد ورد التنصيص عليه في حديث ابن عباس رفعه: "اكتحلوا بالإثمد، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر" أخرجه الترمذي وحسنه واللفظ له، وابن ماجه وصححه ابن حبان، وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس في "الشمائل" وفي الباب عن جابر عند الترمذي في "الشمائل" وابن ماجه وابن عدي من ثلاث طرق عن ابن المنكدر عنه بلفظ: "عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر" وعن علي عند ابن أبي عاصم والطبراني ولفظه: "عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر، مذهبة للقذى، مصفاة للبصر" وسنده حسن، وعن ابن عمر بنحوه عند الترمذي في "الشمائل" وعن أنس في "غريب مالك" للدار قطني بلفظ: "كان يأمرنا بالإثمد" وعن سعيد بن هوذة عند أحمد بلفظ: "اكتحلوا بالإثمد فإنه" الحديث، وهو عند أبي داود من حديثه بلفظ: "إنه أمر بالإثمد المروح عند النوم" وعن أبي هريرة بلفظ: "خير أكحالكم الإثمد فإنه" الحديث أخرجه البزار وفي سنده مقال، وعن أبي رافع "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد" أخرجه البيهقي وفي سنده مقال، وعن عائشة "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثمد يكحل به عند منامه في كل عين ثلاثا" أخرجه أبو الشيخ في كتاب "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" بسند ضعيف، والإثمد بكسر الهمزة والميم بينهما ثاء مثلثة ساكنة وحكي فيه

(10/157)


ضم الهمزة: حجر معروف أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز وأجوده يؤتى به من أصبهان، واختلف هل هو اسم الحجر الذي يتخذ منه الكحل أو هو نفس الكحل؟ ذكره ابن سيده وأشار إليه الجوهري. وفي هذه الأحاديث استحباب الاكتحال بالإثمد ووقع الأمر بالاكتحال وترا من حديث أبي هريرة في "سنن أبي داود" ووقع في بعض الأحاديث التي أشرت إليها كبقية الاكتحال، وحاصله ثلاثا في كل عين، فيكون الوتر في كل واحدة على حدة، أو اثنتين في كل عين وواحدة بينهما، أو في اليمين ثلاثا وفي اليسرى ثنتين فيكون الوتر بالنسبة لهما جميعا وأرجحها الأول والله أعلم. ثم ذكر المصنف حديث أم سلمة من رواية زينب وهي بنتها عنها "أن امرأة توفي زوجها فاشتكت عينها، فذكروها للنبي صلى الله عليه وسلم وذكروا له الكحل وأنه يخاف على عينها" الحديث، وقد مرت مباحثه في أبواب الإحداد. وأما قوله في آخره: "فلا، أربعة أشهر وعشرا" كذا للأكثر وعند الكشميهني: "فهلا أربعة أشهر وعشرا" وهي واضحة، وأما الاقتصار على حرف النهي فالمنفي مقدر كأنه قال: فلا تكتحل، ثم قال: تمكث أربعة أشهر وعشرا.

(10/158)


19 - باب الْجُذَامِ
5707- وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الأَسَدِ"
[الحديث 5707 – أطرافه في: 5717، 5757، 5770، 5773، 5775]
قوله: "باب الجذام" بضم الجيم وتخفيف المعجمة، هو علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله فتفسد مزاج الأعضاء، وربما أفسد في آخره إيصالها حتى يتأكل. قال ابن سيده: سمي بذلك لتجذم الأصابع وتقطعها. قوله: "وقال عفان" هو ابن مسلم الصفار. وهو من شيوخ البخاري لكن أكثر ما يخرج عنه بواسطة، وهو من المعلقات التي لم يصلها في موضع آخر، وقد جزم أبو نعيم أنه أخرجه عنه بلا رواية، وعلى طريقة ابن الصلاح يكون موصولا. وقد وصله أبو نعيم من طريق أبي داود الطيالسي وأبي قتيبة مسلم بن قتيبة كلاهما عن سليم بن حيان شيخ عفان فيه، وأخرجه أيضا من طريق عمرو بن مرزوق عن سليم لكن موقوفا ولم يستخرجه الإسماعيلي. وقد وصله ابن خزيمة أيضا. وسليم بفتح أوله وكسر ثانيه، وحيان بمهملة ثم تحتانية ثقيلة. قوله: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر" كذا جمع الأربعة في هذه الرواية، ويأتي مثله سواء بعد عدة أبواب في "باب لا هامة" من طريق أبي صالح عن أبي هريرة، ويأتي بعد خمسة أبواب من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة مثله لكن بدون قوله: "ولا طيرة" وأعاده بعد أبواب كثيرة بزيادة قصة، وبعد عدة أبواب في "باب لا طيرة" من طريق عبيد الله بن عتبة عن أبي هريرة "لا طيرة" حسب، وفي "باب لا عدوى" من طريق سنان بن أبي سنان عن أبي هريرة بلفظ: "لا عدوى" حسب، ولمسلم من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ: "لا عدوى ولا هامة ولا طيرة". وأخرج مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثل رواية أبي سلمة وزاد: "ولا نوء" ويأتي في "باب لا عدوى" من حديث ابن عمر، ومن حديث أنس "لا عدوى ولا طيرة"، ولمسلم وابن حيان من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا بلفظ: "لا عدوى ولا صفر ولا غول" وأخرج

(10/158)


ابن حبان من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس مثل رواية سعيد بن ميناء وأبي صالح عن أبي هريرة وزاد فيه القصة التي في رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وهو في ابن ماجه باختصار. فالحاصل من ذلك ستة أشياء: العدوى والطيرة والهامة والصفر والغول والنوء، والأربعة الأول قد أفرد البخاري لكل واحد منها ترجمة فنذكر شرحها فيه وأما الغول فقال الجمهور: كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من الشياطين تتراءى للناس وتتغول لهم تغولا أي تتلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم، وقد كثر في كلامهم "غالته الغول" أي أهلكته أو أضلته، فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك. وقيل: ليس المراد إبطال وجود الغيلان، وإنما معناه إبطال ما كانت العرب تزعمه من تلون الغول بالصور المختلفة، قالوا: والمعنى لا يستطيع الغول أن يضل أحدا. ويؤيده حديث: "إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان" أي ادفعوا شرها بذكر الله. وفي حديث أبي أيوب عند قوله: "كانت لي سهوة فيها تمر، فكانت الغول تجيء فتأكل منه" الحديث. وأما النوء فقد تقدم القول فيه في كتاب الاستسقاء، وكانوا يقولون "مطرنا بنوء كذا" فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك بأن المطر إنما يقع بإذن الله لا بفعل الكواكب، وإن كانت العادة جرت بوقوع المطر في ذلك الوقت، لكن بإرادة الله تعالى وتقديره، لا صنع للكواكب في ذلك، والله أعلم. قوله: " وفر من المجذوم كما تفر من الأسد" لم أقف عليه من حديث أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ومن وجه آخر عند أبي نعيم في الطب، لكنه معلول. وأخرج ابن خزيمة في "كتاب التوكل" له شاهدا من حديث عائشة ولفظه: " لا عدوى، وإذا رأيت المجذوم ففر منه كما تفر من الأسد" وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد الثقفي عن أبيه قال: "كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد بايعناك، فارجع" قال عياض: اختلفت الآثار في المجذوم، فجاء ما تقدم عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع مجذوم وقال: ثقة بالله وتوكلا عليه" قال فذهب عمر وجماعة من السلف إلى الأكل معه ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ. وممن قال بذلك عيسى بن دينار من المالكية، قال: والصحيح الذي عليه الأكثر ويتعين المصير إليه أن لا نسخ، بل يجب الجمع بين الحديثين وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط، والأكل معه على بيان الجواز. اهـ. هكذا اقتصر القاضي ومن تبعه على حكاية هذين القولين، وحكى غيره قولا ثالثا وهو الترجيح، وقد سلكه فريقان: أحدهما سلك ترجيح الأخبار الدالة على نفي العدوى وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك مثل حديث الباب فأعلوه بالشذوذ، وبأن عائشة أنكرت ذلك، فأخرج الطبري عنها "أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: لا عدوى. وقال: فمن أعدى الأول؟ قالت: وكان لي مولى به هذا الداء فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي" وبأن أبا هريرة تردد في هذا الحكم كما سيأتي بيانه فيؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفي العدوى كثيرة شهيرة بخلاف الأخبار المرخصة في ذلك، ومثل حديث: "لا تديموا النظر إلى المجذومين" وقد أخرجه ابن ماجه وسنده ضعيف، ومثل حديث عبد الله بن أبي أوفى رفعه: "كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمحين" أخرجه أبو نعيم في الطب بسند واه، ومثل ما أخرجه الطبري من طريق معمر عن الزهري "أن عمر قال لمعيقيب: اجلس مني قيد رمح" ومن طريق خارجة بن زيد كان عمر يقول نحوه، وهما أثران منقطعان، وأما حديث الشريد الذي أخرجه مسلم فليس صريحا في أن ذلك بسبب الجذام، والجواب عن ذلك أن طريق الترجيح لا يصار إليها إلا مع تعذر الجمع، وهو ممكن، فهو أولى. الفريق الثاني سلكوا في الترجيح عكس

(10/159)


هذا المسلك، فردوا حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه إما لشكه فيه وإما لثبوت عكسه عنده كما سيأتي إيضاحه في "باب لا عدوى" قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج وأكثر طوقا فالمصير إليها أولى، قالوا: وأما حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال: كل ثقة بالله وتوكلا عليه" ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي وبين الاختلاف فيه على راويه ورجح وقفه على عمر، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، قاله الكلاباذي في "معاني الأخبار". والجواب أن طريق الجمع أولى كما تقدم، وأيضا فحديث لا عدوى ثبت من غير طريق أبي هريرة فصح عن عائشة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وجابر وغيرهم، فلا معنى لدعوى كونه معلولا، والله أعلم. وفي طريق الجمع مسالك أخرى: أحدها: نفي العدوى جملة وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم، لأنه إذا رأى الصحيح البدن السليم من الآفة تعظم مصيبته وتزداد حسرته، ونحوه حديث: "لا تديموا النظر إلى المجذومين" فإنه محمول على هذا المعنى. ثانيها: حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء "لا عدوى" كان المخاطب بذلك من قوي يقينه وصح توكله بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا مثل ما تدفع قوة الطبيعة العلة فتبطلها، وعلى هذا يحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة وسائر ما ورد من جنسه، وحيث جاء "فر من المجذوم" كان المخاطب بذلك من ضعف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل فلا يكون له قوة على دفع اعتقاد العدوى، فأريد بذلك سد باب اعتقاد العدوى عنه بأن لا يباشر ما يكون سببا لإثباتها. وقريب من هذا كراهيته صلى الله عليه وسلم الكي مع إذنه فيه كما تقدم تقريره، وقد فعل هو صلى الله عليه وسلم كلا من الأمرين ليتأسى به كل من الطائفتين. ثالث المسالك: قال القاضي أبو بكر الباقلاني: إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى، قال: فيكون معني قوله: "لا عدوى" أي إلا من الجذام والبرص والجرب مثلا، قال: فكأنه قال لا يعدي شيء شيئا إلا ما تقدم تبييني له أن فيه العدوى. وقد حكى ذلك ابن بطال. رابعها: أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعي وهو انتقال الداء من جسد لجسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشم الرائحة، ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، وهذه طريقة ابن قتيبة فقال: المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ومضاجعته، وكذا يقع كثيرا بالمرأة من الرجل وعكسه، وينزع الولد إليه، ولهذا يأمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم لا على طريق العدوى بل على طريق التأثر بالرائحة لأنها تسقم من واظب اشتمامها، قال: ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يورد ممرض على مصح" لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حككها وأوى إلى مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو ما به. قال: وأما قوله: "لا عدوى" فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكان كالطاعون فيفر منه مخافة أن يصيبه، لأن فيه نوعا من الفرار من قدر الله. المسلك الخامس: أن المراد ينفي العدوى أن شيئا لا يعدي بطبعه نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا، وإن

(10/160)


شاء أبقاها فأثرت، ويحتمل أيضا أن يكون أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في العادة، إذا ليس الجذمي كلهم سواء، ولا تحصل العدوى من جميعهم بل(1) لا يحصل منه في العادة عدوى أصلا كالذي أصابه شيء من ذلك ووقف فلم يعد بقية جسمه فلا يعدي. وعلى الاحتمال الأول جرى أكثر الشافعية، قال البيهقي بعد أن أورد قول الشافعي ما نصه: الجذام والبرص يزعم أهل العلم بالطب والتجارب أنه يعدي الزوج كثيرا، وهو داء مانع للجماع لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة من هو به ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به، وأما الولد فبين أنه إذا كان من ولده أجذم أو أبرص أنه قلما يسلم، وإن سلم أدرك نسله. قال البيهقي: وأما ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عدوى" فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى. وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببا لحدوث ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" وقال: "لا يورد ممرض على مصح" وقال في الطاعون "من سمع به بأرض فلا يقدم عليه" وكل ذلك بتقدير الله تعالى. وتبعه على ذلك ابن الصلاح في الجمع بين الحديثين ومن بعده وطائفة ممن قبله. المسلك السادس: العمل بنفي العدوى أصلا ورأسا، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه جماعة فقال أبو عبيد: ليس في قوله: "لا يورد ممرض على مصح" إثبات العدوى، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى فيفتتن ويتشكك في ذلك، فأمر باجتنابه. قال: وكان بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصحيح من ذوات العاهة، قال: وهذا شر ما حمل عليه الحديث، لأن فيه إثبات العدوى التي نفاها الشارع، ولكن وجه الحديث عندي ما ذكرته. وأطنب ابن خزيمة في هذا في "كتاب التوكل" فإنه أورد حديث: "لا عدوى" عن عدة من الصحابة وحديث: "لا يورد ممرض على مصح" من حديث أبي هريرة وترجم للأول "التوكل على الله في نفي العدوى" وللثاني "ذكر خبر غلط في معناه بعض العلماء، وأثبت العدوى التي نفاها النبي صلى الله عليه وسلم" ثم ترجم "الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إثبات العدوى بهذا القول" فساق حديث أبي هريرة "لا عدوى، فقال أعرابي: فما بال الإبل يخالطها الأجرب فتجرب؟ قال: فمن أعدى الأول؟" ثم ذكر طرقه عن أبي هريرة، ثم أخرجه من حديث ابن مسعود، ثم ترجم "ذكر خبر روي في الأمر بالفرار من المجذوم قد يخطر لبعض الناس أن فيه إثبات العدوى وليس كذلك" وساق حديث: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة، وحديث عمرو بن الشريد عن أبيه في أمر المجذوم بالرجوع، وحديث ابن عباس "لا تديموا النظر إلى المجذومين" ثم قال: إنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم كما نهاهم أن يورد الممرض على المصح شفقة عليهم، وخشية أن يصيب بعض من يخالطه المجذوم الجذام، والصحيح من الماشية الجرب فيسبق إلى بعض المسلمين أن ذلك من العدوى فيثبت العدوى التي نفاها صلى الله عليه وسلم فأمرهم بتجنب ذلك شفقة منه ورحمة ليسلموا من التصديق بإثبات العدوى، وبين لهم أنه لا يعدي شيء شيئا. قال: ويؤيد هذا أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم ثقة بالله وتوكلا عليه، وساق حديث جابر في ذلك ثم قال: وأما نهيه عن إدامة النظر إلى المجذوم فيحتمل أن يكون
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: لعله سقط من الناسخ بعد بل لفظ "البعض".

(10/161)


لأن المجذوم يغتم ويكره إدمان الصحيح نظره إليه، لأنه قل من يكون به داء إلا وهو يكره أن يطلع عليه. اهـ. وهذا الذي ذكره احتمالا سبقه إليه مالك، فإنه سئل عن هذا الحديث فقال: ما سمعت فيه بكراهية، وما أدري ما جاء من ذلك إلا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء. وقال الطبري: الصواب عندنا القول بما صح به الخبر، وأن لا عدوى، وأنه لا يصيب نفسا إلا ما كتب عليها. وأما دنو عليل من صحيح فغير موجب انتقال العلة للصحيح، إلا أنه لا ينبغي لذي صحة الدنو من صاحب العاهة التي يكرهها الناس، لا لتحريم ذلك، بل لخشية أن يظن الصحيح أنه لو نزل به ذلك الداء أنه من جهة دنوه من العليل فيقع فيما أبطله النبي صلى الله عليه وسلم من العدوى. قال: وليس في أمره بالفرار من المجذوم معارضة لأكله معه، لأنه كان يأمر بالأمر على سبيل الإرشاد أحيانا وعلى سبيل الإباحة أخرى، وإن كان أكثر الأوامر على الإلزام، إنما كان يفعل ما نهى عنه أحيانا لبيان أن ذلك ليس حراما. وقد سلك الطحاوي في "معاني الآثار" مسلك ابن خزيمة فيما ذكره فأورد حديث: "لا يورد ممرض على مصح" ثم قال: معناه أن المصح قد يصيبه ذلك المرض فيقول الذي أورده لو أني ما أوردته عليه لم يصبه من هذا المرض شيء، والواقع أنه لو لم يورده لأصابه لكون الله تعالى قدره، فنهى عن إيراده لهذه العلة التي لا يؤمن غالبا من وقوعها في قلب المرء ثم ساق الأحاديث في ذلك فأطنب، وجمع بينها بنحو ما جمع به ابن خزيمة. ولذلك قال القرطبي في "المفهم": إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصح مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد العدوى، أو مخافة تشويش النفوس وتأثير الأوهام، وهو نحو قوله: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي، لكنا نجد في أنفسنا نفرة وكراهية لمخالطته، حتى لو أكره إنسان نفسه على القرب منه وعلى مجالسته لتأذت نفسه بذلك، فحينئذ فالأولى للمؤمن أن لا يتعرض إلى ما يحتاج فيه إلى مجاهدة، فيجتنب طرق الأوهام، ويباعد أسباب الآلام، مع أنه يعتقد أنه لا ينحي حذر من قدر، والله أعلم. قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الأمر بالفرار من الأسد ليس للوجوب، بل للشفقة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى أمته عن كل ما فيه ضرر بأي وجه كان، ويدلهم على كل ما فيه خير. وقد ذكر بعض أهل الطب أن الروائح تحدث في الأبدان خللا فكان هذا وجه الأمر بالمجانبة، وقد أكل هو مع المجذوم، فلو كان الأمر بمجانبته على الوجوب لما فعله. قال: ويمكن الجمع بين فعله وقوله بأن القول هو المشروع من أجل ضعف المخاطبين، وفعله حقيقة الإيمان، فمن فعل الأول أصاب السنة وهي أثر الحكمة، ومن فعل الثاني كان أقوى يقينا لأن الأشياء كلها لا تأثير لها إلا بمقتضى إرادة الله تعالى وتقديره، كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فمن كان قوي اليقين فله أن يتابعه صلى الله عليه وسلم في فعله ولا يضره شيء، ومن وجد في نفسه ضعفا فليتبع أمره في الفرار لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة. فالحاصل أن الأمور التي يتوقع منها الضرر وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها فلا ينبغي للضعفاء أن يقربوها وأما أصحاب الصدق واليقين فهم في ذلك بالخيار. قال: وفي الحديث أن الحكم للأكثر لأن الغالب من الناس هو الضعف، فجاء الأمر بالفرار بحسب ذلك. واستدل بالأمر بالفرار من المجذوم لإثبات الخيار للزوجين في فسخ النكاح إذا وجده أحدهما بالآخر، وهو قول جمهور العلماء. وأجاب فيه من لم يقل بالفسخ بأنه لو أخذ بعمومه لثبت الفسخ إذا حدث الجذام ولا قائل به، ورد بأن الخلاف ثابت، بل هو الراجح عند الشافعية، وقد تقدم في النكاح الإلمام بشيء من هذا. واختلف في أمة الأجذم: هل يجوز لها أن تمنع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟

(10/162)


واختلف العلماء في المجذومين إذا كثروا هل يمنعون من المساجد والمجامع؟ وهل يتخذ لهم مكان منفرد عن الأصحاء؟ ولم يختلفوا في النادر أنه لا يمنع ولا في شهود الجمعة.

(10/163)


20 - باب الْمَنُّ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ
5708- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ سَمِعْتُ عَمْرُو بْنَ حُرَيْثٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ" .
قَالَ شُعْبَةُ: وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ شُعْبَةُ: لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ
قوله: "باب المن شفاء للعين" كذا للأكثر. وفي رواية الأصيلي: "شفاء من العين" وعليها شرح ابن بطال، ويأتي توجيهها. وفي هذه الترجمة إشارة إلى ترجيح القول الصائر إلى أن المراد بالمن في حديث الباب الصنف المخصوص من المأكول، لا المصدر الذي بمعني الامتنان، وإنما أطلق على المن شفاء لأن الخبر ورد أن الكمأة منه وفيها شفاء فإذا ثبت الوصف للفرع كان ثبوته للأصل أولى. قوله: "عن عبد الملك" هو ابن عمير، وصرح به أحمد في روايته عن محمد بن جعفر غندر، وعمرو بن حريث هو المخزومي له صحبة. قوله: "سمعت سعيد بن زيد" أي ابن عمرو بن نفيل العدوي أحد العشرة، وعمر بن الخطاب بن نفيل ابن عم أبيه. كذا قال عبد الملك بن عمير ومن تابعه، وخالفهم عطاء بن السائب من رواية عبد الوارث عنه فقال: "عن عمرو بن حريث عن أبيه" أخرجه مسدد في مسنده وابن السكن في الصحابة والدار قطني في "الأفراد" وقال في "العلل"، الصواب رواية عبد الملك. وقال ابن السكن: أظن عبد الوارث أخطأ فيه. وقيل: كان سعيد بن زيد تزوج أم عمرو بن حريث فكأنه قال: "حدثني أبي" وأراد زوج أمه مجازا فظنه الراوي أباه حقيقة. قوله: "الكمأة" بفتح الكاف وسكون الميم بعدها همزة مفتوحة، قال الخطابي: وفي العامة من لا يهمزه، واحدة الكمء بفتح ثم سكون ثم همزة مثل تمرة وتمر، وعكس ابن الأعرابي فقال: الكمأة الجمع والكمء على غير قياس، قال: ولم يقع في كلامهم نظير هذا سوى خبأة وخبء. وقيل: الكمأة قد تطلق على الواحد وعلى الجمع، وقد جمعوها على أكمؤ، قال الشاعر: "ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا" والعساقل بمهملتين وقاف ولام الشراب، وكأنه أشار إلى أن الأكمؤ محل وجدانها الفلوات. والكمأة نبات لا ورق لها ولا ساق، توجد في الأرض من غير أن تزرع. قيل: سميت بذلك لاستتارها، يقال كمأ الشهادة إذا كتمها. ومادة الكمأة من جوهر أرضي بخاري يحتقن نحو سطح الأرض ببرد الشتاء وينميه مطر الربيع فيتولد ويندفع متجسدا، ولذلك كان بعض العرب يسميها جدري الأرض تشبيها لها بالجدري مادة وصورة، لأن مادته رطوبة دموية تندفع غاليا عند الترعرع وفي ابتداء استيلاء الحرارة ونماء القوة ومشابهتها له في الصورة ظاهر. وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة "أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن" الحديث. وللطبري من طريق ابن المنكدر عن جابر قال: "كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع قوم من أكلها وقالوا: هي جدري الأرض، فبلغه ذلك

(10/163)


فقال: إن الكمأة ليست من جدري الأرض، ألا إن الكمأة من المن" والعرب تسمي الكمأة أيضا بنات الرعد لأنها تكثر بكثرته ثم تنفطر عنها الأرض. وهي كثيرة بأرض العرب، وتوجد بالشام ومصر، فأجودها ما كانت أرضه رملة قليلة الماء، ومنها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة. وهي باردة رطبة في الثانية رديئة للمعدة بطيئة الهضم، وإدمان أكلها يورث القولنج والسكتة والفالج وعسر البول، والرطب منها أقل ضررا من اليابس، وإذا دفنت في الطين الرطب ثم سلقت بالماء والملح والسعتر وأكلت بالزيت والتوابل الحارة قل ضررها، ومع ذلك ففيها جوهر مائي لطيف بدليل خفتها، فلذلك كان ماؤها شفاء للعين. قوله: "من المن" قيل في المراد بالمن ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد أنها من المن الذي أنزل على بني إسرائيل، وهو الطل الذي يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلوا، ومنه الترنجبين فكأنه شبه به الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوا بغير علاج. قلت: وقد تقدم بيان ذلك واضحا في تفسير سورة البقرة، وذكرت من زاد في متن هذا الحديث: "الكمأة من المن الذي أنزل على بني إسرائيل" . والثاني: أن المعنى أنها من المن الذي امتن الله به على عباده عفوا بغير علاج، قاله أبو عبيد وجماعة. وقال الخطابي: ليس المراد أنها نوع من المن الذي أنزل على بني إسرائيل، فإن الذي أنزل على بني إسرائيل كان كالترنجبين الذي يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شيء ينبت من غير تكلف ببذر ولا سقي، فهو من قبيل المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل فيقع على الشجر فيتناولونه. ثم أشار إلى أنه يحتمل أن يكون الذي أنزل على بني إسرائيل كان أنواعا، منها ما يسقط على الشجر، ومنها ما يخرج من الأرض فتكون الكمأة منه، وهذا هو القول الثالث وبه جزم الموفق عبد اللطيف البغدادي ومن تبعه فقالوا: إن المن الذي أنزل على بني إسرائيل ليس هو ما يسقط على الشجر فقط بل كان أنواعا من الله عليهم بها من النبات الذي يوجد عفوا، ومن الطير التي تسقط عليهم بغير اصطياد، ومن الطل الذي يسقط على الشجر. والمن مصدر بمعني المفعول أي ممنون به، فلما لم يكن للعبد فيه شائبة كسب كان منا محضا، وإن كانت جميع نعم الله تعالى على عبيده منا منه عليهم، لكن خص هذا باسم المن لكونه لا صنع فيه لأحد، فجعل سبحانه وتعالى قوتهم في التيه الكمأة وهي تقوم مقام الخبز، وأدمهم السلوى وهي تقوم مقام اللحم، وحلواهم الطل الذي ينزل على الشجر، فكمل بذلك عيشهم. ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من المن" فأشار إلى أنها فرد من أفراده، فالترنجبين كذلك فرد من أفراد المن، وإن غلب استعمال المن عليه عرفا. اهـ. ولا يعكر على هذا قولهم: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} لأن المراد بالوحدة دوام الأشياء المذكورة من غير تبدل وذلك يصدق على ما إذا كان المطعوم أصنافا لكنها لا تتبدل أعيانها. قوله: "وماؤها شفاء للعين" كذا للأكثر وكذا عند مسلم. وفي رواية المستملي: "من العين" أي شفاء من داء العين، قال الخطابي: إنما اختصت الكمأة بهذه الفضيلة لأنها من الحلال المحض الذي ليس في اكتسابه شبهة، ويستنبط منه أن استعمال الحلال المحض يجلو البصر، والعكس بالعكس. قال ابن الجوزي: في المراد بكونها شفاء للعين قولان: أحدهما: أنه ماؤها حقيقة، إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنه لا يستعمل صرفا في العين، لكن اختلفوا كيف يصنع به على رأيين: أحدهما: أنه يخلط في الأدوية التي يكتحل بها حكاه أبو عبيد، قال: ويصدق هذا الذي حكاه أبو عبيد أن بعض الأطباء قالوا: أكل الكمأة يجلو البصر، ثانيهما: أن تؤخذ فتشق وتوضع على الجمر حتى يغلي ماؤها، ثم يؤخذ الميل فيجعل في ذلك الشق وهو فاتر فيكتحل بمائها، لأن النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة ويبقى النافع منه، ولا يجعل الميل في مائها

(10/164)


وهي باردة يابسة فلا ينجع، وقد حكى إبراهيم الحربي عن صالح وعبد الله ابني أحمد بن حنبل أنهما اشتكت أعينهما فأخذا كمأة وعصراها واكتحلا بمائها فهاجت أعينهما ورمدا. قال ابن الجوزي: وحكى شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي أن بعض الناس عصر ماء كمأة فاكتحل به فذهبت عينه. والقول الثاني أن المراد ماؤها الذي تنبت به، فإنه أول مطر يقع في الأرض فتربى به الأكحال حكاه ابن الجوزي عن أبي بكر بن عبد الباقي أيضا، فتكون الإضافة إضافة الكل لا إضافة جزء. قال ابن القيم: وهذا أضعف الوجوه. قلت: وفيما ادعاه ابن الجوزي من الاتفاق على أنها لا تستعمل صرفا نظر، فقد حكى عياض عن بعض أهل الطب في التداوي بماء الكمأة تفصيلا، وهو إن كان لتبريد ما يكون بالعين من الحرارة فتستعمل مفردة، وإن كان لغير ذلك فتستعمل مركبة، وبهذا جزم ابن العربي فقال: الصحيح أنه ينفع بصورته في حال، وبإضافته في أخرى، وقد جرب ذلك فوجد صحيحا. نعم جزم الخطابي بما قال ابن الجوزي فقال: تربى بها التوتياء وغيرها من الأكحال، قال: ولا تستعمل صرفا فإن ذلك يؤذي العين. وقال الغافقي في "المفردات": ماء الكمأة أصلح الأدوية للعين إذا عجن به الإثمد واكتحل به، فإنه يقوي الجفن، ويزيد الروح الباصر حدة وقوة، ويدفع عنها النوازل. وقال النووي: الصواب أن ماءها شفاء للعين مطلقا فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه، قال: وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من كان عمي وذهب بصره حقيقة فكحل عينه بماء الكمأة مجردا فشفي وعاد إليه بصره، وهو الشيخ العدل الأمين الكمال بن عبد الدمشقي صاحب صلاح ورواية في الحديث، وكان استعماله لماء الكمأة اعتقادا في الحديث وتبركا به فنفعه الله به. قلت: الكمال المذكور هو كمال الدين بن عبد العزيز بن عبد المنعم بن الخضر يعرف بابن عبد بغير إضافة الحارثي الدمشقي من أصحاب أبي طاهر الخشوعي، سمع منه جماعة من شيوخ شيوخنا، عاش ثلاثا وثمانين سنة ومات سنة اثنتين وسبعين وستمائة قبل النووي بأربع سنين. وينبغي تقييد ذلك بمن عرف من نفسه قوة اعتقاد في صحة الحديث والعمل به كما يشير إليه آخر كلامه، وهو ينافي قوله أولا مطلقا، وقد أخرج الترمذي في جامعه بسند صحيح إلى قتادة قال: حدثت أن أبا هريرة قال: أخذت ثلاثة أكمؤ أو خمسا أو سبعا فعصرتهن فجعلت ماءهن في قارورة فكحلت به جارية لي فبرئت. وقال ابن القيم: اعترف فضلاء الأطباء أن ماء الكمأة يجلو العين، منهم المسبحي وابن سينا وغيرهما. والذي يزيل الإشكال عن هذا الاختلاف أن الكمأة وغيرها من المخلوقات خلقت في الأصل سليمة من المضار، ثم عرضت لها الآفات بأمور أخرى من مجاورة أو امتزاج أو غير ذلك من الأسباب التي أرادها الله تعالى، فالكمأة في الأصل نافعة لما اختصت به من وصفها بأنها من الله، وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة، واستعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، ويدفع الله عنه الضرر بنبته، والعكس بالعكس، والله أعلم. قوله: "وقال شعبة" كذا لأبي ذر بواو في أوله وصورته صورة التعليق، وسقطت الواو لغيره، وهو أولى فإنه موصول بالإسناد المذكور، وقد أخرجه مسلم عن محمد بن المثني شيخ البخاري فيه فأعاد الإسناد من أوله للطريق الثانية، وكذا أورده أحمد عن محمد بن جعفر بالإسنادين معا. قوله: "وأخبرني الحكم" هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر والحسن العرني بضم المهملة وفتح الراء بعدها نون هو ابن عبد الله البجلي، كوفي وثقه أبو زرعة والعجلي وابن سعد. وقال ابن معين صدوق. قلت: وما له في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "قال شعبة لما حدثني به الحكم لم أنكره من حديث عبد الملك" كأنه أراد أن عبد الملك كبر وتغير حفظه، فلما حدث به شعبة توقف فيه،

(10/165)


فلما تابعه الحكم بروايته ثبت عند شعبة فلما ينكره، وانتفى عنه التوقف فيه. وقد تكلف الكرماني لتوجيه كلام شعبة أشياء فيها نظر. أحدها: أن الحكم مدلس وقد عنعن، وعبد الملك صرح بقوله: "سمعته" فلما تقوى برواية عبد الملك لم يبق به محل للإنكار. قلت: شعبة ما كان يأخذ عن شيوخه الذين ذكر عنهم التدليس إلا ما يتحقق سماعهم فيه، وقد جزم بذلك الإسماعيلي وغيره ببعد هذا الاحتمال، وعلى تقدير تسليمه كان يلزم الأمر بالعكس بأن يقول لما حدثني عبد الملك لم أنكره من حديث الحكم.
ثانيها: لما يكن الحديث منكورا لي لأني كنت أحفظه. ثالثها: يحتمل العكس بأن يراد لم ينكر شيئا من حديث عبد الملك، وقد ساق مسلم هذه الطريق من أوجه أخرى عن الحكم. ووقع عنده في المتن "من المن الذي أنزل على بني إسرائيل" وفي لفظ: "على موسى" وقد أشرت إلى ما في هذه الزيادة من الفائدة في الكلام على هذا الحديث في تفسير سورة البقرة.

(10/166)


21 - باب اللَّدُودِ
5709، 5710، 5711- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبَّلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَيِّتٌ".
5712- "قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضِهِ فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لاَ تَلُدُّونِي فَقُلْنَا كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي قُلْنَا كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلاَّ لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلاَّ الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ" .
5713- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ قَالَتْ: "دَخَلْتُ بِابْنٍ لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَةِ فَقَالَ: " عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلاَدَكُنَّ بِهَذَا الْعِلاَقِ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنْ الْعُذْرَةِ وَيُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ" فَسَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ بَيَّنَ لَنَا اثْنَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا خَمْسَةً قُلْتُ لِسُفْيَانَ فَإِنَّ مَعْمَراً يَقُولُ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ قَالَ لَمْ يَحْفَظْ إِنَّمَا قَالَ أَعْلَقْتُ عَنْهُ حَفِظْتُهُ مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ وَوَصَفَ سُفْيَانُ الْغُلاَمَ يُحَنَّكُ بِالإِصْبَعِ وَأَدْخَلَ سُفْيَانُ فِي حَنَكِهِ إِنَّمَا يَعْنِي رَفْعَ حَنَكِهِ بِإِصْبَعِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَعْلِقُوا عَنْهُ شَيْئاً".
قوله: "باب اللدود" بفتح اللام وبمهملتين: هو الدواء الذي يصب في أحد جانبي فم المريض. واللدود بالضم الفعل. ولددت المريض فعلت ذلك به. وتقدم شرح الحديث مستوفى في "باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم" وبيان ما لدوه به، وبيان من عرف اسمه ممن كان في البيت ولد لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك فأغنى عن إعادته. وأما الحديث الثاني: فسيأتي شرحه في "باب العذرة" قريبا.

(10/166)


22 - باب
5714- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ وَيُونُسُ قَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَآخَرَ فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الْآخَرُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قُلْتُ لاَ قَالَ هُوَ عَلِيٌّ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقال النبي صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا دَخَلَ بَيْتَهَا وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ: "هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ قَالَتْ فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى جَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ قَالَتْ وَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى لَهُمْ وَخَطَبَهُمْ" .
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة، وذكر فيه حديث عائشة "لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي" الحديث، وقد تقدم شرحه في الوفاة النبوية، ومن قبل ذلك في كتاب الطهارة، والغرض منه هنا قوله: "هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن" وقد تقدم بيان الحكمة فيه في الطهارة، وقد استشكل ابن بطال مناسبة حديث هذا الباب لترجمة الذي قبله بعد أن تقرر أن الباب إذا كان بلا ترجمة يكون كالفصل من الذي قبله، وأجاب باحتمال أن يكون أشار إلى أن الذي يفعل بالمريض بأمره لا يلزم فاعل ذلك لوم ولا قصاص، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بصب الماء على كل من حضره بخلاف ما نهى عنه أن لا يفعل به لأن فعله جناية عليه فيكون فيه القصاص. قلت: ولا يخفى بعده. ويمكن أن يقرب بأن يقال أولا إنه أشار إلى أن الحديث عن عائشة في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وما اتفق له فيه واحد ذكره بعض الرواة تاما واقتصر بعضهم على بعضه، وقصة اللدود كانت عندما أغمي عليه، وكذلك قصة السبع قرب، لكن اللدود كان نهي عنه ولذلك عاتب عليه، بخلاف الصب فإنه كان أمر فلم ينكر عليهم، فيؤخذ منه أن المريض إذا كان عارفا لا يكره على تناول شيء ينهى عنه ولا يمنع من شيء يأمر به.

(10/167)


23 - باب الْعُذْرَةِ
5715- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ "أُمَّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ الأَسَدِيَّةَ أَسَدَ خُزَيْمَةَ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللاَتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أُخْتُ عُكَاشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنٍ لَهَا قَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَةِ
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلاَدَكُنَّ بِهَذَا الْعِلاَقِ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُرِيدُ الْكُسْتَ وَهُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيُّ". وَقَالَ يُونُسُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ "عَلَّقَتْ عَلَيْهِ".
قوله: "باب العذرة" بضم المهملة وسكون الذال المعجمة: هو وجع الحلق، وهو الذي يسمى سقوط اللهاة،

(10/167)


وقيل: هو اسم اللهاة والمراد وجعها سمي باسمها، وقيل: هو موضع قريب من اللهاة. واللهاة بفتح اللام اللحمة التي في أقصى الحلق. قوله: "وكانت من المهاجرات الخ" يشبه أن يكون الوصف من كلام الزهري فيكون مدرجا، ويحتمل، أن يكون من كلام شيخه فيكون موصولا وهو الظاهر. قوله: "بابن لها" تقدم في "باب السعوط" أنه الابن الذي بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "قد أعلقت عليه" تقدم قبل بباب من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري بلفظ: "أعلقت عنه" وفيه: "قلت لسفيان فإن معمرا يقول أعلقت عليه، قال: لم يحفظ، إنما قال: أعلقت عنه. حفظته من في الزهري" ووقع هنا معلقا من رواية يونس وهو ابن يزيد، وإسحاق بن راشد عن الزهري "علقت عليه" بتشديد اللام والصواب "أعلقت" والاسم العلاق بفتح المهملة. وكذا وقع في رواية سفيان الماضية "بهذا العلاق" كذا للكشميهني، ولغيره: "الأعلاق" ورواية يونس المعلقة هنا وصلها أحمد ومسلم، ورواية إسحاق بن راشد وصلها المؤلف في "باب ذات الجنب" وسيأتي قريبا. ورواية معمر التي سأل عنها علي بن عبد الله سفيان أخرجها أحمد عن عبد الرزاق عنه لكن بلفظ: "جئت بابن لي قد أعلقت عنه" قال عياض: وقع في البخاري أعلقت وعلقت والعلاق والأعلاق، ولم يقع في مسلم إلا "أعلقت" وذكر العلاق في رواية والأعلاق في رواية والكل بمعنى جاءت به الروايات، لكن أهل اللغة إنما يذكرون أعلقت؛ والأعلاق رباعي، وتفسيره غمز العذرة وهي اللهاة بالأصبع، ووقع في رواية يونس عند مسلم: "قال أعلقت غمزت" وقوله في الحديث: "علام" أي لأي شيء. قوله: "تدغرن" خطاب للنسوة، وهو بالغين المعجمة والدال المهملة، والدغر غمز الحلق. قوله: "عليكم" في رواية الكشميهني: "عليكن". قوله: "بهذا العود الهندي، يريد الكست" في رواية إسحاق بن راشد "يعني القسط قال وهي لغة" قلت: وقد تقدم ما فيها في "باب السعوط بالقسط الهندي"، ووقع في رواية سفيان الماضية قريبا "قال فسمعت الزهري يقول: بين لنا اثنتين، ولم يبين لنا خمسة" يعني من السبعة في قوله: "فإن فيه سبعة أشفية" فذكر منها ذات الجنب ويسعط من العذرة. قلت: وقد قدمت في "باب السعوط" من كلام الأطباء ما لعله يؤخذ منه الخمسة المشار إليها.

(10/168)


24 - باب دَوَاءِ الْمَبْطُونِ
5716- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلاً فَسَقَاهُ فَقَالَ إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلاَّ اسْتِطْلاَقاً فَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ" . تَابَعَهُ النَّضْرُ عَنْ شُعْبَةَ.
قوله: "باب دواء المبطون" المراد بالمبطون من اشتكى بطنه لإفراط الإسهال، وأسباب ذلك متعددة. قوله: "قتادة عن أبي المتوكل" كذا لشعبة وسعيد بن أبي عروبة. وخالفهما شيبان فقال: "عن قتادة عن أبي بكر الصديق عن أبي سعيد" أخرجه النسائي ولم يرجح، والذي يظهر ترجيح طريق أبي المتوكل لاتفاق الشيخين عليها شعبة وسعيد أولا ثم البخاري ومسلم ثانيا، ووقع في رواية أحمد عن حجاج عن شعبة "عن قتادة سمعت أبا المتوكل". قوله: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي" لم أقف على اسم واحد منهما. قوله: "استطلق بطنه"

(10/168)


بضم المثناة وسكون الطاء المهملة وكسر اللام بعدها قاف، أي كثر خروج ما فيه، يريد الإسهال. ووقع في رواية سعيد بن أبي عروبة في رابع باب من كتاب الطب "هذا ابن أخي يشتكي بطنه" ولمسلم من طريقه "قد عرب بطنه" وهي بالعين المهملة والراء المكسورة ثم الموحدة أي فسد هضمه لاعتلال المعدة، ومثله ذرب بالذال المعجمة بدل العين وزنا ومعنى. قوله: "فقال اسقه عسلا" وعند الإسماعيلي من طريق خالد بن الحارث عن شعبة "اسقه العسل" واللام عهدية، والمراد عسل النحل، وهو مشهور عندهم، وظاهره الأمر بسقيه صرفا، ويحتمل أن يكون ممزوجا. قوله: "فسقاه فقال: إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا" كذا فيه، وفي السياق حذف تقديره. فسقاه فلم يبرأ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني سقيته، ووقع في رواية مسلم: "فسقاه ثم جاء فقال: إني سقيته فلم يزدد إلا استطلاقا" أخرجه عن محمد بن بشار الذي أخرجه البخاري عنه ولكن قرنه بمحمد بن المثنى وقال: إن اللفظ لمحمد بن المثنى. نعم أخرجه الترمذي عن محمد بن بشار وحده بلفظ: "ثم حاء فقال: يا رسول الله، إني قد سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا". قوله: "فقال صدق الله" كذا اختصره. وفي رواية الترمذي "فقال اسقه عسلا، فسقاه، ثم جاء" فذكر مثله فقال: "صدق الله" وفي رواية مسلم: "فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال: اسقه عسلا فقال سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال صدق الله" وعند أحمد عن يزيد بن هارون عن شعبة "فذهب ثم جاء فقال: قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال: اسقه عسلا فسقاه" كذلك ثلاثا وفيه: "فقال في الرابعة اسقه عسلا" وعند الإسماعيلي من رواية خالد بن الحارث ثلاث مرات يقول فيهن ما قال في الأولى. وتقدم في رواية سعيد بن أبي عروبة بلفظ: "ثم أتاه الثانية فقال اسقه عسلا ثم أتاه الثالثة". قوله: "فقال صدق الله وكذب بطن أخيك" زاد مسلم في روايته: "فسقا فبرأ" وكذا للترمذي. وفي رواية أحمد عن يزيد بن هارون، فقال في الرابعة اسقه عسلا، قال: فأظنه قال فسقاه فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الرابعة: صدق الله وكذب بطن أخيك" كذا وقع ليزيد بالشك وفي رواية خالد بن الحارث "فقال في الرابعة صدق الله وكذب بطن أخيك" والذي اتفق عليه محمد بن جعفر ومن تابعه أرجح، وهو أن هذا القول وقع منه صلى الله عليه وسلم بعد الثالثة، وأمره أن يسقيه عسلا فسقاه في الرابعة فبرأ. وقد وقع في رواية سعيد بن أبي عروبة "ثم أتاه الثالثة فقال اسقه عسلا، ثم أتاه فقال: قد فعلت، فسقاه فبرأ". قوله: "تابعه النضر" يعني ابن شميل بالمعجمة مصغر "عن شعبة" وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عن النضر، قال الإسماعيلي: وتابعه أيضا يحيى بن سعيد وخالد بن الحارث ويزيد بن هارون. قلت: رواية يحيى عند النسائي في "الكبرى" ورواية خالد عند الإسماعيلي عن أبي يعلى، ورواية يزيد عند أحمد وتابعهم أيضا حجاج بن محمد وروح بن عبادة وروايتهما عند أحمد أيضا، قال الخطابي وغيره: أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ، يقال كذب سمعك أي زل فلم يدرك حقيقة ما قيل له، فمعنى كذب بطنه أي لم يصلح لقبول الشفاء بل زل عنه، وقد اعترض بعض الملاحدة فقال: العسل مسهل فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال؟ والجواب أن ذلك جهل من قائله، بل هو كقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف والتدبير وقوة الطبيعة، وعلى أن الإسهال يحدث من أنواع منها الهيضة التي تنشأ عن تخمة واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى مسهل معين أعينت ما دام بالعليل قوة، فكأن هذا الرجل كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته فوصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة

(10/169)


والأمعاء لما في العسل من الجلاء ودفع الفضول التي تصيب المعدة من أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط، ولا شيء في ذلك مثل العسل، لا سيما إن مزج بالماء الحار، وإنما لم يفده في أول مرة لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء، إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية وإن جاوزه أوهى القوة وأحدث ضررا آخر فكأنه شرب منه أولا مقدارا لا يفي بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله تعالى. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "وكذب بطن أخيك" إشارة إلى أن هذا الدواء نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمن ثم أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها، فكان كذلك، وبرأ بإذن الله. قال الخطابي: والطب نوعان، طب اليونان وهو قياسي، وطب العرب والهند وهو تجاربي، وكان أكثر ما يصفه النبي صلى الله عليه وسلم لمن يكون عليلا على طريقة طب العرب، ومنه ما يكون مما اطلع عليه بالوحي. وقد قال صاحب "كتاب المائة في الطب" إن العسل تارة يجري سريعا إلى العروق وينفذ معه جل الغذاء ويدر البول فيكون قابضا، وتارة يبقى في المعدة فيهيجها بلذعها حتى يدفع الطعام ويسهل البطن فيكون مسهلا. فإنكار وصفه للمسهل مطلقا قصور من المنكر. وقال غيره: طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن البرء لصدوره عن الوحي، وطب غيره أكثره حدس أو تجرية، وقد يتخلف الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة، وذلك لمانع قام بالمستعمل من ضعف اعتقاد الشفاء به وتلقيه بالقبول، وأظهر الأمثلة في ذلك القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره لقصوره في الاعتقاد والتلقي بالقبول، بل لا يزيد المنافق إلا رجسا إلى رجسه ومرضا إلى مرضه، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شقاء القرآن لا يناسب إلا القلوب الطيبة؛ والله أعلم. وقال ابن الجوزي: في وصفه صلى الله عليه وسلم العسل لهذا المنسهل أربعة أقوال: أحدها أنه حمل الآية على عمومها في الشفاء، وإلى ذلك أشار بقوله: "صدق الله" أي في قوله: { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} فلما نبهه على هذه الحكمة تلقاها بالقبول، فشفي بإذن الله. الثاني: أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم من التداوي بالعسل في الأمراض كلها. الثالث: أن الموصوف له ذلك كانت به هيضة كما تقدم تقريره. الرابع: يحتمل أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه فإنه يعقد البلغم، فلعله شربه أولا بغير طبخ انتهى. والثاني والرابع ضعيفان وفي كلام الخطابي احتمال آخر، وهو أن يكون الشفاء يحصل للمذكور ببركة النبي صلى الله عليه وسلم وبركه وصفه ودعائه؛ فيكون خاصا بذلك الرجل دون غيره، وهو ضعيف أيضا. ويؤيد الأول حديث ابن مسعود "عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن" أخرجه ابن ماجه والحاكم مرفوعا، وأخرجه ابن أبي شيبة والحاكم موقوفا، ورجاله رجال الصحيح. وأثر علي "إذا اشتكى أحدكم فليستوهب من امرأته من صداقها فليشتر به عسلا، ثم يأخذ ماء السماء فيجمع هنيئا مريئا شفاء مباركا" أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير بسند حسن، قال ابن بطال: يؤخذ من قوله: "صدق الله وكذب بطن أخيك " أن الألفاظ لا تحمل على ظاهرها، إذ لو كان كذلك لبريء العليل من أول شربة، فلما لم يبرأ إلا بعد التكرار دل على أن الألفاظ تقتصر على معانيها. قلت: ولا يخفى تكلف هذا الانتزاع. وقال أيضا: فيه أن الذي يجعل الله فيه الشفاء قد يتخلف لتتم المدة التي قدر الله تعالى فيها الداء. وقال غيره: في قوله في رواية سعيد بن أبي عروبة "فسقاه فبرأ" بفتح الراء والهمز بوزن قرأ وهي لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقولها بكسر الراء

(10/170)


بوزن علم، وقد وقع في رواية أبي الصديق الناجي في آخره: "فسقاه فعافاه الله" والله أعلم.

(10/171)


25 - باب لاَ صَفَرَ وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْبَطْنَ
5717- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لاَ عَدْوَى وَلاَ صَفَرَ وَلاَ هَامَةَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ إِبِلِي تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَأْتِي الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا فَقَالَ فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟" رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ.
قوله: "باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن" كذا جزم بتفسير الصفر، وهو بفتحتين. وقد نقل أبو عبيدة معمر بن المثنى في "غريب الحديث" له عن يونس بن عبيد الجرمي أنه سأل رؤبة بن العجاج فقال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب. فعلى هذا فالمراد بنفي الصفر ما كانوا يعتقدونه فيه من العدوى. ورجح عند البخاري هذا القول لكونه قرن في الحديث بالعدوى. وكذا رجح الطبري هذا القول واستشهد له بقول الأعشى "ولا يعض على شرسوفة الصفر" والشرسوف بضم المعجمة وسكون الراء ثم مهملة ثم فاء: الضلع، والصفر دود يكون في الجوف فربما عض الضلع أو الكبد فقتل صاحبه، وقيل: المراد بالصفر الحية لكن المراد بالنفي نفي ما كانوا يعتقدونه أن من أصابه قتله، فرد ذلك الشارع بأن الموت لا يكون إلا إذا فرغ الأجل. وقد جاء هذا التفسير عن جابر وهو أحد رواة حديث: "لا صفر" قاله الطبري. وقيل: في الصفر قول آخر، وهو أن المراد به شهر صفر، وذلك أن العرب كانت تحرم صفر وتستحل الحرم كما تقدم في كتاب الحج، فجاء الإسلام برد ما كانوا يفعلونه من ذلك فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا صفر"، قال ابن بطال: وهذا القول مروي عن مالك، والصفر أيضا وجع في البطن يأخذ من الجوع ومن اجتماع الماء الذي يكون منه الاستسقاء، ومن الأول حديث: "صفرة في سبيل الله خير من حمر النعم" أي جوعة، ويقولون صفر الإناء إذا خلا عن الطعام، ومن الثاني ما سبق في الأشربة في حديث ابن مسعود "أن رجلا أصابه الصفر فنعت له السكر" أي حصل له الاستسقاء فوصف له النبيذ، وحمل الحديث على هذا لا يتجه، بخلاف ما سبق. وسيأتي شرح الهامة والعدوى كل منهما في باب مفرد. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان، وقوله: "أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وغيره" وقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح بن كيسان عند مسلم في هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة، وقوله في آخر الباب: "رواه الزهري عن أبي سلمة وسنان بن أبي سنان" يعني كلاهما عن أبي هريرة، وسيأتي ذلك في "باب لا عدوى" من رواية شعيب عن الزهري عنهما، وفيه تفصيل لفظ أبي سلمة من لفظ سنان، ويأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى.

(10/171)


26 - باب ذَاتِ الْجَنْبِ
5718- حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ

(10/171)


27 - باب حَرْقِ الْحَصِيرِ لِيُسَدَّ بِهِ الدَّمُ
5722- حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: "لَمَّا كُسِرَتْ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَةُ وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِي الْمِجَنِّ وَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَاءِ كَثْرَةً

(10/173)


عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَقَأَ الدَّمُ".
قوله: "باب حرق الحصير" كذا لهم، وأنكره ابن التين فقال: والصواب إحراق الحصير لأنه من أحرق، أو تحريق من حرق، قال فأما الحرق فهو حرق الشيء يؤذيه. قلت: لكن له توجيه، وقوله: "ليسد به الدم" هو بالسين المهملة أي مجاري الدم، أو ضمن "سد" معنى قطع وهو الوجه، وكأنه أشار إلى أن هذا ليس من إضاعة المال لأنه إنما يفعل للضرورة المبيحة، وقد كان أبو الحسن القابسي يقول: وددنا لو علمنا ذلك الحصير مما كان لنتخذه دواء لقطع الدم، قال ابن بطال: قد زعم أهل الطب أن الحصير كلها إذا أحرقت تبطل زيادة الدم، بل الرماد كله كذلك، لأن الرماد من شأنه القبض، ولهذا ترجم الترمذي لهذا الحديث: "التداوي بالرماد" وقال المهلب: فيه أن قطع الدم بالرماد كان معلوما عندهم، لا سيما إن كان الحصير من ديس السعد فهي معلومة بالقبض وطيب الرائحة، فالقبض يسد أفواه الجرح، وطيب الرائحة يذهب بزهم الدم، وأما غسل الدم أولا فينبغي أن يكون إذا كان الجرح غير غائر، أما لو كان غائرا فلا يؤمن معه ضرر الماء إذا صب فيه. وقال الموفق عبد اللطيف: الرماد فيه تجفيف وقلة لذع، والمجفف إذا كان فيه قوة لذع ربما هيج الدم وجلب الورم. ووقع عند ابن ماجه من وجه آخر عن سهل بن سعد "أحرقت له - حين لم يرقأ - قطعه حصير خلق فوضعت رماده عليه". تقدم شرح حديث الباب، وهو حديث سهل بن سعد في غسل فاطمة وجه النبي صلى الله عليه وسلم من الدم لما جرح يوم أحد، في كتاب الجهاد. وقوله في آخر الحديث: "فرقأ" بقاف وهمزة أي بطل خروجه. وفي رواية: "فاستمسك الدم".

(10/174)


28 - باب الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ
5723- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ" .
قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: "اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ".
5724- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ "أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ قَدْ حُمَّتْ تَدْعُو لَهَا أَخَذَتْ الْمَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَبْرُدَهَا بِالْمَاءِ".
5725- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ" .
5726- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْحُمَّى مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ".
قوله: "باب الحمى من فيح جهنم" بفتح الفاء وسكون التحتانية بعدها مهملة، وسيأتي في حديث رافع آخر

(10/174)


الباب: "من فوح" بالواو، وتقدم من حديثه في صفة النار بلفظ: "فور" بالراء بدل الحاء وكلها بمعنى، والمراد سطوع حرها ووهجه. والحمى أنواع كما سأذكره. واختلف في نسبتها إلى جهنم فقيل حقيقة، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة، أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة. وقد جاء في حديث أخرجه البزار من حديث عائشة بسند حسن، وفي الباب عن أبي أمامة عند أحمد، وعن أبي ريحانة عند الطبراني، وعن ابن مسعود في مسند الشهاب "الحمى حظ المؤمن من النار" وهذا كما تقدم في حديث الأمر بالإبراد أن شدة الحر من فيح جهنم وأن الله أذن لها بنفسين، وقيل: بل الخبر ورد مورد التشبيه، والمعنى أن حر الحمى شبيه بحر جهنم تنبيها للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها وهو ما يصيب من قرب منها من حرها كما قيل بذلك في حديث الإبراد، والأول أولى، والله أعلم. ويؤيده قول ابن عمر في آخر الباب. حديث ابن عمر أخرجه من طريق عبد الله بن وهب عن مالك، وكذا مسلم. وأخرجه النسائي من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك، قال الدار قطني في "الموطئات": لم يروه من أصحاب مالك في "الموطأ" إلا ابن وهب وابن القاسم وتابعهما الشافعي وسعيد بن عفير وسعيد بن داود، قال: ولم يأت به معن ولا القعنبي ولا أبو مصعب ولا ابن بكير انتهى. وكذا قال ابن عبد البر في التقصي. وقد أخرجه شيخنا في تقريبه من رواية أبي مصعب عن مالك، وهو ذهول منه، لأنه اعتمد فيه على الملخص للقابسي، والقابسي إنما أخرج الملخص من طريق ابن القاسم عن مالك، وهذا ثاني حديث عثرت عليه في تقريب الأسانيد لشيخنا عفا الله تعالى عنه من هذا الجنس، وقد نبهت عليه نصيحة لله تعالى والله أعلم، وقد أخرجه الدار قطني والإسماعيلي من رواية حرملة عن الشافعي، وأخرجه الدار قطني من طريق سعيد بن عفير، ومن طريق سعيد بن داود، ولم يخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " لأنه ليس في رواية يحيى بن يحيى الليثي، والله أعلم. قوله: "فأطفئوها" بهمزة قطع ثم طاء مهملة وفاء مكسورة ثم همزة أمر بالإطفاء، وتقدم في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع في صفة النار من بدء الخلق بلفظ: "فأبردوها" والمشهور في ضبطها بهمزة وصل والراء مضمومة، وحكي كسرها، يقال بردت الحمى أبردها بردا بوزن قتلتها أقتلها قتلا أي أسكنت حرارتها، قال شاعر الحماسة:
إذا وجدت لهيب الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد
وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء، من أبرد الشيء إذا عالجه فصيره باردا، مثل أسحنه إذا صيره سخنا، وقد أشار إليها الخطابي. وقال الجوهري: إنها لغة رديئة. قوله: "بالماء" في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: "بالماء البارد" ومثله في حديث سمرة عند أحمد، ووقع في حديث ابن عباس "بماء زمزم" كما مضى في صفة النار من رواية أبي جمرة بالجيم قال: "كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى" وفي رواية أحمد "كنت أدفع للناس عن ابن عباس فاحتبست أياما فقال: ما حبسك؟ قلت الحمى، قال: أبردها بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو بماء زمزم" شك همام. كذا في راوية البخاري من طريق أبي

(10/175)


عامر العقدي عن همام. وقد تعلق به من قال بأن ذكر ماء زمزم ليس قيدا لشك راوية فيه. وممن ذهب إلى ذلك ابن القيم. وتعقب بأنه وقع في رواية أحمد عن عفان عن همام "فأبردوها بماء زمزم" ولم يشك، وكذا أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية عفان، وإن كان الحاكم وهم في استدراكه. وترجم له ابن حبان بعد إيراده حديث ابن عمر فقال: ذكر الخبر المفسر للماء المجمل في الحديث الذي قبله، وهو أن شدة الحمى تبرد بماء زمزم دون غيره من المياه، وساق حديث ابن عباس، وقد تعقب - على تقدير أن لا شك في ذكر ماء زمزم فيه - بأن الخطاب لأهل مكة خاصة لتيسر ماء زمزم عندهم، كما خص الخطاب بأصل الأمر بأهل البلاد الحارة. وحفي ذلك على بعض الناس. قال الخطابي ومن تبعه: اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك، لأنه يجمع المسام ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم فيكون ذلك سببا للتلف، قال الخطابي: غلط بعض من ينسب إلى العلم فانغمس في الماء لما أصابته الحمى فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولا سيئا لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولا من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلا عن اختصاصها بالغسل، وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد، وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به، وهو كما وقع في أمره العائن بالاغتسال وأطلق، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يرد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى ما صنعته أسماء بنت الصديق، فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئا من الماء بين يديه وثوبه فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، والصحابي ولا سيما مثل أسماء التي هي ممن كان يلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها، ولعل هذا هو السر في إيراد البخاري لحديثها عقب حديث ابن عمر المذكور، وهذا من بديع ترتيبه. وقال المازري: ولا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل، حتى أن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة ثم يصير داء له في الساعة التي تليها، لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه مثلا فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير، فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو بغيره في سائر الأحوال، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف وقوة الطباع. ثم ذكر نحو ما تقدم. قالوا: وعلى تقدير أن يريد التصريح بالاغتسال في جميع الجسد، فيجاب بأنه يحتمل أن يكون أراد أنه يقع بعد إقلاع الحمى، وهو بعيد. ويحتمل أن يكون في وقت مخصوص بعدد مخصوص فيكون من الخواص التي اطلع صلى الله عليه وسلم عليها بالوحي، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب. وقد أخرج الترمذي من حديث ثوبان مرفوعا: "إذا أصاب أحدكم الحمى - وهي قطعة من النار - فليطفئها عنه بالماء، يستنقع في نهر جار ويستقبل جريته وليقل: بسم الله، اللهم اشف عبدك وصدق رسولك، بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ فخمس، وإلا فسبع، وإلا فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله" قال الترمذي غريب. قلت: وفي سنده سعيد بن زرعة مختلف فيه. قال: ويحتمل أن يكون لبعض

(10/176)


الحميات دون بعض، في بعض الأماكن دون بعض، لبعض الأشخاص دون بعض. وهذا أوجه. فإن خطابه صلى الله عليه وسلم قد يكون عاما وهو الأكثر، وقد يكون خاصا كما قال: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا" فقوله: "شرقوا أو غربوا" ليس عاما لجميع أهل الأرض بل هو خاص لمن كان بالمدينة النبوية وعلى سمتها كما تقدم تقريره في كتاب الطهارة، فكذلك هذا يحتمل أن يكون مخصوصا بأهل الحجاز وما والأهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من العرضية الحادثة عن شدة الحرارة، وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا، لأن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق إلى جميع البدن، وهي قسمان: عرضية وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك، ومرضية وهي ثلاثة أنواع، وتكون عن مادة، ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإن كان مبدأ تعلقها بالروح فهي حمى يوم لأنها تقع غالبا في يوم ونهايتها إلى ثلاثة، وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية فهي حمى دق وهي أخطرها، وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفنية وهي بعدد الأخلاط الأربعة، وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الإفراد والتركيب. وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول فإنها تسكن بالانغماس في الماء البارد وشرب الماء المبرد بالثلج وبغيره ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر، وقد قال جالينوس في كتاب حيلة البرء لو أن شابا حسن اللحم خصب البدن ليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه وقت القيظ عند منتهى الحمى لا ينتفع بذلك(1). وقال أبو بكر الرازي: إذا كانت القوى قوية والحمى حادة والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق فإن الماء البارد ينفع شربه، فإن كان العليل خصب البدن والزمان حارا وكان معتادا باستعمال الماء البارد اغتسالا فليؤدن له فيه. وقد نزل ابن القيم حديث ثوبان على هذه القيود فقال: هذه الصفة تنفع في فصل الصيف في البلاد الحارة في الحمى العرضية أو الغب الخالصة التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة، والمراد الفاسدة، فيطفئها بإذن الله، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس، ووفور القوي في ذلك الوقت لكونه عقب النور والسكون وبرد الهواء، قال: والأيام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحرارة الأمراض الحادة غالبا ولا سيما في البلاد الحارة. والله أعلم. قالوا: وقد تكرر في الحديث استعماله صلى الله عليه وسلم الماء البارد في علته كما قال: "صبوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن" وقد تقدم شرحه. وقال سمرة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على قرنه فاغتسل" أخرجه البزار وصححه الحاكم، ولكن في سنده راو ضعيف. وقال أنس: "إذا حم أحدكم فليشن عليه من الماء البارد من السحر ثلاث ليال" أخرجه الطحاوي وأبو نعيم في الطب والطبراني في "الأوسط" وصححه الحاكم وسنده قوي، وله شاهد من حديث أم خالد بنت سعيد أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم في الطب من طريقه. وقال عبد الرحمن بن المرقع رفعه: "الحمى رائد الموت، وهي سجن الله في الأرض فبردوا لها الماء في الشنان، وصبوه عليكم فيما بين الأذانين المغرب والعشاء. قال ففعلوا فذهب عنهم" أخرجه الطبراني. وهذه الأحاديث كلها ترد التأويل الذي نقله الخطابي عن ابن الأنباري أنه قال: المراد بقوله فأبردوها الصدقة به، قال ابن القيم: أظن الذي حمل قائل هذا أنه أشكل عليه استعمال الماء في الحمى فعدل إلى هذا، وله وجه حسن لأن الجزاء من جنس العمل، فكأنه لما أخمد لهيب العطشان بالماء أخمد الله لهيب الحمى عنه، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته، وأما المراد به بالأصل فهو استعماله في البدن حقيقة كما تقدم، والله أعلم. قوله: "قال نافع وكان عبد الله" أي ابن عمر "يقول
ـــــــ
(1) لعله "لا نفع بذلك".

(10/177)


اكشف عنا الرجز" أي العذاب، وهذا موصول بالسند الذي قبله، وكأن ابن عمر فهم من كون أصل الحمى من جهنم أن من أصابته عذب بها، وهذا التعذيب يختلف باختلاف محله: فيكون للمؤمن تكفيرا لذنوبه وزيادة في أجوره كما سبق، وللكافر عقوبة وانتقاما. وإنما طلب ابن عمر كشفه مع ما فيه من الثواب لمشروعية طلب العافية من الله سبحانه، إذ هو قادر على أن يكفر سيئات عبده ويعظم ثوابه، من غير أن يصيبه شيء يشق عليه، والله أعلم. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة بن الزبير، وفاطمة بنت المنذر أي ابن الزبير هي بنت عمه وزوجته، وأسماء بنت أبي بكر جدتهما لأبويهما معا. قوله: "بينها وبين جيبها" بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة: هو ما يكون مفرجا من الثوب كالكم والطوق. وفي رواية عبدة عن هشام عند مسلم: "فتصبه في جيبها". قوله: "أن نبردها" بفتح أوله وضم الراء الخفيفة. وفي رواية لأبي ذر بضم أوله وفتح الموحدة وتشديد الراء من التبريد، وهو بمعنى رواية أبرد بهمزة مقطوعة، زاد عبدة في روايته: "وقال إنها من فيح جهنم". قوله: "يحيى" هو القطان، وهشام هو ابن عروة أيضا. وأشار بإيراد روايته هذه عقب الأولى إلى أنه ليس اختلافا على هشام، بل له في هذا المتن إسنادان، بقرينة مغايرة السياقين. قوله: "من فيح جهنم" في رواية السرخسي "من فوح" بالواو، وتقدم في صفة النار من بدء الخلق من هذا الوجه بلفظ: "من فور" وكلها بمعنى، وتقدم هناك بلفظ: "فأبردوها عنكم" بزيادة "عنكم" وكذا زادها مسلم في روايته عن هناد بن السري عن أبي الأحوص بالسند المذكور هنا.

(10/178)


29 - باب مَنْ خَرَجَ مِنْ أَرْضٍ لاَ تُلاَيِمُهُ
5727- حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد حدثنا قتادة أن أنس بن مالك حدثهم "أن ناسا أو رجالا من عكل وعرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام وقالوا يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وبراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم وأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم".
قوله: "باب من خرج من أرض لا تلايمه" بتحتانية مكسورة، وأصله بالهمز ثم كثر استعماله فسهل، وهو من الملاءمة بالمد أي الموافقة وزنا ومعنى. وذكر فيه قصة العرنيين، وقد تقدمت الإشارة إليها قريبا، وكأنه أشار إلى أن الحديث الذي أورده بعده في النهي عن الخروج من الأرض التي وقع فيها الطاعون ليس على عمومه. وإنما هو مخصوص بمن خرج فرارا منه كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.

(10/178)


30 - باب مَا يُذْكَرُ فِي الطَّاعُونِ
5728- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ

(10/178)


31 - باب أَجْرِ الصَّابِرِ فِي الطَّاعُونِ
5734- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا "أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ. فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ عَذَاباً يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِراً يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ" .
تَابَعَهُ النَّضْرُ عَنْ دَاوُدَ
قوله: "باب أجر الصابر على الطاعون" أي سواء وقع به أو وقع في بلد هو مقيم بها. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه، وحبان بفتح المهملة وتشديد الموحدة هو ابن هلال ويحيى بن يعمر بفتح التحتانية والميم بينهما عين مهملة ساكتة وآخره راء. قوله: "أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون" في رواية أحمد من هذا الوجه عن عائشة "قالت سألت". قوله: " أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء" في رواية الكشميهني: " على من شاء" أي من كافر أو عاص كما تقدم في قصة آل فرعون وفي قصة أصحاب موسى مع بلعام. قوله: " فجعله الله رحمة للمؤمنين " أي من هذه الأمة، وفي حديث أبي عسيب عند أحمد "فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم، ورجس على الكافر" وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم يعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة، وأما العاصي من هذه الأمة فهل يكون الطاعون له شهادة أو يختص بالمؤمن الكامل؟ فيه نظر. والمراد بالعاصي من يكون مرتكب الكبيرة ويهجم عليه ذلك وهو مصر، فإنه يحتمل أن يقال لا يكرم بدرجة الشهادة لشؤم ما كان متلبسا به لقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ؟ وأيضا فقد وقع في حديث ابن عمر ما يدل على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة، أخرجه ابن

(10/192)


ماجه والبيهقي بلفظ: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم" الحديث، وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك وكان من فقهاء الشام، لكنه ضعيف عند أحمد وابن معين وغيرهما، ووثقه أحمد بن صالح المصري وأبو زرعة الدمشقي وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرا، وله شاهد عن ابن عباس في "الموطأ" بلفظ: "ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت" الحديث، وفيه انقطاع. وأخرجه الحاكم من وجه آخر موصولا بلفظ: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله" وللطبراني موصولا من وجه آخر عن ابن عباس نحو سياق مالك وفي سنده مقال، وله من حديث عمرو بن العاص بلفظ: " ما من قوم يظهر فيهم الزنا إلا أخذوا بالفناء" الحديث وسنده ضعيف، وفي حديث بريدة عند الحاكم بسند جيد بلفظ: "ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت" ولأحمد من حديث عائشة مرفوعا: "لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعقاب" وسنده حسن. ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ ويحتمل أن يقال: بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الأخبار الواردة، ولا سيما في الحديث الذي قبله عن أنس "الطاعون شهادة لكل مسلم" ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترع السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة، لأن درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهدا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا مقبلا غير مدبر. ومن رحمة الله بهذه الأمة المحمدية أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة، ولا سيما وأكثرهم لم يباشر تلك الفاحشة، وإنما عمهم - والله أعلم - لتقاعدهم عن إنكار المنكر. وقد أخرج أحمد وصححه ابن حبان من حديث عتبة بن عبيد رفعه: "القتل ثلاثة: رجل جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذاك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة. ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فانمحت خطاياه، إن السيف محاء للخطايا. ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى يقل فهو في النار، إن السيف لا يمحو النفاق" وأما الحديث الآخر الصحيح "إن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين" فإنه يستفاد منه أن الشهادة لا تكفر التبعات، وحصول التبعات لا يمنع حصول درجة الشهادة، وليس للشهادة معنى إلا أن الله يثيب من حصلت له ثوابا مخصوصا ويكرمه كرامة زائدة، وقد بين الحديث أن الله يتجاوز عنه ما عدا التبعات، فلو فرض أن للشهيد أعمالا صالحة وقد كفرت الشهادة أعماله السيئة غير التبعات فإن أعماله الصالحة تنفعه في موازنة ما عليه من التبعات وتبقى له درجة الشهادة خالصة، فإن لم يكن له أعمال صالحة فهو في المشيئة، والله أعلم. قوله: "فليس من عبد" أي مسلم "يقع الطاعون" أي في مكان هو فيه "فيمكث في بلده" في رواية أحمد "في بيته"، ويأتي في القدر بلفظ: "يكون فيه ويمكث فيه ولا يخرج من البلد" أي التي وقع فيها الطاعون. قوله: "صابرا" أي غير منزعج ولا قلق، بل مسلما لأمر الله راضيا بقضائه، وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به فلا يخرج فرارا منه كما تقدم النهي عنه في الباب قبله صريحا. وقوله: "يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له" قيد آخر، وهي جملة حالية تتعلق بالإقامة، فلو مكث وهو قلق أو متندم على عدم الخروج ظانا أنه لو خرج لما وقع به أصلا ورأسا وأنه بإقامته يقع به فهذا لا يحصل له أجر الشهيد ولو مات بالطاعون، هذا الذي يقتضيه

(10/193)


مفهوم هذا الحديث كما اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت بالطاعون. ويدخل تحته ثلاث صور: أن من اتصف بذلك فوقع به الطاعون فمات به، أو وقع به ولم يمت به، أو لم يقع به أصلا ومات بغيره عاجلا أو آجلا. قوله: "مثل أجر الشهيد" لعل السر في التعبير بالمثلية مع ثبوت التصريح بأن من مات بالطاعون كان شهيدا أن من لم يمت من هؤلاء بالطاعون كان له مثل أجر الشهيد وإن لم تحصل له درجة الشهادة بعينها وذلك أن من اتصف بكونه شهيدا أعلى درجة ممن وعد بأنه يعطي مثل أجر الشهيد، ويكون كمن خرج على نية الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا فمات بسبب غير القتل، وأما ما اقتضاه مفهوم حديث الباب أن من اتصف بالصفات المذكورة ووقع به الطاعون ثم لم يمت منه أنه يحصل له ثواب الشهيد فشهد له حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة أن أبا محمد أخبره وكان من أصحاب ابن مسعود أنه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته" والضمير في قوله "أنه" لابن مسعود، فإن أحمد أخرجه في مسند ابن مسعود ورجال سنده موثقون، واستنبط من الحديث أن من اتصف بالصفات المذكورة ثم وقع به الطاعون فمات به يكون له أجر شهيدين، ولا مانع من تعدد الثواب بتعدد الأسباب كمن يموت غريبا بالطاعون، أو نفساء مع الصبر والاحتساب، والتحقيق فيما اقتضاه حديث الباب أنه يكون شهيدا بوقوع الطاعون به ويضاف له مثل أجر الشهيد لصبره وثباته، فإن درجة الشهادة شيء وأجر الشهادة شيء، وقد أشار إلى ذلك الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة وقال: هذا هو السر في قوله: "والمطعون شهيد" وفي قوله في هذا: "فله مثل أجر شهيد" ويمكن أن يقال: بل درجات الشهداء متفاوتة، فأرفعها من اتصف بالصفات المذكورة ومات بالطاعون، ودونه في المرتبة من اتصف بها وطعن ولم يمت به، ودونه من اتصف ولم يطعن ولم يمت به. ويستفاد من الحديث أيضا أن من لم يتصف بالصفات المذكورة لا يكون شهيدا ولو وقع الطاعون ومات به فضلا عن أن يموت بغيره، وذلك ينشأ عن شؤم الاعتراض الذي ينشأ عنه التضجر والتسخط لقدر الله وكراهة لقاء الله، وما أشبه ذلك من الأمور التي تفوت معها الخصال المشروطة، والله أعلم. وقد جاء في بعض الأحاديث استواء شهيد الطاعون وشهيد المعركة، فأخرج أحمد بسند حسن عن عتبة بن عبد السلمي رفعه: "يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، فيقال: انظروا فإن كان جراحهم كجراح الشهداء تسيل دما وريحها كريح المسك فهم شهداء، فيجدونهم كذلك". وله شاهد من حديث العرباض بن سارية أخرجه أحمد أيضا والنسائي بسند حسن أيضا بلفظ: "يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا عز وجل في الذين ماتوا بالطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا، ويقول الذين ماتوا على فرشهم إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم، فإذا جراحهم أشبهت جراحهم" زاد الكلاباذي في "معاني الأخبار" من هذا الوجه في آخره: "فيلحقون بهم". قوله: "تابعه النضر عن داود" النضر هو ابن شميل، وداود هو ابن أبي الفرات، وقد أخرج طريق النضر في "كتاب القدر" عن إسحاق بن إبراهيم عنه، وتقدم موصولا أيضا في ذكر بني إسرائيل عن موسى بن إسماعيل، وأخرجه أحمد عن عفان وعبد الصمد بن عبد الوارث وأبي عبد الرحمن المقري والنسائي من طريق يونس بن محمد المؤدب كلهم عن داود بن أبي الفرات، وإنما ذكرت ذلك لئلا يتوهم أن البخاري أراد بقوله: "تابعه النضر" إزالة توهم

(10/194)


من يتوهم تفرد حبان بن هلال به فيظن أنه لم يروه غيرهما، ولم يرد البخاري ذلك وإنما أراد إزالة توهم التفرد به فقط، ولم يرد الحصر فيهما، والله أعلم.

(10/195)


32 - باب الرُّقَى بِالْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ
5735- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا".
فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: كَانَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ".
قوله: "باب الرقى" بضم الراء وبالقاف مقصور: جمع رقية بسكون القاف، يقال رقي بالفتح في الماضي يرقى بالكسر في المستقبل، ورقيت فلانا بكسر القاف أرقيه، واسترقى طلب الرقية، والجمع بغير همز، وهو بمعنى التعويذ بالذال المعجمة. قوله: "بالقرآن والمعوذات" هو من عطف الخاص على العام، لأن المراد بالمعوذات سورة الفلق والناس والإخلاص كما تقدم في أواخر التفسير، فيكون من باب التغليب. أو المراد الفلق والناس وكل ما ورد من التعويذ في القرآن كقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وغير ذلك، والأول أولى، فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من رواية عبد الرحمن بن حرملة عن ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال" فذكر فيها الرقى إلا بالمعوذات، وعبد الرحمن بن حرملة قال البخاري لا يصح حديثه. وقال الطبري لا يحتج بهذا الخبر لجهالة راويه، وعلى تقدير صحته فهو منسوخ بالإذن في الرقبة بفاتحة الكتاب، وأشار المهلب إلى الجواب عن ذلك بأن في الفاتحة معنى الاستعاذة وهو الاستعانة فعلى هذا يختص الجواز بما يشتمل على هذا المعنى، وقد أخرج الترمذي وحسنه والنسائي من حديث أبي سعيد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعودات فأحذ بها وترك ما سواها". وهذا لا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل يدل على الأولوية، ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما، وإنما اجتزأ بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا، وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى. واختلفوا في كونها شرطا، والراجح أنه لا بد من اعتبار الشروط المذكورة، ففي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك قال: "كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك" وله من حديث جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم، فقالوا: يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب، قال: فعرضوا عليه فقال: ما أرى بأسا، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه" وقد تمسك قوم بهذا العموم فأجازوا كل رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمتنع احتياطا، والشرط الآخر

(10/195)


لابد منه. وقال قوم لا تجوز الرقية إلا من العين واللدغة كما تقدم في "باب من اكتوى" من حديث عمران بن حصين " لا رقية إلا من عين أو حمة" ، وأجيب بأن معنى الحصر فيه أنهما أصلا كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلتحق بالعين جواز رقية من به خبل أو مس ونحو ذلك لاشتراكها في كونها تنشأ عن أحوال شيطانية من إنسي أو جني، ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية. وقد وقع عند أبي داود في حديث أنس مثل حديث عمران وزاد: "أو دم" وفي مسلم من طريق يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أنس قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقى من العين والحمة والنملة" وفي حديث آخر "والأذن" ولأبي داود من حديث الشفاء بنت عيد الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ألا تعلمين هذه - يعني حفصة - رقية النملة" والنملة قروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد، وقيل المراد بالحصر معنى الأفضل، أي لا رقية أنفع كما قيل: لا سيف إلا ذو الفقار. وقال قوم: المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما، وفيه نظر، وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقى، فأخرج أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم من طريق ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عنها عن ابن مسعود رفعه: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" وفي الحديث قصة، والتمائم جمع تميمة وهي خرز أو قلادة تعلق في الرأس، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن دلك يدفع الآفات، والتولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله، ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه، فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه كما سيأتي قريبا في "باب المرأة ترقى الرجل" من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم: "كان إذا أوى إلى فراشه ينفث بالمعوذات ويمسح بهما وجهه" الحديث، ومضى في أحاديث الأنبياء حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة" الحديث، وصحح الترمذي من حديث خولة بنت حكيم مرفوعا: "من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يتحول" وعند أبي داود والنسائي بسند صحيح عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن رجل من أسلم "جاء رجل فقال: لدغت الليلة فلم أنم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك" والأحاديث في هذا المعنى موجودة، لكن يحتمل أن يقال: إن الرقى أخص من التعوذ، وإلا فالخلاف في الرقى مشهور، ولا خلافه في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما وقع وما يتوقع. وقال ابن التين: الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى، فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم، ويقال: إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذا اللديغ إذا رقى بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئا من الشرك، وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة. وقال القرطبي: الرقى ثلاثة أقسام، أحدها ما كان يرقى به في الجاهلية مما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه

(10/196)


لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى الشرك. الثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورا فيستحب. الثالث: ما كان بأسماء غير الله من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش، قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله والتبرك بأسمائه فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقى به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله تعالى. قلت: ويأتي بسط ذلك في كتاب الأيمان إن شاء الله تعالى. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله، قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله اهـ. وفي "الموطأ " أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقى عائشة: ارقيها بكتاب الله. وروى ابن وهب عن مالك كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم. وقال المازري: اختلف في استرقاء أهل الكتاب فأجازها قوم وكرهها مالك لئلا يكون مما بدلوه. وأجاب من أجاز بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه، وهو كالطب سواء كان غير الحاذق لا يحسن أن يقول والحاذق يأنف أن يبدل حرصا على استمرار وصفه بالحذق لترويح صناعته. والحق أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة فمنع منها ما لا يعرف لئلا يكون فيها كفر. وسيأتي الكلام على من منع الرقى أصلا في "باب من لم يرق" بعد خمسة أبواب إن شاء الله تعالى. قوله: "هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات" دلالته على المعطوف في الترجمة ظاهرة، وفي دلالته على المعطوف عليه نظر، لأنه لا يلزم من مشروعية الرقى بالمعوذات أن يشرع بغيرها من القرآن لاحتمال أن يكون في المعوذات سر ليس في غيرها. وقد ذكرنا من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم ترك ما عدا المعوذات، لكن ثبتت الرقية بفاتحة الكتاب فدل على أن لا اختصاص للمعوذات، ولعل هذا هو السر في تعقيب المصنف هذه الترجمة بباب الرقى بفاتحة الكتاب، وفي الفاتحة من معنى الاستعاذة بالله الاستعانة به، فمهما كان فيه استعاذة أو استعانة بالله وحده أو ما يعطي معنى ذلك فالاسترقاء به مشروع. ويجاب عن حديث أبي سعيد بأن المراد أنه ترك ما كان يتعوذ به من الكلام غير القرآن، ويحتمل أن يكون المراد بقوله في الترجمة "الرقى بالقرآن" بعضه فإنه اسم جنس يصدق على بعضه، والمراد ما كان فيه التجاء إلى الله سبحانه، ومن ذلك المعوذات، وقد ثبت الاستعاذة بكلمات الله في عدة أحاديث كما مضى. قال ابن بطال: في المعوذات جوامع من الدعاء. نعم أكثر المكروهات من السحر والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك، فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بها. قلت: وسيأتي في "باب السحر" شيء من هذا، وقوله: "في المرض الذي مات فيه" ليس قيدا في ذلك وإنما أشارت عائشة إلى أن ذلك وقع في آخر حياته وأن ذلك لم ينسخ. قوله: "أنفث عنه" في رواية الكشميهني: "عليه" وسيأتي باب مفرد في النفث في الرقية. قوله: "وأمسح بيده نفسه" بالنصب على المفعولية أي أمسح جسده بيده، وبالكسر على البدل. وفي رواية الكشميهني: "بيد نفسه" وهو يؤيد الاحتمال الثاني. قال عياض: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر، وقد يكون على سبيل التفاؤل بزوال ذلك الألم عن المريض كانفصال ذلك عن الراقي انتهى. وليس بين قوله في هذه الرواية: "كان ينفث على نفسه" وبين الرواية الأخرى "كان يأمرني أن أفعل ذلك" معارضة لأنه محمول على أنه في ابتداء المرض كان يفعله بنفسه وفي اشتداده كان يأمرها به وتفعله هي من قبل نفسها. قوله: "فسألت الزهري" القائل

(10/197)


معمر، وهو موصول بالإسناد المذكور، وفي الحديث التبرك بالرجل الصالح وسائر أعضائه وخصوصا اليد اليمنى.

(10/198)


33 - باب الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5736- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ فَقَالُوا هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ فَقَالُوا إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا وَلاَ نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعاً مِنْ الشَّاءِ فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ فَبَرَأَ فَأَتَوْا بِالشَّاءِ فَقَالُوا لاَ نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وَقَالَ: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ".
قوله: "باب الرقى بفاتحة الكتاب، ويذكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم" هكذا ذكره بصيغة التمريض، وهو يعكر على ما تقرر بين أهل الحديث أن الذي يورده البخاري بصيغة التمريض لا يكون على شرطه، مع أنه أخرج حديث ابن عباس في الرقية بفاتحة الكتاب عقب هذا الباب. وأجاب شيخنا في كلامه على علوم الحديث بأنه قد يصنع ذلك إذا ذكر الخبر بالمعنى، ولا شك أن خبر ابن عباس ليس فيه التصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرقبة بفاتحة الكتاب وإنما فيه تقريره على ذلك فنسبة ذلك إليه صريحا تكون نسبة معنوية، وقد علق البخاري بعض هذا الحديث بلفظه فأتى به مجزوما كما تقدم في الإجارة في "باب ما يعطى في الرقية بفاتحة الكتاب" وقال ابن عباس "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" ثم قال شيخنا: لعل لابن عباس حديثا آخر صريحا في الرقية بفاتحة الكتاب ليس على شرطه فلذلك أتى به بصيغة التمريض. قلت: ولم يقع لي ذلك بعد التتبع. حديث أبي سعيد في قصة الذين أتوا على الحي فلم يقروهم، فلدغ سيد الحي فرقاه أبو سعيد بفاتحة الكتاب، وقد تقدم شرحه في كتاب الإجارة مستوفى. وقال ابن القيم: إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص ومنافع فما الظن بكلام رب العالمين ثم بالفاتحة التي لم ينزل في القرآن ولا غيره من الكتب مثلها لتضمنها جميع معاني الكتاب، فقد اشتملت على ذكر أصول أسماء الله ومجامعها وإثبات المعاد وذكر التوحيد والافتقار إلى الرب في طلب الإعانة به والهداية منه، وذكر أفضل الدعاء وهو طلب الهداية إلى الصراط المستقيم المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والاستقامة عليه، ولتضمنها ذكر أصناف الخلائق وقسمتهم إلى منعم عليه لمعرفته بالحق والعمل به، ومغضوب عليه لعدوله عن الحق بعد معرفته، وضال لعدم معرفته له، مع ما تضمنته من إثبات القدر والشرع والأسماء والمعاد والتوبة وتزكية النفس وإصلاح القلب والرد على جميع أهل البدع، وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من كل داء، والله أعلم.

(10/198)


34 - باب الشُّروطِ فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتحَةِ الكتَابِ
5737- حَدَّثَنا سِيدَانُ بْنُ مُضَارِبٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ الْبَصْرِيُّ هُوَ صَدُوقٌ يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ الْبَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الأَخْنَسِ أَبُو مَالِكٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِ

(10/198)


35 - باب رُقْيَةِ الْعَيْنِ
5738- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنْ الْعَيْنِ" .
5739- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ : اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ ".
وَقَالَ عُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ.

(10/199)


قوله: "باب رقية العين" أي رقية الذي يصاب بالعين، تقول عنت الرجل أصبته بعينك فهو معين ومعيون ورحل عائن ومعيان وعيون. والعين نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر، وقد وقع عند أحمد - من وجه آخر - عن أبي هريرة رفعه: "العين حق، ويحضرها الشيطان، وحسد ابن آدم". وقد أشكل ذلك على بعض الناس فقال: كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون؟ والجواب أن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون، وقد نقل عن بعض من كان معيانا أنه قال: إذا رأيت شيئا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني. ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد، وكذا تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس من غير أن تمسها يدها، ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فيرمد، ويتثاءب واحد بحضرته فيتثاءب هو، أشار إلى ذلك ابن بطال. وقال الخطابي: في الحديث أن للعين تأثيرا في النفوس، وإبطال قول الطبائعيين أنه لا شيء إلا ما تدرك الحواس الخمس وما عدا ذلك لا حقيقة له. وقال المازري: زعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد، وهو كإصابة السم من نظر الأفاعي. وأشار إلى منع الحصر في ذلك مع تجويزه. وأن الذي يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص لآخر، وهل ثم جواهر خفية أو لا؟ هو أمر محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه، ومن قال ممن ينتمي إلى الإسلام من أصحاب الطبائع بأن جواهر لطيفة غير مرئية تنبعث من العائن فتتصل أخطأ بدعوى القطع، ولكن جائز أن يكون عادة ليست ضرورة ولا طبيعة. اهـ. وهو كلام سديد وقد بالغ ابن العربي في إنكاره قال: ذهبت الفلاسفة إلى أن الإصابة بالعين صادرة عن تأثير النفس بقوتها فيه، فأول ما تؤثر في نفسها ثم تؤثر في غيرها. وقيل: إنما هو سم في عين العائن يصيب بلفحه عند التحديق إليه كما يصيب لفح سم الأفعى من يتصل به، ثم رد الأول بأنه لو كان كذلك لما تخلفت الإصابة في كل حال، والواقع خلافه. والثاني: بأن سم الأفعى جزء منها وكلها قاتل، والعائن ليس يقتل منه شيء في قولهم إلا نظره وهو معني خارج عن ذلك، قال: والحق أن الله يخلق عند نظر العائن إليه وإعجابه به إذا شاء ما شاء من ألم أو هلكة، وقد يصرف قبل وقوعه إما بالاستعاذة أو بغيرها، وقد يصرفه بعد وقوعه بالرقبة أو بالاغتسال أو بغير ذلك. اهـ كلامه. وفيه بعض ما يتعقب، فإن الذي مثل بالأفعى لم يرد أنها تلامس المصاب حتى يتصل به من سمها، وإنما أراد أن جنسا من الأفاعي اشتهر أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك فكذلك العائن وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أبي لبابه الماضي في بدء الخلق عند ذكر الأبتر وذي الطفيتين قال: فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبل، وليس مراد الخطابي بالتأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة، بل ما أجرى الله به العادة من حصول الضرر للمعيون، وقد أخرج البزار بسند حسن عن جابر رفعه: "أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنفس" قال الراوي: يعني بالعين، وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوي والخواص في الأجسام والأرواح كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك، وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه، وكثير من الناس يسقم بمجرد النظر إليه وتضعف قواه، وكل ذلك بواسطة ما خلق

(10/200)


الله تعالى في الأرواح من التأثيرات ولشدة ارتباطها بالعين نسب الفعل إلى العين، وليست هي المؤثرة وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها: فمنها ما يؤثر في البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة. والحاصل أن التأثير بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصورا على الاتصال الجسماني، بل يكون تارة به وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية وأخرى بتوجه الروح كالذي يحدث من الأدعية والرقى والالتجاء إلى الله، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنوي إن صادف البدن لا وقاية له أثر فيه، وإلا لم ينفذ السهم، بل ربما رد على صاحبه كالسهم الحسي سواء. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "حدثني معبد بن خالد" هو الجدلي الكوفي تابعي، وشيخه عبد الله بن شداد هو المعروف بابن الهاد له رؤية وأبوه صحابي. قوله: "عن عائشة" كذا للأكثر. وكذا لمسلم من طريق مسعر عن معبد بن خالد، ووقع عند الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن مهدي مثله، لكن شك فيه فقال: "أو قال عن عبد الله بن شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة". قوله: "قالت أمرني النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر أن يسترقى من العين" أي يطلب الرقية ممن يعرف الرقى بسبب العين، كذا وقع بالشك هل قالت: "أمر" بغير إضافة أو " أمرني" وقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه عن الطبراني عن معاذ بن المثنى عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه فقال: "أمرني" جزما وكذا أخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق أبي نعيم عن سفيان الثوري، ولمسلم من طريق عبد الله بن نمير عن سفيان "كان يأمرني أن أسترقي" وعنده من طريق مسعر عن معبد بن خالد "كان يأمرها" ولابن ماجه من طريق وكيع عن سفيان "أمرها أن تسترقي" وهو للإسماعيلي في رواية عبد الرحمن بن مهدي. وفي هذا الحديث مشروعية الرقية لمن أصابه العين، وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي من طريق عبيد بن رفاعة "عن أسماء بنت عميس أنها قالت: يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: نعم" الحديث، وله شاهد من حديث جابر أخرجه مسلم قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل حزم في الرقية. وقال لأسماء: ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ أتصيبهم الحاجة؟ قال: لا، ولكن العين تسرع إليهم، قال: ارقيهم، فعرضت عليه فقال: ارقيهم" وقوله: "ضارعة" بمعجمة أوله أي نحيفة، وورد في مداواة المعيون أيضا ما أخرجه أبو داود من رواية الأسود عن عائشة أيضا قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين" وسأذكر كيفية اغتساله في شرح حديث الباب الذي بعد هذا. قوله: "حدثنا محمد بن خالد" قال الحاكم والجوزقي والكلاباذي وأبو مسعود ومن تبعهم، هو الذهلي نسب إلى جد أبيه فإنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس، وقد كان أبو داود يروي عن محمد بن يحيى فينسب أباه إلى جد أبيه أيضا فيقول: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، قالوا وقد حدث أبو محمد بن الجارود بحديث الباب عن محمد بن يحيى الذهلي، وهي قرينة في أنه المراد، وقد وقع في رواية الأصيلي هنا "حدثنا محمد بن خالد الذهلي" فانتفى أن يظن أنه محمد بن خالد بن جبلة الرافعي الذي ذكره ابن عدي في شيوخ البخاري، وقد أخرج الإسماعيلي وأبو نعيم أيضا حديث الباب من طريق محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن وهب بن عطية المذكور، وكذا هو في "كتاب الزهريات" جمع الذهلي، وهذا الإسناد مما نزل فيه البخاري في حديث عروة بن الزبير ثلاث درجات، فإنه أخرج في صحيحه حديثا عن عبد الله بن موسى عن هشام بن عروة عن أبيه وهو في العتق فكان بينه وبين عروة رجلان، وهنا بينه وبينه فيه خمسة أنفس، ومحمد بن وهب بن عطية سلمي قد أدركه البخاري وما أدري لقيه أم لا، وهو من

(10/201)


أقران الطبقة الوسطى من شيوخه، وما له عنده إلا هذا الحديث، وقد أخرجه مسلم عاليا بالنسبة لرواية البخاري هذه قال: حدثنا أبو الربيع حدثنا محمد بن حرب فذكره، ومحمد بن حرب شيخه خولاني حمصي كان كاتبا للزبيدي شيخه في هذا الحديث وهو ثقة عند الجميع. "تنبيه": اجتمع في هدا السند من البخاري إلى الزهري ستة أنفس في نسق كل منهم اسمه محمد، وإذا روينا الصحيح من طريق الفراوي عن الحفص عن الكشميهني عن الفربري كانوا عشرة. قوله: "رأى في بيتها جارية" لم أقف على اسمها، ووقع في مسلم قال لجارية في بيت أم سلمة. قوله: "في وجهها سفعة" بفتح المهملة ويجور ضمها وسكون الفاء بعدها عين مهملة وحكى عياض ضم أوله، قال إبراهيم الحربي: هو سواد في الوجه ومنه سفعة الفرس سواد ناصيته، وعن الأصمعي: حمرة يعلوها سواد، وقيل: صفرة، وقيل: سواد مع لون آخر. وقال ابن قتيبة: لون يخالف لون الوجه، وكلها متقاربة، وحاصلها أن بوجهها موضعا على غير لونه الأصلي، وكأن الاختلاف بحسب اللون الأصلي، فإن كان أحمر فالسفعة سواد صرف، وإن كان أبيض فالسفعة صفرة وإن كان أسمر فلسفعة حمرة يعلوها سواد. وذكر صاحب "البارع" في اللغة أن السفع سواد الخدين من المرأة الشاحبة، والشحوب بمعجمة ثم مهملة: تغير اللون بهزال أو غيره، ومنه سفعاء الخدين، وتطلق السفعة على العلامة، ومنه بوجهها سفعة غضب. وهو راجع إلى تغير اللون، وأصل السفع الأخذ بقهر، ومنه قوله تعالى: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} ويقال أن أصل السفع الأخذ بالناصية ثم استعمل في غيرها، وقيل في تفسيرها: لنعلمنه بعلامة أهل النار من سواد الوجه ونحوه، وقيل: معناه لنذلنه، ممكن رد الجميع إلى معنى واحد فإنه إذا أخذ بناصيته بطريق القهر أذله وأحدث له تغير لونه فظهرت قيه تلك العلامة ومنه قوله في حديث الشفاعة "قوم أصابهم سفع من النار". قوله: "استرقوا لها" بسكون الراء. قوله: "فإن بها النظرة" بسكون الظاء المعجمة. وفي رواية مسلم: "فقال: إن بها نظرة فاسترقوا لها" يعني بوجهها صفرة، وهدا التفسير ما عرفت قائله إلا أنه يغلب على ظني أنه الزهري، وقد أنكره عياض من حيث اللغة، وتوجيهه ما قدمته واختلف في المراد بالنظرة فقيل: عين من نظر الجن، وقيل من الإنس وبه جزم أبو عبيد الهروي، والأولى أنه أعم من ذلك وأنها أصيبت بالعين فلذلك أذن صلى الله عليه وسلم في الاسترقاء لها، وهو دال على مشروعية الرقية من العين على وفق الترجمة. قوله: "تابعه عبد الله بن سالم" يعني الحمصي، وكنيته أبو يوسف "عن الزبيدي" أي على وصل الحديث. "وقال عقيل عن الزهري أخبرني عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني لم يذكر في إسناده زينب ولا أم سلمه، فأما رواية عبد الله بن سالم فوصلها الذهلي في "الزهريات" والطبراني في "مسند الشاميين" من طريق إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي عن عمرو بن الحارث الحمصي عن عبد الله بن سالم به سندا ومتنا، وأما رواية عقيل فرواها ابن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل ولفظه: "أن جارية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة فقال: "كأن بها سفعة أو خطرت بنار" هكذا وقع لنا مسموعا في جزء من "فوائد أبي الفضل بن طاهر" بسنده إلى ابن وهب، ورواه الليث عن عقيل أيضا، ووجدته في "مستدرك الحاكم" من حديثه لكن زاد فيه عائشة بعد عروة، وهو وهم فيما أحسب، ووجدته في "جامع ابن وهب" عن يونس عن الزهري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لجارية" فذكر الحديث، واعتمد الشيخان في هذا الحديث على رواية الزبيدي لسلامتها من الاضطراب ولم يلتفتا إلى تقصير يونس فيه، وقد روى الترمذي من طريق الوليد بن مسلم أنه سمع الأوزاعي يفضل الزبيدي على جميع أصحاب الزهري، يعني في الضبط، وذلك أنه كان يلازمه كثيرا حضرا وسفرا، وقد

(10/202)


تمسك بهذا من زعم أن العمدة لمن وصل على من أرسل لاتفاق الشيخين على تصحيح الموصول هنا على المرسل، والتحقيق أنهما ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد بل هو دائر مع القرينة، فمهما ترجح بها اعتمداه، وإلا فكم حديث أعرضا عن تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله، وقد جاء حديث عروة هذا من غير رواية الزهري أخرجه البزار من رواية أبي معاوية عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عروة عن أم سلمة، فسقط من روايته ذكر زينب بنت أم سلمة. وقال الدار قطني: رواه مالك وابن عيينة وسمي جماعة كلهم عن يحيى بن سعيد فلم يجاوزا به عروة، وتفرد أبو معاوية بذكر أم سلمة فيه ولا يصح، وإنما قال ذلك بالنسبة لهذه الطريق لانفراد الواحد عن العدد الجم، وإذا انضمت هذه الطريق إلى رواية الزبيدي قويت جدا، والله أعلم.

(10/203)


36 - باب الْعَيْنُ حَقٌّ
5740- حَدَّثَني إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ وَنَهَى عَنْ الْوَشْمِ" .
[الحديث 5740 – طرفه في: 5944]
قوله: "باب العين حق" أي الإصابة بالعين شيء ثابت موجود، أو هو من جملة ما تحقق كونه. قال المازري: أخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأنكره طوائف المبتدعة لغير معنى، لأن كل شيء ليس محالا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل، فهو من متجاوزات العقول، فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى، وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة؟ قوله: "العين حق، ونهى عن الوشم" لم تظهر المناسبة بين هاتين الجملتين، فكأنهما حديثان مستقلان، ولهذا حذف مسلم وأبو داود الجملة الثانية من روايتهما مع أنهما أخرجاه من رواية عبد الرزاق الذي أخرجه البخاري من جهته، ويحتمل أن يقال: المناسبة بينهما اشتراكهما في أن كلا منهما يحدث في العضو لونا غير لونه الأصلي. والوشم بفتح الواو وسكون المعجمة أن يغرز إبرة أو نحوها في موضع من البدن حتى يسيل الدم ثم يحشى ذلك الموضع بالكحل أو نحوه فيخضر، وسيأتي بيان حكمه في "باب المستوشمة" من أواخر كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. وقد ظهرت لي مناسبة بين هاتين الجملتين لم أر من سبق إليها، وهي: أن من جملة الباعث على عمل الوشم تغير صفة الموشوم لئلا تصيبه العين، فنهى عن الوشم مع إثبات العين، وأن التحيل بالوشم وغيره مما لا يستند إلى تعليم الشارع لا يفيد شيئا، وأن الذي قدره الله سيقع. وأخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا" فأما الزيادة الأولى ففيها تأكيد وتنبيه على سرعة نفوذها وتأثيره في الذات، وفيها إشارة إلى الرد على من زعم من المتصوفة أن قوله: "العين حق" يريد به القدر أي العين التي تجري منها الأحكام، فإن عين الشيء حقيقته، والمعني أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر إنما هو بقدر الله السابق لا بشيء يحدثه الناظر في المنظور. ووجه الرد أن الحديث ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين، وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور، لكن ظاهره إثبات العين التي تصيب إما بما جعل الله تعالى فيها من ذلك وأودعه فيها، وإما بإجراء العادة بحدوث الضرر عند تحديد النظر، وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين لا أنه يمكن أن يرد القدر شيء

(10/203)


إذ القدر عبارة عن سابق علم الله، وهو لا راد لأمره، أشار إلى ذلك القرطبي. وحاصله لو فرض أن شيئا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين. لكنها لا تسبق، فكيف غيرها؟ وقد أخرج البزار من حديث جابر بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس" قال الراوي: يعني بالعين. وقال النووي: في الحديث إثبات القدر وصحة أمر العين وأنها قوية الضرر. وأما الزيادة الثانية: وهي أمر العاين بالاغتسال عند طلب المعيون منه ذلك ففيها إشارة إلى أن الاغتسال لذلك كان معلوما بينهم، فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، وأدنى ما في ذلك رفع الوهم الحاصل في ذلك، وظاهر الأمر الوجوب. وحكى المازري فيه خلافا وصحح الوجوب وقال: متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى، ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال، وقد وقعت في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف "أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف - وكان أبيض حسن الجسم والجلد - فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط - أي صرع وزنا ومعنى - سهل. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تتهمون به من أحد؟ قالوا: عامر بن ربيعة. فدعا عامرا فتغيظ علمه فقال: علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت. ثم قال: اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلقه على رأسه وظهره ثم يكفأ القدح؛ ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس" لفظ أحمد من رواية أبي أويس عن الزهري، ولفظ النسائي من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري بهذا السند أنه يصب صبة على وجهه بيده اليمنى، وكذلك سائر أعضائه صبة صبة في القدح. وقال في آخره: "ثم يكفأ القدح وراءه على الأرض" ووقع في رواية ابن ماجه من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي أمامة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل، فذكر الحديث وفيه: "فليدع بالبركة. ثم دعا بماء فأمر عامرا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه" قال سفيان: قال معمر عن الزهري: "وأمر أن يكفأ الإناء من خلفه" قال المازري: المراد بداخلة الإزار الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن، قال فظن بعضهم أنه كناية عن الفرج انتهى. وزاد عياض أن المراد ما يلي جسده من الإزار، وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد، وقيل: أراد وركه لأنه معقد الإزار. والحديث في "الموطأ" وفيه عن مالك "حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل أنه سمع أباه يقول، اغتسل سهل - فذكر نحوه وفيه - فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، فوعك سهل مكانه واشتد وعكه - وفيه - إلا بركت؟ إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر فراح سهل ليس به بأس". "تنبيهات": الأول: اقتصر النووي في "الأذكار" على قوله: الاستغسال أن يقال للعائن: اغسل داخلة إزارك مما يلي الجلد، فإذا فعل صبه على المنظور إليه. وهذا يوهم الاقتصار على ذلك، وهو عجيب، ولا سيما وقد نقل في "شرح مسلم" كلام عياض بطوله. الثاني: قال المازري هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه. وقال ابن العربي: إن توقف فيه متشرع قلنا له: قل الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة. أو متفلسف فالرد عليه أظهر لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك،

(10/204)


ويسمون ما هذا سبيله الخواص. وقال ابن القيم: هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجربا غير معتقد، وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الأطباء عللها بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصية فما الذي تنكر جهلتهم من الخواص الشرعية؟ هذا مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة، فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها، وهذا علاج النفس الغضبية توضع اليد على بدن الغضبان فيسكن، فكان أثر تلك العين كشعلة نار وقعت على جسد، ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة. ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها، ولا شيء أرق من المغابن، فكان في غسلها إبطال لعملها، ولا سيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصا. وفيه أيضا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذا، فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء. الثالث: هذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة، فأما عند الإصابة وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة مسهل بن حنيف المذكورة كما مضى "ألا بركت عليه" وفي رواية ابن ماجه: "فليدع بالبركة" ومثله عند ابن السني من حديث عامر بن ربيعة. وأخرج البزار وابن السني من حديث أنس رفعه: "من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لم يضره" . وفي الحديث من الفوائد أيضا: أن العائن إذا عرف يقضي عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح، وأن الذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الماء المستعمل طاهر، وفيه جواز الاغتسال بالفضاء، وأن الإصابة بالعين قد تقتل. وقد اختلف في جريان القصاص بذلك فقال القرطبي: لو أتلف العائن شيئا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة، وهو في ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا، انتهى. ولم يتعرض الشافعية للقصاص في ذلك، بل منعوه وقالوا: إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا. وقال النووي في "الروضة": ولا دية فيه ولا كفارة. لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الأحوال مما لا انضباط له، كيف ولم يقع منه فعل أصلا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال نعمة. وأيضا فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين اهـ. ولا يعكر على ذلك إلا الحكم بقتل الساحر فإنه في معناه، والفرق بينهما فيه عسر. ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم فإنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر رضي الله عنه بمنعه من مخالطة الناس كما تقدم واضحا في بابه، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة. قال النووي: وهذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه.

(10/205)


37 - باب رُقْيَةِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ
5741- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الرُّقْيَةِ مِنْ الْحُمَةِ فَقَالَتْ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّقْيَةَ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَةٍ".

(10/205)


قوله: "باب رقية الحية والعقرب" أي مشروعية ذلك، وأشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض طرق حديث الباب على ما سأذكره. قوله: "عبد الواحد" هو ابن زياد، وبذلك جزم أبو نعيم حيث أخرج الحديث من طريق محمد بن عبيد بن حسان عنه. قوله: "سليمان الشيباني" هو أبو إسحاق مشهور بكنيته أكثر من اسمه. قوله: "رخص" فيه إشارة إلى أن النهي عن الرقى كان متقدما، وقد بينت ذلك في الباب الأول. قوله: "من كل ذي حمة" بضم المهملة وتخفيف الميم، تقدم بيانها في "باب ذات الجنب" وأن المراد بها ذوات السموم، ووقع في رواية أبي الأحوص عن الشيباني بسنده "رخص في الرقية من الحية والعقرب.

(10/206)


38 - باب رُقْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5742- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَثَابِتٌ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ ثَابِتٌ يَا أَبَا حَمْزَةَ اشْتَكَيْتُ فَقَالَ أَنَسٌ أَلاَ أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَلَى قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْبَاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لاَ شَافِيَ إِلاَّ أَنْتَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَماً" .
5743- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبْ الْبَاسَ اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَماً" .
قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثْتُ بِهِ مَنْصُوراً فَحَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ ... نَحْوَهُ.
5744- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْقِي يَقُولُ امْسَحْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ بِيَدِكَ الشِّفَاءُ لاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ أَنْتَ".
5745- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا".
[الحديث 5745 – طرفه في: 5746]
5746- حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الرُّقْيَةِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا وَرِيقَةُ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا" .
قوله: "باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم" أي التي كان يرقي بها. قوله: "عبد الوارث" هو ابن سعيد، وعبد العزيز هو ابن صهيب، والإسناد بصريون. قوله: "فقال ثابت" هو البناني "يا أبا حمزة" هي كنية أنس. قوله: "اشتكيت" بضم التاء أي مرضت، ووقع في رواية الإسماعيلي: "إني اشتكيت".

(10/206)


قوله: "ألا" بتخفيف اللام و"أرقيك" بفتح الهمزة. قوله: "مذهب الباس" بغير همز للمؤاخاة فإن أصله الهمزة. قوله: "أنت الشافي" يؤخذ منه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن بشرطين: أحدهما أن لا يكون في ذلك ما يوهم نقصا، والثاني أن يكون له أصل في القرآن وهذا من ذاك، فإن في القرآن {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . قوله: "لا شافي إلا أنت" إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوي إن لم يصادف تقدير الله تعالى وإلا فلا ينجع. قوله: "شفاء" مصدر منصوب بقوله: "اشف" ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ أي هو. قوله: "لا يغادر" بالغين المعجمة أي لا يترك، وقد تقدم بيانه والحكمة فيه في أواخر كتاب المرضى، وقوله: "سقما" بضم ثم سكون، وبفتحتين أيضاء. ويؤخذ من هذا الحديث أن الإضافة في الترجمة للفاعل، وقد ورد ما يدل على أنها للمفعول، وذلك فيما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اشتكيت؟ قال: نعم. قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك" وله شاهد عنده بمعناه من حديث عائشة. قوله: "يحيى" هو القطان، وسفيان هو الثوري، وسليمان هو الأعمش ومسلم هو أبو الضحى مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وجوز الكرماني أن يكون مسلم بن عمران لكونه يروي عن مسروق ويروي الأعمش عنه، وهو تجويز عقلي محض يمجه سمع المحدث، على أنني لم أر لمسلم بن عمران البطين رواية عن مسروق وإن كانت ممكنة، وهذا الحديث إنما هو من رواية الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق، وقد أخرجه مسلم من رواية جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق به، ثم أخرجه من رواية هشيم ومن رواية شعبة ومن رواية يحيى القطان عن الثوري كلهم عن الأعمش قال بإسناد جرير، فوضح أن مسلما المذكور في رواية البخاري هو أبو الضحى، فإنه أخرجه من رواية يحيى القطان، وغايته أن بعض الرواة عن يحيى سماه وبعضهم كناه والله أعلم. قوله: "كان يعوذ بعض أهله" لم أقف على تعيينه. قوله: "يمسح بيده اليمني" أي على الوجع قال الطبري: هو على طريق التفاؤل لزوال ذلك، الوجع. قوله: "واشفه وأنت الشافي" في رواية الكشميهني بحذف الواو، والضمير في اشفه للعليل، أو هي هاء السكت. قوله: "لا شفاء" بالمد مبني على الفتح والخبر محذوف والتقدير لنا أو له. قوله: "إلا شفاؤك" بالرفع على أنه بدل من موضع لا شفاء. قوله: "قال سفيان" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "حدثت به منصورا" هو ابن المعتمر، وصار بذلك في هذا الحديث إلى مسروق طريقان، وإذا ضم الطريق الذي بعده إليه صار إلى عائشة طريقان، وإذا ضم إلى حديث أنس صار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه طريقان. قوله: "نحوه" تقدم سياقه في أواخر كتاب المرضى مع بيان الاختلاف على الأعمش ومنصور في الواسطة بينهما وبين مسروق، ومن أفرد ومن جمع وتحرير ذلك واضحا. "النضر" هو ابن شميل. قوله: "كان يرقي" بكسر القاف، وهو بمعنى قوله في الرواية التي قبلها "كان يعوذ" ولعل هذا هو السر أيضا في إيراد طريق عروة وإن كان سياق مسروق أتم، لكن عروة صرح بكون ذلك رقية فيوافق حديث أنس في أنها رقية النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "امسح" هو بمعنى قوله في الرواية الأخرى "أذهب" والمراد الإزالة. قوله: "بيدك الشفاء لا كاشف له" أي للمرض "إلا أنت" وهو بمعنى قوله: "اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت". قوله: "سفيان" هو ابن عيينة كما صرح به في الطريق الثانية، وقدم الأولى لتصريح سفيان بالتحديث، وصدقة شيخه في الثانية هو ابن الفضل المروزي. قوله: "عبد ربه بن سعيد" هو الأنصاري أخو يحيى بن سعيد، هو ثقة، ويحيى أشهر منه وأكثر

(10/207)


حديثا. قوله: "كان يقول للمريض بسم الله" في رواية صدقة "كان يقول في الرقية" وفي رواية مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان زيادة في أوله ولفظه: "كان إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بإصبعه هكذا - ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها - بسم الله". قوله: "تربة أرضنا" خبر مبتدأ محذوف أي هذه تربة، وقوله: "بريقة بعضنا" يدل على أنه كان يتفل عند الرقية، قال النووي: معنى الحديث أنه أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم وضعها على التراب فعلق به شيء منه ثم مسح به الموضع العليل أو الجريح قائلا الكلام المذكور في حالة المسح، قال القرطبي: فيه دلالة على جواز الرقى من كل الآلام، وأن ذلك كان أمرا فاشيا معلوما بينهم، قال: ووضع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية. ثم قال: وزعم بعض علمائنا أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذي به الألم ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها. قال وقال في الريق: إنه يختص بالتحليل والإنضاج وإبراء الجرح والورم لا سيما من الصائم الجائع، وتعقبه القرطبي أن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يتعلق بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله، وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك، أو لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة. وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه ليأمن مضرة ذلك. ثم أن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها. وقال التوربشتي: كأن المراد بالتربة الإشارة إلى قطرة آدم، والريقة الإشارة إلى النطفة، كأنه تضرع بلسان الحال أنك اخترعت الأصل من التراب ثم أبدعته منه من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته. وقال النووي: قيل المراد بأرضنا أرض المدينة خاصة لبركتها، وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصا. وفيه نظر. قوله: "يشفى سقيمنا" ضبط بالوجهين بضم أوله على البناء للمجهول، وسقيمنا بالرفع وبفتح أوله على أن الفاعل مقدر، وسقيمنا بالنصب على المفعولية. "تنبيه": أخرج أبو داود والنسائي ما يفسر به الشخص المرقى، وذلك في حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ثابت بن قيس بن شماس وهو مريض فقال: اكشف الباس، رب الناس. ثم أخذ من بطحان فجعله في قدح، ثم نفث عليه، ثم صبه عليه".

(10/208)

  بااب النفث في الرقية
...
39 - باب النَّفْثِ فِي الرُّقْيَةِ
5747- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفِثْ حِينَ يَسْتَيْقِظُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَيَتَعَوَّذْ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ"
وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَإِنْ كُنْتُ لاَرَى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ الْجَبَلِ فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا". ==

   كتاب :33. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 =

5748- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعاً ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ" . قَالَ يُونُسُ: كُنْتُ أَرَى ابْنَ شِهَابٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ إِذَا أَتَى إِلَى فِرَاشِهِ.
5749- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ "أَنَّ رَهْطاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقُوا فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ قَدْ نَزَلُوا بِكُمْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ فَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّي لَرَاقٍ وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حَتَّى لَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَانْطَلَقَ يَمْشِي مَا بِهِ قَلَبَةٌ قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اقْسِمُوا فَقَالَ الَّذِي رَقَى لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ أَصَبْتُمْ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ" .
قوله: "باب النفث" بفتح النون وسكون الفاء بعدها مثلثة "في الرقية". في هذه الترجمة إشارة إلى الرد على من كره النفث مطلقا - كالأسود بن يزيد أحد التابعين - تمسكا بقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} ، وعلى من كره النفث عند قراءة القرآن خاصة كإبراهيم النخعي، أخرج ذلك ابن أبي شيبة وغيره، فأما الأسود فلا حجة له في ذلك لأن المذموم ما كان من نفث السحرة وأهل الباطل، ولا يلزم منه ذم النفث مطلقا، ولا سيما بعد ثبوته في الأحاديث الصحيحة، وأما النخعي فالحجة عليه ما ثبت في حديث أبي سعيد الخدري ثالث أحاديث الباب، فقد قصوا على النبي صلى الله عليه وسلم القصة وفيها أنه قرأ بفاتحة الكتاب وتفل ولم ينكر ذلك صلى الله عليه وسلم فكان ذلك حجة، وكذا الحديث الثاني فهو واضح من قوله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم بيان النفث مرارا، أو من قال إنه لا ريق فيه وتصويب أن فيه ريقا خفيفا. وذكر فيه ثلاثة أحاديث. قوله: "سليمان" هو ابن بلال، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، والإسناد كله مدنيون. قوله: "الرؤيا من الله" يأتي شرحه مستوفى في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى. وقوله: "فلينفث" هو المراد من الحديث المذكور في هذه الترجمة لأنه دل على جدواها. قوله: "وقال أبو سلمة" هو موصول بالإسناد المذكور وقوله: "فإن كنت" في رواية الكشميهني بدون الفاء، وقوله: "أثقل علي من الجبل" أي لما كان يتوقع من

(10/209)


شرها. الحديث الثاني: قوله: "سليمان" هو ابن بلال أيضا، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "إذا أوى إلى فراشه نفث في كفه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين" أي يقرؤها وينفث حالة القراءة، وقد تقدم بيان ذلك في الوفاة النبوية. قوله: "ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده" في رواية المفضل بن فضالة عن عقيل "ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات". قوله: "فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به" وهذا مما تفرد به سليمان بن بلال عن يونس، وقد تقدم في الوفاة النبوية من رواية عبد الله بن المبارك عن يونس بلفظ: "فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه" وأخرجه مسلم من رواية ابن وهب عن يونس فلم يذكرها. قوله: "قال يونس: كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أوى إلى فراشه" وقع نحو ذلك في رواية عقيل عن ابن شهاب عند عبد بن حميد، وفيه إشارة إلى الرد على من زعم أن هذه الرواية شاذة، وأن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا اشتكى كما في رواية مالك وغيره، فدلت هذه الزيادة على أنه كان يفعل ذلك إذا أوى إلى فراشه، وكان يفعله إذا اشتكى شيئا من جسده، فلا منافاة بين الروايتين. وقد تقدم في فضائل القرآن قول من قال إنهما حديثان عن الزهري بسند واحد. حديث أبي سعيد في قصة اللديغ الذي رقاه بفاتحة الكتاب، وتقدم شرحه مستوفى في كتاب الإجارة، وتقدمت الإشارة إليه قريبا. ووقع في هذه الرواية: "فجعل يتفل ويقرأ". وقد قدمت أن النفث دون التفل، وإذا جاز التفل جاز النفث بطريق الأولى. وفيها "ما به قلب" بفتح اللام بعدها موحدة. أي ما به ألم يقلب لأجله على الفراش، وقيل أصله من القلاب بضم القاف وهو داء يأخذ البعير فيمسك على قلبه فيموت من يومه.

(10/210)


40 - باب مَسْحِ الرَّاقِي الْوَجَعَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى
5750- حدثني عبد الله بن أبي شيبة حدثنا يحيى عن سفيان عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بعضهم يمسحه بيمينه أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما" . فذكرته لمنصور فحدثني عن إبراهيم عن مسروق عن عائشة بنحوه.
قوله: "باب مسح الراقي الوجع بيده اليمنى" ذكر فيه حديث عائشة في ذلك وقد تقدم شرحه قريبا، والقائل "فذكرته لمنصور" هو سفيان الثوري كما تقدم التصريح به في "باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم".

(10/210)


41 - باب الْمَرْأَة تَرْقِي الرَّجُلَ
5751- حدثني عبد الله بن محمد الجعفي حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن فأمسح بيد نفسه لبركتها فسألت بن شهاب كيف كان ينفث قال ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه".

(10/210)


42 - باب مَنْ لَمْ يَرْقِ
5752- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ تميز عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خبير عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً فَقَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ وَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الأُفُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ فَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ لِي انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا فَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ وَمَعَ هَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا فِي الشِّرْكِ وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَكِنْ هَؤُلاَءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هُمْ الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ" .
قوله: "باب من لم يرق" هو بفتح أوله وكسر القاف مبنيا للفاعل، وبضم أوله وفتح القاف مبنيا للمفعول. قوله: "حصين بن نمير" بنون مصغر هو الواسطي، ما له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد تقدم بهذا الإسناد في أحاديث الأنبياء لكن باختصار، وتقدم الحديث بعينه من وجه آخر عن حصين بن عبد الرحمن في "باب من اكتوى" وذكرت من زاد في أوله قصة وأن شرحه سيأتي في كتاب الرقاق، والغرض منه هنا قوله: "هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون" فأما الطيرة فسيأتي ذكرها بعد هذا، وأما الكي فتقدم ذكرها فيه هناك، وأما الرقية فتمسك بهذا الحديث من كره الرقى والكي من بين سائر الأدوية وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة: أحدها قاله الطبري والمازري وطائفة أنه محمول على من جانب اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها كما كان أهل الجاهلية يعتقدون. وقال غيره: الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية وما الذي لا يعقل معناه لاحتمال أن يكون كفرا، بخلاف الرقى بالذكر ونحوه. وتعقبه عياض وغيره بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفا مزية على غيرهم وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة، ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس مسلما فلم يسلم هذا الجواب.
ثانيها قال الداودي وطائفة إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء، وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا، وقد قدمت هذا عن ابن قتيبة وغيره في "باب من اكتوى"، وهذا اختيار ابن عبد البر، غير أنه معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء. ثالثها قال الحليمي: يحتمل أن يكون

(10/211)


المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعدة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله، والرضا بقضائه، فهم غافلون عن طب الأطباء ورقى الرقاة ولا يحسنون من ذلك شيئا، والله أعلم. رابعها أن المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة وعن السلف الصالح لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه. قال ابن الأثير: هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء هم خواص الأولياء. ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا، لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله، لأنه كان كامل التوكل يقينا فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئا، بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل، لكن من ترك الأسباب وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما. قال الطبري: قيل: لا يستحق التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف من شيء البتة حتى السبع الضاري والعدو العادي، ولا من لم يسع في طلب رزق ولا في مداواة ألم، والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعا لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك. وقال الذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال: "اعقلها وتوكل" فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل، والله أعلم.

(10/212)


43 - باب الطِّيَرَةِ
5753- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَالشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ" .
5754- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قَالُوا وَمَا الْفَأْلُ قَالَ الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ" .
[الحديث 5754 – طرفه في: 5755]
قوله: "باب الطيرة" بكسر المهملة وفتح التحتانية وقد تسكن، هي التشاؤم بالشين، وهو مصدر تطير مثل تحير حيرة. قال بعض أهل اللغة لم يجيء من المصادر هكذا غير هاتين، وتعقب بأنه سمع طيبة، وأورد بعضهم التولة وفيه نظر، وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك، وكانوا يسمونه السانح بمهملة ثم نون ثم حاء مهملة، والبارح بموحدة وآخره مهملة. فالسانح

(10/212)


ما ولاك ميامنه بأن يمر عن يسارك إلى يمينك، والبارح بالعكس. وكانوا يتيمنون بالسانح ويتشاءمون بالبارح، لأنه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه، وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له، إذ لا نطق للطير ولا تمييز فيستدل بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير ويتمدح بتركه، قال شاعر منهم:
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
وقال آخر:
الزجر والطير والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال
وقال آخر:
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحا، ولا عن ريثهن قصور
وقال آخر:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحص ... ولا زاجرت الطير ما الله صانع
وقال آخر:
تخير طيرة فيها زياد ... لتخبره، وما فيها خبير
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير، وهو الثبور
بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا، وباطله كثير
وكان أكثرهم يتطيرون ويعتمدون على ذلك ويصح معهم غالبا لتزيين الشيطان ذلك، وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين. وقد أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أنس رفعه: "لا طيرة، والطيرة على من تطير " وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة، والظن، والحسد. فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق" وهذا مرسل أو معضل، لكن له شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي في "الشعب" وأخرج ابن عدي بسند لين عن أبي هريرة رفعه: "إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا" وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء رفعه: "لن ينال الدرجات العلا من تكهن، أو استقسم، أو رجع من سفر تطيرا" ورجاله ثقات، إلا أنني أظن أن فيه انقطاعا وله شاهد عن عمران بن حصين وأخرجه البزار في أثناء حديث بسند جيد. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان عن ابن مسعود رفعه: "الطيرة شرك، وما منا إلا تطير، ولكن الله يذهبه بالتوكل " وقوله: "وما منا إلا" من كلام ابن مسعود أدرج في الخبر، وقد بينه سليمان بن حرب شيخ البخاري فيما حكاه الترمذي عن البخاري عنه، وإنما جعل ذلك شركا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعا أو يدفع ضرا، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى، وقوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل" إشارة إلى أن من وقع له فسلم لله ولم يعبأ بالطيرة أنه لا يؤاخذ بما عرض له من ذلك. وأخرج البيهقي في "الشعب" من حديث عبد الله بن عمرو موقوفا "من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك" . قوله: "لا عدوى، ولا طيرة، والشؤم في ثلاث" قد تقدم شرح هذا الحديث وبيان اختلاف الرواة في سياقه في كتاب الجهاد، والتطير والتشاؤم بمعني واحد، فنفى أولا بطريق العموم كما نفى العدوى، ثم اثبت الشؤم في الثلاثة المذكورة، وقد ذكرت ما قيل في ذلك هناك. وقد وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي داود بلفظ: "وإن كانت الطيرة في شيء " الحديث. قوله: "لا طيرة،

(10/213)


وخيرها الفأل" يأتي شرحه في الباب الذي بعده، وكأنه أشار بذلك إلى أن النفي في الطيرة على ظاهره لكن في الشر، ويستثنى من ذلك ما يقع فيه من الخير كما سأذكره.

(10/214)


44 - باب الْفَأْلِ
5755- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قَالَ: وَمَا الْفَأْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ" .
5756- حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة" .
[الحديث 5756 – طرفه في: 5776]
قوله: "باب الفأل" بفاء ثم همزة وقد تسهل، والجمع فئول بالهمزة جزما. قوله: "عن عبيد الله بن عبد الله" أي ابن عتبة بن مسعود، وقد صرح في رواية شعيب التي قبل هذه فيه بالإخبار. قوله: "قال وما الفأل؟" كذا للأكثر بالإفراد، وللكشميهني: "قالوا" كرواية شعيب. قوله: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" وقال في حديث أنس ثاني حديثي الباب: "ويعجبني الفأل الصالح، الكلمة الحسنة". وفي حديث عروة بن عامر الذي أخرجه أبو داود قال: "ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خيرها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله" وقوله: "وخيرها الفأل" قال الكرماني تبعا لغيره: هذه الإضافة تشعر بأن الفأل من جملة الطيرة، وليس كذلك بل هي إضافة توضيح، ثم قال: وأيضا فإن من جملة الطيرة كما تقدم تقريره التيامن، فبين بهذا الحديث أنه ليس كل التيامن مردودا كالتشاؤم، بل بعض التيامن مقبول. قلت: وفي جواب الأول دفع في صدر السؤال، وفي الثاني تسليم السؤال ودعوى التخصيص وهو أقرب وقد أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة رفعه: "كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة" وأخرج الترمذي من حديث حابس التميمي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "العين حق، وأصدق الطيرة الفأل" ففي هذا التصريح أن الفأل من جملة الطيرة لكنه مستثنى. وقال الطيبي: الضمير المؤنث في قوله: "وخيرها" راجع إلى الطيرة، وقد علم أن الطيرة كلها لا خير فيها، فهو كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً} وهو مبني على زعمهم، وهو من إرخاء العنان في المخادعة بأن يجري الكلام على زعم الخصم حتى لا يشمئز عن التفكر فيه، فإذا تفكر فأنصف من نفسه قبل الحق، فقوله: "خيرها الفأل" إطماع للسامع في الاستماع والقبول، لا أن في الطيرة خيرا حقيقة، أو هو من نحو قولهم "الصيف أحر من الشتاء" أي الفأل في بابه أبلغ من الطيرة في بابها. والحاصل أن أفعل التفضيل في ذلك إنما هو بين القدر المشترك بين الشيئين، والقدر المشترك بين الطيرة والفأل تأثير كل منهما فيما هو فيه، والفأل في ذلك أبلغ. قال الخطابي: وإنما كان ذلك لأن مصدر الفأل عن نطق وبيان، فكأنه خبر جاء عن غيب، بخلاف غيره فإنه مستند إلى حركة الطائر أو نطقه وليس فيه بيان أصلا، وإنما هو تكلف ممن

(10/214)


يتعاطاه. وقد أخرج الطبري عن عكرمة قال: كنت عند ابن عباس فمر طائر فصاح، فقال رجل: خير خير، فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شر. وقال أيضا: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء فلذلك كرهت. وقال النووي: الفأل يستعمل فيما يسوء وفيما يسر، وأكثره في السرور. والطيرة لا تكون إلا في الشؤم، وقد تستعمل مجازا في السرور. اهـ. وكأن ذلك بحسب الواقع، وأما الشرع فخص الطيرة بما يسوء والفأل بما يسر، ومن شرطه أن لا يقصد إليه فيصير من الطيرة. قال ابن بطال: جعل الله في فطر الناس محبة الكلمة الطيبة والأنس بها كما جعل فيهم الارتياح بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربه. وأخرج الترمذي وصححه من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: يا نجيح يا راشد" وأخرج أبو داود بسند حسن عن بريدة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رؤي كراهة ذلك في وجهه" وذكر البيهقي في "الشعب" عن الحليمي ما ملخصه: كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة، فذكر نحو ما تقدم ثم قال. وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب وبمرور الظباء فسموا الكل تطيرا، لأن أصله الأول. وقال. وكان التشاؤم في العجم إذا رأى الصبي ذاهبا إلى المعلم تشاءم أو راجعا تيمن، وكذا إذا رأى الجمل موقرا حملا تشاؤم فإن رآه واضعا حمله تيمن، ونحو ذلك، فجاء الشرع برفع ذلك كله. وقال: "من تكهن أورده عن سفر تطير فليس منا" ونحو ذلك من الأحاديث. وذلك إذا اعتقد أن الذي يشاهده من حال الطير موجبا ما ظنه ولم يضف التدبير إلى الله تعالى، فأما إن علم أن الله هو المدبر ولكنه اشفق من الشر لأن التجارب قضت بأن صوتا من أصواتها معلوما أو حالا من أحوالها معلومة يردفها مكروه فإن وطن نفسه على ذلك أساء، وإن سأل الله الخير واستعاذ به من الشر ومضى متوكلا لم يضره ما وجد في نفسه من ذلك، وإلا فيؤاخذ به، وربما وقع به ذلك المكروه بعينه الذي اعتقده عقوبة له كما كان يقع كثيرا لأهل الجاهلية. والله أعلم. قال الحليمي: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال. وقال الطيبي: معنى الترخص في الفأل والمنع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئا فظنه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك. وإن رآه بضد ذلك فلا يقبله بل يمضي لسبيله. فلو قبل وانتهى عن المضي فهو الطيرة التي اختصت بأن تستعمل في الشؤم. والله أعلم.

(10/215)


45 - باب لاَ هَامَةَ
5757- حدثنا محمد بن الحكم حدثنا النضر أخبرنا إسرائيل أخبرنا أبو حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر" .
قوله: "باب لا هامة" كذا للجميع، وذكر فيه حديث أبي هريرة "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر " ثم ترجم بعد سبعة أبواب "باب لا هامة" وذكر فيه الحديث المذكور مطولا وليس فيه: "ولا طيرة" وهذا من توارد ما اتفق له أن يترجم للحديث في موضعين بلفظ واحد، وسأذكر شرح الهامة في الموضع الثاني إن شاء الله تعالى، ثم ظهر لي أنه أشار بتكرار هذه الترجمة إلى الخلاف في تفسير الهامة كما سيأتي بيانه.

(10/215)


46 - باب الْكِهَانَةِ
5758- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لاَ شَرِبَ وَلاَ أَكَلَ وَلاَ نَطَقَ وَلاَ اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ" .
[الحديث 5758 – أطرافه في: 5759، 5760، 6740، 6904، 6909، 6910]
5759- حدثنا قتيبة عن مالك عن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن امرأتين رمت إحداهما الأخرى بحجر فطرحت جنينها فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة".
5760- وعن بن شهاب عن سعيد بن المسيب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة. فقال: الذي قضى عليه كيف أغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك بطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان".
5761- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ" .
5762- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَاناً بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقّاً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا مِنْ الْجِنِّيِّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ" .
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: مُرْسَلٌ "الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ" ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَسْنَدَهُ بَعْدَهُ".
قوله: "باب الكهانة" وقع في ابن بطال هنا "والسحر" وليس هو في نسخ الصحيح فيما وقفت عليه، بل ترجمة السحر في باب مفرد عقب هذه، والكهانة - بفتح الكاف ويجوز كسرها - ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيها استراق السمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن. والكاهن لفظ يطلق على العراف، والذي يضرب بالحصى، والمنجم، ويطلق على من يقوم بأمر آخر ويسعى في قضاء حوائجه. وقال في "المحكم": الكاهن القاضي بالغيب. وقال في "الجامع": العرب تسمي كل من أذن بشيء

(10/216)


قبل وقوعه كاهنا. وقال الخطابي: الكهنة قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه. وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصا في العرب لانقطاع النبوة فيهم. وهي على أصناف: منها ما يتلقونه من الجن، فإن الجن كانوا يصعدون إلى جهة السماء فيركب بعضهم بعضا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه، فلما جاء الإسلام ونزل القرآن حرست السماء من الشياطين، وأرسلت عليهم الشهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جدا كما جاء في أخبار شق وسطيح ونحوهما، وأما في الإسلام فقد ندر ذلك جدا حتى كاد يضمحل ولله الحمد. ثانيها ما يخبر الجني به من يواليه بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الإنسان غالبا، أو يطلع عليه من قرب منه لا من بعد. ثالثها ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوة مع كثرة الكذب فيه. رابعها ما يستند إلى التجربة والعادة، فيستدل على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وكل ذلك مذموم شرعا. وورد في ذم الكهانة ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة رفعه: "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" وله شاهد من حديث جابر وعمران بن حصين أخرجهما البزار بسندين جيدين ولفظهما "من أتى كاهنا" وأخرجه مسلم من حديث امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - ومن الرواة من سماها حفصة - بلفظ: "من أتى عرافا" وأخرجه أبو يعلى من حديث ابن مسعود بسند جيد، لكن لم يصرح برفعه، ومثله لا يقال بالرأي، ولفظه: "من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا" واتفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة، إلا حديث مسلم فقال فيه: "لم يقبل لهما صلاة أربعين يوما". ووقع عند الطبراني من حديث أنس بسند لين مرفوعا بلفظ: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل على محمد، ومن أتاه غير مصدق له لم تقبل صلاته أربعين يوما" والأحاديث الأول مع صحتها وكثرتها أولى من هذا، والوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة وتارة بالتكفير، فيحمل على حالين من الآتي أشار إلى ذلك القرطبي. والعراف بفتح المهملة وتشديد الراء من يستخرج الوقوف على المغيبات بضرب من فعل أو قول. ثم ذكر المصنف ثلاثة أحاديث: أحدها: حديث أبي هريرة. قوله: "عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة" وساقه بطوله، كذا قال عبد الرحمن بن خالد بن مسافر من رواية الليث عنه عن ابن شهاب، وفصل مالك عن ابن شهاب قصة ولي المرأة فجعله من رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا كما بينه المصنف في الطريق التي تلي طريق ابن مسافر هذه، وقد روى الليث عن ابن شهاب أصل الحديث بدون الزيادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة موصولا كما سيأتي في الديات، وكذا أخرج هناك طريق يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد معا عن أبي هريرة بأصل الحديث دون الزيادة، ويأتي شرح ما يتعلق بالجنين والغرة هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "فقال ولي المرأة" هو حمل بفتح المهملة والميم الخفيفة ابن مالك ابن النابغة الهذلي، بينه مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة معا عن أبي هريرة، وكنية حمل المذكور أبو نضلة، وهو صحابي نزل البصرة. وفي رواية مالك "فقال الذي قضي عليه" أي قضي على من هي منه بسبيل. وفي رواية

(10/217)


الليث عن ابن شهاب المذكورة أن المرأة من بني لحيان، وبنو لحيان حي من هذيل، وجاء تسمية الضرتين فيما أخرج أحمد من طريق عمرو بن تميم بن عويم عن أبيه عن جده قال: "كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح تحت حمل بن مالك ابن النابغة، فضربت أم عفيف مليكة بمسطح" الحديث، لكن قال فيه: "فقال العلاء بن مسروح: يا رسول الله، أنغرم من لا شرب ولا أكل" الحديث، وفي آخره: "أسجع كسجع الجاهلية" ويجمع بينهما بأن كلا من زوج المرأة وهو حمل وأخيها وهو العلاء قال ذلك تواردا معا عليه، لما تقرر عندهما أن الذي يودي هو الذي يخرج حيا، وأما السقط فلا يودي، فأبطل الشرع ذلك وجعل فيه غرة، وسيأتي بيانه في كتاب الديات إن شاء الله تعالى. ووقع في رواية للطبراني أيضا أن الذي قال ذلك عمران بن عويم، فلعلها قصة أخرى. وأم عفيف بمهملة وفاءين وزن عظيم، ووقع في المبهمات للخطيب، وأصله عند أبي داود والنسائي من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنها أم غطيف بغين ثم طاء مهملة مصغر، فالله أعلم. قوله: "كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل" في رواية مالك "من لا أكل ولا شرب" والأول أولى لمناسبة السجع. ووقع في رواية الكشميهني في رواية مالك "ما لا" بدل "من لا" وهذا هو الذي في "الموطأ". وقال أبو عثمان بن جني: معني قوله لا أكل أي لم يأكل، أقام الفعل الماضي مقام المضارع. قوله: "فمثل ذلك يطل" للأكثر بضم المثناة التحتانية وفتح الطاء المهملة وتشديد اللام أي يهدر، يقال دم فلان هدر إذا ترك الطلب بثأره، وطل الدم بضم الطاء وبفتحها أيضا، وحكي "أطل" ولم يعرفه الأصمعي: ووقع للكشميهني في رواية ابن مسافر "بطل" بفتح الموحدة والتخفيف من البطلان كذا رأيته في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر، وزعم عياض أنه وقع هنا للجميع بالموحدة، قال: وبالوجهين في الموطأ، وقد رجح الخطابي أنه من البطلان، وأنكره ابن بطال فقال: كذا يقوله أهل الحديث، وإنما هو طل الدم إذا هدر. قلت: وليس لإنكاره معنى بعد ثبوت الرواية، وهو موجه، راجع إلى معنى الرواية الأخرى. قوله: " إنما هذا من إخوان الكهان" أي لمشابهة كلامه كلامهم، زاد مسلم والإسماعيلي من رواية يونس "من أجل سجعه الذي سجع" قال القرطبي: هو من تفسير الراوي، وقد ورد مستند ذلك فيما أخرجه مسلم في حديث المغيرة بن شعبة "فقال رجل من عصبة القاتلة يغرم" فذكر نحوه وفيه: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الأعراب". والسجع هو تناسب آخر الكلمات لفظا، وأصله الاستواء، وفي الاصطلاح الكلام المقفى والجمع أسجاع وأساجيع، قال ابن بطال: فيه ذم الكفار وذم من تشبه بهم في ألفاظهم، وإنما لم يعاقبه لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالصفح عن الجاهلين، وقد تمسك به من كره السجع في الكلام، وليس على إطلاقه، بل المكروه منه ما يقع مع التكلف في معرض مدافعة الحق، وأما ما يقع عفوا بلا تكلف في الأمور المباحة فجائز، وعلى ذلك يحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الدعوات. والحاصل أنه إن جمع الأمرين من التكلف وإبطال الحق كان مذموما، وإن اقتصر على أحدهما كان أخف في الذم، ويخرج من ذلك تقسيمه إلى أربعة أنواع: فالمحمود ما جاء عفوا في حق، ودونه ما يقع متكلفا في حق أيضا، والمذموم عكسهما. وفي الحديث من الفوائد أيضا رفع الجناية للحاكم، ووجوب الدية في الجنين ولو خرج ميتا كما سيأتي تقريره في كتاب الديات مع استيفاء فوائده. حديث أبي مسعود، وهو عقبة بن عمرو، في النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن، وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب البيع. قوله: "عن يحيى بن عروة بن الزبير عن عروة" كأن هذا

(10/218)


مما فات الزهري سماعه من عروة فحمله عن ولده عنه، مع كثرة ما عن الزهري عن عروة، وقد وصفه الزهري بسعة العلم، ووقع في رواية معقل بن عبيد الله عند مسلم عن الزهري "أخبرني يحيى بن عروة أنه سمع عروة" وكذا للمصنف في التوحيد من طريق يونس، وفي الأدب من طريق ابن جريج كلاهما عن ابن شهاب، ولم أقف ليحيى بن عروة في البخاري إلا على هذا الحديث، وقد روى بعض هذا الحديث محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود عن عروة وتقدم موصولا في بدء الخلق، وكذا هشام بن عروة عن أبيه به. قوله: "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الكشميهني: "سأل ناس رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكذا هو في رواية يونس، وعند مسلم من رواية معقل مثله ومن رواية معقل مثل الذي قبله، وقد سمي ممن سأل عن ذلك معاوية بن الحكم السلمي كما أخرجه مسلم من حديثه "قال: قلت يا رسول الله، أمورا كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان، فقال: لا تأتوا الكهان" الحديث. وقال الخطابي هؤلاء الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم ويستفتونهم في الحوادث فيلقون إليهم الكلمات، ثم تعرض إلى مناسبة ذكر الشعراء بعد ذكرهم في قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}. قوله: "فقال ليس بشيء" في رواية مسلم: "ليسوا بشيء"، وكذا في رواية يونس في التوحيد، وفي نسخة "فقال لهم ليسوا بشيء" أي ليس قولهم بشيء يعتمد عليه، والعرب تقول لمن عمل شيئا ولم يحكمه: ما عمل شيئا، قال القرطبي: كانوا في الجاهلية يترافعون إلى الكهان في الوقائع والأحكام ويرجعون إلى أقوالهم، وقد انقطعت الكهانة بالبعثة المحمدية، لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم، وثبت النهي عن إتيانهم فلا يحل إتيانهم ولا تصديقهم. قوله: "إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا" في رواية يونس "فإنهم يتحدثون" هذا أورده السائل إشكالا على عموم قوله: "ليسوا بشيء" لأنه فهم أنهم لا يصدقون أصلا فأجابه صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك الصدق، وأنه إذا اتفق أن يصدق لم يتركه خالصا بل يشوبه بالكذب. قوله: "تلك الكلمة من الحق" كذا في البخاري بمهملة وقاف أي الكلمة المسموعة التي تقع حقا، ووقع في مسلم: "تلك الكلمة من الجن" قال النووي: كذا في نسخ بلادنا بالجيم والنون، أي الكلمة المسموعة من الجن أو التي تصح مما نقلته الجن. قلت: التقدير الثاني يوافق رواية البخاري، قال النووي: وقد حكى عياض أنه وقع يعني في مسلم بالحاء والقاف. قوله: "يخطفها الجني" كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي "يخطفها من الجني" أي الكاهن يخطفها من الجني أو الجني الذي يلقى الكاهن يخطفها من جني آخر فوقه، ويخطفها بخاء معجمة وطاء مفتوحة وقد تكسر بعدها فاء ومعناه الأخذ بسرعة. وفي رواية الكشميهني: "يحفظها" بتقديم الفاء بعدها ظاء معجمة والأول هو المعروف والله أعلم. قوله: "فيقرها" بفتح أوله وثانيه وتشديد الراء أي يصبها، تقول قررت على رأسه دلوا إذا صببته، فكأنه صب في أذنه ذلك الكلام، قال القرطبي: ويصح أن يقال المعنى ألقاها في أذنه بصوت، يقال قر الطائر إذا صوت انتهى. ووقع في رواية يونس المذكورة "فيقرقرها" أي يرددها، يقال قرقرت الدجاجة تقرقر قرقرة إذا رددت صوتها، قال الخطابي: ويقال أيضا قرت الدجاجة تقر قرا وقريرا، وإذا رجعت في صوتها قيل قرقرت قرقرة وقرقريرة، قال: والمعني أن الجني إذا ألقى الكلمة لوليه تسامع بها الشياطين فتناقلوها كما إذا صوتت الدجاجة فسمعها الدجاج فجاوبتها. وتعقبه القرطبي بأن الأشبه بمساق الحديث أن الجني يلقي الكلمة إلى وليه بصوت خفي متراجع له زمزمة ويرجعه له، فلذلك يقع كلام الكهان غالبا على هذا النمط، وقد تقدم شيء من ذلك في أواخر الجنائز

(10/219)


في قصة ابن صياد وبيان اختلاف الرواة في قوله: "في قطيفة له فيها زمزمة" وأطلق على الكاهن ولي الجني لكونه يواليه أو عدل عن قوله الكاهن إلى قوله وليه للتعميم في الكاهن وغيره ممن يوالي الجن. قال الخطابي بين صلى الله عليه وسلم أن إصابة الكاهن أحيانا إنما هي لأن الجني يلقي إليه الكلمة التي يسمعها استراقا من الملائكة فيزيد عليها أكاذيب يقيسها على ما سمع، فربما أصاب نادرا وخطؤه الغالب، وقوله في رواية يونس "كقرقرة الدجاجة" يعني الطائر المعروف، ودالها مثلثة والأشهر فيها الفتح، ووقع في رواية المستملي: "الزجاجة" بالزاي المضمومة وأنكرها الدار قطني وعدها في التصحيف، لكن وقع في حديث الباب من وجه آخر تقدم في "باب ذكر الملائكة" في كتاب بدء الخلق "فيقرها في أذنه كما تقر القارورة" وشرحوه على أن معناه كما يسمع صوت الزجاجة إذا حلت على شيء أو ألقي فيها شيء. وقال القابسي: المعنى أنه يكون لما يلقيه الجني إلى الكاهن حس كحس القارورة إذا حركت باليد أو على الصفا. وقال الخطابي: المعنى أنه يطبق به كما يطبق رأس القارورة برأس الوعاء الذي يفرغ فيه منها ما فيها. وأغرب شارح "المصابيح" التوربشتي فقال: الرواية بالزاي أحوط لما ثبت في الرواية الأخرى "كما تقر القارورة" واستعمال قر في ذلك شائع بخلاف ما فسروا عليه الحديث فإنه غير مشهور ولم نجد له شاهدا في كلامهم، فدل على أن الرواية بالدال تصحيف أو غلط من السامع. وتعقبه الطيبي فقال: لا ريب أن قوله: "قر الدجاجة" مفعول مطلق، وفيه معنى التشبيه، فكما يصح أن يشبه إيراد ما اختطفه من الكلام في أذن الكاهن بصب الماء في القارورة يصح أن يشبه ترديد الكلام في أذنه بترديد الدجاجة صوتها في أذن صواحباتها، وهذا مشاهد، ترى الديك إذا رأى شيئا ينكره يقرقر فتسمعه الدجاج فتجتمع وتقرقر معه، وباب التشبيه واسع لا يفتقر إلى العلاقة، غير أن الاختطاف مستعار للكلام من فعل الطير كما قال الله تعالى: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} فيكون ذكر الدجاجة هنا أنسب من ذكر الزجاجة لحصول الترشيح في الاستعارة. قلت: ويؤيده دعوى الدار قطني وهو إمام الفن أن الذي بالزاي تصحيف، وإن كنا ما قبلنا ذلك فلا أقل أن يكون أرجح. قوله: "فيخلطون معها مائة كذبة" في رواية ابن جريج "أكثر من مائة كذبة" وهو دال على أن ذكر المائة للمبالغة لا لتعيين العدد، وقوله كذبة هنا بالفتح وحكي الكسر، وأنكره بعضهم لأنه بمعنى الهيئة والحالة وليس هذا موضعه، وقد أخرج مسلم في حديث آخر أصل توصل الجني إلى الاختطاف فأخرج من حديث ابن عباس "حدثني رجال من الأنصار أنهم بينا هم جلوس ليلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون إذا رمي مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم أو مات رجل عظيم، فقال: إنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته. ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى أهل هذه السماء الدنيا فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم حتى يصل إلى السماء الدنيا، فيسترق منه الجني، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه وينقصون" وقد تقدم في تفسير سبأ وغيرها بيان كيفيتهم عند استراقهم، وأما ما تقدم في بدء الخلق من وجه آخر عن عروة عن عائشة "أن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع" فيحتمل أن يريد بالسحاب السماء كما أطلق السماء على السحاب، ويحتمل أن يكون على حقيقته وأن بعض الملائكة إذا نزل بالوحي إلى الأرض تسمع منهم الشياطين، أو المراد الملائكة الموكلة بإنزال المطر. قوله: "قال علي قال عبد الرزاق مرسل الكلمة من الحق، ثم بلغني أنه أسنده بعد" علي هذا هو ابن المديني شيخ البخاري فيه، ومراده أن عبد الرزاق كان يرسل هذا القدر من الحديث، ثم أنه بعد ذلك وصله

(10/220)


بذكر عائشة فيه، وقد أخرجه مسلم عن عبد بن حميد والإسماعيلي من طريق فياض بن زهير، وأبو نعيم من طريق عباس العنبري ثلاثتهم عن عبد الرزاق موصولا كرواية هشام بن يوسف عن معمر، وفي الحديث بقاء استراق الشياطين السمع، لكنه قل وندر حتى كاد يضمحل بالنسبة لما كانوا فيه من الجاهلية وفيه النهي عن إتيان الكهان قال القرطبي: يجب عل من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور.
" تنبيه ": إيراد باب الكهانة كتاب الطب لمناسبته لباب السحر لما يجمع بينهما من مرجع كل منهما للشياطين، وإيراد باب السحر في كتاب الطب لمناسبته ذكر الرقى وغيرها من الأدوية المعنوية، فناسب ذكر الأدواء التي تحتاج إلى ذلك، واشتمل كتاب الطب على الإشارة للأدوية الحسية كالحبة السوداء والعسل ثم على الأدوية المعنوية كالرقى بالدعاء والقرآن. ثم ذكرت الأدواء التي تنفع الأدوية المعنوية في دفعها كالسحر، كما ذكرت الأدواء التي تنفع الأدوية الحسية في دفعها كالجذام والله أعلم.

(10/221)


47 - باب السِّحْرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وَقَوْلِهِ: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} وَقَوْلِهِ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} . وَالنَّفَّاثَاتُ: السَّوَاحِرُ. تُسْحَرُونَ: تُعَمَّوْنَ
5763- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ فَقَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ قَالَ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ قَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ اسْتَخْرَجْتَهُ قَالَ قَدْ عَافَانِي اللَّهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ

(10/221)


عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرّاً فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ" . تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ "فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ" يُقَالُ الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ وَالْمُشَاطَةُ مِنْ مُشَاطَةِ الْكَتَّانِ.
قوله: "باب السحر" قال الراغب وغيره: السحر يطلق على معان: أحدها: ما لطف ودق، ومنه سحرت الصبي خادعته واستملته، وكل من استمال شيئا فقد سحره ومنه إطلاق الشعراء سحر العيون لاستمالتها النفوس، ومنه قول الأطباء: الطبيعة ساحرة ومنه قوله تعالى: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} أي مصروفون عن المعرفة، ومنه حديث: "إن من البيان لسحرا" وسيأتي قريبا في باب مفرد. الثاني: ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحوها ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وقوله تعالى: { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} ومن هناك سموا موسى ساحرا، وقد يستعين في ذلك بما يكون فيه خاصية كالحجر الذي يجذب الحديد المسمى المغنطيس. الثالث: ما يحصل بمعاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} . الرابع: ما يحصل بمخاطبة الكواكب واستنزال روحانياتها بزعمهم. قال ابن حزم: ومنه ما يوجد من الطلسمات كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب فينفع إمساكه من لدغة العقرب، وكالمشاهد ببعض بلاد الغرب - وهي سرقسطة - فإنها لا يدخلها ثعبان قط إلا إن كان بغير إرادته، وقد يجمع بعضهم بين الأمرين الأخيرين كالاستعانة بالشياطين ومخاطبة الكواكب فيكون ذلك أقوى بزعمهم. قال أبو بكر الرازي في الأحكام له: كان أهل بابل قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة ويعتقدون أنها الفعالة لكل ما في العالم، وعملوا أوثانا على أسمائها، ولكل واحد هيكل فيه صنمه يتقرب إليه بما يوافقه بزعمهم من أدعية وبخور، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام وكانت علومهم أحكام النجوم، ومع ذلك فكان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر وينسبونها إلى فعل الكواكب لئلا يبحث عنها وينكشف تمويههم انتهى. ثم السحر يطلق ويراد به الآلة التي يسحر بها، ويطلق ويراد به فعل الساحر والآلة تارة تكون معنى من المعاني فقط كالرقى والنفث في العقد، وتارة تكون بالمحسوسات كتصوير الصورة على صورة المسحور. وتارة بجمع الأمرين الحسي والمعنوي وهو أبلغ. واختلف في السحر فقيل هو تخييل ولا حقيقة له وهذا اختيار أبي جعفر الأستراباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري وطائفة، قال النووي: والصحيح أن له حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة انتهى. لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ فمن قال إنه تخييل فقط منع ذلك، ومن قال إن له حقيقة اختلفوا هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعا من الأمراض أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه؟ فالذي عليه الجمهور هو الأول، وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني. فإن كان بالنظر إلى القدرة الإلهية فمسلم، وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل الخلاف، فإن كثيرا ممن يدعي ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه، ونقل الخطابي أن قوما أنكروا السحر مطلقا وكأنه عني القائلين بأنه تخييل فقط وإلا فهي مكابرة. وقال المازري: جمهور العلماء على إثبات السحر وأن له حقيقة، ونفى بعضهم حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر، ولأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام

(10/222)


ملفق أو تركيب أجسام أو مزج بين قوى على ترتيب مخصوص، ونظير ذلك ما يقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده بالتركيب نافعا، وقيل لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله تعالى في قوله: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} لكون المقام مقام تهويل، فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره. قال المازري: والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والآية ليست نصا في منع الزيادة، ولو قلنا إنها ظاهرة في ذلك. ثم قال: والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة: أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك بل إنما تقع غالبا اتفاقا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي. ونقل إمام الحرمين الإجماع على أن السحر لا يظهر إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على فاسق. ونقل النووي في زيادات الروضة عن المتولي نحو ذلك. وينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه، فإن كان متمسكا بالشريعة متجنبا للموبقات فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة، وإلا فهو سحر، لأنه ينشأ عن أحد أنواعه كإعانة الشياطين. وقال القرطبي: السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجوه تركيبها وأوقاته، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالا وعصيا. ثم قال: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكور أن الجماد ينقلب حيوانا أو عكسه بسحر الساحر أو نحو ذلك. قوله: "وقول الله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الآية" كذا للأكثر وساق في رواية كريمة إلى قوله: {مِنْ خَلاقٍ} وفي هذه الآية بيان أصل السحر الذي يعمل به اليهود، ثم هو مما وضعته الشياطين على سليمان بن داود عليه السلام ومما أنزل على هاروت وماروت بأرض بابل، والثاني متقدم العهد على الأول لأن قصة هاروت وماروت كانت من قبل زمن نوح عليه السلام على ما ذكر ابن إسحاق وغيره، وكان السحر موجودا في زمن نوح إذ أخبر الله عن قوم نوح أنهم زعموا أنه ساحر، وكان السحر أيضا فاشيا في قوم فرعون وكل ذلك قبل سليمان. واختلف في المراد بالآية: فقيل: إن سليمان كان جمع كتب السحر والكهانة فدفنها تحت كرسيه فلم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي، فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين يعرفون الأمر جاءهم شيطان في صورة إنسان فقال لليهود: هل أدلكم على كنز لا نظير له؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي، فحفروا - وهو متنح عنهم - فوجدوا تلك الكتب، فقال لهم: إن سليمان كان يضبط الأنس والجن بهذا، ففشا فيهم أن سليمان كان ساحرا، فلما نزل القرآن بذكر سليمان في الأنبياء أنكرت اليهود ذلك وقالوا إنما كان ساحرا، فنزلت هذه الآية. أخرجه الطبري وغيره عن السدي، ومن طريق سعيد بن جبير بسند صحيح نحوه، ومن طريق عمران بن الحارث عن ابن عباس موصولا بمعناه. وأخرج من طريق الربيع بن أنس نحوه ولكن قال: إن الشياطين هي التي كتبت كتب السحر ودفنتها تحت كرسيه، ثم لما مات سليمان استخرجته وقالوا: هذا العلم الذي كان سليمان يكتمه الناس. وأخرجه من طريق محمد بن إسحاق وزاد أنهم نقشوا خاتما على نقش خاتم سليمان وختموا به الكتاب وكتبوا به الكتاب وكتبوا عنوانه "هذا ما كتب آصف بن برخياء الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم" ثم دفنوه فذكر نحو ما تقدم. وأخرج من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ما تقدم عن السدي

(10/223)


ولكن قال: أنهم لما وجدوا الكتب قالوا هذا مما أنزل الله على سليمان فأخفاه منا. وأخرج بسند صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان، فكتبت كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنتها تحت كرسيه ثم أخرجوها بعده فقرؤوها على الناس. وملخص ما ذكر في تفسير هذه الآية أن المحكي عنهم أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين هم أهل الكتاب، إذ تقدم قبل ذلك في الآيات إيضاح ذلك، والجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة من قوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} إلى آخر الآية، و{مَا} في قوله: {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} موصولة على الصواب، وغلط من قال إنها نافية لأن نظم الكلام يأباه، و {تَتْلُوا} لفظه مضارع لكن هو واقع موقع الماضي وهو استعمال شائع، ومعنى تتلو تتقول، ولذلك عداه بعلي، وقيل معناه تتبع أو تقرأ، ويحتاج إلى تقدير قيل هو تقرأ على زمان ملك سليمان، وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} ما نافية جزما وقوله: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} هذه الواو عاطفة لجملة الاستدراك على ما قبلها، وقوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الناس مفعول أول والسحر مفعول ثان والجملة حال من فاعل كفروا، أي كفروا معلمين، وقيل هي بدل من كفروا، وقيل استئنافية، وهذا على إعادة ضمير يعلمون على الشياطين، ويحتمل عوده على الذين اتبعوا فيكون حالا من فاعل اتبعوا أو استئنافا، وقوله: {وَمَا أُنْزِلَ} ما موصولة ومحلها النصب عطفا على السحر، والتقدير يعلمون الناس السحر، والمنزل على الملكين، وقيل الجر عطفا على ملك سليمان أي تقولا على ملك سليمان وعلى ما أنزل، قيل بل هي نافية عطفا، على {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} والمعنى ولم ينزل على الملكين إباحة السحر. وهذان الإعرابان ينبنيا على ما جاء في تفسير الآية عن البعض، والجمهور على خلافه وأنها موصولة، ورد الزجاج على الأخفش دعواه أنها نافية وقال: الذي جاء في الحديث والتفسير أولى. وقوله: {بِبَابِلَ} متعلق بما أنزل أي في بابل، والجمهور على فتح لام الملكين، وقرئ بكسرها، وهاروت وماروت بدل من الملكين وجرا بالفتحة، أو عطف بيان، وقيل بل هما بدل من الناس وهو بعيد، وقيل من الشياطين على أن هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن وهو ضعيف، وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} بالتشديد من التعليم، وقرئ في الشاذ بسكون العين من الإعلام بناء على أن التضعيف يتعاقب مع الهمزة، وذلك أن الملكين لا يعلمان الناس السحر بل يعلمانهم به وينهيانهم عنه، والأول أشهر، وقد قال علي الملكان يعلمان تعليم إنذار لا تعليم طلب، وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها وهو التعبد للشياطين أو للكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلا، قال النووي: عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرا، ومنه لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر. وعن مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق. قال عياض: وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين اهـ. وفي المسألة اختلاف كثير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها. وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين إما لتمييز ما فيه كفر من غيره إما لإزالته عمن وقع فيه، فأما الأول فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعا، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان لأن كيفية ما يعمله الساحر إنما هي

(10/224)


حكاية قول أو فعل، بخلاف تعاطيه والعمل به. وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا وإلا جاز للمعنى المذكور، وسيأتي مزيد لذلك في "باب هل يستخرج السحر" قريبا والله أعلم. وهذا فصل الخطاب في هذه المسألة.وفي إيراد المصنف هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر لقوله فيها: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا، وهذا كله واضح على ما قررته من العمل ببعض أنواعه. وقد زعم بعضهم أن السحر لا يصح إلا بذلك، وعلى هذا فتسمية ما عدا ذلك سحرا مجاز كإطلاق السحر على القول البليغ، وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر في مسند أحمد، وأطنب الطبري في إيراد طرقها بحيث يقضي بمجموعها على أن للقصة أصلا، خلافا لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه، ومحصلها أن الله ركب الشهوة في ملكين من الملائكة اختبارا لهما وأمرهما أن يحكما في الأرض، فنزلا على صورة البشر وحكما بالعدل مدة، ثم افتتنا بامرأة جميلة فعوقبا بسبب ذلك بأن حبسا في بئر ببابل منكسين وابتليا بالنطق بعلم السحر، فصار يقصدهما من يطلب ذلك فلا ينطقان بحضرة أحد حتى يحذراه وينهياه، فإذا أصر تكلما بذلك ليتعلم منهما ذلك وهما قد عرفا ذلك فيتعلم منهما ما قص الله عنهما، والله أعلم. قوله: "وقوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} في الآية نفي الفلاح عن الساحر، وليست فيه دلالة على كفر الساحر مطلقا، وإن كثر في القرآن إثبات الفلاح للمؤمن ونفيه عن الكافر، لكن ليس فيه ما ينفي نفي الفلاح عن الفاسق وكذا العاصي. قوله: "وقوله: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ؟ هذا يخاطب به كفار قريش يستبعدون كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من الله لكونه بشرا من البشر، فقال قائلهم منكرا على من اتبعه: أفتأتون السحر، أي أفتتبعونه حتى تصيروا كمن اتبع السحر وهو يعلم أنه سحر. قوله: "وقوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} هذه الآية عمدة من زعم أن السحر إنما هو تخييل، ولا حجة له بها لأن هذه وردت في قصة سحرة فرعون، وكان سحرهم كذلك، ولا يلزم منه أن جميع أنواع السحر تخييل، قال أبو بكر الرازي في "الأحكام": أخبر الله تعالى أن الذي ظنه موسى من أنها تسعى لم يكن سعيا وإنما كان تخييلا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة قد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابا وجعلوا لها آزاجا وملؤوها نارا فلما طرحت على ذلك الموضع وحمي الزئبق حركها لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي صارت تتحرك بحركته فظن من رآها أنها تسعى، ولم تكن تسعى حقيقة. قوله: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} والنفاثات السواحر" هو تفسير الحسن البصري أخرجه الطبري بسند صحيح، وذكره أبو عبيدة أيضا في " المجاز" قال: النفاثات السواحر ينفثن. وأخرج الطبري أيضا عن جماعة من الصحابة وغيرهم أنه النفث في الرقية، وقد تقدم البحث في ذلك في "باب الرقية". وقد وقع في حديث ابن عباس فيما أخرجه البيهقي في "الدلائل" بسند ضعيف في آخر قصة السحر الذي سحر به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم وجدوا وترا فيه إحدى عشرة عقدة وأنزلت سورة الفلق والناس وجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس "أن عليا وعمارا لما بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة" فذكر نحوه. قوله: "تسحرون: تعمون" بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الميم المفتوحة، وضبط أيضا بسكون العين

(10/225)


قال أبو عبيدة في كتاب "المجاز" في قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي كيف تعمون عن هذا وتصدون عنه؟ قال: ونراه من قوله سحرت أعيننا عنه فلم نبصره. وأخرج(1). في قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي تخدعون أو تصرفون عن التوحيد والطاعة. قلت: وفي هذه الآية إشارة إلى الصنف الأول من السحر الذي قدمته. وقال ابن عطية: السحر هنا مستعار لما وقع منهم من التخليط ووضع الشيء في غير موضعه كما يقع من المسحور، والله أعلم. قوله: "حدثنا إبراهيم بن موسى" هو الرازي. وفي رواية أبي ذر "حدثني" بالإفراد، وهشام هو ابن عروة بن الزبير. قوله: "عن أبيه" وقع في رواية يحيى القطان عن هشام "حدثني أبي" وقد تقدمت في الجزية، وسيأتي في رواية ابن عيينة عن ابن جريج "حدثني آل عروة" ووقع في رواية الحميدي عن سفيان عن ابن جريج "حدثني بعض آل عروة عن عروة" وظاهره أن غير هشام أيضا حدث به عن عروة، وقد رواه غير عروة عن عائشة كما سأبينه. وجاء أيضا من حديث ابن عباس وزيد بن أرقم وغيرهما. قوله: "سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق" بزاي قبل الراء مصغر. قوله: "يقال له لبيد" بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة "ابن الأعصم" بوزن أحمر بمهملتين، ووقع في رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عند مسلم: "سحر النبي صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق" ووقع في رواية ابن عيينة الآتية قريبا "رجل من بني زريق حليف اليهود وكان منافقا" ويجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهودي نظر إلى ما في نفس الأمر، ومن أطلق عليه منافقا نظر إلى ظاهر أمره. وقال ابن الجوزي هذا يدل على أنه كان أسلم نفاقا وهو واضح، وقد حكى عياض في "الشفاء" أنه كان أسلم، ويحتمل أن يكون قيل له يهودي لكونه كان من حلفائهم لا أنه كان على دينهم. وبنو زريق بطن من الأنصار مشهور من الخزرج، وكان بين كثير من الأنصار وبين كثير من اليهود قبل الإسلام حلف وإخاء وود، فلما جاء الإسلام ودخل الأنصار فيه تبرءوا منهم، وقد بين الواقدي السنة التي وقع فيها السحر: أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم مرسل قال: "لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم من سنة سبع جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم - وكان حليفا في بني زريق وكان ساحرا - فقالوا له: يا أبا الأعصم، أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا، ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه. فجعلوا له ثلاثة دنانير" ووقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: "فأقام أربعين ليلة" وفي رواية وهيب عن هشام عند أحمد "ستة أشهر" ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه والأربعين يوما من استحكامه. وقال السهيلي: لم أقف في شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيها في السحر حتى ظفرت به في "جامع معمر" عن الزهري أنه لبث ستة أشهر، كذا قال، وقد وجدناه موصولا بإسناد الصحيح فهو المعتمد. قوله: "حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله" قال المازري: أنكر المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعه من الشرائع إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء، قال المازري: وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه
ـــــــ
(1) بياض بالأصل.

(10/226)


عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض الأمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، قال: وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثيرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة. قلت: وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه: "حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن" وفي رواية الحميدي "أنه يأتي أهله ولا يأتيهم" قال الداودي "يرى" بضم أوله أي يظن. وقال ابن التين ضبطت "يرى" بفتح أوله. قلت: وهو من الرأي لا من الرؤية، فيرجع إلى معنى الظن. وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق "سحر النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره" وعنده في مرسل سعيد بن المسيب "حتى كاد ينكر بصره" قال عياض: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على تمييزه ومعتقده. قلت: ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد "فقالت أخت لبيد بن الأعصم: إن يكن نبيا فسيخبر، إلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله" قلت: فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح. وقد قال بعض العلماء. لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك. وإنما يكون من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة. وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى "حتى كاد ينكر بصره" أي صار كالذي أنكر بصره بحيث أنه إذا رأى الشيء يخيل أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به. وقال المهلب: صون النبي صلى الله عليه وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه، فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر، بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين. واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: "فأما أنا فقد شفاني الله" وفي الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل "فكان يدور ولا يدري ما وجعه" وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد "مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان" الحديث. قوله: "حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة" شك من الراوي، وأظنه من البخاري لأنه أخرجه في صفة إبليس من بدء الخلق فقال: "حتى كان ذات يوم" ولم يشك، ثم ظهر لي أن الشك فيه من عيسى بن يونس، وأن إسحاق بن راهويه أخرجه في مسنده عنه على الشك، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم، فيحمل الجزم الماضي على أن إبراهيم بن موسى شيخ البخاري حدثه به تارة بالجزم وتارة بالشك، ويؤيده ما سأذكره من الاختلاف عنه، وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تاما بإسناد واحد بلفظين. ووقع في رواية أبي أسامة الآتية قريبا "ذات يوم" بغير شك "وذات" بالنصب ويجوز الرفع، ثم قيل إنها مقحمة، وقيل بل هي من إضافة الشيء

(10/227)


لنفسه على رأي من يجيزه. قوله: "وهو عندي لكنه دعا ودعا" كذا وقع، وفي الرواية الماضية في بدء الخلق "حتى كان ذات يوم دعا ودعا" وكذا علقه المصنف لعيسى بن يونس في الدعوات، ومثله في رواية الليث. قال الكرماني: يحتمل أن يكون هذا الاستدراك من قولها "عندي" أي لم يكن مشتغلا بي بل اشتغل بالدعاء، ويحتمل أن يكون من التخيل، أي كان السحر أضره في بدنه لا في عقله وفهمه بحيث أنه توجه إلى الله ودعا على الوضع الصحيح والقانون المستقيم. ووقع في رواية ابن نمير عند مسلم: "فدعا، ثم دعا، ثم دعا" وهذا هو المعهود منه أنه كان يكرر الدعاء ثلاثا. وفي رواية وهيب عند أحمد وابن سعد "فرأيته يدعو". قال النووي: فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره الالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك. قلت: سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية في الكمال. قوله: "أشعرت" أي علمت؟ وهي رواية ابن عيينة كما في الباب الذي بعده. قوله: "أفتاني فيما استفتيته" في رواية الحميدي "أفتاني في أمر استفتيته فيه" أي أجابني فيما دعوته، فأطلق على الدعاء استفتاء لأن الداعي طالب والمجيب مفت، أو المعنى أجابني بما سألته عنه، لأن دعاءه كان أن يطلعه الله على حقيقة ما هو فيه لما اشتبه عليه من الأمر. ووقع في رواية عمرة عن عائشة "إن الله أنبأني بمرضي" أي أخبرني. قوله: "أتاني رجلان" وقع في رواية أبي أسامة "قلت: وما ذاك؟ قال: أتاني رجلان" ووقع في رواية معمر عند أحمد ومرجأ بن رجاء عند الطبراني كلاهما عن هشام "أتاني ملكان" وسماهما ابن سعد في رواية منقطعة جبريل وميكائيل، وكنت ذكرت في المقدمة ذلك احتمالا. قوله: "فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي" لم يقع لي أيهما قعد عند رأسه، لكنني أظنه جبريل لخصوصيته به عليهما السلام. ثم وجدت في "السيرة للدمياطي" الجزم بأنه جبريل قال: لأنه أفضل، ثم وجدت في حديث زيد بن أرقم عند النسائي وابن سعد وصححه الحاكم وعبد بن حميد "سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياما، فأتاه جبريل فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، عقد لك عقدا في بئر كذا" فدل مجموع الطرق على أن المسئول هو جبريل والسائل ميكائيل. قوله: "فقال أحدهما لصاحبه" في رواية ابن عيينة الآتية بعد باب "فقال الذي عند رأسي للآخر" وفي رواية الحميدي "فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي" وكأنها أصوب، وكذا هو في حديث ابن عباس عند البيهقي. ووقع بالشك في رواية ابن نمير عند مسلم. قوله: "ما وجع الرجل؟" كذا للأكثر. وفي رواية ابن عيينة "ما بال الرجل؟" وفي حديث ابن عباس عند البيهقي "ما ترى" وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام، إذ لو جاءا إليه في اليقظة لخاطباه وسألاه. ويحتمل أن يكون كان بصفة النائم وهو يقظان، فتخاطبا وهو يسمع. وأطلق في رواية عمرة عن عائشة أنه كان نائما، وكذا في رواية ابن عيينة عند الإسماعيلي: "فانتبه من نومه ذات يوم" وهو محمول على ما ذكرت، وعلى تقدير حملها على الحقيقة فرؤيا الأنبياء وحي. ووقع في حديث ابن عباس عند سعد بسند ضعيف جدا "فهبط عليه ملكان وهو بين النائم واليقظان". قوله: "فقال: مطبوب" أي مسحور، يقال طب الرجل بالضم إذا سحر، يقال كنوا عن السحر بالطب تفاؤلا كما قالوا للديغ سليم. وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء طب، والسحر من الداء ويقال له طب. وأخرج أبو عبيد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه بقرن حين طب"

(10/228)


قال أبو عبيد يعني سحر. قال ابن القيم: بنى النبي صلى الله عليه وسلم الأمر أولا على أنه مرض، وأنه عن مادة مالت إلى الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه، فرأى استعمال الحجامة لذلك مناسبا، فلما أوحي إليه أنه سحر عدل إلى العلاج المناسب له وهو استخراجه، قال: ويحتمل أن مادة السحر انتهت إلى إحدى قوى الرأس حتى صار يخيل إليه ما ذكر، فإن السحر قد يكون من تأثير الأرواح الخبيثة، وقد يكون من انفعال الطبيعة وهو أشد السحر، واستعمال الحجم لهذا الثاني نافع لأنه إذا هيج الأخلاط وظهر أثره في عضو كان استفراغ المادة الخبيثة نافعا في ذلك. وقال القرطبي: إنما قيل للسحر طب لأن أصل الطب الحذق بالشيء والتفطن له، فلما كان كل من علاج المرض والسحر إنما يتأتى عن فطنة وحذق أطلق على كل منهما هذا الاسم. قوله: "في مشط ومشاطة" أما المشط فهو بضم الميم، ويجوز كسرها أثبته أبو عبيد وأنكره أبو زيد، وبالسكون فيهما، وقد يضم ثانيه مع ضم أوله فقط وهو الآلة المعروفة التي يسرح بها شعر الرأس واللحية؛ وهذا هو المشهور. ويطلق المشط بالاشتراك على أشياء أخرى: منها العظم العريض في الكتف، وسلاميات ظهر القدم، ونبت صغير يقال له مشط الذنب. قال القرطبي: يحتمل أن يكون الذي سحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أحد هذه الأربع. قلت: وفاته آلة لها أسنان وفيها هراوة يقبض عليها ويغطى بها الإناة، قال ابن سيده في "المحكم": إنها تسمى المشط. والمشط أيضا سمة من سمات البعير تكون في العين الفخذ، ومع ذلك فالمراد بالمشط هنا هو الأول، فقد وقع في رواية عمرة عن عائشة "فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مراطة رأسه" وفي حديث ابن عباس "من شعر رأسه ومن أسنان مشطه" وفي مرسل عمر بن الحكم "فعمد إلى مشط وما مشط من الرأس من شعر فعقد بذلك عقدا". قوله: "ومشاطة" سيأتي بيان الاختلاف هل هي بالطاء أو القاف في آخر الكلام على هذا الحديث حيث بينه المصنف. قوله: "وجف طلع نخلة ذكر" قال عياض: وقع للجرجاني - يعني في البخاري - والعذري - يعني في مسلم - بالفاء. ولغيرهما بالموحدة. قلت: أما رواية عيسى بن يونس هنا فوقع للكشميهني بالفاء ولغيره بالموحدة، وأما روايته في بدء الخلق فالجميع بالفاء، وكذا في رواية ابن عيينة للجميع، وللمستملي في رواية أبي أسامة بالموحدة، وللكشميهني بالفاء، قال القرطبي: روايتنا - يعني في مسلم - بالفاء. وقال النووي: في أكثر نسخ بلادنا بالباء يعني في مسلم، وفي بعضها بالفاء، وهما بمعني واحد وهو الغشاء الذي يكون على الطلع ويطلق على الذكر والأنثى، فلهذا قيده بالذكر في قوله: "طلعة ذكر" وهو بالإضافة انتهى. ووقع في روايتنا هنا بالتنوين فيهما على أن لفظ: "ذكر" صفة لجف، وذكر القرطبي أن الذي بالفاء هو وعاء الطلع وهو للغشاء الذي يكون عليه، وبالموحدة داخل الطلعة إذا خرج منها الكفري قاله شمر، قال: ويقال أيضا للداخل الركية من أسفلها إلى أعلاها جف، وقيل هو من القطع يعني ما قطع من قشورها. وقال أبو عمرو الشيباني: الجف بالفاء شيء ينقر من جذوع النخل. قوله: "قال وأين هو؟ قال: هو في بئر ذروان" زاد ابن عيينة وغيره: "تحت راعوفة" وسيأتي شرحها بعد باب، وذروان بفتح المعجمة وسكون الراء، وحكى ابن التين فتحها وأنه قرأه كذلك قال: ولكنه بالسكون أشبه. وفي رواية ابن نمير عند مسلم: "في بئر ذي أروان" ويأتي في رواية أبي ضمرة في الدعوات مثله، وفي نسخة الصغاني لكن بغير لفظ بئر، ولغيره: "في ذروان" وذروان بئر في بني زريق، فعلى هذا فقوله: "بئر ذروان" من إضافة الشيء لنفسه، ويجمع بينهما وبين رواية ابن نمير بأن الأصل "بئر ذي أروان"

(10/229)


ثم لكثرة الاستعمال سهلت الهمزة فصارت "ذروان" ويؤيده أن عبيد البكري صوب أن اسم البئر "أروان" بالهمز وأن من قال: "ذروان" أخطأ. وقد ظهر أنه ليس بخطأ على ما وجهته. ووقع في رواية أحمد عن وهيب وكذا في روايته عن ابن نمير "بئر أروان" كما قال البكري، فكأن رواية الأصيلي كانت مثلها فسقطت منها الراء، ووقع عند الأصيلي فيما حكاه عياض "في بئر ذي أوان" بغير راء قال عياض: هو وهم، فإن هذا موضع آخر على ساعة من المدينة، وهو الذي بني فيه مسجد الضرار. قوله: "فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه" وقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد "فبعث إلى علي وعمار فأمرهما أن يأتيا البئر" وعنده في مرسل عمر بن الحكم "فدعا جبير بن أياس الزرقي وهو ممن شهد على موضعه في بئر ذروان فاستخرجه" قال: ويقال الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي، ويجمع بأنه أعان جبيرا على ذلك وباشره بنفسه فنسب إليه، وعند ابن سعد أيضا" أن الحارث بن قيس قال: يا رسول الله ألا يهور البئر" فيمكن تفسير من أبهم بهؤلاء أو بعضهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وجههم أولا ثم توجه فشاهدها بنفسه. قوله: "فجاء، فقال: يا عائشة" في رواية وهيب "فلما رجع، قال: يا عائشة" ونحوه في رواية أبي أسامة ولفظه: "فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى البئر فنظر إليها ثم رجع إلى عائشة فقال" وفي رواية عمرة عن عائشة "فنزل رجل فاستخرجه" وفيه من الزيادة أنه "وجد في الطلعة تمثالا من شمع، تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا فيه أبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألما ثم يجد بعدها راحة" وفي حديث ابن عباس نحوه كما تقدم التنبيه عليه، وفي حديث زيد بن أرقم الذي أشرت إليه عند عبد بن حميد وغيره: "فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين" وفيه: "فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية، فجعل يقرأ ويحل حتى قام كأنما نشط من عقال" وعند ابن سعد من طريق عمر مولى غفرة معضلا "فاستخرج السحر من الجف من تحت البئر ثم نزعه فحله فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "كأن ماءها" في رواية ابن نمير "والله لكأن ماءها" أي البئر "نقاعة الحناء" بضم النون وتخفيف القاف، والحناء معروف وهو بالمد أي أن لون ماء البئر لون الماء الذي ينقع فيه الحناء. قال ابن التين: يعني أحمر. وقال الداودي: المراد الماء الذي يكون من غسالة الإناء الذي تعجن فيه الحناء. قلت: ووقع في حديث زيد بن أرقم عند ابن سعد وصححه الحاكم "فوجد الماء وقد اخضر" وهذا يقوي قول الداودي. قال القرطبي: كأن ماء البئر قد تغير إما لرداءته بطول إقامته، وإما لما خالطه من الأشياء التي ألقيت في البئر. قلت: ويرد الأول أن عند ابن سعد في مرسل عبد الرحمن بن كعب أن الحارث بن قيس هور البئر المذكورة وكان يستعذب منها وحفر بئرا أخرى فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرها. قوله: "وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين" كذا هنا، وفي الرواية التي في بدء الخلق "نخلها كأنه رءوس الشياطين" وفي رواية ابن عيينة وأكثر الرواة عن هشام "كأن نخلها" بغير ذكر "رءوس" أولا، والتشبيه إنما وقع على رءوس النخل فلذلك أفصح به في رواية الباب وهو مقدر في غيرها. ووقع في رواية عمرة عن عائشة "فإذا نخلها الذي يشرب من مائها قد التوى سعفه كأنه رءوس الشياطين" وقد وقع تشبيه طلع شجرة الزقوم في القرآن برءوس الشياطين، قال الفراء وغيره: يحتمل أن يكون شبه طلعها في قبحه برءوس الشياطين: لأنها موصوفة بالقبح، وقد تقرر في اللسان أن من قال: فلان شيطان أراد أنه خبيث أو قبيح، وإذا قبحوا مذكرا قالوا شيطان، أو مؤنثا قالوا غول، ويحتمل أن يكون المراد بالشياطين الحيات، والعرب تسمي بعض الحيات شيطانا وهو ثعبان قبيح الوجه،

(10/230)


ويحتمل أن يكون المراد نبات قبيح قيل إنه يوجد باليمن. قوله: "قلت يا رسول الله أفلا استخرجته" في رواية أبي أسامة "فقال: لا" ووقع في رواية ابن عيينة أنه استخرجه، وأن سؤال عائشة إنما وقع عن النشرة فأجابها بلا، وسيأتي بسط القول فيه بعد باب. قوله: " فكرهت أن أثير على الناس فيه شرا" في رواية الكشميهني: "سوءا" ووقع في رواية أبي أسامة "أن أثور" بفتح المثلثة وتشديد الواو وهما بمعني. والمراد بالناس التعميم في الموجودين قال النووي: خشي من إخراجه وإشاعته ضررا على المسلمين من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك؛ وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة. ووقع في رواية ابن نمير "على أمتي" وهو قابل أيضا للتعميم، لأن الأمة تطلق على أمة الإجابة وأمة الدعوة على ما هو أعم، وهو يرد على من زعم أن المراد بالناس هنا لبيد بن الأعصم لأنه كان منافقا فأراد صلى الله عليه وسلم أن لا يثير عليه شرا لأنه كان يؤثر الإغضاء عمن يظهر الإسلام ولو صدر منه ما صدر، وقد وقع أيضا في رواية ابن عيينة "وكرهت أن أثير على أحد من الناس شرا" نعم وقع في حديث عمرة عن عائشة "فقيل يا رسول الله لو قتلته، قال: ما وراءه من عذاب الله أشد" وفي رواية عمرة "فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف فعفا عنه" وفي حديث زيد بن أرقم "فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك اليهودي شيئا مما صنع به ولا رآه في وجهه" وفي مرسل عمر بن الحكم "فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: حب الدنانير" وقد تقدم في كتاب الجزية قول ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله. وأخرج ابن سعد من مرسل عكرمة أيضا أنه لم يقتله، ونقل عن الواقدي أن ذلك أصح من رواية من قال إنه قتله، ومن ثم حكى عياض في "الشفاء" قولين: هل قتل، أم لم يقتل؟ وقال القرطبي لا حجة على مالك من هذه القصة، لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة، أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وهو من جنس ما راعاه النبي صلى الله عليه وسلم من منع قتل المنافقين حيث قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" . قوله: "فأمر بها" أي بالبئر "فدفنت" وهكذا وقع في رواية ابن نمير وغيره عن هشام، وأورده مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام عقب رواية ابن نمير وقال: "لم يقل أبو أسامة في روايته فأمر بها فدفنت". قلت: وكأن شيخه لم يذكرها حين حدثه، وإلا فقد أوردها البخاري عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة، كما في الباب بعده. وقال في آخره: "فأمر بها فدفنت" وقد تقدم أن في مرسل عبد الرحمن بن كعب "أن الحارث بن قيس هورها". قوله: "تابعه أبو أسامة" هو حماد بن أسامة، وتأتي روايته موصولة بعد بابين. قوله: "وأبو ضمرة" هو أنس بن عياض، وستأتي روايته موصولة في كتاب الدعوات. قوله: "وابن أبي الزناد" هو عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان، ولم أعرف من وصلها بعد. قوله: "وقال الليث وابن عيينة عن هشام في مشط ومشاطة" كذا لأبي ذر، ولغيره: "ومشاقة" وهو الصواب وإلا لاتحدت الروايات، ورواية الليث تقدم ذكرها في بدء الخلق، ورواية ابن عيينة تأتي موصولة بعد باب. وذكر المزي في "الأطراف" تبعا لخلف أن البخاري أخرجه في الطب عن الحميدي وعن عبد الله بن محمد عن ابن عيينة، وطريق الحميدي ما هي في الطب في شيء من النسخ التي وقفت عليها، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق الحميدي وقال بعده "أخرجه البخاري عن عبيد الله بن محمد" لم يزد على ذلك، وكذا لم يذكر أبو مسعود في أطرافه الحميدي، والله أعلم. قوله: "ويقال المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط" هذا لا اختلاف فيه بين أهل اللغة، قال ابن قتيبة: المشاطة: ما يخرج من الشعر الذي سقط من الرأس إذا سرح بالمشط، وكذا من اللحية. قوله: "والمشاطة من مشاطة الكتان" كذا لأبي

(10/231)


ذر كأن المراد أن اللفظ مشترك بين الشعر إذا مشط وبين الكتان إذا سرح، ووقع في رواية غير أبي ذر "والمشاقة" وهو أشبه، وقيل: المشاقة هي المشاطة بعينها، والقاف تبدل من الطاء لقرب المخرج، والله أعلم.

(10/232)


48 - باب الشِّرْكُ وَالسِّحْرُ مِنْ الْمُوبِقَاتِ
5764- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اجْتَنِبُوا الْمُوبِقَاتِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ".
قوله: "باب الشرك والسحر من الموبقات" أي المهلكات. قوله: " اجتنبوا الموبقات: الشرك بالله والسحر" هكذا أورد الحديث مختصرا وحذف لفظ العدد، وقد تقدم في كتاب الوصايا بلفظ: "اجتنبوا السبع الموبقات" وساق الحديث بتمامه، ويجوز نصب الشرك بدلا من السبع، ويجوز الرفع على الاستئناف فيكون خبر مبتدأ محذوف، والنكتة في اقتصاره على اثنتين من السبع هنا الرمز إلى تأكيد أمر السحر، فظن بعض الناس أن هذا القدر هو جملة الحديث، فقال: ذكر الموبقات وهي صيغة جمع وفسرها باثنتين فقط، وهو من قبيل قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فاقتصر على اثنتين فقط، وهذا على أحد الأقوال في الآية، ولكن ليس الحديث كذلك فإنه في الأصل سبعة حذف البخاري منها خمسة وليس شأن الآية كذلك. وقال ابن مالك: تضمن هذا الحديث حذف المعطوف للعلم به، فإن تقدير اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر وأخواتهما وجاز الحذف لأن الموبقات سبع، وقد ثبتت في حديث آخر، واقتصر في هذا الحديث على ثنتين منها تنبيها على أنهما أحق بالاجتناب، ويجوز رفع الشرك والسحر على تقدير "منهن". قلت: وظاهر كلامه يقتضي أن الحديث ورد هكذا تارة وتارة ورد بتمامه، وليس كذلك، وإنما الذي اختصره البخاري نفسه كعادته في جواز الاقتصار على بعض الحديث، وقد أخرجه المصنف في كتاب الوصايا في "باب قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} عن عبد العزيز بن عبد الله شيخه في هذا الحديث بهذا الإسناد، وساقها سبعا فذكر بعد السحر وقتل النفس الخ، وأعاده في أواخر كتاب المحاربين بهذا الإسناد بعينه بتمامه، وأغفل المزي في "الأطراف" ذكر هذا الموضع في ترجمة سالم أبي الغيث عن أبي هريرة.

(10/232)


49 - باب هَلْ يَسْتَخْرِجُ السِّحْرَ
وَقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ، أَوْ يُؤَخَّذُ عَنْ امْرَأَتِهِ، أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنَشَّرُ؟ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِصْلاَحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ.
5765- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ فَسَأَلْتُ هِشَاماً عَنْهُ فَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلاَ يَأْتِيهِنَّ". قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ

(10/232)


50 - باب السِّحْرِ
5766- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سُحِرَ النَّبِيُّ

(10/235)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ ثُمَّ قَالَ: أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ قُلْتُ وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ جَاءَنِي رَجُلاَنِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ فِيمَا ذَا قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ قَالَ فَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ قَالَ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَهُ قَالَ لاَ أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرّاً وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ" .
قوله: "باب السحر" كذا وقع هنا للكثير، وسقط لبعضهم، وعليه جرى ابن بطال والإسماعيلي وغيرهما، وهو الصواب لأن الترجمة قد تقدمت بعينها قبل ببابين، ولا يعهد ذلك للبخاري إلا نادرا عند بعض دون بعض. حديث عائشة من رواية أبي أسامة فاقتصر الكثير منه على بعضه من أوله إلى قوله: "يفعل الشيء وما فعله" وفي رواية الكشميهني: "أنه فعل الشيء وما فعله" ووقع سياق الحديث بكماله في رواية الكشميهني والمستملي، وكذا صنع النسفي وزاد في آخره طريق يحيى القطان عن هشام إلى قوله: "صنع شيئا ولم يصنعه" وقد تقدم سندا ومتنا لغيره في كتاب الجزية. وأغفل المزي في "الأطراف" ذكرها هنا، وذكر هنا رواية الحميدي عن سفيان ولم أرها ولا ذكرها أبو مسعود في أطرافه، واستدل بهذا الحديث على أن الساحر لا يقتل حدا إذا كان له عهد، وأما ما أخرجه الترمذي من حديث جندب رفعه قال: "حد الساحر ضربه بالسيف" ففي سنده ضعف، فلو ثبت لخص منه من له عهد، وتقدم في الجزية من رواية بجالة "أن عمر كتب إليهم أن اقتلوا كل ساحر وساحرة" وزاد عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار في روايته عن بجالة "فقتلنا ثلاث سواحر" أخرج البخاري أصل الحديث دون قصة قتل السواحر، قال ابن بطال: لا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك والزهري إلا أن يقتل بسحره فيقتل، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعن مالك إن أدخل بسحره ضررا على مسلم لم يعاهد عليه نقض العهد بذلك فيحل قتله، وإنما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ولأنه خشي إذا قتله أن تثور بذلك فتنة بين المسلمين وبين حلفائه من الأنصار، وهو من نمط ما راعاه من ترك قتل المنافقين، سواء كان لبيد يهوديا أو منافقا على ما مضى من الاختلاف فيه. قال: وعند مالك أن حكم الساحر حكم الزنديق فلا تقبل توبته، ويقتل حدا إذا ثبت عليه ذلك، وبه قال أحمد. وقال الشافعي: لا يقتل إلا إن اعترف بسحره فيقتل به، فإن اعترف أن سحره قد يقتل وقد لا يقتل وأنه سحره وأنه مات لم يجب عليه القصاص ووجبت الدية في ماله لا على عاقلته، ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة، وادعى أبو بكر الرازي في "الأحكام" أن الشافعي تفرد بقوله إن الساحر يقتل قصاصا إذا اعترف أنه قتله بسحره، والله أعلم. قال النووي: إن كان السحر قول أو فعل يقتضي الكفر كفر الساحر وتقبل توبته إذا تاب عندنا، وإذا لم يكن في سحره ما يقتضي الكفر عزر واستتيب.

(10/236)


باب إن من البيان لسحرا
...
51 - باب إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْراً
5767- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلاَنِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْراً أَوْ إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ" .
قوله: "باب إن من البيان سحرا" في رواية الكشميهني والأصيلي: "السحر". قوله: "قدم رجلان" لم أقف على تسميتهما صريحا، وقد زعم جماعة أنهما الزبرقان بكسر الزاي والراء بينهما موحدة ساكنة وبالقاف واسمه الحصين ولقب الزبرقان لحسنه، والزبرقان من أسماء القمر، وهو ابن بدر بن امرئ القيس بن خلف، وعمرو بن الأهتم واسم الأهتم سنان بن سمي يجتمع مع الزبرقان في كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فهما تميميان، قدما في وفد بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة، واستندوا قي تعيينهما إلى ما أخرجه البيهقي في "الدلائل" وغيره من طريق مقسم عن ابن عباس قال: "جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم، ففخر الزبرقان فقال: يا رسول الله، أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب، أمنعهم من الظلم وآخذ منهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك يعني عمرو بن الأهتم، فقال عمرو: إنه لشديد العارضة مانع لجانبه مطاع في أذنيه. فقال الزبرقان والله يا رسول الله لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو: أنا أحسدك؟ والله يا رسول الله إنه لئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد، مضيع في العشيرة. والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الآخرة، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من البيان سحرا" . وأخرجه الطبراني من حديث أبي بكرة قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقدم عليه وفد بني تميم عليهم قيس بن عاصم والزبرقان وعمرو بن الأهتم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو: "ما تقول في الزبرقان؟" فذكر نحوه وهذا لا يلزم منه أن يكون الزبرقان وعمرو هما المراد بحديث ابن عمر، فإن المتكلم إنما هو عمرو بن الأهتم وحده، وكان كلامه في مراجعته الزبرقان، فلا يصح نسبة الخطبة إليهما إلا على طريق التجوز. قوله: "من المشرق" أي من جهة المشرق، وكانت سكنى بني تميم من جهة العراق وهي في شرقي المدينة. قوله: "فخطبا، فعجب الناس لبيانهما" قال الخطابي: البيان اثنان: أحدهما: ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر: ما دخلته الصنعة بحيث يروق للسامعين ويستميل قلوبهم، وهو الذي يشبه بالسحر إذا خلب القلب وغلب على النفس حتى يحول الشيء عن حقيقته ويصرفه عن جهته، فيلوح للناظر في معرض غيره. وهذا إذا صرف إلى الحق يمدح، وإذا صرف إلى الباطل يذم. قال: فعلى هذا فالذي يشبه بالسحر منه هو المذموم. وتعقب بأنه لا مانع من تسمية الآخر سحرا، لأن السحر يطلق على الاستمالة كما تقدم تقريره في أول باب السحر، وقد حمل بعضهم الحديث على المدح والحث على تحسين الكلام وتحبير الألفاظ، وهذا واضح إن صح أن الحديث ورد في قصة عمرو بن الأهتم، وحمله بعضهم على الذم لمن تصنع في الكلام وتكلف لتحسينه وصرف الشيء عن ظاهره، فشبه بالسحر الذي هو تخييل لغير حقيقة، وإلى هذا أشار مالك حيث أدخل الحديث في "الموطأ" في "باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله" وتقدم في "باب الخطبة" من كتاب النكاح في الكلام على حديث الباب من قول صعصعة بن صوحان في تفسير هذا

(10/237)


الحديث ما يؤيد ذلك، وهو أن المراد به الرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجة من صاحب الحق فيسحر الناس ببيانه فيذهب بالحق، وحمل الحديث على هذا صحيح، لكن لا يمنع حمله على المعني الآخر إذا كان في تزيين الحق، وبهذا جزم ابن العربي وغيره من فضلاء المالكية. وقال ابن بطال: أحسن ما يقال في هذا أن هذا الحديث ليس ذما للبيان كله ولا مدحا لقوله من البيان، فأتى بلفظة "من" التي للتبعيض قال: وكيف يذم البيان وقد امتن الله به على عباده حيث قال: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} انتهى. والذي يظهر أن المراد بالبيان في الآية المعنى الأول الذي نبه عليه الخطابي، لا خصوص ما نحن فيه. وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز، والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة، وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام، وهذا كله من البيان بالمعنى الثاني. نعم الإفراط في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها. والله أعلم
قد أتى بها، وهو مثل تغدى وتعشى إذا وقع

(10/238)


باب الدواء بالعجوة من السحر
...
52 - باب الدَّوَاءِ بِالْعَجْوَةِ لِلسِّحْرِ
5768- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ أَخْبَرَنَا هَاشِمٌ أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ" . وَقَالَ غَيْرُهُ: "سَبْعَ تَمَرَاتٍ" .
5769- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ سَمِعْتُ سَعْداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ" .
قوله: "باب الدواء بالعجوة للسحر" العجوة ضرب من أجود تمر المدينة وألينه. وقال الداودي: هو من وسط التمر. وقال ابن الأثير: العجوة ضرب من التمر أكبر من الصيحاني يضرب إلى السواد، وهو مما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بالمدينة. وذكر هذا الأخير القزاز. قوله: "حدثنا علي" لم أره منسوبا في شيء من الروايات، ولا ذكره أبو علي الغساني، لكن جزم أبو نعيم في المستخرج بأنه علي بن عبد الله ابن المديني، وبذلك جزم المزي في "الأطراف" وجزم الكرماني بأنه علي بن سلمة اللبقي وما عرفت سلفه فيه. قوله: "حدثنا مروان" هو ابن معاوية الفزاري، جزم به أبو نعيم، وأخرجه مسلم عن محمد بن يحيى بن أبي عمر عن مروان الفزاري. قوله: "هاشم" هو ابن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وعامر بن سعد هو ابن عم أبيه، ووقع في رواية أبي أسامة في الطريق الثانية في الباب: "سمعت عامرا سمعت سعدا" ويأتي بعد قليل من وجه آخر "سمعت عامر بن سعد سمعت أبي" وهو سعد بن أبي وقاص. قوله: "من اصطبح" في رواية أبي أسامة "من تصبح" وكذا في رواية جمعة عن مروان الماضية في الأطعمة، وكذا لمسلم عن ابن عمر وكلاهما بمعنى التناول صباحا، وأصل الصبوح والاصطباح تناول الشراب صبحا، ثم استعمل في الأكل، ومقابله الغبوق والاغتباق بالغين المعجمة؛ وقد يستعمل في مطلق الغذاء أعم من الشرب والأكل، وقد يستعمل في أعم من ذلك كما قال الشاعر: صبحنا الخزرجية مرهفات وتصبح مطاوع صبحته بكذا إذا أتيته به صباحا، فكأن الذي يتناول العجوة صباحا قد أتى بها، وهو مثل تغدى وتعشى إذا وقع

(10/238)


ذلك في وقت الغداء أو العشاء. قوله: "كل يوم تمرات عجوة" كذا أطلق في هذه الرواية، ووقع مقيدا في غيرها، ففي رواية جمعة وابن أبي عمر سبع تمرات، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية دحيم عن مروان، وكذا هو في رواية أبي أسامة في الباب، ووقع مقيدا بالعجوة في رواية أبي ضمرة أنس بن عياض عن هاشم بن هاشم عند الإسماعيلي، وكذا في رواية أبي أسامة، وزاد أبو ضمرة في روايته التقييد بالمكان أيضا ولفظه: "من تصبح بسبع تمرات عجوة من تمر العالية" والعالية القرى التي في الجهة العالية من المدينة وهي جهة نجد، وقد تقدم لها ذكر في المواقيت من كتاب الصلاة، وفيه بيان مقدار ما بينها وبين المدينة. وللزيادة شاهد عند مسلم من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة بلفظ: "في عجوة العالية شفاء في أول البكرة" ووقع لمسلم أيضا من طريق أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري عن عامر بن سعد بلفظ: "من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح" وأراد لابتي المدينة وإن لم يجر لها ذكر للعلم بها. قوله: "لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل" السم معروف وهو مثلث السين، والسحر تقدم تحرير القول فيه قريبا؛ وقوله: "ذلك اليوم" ظرف وهو معمول ليضره، أو صفة لسحر. وقوله: "إلى الليل" فيه تقييد الشفاء المطلق في رواية ابن أبي مليكة حيث قال: "شفاء أول البكرة في أو ترياق" وتردده في ترياق شك من الراوي، والبكرة بضم الموحدة وسكون الكاف يوافق ذكر الصباح في حديث سعد، والشفاء أشمل من الترياق يناسب ذكر السم، والذي وقع في حديث سعد شيئان السحر والسم، فمعه زيادة علم. وقد أخرج النسائي من حديث جابر رفعه: "العجوة من الجنة، وهي شفاء من السم" وهذا يوافق رواية ابن أبي مليكة. والترياق بكسر المثناة وقد تضم وقد تبدل المثناة دالا أو طاء بالإهمال فيهما، وهو دواء مركب معروف يعالج به المسموم، فأطلق على العجوة اسم الترياق تشبيها لها به، وأما الغاية في قوله: "إلى الليل" فمفهومه أن السر الذي في العجوة من دفع ضرر السحر والسم يرتفع إذا دخل الليل في حق من تناوله من أول النهار، ويستفاد منه إطلاق اليوم على ما بين طلوع الفجر أو الشمس إلى غروب الشمس، ولا يستلزم دخول الليل، ولم أقف في شيء من الطرق على حكم من تناول ذلك في أول الليل هل يكون كمن تناوله أول النهار حتى يندفع عنه ضرر السم والسحر إلى الصباح، والذي يظهر خصوصية ذلك بالتناول أول النهار لأنه حينئذ يكون الغالب أن تناوله يقع على الريق، فيحتمل أن يلحق به من تناول الليل على الريق كالصائم، وظاهر الإطلاق أيضا المواظبة على ذلك. وقد وقع مقيدا فيما أخرجه الطبري من رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها "كانت تأمر بسبع تمرات عجوة في سبع غدوات" وأخرجه ابن عدي من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام مرفوعا، وذكر ابن عدي أنه تفرد به، ولعله أراد تفرده برفعه، وهو من رجال البخاري لكن في المتابعات. قوله: "وقال غيره سبع تمرات" وقع في نسخة الصغاني "يعني غير حديث علي" انتهى، والغير كأنه أراد به جمعة، وقد تقدم في الأطعمة عنه أو غيره ممن نبهت عليه ممن رواه كذلك. قوله في رواية أبي أسامة "سبع تمرات عجوة" في رواية الكشميهني: "بسبع تمرات" بزيادة الموحدة في أوله، ويجوز في تمرات عجوة الإضافة فتخفض كما تقول ثياب خز، ويجوز التنوين على أنه عطف بيان أو صفة لسبع أو تمرات ويجوز النصب منونا على تقدير فعل أو على التمييز. قال الخطابي: كون العجوة تنفع من السم والسحر إنما هو ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة لا لخاصية في التمر. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون المراد نخلا خاصا بالمدينة لا يعرف الآن. وقال بعض شراح "المصابيح" نحوه وإنه ذلك لخاصية فيه، قال: ويحتمل أن يكون ذلك خاصا بزمانه صلى الله عليه وسلم،

(10/239)


وهذا يبعده وصف عائشة لذلك بعده صلى الله عليه وسلم. وقال بعض شراح "المشارق" أما تخصيص تمر المدينة بذلك فواضح من ألفاظ المتن. وأما تخصيص زمانه بذلك فبعيد، وأما خصوصية السبع فالظاهر أنه لسر فيها، وإلا فيستحب أن يكون ذلك وترا. وقال المازري: هذا مما لا يعقل معناه في طريق علم الطب، ولو صح أن يخرج لمنفعة التمر في السم وجه من جهة الطب لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الذي هو السبع، ولا على الاقتصار على هذا الجنس الذي هو العجوة، ولعل ذلك كان لأهل زمانه صلى الله عليه وسلم خاصة أو لأكثرهم، إذ لم يثبت استمرار وقوع الشفاء في زماننا غالبا، وإن وجد ذلك في الأكثر حمل على أنه أراد وصف غالب الحال. وقال عياض: تخصيصه ذلك بعجوة العالية وبما بين لابتي المدينة يرفع هذا الإشكال ويكون خصوصا لها، كما وجد الشفاء لبعض الأدواء في الأدوية التي تكون في بعض تلك البلاد دون ذلك الجنس في غيره، لتأثير يكون في ذلك من الأرض أو الهواء. قال: وأما تخصيص هذا العدد فلجمعه بين الإفراد والإشفاع، لأنه زاد على نصف العشرة، وفيه أشفاع ثلاثة وأوتار أربعة، وهي من نمط غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا وقوله تعالى: {سَبْعَ سَنَابِلَ} وكما أن السبعين مبالغة في كثرة العشرات والسبعمائة مبالغة في كثرة المئين. وقال النووي: في الحديث تخصيص عجوة المدينة بما ذكر، وأما خصوص كون ذلك سبعا فلا يعقل معناه كما في أعداد الصلوات ونصب الزكوات. قال: وقد تكلم في ذلك المازري وعياض بكلام باطل فلا يغتر به. انتهى. ولم يظهر لي من كلامهما ما يقتضي الحكم عليه بالبطلان، بل كلام المازري يشير إلى محل ما اقتصر عليه النووي، وفي كلام عياض إشارة إلى المناسبة فقط، والمناسبات لا يقصد فيها التحقيق البالغ بل يكتفى منها بطرق الإشارة. وقال القرطبي: ظاهر الأحاديث خصوصية عجوة المدينة بدفع السم وإبطال السحر، والمطلق منها محمول على المقيد، وهو من باب الخواص التي لا تدرك بقياس ظني. ومن أئمتنا من تكلف لذلك فقال: إن السموم إنما تقتل لإفراط برودتها، فإذا داوم على التصبح بالعجوة تحكمت فيه الحرارة وأعانتها الحرارة الغريزية فقاوم ذلك برودة السم ما لم يستحكم. قال: وهذا يلزم منه رفع خصوصية عجوة المدينة بل خصوصية العجوة بل خصوصية التمر، فإن من الأدوية الحارة ما هو أولى بذلك من التمر، والأولى أن ذلك خاص بعجوة المدينة. ثم هل هو خاص بزمان نطقه أو في كل زمان؟ هذا محتمل، ويرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة. فمن جرب ذلك فصح معه عرف أنه مستمر، وإلا فهو مخصوص بذلك الزمان. قال وأما خصوصية هذا العدد فقد جاء في مواطن كثيرة من الطب كحديث: "صبوا علي من سبع قرب" وقوله للمفؤود الذي وجهه للحارث بن كلدة أن يلده بسبع تمرات، وجاء تعويذه سبع مرات، إلى غير ذلك. وأما في غير الطب فكثير، فما جاء من هذا العدد في معرض التداوي فذلك لخاصية لا يعلمها إلا الله أو من أطلعه على ذلك، وما جاء منه في غير معرض التداوي فإن العرب تضع هذا العدد موضع الكثرة وإن لم ترد عددا بعينه. وقال ابن القيم: عجوة المدينة من أنفع تمر الحجاز، وهو صنف كريم ملزز متين الجسم والقوة، وهو من ألين التمر وألذه. قال: والتمر في الأصل من أكثر الثمار تغذية لما فيه من الجوهر الحار الرطب، وأكله على الريق يقتل الديدان لما فيه من القوة الترياقية، فإذا أديم أكله على الريق جفف مادة الدود وأضعفه أو قتله انتهى. وفي كلامه إشارة إلى أن المراد نوع خاص من السم وهو ما ينشأ عن الديدان التي في البطن لا كل السموم، لكن سياق الخبر يقتضي التعميم لأنه نكرة في سياق النفي، وعلى تقدير التسليم في السم فماذا يصنع في السحر.

(10/240)


53 - باب لاَ هَامَةَ
5770- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاَ عَدْوَى وَلاَ صَفَرَ وَلاَ هَامَةَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ الإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟" .
5771- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ بَعْدُ يَقُولُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ " وَأَنْكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثَ الأَوَّلِ. قُلْنَا: أَلَمْ تُحَدِّثْ أَنَّهُ لاَ عَدْوَى؟ فَرَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَمَا رَأَيْتُهُ نَسِيَ حَدِيثاً غَيْرَهُ.
[الحديث 5771 – طرفه في: 5774]
قوله: "باب لا هامة" قال أبو زيد: هي بالتشديد، وخالفه الجميع فخففوها، وهو المحفوظ في الرواية، وكأن من شددها ذهب إلى واحدة الهوام وهي ذوات السموم، وقيل: دواب الأرض التي تهم بأذى الناس، وهذا لا يصح فيه إلا إن أريد أنها لا تضر لذواتها وإنما تضر إذا أراد الله إيقاع الضرر بمن أصابته. وقد ذكر الزبير بن بكار في "الموفقيات" أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قتل الرجل ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة - وهي دودة - فتدور حول قبره فتقول: اسقوني اسقوني، فإن أدرك بثأره ذهبت وإلا بقيت، وفي ذلك يقول شاعرهم:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب. وذكر ابن فارس وغيره من اللغويين نحو الأول، إلا أنهم لم يعينوا كونها دودة، بل قال القزاز: الهامة طائر من طير الليل، كأنه يعني البومة. وقال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها، إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نعت إلي نفسي أو أحدا من أهل داري. وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير، ويسمون ذلك الطائر الصدى. فعلى هذا فالمعني في الحديث: لا حياة لهامة الميت، وعلى الأول: لا شؤم بالبومة ونحوها، ولعل المؤلف ترجم "لا هامة" مرتين بالنظر لهذين التفسيرين والله أعلم. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية شعيب عن الزهري "حدثني أبو سلمة" وهي في الباب الذي بعده. قوله: "لا عدوى" تقدم شرحه مستوفى في "باب الجذام" وكيفية الجمع بين قوله: "لا عدوى" وبين قوله: "لا يورد ممرض على مصح" وكذا تقدم شرح قوله: "ولا صفر ولا هامة". قوله: "فقال أعرابي" لم أقف على اسمه. قوله: "تكون في الرمل كأنها الظباء" في رواية شعيب عن الزهري في الباب الذي يليه "أمثال الظباء" بكسر المعجمة بعدها موحدة وبالمد جمع ظبي، شبهها بها في النشاط والقوة والسلامة من الداء. قوله: "فيجربها" في رواية مسلم: "فيدخل فيها ويجربها" بضم أوله، وهو بناء على ما كانوا يعتقدون من العدوى، أي يكون سببا لوقوع الجرب بها، وهذا من أوهام الجهال، كانوا يعتقدون أن المريض إذا دخل في الأصحاء أمرضهم

(10/241)


فنفى الشارع ذلك وأبطله، فلما أورد الأعرابي الشبهة رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فمن أعدى الأول؟" وهو جواب في غاية البلاغة والرشاقة. وحاصله من أين الجرب للذي أعدى بزعمهم؟ فإن أجيب من بعير آخر لزم التسلسل أو سبب آخر فليفصح به، فإن أجيب بأن الذي فعله في الأول هو الذي فعله في الثاني ثبت المدعي، وهو أن الذي فعل بالجميع ذلك هو الخالق القادر على كل شيء وهو الله سبحانه وتعالى. قوله: "وعن أبي سلمة سمع أبا هريرة بعد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يوردن ممرض على مصح" كذا فيه بتأكيد النهي عن الإيراد. ولمسلم من رواية يونس عن الزهري "لا يورد" بلفظ النفي، وكذا تقدم من رواية صالح وغيره، وهو خبر بمعنى النهي بدليل رواية الباب. والممرض بضم أوله وسكون ثانيه وكسر الراء بعدها ضاد معجمة هو الذي له إبل مرضى، والمصح بضم الميم وكسر الصاد المهملة بعدها مهملة من له إبل صحاح، نهى صاحب الإبل المريضة أن يوردها على الإبل الصحيحة. قال أهل اللغة: الممرض اسم فاعل من أمرض الرجل إذا أصاب ماشيته مرض، والمصح اسم فاعل من أصح إذا أصاب ماشيته عاهة ثم ذهب عنها وصحت. قوله: "وأنكر أبو هريرة الحديث الأول" وقع في رواية المستملي والسرخسي "حديث الأول" وهو كقولهم مسجد الجامع. وفي رواية يونس عن الزهري عن أبي سلمة "كان أبو هريرة يحدثهما كليهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله لا عدوى". قوله: "وقلنا ألم تحدث أنه لا عدوى" في رواية يونس "فقال الحارث بن أبي ذئاب" بضم المعجمة وموحدتين وهو ابن عم أبي هريرة "قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حديث لا عدوى، فأبى أن يعرف ذلك" ووقع عند الإسماعيلي من رواية شعيب "فقال الحارث: إنك حدثتنا" فذكره "قال: فأنكر أبو هريرة وغضب وقال: لم أحدثك ما تقول".
قوله: "فرطن بالحبشية" في رواية يونس "فما رآه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة حتى رطن بالحبشية فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ قال: لا. قال: إني قلت أبيت". قوله: "فما رأيته" في رواية الكشميهني: "فما رأيناه نسي حديثا غيره" في رواية يونس "قال أبو سلمة: ولعمري لقد كان يحدثنا به فما أدري أنسي أبو هريرة أم نسخ أحد القولين للآخر"، وهذا الذي قاله أبو سلمة ظاهر في أنه كان يعتقد أن بين الحديثين تمام التعارض، وقد تقدم وجه الجمع بينهما في "باب الجذام" وحاصله أن قوله: "لا عدوى" نهي عن اعتقادها وقوله: "لا يورد" سبب النهي عن الإيراد خشية الوقوع في اعتقاد العدوى، أو خشية تأثير الأوهام، كما تقدم نظيره في حديث: "فر من المجذوم" لأن الذي لا يعتقد أن الجذام يعدي يجد في نفسه نفرة، حتى لو أكرهها على القرب منه لتألمت بذلك، فالأولى بالعاقل أن لا يتعرض لمثل ذلك بل يباعد أسباب الآلام ويجانب طرق الأوهام والله أعلم. قال ابن التين: لعل أبا هريرة كان يسمع هذا الحديث قبل أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم حديث: "من بسط رداءه ثم ضمه إليه لم ينس شيئا سمعه من مقالتي" وقد قيل في الحديث المذكور إن المراد أنه لا ينسى تلك المقالة التي قالها ذلك اليوم لا أنه ينتفي عنه النسيان أصلا. وقيل: كان الحديث الثاني ناسخا للأول فسكت عن المنسوخ، وقيل: معنى قوله: "لا عدوى" النهي عن الاعتداء، ولعل بعض من أجلب عليه إبلا جرباء أراد تضمينه فاحتج عليه في إسقاط الضمان بأنه إنما أصابها ما قدر عليها وما لم تكن تنجو منه، لأن العجماء جبار، ويحتمل أن يكون قال هذا على ظنه ثم تبين له خلاف ذلك انتهى. فأما دعوى نسيان أبي هريرة للحديث فهو بحسب ما ظن أبو سلمة، وقد بينت ذلك رواية يونس التي أشرت إليها، وأما دعوى النسخ فمردودة لأن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، ولا سيما مع

(10/242)


إمكان الجمع. وأما الاحتمال الثالث فبعيد من مساق الحديث، والذي بعده أبعد منه، ويحتمل. أيضا أنهما لما كانا خبرين متغايرين عن حكمين مختلفين لا ملازمة بينهما جاز عنده أن يحدث بأحدهما ويسكت عن الآخر حسبما تدعو إليه الحاجة، قاله القرطبي في "المفهم". قال: ويحتمل أن يكون خاف اعتقاد جاهل يظنهما متناقضين فسكت عن أحدهما، وكان إذا أمن ذلك حدث بهما جميعا. قال القرطبي: وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي جواز مشافهة من وقعت له شبهة في اعتقاده بذكر البرهان العقلي إذا كان السائل أهلا لفهمه، وأما من كان قاصرا فيخاطب بما يحتمله عقله من الإقناعيات. قال: وهذه الشبهة التي وقعت للأعرابي هي التي وقعت للطبائعيين أولا وللمعتزلة ثانيا، فقال الطبائعيون بتأثير الأشياء بعضها في بعض وإيجادها إياها، وسموا المؤثر طبيعة. وقال المعتزلة بنحو ذلك في الحيوانات والمتولدات وأن قدرهم مؤثرة فيها بالإيجاد، وأنهم خالقون لأفعالهم مستقلون باختراعها، واستند الطائفتان إلى المشاهدة الحسية، ونسبوا من أنكر ذلك إلى إنكار البديهة، وغلط من قال ذلك منهم غلطا فاحشا لالتباس إدراك الحس بإدراك العقل، فإن المشاهد إنما هو تأثير شيء عند شيء آخر، وهذا حظ الحس، فأما تأثيره فهو فيه حظ العقل، فالحس أدرك وجود شيء عند وجود شيء وارتفاعه عند ارتفاعه، أما إيجاده به فليس للحس فيه مدخل، فالعقل هو الذي يفرق فيحكم بتلازمهما عقلا أو عادة مع جواز التبدل عقلا والله أعلم. وفيه وقوع تشبيه الشيء بالشيء إذا جمعهما وصف خاص ولو تباينا في الصورة. وفيه شدة ورع أبي هريرة لأنه مع كون الحارث أغضبه حتى تكلم بغير العربية خشي أن يظن الحارث أنه قال فيه شيئا يكرهه ففسر له في الحال ما قال، والله أعلم.

(10/243)


54 - باب لاَ عَدْوَى
5772- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَمْزَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ: فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ" .
5773- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ عَدْوَى" .
5774- قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُورِدُوا الْمُمْرِضَ عَلَى الْمُصِحِّ" .
5775- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ عَدْوَى" فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ الإِبِلَ تَكُونُ فِي الرِّمَالِ أَمْثَالَ الظِّبَاءِ فَيَأْتِيهَا الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَتَجْرَبُ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟ ".

(10/243)


5776- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ. قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ" .
قوله: "باب لا عدوى" تقدم تفسيرها. قوله: "أخبرني سالم بن عبد الله" أي ابن عمر. قوله: "وحمزة" هو أخو سالم. قوله: "أن عبد الله بن عمر" قال في رواية مسلم عن أبي الطاهر وحرملة كلاهما عن ابن وهب بهذا السند عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم في أوائل النكاح من طريق مالك عن الزهري عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر، وفي تصريح الزهري بالإخبار فيه في هذه الرواية دفع لتوهم انقطاعه بسبب ما رواه ابن أبي ذئب عن الزهري فأدخل بين الزهري وسالم رجلا وهو محمد بن زيد بن قنفذ، ويحمل إن كان محفوظا على أن الزهري حمله عن محمد بن زيد عن سالم ثم سمعه من سالم. قوله: "لا عدوى ولا طيرة، إنما الشؤم في ثلاث" الحديث. تقدم الكلام على حديث: "الشؤم في ثلاث" في النكاح، وجمع ابن عمر بين الحديثين يدل على أنه قوى عنده أحد الاحتمالات في المراد بالشؤم، وذكر مسلم أنه لم يقل أحد من أصحاب الزهري عنه في أول هذا الحديث: "لا عدوى ولا طيرة" إلا يونس بن يزيد. قلت: وقد أخرجه النسائي من رواية القاسم بن مبرور عن يونس بدونها. فكان المنفرد بالزيادة عبد الله بن وهب. قوله: "أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا عدوى" قال أبو سلمة بن عبد الرحمن "سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا توردوا الممرض على المصح" وعن الزهري قال أخبرني سنان بن أبي سنان أن أبا هريرة قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى، فقام أعرابي" فذكر القصة الماضية في الباب قبله، هكذا أورده من رواية شعيب عن الزهري، وقد أخرجه مسلم من روايته عن الزهري عن أبي سلمة بالحديثين، لكن لم يسق لفظه، أحال به على رواية صالح بن كيسان ولفظه: "لا عدوى" ويحدث مع ذلك "لا يورد الممرض على المصح" قاله بمثل حديث يونس، وقد بينت ما في رواية يونس من فائدة زائدة في الباب الذي قبله، وأورد أيضا رواية شعيب عن الزهري عن سنان بن أبي سنان بالقصة وأحال بسياقه على رواية يونس، فظهر بذلك أنها كلها موصولة. وسنان بن أبي سنان مدني ثقة واسم أبيه يزيد بن أمية وليس له في البخاري عن أبي هريرة سوى هذا الحديث الواحد، وله آخر عن جابر قرنه في كل منهما بأبي سلمة بن عبد الرحمن والله أعلم. حديث أنس بلفظ: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل " وفيه تفسيره، وقد تقدم شرحه مستوفى في باب مفرد.

(10/244)


55 - باب مَا يُذْكَرُ فِي سُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5777- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: "لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سَمٌّ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ الْيَهُودِ، فَجُمِعُوا لَهُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا

(10/244)


الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَبُوكُمْ؟ قَالُوا: أَبُونَا فُلاَنٌ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلاَنٌ. فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ. فَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا. قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْسَئُوا فِيهَا وَاللَّهِ لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَداً. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سَمّاً؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّاباً نَسْتَرِيحُ مِنْكَ وَإِنْ كُنْتَ نَبِيّاً لَمْ يَضُرَّكَ" .
قوله: "باب ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم" الإضافة فيه إلى المفعول. قوله: "رواه عروة عن عائشة" كأنه يشير إلى ما علقه في الوفاة النبوية آخر المغازي فقال: "قال يونس عن ابن شهاب قال عروة قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري ذلك السم" وقد ذكرت هناك من وصله وهو البزار وغيره، وتقدم شرحه مستوفى، وقوله: "أجد ألم الطعام" أي الألم الناشىء عن ذلك الأكل، لا أن الطعام نفسه بقي إلى تلك الغاية. وأخرج الحاكم من حديث أم مبشر نحو حديث عائشة ثم ذكر حديث أبي هريرة في قصة الشاة المسمومة التي أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد تقدم ذكره في غزوة خيبر وأنه أخرجه مختصرا وفي أواخر الجزية مطولا. قوله: "أهديت" بضم أوله على البناء للمجهول، تقدم في الهبة من رواية هشام بن زيد عن أنس "أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها" الحديث، فعرف أن التي أهدت الشاة المذكورة امرأة، وقدمت في المغازي أنها زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم أخرجه ابن إسحاق بغير إسناد. وأورده ابن سعد من طرق عن ابن عباس بسند ضعيف، ووقع في مرسل الزهري أنها أكثرت السم في الكتف والذراع لأنه بلغها أن ذلك كان أحب أعضاء الشاة إليه، وفيه: "فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف فنهش منها" وفيه: "فلما ازدرد لقمته قال: إن الشاة تخبرني" يعني أنها مسمومة وبينت هناك الاختلاف هل قتلها النبي صلى الله عليه وسلم أو تركها. ووقع في حديث أنس المشار إليه "فقيل: ألا تقتلها؟ قال: لا. قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم" وتقدم كيفية الجمع بين الاختلاف المذكور. ومن المستغرب قول محمد بن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها. قوله: " اجمعوا لي" لم أقف على تعيين المأمور بذلك. قوله: "إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقوني عنه؟" كذا وقع في هذا الحديث في ثلاثة مواضع، قال ابن التين: ووقع في بعض النسخ "صادقي" بتشديد الياء بغير نون، وهو الصواب في العربية لأن أصله صادقوني فحذفت النون للإضافة فاجتمع حرفا علة سبق الأول بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، ومثله {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} وفي حديث بدء الوحي "أو مخرجي هم" انتهى. وإنكاره الرواية من جهة العربية ليس بجيد، فقد وجهها غيره، قال ابن مالك: مقتضى الدليل أن تصحب نون الوقاية اسم الفاعل وأفعل التفضيل والأسماء المعربة المضافة إلى ياء المتكلم لتقيها خفاء الإعراب، فلما منعت ذلك كانت كأصل متروك، فنبهوا عليه في بعض الأسماء المعربة المشابهة للفعل كقول الشاعر:
وليس الموافيني ليرتد خائبا ... فإن له أضعاف ما كان أملا

(10/245)


ومنه في الحديث: "غير الدجال أخوفني عليك" والأصل فيه: أخوف مخوفاتي عليكم، فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه، فاتصل أخوف بها مقرونة بالنون، وذلك أن أفعل التفضيل شبيه بفعل التعجب. وحاصل كلامه أن النون الباقية هي نون الوقاية ونون الجمع حذفت كما تدل عليه الرواية الأخرى بلفظ: "صادقي" ويمكن تخريجه أيضا على أن النون الباقية هي نون الجمع فإن بعض النجاة أجاز في الجمع المذكر السالم أن يعرب بالحركات على النون مع الواو، ويحتمل أن تكون الياء في محل نصب بناء على أن مفعول اسم الفاعل إذا كان ضميرا بارزا متصلا به كان في محصل نصب وتكون النون على هذا أيضا نون الجمع. قوله: "من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل أبوكم فلان. فقالوا صدقت وبررت" بكسر الراء الأولى وحكي فتحها وهو من البر. قوله: "نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها" بضم اللام مخففا أي تدخلون فتقيمون في المكان الذي كنا فيه. وضبطه الكرماني بتشديد اللام، وقد أخرج الطبري من طريق عكرمة قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة؛ وسيخلفنا إليها قوم آخرون - يعنون محمدا وأصحابه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بيده على رءوسهم: بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد ، فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} الآية ومن طريق ابن إسحاق عن سيف بن سليم عن مجاهد عن ابن عباس "أن اليهود كانوا يقولون: هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما في النار، وإنما هي سبعة أيام فنزلت. وهذا سند حسن. وأخرج الطبري أيضا من وجه آخر عن عكرمة قال: "اجتمعت يهود تخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن تصيبنا النار" فذكر نحوه وزاد: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل أنتم خالدون مخلدون، لا نخلفكم فيها أبدا إن شاء الله تعالى. فنزل القرآن تصديقا للنبي صلى الله عليه وسلم" ومن طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حدثني أبي زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود: "أنشدكم الله من أهل النار الذين ذكرهم الله في التوراة؟ قالوا: إن الله غضب علينا غضبة فنمكث في النار أربعين يوما ثم نخرج فتخلفوننا فيها. فقال: كذبتم، والله لا نخلفكم فيها أبدا، فنزل القرآن تصديقا له" وهذان خبران مرسلان يقوي أحدهما الآخر، ويستفاد منهما تعيين مقدار الأيام المعدودة المذكورة في الآية، وكذا في حديث أبي هريرة حيث قال فيه: "أياما يسيرة" وأخرج الطبري أيضا من رواية قتادة وغيره أن حكمة العدد المذكور - وهو الأربعون - أنها المدة التي عبدوا فيها العجل. قوله: "اخسئوا فيها" هو زجر لهم بالطرد والإبعاد، أو دعاء عليهم بذلك. قوله: "والله لا نخلفكم فيها أبدا" أي لا تخرجون منها ولا تقيم بعدكم فيها، لأن من يدخل النار من عصاة المسلمين يخرج منها فلا يتصور أنه يخلف غيره أصلا. قوله: "أردنا إن كنت كاذبا" في رواية المستملي والسرخسي "إن كنت كذابا". قوله: "وإن كنت نبيا لم يضرك" يعني على الوجه المعهود من السم المذكور. وفي حديث أنس المشار إليه "فقالت: أردت لأقتلك. فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك" وفي رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في نحو هذه القصة "فقالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه، وإن كنت كاذبا فأريح الناس منك" أخرجه البيهقي وأخرج نحوه موصولا عن جابر، وأخرجه ابن سعد بسند صحيح عن ابن عباس، ووقع عند ابن سعد عن الواقدي بأسانيده المتعددة أنها قالت: "قتلت أبي وزوجي وعمي وأخي ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان نبيا فسيخبره الذراع، وإن كان ملكا استرحنا منه" وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيب، وتكليم الجماد له، ومعاندة اليهود لاعترافهم بصدقه فيما أخبر به عن اسم أبيهم وبما وقع منهم من دسيسة

(10/246)


السم، ومع ذلك فعاندوا واستمروا على تكذيبه. وفيه قتل من قتل بالسم قصاصا، وعن الحنفية إنما تجب فيه الدية، ومحل ذلك إذا استكرهه عليه اتفاقا، وأما إذا دسه عليه فأكله ففيه اختلاف للعلماء، فإن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قتل اليهودية ببشر بن البراء ففيه حجة لمن يقول بالقصاص في ذلك، والله أعلم. وفيه أن الأشياء - كالسموم وغيرها - لا تؤثر بذواتها بل بإذن الله، لأن السم أثر في بشر فقيل: إنه مات في الحال، وقيل: إنه مات بعد حول، ووقع فيه مرسل الزهري في مغازي موسى بن عقبة "أن لونه صار في الحال كالطيلسان" يعني أصفر شديد الصفرة، وأما قول أنس "فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم" فاللهوات جمع لهاة ويجمع أيضا على لهي بضم أوله والقصر منون، ولهيان وزن إنسان، وقد تقدم بيانها فيما مضى في الطب في الكلام على العذرة وهي اللحمة المعلقة في أصل الحنك، وقيل: هي ما بين منقطع اللسان إلى منقطع أصل الفم، وهذا هو الذي يوافق الجمع المذكور. ومراد أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتريه المرض من تلك الأكلة أحيانا، وهو موافق لقوله في حديث عائشة: "ما أزال أجد ألم الطعام" ووقع في مغازي موسى بن عقبة عن الزهري مرسلا "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري " ومثله في الرواية المذكورة عند ابن سعد. والعداد بكسر المهملة والتخفيف ما يعتاد، والأبهر عرق في الظهر تقدم بيانه في الوفاة النبوية، ويحتمل أن يكون أنس أراد أنه يعرف ذلك في اللهوات بتغير لونها أو بنتوء فيها أو تحفير، قاله القرطبي.

(10/247)


باب شرب السم والدواء به وما يخاف منه والخبيث
...
56 - باب شُرْبِ السُّمِّ وَالدَّوَاءِ بِهِ وَبِمَا يُخَافُ مِنْهُ وَالْخَبِيثِ
5778- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً وَمَنْ تَحَسَّى سُمّاً فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً" .
5779- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلاَ سِحْرٌ" .
قوله: "باب شرب السم والدواء به وما يخاف منه" هو بضم أوله. وقال الكرماني يجوز فتحه، وهو عطف على السم. قوله: "والخبيث" أي الدواء الخبيث، وكأنه يشير بالدواء بالسم إلى ما ورد من النهي عن التداوي بالحرام، وقد تقدم بيانه في كتاب الأشربة في "باب الباذق" في شرح حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" وزعم بعضهم أن المراد بقوله: "به" منه. والمراد ما يدفع ضرر السم، وأشار بذلك إلى ما تقدم قبل من حديث: "من تصبح بسبع تمرات" الحديث، وفيه: "لم يضره سم" فيستفاد منه استعمال ما يدفع ضرر السم قبل وصوله، ولا يخفى بعدما قال، لكن يستفاد منه مناسبة ذكر حديث العجوة في هذا الباب. وأما قوله: "وما يخاف

(10/247)


منه" فهو معطوف على الضمير المجرور العائد على السم، وقوله: "منه" أي من الموت به أو استمرار المرض، فيكون فاعل ذلك قد أعان على نفسه، وأما مجرد شرب السم فليس بحرام على الإطلاق لأنه يجوز استعمال اليسير منه إذا ركب معه ما يدفع ضرره إذا كان فيه نفع، أشار إلى ذلك ابن بطال. وقد أخرج ابن أبي شيبة وغيره أن خالد بن الوليد لما نزل الحيرة قيل له احذر السم لا تسقيكه الأعاجم، فقال: ائتوني به فأتوه به، فأخذه بيده ثم قال. بسم الله، واقتحمه، فلم يضره. فكأن المصنف رمز إلى أن السلامة من ذلك وقعت كرامة لخالد بن الوليد، فلا يتأسى به في ذلك لئلا يفضي إلى قتل المرء نفسه. ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة في الباب، ولعله كان عند خالد في ذلك عهد عمل به. وأما قول: "والخبيث" فيجوز جره، والتقدير والتداوي بالخبيث، ويجوز الرفع على أن الخبر محذوف والتقدير ما حكمه؟ أو هل يجوز التداوي به؟ وقد ورد النهي عن تناوله صريحا، أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما وصححه ابن حبان من طريق مجاهد عن أبي هريرة مرفوعا، قال الخطابي: خبث الدواء يقع بوجهين: أحدهما: من جهة نجاسته كالخمر ولحم الحيوان الذي لا يؤكل، وقد يكون من جهة استقذاره فتكون كراهته لإدخال المشقة على النفس، وإن كان كثير من الأدوية تكره النفس تناوله، لكن بعضها في ذلك أيسر من بعض. قلت: وحمل الحديث على ما ورد في بعض طرقه أولى، وقد ورد في آخر الحديث متصلا به يعني السم، وأهل البخاري أشار في الترجمة إلى ذلك. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش. قوله: "سمعت ذكوان" هو أبو صالح السمان وقد أخرجه مسلم من رواية وكيع عن الأعمش عن أبي صالح، ثم أردفه برواية شعبة عن سليمان قال: "سمعت ذكوان" مثله. وأخرجه الترمذي من رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة فقال عن الأعمش "سمعت أبا صالح" به، وقدم في رواية وكيع "من قتل نفسه بحديدة" وثلث بقصة "من تردى" عكس رواية شعبة هنا. ووقع في رواية أبي داود الطيالسي المذكورة كرواية وكيع، وكذا عند الترمذي من طريق عبيدة بن حميد عن الأعمش ولم يذكر قصة. قوله: "من تردى من جبل" أي أسقط نفسه منه، لما يدل عليه قوله: "فقتل نفسه" على أنه تعمد ذلك، وإلا فمجرد قوله تردى لا يدل على التعمد. قوله: "ومن تحسى" بمهملتين بوزن تندى أي تجرع. قوله: "يجأ" بفتح أوله وتخفيف الجيم وبالهمز، أي يطعن بها، وقد تسهل الهمزة، والأصل في يجأ يوجأ قال ابن التين: في رواية الشيخ أبي الحسن يجأ بضم أوله، ولا وجه له، وإنما يبني للمجهول بإثبات الواو ويوجأ بوزن يوجد انتهى. ووقع في رواية مسلم: "يتوجأ" بمثناة وواو مفتوحتين وتشديد الجيم بوزن يتكبر وهو بمعنى الطعن، ووقع في رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة في أواخر الجنائز بلفظ: "الذي يطعن نفسه يطعنها في النار" وقد تقدم شرحه هناك وبيان تأويل الخلود والتأبيد المذكورين. وحكى ابن التين عن غيره أن هذا الحديث ورد في حق رجل بعينه، وأولى ما حمل عليه هذا الحديث ونحوه من أحاديث الوعيد أن المعنى المذكور جزاء فاعل ذلك إلا أن يتجاوز الله تعالى عنه. قوله: "أحمد بن بشير أبو بكر" هو الكوفي المخزومي مولاهم، ليس له عند البخاري سوى هذا الموضع، قال ابن معين: لا بأس به، هكذا روى عباس الدوري عنه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: متروك، وتعقب ذلك الخطيب بأنه التبس على عثمان بآخر يقال له أحمد بن بشير لكن كنيته أبو جعفر، وهو بغدادي من طبقة صاحب الترجمة، وكأن هذا هو السر في تكنية المصنف له ليمتاز عن قرينه الضعيف، وقد تقدم شرح حديث سعد قريبا، وقوله في أول السند "حدثنا محمد" كذا للأكثر، ووقع لأبي ذر

(10/248)


عن المستملي: "محمد بن سلام".

(10/249)


57 - باب أَلْبَانِ الأُتُنِ
5780- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ".
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ حَتَّى أَتَيْتُ الشَّأْمَ.
5781- وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَسَأَلْتُهُ هَلْ نَتَوَضَّأُ أَوْ نَشْرَبُ أَلْبَانَ الأُتُنِ؟ أَوْ مَرَارَةَ السَّبُعِ؟ أَوْ أَبْوَالَ الإِبِلِ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَدَاوَوْنَ بِهَا فَلاَ يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْساً. فَأَمَّا أَلْبَانُ الأُتُنِ: فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِهَا وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَلْبَانِهَا أَمْرٌ وَلاَ نَهْيٌ. وَأَمَّا مَرَارَةُ السَّبُعِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ".
قوله: "باب ألبان الأتن" بضم الهمزة والمثناة الفوقانية بعدها نون جمع أتان. قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: "من السباع" كذا للأكثر، وللمستملي والسرخسي "من السبع" بلفظ الإفراد والمراد الجنس. قوله: "قال الزهري: ولم أسمعه حتى أتيت الشام" تقدم الكلام على ذلك في الطب. قوله: "وزاد الليث: حدثني يونس عن ابن شهاب" هو الزهري، وهذه الزيادة وصلها الذهلي في "الزهريات" وأوردها أبو نعيم في "المستخرج" مطولة من طريق أبي ضمرة أنس بن عياض عن يونس بن يزيد. قوله: "عن ابن شهاب قال وسألته هل نتوضأ؟" هذه الجملة حالية، ووقع في رواية أبي ضمرة "سئل الزهري وأعرض الزهري في جوابه عن الوضوء فلم يجب عنه لشذوذ القول به" وقد تقدمت في الطهارة الإشارة إلى من أجاز الوضوء باللبن والخل. قوله: "قد كان المسلمون" في رواية أبي ضمرة "أما أبوال الإبل فقد كان المسلمون". قوله: "ولم يبلغنا عن ألبانها أمر ولا نهي" في رواية أبي ضمرة "ولا أرى ألبانها إلا تخرج من لحومها". قوله: "وأما مرارة السبع: قال ابن شهاب حدثني أبو إدريس" في رواية أبي ضمرة "وأما مرارة السبع فإنه أخبرني أبو إدريس" والباقي مثله، وزاد أبو ضمرة في آخره ولم أسمعه من علمائنا، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فلا خير في مرارتها. ويؤخذ من هذه الزيادة أن الزهري كان يتوقف في صحة هذا الحديث لكونه لم يعرف له أصلا بالحجاز كما هي طريقة كثير من علماء الحجاز. وقال ابن بطال: استدل الزهري على منع مرارة السبع بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ويلزمه مثل ذلك في ألبان الأتن، وغفل رحمه الله عن الزيادة التي أفادتها رواية أبي ضمرة. وقد اختلف في ألبان الأتن، فالجمهور على التحريم، وعند المالكية قول في حلها من القول بحل أكل لحمها، وقد تقدم بسطه في الأطعمة.

(10/249)


58 - باب إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الإِنَاءِ
5782- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ مَوْلَى بَنِي تَيْمٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى بَنِي زُرَيْقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الْآخَرِ دَاءً" .
قوله: "باب إذا وقع الذباب في الإناء" الذباب بضم المعجمة وموحدتين وتخفيف، قال أبو هلال العسكري: الذباب واحد والجمع ذبان كغربان، والعامة تقول ذباب للجمع وللواحد ذبابة بوزن قرادة، وهو خطأ، وكذا قال أبو حاتم السجستاني إنه خطأ. وقال الجوهري: الذباب واحدة ذبابة ولا تقل ذبانة، ونقل في "المحكم" عن أبي عبيدة عن خلف الأحمر تجويز ما زعم العسكري أنه خطأ، وحكى سيبويه في الجمع ذب. وقرأته بخط البحتري مضبوطا بضم أوله والتشديد. قوله: "عن عتبة بن مسلم مولى بني تميم" هو مدني، وأبوه يكنى أبا عتبة، وما لعتبة في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "عن عبيد بن حنين" مضى في بدء الخلق من طريق سليمان بن بلال عن عتبة بن مسلم: "أخبرني عبيد بن حنين" وهو بالمهملة والنونين مصغر وكنيته أبو عبد الله. قوله: "مولى بني زريق" بزاي ثم راء ثم قاف مصغر، وحكى الكلاباذي أنه مولى زيد بن الخطاب؛ وعن ابن عيينة أنه مولى العباس، وهو خطأ كأنه ظن أنه أخو عبد الله بن حنين وليس كذلك، وما لعبيد أيضا في البخاري سوى هذا الحديث أورده في موضعين.
قوله: "إذا وقع الذباب" قيل سمي ذبابا لكثرة حركته واضطرابه، وقد أخرج أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعا: "عمر الذباب أربعون ليلة، والذباب كله في النار إلا النحل" وسنده لا بأس به، وأخرجه ابن عدي دون أوله من وجه آخر ضعيف، قال الجاحظ: كونه في النار ليس تعذيبا له، بل ليعذب أهل النار به. قال الجوهري: يقال إنه ليس شيء من الطيور يلغ إلا الذباب. وقال أفلاطون: الذباب أحرص الأشياء، حتى إنه يلقي نفسه في كل شيء ولو كان فيه هلاكه. ويتولد من العفونة. ولا جفن للذبابة لصغر حدقتها، والجفن يصقل الحدقة، فالذبابة تصقل بيديها فلا تزال تمسح عينيها. ومن عجيب أمره أن رجيعه يقع على الثوب الأسود أبيض وبالعكس. وأكثر ما يظهر في أماكن العفونة، ومبدأ خلقه منها ثم من التوالد. وهو من أكثر الطيور سفادا، ربما بقي عامة اليوم على الأنثى. ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي: لأي علة خلق الذباب؟ فقال: مذلة للملوك. وكانت ألحت عليه ذبابة، فقال الشافعي: سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطته من الهيئة الحاصلة. وقال أبو محمد المالقي: ذباب الناس يتولد من الزبل. وإن أخذ الذباب الكبير فقطعت رأسها وحك بجسدها الشعرة التي في الجفن حكا شديدا أبرأته وكذا داء الثعلب. وإن مسح لسعة الزنبور بالذباب سكن الوجع. قوله: "في إناء أحدكم" تقدم في بدء الخلق بلفظ: "شراب" ووقع في حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان "إذا وقع في الطعام" والتعبير بالإناء أشمل، وكذا وقع في حديث أنس عند البزار. قوله: "فليغمسه كله" أمر إرشاد لمقابلة الداء بالدواء. وفي قوله: "كله" رفع توهم المجاز في الاكتفاء بغمس بعضه. قوله: "ثم ليطرحه" في رواية سليمان بن بلال "ثم لينزعه" وقد وقع في رواية عبد الله بن المثنى عن عمه ثمامة أنه حدثه قال: "كنا عند أنس، فوقع ذباب في إناء فقال أنس بإصبعه فغمسه في ذلك الإناء ثلاثا ثم قال: بسم الله. وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يفعلوا ذلك" أخرجه البزار ورجاله ثقات، ورواه حماد بن سلمة عن ثمامة فقال: "عن أبي هريرة" ورجحها أبو حاتم، وأما

(10/250)


الدار قطني فقال: الطريقان محتملان. قوله: "فإن في إحدى جناحيه" في رواية أبي داود "فإن في أحد" والجناح يذكر ويؤنث وقيل: أنث باعتبار اليد، وجزم الصغاني بأنه لا يؤنث وصوب رواية: "أحد" وحقيقته للطائر، ويقال لغيره على سبيل المجاز كما في قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} ووقع في رواية أبي داود وصححه ابن حبان من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة: "وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء"، ولم يقع لي في شيء من الطرق تعيين الجناح الذي فيه الشفاء من غيره، لكن ذكر بعض العلماء أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء، والمناسبة في ذلك ظاهرة. وفي حديث أبي سعيد المذكور أنه يقدم السم ويؤخر الشفاء. ويستفاد من هذه الرواية تفسير الداء الواقع في حديث الباب وأن المراد به السم فيستغنى عن التخريج الذي تكلفه بعض الشراح فقال: إن في اللفظ مجازا وهو كون الداء في أحد الجناحين، فهو إما من مجاز الحذف والتقدير فإن في جناحيه سبب داء، إما مبالغة بأن يجعل كل الداء في أحد جناحيه لما كان سببا له. وقال آخر يحتمل أن يكون الداء ما يعرض في نفس المرء من التكبر عن أكله حتى ربما كان سببا لترك ذلك الطعام وإتلافه، والدواء ما يحصل من قمع النفس وحملها على التواضع. قوله: "وفي الآخر شفاء" في رواية أبي ذر "وفي الأخرى" وفي نسخة "والأخرى" بحذف حرف الجر، وكذا وقع في رواية سليمان بن بلال "في إحدى جناحيه داء والآخر شقاء" واستدل به لمن يجيز العطف على معمولي عاملين كالأخفش، وعلى هذا فيقرأ بخفض الآخر وبنصب شفاء فعطف الآخر على الأحد وعطف شفاء على داء، والعامل في إحدى حرف في، والعامل في داء إن، وهما عاملان في الآخر وشفاء، وسيبويه لا يجيز ذلك ويقول: إن حرف الجر حذف وبقي العمل وقد وقع صريحا في الرواية الأخرى "وفي الأخرى شفاء" ويحوز رفع شفاء على الاستئناف. واستدل بهذا الحديث على أن الماء القليل لا ينجس بوقوع ما لا نفس له سائلة فيه ووجه الاستدلال - كما رواه البيهقي عن الشافعي - أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغمس ما ينجس الماء إذا مات فيه لأن ذلك إفساد. وقال بعض من خالف في ذلك: لا يلزم من غمس الذباب موته فقد يغمسه برفق فلا يموت، والحي لا ينجس ما يقع فيه كما صرح البغوي باستنباطه من هذا الحديث. وقال أبو الطيب الطبري: لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث بيان النجاسة والطهارة، وإنما قصد بيان التداوي من ضرر الذباب، وكذا لم يقصد بالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل والإذن في مراح الغنم طهارة ولا نجاسة وإنما أشار إلى أن الخشوع لا يوجد مع الإبل دون الغنم. قلت: وهو كلام صحيح، إلا أنه لا يمنع أن يستنبط منه حكم آخر، فإن الأمر بغمسه يتناول صورا منها أن يغمسه محترزا عن موته كما هو المدعى هنا، وأن لا يحترز بل يغمسه سواء مات أو لم يمت. ويتناول ما لو كان الطعام حارا فإن الغالب أنه في هذه الصورة يموت بخلاف الطعام البارد، فلما لم يقع التقييد حمل على العموم، لكن فيه نظر لأنه مطلق يصدق بصورة فإذا قام الدليل على صورة معينة حمل عليها. واستشكل ابن دقيق العيد إلحاق غير الذباب به في الحكم المذكور بطريق أخر فقال: ورد النص في الذباب فعدوه إلى كل ما لا نفس له سائلة، وفيه نظر، لجواز أن تكون العلة في الذباب قاصرة وهي عموم البلوى، وهذه مستنبطة. أو التعليل بأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وهذه منصوصة، وهذان المعنيان لا يوجدان في غيره فيبعد كون العلة مجرد كونه لا دم له سائل، بل الذي يظهر أنه جزء علة لا علة كاملة انتهى. وقد رجح جماعة من المتأخرين أن ما يعم وقوعه في الماء كالذباب والبعوض لا ينجس الماء، وما لا يعم كالعقارب ينجس، وهو قوي. وقال الخطابي: تكلم على هذا

(10/251)


الحديث من لا خلاق له فقال: كيف يجتمع الشفاء والداء في جناحي الذباب؟ وكيف يعلم ذلك من نفسه حتى يقدم جناح الداء؟ وما ألجأه إلى ذلك؟ قال: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل، فإن كثيرا من الحيوان قد جمع الصفات المتضادة. وقد ألف الله بينها وقهرها على الاجتماع وجعل منها قوى الحيوان، وإن الذي ألهم النحلة اتخاذ البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه، وألهم النملة أن تدخر قوتها أوان حاجتها، وأن تكسر الحبة نصفين لئلا تستنبت، لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحا وتؤخر آخر. وقال ابن الجوزي: ما نقل عن هذا القائل ليس بعجيب، فإن النحلة تعسل من أعلاها وتلقي السم من أسفلها، والحية القاتل سمها تدخل لحومها في الترياق الذي يعالج به السم، والذبابة تسحق مع الإثمد لجلاء البصر. وذكر بعض حذاق الأطباء أن في الذباب قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السلاح له، فإذا سقط الذباب فيما يؤذيه تلقاه بسلاحه، فأمر الشارع أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله تعالى في الجناح الآخر من الشفاء فتتقابل المادتان فيزول الضرر بإذن الله تعالى. واستدل بقوله: "ثم لينزعه" على أنها تنجس بالموت كما هو أصح القولين للشافعي، والقول الأخر كقول أبي حنيفة، أنها لا تنجس، والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الطب من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث وثمانية عشر حديثا، المعلق منها ثمانية عشر طريقا، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى خمسة وثمانون طريقا، والخالص ثلاثة وثلاثون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة في نزول الداء والشفاء، وحديث ابن عباس "الشفاء في ثلاث"، وحديث عائشة في الحبة السوداء، وحديث أبي هريرة "فر من المجذوم"، وحديث أنس "رخصن لأهل بيت في الرقية"، وحديثه أن أبا طلحة كواه، وحديث عائشة في الصبر على الطاعون، وحديث أنس "اشف وأنت الشافي". وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ستة عشر أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(10/252)


كتاب اللباس
باب قول الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده}
...
بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ
77 - كتاب اللباس
1 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ" .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ.
5783- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يُخْبِرُونَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ" .
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب اللباس" وقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} كذا للأكثر، وزاد ابن نعيم "{وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ". وللنسفي "قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} الآية"

(10/252)


وكأنه أشار إلى سبب نزول الآية، وقد أخرجه الطبري من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كانت قريش تطوف بالبيت عراة يصفرون ويصفقون، فأنزل الله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} الآية" وسنده صحيح. وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد جياد عن أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء وغيرهما نحوه، وكذا عن إبراهيم النخعي والسدي والزهري وقتادة وغيرهم أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت وهم عراة. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن كثير عن طاوس في هذه الآية قال: "لم يأمرهم بالحرير والديباج ولكن كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت منه" يعني فنزلت. وأخرج مسلم وأبو داود من حديث المسور بن مخرمة "سقط عني ثوبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذ عليك ثوبك، ولا تمشوا عراة" . قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة" ثبت هذا التعليق للمستملي والسرخسي فقط وسقط للباقين. وهذا الحديث من الأحاديث التي لا توجد في البخاري إلا معلقة. ولم يصله في مكان آخر، وقد وصله أبو داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما من طريق همام بن يحيى عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولم يقع الاستثناء في رواية الطيالسي، وذكره الحارث ولم يقع في روايته: "وتصدقوا" وزاد في آخره: "فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده" ، ووقع لنا موصولا أيضا في "كتاب الشكر" لأبن أبي الدنيا بتمامه. وأخرج الترمذي في الفصل الأخير منه - وهي الزيادة المشار إليها - من طريق قتادة بهذا الإسناد، وهذا مصير من البخاري إلى تقوية شيخه عمرو بن شعيب، ولم أر في الصحيح إشارة إليها إلا في هذا الموضع. وقد قلب هذا الإسناد بعض الرواة فصحف والد عمرو بن شعيب، وقوله: "عن أبيه" ذكر ابن أبي حاتم في "العلل" أنه سأل أباه عن حديث رواه أبو عبيدة الحداد عن همام عن قتادة عن عمرو بن سعيد عن أنس فذكر هذا الحديث فقال: هذا خطأ، والصواب عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ومناسبة ذكر هذا الحديث والأثر الذي بعده للآية ظاهرة، لأن في التي قبلها {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} والإسراف مجاوزة الحد في كل فعل أو قول، وهو في الإنفاق أشهر، وقد قال الله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} وقال تعالى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} والمخيلة بوزن عظيمة وهي بمعنى الخيلاء وهو التكبر. وقال ابن التين هي بوزن مفعلة من اختال إذا تكبر قال والخيلاء بضم أوله وقد يكسر ممدودا التكبر. وقال الراغب: الخيلاء التكبر ينشأ عن فضيلة يتراءاها الإنسان من نفسه، والتخيل تصوير خيال الشيء في النفس، ووجه الحصر في الإسراف والمخيلة أن الممنوع من تناوله أكلا ولبسا وغيرهما إما لمعنى فيه وهو مجاوزة الحد وهو الإسراف. وإما للتعبد كالحرير إن لم تثبت علة النهي عنه وهو الراجح، ومجاوزة الحد تتناول مخالفة ما ورد به الشرع فيدخل الحرام، وقد يستلزم الإسراف الكبر وهو المخيلة قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالحسد ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس. قوله: "وقال ابن عباس: كل ما شئت واشرب ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة" وصله ابن أبي شيبة في مصنفه والدينوري في "المجالسة" من رواية ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس. أما ابن أبي شيبة فذكره بلفظه. وأما الدينوري فلم يذكر السرف. وأخرجه عبد الرزاق

(10/253)


عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه بلفظ: "أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرف أو مخيلة" وكذا أخرجه الطبري من رواية محمد بن ثور عن معمر به. وقوله: "ما أخطأتك" كذا للجميع بإثبات الهمزة بعد الطاء، وأورده ابن التين بحذفها قال: والصواب إثباتها. قال صاحب "الصحاح" أخطأت ولا تقل أخطيت. وبعضهم يقوله: ومعنى قوله ما أخطأتك أي تناول ما شئت من المباحات ما دامت كل خصلة من هاتين تجاوزك. قال الكرماني: ويحتمل أن تكون "ما" نافية أي لم يوقعك في الخطأ اثنتان. قلت: وفيه بعد، ورواية معمر ترده حيث قال: "ما لم تكن سرف أو مخيلة" وقوله: "أو" قال الكرماني أتى بأو موضع الواو كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} على تقدير النفي، أي أن انتفاء الأمرين لازم فيه. وحاصله أن اشتراط منع كل واحد منهما يستلزم اشتراط منعهما مجتمعين بطريق الأولى، قال ابن مالك: هو جائز عند أمن اللبس كما قال الشاعر:
فقالوا لنا ثنتان لا بد منهما ... صدور رماح أشرعت أو سلاسل
قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم" في "الموطأ" عن نافع وعن عبد الله بن دينار وعن زيد بن أسلم بتكرير "عن" وعند الترمذي من رواية معن عن مالك "سمع كلهم يحدث" هكذا جمع مالك رواية الثلاثة، وقد روى داود بن قيس رواية زيد بن أسلم عنه بزيادة قصة قال: "أرسلني أبي إلى ابن عمر قلت: أدخل؟ فعرف صوتي فقال: أي بني إذا جئت إلى قوم فقل: السلام عليكم، فإن ردوا عليك فقل أدخل؟" قال: "ثم رأى ابنه وقد انجر إزاره فقال: ارفع إزارك فقد سمعت" فذكر الحديث. وأخرجه أحمد والحميدي جميعا عن سفيان بن عيينة عن زيد نحوه، ساقه الحميدي، واختصره أحمد، وسميا الابن عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر. وأخرجه أحمد أيضا من طريق معمر عن زيد بن أسلم "سمعت ابن عمر" فذكره بدون هذه القصة، وزاد قصة أبي بكر المذكورة في الباب الذي بعده، وقصة أخرى لابن عمر تأتي الإشارة إليها بعد بابين، وحديث نافع أخرجه مسلم من رواية أيوب والليث وأسامة بن زيد كلهم عن نافع قال مثل حديث مالك وزادوا فيه: "يوم القيامة". وقلت: وهذه الزيادة ثابتة عند رواة "الموطأ" عن مالك أيضا، وأخرجها أبو نعيم في "المستخرج" من طريق القعنبي. وأخرج الترمذي والنسائي الحديث من طريق أيوب عن نافع وفيه زيادة تتعلق بذيول النساء، وحديث عبد الله بن دينار أخرجه أحمد من طريق عبد العزيز بن مسلم عنه وفيه: "يوم القيامة" وكذا في رواية سالم وغير واحد عن ابن عمر كما سيأتي في الباب الذي بعده.

(10/254)


2 - باب مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ مِنْ غَيْرِ خُيَلاَءَ
5784- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلاَّ أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ؟ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاَءَ" .
5785- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(10/254)


"خَسَفَتْ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلاً حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ وَثَابَ النَّاسُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَجُلِّيَ عَنْهَا ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئاً فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يَكْشِفَهَا" .
قوله: "باب من جر إزاره من غير خيلاء" أي فهو مستثنى من الوعيد المذكور، لكن إن كان لعذر فلا حرج عليه، وإن كان لغير عذر فيأتي البحث فيه. وقد سقطت هذه الترجمة لابن بطال. قوله: "زهير بن معاوية" هو أبو خيثمة الجعفي. قوله: "من جر ثوبه" سيأتي شرحه بعد ثلاثة أبواب. قوله: "فقال أبو بكر" هو الصديق "إن أحد شقي إزاري" كذا بالتثنية للنسفي والكشميهني، ولغيرهما: "شق" بالإفراد، والشق بكسر المعجمة الجانب ويطلق أيضا على النصف. قوله: "يسترخي" بالخاء المعجمة، وكان سبب استرخائه نحافة جسم أبي بكر. قوله: "إلا أن أتعاهد ذلك منه" أي يسترخي إذا غفلت عنه، ووقع في رواية معمر عن زيد بن أسلم عند أحمد "إن إزاري يسترخي أحيانا" فكأن شده كان ينحل إذا تحرك بمشي أو غيره بغير اختياره، فإذا كان محافظا عليه لا يسترخي لأنه كلما كاد يسترخي شده. وأخرج ابن سعد من طريق طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن عائشة قالت: "كان أبو بكر أحنى لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه" ومن طريق قيس بن أبي حازم قال: "دخلت على أبي بكر وكان رجلا نحيفا". قوله: "لست ممن يصنعه خيلاء" في رواية زيد بن أسلم "لست منهم" وفيه أنه لا حرج على من انجر إزاره بغير قصده مطلقا، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يكره جر الإزار على كل حال فقال ابن بطال هو من تشديداته، وإلا فقد روى هو حديث الباب فلم يخف عليه الحكم. قلت: بل كراهة ابن عمر محمولة على من قصد ذلك سواء كان عن مخيلة أم لا، وهو المطابق لروايته المذكورة، ولا يظن بابن عمر أنه يؤاخذ من لم يقصد شيئا وإنما يريد بالكراهة من انجر إزاره بغير اختياره ثم تمادى على ذلك ولم يتداركه وهذا متفق عليه، وإن اختلفوا هل الكراهة فيه للتحريم أو للتنزيه. وفي الحديث اعتبار أحوال الأشخاص في الأحكام باختلافها، وهو أصل مطرد غالبا. قوله: "حدثني محمد" لم أره منسوبا لأحد من الرواة، وأغفلت التنبيه على هذا الموضع بخصوصه في المقدمة، وقد صرح ابن السكن في موضعين غير هذا بأن محمدا الراوي عن عبد الأعلى هو ابن سلام، فيحمل هذا أيضا على ذلك. وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن المثنى عن عبد الأعلى فيحتمل أن يكون هو المراد هنا والله أعلم. وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة البصري بالموحدة، ويونس هو ابن عبيد، والحسن هو البصري، وقد تقدم الحديث في صلاة الكسوف مع شرحه، والغرض منه هنا قوله: "فقام يجر ثوبه مستعجلا" فإن فيه أن الجر إذا كان بسبب الإسراع لا يدخل في النهي، فيشعر بأن النهي يختص بما كان للخيلاء، لكن لا حجة فيه لمن قصر النهي على ما كان للخيلاء حتى أجاز لبس القميص الذي ينجر على الأرض لطوله كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقوله: "وثاب الناس" بمثلثة ثم موحدة أي رجعوا إلى المسجد بعد أن كانوا خرجوا منه.

(10/255)


3 - باب التَّشمُّرِ فِي الثِّيَابِ
5786- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شُمَيْلٍ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ أَخْبَرَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: "... فَرَأَيْتُ بِلاَلاً جَاءَ بِعَنَزَةٍ فَرَكَزَهَا ثُمَّ أَقَامَ الصَّلاَةَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي حُلَّةٍ مُشَمِّراً فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَى الْعَنَزَةِ وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ الْعَنَزَةِ".
قوله: "باب التشمر في الثياب" هو بالشين المعجمة وتشديد الميم: رفع أسفل الثوب. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه جزم بذلك أبو نعيم في "المستخرج" وابن شميل هو النضر، وعمر بن أبي زائدة هو الهمداني بسكون الميم الكوفي أخو زكريا، واسم أبي زائدة خالد ويقال هبيرة، ولعمر في البخاري أحاديث يسيرة. قوله: "قال فرأيت" كذا للأكثر هو معطوف على جمل من الحديث، فإن أوله "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم" الحديث، وفيه: "ثم رأيت بلالا الخ " هكذا أخرجه المصنف في أوائل الصلاة عن محمد بن عرعرة عن عمر بن أبي زائدة، فلما اختصره أشار إلى أن المذكور ليس أول الحديث. ووقع للكشميهني في أوله "رأيت" وكذا في رواية النسفي، وكذا أخرجه أبو نعيم من مسند إسحاق بن راهويه عن النضر، وأخرجه من وجه آخر عن إسحاق قال: أخبرنا أبو عامر العقدي حدثنا عمر بن أبي زائدة. وذكر أن رواية إسحاق عن النضر لم يقع فيها قوله: "مشمرا" ووقع في روايته عن أبي عامر، وقد وقعت في الباب عن إسحاق عن النضر فيحتمل أن يكون إسحاق هو ابن منصور، ولم يقع لفظ: "مشمرا" للإسماعيلي فإنه أخرجه من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عمه عمر بلفظ: "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى وبيص ساقيه" ثم قال: ورواه الثوري عن عون بن أبي جحيفة فقال في حديثه "كأني أنظر إلى بريق ساقيه" قال الإسماعيلي: وهذا هو التشمير ويؤخذ منه أن النهي عن كف الثياب في الصلاة محله في غير ذيل الإزار، ويحتمل أن تكون هذه الصورة وقعت اتفاقا، فإنها كانت في حالة السفر وهو محل التشمير.

(10/256)


4 - باب مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ فِي النَّارِ
5787- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ" .
قوله: "باب" بالتنوين "ما أسفل من الكعبين فهو في النار" كذا أطلق في الترجمة لم يقيده بالإزار كما في الخبر إشارة إلى التعميم في الإزار والقميص وغيرهما، وكأنه أشار إلى لفظ حديث أبي سعيد، وقد أخرجه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه أبو عوانة وابن حبان كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي سعيد ورجاله رجال مسلم، وكأنه أعرض عنه لاختلاف فيه وقع على العلاء وعلى أبيه فرواه أكثر أصحاب العلاء عنه هكذا، وخالفهم زيد بن أبي أنيسة فقال: "عن العلاء عن نعيم المجمر عن أبي عمر" أخرجه الطبراني، ورواه محمد بن عمرو ومحمد بن إبراهيم التيمي جميعا عن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبي هريرة أخرجه النسائي، وصحح الطريقين النسائي ورجح الدار قطني الأول. وأخرج أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث أبي جري بالجيم والراء مصغر واسمه جابر بن سليم رفعه قال في أثناء حديث مرفوع "وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، إياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة" وأخرج النسائي وصحح الحاكم

(10/256)


أيضا من حديث حذيفة بلفظ: "الإزار إلى أنصاف الساقين، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فمن وراء الساقين، ولا حق للكعبين في الإزار". قوله: "عن أبي هريرة" في رواية الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة "سمعت سعيدا المقبري سمعت أبا هريرة". قوله: "ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار" "ما" موصولة وبعض الصلة محذوف وهو كان، وأسفل خبره، وهو منصوب ويجوز الرفع، أي ما هو أسفل وهو أفعل تفضيل، ويحتمل أن يكون فعلا ماضيا، ويجوز أن تكون "ما" نكرة موصوفة بأسفل، قال الخطابي: يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار، فكنى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة، وحاصله أنه من تسمية الشيء باسم ما جاوره أو حل فيه، وتكون "من" بيانية، ويحتمل أن تكون سببية، ويكون المراد الشخص نفسه، أو المعنى ما أسفل من الكعبين من الذي يسامت الإزار في النار، أو التقدير لابس ما أسفل من الكعبين الخ، أو التقدير أن فعل ذلك محسوب في أفعال أهل النار. أو فيه فقديم وتأخير أي ما أسفل من الإزار من الكعبين في النار، وكل هذا استبعاد ممن قاله لوقوع الإزار حقيقة في النار، وأصله ما أخرج عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد "أن نافعا سئل عن ذلك فقال: وما ذنب الثياب؟ بل هو من القدمين" اهـ. لكن أخرج الطبراني من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن عمر قال: "رآني النبي صلى الله عليه وسلم أسبلت إزاري فقال: يا ابن عمر، كل شيء يمس الأرض من الثياب في النار" وأخرج الطبراني بسند حسن عن ابن مسعود أنه "رأى أعرابيا يصلي قد أسبل فقال: المسبل في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام" ومثل هذا لا يقال بالرأي، فعلى هذا لا مانع من حمل الحديث على ظاهره، ويكون من وادي {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ، أو يكون في الوعيد لما وقعت به المعصية إشارة إلى أن الذي يتعاطى المعصية أحق بذلك. قوله: "في النار" في رواية النسائي من طريق أبي يعقوب وهو عبد الرحمن بن يعقوب "سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار" بزيادة فاء، وكأنها دخلت لتضمين ما معنى الشرط أي ما دون الكعبين من قدم صاحب الإزار المسبل فهو في النار عقوبة له على فعله، وللطبراني من حديث ابن عباس رفعه: "كل شيء جاوز الكعبين من الإزار في النار" وله من حديث عبد الله بن مغفل رفعه: "أزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين، وليس عليه حرج فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من ذلك ففي النار" وهذا الإطلاق محمول على ما ورد من قيد الخيلاء، فهو الذي ورد فيه الوعيد بالاتفاق، وأما مجرد الإسبال فسيأتي البحث فيه في الباب الذي يليه، ويستثنى من إسبال الإزار مطلقا ما أسبله لضرورة كمن يكون بكعبيه جرح مثلا يؤذيه الذباب مثلا إن لم يستره بإزاره حيث لا يجد غيره، نبه على ذلك شيخنا في "شرح الترمذي" واستدل على ذلك بإذنه صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف في لبس القميص الحرير من أجل الحكة. والجامع بينهما جواز تعاطي ما نهي عنه من أجل الضرورة، كما يجوز كشف العورة للتداوي، ويستثنى أيضا من الوعيد في ذلك النساء كما سيأتي البحث فيه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى.

(10/257)


5 - باب مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنْ الْخُيَلاَءِ
5788- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ

(10/257)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَراً" .
5789- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
5790- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلَّلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" تَابَعَهُ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يَرْفَعْهُ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ عَمِّهِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى بَابِ دَارِهِ فَقَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... نَحْوَهُ".
5791- حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ لَقِيتُ مُحَارِبَ بْنَ دِثَارٍ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَأْتِي مَكَانَهُ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَحَدَّثَنِي فَقَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مَخِيلَةً لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَقُلْتُ لِمُحَارِبٍ أَذَكَرَ إِزَارَهُ قَالَ مَا خَصَّ إِزَاراً وَلاَ قَمِيصاً تَابَعَهُ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَزَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ وَتَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خيلاء" .
قوله: "باب من جر ثوبه من الخيلاء" أي بسبب الخيلاء. حديث أبي هريرة بلفظ: "لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا" ومثله لأبي داود والنسائي في حديث أبي سعيد المذكور قريبا. والبطر بموحدة ومهملة مفتوحتين قال عياض: جاء في الرواية: "بطرا" بفتح الطاء على المصدر وبكسرها على الحال من فاعل جر أي جره تكبرا وطغيانا، وأصل البطر الطغيان عند النعمة، واستعمل بمعنى التكبر. وقال الراغب: أصل البطر دهش يعتري المرء عند هجوم النعمة عن القيام بحقها. قوله: "لا ينظر الله" أي لا يرحمه، فالنظر إذا أضيف إلى الله كان مجازا، وإذا أضيف إلى المخلوق كان كناية، ويحتمل أن يكون المراد لا ينظر الله إليه نظر رحمة. وقال شيخنا في "شرح الترمذي" عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر لأن من نظر إلى متواضع رحمه ومن نظر إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر. وقال الكرماني: نسبة النظر لمن يجوز عليه النظر كناية، لأن من اعتد بالشخص التفت إليه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الإحسان وإن لم يكن هناك نظر، ولمن لا يجوز عليه حقيقة النظر وهو تقليب الحدقة والله منزه عن ذلك، فهو بمنعى الإحسان مجاز عما وقع في حق غيره كناية، وقوله:

(10/258)


"يوم القيامة" إشارة إلى أنه محل الرحمة المستمرة، بخلاف رحمة الدنيا فإنها قد تنقطع بما يتجدد من الحوادث. ويؤيد ما ذكر من حمل النظر على الرحمة أو المقت ما أخرجه الطبراني وأصله في أبي داود من حديث أبي جري "إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردة فتبختر فيها، فنظر الله إليه فمقته، فأمر الأرض فأخذته" الحديث. قوله: "من" يتناول الرجال والنساء في الوعيد المذكور على هذا الفعل المخصوص، وقد فهمت ذلك أم سلمة رضي الله عنها فأخرج النسائي والترمذي وصححه من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر متصلا بحديثه المذكور في الباب الأول "فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يرخين شبرا، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن؛ قال: فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه" لفظ الترمذي. وقد عزا بعضهم هذه الزيادة لمسلم فوهم، فإنها ليست عنده، وكأن مسلما أعرض عن هذه الزيادة للاختلاف فيها على نافع، فقد أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق عبيد الله بن عمر عن سليمان بن يسار عن أم سلمة، وأخرجه أبو داود من طريق أبي بكر بن نافع والنسائي من طريق أيوب بن موسى ومحمد بن إسحاق ثلاثتهم عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة، وأخرجه النسائي من رواية يحيى بن أبي كثير عن نافع عن أم سلمة نفسها وفيه اختلافات أخرى، ومع ذلك فله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه أبو داود من رواية أبي الصديق عن ابن عمر قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين شبرا، ثم استزدنه فزادهن شبرا، فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعا" وأفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة، ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قال النووي: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء، ووجه التعقب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا سواء كان عن مخيلة أم لا، فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة، لأن جميع قدمها عورة، فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده منع الإسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة على فهمها. إلا أنه بين لها أنه عام مخصوص لتفرقته في الجواب بين الرجال والنساء في الإسبال، وتبيينه القدر الذي يمنع ما بعده في حقهن كما بين ذلك في حق الرجال. والحاصل أن للرجال حالين: حال استحباب، وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق وحال جواز وهو إلى الكعبين. وكذلك للنساء حالان حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر وحال جواز بقدر ذراع. ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق معتمر عن حميد عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة من عقبها شبرا وقال: هذا ذيل المرأة" وأخرجه أبو يعلى بلفظ: "شبر من ذيلها شبرا أو شبرين وقال لا تزدن على هذا" ولم يسم فاطمة. قال الطبراني: تفرد به معتمر عن حميد. قلت: و"أو" شك من الراوي، والذي جزم بالشبر هو المعتمد، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أم سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة شبرا" ويستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه، والذي يجتمع من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه مستحضرا لها شاكرا عليها غير محتقر لمن ليس له مثله لا يضره ما لبس من المباحات، ولو كان في غاية النفاسة. ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة

(10/259)


من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس" . وقوله: "وغمط" بفتح المعجمة وسكون الميم ثم مهملة: الاحتقار. وأما ما أخرجه الطبري من حديث علي "إن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك صاحبه" فيدخل في قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} الآية فقد جمع الطبري بينه وبين حديث ابن مسعود بأن حديث علي محمول على من أحب ذلك ليتعظم به على صاحبه، لا من أحب ذلك ابتهاجا بنعمة الله عليه، فقد أخرج الترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" وله شاهد عند أبي يعلى من حديث أبي سعيد. وأخرج النسائي وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك الجشمي عن أبيه "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ورآه رث الثياب: إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك" أي بأن يلبس ثيابا تليق بحاله من النفاسة والنظافة ليعرفه المحتاجون للطلب منه، مع مراعاة القصد وترك الإسراف جمعا بين الأدلة. "تكمله": الرجل الذي أبهم في حديث ابن مسعود هو سواد بن عمرو الأنصاري، وأخرجه الطبري من طريقه، ووقع ذلك لجماعة غيره. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم" شك من آدم شيخ البخاري، وقد أخرجه مسلم من رواية غندر وغيره عن شعبة "فقالوا: عن النبي صلى الله عليه وسلم". وكذا أخرجه من رواية الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد. قوله: "بينما رجل" زاد مسلم من طريق أبي رافع عن أبي هريرة "ممن كان قبلكم" ومن ثم أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل كما مضى، وخفي هذا على بعض الشراح، وقد أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد وأبو يعلى من حديث أنس وفي روايتهما أيضا: "ممن كان قبلكم" وبذلك جزم النووي، وأما ما أخرجه أبو يعلى من طريق كريب قال: "كنت أقود ابن عباس فقال: حدثني العباس قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل يتبختر بين ثوبين" الحديث فهو ظاهر في أنه وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فسنده ضعيف، والأول صحيح، ويحتمل التعدد، أو الجمع بأن المراد من كان قبل المخاطبين بذلك كأبي هريرة، فقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة وأبو يعلى وأصله عند أحمد ومسلم: "أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة يتبختر فيها فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا؟ فقال: والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه ما حدثتكم بشيء، سمعت" فذكر الحديث وقال في آخره: "فوالله ما أدري لعله كان من قومك" وذكر السهيلي في "مبهمات القرآن" في سورة والصافات عن الطبري أن اسم الرجل المذكور الهيزن وأنه من أعراب فارس. قلت: وهذا أخرجه الطبري في التاريخ من طريق ابن جريج عن شعيب الجياني وجزم الكلاباذي في "معاني الأخبار" بأنه قارون، وكذا ذكر الجوهري في "الصحاح" وكأن المستند في ذلك ما أخرجه الحارث بن أبي أسامة من حديث أبي هريرة وابن عباس بسند ضعيف جدا قالا "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث الطويل وفيه: "ومن لبس ثوبا فاختال فيه خسف به من شفير جهنم فيتجلجل فيها" لأن قارون لبس حلة فاختال فيها فخسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وروى الطبري في التاريخ من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: "ذكر لنا أنه يخسف بقارون كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة". قوله: "يمشي في حلة" الحلة ثوبان أحدهما فوق الآخر، وقيل: إزار ورداء وهو الأشهر، ووقع في رواية الأعرج وهمام جميعا عن أبي هريرة عند مسلم: "بينما رجل يتبختر في برديه". قوله:

(10/260)


"تعجبه نفسه" في رواية الربيع بن مسلم: "فأعجبته جمته وبرداه" ومثله لأحمد في رواية أبي رافع، وفي حديث ابن عمر "بينا رجل يجر إزاره" هكذا هنا، وتقدم في أواخر ذكر بني إسرائيل بزيادة "من الخيلاء" والاقتصار على الإزار لا يدفع وجود الرداء، وإنما خص الإزار بالذكر لأنه هو الذي يظهر به الخيلاء غالبا. ووقع في حديث أبي سعيد عند أحمد وأنس عند أبي يعلى "خرج في بردين يختال فيهما" قال القرطبي: إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذموم. قوله: "مرجل" بتشديد الجيم "جمته" بضم الجيم وتشديد الميم هي مجتمع الشعر إذا تدلى من الرأس إلى المنكبين وإلى أكثر من ذلك، وأما الذي لا يتجاوز الأذنين فهو الوفرة، وترجيل الشعر تسريحه ودهنه. قوله: "إذ خسف الله به" في رواية الأعرج "فخسف الله به الأرض" والأول أظهر في سرعة وقوع ذلك به. قوله: "فهو يتجلجل إلى يوم القيامة" في حديث ابن عمر "فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" وفي رواية الربيع بن مسلم عند مسلم: "فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة" ومثله في رواية أبي رافع، ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد "حتى يوم القيامة" والتجلجل بجيمين التحرك، وقيل: الجلجلة الحركة مع صوت. وقال ابن دريد: كل شيء خلطت بعضه ببعض فقد جلجلته. وقال ابن فارس: التجلجل أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع من شق إلى شق، فالمعنى يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطربا متدافعا. وحكى عياض أنه روي "يتجلل" بجيم واحدة ولام ثقيلة وهو بمعنى يتغطى، أي تغطيه الأرض. وحكى عن بعض الروايات أيضا: "يتخلخل" بخاءين معجمتين واستبعدها إلا أن يكون من قولهم خلخلت العظم إذا أخذت ما عليه من اللحم، وجاء في غير الصحيحين "يتخلخل" بحاءين مهملتين. قلت: والكل تصحيف إلا الأول، ومقتضى هذا الحديث أن الأرض لا تأكل جسد هذا الرجل فيمكن أن يلغز به فيقال: كافر لا يبلى جسده بعد الموت. قوله: "فهو يتجلجل إلى يوم القيامة" في حديث ابن عمر "فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" وفي رواية الربيع بن مسلم عند مسلم: "فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة" ومثله في رواية أبي رافع، ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد "حتى يوم القيامة" والتجلجل بجيمين التحرك، وقيل: الجلجلة الحركة مع صوت. وقال ابن دريد: كل شيء خلطت بعضه ببعض فقد جلجلته. وقال ابن فارس: التجلجل أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع من شق إلى شق، فالمعنى يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطربا متدافعا. وحكى عياض أنه روي "يتجلل" بجيم واحدة ولام ثقيلة وهو بمعنى يتغطى، أي تغطيه الأرض. وحكى عن بعض الروايات أيضا: "يتخلخل" بخاءين معجمتين واستبعدها إلا أن يكون من قولهم خلخلت العظم إذا أخذت ما عليه من اللحم، وجاء في غير الصحيحين "يتخلخل" بحاءين مهملتين. قلت: والكل تصحيف إلا الأول، ومقتضى هذا الحديث أن الأرض لا تأكل جسد هذا الرجل فيمكن أن يلغز به فيقال: كافر لا يبلى جسده بعد الموت. قوله: "تابعه يونس" يعني ابن يزيد "عن الزهري" وروايته تقدمت موصولة في أواخر ذكر بني إسرائيل. قوله: "ولم يرفعه شعيب عن الزهري" وصله الإسماعيلي من طريق أبي اليمان عنه بتمامه ولفظه: "جر إزاره مسبلا من الخيلاء". قوله: "وهب بن جرير حدثنا أبي" هو جرير بن أبي حازم بن زيد الأزدي. قوله: "عن عمه جرير بن زيد" هو أبو سلمة البصري قاله أبو حاتم الرازي، وليس لجرير بن زيد في البخاري سوى هذا الحديث، وقد خالف فيه الزهري فقال عن سالم عن أبي هريرة والزهري يقول: "عن سالم عن أبيه" لكن قوى عند البخاري أنه عن سالم عن أبيه وعن أبي هريرة معا لشدة إتقان الزهري ومعرفته بحديث سالم ولقول جرير بن زيد في روايته: "كنت مع سالم على باب داره فقال: سمعت أبا هريرة" فإنها قرينة في أنه حفظ ذلك عنه. ووقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق علي بن سعيد عن وهب بن جرير "فمر به شاب من قريش يجر إزاره فقال: حدثنا أبو هريرة" وهذا أيضا مما يقوي أن جرير بن زيد ضبطه، لأن مثل هذه القصة لأبي هريرة قد رواها أبو رافع عنه كما قدمت أن مسلما أخرجها كذلك، وقد أخرجه النسائي في الزينة من "السنن" من رواية علي بن المديني عن وهب بن جرير بهذا السند فقال في روايته: "عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة" وأورده ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن عمر عن أبي هريرة، وهو وهم نبه عليه المزي، وكأنه وقع في نسخته تصحيف "ابن عبد الله" فصارت عن عبد الله بن عمر. قوله: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم نحوه" في رواية أبي نعيم المذكورة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينما رجل يتبختر في حلة تعجبه نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم

(10/261)


القيامة". ذكر طرق أخرى للحديث الثاني. قوله: "محارب" بالمهملة والموحدة وزن مقاتل، ودثار بكسر المهملة وتخفيف المثلثة. قوله: "مكانه الذي يقضي فيه" كان محارب قد ولي قضاء الكوفة، قال عبد الله بن إدريس الأودي عن أبيه "رأيت الحكم وحمادا في مجلس قضائه" وقال سماك بن حرب "كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل ست خصال سودوه: الحلم والعقل والسخاء والشجاعة والبيان والتواضع، ولا يكملن في الإسلام إلا بالعفاف، وقد اجتمعن في هذا الرجل" يعني محارب بن دثار. وقال الداودي: لعل ركوبه الفرس كان ليغيظ به الكفار ويرهب به العدو. وتعقبه ابن التين بأن ركوب الخيل جائز فلا معنى للاعتذار عنه. قلت: لكن المشي أقرب إلى التواضع، ويحتمل أن منزله كان بعيدا عن منزل حكمه. قوله: "فقلت لمحارب: أذكر إزاره؟ قال: ما خص إزارا ولا قميصا" كان سبب سؤال شعبة عن الإزار أن أكثر الطرق جاءت بلفظ الإزار، وجواب محارب حاصله أن التعبير بالثوب يشمل الإزار وغيره، وقد جاء التصريح بما اقتضاه ذلك، فأخرج أصحاب السنن إلا الترمذي واستغربه ابن أبي شيبة من طريق عبد العزيز بن أبي داود عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر منها شيئا خيلاء" الحديث كحديث الباب. وعبد العزيز فيه مقال. وقد أخرج أبو داود من رواية يزيد بن أبي سمية عن ابن عمر قال: "ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الإزار فهو في القميص" وقال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي. قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك، وفي تصوير جر العمامة نظر، إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات، فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال. وقد أخرج النسائي من حديث جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: "كأني أنظر الساعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة قد أرخى طرفها بين كتفيه" وهل يدخل في الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه؟ محل نظر، والذي يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين دخل في ذلك. قال شيخنا في "شرح الترمذي" ما مس الأرض منها خيلاء لا شك في تحريمه. قال: ولو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يكن بعيدا، ولكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك في تحريمه، وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع. ونقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة. قلت: وسأذكر البحث فيه قريبا. قوله: "تابعه جبلة" بفتح الجيم والموحدة "ابن سحيم" بمهملتين مصغر، وقد وصل روايته النسائي من طريق شعبة عنه عن ابن عمر بلفظ: "من جر ثوبا من ثيابه من مخيلة فإن الله لا ينظر إليه" وأخرجه مسلم من طريق شعبة عن محارب بن دثار وجبلة بن سحيم جميعا عن ابن عمر ولم يسق لفظه. قوله: "وزيد بن أسلم" تقدم الكلام عليه في أول اللباس. قوله: "وزيد بن عبد الله" أي ابن عمر يعني تابعوا محارب بن دثار في روايته عن ابن عمر بلفظ: "الثوب" لا بلفظ الإزار، جزم بذلك الإسماعيلي، ولم تقع لي رواية زيد موصولة بعد. وقد أخرج أبو عوانة هذا الحديث من رواية ابن وهب عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله عن أبيه بلفظ: "إن الذي يجر ثيابه من الخيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة" وسيأتي لمسلم مقرونا بسالم ونافع. وأخرج البخاري من رواية ابن وهب عن عمر بن محمد بن زيد عن جده حديثا آخر. فلعل مراده

(10/262)


بقوله هنا عن أبيه جده والله أعلم. قوله: "وقال الليث عن نافع يعني عن ابن عمر مثله" وصله مسلم عن قتيبة عنه، ولم يسق لفظه بل قال مثل حديث مالك، وأخرجه النسائي عن قتيبة فذكره بلفظ الثوب، وكذا أخرجه من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع. قوله: "وتابعه موسى بن عقبة وعمر بن محمد وقدامة بن موسى عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: من جر ثوبه خيلاء" أما رواية موسى بن عقبة فتقدمت في أول الباب الثاني من كتاب اللباس، وأما رواية عمر بن محمد وهو ابن زيد بن عبد الله بن عمر فوصلها مسلم من طريق ابن وهب "أخبرني عمر بن محمد عن أبيه وسالم ونافع عن ابن عمر" بلفظ: "الذي يجر ثيابه من المخيلة" الحديث. وأما رواية قدامة بن موسى وهو ابن عمر بن قدامة بن مظعون الجمحي وهو مدني تابعي صغير وكان إمام المسجد النبوي وليس له في البخاري سوى هذا الموضع فوصلها أبو عوانة في صحيحه، ووقعت لنا بعلو في "الثقفيات" بلفظ حديث مالك المذكور أول كتاب اللباس. قلت: وكذا أخرجه مسلم من رواية حنظلة بن أبي سفيان عن سالم، وقد رواه جماعة عن ابن عمر بلفظ: "من جر إزاره" منهم مسلم بن يناق بفتح التحتانية وتشديد النون وآخره قاف ومحمد بن عباد بن جعفر كلاهما عند مسلم وعطية العوفي عند ابن ماجه، ورواه آخرون بلفظ: "الإزار" والرواية بلفظ: "الثوب" أشمل والله أعلم. وفي هذه الأحاديث أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضا، لكن استدل بالتقييد في هذه الأحاديث بالخيلاء على أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال محمول على المقيد هنا، فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء. قال ابن عبد البر: مفهومه أن الجر لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد، إلا أن جر القميص وغيره من الثياب مذموم على كل حال. وقال النووي: الإسبال تحت الكعبين للخيلاء، فإن كان لغيرها فهو مكروه، وهكذا نص الشافعي على الفرق بين الجر للخيلاء ولغير الخيلاء، قال: والمستحب أن يكون الإزار إلى نصف الساق، والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين، وما نزل عن الكعبين ممنوع منع تحريم إن كان للخيلاء وإلا فمنع تنزيه، لأن الأحاديث الواردة في الزجر عن الإسبال مطلقة فيجب تقييدها بالإسبال للخيلاء انتهى. والنص الذي أشار إليه ذكره البويطي في مختصره عن الشافعي قال: لا يجوز السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء، ولغيرها خفيف لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، اهـ، وقوله: "خفيف" ليس صريحا في نفي التحريم بل هو محمول على أن ذلك بالنسبة للجر خيلاء، فأما لغير الخيلاء فيختلف الحال، فإن كان الثوب على قدر لابسه لكنه يسدله فهذا لا يظهر فيه تحريم، ولا سيما إن كان عن غير قصد كالذي وقع لأبي بكر، وإن كان الثوب زائدا على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف فينتهي إلى التحريم، وقد يتجه المنع فيه من جهة التشبه بالنساء وهو أمكن فيه من الأول، وقد صحح الحاكم من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبسة المرأة" وقد يتجه المنع فيه من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به، وإلى ذلك يشير الحديث الذي أخرجه الترمذي في "الشمائل" والنسائي من طريق أشعث بن أبي الشعثاء - واسم أبيه سليم - المحاربي عن عمته واسمها رهم بضم الراء وسكون الهاء وهي بنت الأسود بن حنظلة عن عمها واسمه عبيد بن خالد قال: "كنت أمشي وعلي برد أجره، فقال لي رجل: ارفع ثوبك فإنه أنقى وأبقى، فنظرت فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنما هي بردة ملحاء، فقال: أما لك في أسوة؟ قال: فنظرت فإذا إزاره إلى أنصاف ساقيه" وسنده قبلها جيد، وقوله: "ملحاء" بفتح الميم وبمهملة قبلها سكون ممدودة أي فيها خطوط سود وبيض، وفي قصة قتل عمر أنه قال للشاب الذي دخل عليه "ارفع ثوبك فإنه

(10/263)


أنقى لثوبك وأتقى لربك" وقد تقدم في المناقب، ويتجه المنع أيضا في الإسبال من جهة أخرى وهي كونه مظنة الخيلاء، قال ابن العربي: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول لا أجره خيلاء، لأن النهي قد تناوله لفظا، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكما أن يقول لا أمتثله لأن تلك العلة ليست في، فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره. اهـ ملخصا. وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: "وإياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة" وأخرج الطبراني من حديث أبي أمامة "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله ويقول: عبدك وابن عبدك وأمتك، حتى سمعها عمرو فقال: يا رسول الله إني حمش الساقين، فقال: يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، يا عمرو إن الله لا يحب المسبل" الحديث. وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه لكن قال في روايته: "عن عمرو بن فلان" وأخرجه الطبراني أيضا فقال: "عن عمرو بن زرارة" وفيه: "وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع تحت ركبة عمرو فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار، ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار" الحديث ورجاله ثقات وظاهره أن عمرا المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء، وقد منعه من ذلك لكونه مظنة. وأخرج الطبراني من حديث الشريد الثقفي قال: "أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قد أسبل إزاره فقال: ارفع إزارك، فقال: إني أحنف تصطك ركبتاي، قال: ارفع إزارك، فكل خلق الله حسن" وأخرجه مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة من طرق عن رجل من ثقيف لم يسم، وفي آخره: "ذاك أقبح مما بساقك" وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بسند جيد "أنه كان يسبل إزاره، فقيل له في ذلك فقال: إني حمش الساقين" فهو محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب، وهو أن يكون إلى نصف الساق، ولا يظن به أنه جاوز به الكعبين والتعليل يرشد إليه، ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة والله أعلم. وأخرج النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان من حديث المغيرة بن شعبة "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ برداء سفيان بن سهيل وهو يقول: يا سفيان لا تسبل، فإن الله لا يحب المسبلين".

(10/264)


6 - باب الإِزَارِ الْمُهَدَّبِ
وَيُذْكَرُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَحَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا ثِيَاباً مُهَدَّبَةً
5792- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِسَةٌ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاَقِي فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ جِلْبَابِهَا فَسَمِعَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ قَوْلَهَا وَهُوَ بِالْبَابِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ قَالَتْ فَقَالَ خَالِدٌ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلاَ تَنْهَى هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ وَاللَّهِ مَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّبَسُّمِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى

(10/264)


يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ فَصَارَ سُنَّةً بَعْده".
قوله: "باب الإزار المهدب" بدال مهملة ثقيلة مفتوحة، أي الذي له هدب؛ وهي أطراف من سدي بغير لحمة ربما قصد بها التجمل، وقد تفتل صيانة لها من الفساد. وقال الداودي: هي ما يبقى من الخيوط من أطراف الأردية. قوله: "ويذكر عن الزهري وأبي بكر بن محمد وحمزة بن أبي أسيد ومعاوية بن عبد الله بن جعفر أنهم لبسوا ثيابا مهدبة" قال ابن التين: قيل يريد أنها غير مكفوفة الأسفل، وهذه الآثار لم يقع لي أكثرها موصولا. أما الزهري فهو ابن شهاب الإمام المعروف، وأما أبو بكر بن محمد فهو ابن عمرو بن حزم الأنصاري قاضي المدينة، وأما حمزة بن أبي أسيد وهو بالتصغير الأنصاري الساعدي فوصله ابن سعد قال: "أخبرنا معن بن عيسى حدثنا سلمة بن ميمون مولى أبي أسيد قال: رأيت حمزة بن أبي أسيد الساعدي عليه ثوب مفتول الهدب". وسلمة هذا لم يزد للبخاري في ترجمته على ما في هذا السند. وذكره ابن حبان في " الثقات". وأما معاوية بن عبد الله بن جعفر أي ابن أبي طالب فهو مدني تابعي ما له في البخاري سوى هذا الموضع. حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة، والغرض منه قولها: "ما معه إلا مثل الهدبة" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الطلاق، والمراد بالهدبة الخصلة من الهدب ووقع في هذا الباب حديث مرفوع أخرجه أبو داود من حديث أبي جري جابر بن سليم قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة، وقد وقع هدبها على قدميه" وقوله في آخر هذه الطريق: "فصار سنة بعده" في رواية الكشميهني: "بعد" بغير ضمير، وهو من قول الزهري فيما أحسب.

(10/265)


7 - باب الأَرْدِيَةِ
وَقَالَ أَنَسٌ: جَبَذَ أَعْرَابِيٌّ رِدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5793- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيّاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "... فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِدَائِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنُوا لَهُمْ ...".
قوله: "باب الأردية" جمع رداء بالمد وهو ما يوضع على العاتق أو بين الكتفين من الثياب على أي صفة كان. قوله: "وقال أنس جبذ أعرابي رداء النبي صلى الله عليه وسلم" بجيم وموحدة ومعجمة. وهذا طرف من حديث وصله المؤلف بعد أبواب في "باب البرود والحبرة" ذكر طرفا من حديث علي قال: "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بردائه فارتدى" وهو طرف من حديثه في قصة حمزة والشارفين، وقد تقدم بتمامه في فرض الخمس، وقوله: "فدعا" عطف على ما ذكر في أول الحديث وهو قول علي "كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر" الحديث بطوله وقوله هنا: "فاستأذن فأذنوا لهم" كذا للأكثر بصيغة الجمع والمراد حمزة ومن معه. وفي رواية المستملي: "فأذن" بالإفراد والمراد حمزة لكونه كان كبير القوم.

(10/265)


8 - باب لُبْسِ الْقَمِيصِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً}

(10/265)


9 - باب جَيْبِ الْقَمِيصِ مِنْ عِنْدِ الصَّدْرِ وَغَيْرِهِ
5797- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا فِي جَيْبِهِ فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَوَسَّعُ". تَابَعَهُ ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ فِي الْجُبَّتَيْنِ. وَقَالَ حَنْظَلَةُ: سَمِعْتُ طَاوُساً سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: "جُبَّتَانِ". وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ الأَعْرَجِ: "جُبَّتَانِ".
قوله: "باب جيب القميص من عند الصدر وغيره" الجيب بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة هو ما يقطع من الثوب ليخرج منه الرأس أو اليد أو غير ذلك، واعترضه الإسماعيلي فقال: الجيب الذي يحيط بالعنق، جيب الثوب أي جعل فيه ثقب، وأورده البخاري على أنه ما يجعل في الصدر ليوضع فيه الشيء، وبذلك فسره أبو عبيد، لكن ليس هو المراد هنا، وإنما الجيب الذي أشار إليه في الحديث هو الأول، كذا قال، وكأنه يعني ما وقع في الحديث من قوله: "ويقول بإصبعه هكذا في جيبه" فإن الظاهر أنه كان لابس قميص، وكان في طوقه فتحة إلى صدره، ولا مانع من حمله على المعنى الآخر، بل استدل به ابن بطال على أن الجيب في ثياب السلف كان عند الصدر، قال: وهو الذي تصنعه النساء بالأندلس.
وموضع الدلالة منه أن البخيل إذا أراد إخراج يده أمسكت في الموضع الذي ضاق عليها وهو الثدي والتراقي، وذلك في الصدر، قال: فبان أن جيبه كان في صدره، لأنه لو كان في يده لم تضطر يداه إلى ثدييه وتراقيه. قلت: وفي حديث قرة بن إياس الذي أخرجه أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم: "قال فأدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم" ما يقتضي أن جيب قميصه كان في صدره لأن في أول الحديث أنه رآه مطلق القميص أي غير مزرور. حديث أبي هريرة مثل البخيل والمتصدق، وقد مضى شرحه مستوفى في كتاب الزكاة، وقوله في هذه الرواية: "مادت" بتخفيف الدال أي مالت، ولبعض الرواة "مارت" بالراء بدل الدال أي سالت وقوله: "ثديهما" بضم المثلثة على الجمع وبفتحها على التثنية،

(10/267)


وقوله: "يغشى" بضم أوله والتشديد ويجوز فتح أول وسكون ثانيه بمعنى، وعبد الله بن محمد هو الجعفي وأبو عامر هو القعدي والحسن هو ابن مسلم بن يناق وقد تقدم ضبط اسم جده قريبا. قوله: "وتراقيهما" جمع ترقوة بفتح المثناة وضم القاف هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق. وقال ثابت بن قاسم في "الدلائل" الترقوتان العظمان المشرفان في أعلى الصدر إلى طرف ثغرة النحر. قوله: "فلو رأيته" جوابه محذوف وتقديره لتعجبت منه، أو هو للتمني. والأول أوضح. قوله: "يقول بإصبعه هكذا في جيبه" كذا للأكثر بفتح الجيم وهو الموافق للترجمة، وكذا في رواية مسلم وعليه اقتصر الحميدي، وللكشميهني وحده بضم الجيم وتشديد الموحدة بعدها مثناة ثم ضمير، والأول أولى لدلالته على الموضع بخصوصه بخلاف الثاني. والله أعلم. قوله: "تابعه ابن طاوس" يعني عبد الله "عن أبيه" يعني عن أبي هريرة، وقد تقدم موصولا في الزكاة، ولم يسقه بتمامه فيه بل ساقه في الجهاد. قوله: "وأبو الزناد عن الأعرج" يعني عن أبي هريرة. قوله: "في الجبتين" يعني بالموحدة وقد بينت اختلاف الرواة في ذلك هل هو بالموحدة أو النون في كتاب الزكاة، ورواية أبي الزناد وصلها المؤلف في الزكاة. قوله: "وقال حنظلة" هو ابن أبي سفيان، وقد سبق القول فيه أيضا في الزكاة. قوله: "وقال جعفر بن ربيعة" كذا للأكثر وهو الصواب، ووقع في رواية أبي ذر: وقال جعفر بن حبان وكذا وقع عند ابن بطال وهو خطأ، وقد ذكرها في الزكاة أيضا تعليقا بزيادة فقال: "وقال الليث حدثني جعفر" وبينت هناك أن لليث فيه إسنادا آخر من رواية عيسى بن حماد عنه عن محمد بن عجلان عن أبي الزناد.

(10/268)


10 - باب مَنْ لَبِسَ جُبَّةً ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ فِي السَّفَرِ
5798- حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الضُّحَى قَالَ حَدَّثَنِي مَسْرُوقٌ قَالَ حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَالَ: "انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ فَتَلَقَّيْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَأْمِيَّةٌ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ فَغَسَلَهُمَا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَعَلَى خُفَّيْهِ".
قوله: "باب من لبس جبة ضيقة الكمين في السفر" ترجم له في الصلاة "في الجبة الشامية" وفي الجهاد "الجبة في السفر والحرب" وكأنه يشير إلى أن لبس النبي صلى الله عليه وسلم الجبة الضيقة إنما كان لحال السفر لاحتياج المسافر إلى ذلك وأن السفر يغتفر فيه لبس غير المعتاد في الحضر، وقد تواردت الأحاديث عمن وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وليس في شيء منها أن كميه ضاقا عن إخراج يديه منهما، أشار إلى ذلك ابن بطال. حديث المغيرة في مسح الخفين، تقدم شرحه في الطهارة وفيه القصة المذكورة، وفيه: "وعليه جبة شامية" وهي بتشديد الياء ويجوز تخفيفها، وعبد الواحد المذكور في سنده هو ابن زياد، وقوله فيه: "فأخرج يديه من تحت بدنه" بفتح الموحدة والمهملة بعدها نون أي جبته، ووقع كذلك في رواية أبي علي بن السكن، والبدن درع ضيقة الكمين.

(10/268)


11 - باب لُبْسِ جُبَّةِ الصُّوفِ فِي الْغَزْوِ
5799- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(10/268)


باب القباء وفروج حرير وهو القباء ، ويقال الذي له شق من خلفه
...
12 - باب الْقَبَاءِ وَفَرُّوجِ حَرِيرٍ وَهُوَ الْقَبَاءُ وَيُقَالُ هُوَ الَّذِي لَهُ شَقٌّ مِنْ خَلْفِهِ
5800- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةً وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئاً فَقَالَ مَخْرَمَةُ يَا بُنَيِّ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَقَالَ ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي قَالَ فَدَعَوْتُهُ لَهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا فَقَالَ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ".
5801- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعاً شَدِيداً كَالْكَارِهِ لَهُ ثُمَّ قَالَ لاَ يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ" .
تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ اللَّيْثِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: "فَرُّوجٌ حَرِيرٌ".
قوله: "باب القباء" بفتح القاف وبالموحدة ممدود فارسي معرب، وقيل: عربي واشتقاقه من القبو وهو الضم. قوله: "وفروج حرير" بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وآخره جيم. قوله: "وهو القباء" قلت ووقع كذلك مفسرا في بعض طرق الحديث كما سأبينه. قوله: "ويقال هو الذي له شق من خلفه" أي فهو قباء مخصوص، وبهذا جزم أبو عبيد ومن تبعه من أصحاب الغريب نظرا لاشتقاقه. وقال ابن فارس: هو قميص الصبي الصغير. وقال القرطبي: القباء والفروج كلاهما ثوب ضيق الكمين والوسط مشقوق من خلف يلبس في السفر والحرب لأنه أعون على الحركة. قوله: "عن ابن أبي مليكة" في رواية أحمد عن أبي النضر هاشم عن الليث حدثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة وسيأتي كذلك في "باب المزرور بالذهب" معلقا. قوله: "عن المسور بن مخرمة" هكذا أسنده الليث، وتابعه حاتم بن وردان عن أيوب عن ابن أبي مليكة على وصله كما تقدم في الشهادات، وأرسله حماد بن زيد كما تقدم في الخمس، وإسماعيل بن علية كما سيأتي في الأدب، كلاهما عن أيوب، وقد تقدم الكلام على ذلك في "باب قسمة الإمام ما يقدم عليه" من كتاب الخمس. قوله: "قسم النبي صلى الله عليه وسلم أقبية" في

(10/269)


رواية حاتم قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أقبية وفي رواية حماد "أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم أقبية من ديباج مزرورة بالذهب فقسمها في ناس من أصحابه". قوله: "ولم يعط مخرمة شيئا" أي في حال تلك القسمة. وإلا فقد وقع في رواية حماد بن زيد متصلا بقوله من أصحابه "وعزل منها واحدا لمخرمة" ومخرمة هو والد المسور، وهو ابن نوفل الزهري، كان من رؤساء قريش ومن العارفين بالنسب وأنصاب الحرم، وتأخر إسلامه إلى الفتح، وشهد حنينا وأعطي من تلك الغنيمة مع المؤلفة، ومات سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وخمس عشرة سنة ذكره ابن سعد. قوله: "انطلق بنا" في رواية حاتم "عسى أن يعطينا منها شيئا". قوله: "ادخل فادعه لي" في رواية حاتم "فقام أبي على الباب فتكلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته" قال ابن التين: لعل خروج النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع صوت مخرمة صادف دخول المسور إليه. قوله: "فخرج إليه وعليه قباء منها" ظاهره استعمال الحرير، قيل: ويجوز أن يكون قبل النهي، ويحتمل أن يكون المراد أنه نشره على أكتافه ليراه مخرمة كله ولم يقصد لبسه. قلت: ولا يتعين كونه على أكتافه بل يكفي أن يكون منشورا على يديه فيكون قوله عليه من إطلاق الكل على البعض، وقد وقع في رواية حاتم "فخرج ومعه قباء وهو يريه محاسنه" وفي رواية حماد "فتلقاه به واستقبله بأزراره". قوله: "خبأت هذا لك" في رواية حاتم تكرار ذلك، زاد في رواية حماد "يا أبا المسور" هكذا دعاه أبا المسور وكأنه على سبيل التأنيس له بذكر ولده الذي جاء صحبته، وإلا فكنيته في الأصل أبو صفوان وهو أكبر أولاده، ذكر ذلك ابن سعد. قوله: "فنظر إليه فقال رضي مخرمة" زاد في رواية هاشم "فأعطاه إياه"، وجزم الداودي أن قوله: "رضي مخرمة" من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رجحت في الهبة أنه من كلام مخرمة، زاد حماد في آخر الحديث: "وكان في خلقه شدة" قال ابن بطال: يستفاد منه استئلاف أهل اللسن ومن في معناهم بالعطية والكلام الطيب، وفيه الاكتفاء في الهبة بالقبض، وقد تقدم البحث فيه هناك، وتقدم في كتاب الشهادات الاستدلال به على جواز شهادة الأعمى لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرف صوت مخرمة فاعتمد على معرفته به، وخرج إليه ومعه القباء الذي خبأه له، واستنبط بعض المالكية منه جواز الشهادة على الخط، وتعقب بأن الخطوط تشتبه أكثر مما تشتبه الأصوات، وقد تقدم بقية ما يتعلق بذلك في الشهادات، وفيه رد على من زعم أن المسور لا صحبة له. قوله: "عن يزيد بن أبي حبيب" في رواية أحمد عن حجاج هو ابن محمد، وهاشم هو ابن القاسم عن الليث "حدثني يزيد بن أبي حبيب". قوله: "عن أبي الخير" هو مرثد بن عبد الله اليزني وثبت كذلك في رواية أحمد المذكورة. قوله: "عن عقبة بن عامر" هو الجهني وصرح به في رواية عبد الحميد بن جعفر ومحمد بن إسحاق كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عند أحمد. قوله: "فروج حرير" في رواية ابن إسحاق عند أحمد فروج من حرير. قوله: "ثم صلى فيه" زاد في رواية ابن إسحاق وعبد الحميد عند أحمد "ثم صلى فيه المغرب". قوله: "ثم انصرف" في رواية ابن إسحاق "فلما قضى صلاته" وفي رواية عبد الحميد "فلما سلم من صلاته" وهو المراد بالانصراف في رواية الليث. قوله: "فنزعه نزعا شديدا" زاد أحمد في روايته عن حجاج وهاشم "عنيفا" أي بقوة ومبادرة لذلك على خلاف عادته في الرفق والتأني، وهو مما يؤكد أن التحريم وقع حينئذ. قوله: "كالكاره له" زاد أحمد في رواية عبد الحميد بن جعفر "ثم ألقاه، فقلنا يا رسول الله قد لبسته وصليت فيه". قوله: "ثم قال لا ينبغي هذا" يحتمل أن تكون الإشارة للبس، ويحتمل أن تكون للحرير فيتناول غير اللبس من الاستعمال كالافتراش. قوله: "للمتقين" قال ابن بطال: يمكن أن يكون نزعه لكونه كان حريرا صرفا، ويمكن أن يكون نزعه لأنه من جنس لباس الأعاجم، وقد ورد حديث ابن

(10/270)


عمر رفعه: "من تشبه بقوم فهو منهم" قلت: أخرجه أبو داود بسند حسن. وهذا التردد مبني على تفسير المراد بالمتقين، فإن كان المراد به مطلق المؤمن حمل على الأول وإن كان المراد به قدرا زائدا على ذلك حمل على الثاني والله أعلم. قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: اسم التقوى يعم جميع المؤمنين، لكن الناس فيه على درجات، قال الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية، فكل من دخل في الإسلام فقد اتقى، أي وقى نفسه من الخلود في النار، وهذا مقام العموم، وأما مقام الخصوص فهو مقام الإحسان كما قال صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه" انتهى. وقد رجح عياض أن المنع فيه لكونه حريرا، واستدل لذلك بحديث جابر الذي أخرجه مسلم في الباب من حديث عقبة، وقد قدمت ذكره في كتاب الصلاة، وبينت هناك أن هذه القصة كانت مبتدأ تحريم لبس الحرير. وقال القرطبي في "المفهم": المراد بالمتقين المؤمنون، لأنهم الذين خافوا الله تعالى واتقوه بإيمانهم وطاعتهم له. وقال غيره: لعل هذا من باب التهييج للمكلف على الأخذ بذلك، لأن من سمع أن من فعل ذلك كان غير متق فهم منه أنه لا يفعله إلا المستخف فيأنف من فعل ذلك لئلا يوصف بأنه غير متق، واستدل به على تحريم الحرير على الرجال دون النساء لأن اللفظ لا يتناولهن على الراجح، ودخولهن بطريق التغليب مجاز يمنع منه ورود الأدلة الصريحة على إباحته لهن، وسيأتي في باب مفرد بعد قريب من عشرين بابا، وعلى أن الصبيان لا يحرم عليهم لبسه لأنهم لا يوصفون بالتقوى. وقد قال الجمهور بجواز إلباسهم ذلك في نحو العيد، وأما في غيره فكذلك في الأصح عند الشافعية، وعكسه عند الحنابلة، وفي وجه ثالث يمنع بعد التمييز. وفي الحديث أن لا كراهة في لبس الثياب الضيقة والمفرجة لمن اعتادها أو احتاج إليها، وقد أشرت إلى ذلك قريبا في "باب لبس الجبة الضيقة". قوله: "تابعه عبد الله بن يوسف عن الليث. وقال غيره" يعني بسنده "فروج حرير". أما رواية عبد الله بن يوسف فوصلها المؤلف رحمه الله في أوائل الصلاة، وأما رواية غيره فوصلها أحمد عن حجاج بن محمد وهاشم وهو أبو النضر ومسلم والنسائي عن قتيبة والحارث عن يونس بن محمد المؤدب كلهم عن الليث. وقد اختلف في المغايرة بين الروايتين على خمسة أوجه: أحدها التنوين والإضافة كما يقال ثوب خز بالإضافة وثوب خز بتنوين ثوب قاله ابن التين احتمالا. ثانيها: ضم أوله وفتحه حكاه ابن التين رواية، قال: والفتح أوجه لأن فعولا لم يرد إلا في سبوح وقدوس وفروخ يعني الفرخ صن الدجاج انتهى، وقد قدمت في كتاب الصلاة حكاية جواز الضم عن أبي العلاء المعري. وقال القرطبي في "المفهم" حكي الضم والفتح والضم هو المعروف. ثالثها: تشديد الراء وتخفيفها حكاه عياض ومن تبعه. رابعها: هل هو بجيم آخره أو خاء معجمة حكاه عياض أيضا. خامسها: حكاه الكرماني قال: الأول فروج من حرير بزيادة من والثاني بحذفها. قلت: وزيادة "من" ليست في الصحيحين، وقد ذكرناها عن رواية لأحمد.

(10/271)


13 - باب الْبَرَانِسِ
5802- وَقَالَ لِي مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: "رَأَيْتُ عَلَى أَنَسٍ بُرْنُساً أَصْفَرَ مِنْ خَزٍّ".
5803- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجلا قال: " يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا

(10/271)


البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس" .
قوله: "باب البرانس" جمع برنس بضم الموحدة والنون بينهما راء ساكنة وآخره مهملة، تقدم تفسيره في كتاب الحج وكذا شرح حديث ابن عمر المذكور فيه. قوله: "وقال لي مسدد حدثنا معتمر" يعني ابن التيمي وقوله: "من خز" بفتح المعجمة وتشديد الزاي هو ما غلظ من الديباج وأصله من وبر الأرنب، ويقال لذكر الأرنب خزز بوزن عمر، وسيأتي شرحه وحكمه في "باب ليس القسي" بعد أربعة عشر بابا. وهذا الأثر موصول لتصريح المصنف بقوله: "قال لي" لكن لم يقع في رواية النسفي لفظ لي فهو تعليق، وقد رويناه موصولا في مسند مسدد رواية معاذ بن المثنى عن مسدد، وكذا وصله ابن أبي شيبة عن ابن علية عن يحيى بن أبي إسحاق قال: "رأيت على أنس" فذكر مثله. وقد كره بعض السلف لبس البرنس لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به. قيل: فإنه من لبوس النصارى. قال: كان يلبس هاهنا. وقال عبد الله بن أبي بكر: ما كان أحد من القراء إلا له برنس. وأخرج الطبراني من حديث أبي قرصافة قال: "كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم برنسا فقال: البسه" وفي سنده من لا يعرف. ولعل من كرهه أخذ بعموم حديث علي رفعه: "إياكم ولبوس الرهبان، فإنه من تزيا بهم أو تشبه فليس مني" أخرجه الطبراني في "الأوسط" بسند لا بأس به.

(10/272)


14 - باب السَّرَاوِيلِ
5804- حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عمرو عن جابر بن زيد عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجد إزارا فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" .
5805- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية عن نافع عن عبد الله قال قام رجل فقال: "يا رسول الله ما تأمرنا أن نلبس إذا أحرمنا؟ قال: لا تلبسوا القميص والسراويل والعمائم والبرانس والخفاف إلا أن يكون رجل ليس له نعلان فليلبس الخفين أسفل من الكعبين ولا تلبسوا شيئا من الثياب مسه زعفران ولا ورس" .
قوله: "باب السراويل" ذكر فيه حديث ابن عباس رفعه: "من لم يجد إزارا فليلبس سراويل" وحديث ابن عمر فيما لا يلبس المحرم من الثياب وقد تقدما وشرحهما في كتاب الحج، ولم يرد فيه حديث على شرطه. وقد أخرج حديث الدعاء للمتسرولات البزار من حديث علي بسند ضعيف، وصح أنه صلى الله عليه وسلم اشترى رجل سراويل من سويد بن قيس أخرجه الأربعة وأحمد وصححه ابن حبان من حديثه، وأخرجه أحمد أيضا من حديث مالك بن عميرة الأسدي قال: "قدمت قبل مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترى مني سراويل فأرجح لي" وما كان ليشتريه عبثا وإن كان غالب لبسه الإزار. وأخرج أبو يعلى والطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة "دخلت يوما السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إلى البزاز فاشترى سراويل بأربعة دراهم" الحديث وفيه: "قلت يا رسول الله

(10/272)


وإنك لتلبس السراويل؟ قال: أجل، في السفر والحضر والليل والنهار، فإني أمرت بالتستر" وفيه يونس بن زياد البصري وهو ضعيف. قال ابن القيم في "الهدى": اشترى صلى الله عليه وسلم السراويل، والظاهر أنه إنما اشتراه ليلبسه ثم قال: وروي في حديث أنه لبس السراويل، وكانوا يلبسونه في زمانه وبإذنه. قلت: وتؤخذ أدلة ذلك كله مما ذكرته. ووقع في الإحياء للغزالي أن الثمن ثلاثة دراهم والذي تقدم أنه أربعة دراهم أولى.

(10/273)


3 - باب فِي الْعَمَائِمِ
5806- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال: سمعت الزهري قال أخبرني سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوبا مسه زعفران ولا ورس ولا الخفين إلا لمن لم يجد النعلين فإن لم يجدهما فليقطعهما أسفل من الكعبين" .
قوله: "باب العمائم" ذكر فيه حديث ابن عمر المذكور قبله من وجه آخر، وقد سبق في الحج، وكأنه لم يثبت عنده على شرطه في العمامة شيء، وقد ورد فيها الحديث الماضي في آخر "باب من جر ثوبه من الخيلاء" من حديث عمرو بن حريث أنه قال: "كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه" أخرجه مسلم، وعن أبي المليح بن أسامة عن أبيه رفعه: "اعتموا تزدادوا حلما" أخرجه الطبراني والترمذي في "العلل المفرد" وضعفه البخاري؛ وقد صححه الحاكم فلم يصب، وله شاهد عند البزار عن ابن عباس ضعيف أيضا، وعن ركانة رفعه: "فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم" أخرجه أبو داود والترمذي، وعن ابن عمر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه" أخرجه الترمذي، وفيه أن ابن عمر كان يفعله والقاسم وسالم، وأما مالك فقال: إنه لم ير أحدا يفعله إلا عامر بن عبد الله بن الزبير. والله أعلم.

(10/273)


16 - باب التَّقَنُّعِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ".
وَقَالَ أَنَسٌ: "عَصَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ".
5807- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ هَاجَرَ نَاسٌ إِلَى الْحَبَشَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِراً. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَوَ تَرْجُوهُ بِأَبِي أَنْتَ قَالَ نَعَمْ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصُحْبَتِهِ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْماً جُلُوسٌ فِي بَيْتِنَا فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَقَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلاً مُتَقَنِّعاً فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِداً لَكَ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ لِأَمْرٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ حِينَ دَخَلَ لِأَبِي بَكْرٍ أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ قَالَ إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ قَالَ فَالصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَخُذْ بِأَبِي

(10/273)


17 - باب الْمِغْفَرِ
5808- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ".
قوله: "باب المغفر" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء بعدها راء. تقدم الكلام على حديث أنس الذي في الباب في كتاب المغازي مستوفى، وذكر ابن بطال هنا أن بعض المتعسفين أنكر على مالك قوله في هذا الحديث: "وعلى رأسه المغفر" وأنه تفرد به قال: والمحفوظ أنه دخل مكة وعليه عمامة سوداء، ثم أجاب عن دعوى التفرد أنه وجد في "كتاب حديث الزهري" تصنيف النسائي هذا الحديث من رواية الأوزاعي عن الزهري مثل ما رواه مالك، وعن الحديث الآخر بأنه "دخل وعلى رأسه المغفر وكانت العمامة السوداء فوق المغفر". قلت: وقد ذكرت في شرح الحديث أن بضعة عشر نفسا رووه عن الزهري غير مالك، وبينت مخارجها وعللها بما أغني عن إعادته والحمد لله.

(10/275)


باب البرود والحبر والشملة
...
18 - باب الْبُرُودِ وَالْحِبَرَةِ وَالشَّمْلَةِ
وَقَالَ خَبَّابٌ: شَكَوْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ
5809- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ".
5810- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "جَاءَتْ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ قَالَ سَهْلٌ هَلْ تَدْرِي مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ هِيَ الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا لاَزَارُهُ فَجَسَّهَا رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْسُنِيهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَجَلَسَ مَا شَاءَ اللَّهُ فِي

(10/275)


19 - باب الأَكْسِيَةِ وَالْخَمَائِصِ
5815، 5816- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ: "لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا ".
5817- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَمِيصَةٍ لَهُ لَهَا أَعْلاَمٌ فَنَظَرَ إِلَى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفاً عَنْ صَلاَتِي وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ".
5818- حَدَّثَني مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: "أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً وَإِزَاراً غَلِيظاً فَقَالَتْ قُبِضَ رُوحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَيْنِ".
قوله: "باب الأكسية والخمائص" جمع خميصة بالخاء المعجمة والصاد المهملة، وهي كساء من صوف أسود أو خز مربعة لها أعلام، ولا يسمى الكساء خميصة إلا إن كان لها علم. عن عائشة وابن عباس قالا "لما نزل" بضم أوله على البناء للمجهول والمراد نزول الموت، وقوله: "طفق يطرح خميصة له على وجهه" أي يجعلها على وجهه من الحمى "فإذا اغتم كشفها" وذكر الحديث في التحذير من اتخاذ القبور مساجد، وقد تقدم شرحه في كتاب الجنائز.
" تنبيه ": ذكر أبو علي الجياني أنه وقع في رواية أبي محمد الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني في هذا الإسناد عن الزهري "عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عائشة وابن عباس قال" وقوله: "عن أبيه" وهم وهي زيادة لا حاجة إليها. حديث أبي بردة وهو ابن أبي موسى الأشعري قال: "أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا فقالت: قبض روح رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين" تقدم هذا الحديث في أوائل الخمس،

(10/277)


وذكر له طريقا أخرى تعليقا زاد فيها وصف الإزار والكساء إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء من هذه التي تدعونها الملبدة، والملبدة اسم مفعول من التلبيد. وقال ثعلب: يقال للرقعة التي يرقع بها القميص لبدة. وقال غيره هي التي ضرب بعضها في بعض حتى تتراكب وتجتمع. وقال الداودي: هو الثوب الضيق ولم يوافق. الرابع: حديث عائشة "في خميصة لها أعلام" وفي آخر "وائتوني بانبجانية أبي جهم بن حذيفة بن غانم من بني عدي بن كعب" انتهى آخر الحديث عند قوله: "بانبجانية أبي جهم" وبقية نسبه مدرج في الخبر من كلام ابن شهاب، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل كتاب الصلاة.

(10/278)


20 - باب اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ
5819- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَعَنْ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ وَأَنْ يَحْتَبِيَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ" .
5820- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ نَهَى عَنْ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْمُلاَمَسَةُ لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ وَلاَ يُقَلِّبُهُ إِلاَّ بِذَلِكَ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ بِثَوْبِهِ وَيَنْبِذَ الْآخَرُ ثَوْبَهُ وَيَكُونَ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا عَنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلاَ تَرَاضٍ وَاللِّبْسَتَيْنِ اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاللِّبْسَةُ الأُخْرَى احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ وَهُوَ جَالِسٌ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" .
قوله: "باب اشتمال الصماء" تقدم ضبطه وتفسيره وشرح حديث أبي سعيد في هذا الباب فيما يتعلق بالاشتمال والاحتباء في "باب ما يستر من العورة" من كتاب الصلاة، وقيل في اشتمال الصماء أن يرمي بطرفي الثوب على شقه الأيسر فيصير جانبه الأيسر مكشوفا ليس عليه من الغطاء شيء فتنكشف عورته إذا لم يكن عليه ثوب آخر، فإذا خالف بين طرفي الثوب الذي اشتمل به لم يكن صماء، وتقدم الكلام أيضا على اختلاف الرواة عن الزهري في شيخه فيه وعلى الليث أيضا، وأما شرح البيعتين فتقدم أيضا في البيوع، وأما النهي عن الصلاة بعد العصر والصبح فتقدم في أواخر أبواب المواقيت من كتاب الصلاة. قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي جزم به المزي في "الأطراف" وقال في "التهذيب" وقع في بعض النسخ "عبد الوهاب بن عطاء" وفيه نظر لأن ابن عطاء لا تعرف له رواية عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري، ولم يذكر أحد في رجال البخاري عبد الوهاب بن عطاء، وقد أخرج أبو نعيم في "المستخرج" هذا الحديث من رواية ابن خزيمة حدثنا بندار وهو محمد بن بشار شيخ البخاري فيه: "حدثنا عبد الوهاب به" ولم ينسبه أيضا. وأخرجه عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب به ولم ينسبه أيضا وهو الثقفي بلا ريب، وسيأتي بعد قليل نظير هذا، وجزم الإسماعيلي بأنه الثقفي. وقوله فيه: "أن يجعل ثوبه على أحد

(10/278)


عاتقيه فيبدو أحد شقيه" أي يظهر.

(10/279)


باب الإحتباء في الثوب الواحد
...
21 - باب الِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ
5821- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء وأن يشتمل بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه وعن الملامسة والمنابذة".
5822- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنِي مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نَهَى عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" .
قوله: "باب الاحتباء في ثوب واحد" ذكر فيه حديثين تقدم شرحهما أيضا في الباب المشار إليه من كتاب الصلاة. قوله في أول الإسناد "حدثنا محمد" غير منسوب هو ابن سلام، وشيخه مخلد بسكون المعجمة هو ابن يزيد.

(10/279)


22 - باب الْخَمِيصَةِ السَّوْدَاءِ
5823- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعِيدِ بْنِ فُلاَنٍ هُوَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ "أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ فَسَكَتَ الْقَوْمُ قَالَ ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ فَقَالَ يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَاهْ وَسَنَاهْ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ".
5824- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ قَالَتْ لِي يَا أَنَسُ انْظُرْ هَذَا الْغُلاَمَ فَلاَ يُصِيبَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَنِّكُهُ فَغَدَوْتُ بِهِ فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ حُرَيْثِيَّةٌ وَهُوَ يَسِمُ الظَّهْرَ الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْحِ".
قوله: "باب الخميصة السوداء" تقدم تفسير الخميصة في أوائل كتاب الصلاة، قال الأصمعي: الخمائص ثياب خز أو صوف معلمة وهي سود كانت من لباس الناس. وقال أبو عبيد هو كساء مربع له علمان، وقيل: هي كساء رقيق من أي لون كان، وقيل: لا تسمى خميصة حتى تكون سوداء معلمة. قوله: "عن أبيه سعيد ابن فلان ابن سعيد بن العاص" كذا قال البخاري عن أبي نعيم عن إسحاق بن سعيد عن أبيه فأبهم والد سعيد، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي خيثمة زهير بن حرب عن الفضل بن دكين وهو أبو نعيم "حدثنا إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن العاص عن أبيه" وسيأتي بعد أبواب في "باب ما يدعى لمن لبس ثوبا

(10/279)


باب الثياب الخضر
...
23 - باب ثِيَابِ الْخُضْرِ
5825- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ "أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ الْقُرَظِيُّ قَالَتْ عَائِشَةُ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ فَشَكَتْ إِلَيْهَا وَأَرَتْهَا خُضْرَةً بِجِلْدِهَا فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنِّسَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُنَّ بَعْضاً - قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا يَلْقَى الْمُؤْمِنَاتُ لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا قَالَ وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ إِلاَّ أَنَّ مَا مَعَهُ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّي مِنْ هَذِهِ - وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا – فَقَالَ: كَذَبَتْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لاَنْفُضُهَا نَفْضَ الأَدِيمِ وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ رِفَاعَةَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنْ

(10/281)


كَانَ ذَلِكِ لَمْ تَحِلِّي لَهُ أَوْ لَمْ تَصْلُحِي لَهُ حَتَّى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ" قَالَ وَأَبْصَرَ مَعَهُ ابْنَيْنِ لَهُ فَقَالَ بَنُوكَ هَؤُلاَءِ قَالَ نَعَمْ قَالَ هَذَا الَّذِي تَزْعُمِينَ مَا تَزْعُمِينَ فَوَاللَّهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ" .
قوله: "باب الثياب الخضر" كذا للكشمهيني، وللمستملي والسرخسي "ثياب الخضر" كقولهم مسجد الجامع. قال ابن بطال: الثياب الخضر من لباس الجنة، وكفى بذلك شرفا لها. قلت وأخرج أبو داود من حديث أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة أنه "رأى على النبي صلى الله عليه وسلم بردين أخضرين". قوله: "حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب" هو الثقفي وصرح به الإسماعيلي. قوله: "عن عكرمة" في رواية أبي يعلى "حدثنا سويد بن سعيد حدثنا عبد الوهاب الثقفي" بسنده وزاد فيه: "عن ابن عباس". قوله: "أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظي، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر فشكت إليها" أي إلى عائشة وفيه التفات وتجريد. وفي قوله: "قالت عائشة" ما يبين وهم رواية سويد وأن الحديث من رواة عكرمة عن عائشة. قوله: "والنساء ينصر بعضهن بعضا" جملة معترضة، وهي من كلام عكرمة، وقد صرح وهيب بن خالد في روايته عن أيوب بذلك فقال بعد قوله: لجلدها أشد خضرة من خمارها "قال عكرمة: والنساء ينصر بعضهن بعضا" رويناه في "فوائد أبي عمرو بن السماك" من طريق عفان عن وهيب. قال الكرماني: خضرة جلدها يحتمل أن تكون لهزالها أو من ضرب زوجها لها. قلت: وسياق القصة رجح الثاني. قوله: "قال وسمع أنها قد أتت" في رواية وهيب "قال: فسمع بذلك زوجها". قوله: "ومعه ابنان" لم أقف على تسميتهما، ووقع في رواية وهيب بنون له.
قوله: "لم تحلي أو لم تصلحي له" كذا بالشك، وهو من الراوي. وفي رواية الكشميهني: "لا تحلين له ولا تصلحين له" وذكر الكرماني أنه وقع في بعض الروايات "لم تحلين" ثم أخذ في توجيهه، وعرف بهذا الجواب وجه الجمع بين قولها "ما معه إلا مثل الهدبة" وبين صلى الله عليه وسلم: "حتى تذوقي عسيلته" وحاصله أنه رد عليها دعواها، أما أولا فعلى طريق صدق زوجها فيما زعم أنه ينفضها نفض الأديم، وأما ثانيا فللاستدلال على صدقه بولديه اللذين كانا معه. قوله: "وأبصر معه ابنين له فقال: بنوك هؤلاء" فيه جواز إطلاق اللفظ الدال على الجمع على الاثنين، لكن وقع في رواية وهيب بصيغة الجمع فقال: "بنون له". قوله: "تزعمين ما تزعمين" في رواية وهيب "هذا الذي تزعمين أنه كذا وكذا" وهو كناية عما ادعت عليه من العنة، وقد تقدمت مباحث قصة رفاعة وامرأته في كتاب الطلاق، وقوله لأنفضها نفض الأديم كناية بليغة في الغاية من ذلك لأنها أوقع في النفس من التصريح، لأن الذي ينفض الأديم يحتاج إلى قوة ساعد وملازمة طويلة، قال الداودي: يحتمل تشبيهها بالهدية انكساره وأنه لا يتحرك وأن شدته لا تشتد، ويحتمل أنها كنت بذلك عن نحافته، أو وصفته بذلك بالنسبة للأول، قال: ولهذا يستحب نكاح البكر لأنها تظن الرجال سواء، بخلاف الثيب.

(10/282)


24 - باب الثِّيَابِ الْبِيضِ
5826- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: "رَأَيْتُ بِشِمَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ مَا رَأَيْتُهُمَا

(10/282)


قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ".
5827- حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث عن الحسين عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر رضي الله عنه حدثه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال: " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر" وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال وإن رغم أنف أبي ذر. قال أبو عبد الله هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم وقال لا إله إلا الله غفر له".
قوله: "باب الثياب البيض" كأنه لم يثبت عنده على شرطه فيها شيء صريح، فاكتفى بما وقع في الحديثين اللذين ذكرهما، وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث سمرة رفعه: "عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطيب وأطهر، وكفنوا فيها موتاكم" وأخرج أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وصححه الترمذي وابن حبان من حديث ابن عباس بمعناه وفيه: "فإنها من خير ثيابكم". حديث سعد وهو ابن أبي وقاص، تقدم في غزوة أحد وفيه تسمية الرجلين وأنهما جبريل وميكائيل، ولم يصب من زعم أن أحدهما إسرافيل. والحديث الثاني عنه. قوله: "عن الحسين" هو بن ذكوان المعلم البصري. قوله: "عن عبد الله بن بريدة" أي بن الحصيب الأسلمي وهو تابعي وشيخه تابعي أيضا إلا أنه أكبر منه وأبو الأسود أيضا تابعي كبير كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم رجلا. قوله: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض" في هذا القدر الغرض المطلوب من هذا الحديث وبقيته تتعلق بكتاب الرقاق. وقد أورده فيه من وجه آخر مطولا ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى، وفائدة وصفه الثوب. وقوله: "أتيته وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ" الإشارة إلى استحضاره القصة بما فيها ليدل ذلك على إتقانه لها. وقوله: "وإن رغم أنف أبي ذر" يجوز في الغين المعجمة الفتح والكسر أي ذل كأنه لصق بالرغام وهو التراب. وقوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. وقوله: "هذا عند الموت أو قبله إذا تاب" أي من الكفر وندم يريد شرح قوله: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" وحاصل ما أشار إليه أن الحديث محمول على من وحد ربه ومات على ذلك تائبا من الذنوب التي أشير إليها في الحديث فإنه موعود بهذا الحديث بدخول الجنة ابتداء، وهذا في حقوق الله باتفاق أهل السنة. وأما حقوق العباد فيشترط ردها عند الأكثر، وقيل: بل هو كالأول ويثيب الله صاحب الحق بما شاء. وأما من تلبس بالذنوب المذكورة ومات توبة فظاهر الحديث أنه أيضا داخل في ذلك لكن مذهب أهل السنة أنه في مشيئة الله تعالى ويدل عليه حديث عبادة بن الصامت الماضي في كتاب الإيمان فإن فيه: "ومن أتى شيئا من ذلك فلم يعاقب به فأمره إلى الله تعالى أن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه" وهذا المفسر مقدم على المبهم وكل منهما يرد على المبتدعة من الخوارج ومن المعتزلة

(10/283)


الذين يدعون وجوب خلود من مات من مرتكبي الكبائر من غير توبة في النار أعاذنا الله من ذلك بمنه وكرمه. ونقل ابن التين عن الداودي أن كلام البخاري خلاف ظاهر الحديث فإنه لو كانت التوبة مشترطة لم يقل وإن زنى وإن سرق. قال: وإنما المراد أنه يدخل الجنة إما ابتداء وإما بعد ذلك. والله أعلم.

(10/284)


باب لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز
...
25 - باب لُبْسِ الْحَرِيرِ وَافْتِرَاشِهِ لِلرِّجَالِ وَقَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنْهُ
5828- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْحَرِيرِ إِلاَّ هَكَذَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإِبْهَامَ قَالَ فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي الأَعْلاَمَ" .
[الحديث 5828 – أطرافه في: 5829، 5830، 5834، 5835]
5829- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلاَّ هَكَذَا وَصَفَّ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِصْبَعَيْهِ وَرَفَعَ زُهَيْرٌ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ" .
5830- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يُلْبَسُ الْحَرِيرُ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ لَمْ يُلْبَسْ منه شيءٌ فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ وَأَشَارَ أَبُو عُثْمَانَ بِإِصْبَعَيْهِ: الْمُسَبِّحَةِ وَالْوُسْطَى".
5831- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلاَّ أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ" .
5832- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ شُعْبَةُ فَقُلْتُ أَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ شَدِيداً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ" .
5833- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ يَقُولُ قَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ" .
5834- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي ذِبْيَانَ خَلِيفَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ" وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ يَزِيدَ قَالَتْ مُعَاذَةُ أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ سَمِعَ عُمَرَ سَمِعَ

(10/284)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... نَحْوَهُ".
5835- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ قَالَ: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الْحَرِيرِ فَقَالَتْ ائْتِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَلْهُ قَالَ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ سَلْ ابْنَ عُمَرَ قَالَ فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو حَفْصٍ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ" فَقُلْتُ صَدَقَ وَمَا كَذَبَ أَبُو حَفْصٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنَا حَرْبٌ عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنِي عِمْرَانُ وَقَصَّ الْحَدِيثَ.
قوله: "باب لبس الحرير للرجال، وقدر ما يجوز منه" أي في بعض الثياب. ووقع في "شرح ابن بطال" و"مستخرج أبي نعيم" زيادة افتراشه في الترجمة، والأولى ما عند الجمهور، وقد ترجم للافتراش مستقلا كما سيأتي بعد أبواب. والحرير معروف، وهو عربي سمي بذلك لخلوصه يقال لكل خالص محرر، وحررت الشيء خلصته من الاختلاط بغيره. وقيل: هو فارسي معرب، والتقييد بالرجال يخرج النساء، وسيأتي في ترجمة مستقلة. قال ابن بطال: اختلف في الحرير فقال قوم: يحرم لبسه في كل الأحوال حتى على النساء، نقل ذلك عن علي وابن عمر وحذيفة وأبي موسى وابن الزبير، ومن التابعين عن الحسن وابن سيرين. وقال قوم يجوز لبسه مطلقا وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عن لبسه على من لبسه خيلاء أو على التنزيه. قلت: وهذا الثاني ساقط لثبوت الوعيد على لبسه. وأما قول عياض: حمل بعضهم النهي العام في ذلك على الكراهة لا على التحريم، فقد تعقبه ابن دقيق العيد فقال: قد قال القاضي عياض "إن الإجماع انعقد بعد ابن الزبير ومن وافقه على تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء"، ذكر ذلك في الكلام على قول ابن الزبير في الطريق التي أخرجها مسلم: "ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر" فذكر الحديث الآتي في الباب، قال: فإثبات قول بالكراهة دون التحريم إما أن ينقض ما نقله من الإجماع وإما أن يثبت أن الحكم العام قبل التحريم على الرجال كان هو الكراهة ثم انعقد الإجماع على التحريم على الرجال والإباحة للنساء، ومقتضاه نسخ الكراهة السابقة، وهو بعيد جدا. وأما ما أخرج عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس قال: "لقي عمر عبد الرحمن بن عوف فنهاه عن لبس الحرير فقال: لو أطعتنا للبسته معنا، وهو يضحك" فهو محمول على أن عبد الرحمن فهم من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له في لبس الحرير نسخ التحريم ولم ير تقييد الإباحة بالحاجة كما سيأتي، واختلف في علة تحريم الحرير عل رأيين مشهورين: أحدهما الفخر والخيلاء، والثاني: لكونه ثوب رفاهية فيليق بزي النساء دون شهامة الرجال. ويحتمل علة ثالثة وهي التشبه بالمشركين. قال ابن دقيق العيد: وهذا قد يرجع إلى الأول لأنه من سمة المشركين، وقد يكون المعنيان معتبرين إلا أن المعنى الثاني لا يقتضي التحريم لأن الشافعي قال في "الأم": ولا أكره لباس اللؤلؤ إلا للأدب فإنه زي النساء. واستشكل بثبوت اللعن للمتشبهين من الرجال بالنساء فإنه يقتضي منع ما كان مخصوصا بالنساء في جنسه وهيئته. وذكر بعضهم علة أخرى وهي السرف والله أعلم. قوله: "سمعت أبا عثمان النهدي قال: أتانا كتاب عمر" كذا قال أكثر أصحاب قتادة وشذ عمر بن

(10/285)


عامر فقال عن قتادة عن أبي عثمان عن عثمان فذكر المرفوع، وأخرجه البزار وأشار إلى تفرده به، فلو كان ضابطا لقلنا سمعه أبو عثمان من كتاب عمر ثم سمعه من عثمان بن عفان، لكن طرق الحديث تدل على أنه عن عمر لا عن عثمان، وقد ذكره أصحاب الأطراف في ترجمة أبي عثمان عن عمر، وفيه نظر لأن المقصود بالكتابة إليه هو عتبة بن فرقد، وأبو عثمان سمع الكتاب يقرأ، فإما أن تكون روايته له عن عمر بطريق الوجادة وإما أن يكون بواسطة المكتوب إليه وهو عتبة بن فرقد، ولم يذكروه في رواية أبي عثمان عن عتبة، وقد نبه الدار قطني على أن هدا الحديث أصل في جواز الرواية بالكتابة عند الشيخين، قال ذلك بعد أن استدركه عليهما، وفي ذلك رجوع منه عن الاستدراك عليه، والله أعلم. قوله: "ونحن مع عتبة بن فرقد" صحابي مشهور سمي أبوه باسم النجم، واسم جده يربوع من بن حبيب بن مالك السلمي، ويقال إن يربوع هو فرقد وأنه لقب له، وكان عتبة أميرا لعمر في فتوح بلاد الجزيرة. قوله: "بأذربيجان" تقدم ضبطها في أوائل كتاب فضائل القرآن، وذكر المعافي في "تاريخ الموصل" أن عتبة هو الذي افتتحها سنة ثماني عشرة. وروى شعبة عن حصين بن عبد الرحمن السلمي عن أم عاصم امرأة عتبة "أن عتبة غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوتين" وأما قول المعافي إنه شهد خيبر وقسم له رسوله الله صلى الله عليه وسلم منها فلم يوافق على ذلك، وإنما أول مشاهده حنين روينا في "المعجم الصغير للطبراني" من طريق أم عاصم امرأة عتبة عن عتبة قال: "أخذني الشرى على عهد رسول الله، فأمرني فتجردت فوضع يده على بطني وظهري فعبق بي الطيب من يومئذ" قالت أم عاصم: كنا عنده أربع نسوة فكنا نجتهد في الطيب وما كان هو يمسه وإنه كان لأطيبنا ريحا. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد الإسماعيلي فيه من طريق علي بن الجعد عن شعبة بعد قوله مع عتبة بن فرقد "أما بعد فاتزروا وارتدوا وانتعلوا وألقوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم وزي العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا واخلولقوا واقطعوا الركب وانزوا نزوا وارموا الأغراض، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث. قوله: "نهى عن الحرير" أي عن لبس الحرير كما في الرواية التي تلي هذه. قوله: "إلا هكذا" زاد الإسماعيلي في روايته من هذا الوجه: وهكذا. قوله: "وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام" المشير بذلك يأتي في رواية عاصم ما يقتضي أنه النبي صلى الله عليه وسلم كما سأبينه. قوله: "اللتين تليان الإبهام" يعني السبابة والوسطى، وصرح بذلك في رواية عاصم. قوله: "فيما علمنا أنه يعني الأعلام" بفتح الهمزة جمع علم بالتحريك أي الذي حصل في علمنا أن المراد بالمستثنى الأعلام وهو ما يكون في الثياب من تطريف وتطريز ونحوهما. ووقع في رواية مسلم والإسماعيلي: "فما" بفتح الفاء بعدها حرف نفي "عتمنا" بمثناة بدل اللام أي ما أبطأنا "في معرفة ذلك لما سمعناه" قال أبو عبيد العاتم البطيء، يقال عتم الرجل القرى إذا أخره. قوله: "حدثنا أحمد بن يونس" هو ابن عبد الله بن يونس نسب لجده وهو بذلك أشهر، وشيخه زهير بن معاوية أبو خيثمة الجعفي، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، وقد أخرجه مسلم عن أحمد بن يونس هذا فبين جميع ذلك في سياقه. قوله: "كتب إلينا عمر" كذا للأكثر وكذا لمسلم، وللكشميهني: "كتب إليه" أي إلى عتبة بن فرقد، وكلتا الروايتين صواب فإنه كتب إلى الأمير لأنه هو الذي يخاطبه وكتب إليهم كلهم بالحكم. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم" زاد فيه مسلم قبل هذا "يا عتبة بن فرقد؛ إنه ليس من كدك ولا كد أبيك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبس الحرير فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى" فذكر

(10/286)


الحديث، وبين أبو عوانة في صحيحه من وجه آخر سبب قول عمر ذلك فعنده في أوله "أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر مع غلام له بسلال فيها خبيص عليها اللبود فلما رآه عمر قال: أيشبع المسلمون في رحالهم من هذا؟ قال: لا. فقال عمر: لا أريده. وكتب إلى عتبة: إنه ليس من كدك" الحديث. قوله: "ورفع زهير الوسطى والسبابة" زاد مسلم في روايته: "وضمهما". قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان. قوله: "عن التيمي" هو سليمان بن طرخان. قوله: "عن أبي عثمان قال: كنا مع عتبة فكتب إليه عمر" في رواية مسلم من طريق جرير عن سليمان التيمي "فجاءنا كتاب عمر" وكذا عند الإسماعيلي من طريق معتمر بن سليمان. قوله: "لا يلبس الحرير في الدنيا إلا لم يلبس منه شيء في الآخرة" كذا للمستملي والسرخسي "يلبس" بضم أوله في الموضعين، وكذا للنسفي وقال: "في الآخرة منه" وللكشميهني: "لا يلبس الحرير في الدنيا إلا لم يلبس منه شيئا في الآخرة" بفتح أوله على البناء للفاعل، والمراد به الرجل المكلف، وأورده الكرماني بلفظ: "إلا من لم يلبسه" قال وفي أخرى "إلا من ليس يلبس منه" اهـ. وفي رواية مسلم المذكورة "لا يلبس الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة". قوله: "وأشار أبو عثمان بإصبعيه المسبحة والوسطى" وقع هذا في رواية المستملي وحده، وهو لا يخالفه ما في رواية عاصم، فيجمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار أولا ثم نقله عنه عمر فبين بعد ذلك بعض رواته صفة الإشارة. قوله: "حدثنا الحسن بن عمر" أي ابن شقيق الجرمي بفتح الجيم وسكون الراء أبو علي البلخي، كذا جزم به الكلاباذي وآخرون، وشذ ابن عدي فقال: هو ابن عمر بن إبراهيم العبدي. قلت: ولم أقف لهذا العبدي على ترجمة، إلا أن ابن حبان قال في الطبقة الرابعة من الثقات الحسن بن عمر بن إبراهيم روى عن شعبة، فلعله هذا. وقد جزم صاحب "المزهر" أنه يكنى أبا بصير وأنه من شيوخ البخاري وأنه أخرج له حديثين وأنه أخرج للحسن بن عمر بن شبة وأكثر من ذلك. قلت ولم أر في جميع البخاري بهذه الصورة إلا أربعة أحاديث أحدها في "باب الطواف بعد العصر" من كتاب الحج قال فيه: "حدثنا الحسن بن عمر البصري حدثنا يزيد بن زريع" وهذا وآخر مثل هذا في الاستئذان، والرابع في كتاب الأحكام فساقه كما في سياق الحج سواء فتعين أنه هو. وأما هذا والذي في الاستئذان فعلى الاحتمال والأقرب أنه كما قال الأكثر. قوله: "معتمر" هو ابن سليمان التيمي. قوله: "وأشار أبو عثمان بإصبعيه المسبحة والوسطى" يريد أن معتمر بن سليمان رواه عن أبيه عن أبي عثمان عن كتاب عمر وزاد هذه الزيادة، وهذا مما يؤيد أن رواية الأكثر في الطريق التي قبلها التي خلت عن هذه الزيادة أولى من رواية المستملي التي أوردها فيه، فإن هذا القدر زاد معتمر بن سليمان في روايته عن أبيه، ثم ظهر لي أن الذي زاده معتمر تفسير الإصبعين، فإن الإسماعيلي أخرجه من روايته ومن رواية يحيى القطان جميعا عن سليمان التيمي وقال في سياقه "كنا مع عتبة بن فرقد فكتب إليه عمر يحدثه بأشياء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وفيما كتبه إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا لا يلبس الحرير في الدنيا من له في الآخرة منه شيء، إلا، وأشار بإصبعيه" فعرف أن زيادة معتمر تسمية الإصبعين. وقد أخرجه مسلم والإسماعيلي أيضا من طريق جرير عن سليمان وقال فيه: "بإصبعيه اللتين تليان الإبهام فرأيناها أزرار الطيالسة حين رأينا الطيالسة" قال القرطبي: الأزرار جمع زر بتقديم الزاي: ما يزرر به الثوب بعضه على بعض، والمراد به هنا أطراف الطيالسة، والطيالسة جمع طيلسان وهو الثوب الذي له علم وقد يكون كساء، وكان للطيالسة التي رآها أعلام حرير في أطرافها. قلت: وقد أغفل صاحب "المشارق" و"النهاية" في مادة ط ل س ذكر الطيالسة

(10/287)


وكأنهما تركا ذلك لشهرته، لكن المعهود الآن ليس على الصفة المذكورة هنا، وقد قال عياض في "شرح مسلم" المراد بأزرار الطيالسة أطرافها. ووقع في حديث أسماء بنت أبي بكر عند مسلم أنها "أخرجت جبة طيالسة كسروانية فقالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهذا يدل على أن المراد بالطيالسة في هذا الحديث ما يلبس فيشمل الجسد، لا المعهود الآن. ولم يقع في رواية أبي عثمان في الصحيحين في استثناء ما يجوز من لبس الحرير إلا ذكر الإصبعين، لكن وقع عند أبي داود من طريق حماد بن سلمة عن عاصم الأحول في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الحرير إلا ما كان هكذا وهكذا إصبعين وثلاثة وأربعة" ولمسلم من طريق سويد بن غفلة بفتح المعجمة والفاء واللام الخفيفتين "أن عمر خطب فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع" و"أو" هنا للتنويع والتخيير، وقد أخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ: "إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا وهكذا وهكذا يعني أصبعين وثلاثا وأربعا" وجنح الحليمي إلى أن المراد بما وقع في رواية مسلم أن يكون في كل قدر إصبعين، وهو تأويل بعيد من سياق الحديث، وقد وقع عند النسائي في رواية سويد "لم يرخص في الديباج إلا في موضع أربعة أصابع". قوله: "الحكم" هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر؛ وابن أبي ليلى هو عبد الرحمن، ووقع في رواية القابسي عن أبي ليلى وهو غلط لكن كتب في الهامش: الصواب ابن أبي ليلى. قوله: "كان حذيفة" هو ابن اليمان وقد مضى شرح حديثه هذا في كتاب الأشربة. قوله: "الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" تمسك به من منع استعمال النساء للحرير والديباج، لأن حذيفة استدل به على تحريم الشرب في إناء الفضة وهو حرام على النساء والرجال جميعا فيكون الحرير كذلك. والجواب أن الخطاب بلفظ لكم للمذكر، ودخول المؤنث فيه قد اختلف فيه؛ والراجح عند الأصوليين عدم دخولهن. وأيضا فقد ثبت إباحة الحرير والذهب للنساء كما سيأتي التنبيه عليه في "باب الحرير للنساء" قريبا، وأيضا فإن هذا اللفظ مختصر وقد تقدم بلفظ: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة" والخطاب في ذلك للذكور، وحكم النساء في الافتراش سيأتي في باب افتراش الحرير قريبا، وقوله: "هي لهم في الدنيا" تمسك به من قال إن الكافر ليس مخاطبا بالفروع. وأجيب بأن المزاد هي شعارهم وزيهم في الدنيا، ولا يدل ذلك على الإذن لهم في ذلك شرعا. قوله: "قال شعبة: فقلت أعن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شديدا عن النبي صلى الله عليه وسلم" وقع في رواية علي بن الجعد عن شعبة "سألت عبد العزيز بن صهيب عن الحرير فقال: سمعت أنسا. فقلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شديدا " وهذا الجواب يحتمل أن يكون تقريرا لكونه مرفوعا إنما حفظه حفظا شديدا، ويحتمل أن يكون إنكارا أي جزمي برفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم يقع شديدا علي، وأبعد من قال: المراد أنه رفع صوته رفعا شديدا. وقال الكرماني: لفظة "شديدا" صفة لفعل محذوف وهو الغضب أي غضب عبد العزيز من سؤال شعبة غضبا شديدا، كذا قال ووجهه غير وجيه، والاحتمال الأول عندي أوجه، ولكنه يؤيد الثاني أن أحمد أخرجه عن محمد بن جعفر عن شعبة فقال فيه: "سمعت أنسا يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم" وأخرجه أيضا عن إسماعيل بن علية عن عبد العزيز عن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأخرجه مسلم أيضا من طريق إسماعيل هذا. قوله: "عن ثابت" هو البناني. قوله: "سمعت ابن الزبير يخطب" زاد النسائي: "وهو على المنبر" أخرجه عن قتيبة عن حماد بن زيد به. وأخرجه أحمد عن عفان عن حماد بلفظ: "يخطبنا". قوله: "قال محمد صلى الله عليه وسلم"

(10/288)


هذا من مرسل ابن الزبير، ومراسيل الصحابة محتج بها عند جمهور من لا يحتج بالمراسيل، لأنهم إما أن يكون عند الواحد منهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي آخر، واحتمال كونها عن تابعي لوجود رواية بعض الصحابة عن بعض التابعين نادر، لكن تبين من الروايتين اللتين بعد هذه أن ابن الزبير إنما حمله عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة عمر، ومع ذلك فلم أقف في شيء من الطرق المتفقة عن عمر أنه رواه بلفظ: "لن" بل الحديث عنه في جميع الطرق بلفظ: "لم" والله أعلم. وابن الزبير قد حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، منها حديثه "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح الصلاة فرفع يديه" أخرجه أحمد. ومنها حديثه "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا وعقد ابن الزبير" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. ومنها حديثه أنه "سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن نبيذ الجر" أخرجه أحمد أيضا. قوله: "لن يلبسه في الآخرة" كذا في جميع الطرق عن ثابت، وهو أوضح في النفي. قوله: "عن أبي ذبيان" - بكسر المعجمة ويجوز ضمها بعدها موحدة ساكنة ثم تحتانية - هو التميمي البصري، ما له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وثقه النسائي. ووقع في رواية أبي علي بن السكن عن الفربري "عن أبي ظبيان" بظاء مشالة بدل الذال وهو خطأ، وأشد خطأ منه ما وقع قي رواية أبي زيد المروزي عن الفربري "عن أبي دينار" بمهملة مكسورة بعدها تحتانية ساكنة ونون ثم راء، نبه على ذلك أبو محمد الأصيلي. قوله: "سمعت ابن الزبير يقول سمعت عمر يقول" وقع في رواية النضر بن شميل عن شعبة "حدثنا خليفة بن كعب سمعت عبد الله بن الزبير يقول: لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر" أخرجه النسائي. وقد أخرجه النسائي أيضا من طريق جعفر بن ميمون عن خليفة بن كعب فلم يذكر عمر في إسناده، وشعبة أحفظ من جعفر بن ميمون. قوله: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" في رواية الكشميهني: "لن يلبسه" والمحفوظ من هذا الوجه "لم" وكذا أخرجه مسلم والنسائي، وزاد النسائي في رواية جعفر بن ميمون في آخره: "ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} " وهذه الزيادة مدرجة في الخبر، وهي موقوفة على ابن الزبير، بين ذلك النسائي أيضا من طريق شعبة فذكر مثل سند حيث الباب وفي آخره: "قال ابن الزبير" فذكر الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق علي بن الجعد عن شعبة ولفظه: "فقال ابن الزبير من رأيه: ومن لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة، وذلك لقوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} " وقد جاء مثل ذلك عن ابن عمر أيضا أخرجه النسائي من طريق حفصة بنت سيرين عن خليفة بن كعب قال: "خطبنا ابن الزبير" فذكر الحديث المرفوع وزاد: "فقال قال ابن عمر إذا والله لا يدخل الجنة، قال الله: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} " وأخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم من طريق داود السراج عن أبي سعيد فذكر الحديث المرفوع مثل حديث عمر هذا في الباب وزاد: "وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" وهذا يحتمل أن يكون أيضا مدرجا، وعلى تقدير أن يكون الرفع محفوظا فهو من العام المخصوص بالمكلفين من الرجال للأدلة الأخرى بجوازه للنساء، وستأتي الإشارة إلى معنى الوعيد فيه قريبا من طريق أخرى لرواية ابن الزبير عن عمر. قوله: "وقال أبو معمر" هو عبد الله بن معمر بن عمرو بن الحجاج، وقد أكثر عنه البخاري، ولم يصرح ف هذا الموضع عنه بالتحديث، وقد أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريق يعقوب بن سفيان، زاد الإسماعيلي ويحيى بن معلى الرازي "قالا حدثنا أبو معمر". قوله: "حدثنا عبد الوارث" هو ابن سعيد ويزيد هو الضبعي المعروف بالرشك بكسر الراء وسكون المعجمة، ومعاذة هي العدوية، والإسناد من مبتدئه إلى معاذة بصريون. قوله: "أخبرتني أم عمرو بنت

(10/289)


عبد الله" جزم أبو نصر الكلاباذي ومن تبعه بأنها بنت عبد الله بن الزبير، ولم أرها منسوبة فيما وقفت عليه من طرق هذا الحديث. قوله: "سمعت عبد الله بن الزبير سمع عمر" في رواية الإسماعيلي: "سمعت من عبد الله بن الزبير يقول في خطبته أنه سمع من عمر بن الخطاب". قوله: "نحوه" ساقه الإسماعيلي بلفظ: "فإنه لا يكساه في الآخرة" وله من طريق شيبان بن فروخ عن عبد الوارث "فلا كساه الله في الآخرة" طريق أخرى لحديث عمر. قوله: "حدثنا محمد بن بشار" هو بندار، وعثمان هو ابن عمر بن فارس، والسند كله إلى عمران بن حطان بصريون، وعمران هو السدوسي كان أحد الخوارج من العقدية بل هو رئيسهم وشاعرهم، وهو الذي مدح ابن ملجم قاتل علي بالأبيات المشهورة، وأبوه حطان بكسر المهملة بعدها طاء مهملة ثقيلة، وإنما أخرج له البخاري على قاعدته في تخريج أحاديث المبتدع إذا كان صامد اللهجة متدينا؛ وقد قيل إن عمران تاب من بدعته وهو بعيد، وقيل: إن يحيى بن أبي كثير حمله عنه قبل أن يبتدع، فإنه كان تزوج امرأة من أقاربه تعتقد رأي الخوارج لينقلها عن معتقدها فنقلته هي إلى معتقدها، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع وهو متابعة، وآخر في "باب نقض الصور". قوله: "سألت عائشة عن الحرير فقالت: ائت ابن عباس فسله، قال فسألته فقال: سل ابن عمر" كذا في هذه الطريق. وفي رواية حرب بن شداد التي تذكر عقب هذه بالعكس أنه سأل ابن عباس فقال: سل عائشة، فسألها فقالت: سل أبو عمر. قوله: "أخبرني أبو حفص يعني عمر بن الخطاب" كذا في الأصل. قوله: "فقلت صدق وما كذب أبو حفص" هو قول عمران بن حطان. قوله: "وقال عبد الله بن رجاء" هو الغداني بضم المعجمة وتخفيف المهملة، وهو من شيوخ البخاري أيضا لكن لم يصرح في هذا بتحديثه. قوله: "حدثنا حرب" هو ابن شداد، وزعم الكرماني أنه ابن ميمون، ونسبه لصاحب الكاشف وهو عجيب فإن صاحب الكاشف لم يرقم لحرب بن ميمون علامة البخاري، وإنما قال في ترجمة عبد الله بن رجاء روى عن حرب بن ميمون، ولا يلزم من كون عبد الله بن رجاء روى عنه أن لا يروي عن حرب بن شداد، يل روايته عن حرب بن شداد موجودة في غير هذا ويحيى هو ابن أبي كثير، وأراد البخاري بهذه الرواية تصريح يحيى بتحديث عمران له بهذا الحديث. قوله: "وقص الحديث" ساقه النسائي موصولا عن عمرو بن منصور عن عبد الله بن رجاء عن حرب بن شداد بلفظ: "من لبس الحرير في الدنيا فلا خلاق له في الآخرة" وقد ذكر الدار قطني أن هذا اللفظ في حديث عمر خطأ، ولعل البخاري لم يسق اللفظ لهذا المعنى. وفي هذه الأحاديث بيان واضح لمن قال يحرم على الرجال لبس الحرير للوعيد المذكور، وقد تقدم شرح معناه في كتاب الأشربة في شرح أول حديث منه، فإن الحكم فيها واحد وهو نفي اللبس ونفي الشرب في الآخرة وفي الجنة. وحاصل أعدل الأقوال أن الفعل المذكور مقتض للعقوبة المذكورة، وقد يتخلف ذلك لمانع كالتوبة والحسنات التي توازن والمصائب التي تكفر، وكدعاء الولد بشرائط، وكذا شفاعة من يؤذن له في الشفاعة، وأعم من ذلك كله عفو أرحم الراحمين. وفيه حجة لمن أجاز لبس العلم من الحرير إذا كان في الثوب، وخصه بالقدر المذكور وهو أربع أصابع، وهذا هو الأصح عند الشافعية، وفيه حجة على من أجاز العلم في الثوب مطلقا ولو زاد على أربعة أصابع، وهو منقول عن بعض المالكية، وفيه حجة على من منع العلم في الثوب مطلقا، وهو ثابت عن الحسن وابن سيرين وغيرهما، لكن يحتمل أن يكونوا منعوه ورعا وإلا فالحديث حجة عليهم فلعلهم لم يبلغهم، قال النووي وقد نقل مثل ذلك عن مالك وهو مذهب مردود، وكذا مذهب من أجاز بغير تقدير والله أعلم. واستدل به على جواز لبس الثوب المطرز بالحرير، وهو ما جعل عليه طراز حرير مركب،

(10/290)


وكذلك المطرف وهو ما سجفت أطرافه بسجف من حرير بالتقدير المذكور، وقد يكون التطريز في نفس الثوب بعد النسج، وفيه احتمال ستأتي الإشارة إليه. واستدل به أيضا على جواز لبس الثوب الذي يخالطه من الحرير مقدار العلم سواء كان ذلك القدر مجموعا أو مفرقا وهو قوي، وسيأتي البحث في ذلك في "باب القسي" بعد بابين.

(10/291)


26 - باب مَسِّ الْحَرِيرِ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ
وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5836- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبُ حَرِيرٍ فَجَعَلْنَا نَلْمُسُهُ وَنَتَعَجَّبُ مِنْهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا قُلْنَا نَعَمْ قَالَ مَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا" .
قوله: "باب من مس الحرير من غير لبس، ويروى فيه عن الزبيدي عن الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم" ذكر المزي في "الأطراف" أنه أراد بهذا التعليق ما أخرجه أبو داود والنسائي من رواية بقية عن الزبيدي بهذا الإسناد إلى أنس أنه "رأى على أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم بردا سيراء" كذا قال، وليس هذا مراد البخاري، والرؤية لا يقال لها مس، وأيضا فلو كان هذا الحديث مراده لجزم به لأنه صحيح عنده على شرطه، وقد أخرجه في "باب الحرير للنساء" من رواية شعيب عن الزهري كما سيأتي قريبا، وإنما أراد البخاري ما رويناه في "المعجم الكبير" للطبراني وفي "فوائد تمام" من طريق عبد الله بن سالم الحمصي عن الزبيدي عن الزهري عن أنس قال: "أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم حلة من استبرق، فجعل ناس يلمسونها بأيديهم ويتعجبون منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعجبكم هذه؟ فوالله لمناديل سعد في الجنة أحسن منها" قال الدار قطني في "الأفراد" لم يروه عن الزبيدي إلا عبد الله بن سالم. ومما يؤكد ما قلته أن البخاري لما أخرج في المناقب حديث البراء بن عازب في قصة سعد بن معاذ في هذا المعنى موصولا قال بعده: "رواه الزهري عن أنس" ولما صدر بحديث الزهري عن أنس - المعلق هنا - عقبه بحديث البراء الموصول بعينه والله أعلم. قوله في حديث البراء "فجعلنا نلمسه" جزم في "المحكم" بأنه بضم الميم في المضارع، وقوله: "مناديل سعد" قيل: خص المناديل بالذكر لكونها تمتهن فيكون ما فوقها أعلى منها بطريق الأولى، قال ابن بطال: النهي عن لبس الحرير ليس من أجل نجاسة عينه بل من أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة فيجوز مسه وبيعه والانتفاع بثمنه، وقد تقدم شيء مما يتعلق بالحديث المذكور في كتاب الهبة.

(10/291)


27 - باب افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ وَقَالَ عَبِيدَةُ: هُوَ كَلُبْسِهِ
5837- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ" .
قوله: "باب افتراش الحرير" أي حكمه في الحل والحرمة. قوله: "وقال عبيدة" هو ابن عمرو السلماني بسكون

(10/291)


28 - باب لُبْسِ الْقَسِّيِّ
وَقَالَ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ قُلْتُ لِعَلِيٍّ مَا الْقَسِّيَّةُ قَالَ ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنْ الشَّأْمِ أَوْ مِنْ مِصْرَ مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ وَفِيهَا أَمْثَالُ الأُتْرُنْجِ وَالْمِيثَرَةُ كَانَتْ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلَ الْقَطَائِفِ يُصَفِّرْنَهَا وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ يَزِيدَ فِي حَدِيثِهِ الْقَسِّيَّةُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ يُجَاءُ بِهَا مِنْ مِصْرَ فِيهَا الْحَرِيرُ وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ عَاصِمٌ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ فِي الْمِيثَرَةِ
5838- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: " نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ وَالْقَسِّيِّ" .
قوله: "باب لبس القسي" بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ياء نسبة، وذكر أبو عبيد في "غريب الحديث" أن أهل الحديث يقولونه بكسر القاف وأهل مصر يفتحونها، وهي نسبة إلى بلد يقال لها القس رأيتها ولم يعرفها الأصمعي، وكذا قال الأكثر هي نسبة للقس بمصر منهم الطبري وابن سيده. وقال الحازمي: هي من بلاد الساحل وقال المهلب هي على ساحل مصر وهي حصن بالقرب من الفرما من جهة الشام، وكذا وقع في حديث ابن وهب أنها تلي الفرما والفرما بالفاء وراء مفتوحة. وقال النووي: هي بقرب تنيس وهو متقارب، وحكى أبو عبيد

(10/292)


29 - باب مَا يُرَخَّصُ لِلرِّجَالِ مِنْ الْحَرِيرِ لِلْحِكَّةِ
5839- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ بِهِمَا" .
قوله: "باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة" بكسر المهملة وتشديد الكاف: نوع من الجرب أعاذنا الله تعالى منه، وذكر الحكة مثالا لا قيدا، وقد ترحم له في الجهاد "الحرير للجرب" وتقدم أن الراجح أنه بالمهملة وسكون الراء. قوله: "حدثني محمد" كذا للأكثر غير منسوب ووقع في رواية أبي علي بن السكن "حدثنا محمد بن سلام" وبه جزم المزي في الأطراف. قوله: "عن أنس" وقع في رواية يحيى القطان عن شعبة عن قتادة "سمعت أنسا" وقد تقدمت في الجهاد. قوله: "للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكة بهما" أي لأجل الحكة. وفي رواية سعيد عن قتادة "من حكة كانت بهما" وفي رواية همام عن قتادة أنهما شكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل، وقد تقدمنا في الجهاد، وكأن الحكة نشأت من أثر القمل، وتقدمت مباحثه في كتاب الجهاد، قال الطبري: فيه دلالة على أن النهي عن لبس الحرير لا يدخل فيه من كانت به علة يخففها لبس الحرير انتهى. ويلتحق بذلك ما يقي من الحر أو البرد حيث لا يوجد غيره، وقد تقدم في الجهاد أن بعض الشافعية خص الجواز بالسفر دون الحضر، واختاره ابن

(10/295)


الصلاح، وخصه النووي في "الروضة" مع ذلك بالحكة ونقله الرافعي في القمل أيضا.
" تنبيه ": وقع في "الوسيط للغزالي" أن الذي رخص له في لبس الحرير حمزة بن عبد المطلب، وغلطوه. وفي وجه للشافعية أن الرخصة خاصة بالزبير وعبد الرحمن، وقد تقدم في الجهاد عن عمر ما يوافقه.

(10/296)


30 - باب الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ
5840- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَسَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةً سِيَرَاءَ فَخَرَجْتُ فِيهَا فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي".
5841- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ ابْتَعْتَهَا تَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ إِذَا أَتَوْكَ وَالْجُمُعَةِ قَالَ: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ" وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ حُلَّةَ سِيَرَاءَ حَرِيرٍ كَسَاهَا إِيَّاهُ فَقَالَ عُمَرُ كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَقُولُ فِيهَا مَا قُلْتَ فَقَالَ: " إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَبِيعَهَا أَوْ تَكْسُوَهَا" .
5842- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ "رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ عَلَيْهَا السَّلاَم بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ".
قوله: "باب الحرير للنساء" كأنه لم يثبت عنده الحديثان المشهوران في تخصيص النهي بالرجال صريحا فاكتفى بما يدل على ذلك. وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا وذهبا فقال: هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثهم" وأخرج أبو داود والنسائي وصححه الترمذي والحاكم من حديث موسى وأعله ابن حبان وغيره بالانقطاع وأن رواية سعيد بن أبي هند لم تسمع من أبي موسى. وأخرج أحمد والطحاوي وصححه من حديث مسلمة بن مخلد أنه قال لعقبة بن عامر: قم فحدث بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "سمعته يقول: الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم" قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إن قلنا إن تخصيص النهي للرجال لحكمة فالذي يظهر أنه سبحانه وتعالى علم قلة صبرهن عن التزين فلطف بهن في إباحته، ولأن تزيينهن غالبا إنما هو للأزواج، وقد ورد أن "حسن التبعل من الإيمان" قال، ويستنبط من هذا أن الفحل لا يصلح له أن يبالغ في استعمال الملذوذات لكون ذلك من صفات الإناث. قوله: "عن عبد الملك بن ميسرة" بفتح الميم وتحتانية ساكنة ثم مهملة هو الهلالي أبو زيد الزراد بزاي ثم راء ثقيلة، وقد تقدم في النفقات من وجه آخر عن شعبة أخبرني عبد الملك، ولشعبة فيه إسناد آخر أخرجه مسلم من رواية معاذ عنه عن أبي عون الثقفي عن أبي صالح الحنفي عن علي. قوله: "عن زيد بن وهب" كذا للأكثر، وتقدم كذلك في الهبة والنفقات. وكذا عند مسلم، ووقع في رواية علي بن السكن هنا وحده عن النزال بن سبرة بدل زيد بن وهب وهو وهم، كأنه انتقل من حديث إلى حديث لأن رواية عبد الملك عن النزال عن علي

(10/296)


إنما هي في الشرب قائما كما تقدم في الأشربة، وقد وافق الجماعة في الموضعين الآخرين، وزيد بن وهب هو الجهني الثقة المشهور من كبار التابعين، وما له في البخاري عن علي سوى هذا الحديث، وتقدم في الهبة بلفظ: "سمعت زيد بن وهب". قوله: "أهدى" بفتح أوله. قوله: "إلي" بتشديد الياء(1) ووقع في رواية أبي صالح المذكورة "أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة فبعث بها إلي" ولمسلم أيضا من وجه آخر عن أبي صالح عن علي "أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فأعطاه عليا" وفي رواية للطحاوي "أهدى أمير أذربيجان إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة مسيرة بحرير" وسنده ضعيف. قوله: "حلة سيراء" قال أبو عبيد الحلل برود اليمن، والحلة إزار ورداء، ونقله ابن الأثير وزاد إذا كان من جنس واحد. وقال ابن سيده في المحكم الحلة برد أو غيره، وحكى عياض أن أصل تسمية الثوبين حلة أنهما يكونان جديدين كما حل طيهما، وقيل: لا يكون الثوبان حلة حتى يلبس أحدهما فوق الآخر، فإذا كان فوقه فقد حل عليه والأول أشهر، والسيراء بكسر المهملة وفتح التحتانية والراء مع المد، قال الخليل: ليس في الكلام فعلاء بكسر أوله مع المد سوى سيراء، وحولاء وهو الماء الذي يخرج على رأس الولد، وعنباء لغة في العنب، قال مالك: هو الوشي من الحرير، كذا قال، والوشي بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها تحتانية. وقال الأصمعي ثياب فيها خطوط من حرير أو قز، وإنما قيل لها سيراء لتسيير الخطوط فيها. وقال الخليل: ثوب مضلع بالحرير وقيل: مختلف الألوان فيه خطوط ممتدة كأنها السيور. ووقع عند أبي داود في حديث أنس "أنه رأى على أم كلثوم حلة سيراء" والسيراء المضلع بالقز، وقد جزم ابن بطال كما سيأتي في ثالث أحاديث الباب أنه من تفسير الزهري. وقال ابن سيده: هو ضرب من البرود، وقيل ثوب مسير فيه خطوط يعمل من القز، وقيل: ثياب من اليمن. وقال الجوهري: برد فيه خطوط صفر، ونقل عياض عن سيبويه قال لم يأت فعلاء صفة لكن اسما، وهو الحرير الصافي واختلف في قوله: "حلة سيراء" هل هو بالإضافة أو لا، فوقع عند الأكثر بتنوين حلة على أن سيراء عطف بيان أو نعت، وجزم القرطبي بأنه الرواية. وقال الخطابي: قالوا حلة سيراء كما قالوا ناقة عشراء، ونقل عياض عن أبي مروان بن السراج أنه بالإضافة، قال عياض: وكذا ضبطناه عن متقني شيوخنا. وقال النووي إنه قول المحققين ومتقني العربية وإنه من إضافة الشيء لصفته كما قالوا ثوب خز. قوله: "فخرجت فيها" في رواية أبي صالح عن علي "فلبستها". قوله: "فرأيت الغضب في وجهه" زاد مسلم في رواية أبي صالح "فقال: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء" وله في أخرى "شققها خمرا بين الفواطم". قوله: "فشققتها بين نسائي" أي قطعتها ففرقتها عليهن خمرا، والخمر بضم المعجمة والميم جمع خمار بكسر أوله والتخفيف: ما تغطي به المرأة رأسها، والمراد بقوله: "نسائي" ما فسره في رواية أي صالح حيث قال: "بين الفواطم" ووقع في رواية النسائي حيث قال: "فرجعت إلى فاطمة فشققتها، فقالت: ماذا جئت به؟ قلت نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبسها فالبسيها واكسي نساءك" وفي هذه الرواية أن عليا إنما شققها بإذن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو محمد بن قتيبة: المراد بالفواطم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت أسد بن هاشم والدة علي ولا أعرف الثالثة. وذكر أبو منصور الأزهري أنها فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب. وقد أخرج الطحاوي وابن أبي الدنيا في "كتاب الهدايا" وعبد الغني بن سعيد في "المبهمات" وابن عبد البر كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن أبي فاختة عن هبيرة بن
ـــــــ
(1) عبارة المتن هنا "كساني النبي الخ".

(10/297)


يريم - بتحتانية أوله ثم راء وزن عظيم - عن علي في نحو هذه القصة قال: "فشققت منها أربعة أخمرة" فذكر الثلاث المذكورات، قال: ونسي يزيد الرابعة. وفي رواية الطحاوي "خمارا لفاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي، وخمارا لفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وخمارا لفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وخمارا لفاطمة أخرى قد نسيتها" فقال عياض لعلها فاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب وهي بنت شيبة بن ربيعة، وقيل: بنت عتبة بن ربيعة، وقيل: بنت الوليد بن عتبة. وامرأة عقيل هذه هي التي لما تخاصمت مع عقيل بعث عثمان معاوية وابن عباس حكمين بينهما ذكره مالك في "المدونة" وغيره، واستدل بهذا الحديث على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الحلة إلى علي فبنى علي على ظاهر الإرسال فانتفع بها في أشهر ما صنعت له وهو اللبس، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبح له لبسها وإنما بعث بها إليه ليكسوها غيره ممن تباح له، وهذا كله إن كانت القصة وقعت بعد النهي عن لبس الرجال الحرير، وسيأتي مزيد لهذا في الحديث الذي بعده. قوله: "جويرية" بالجيم والراء مصغر وبعد الراء تحتانية مفتوحة. قوله: "عن عبد الله" هو ابن عمر. قوله: "أن عمر رأى حلة سيراء" هكذا رواه أكثر أصحاب نافع، وأخرجه النسائي من رواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه "رأى حلة" فجعله في مسند عمر. قال الدار قطني: المحفوظ أنه من مسند ابن عمر. وسيراء تقدم ضبطها وتفسيرها في الحديث الذي قبله. ووقع في رواية مالك عن نافع كما تقدم في كتاب الجمعة أن ذلك كان على باب المسجد. وفي رواية ابن إسحاق عن نافع عند النسائي: "أن عمر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السوق فرأى الحلة" ولا تخالفه بين الروايتين، لأن طرف السوق كان يصل إلى قرب باب المسجد. قوله: "تباع" في رواية جرير بن حازم عن نافع عند مسلم: "رأى عمر عطاردا التميمي يقيم حلة بالسوق، وكان رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم" وأخرج الطبراني من طريق أبي مجلز عن حفصة بنت عمر "أن عطارد بن حاجب جاء بثوب من ديباج كساه إياه كسرى، فقال عمر: ألا أشتريه لك يا رسول الله؟" ومن طريق عبد الرحمن بن عمرو بن معاذ عن عطارد نفسه أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج كساه إياه كسرى، والجمع بينهما أن عطاردا لما أقامه في السوق ليباع لم يتفق له بيعه فأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم. وعطارد هذا هو ابن حاجب بن زرارة بن عدس بمهملات الدارمي يكنى أبا عكرشة بشين معجمة، كان من جملة وفد بني تميم أصحاب الحجرات، وقد أسلم وحسن إسلامه واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه، وكان أبوه من رؤساء بني تميم في الجاهلية، وقصته مع كسرى في رهنه قوسه عوضا عن جمع كثير من العرب عند كسرى مشهورة حتى ضرب المثل بقوس حاجب. قوله: "لو ابتعتها فلبستها" في رواية سالم عن ابن عمر كما تقدم في العيدين "ابتع هذه فتجمل بها" وكان عمر أشار بشرائها وتمناه. قوله: "للوفد إذا أتوك" في رواية جرير بن حازم "لوفود العرب" وكأنه خصه بالعرب لأنهم كانوا إذ ذاك الوقود في الغالب، لأن مكة لما فتحت بادر العرب بإسلامهم فكانت كل قبيلة ترسل كبراءها ليسلموا ويتعلموا ويرجعوا إلى قومهم فيدعوهم إلى الإسلام ويعلموهم. قوله: "والجمعة" في رواه سالم "العيد" بدل "الجمعة" وجمع ابن إسحاق عن نافع ما تضمنته الروايتان، أخرجه النسائي بلفظ: "فتجمل بها لوفود العرب إذا أتوك، وإذا خطبت الناس في يوم عيد وغيره". قوله: "إنما يلبس هذه" في رواية جرير بن حازم "إنما يلبس الحرير". قوله: "من لا خلاق له" زاد مالك في روايته: "في الآخرة". والخلاق النصيب وقيل: الحظ وهو المراد هنا، ويطلق أيضا على الحرمة وعلى الدين، ويحتمل أن يراد من لا نصيب له في الآخرة أي من لبس الحرير قاله الطيبي، وقد تقدم في حديث أبي عثمان عن عمر في أول حديث من

(10/298)


"باب لبس الحرير" ما يؤيده ولفظه: "لا يلبس الحرير إلا من ليس له في الآخرة منه شيء". قوله: "وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعد ذلك إلى عمر حلة سيراء" زاد الإسماعيلي من هذا الوجه، "بحلة سيراء من حرير" ومن بيانية وهو يقتضي أن السيراء قد تكون من غير حرير. قوله: "كساها إياه" كذا أطلق، وهي باعتبار ما فهم عمر من ذلك، وإلا فقد ظهر من بقية الحديث أنه لم يبعث إليه بها ليلبسها، أو المراد بقوله كساه أعطاه ما يصلح أن يكون كسوة. وفي رواية مالك الماضية في الجمعة "ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر حلة" وفي رواية جرير بن حازم "فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة" وعرف بهذا جهة الحلة المذكورة في حديث علي المذكور أولا. قوله: "فقال عمر كسوتنيها وقد سمعتك تقول فيها ما قلت" في رواية جرير بن حازم "فجاء عمر بحلته يحملها فقال: بعثت إلي بهذه وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت" والمراد بالأمس هنا يحتمل الليلة الماضية أو ما قبلها بحسب ما اتفق من وصول الحلل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد قصة حلة عطارد. وفي رواية محمد بن إسحاق "فخرجت فزعا فقلت: يا رسول الله ترسل بها إلي وقد قلت فيها ما قلت". قوله: "إنما بعثت بها إليك لتبيعها أو تكسوها" في رواية جرير "لتصيب بها" وفي رواية الزهري عن سالم كما مضى في العيدين "تبيعها وتصيب بها حاجتك" وفي رواية يحيي بن إسحاق عن سالم كما سيأتي في الأدب "لتصيب بها مالا" وزاد مالك في آخر الحديث: "فكساها عمر أخا له بمكة مشركا" زاد في رواية عبيد الله بن عمر العمري عند النسائي: "أخا له من أمه" وتقدم في البيوع من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر "فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم" قال النووي هذا يشعر بأنه أسلم بعد ذلك. قلت: ولم أقف على تسمية هذا الأخ إلا فيما ذكره ابن بشكوال في "المبهمات" نقلا عن ابن الحذاء في رجال الموطأ فقال: اسمه عثمان بن حكيم، قال الدمياطي: هو السلمي أخو خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، قال: وهو أخو زيد بن الخطاب لأمه. فمن أطلق عليه أنه أخو عمر لأمه لم يصب. قلت: بل له وجه بطريق المجاز. ويحتمل أن يكون عمر ارتضع من أم أخيه زيد فيكون عثمان أخا عمر لأمه من الرضاع وأخا زيد لأمه من النسب. وأفاد ابن سعد أن والدة سعيد بن المسيب هي أم سعيد بن عثمان بن الحكم، ولم أقف على ذكره في الصحابة، فإن كان أسلم فقد فاتهم، فليستدرك، وإن كان مات كافرا وكان قوله: "قبل أن يسلم" لا مفهوم له، بل المراد أن البعث إليه كان في حال كفره مع قطع النظر عما وراء ذلك، فلتعد بنته في الصحابة. وفي حديث جابر الذي أوله "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في قباء حرير ثم نزعه فقال نهاني عنه جبريل" كما تقدم التنبيه عليه في أوائل كتاب الصلاة زيادة عند النسائي وهي "فأعطاه لعمر، فقال: لم أعطكه لتلبسه بل لتبيعه، فباعه عمر" وسنده قوي وأصله في مسلم، فإن كان محفوظا أمكن أن يكون عمر باعه بإذن أخيه بعد أن أهداه له، والله أعلم.
"تنبيه": وجه إدخال هذا الحديث في "باب الحرير للنساء" يؤخذ من قوله لعمر "لتبيعها أو تكسوها" لأن الحرير إذا كان لبسه محرما على الرجال فلا فرق بين عمر وغيره من الرجال في ذلك فينحصر الإذن في النساء، وأما كون عمر كساها أخاه فلا يشكل على ذلك عند من يرى أن الكافر مخاطب بالفروع ويكون أهدى عمر الحلة لأخيه ليبيعها أو يكسوها امرأة، ويمكن من يرى أن الكافر غير مخاطب أن ينفصل عن هذا الإشكال بالتمسك بدخول النساء في عموم قوله أو يكسوها أي إما للمرأة أو للكافر بقرينة قوله: "إنما يلبس هذا من لا خلاق له" أي من الرجال. ثم ظهر لي وجه آخر وهو أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث المذكورة

(10/299)


فقد أخرج الحديث المذكور الطحاوي من رواية أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر قال: "أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عطارد حلة فكرهها له ثم أنه كساها عمر مثله" الحديث، وفيه: "إني لم أكسكها لتلبسها إنما أعطيتكها لتلبسها النساء " واستدل به على جواز لبس المرأة الحرير الصرف بناء على أن الحلة السيراء هي التي تكون من حرير صرف، قال ابن عبد البر: هذا قول أهل العلم، وأما أهل اللغة فيقولون: هي التي يخالطها الحرير، قال: والأول هو المعتمد. ثم ساق من طريق محمد بن سيرين عن ابن عمر نحو حديث الباب وفيه: "حلة من حرير" وقال ابن بطال: دلت طرق الحديث على أن الحلة المذكورة كانت من حرير محض، ثم ذكر من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر "أن عمر قال: يا رسول الله، إني مررت بعطارد يعرض حلة حرير للبيع" الحديث أخرجه أبو عوانة والطبري بهذا اللفظ. قلت: وتقدم في البيوع من طريق أبي بكر بن حفص عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه "حلة حرير أو سيراء"، وفي العيدين من طريق الزهري عن سالم "حلة من استبرق" وقد فسر الإستبرق في طريق أخرى بأنه ما غلظ من الديباج، أخرجه المصنف في الأدب من طريق يحيى بن إسحاق قال: "سألني سالم عن الإستبرق فقلت: ما غلظ من الديباج، فقال: سمعت عبد الله بن عمر" فذكر الحديث. ووقع عند مسلم من حديث أنس في نحو هذه القصة "حلة من سندس" قال النووي: هذه الألفاظ تبين أن الحلة كانت حريرا محضا قلت: الذي يتبين أن السيراء قد تكون حريرا صرفا وقد تكون غير محض، فالتي في قصة عمر جاء التصريح بأنها كانت من حرير محض ولهذا وقع في حديثه " إنما يلبس هذه من لا خلاق له"، والتي في قصة على لم تكن حريرا صرفا لما روى ابن أبي شيبة من طريق أبي فاختة عن هبيرة بن يريم عن علي قال: "أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة مسيرة بحرير إما سداها أو لحمتها. فأرسل بها إلي فقلت: ما أصنع بها، ألبسها؟ قال: لا أرضى لك إلا ما أرضى لنفسي، ولكن اجعلها خمرا بين الفواطم" وقد أخرجه أحمد وابن ماجه من طريق ابن إسحاق عن هبيرة فقال فيه: "حلة من حرير" وهو محمول على رواية أبي فاختة وهو بفاء ومعجمة ثم مثناة اسمه سعيد بن علاقة بكسر المهملة وتخفيف اللام ثم قاف، ثقة، ولم يقع في قصة علي وعيد على لبسها كما وقع في قصة عمر، بل فيه: "لا أرضى لك إلا ما أرضى لنفسي" ولا ريب أن ترك لبس ما خالطه الحرير أولى من لبسه عند من يقول بجوازه والله أعلم. حديث أنس أنه "رأى على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم برد حرير سيراء" هكذا وقع في رواية شعيب عن الزهري ووافقه الزبيدي كما تقدمت الإشارة إليه في "باب مس الحرير من غير لبس" وأخرجه النسائي من رواية ابن جريج عن الزهري كالأول، ومن طريق معمر عن الزهري نحوه لكن قال زينب بدل أم كلثوم، والمحفوظ ما قال الأكثر، وقد غفل الطحاوي فقال: إن كان أنس رأى ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيعارض حديث عقبة، يعني الذي أخرجه النسائي وصححه ابن حبان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع أهله الحرير والحلة" وإن كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلا على نسخ حديث عقبة، كذا قال، وخفي عليه أن أم كلثوم ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك زينب فبطل التردد، وأما دعوى المعارضة فمردودة، وكذا النسخ. والجمع بينهما واضح بحمل النهي في حديث عقبة على التنزيه وإقرار أم كلثوم على ذلك إما لبيان الجواز وإما لكونها كانت إذ ذاك صغيرة، وعلى هذا التقدير فلا إشكال في رواية أنس لها، وعلى تقدير أن تكون كانت كبيرة فيحمل على أن ذلك كان قبل الحجاب أو بعده، لكن لا يلزم من رؤية الثوب على اللابس رؤية اللابس فلعله رأى ذيل القميص مثلا، ويحتمل أيضا أن

(10/300)


السيراء التي كانت على أم كلثوم كانت من غير الحرير الصرف كما تقدم في حلة علي، والله أعلم. واستدل بأحاديث الباب على جواز لبس الحرير للنساء سواء كان الثوب حريرا كله أو بعضه، وفي الأول عرض المفضول على الفاضل والتابع على المتبوع ما يحتاج إليه من مصالحه ممن يظن أنه لم يطلع عليه، وفيه إباحة الطعن لمن يستحقه، وفيه جواز البيع والشراء على باب المسجد، وفيه مباشرة الصالحين والفضلاء البيع والشراء. وقال ابن بطال فيه ترك النبي صلى الله عليه وسلم لباس الحرير وهذا في الدنيا. وإرادة تأخير الطيبات إلى الآخرة التي لا انقضاء لها، إذ تعجيل الطيبات في الدنيا ليس من الحزم، فزهد في الدنيا للآخرة، وأمر بذلك، ونهى عن كل سرف وحرمه. وتعقبه ابن المنير بأن تركه صلى الله عليه وسلم لبس الحرير إنما هو لاجتناب المعصية، وأما الزهد فإنما هو في خالص الحلال وما لا عقوبة فيه، فالتقلل منه وتركه مع الإمكان هو الذي تتفاضل فيه درجات الزهاد. قلت: ولعل مراد ابن بطال بيان سبب التحريم فيستقيم ما قاله. وفيه جواز بيع الرجال الثياب الحرير وتصرفهم فيها بالهبة والهدية لا اللبس. وفيه جواز صلة القريب الكافر والإحسان إليه بالهدية. وقال ابن عبد البر: فيه جواز الهدية للكافر ولو كان حربيا. وتعقب بأن عطاردا إنما وفد سنة تسع ولم يبق بمكة بعد الفتح مشرك. وأجيب بأنه لا يلزم من كون وفادة عطارد سنة تسع أن تكون قصة الحلة كانت حينئذ بل جاز أن تكون قبل ذلك. وما زال المشركون يقدمون المدينة ويعاملون المسلمين بالبيع وغيره، وعلى تقدير أن يكون ذلك سنة الوفود فيحتمل أن يكون في المدة التي كانت بين الفتح وحج أبي بكر، فإن منع المشركين من مكة إنما كان من حجة أبي بكر سنة تسع ففيها وقع النهي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، واستدل به على أن الكافر ليس مخاطبا بالفروع لأن عمر لما منع من لبس الحلة أهداها لأخيه المشرك ولم ينكر عليه، وتعقب بأنه لم يأمر أخاه بلبسها فيحتمل أن يكون وقع الحكم في حقه كما وقع في حق عمر فينتفع بها بالبيع أو كسوة النساء ولا يلبس هو. وأجيب بأن المسلم عنده من الوازع الشرعي ما يحمله بعد العلم بالنهي عن الكف، بخلاف الكافر فإن كفره يحمله على عدم الكف عن تعاطي المحرم، فلولا أنه مباح له لبسه لما أهدى له لما في تمكينه من الإعانة على المعصية، ومن ثم يحرم بيع العصير ممن جرت عادته أن يتخذه خمرا وأن احتمل أنه قد يشربه عصيرا، وكذا بيع الغلام الجميل ممن يشتهر بالمعصية لكن يحتمل أن يكون ذلك على أصل الإباحة، وتكون مشروعية خطاب الكافر بالفروع تراخت عن هذه الواقعة، والله أعلم.

(10/301)


31 - باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَوَّزُ مِنْ اللِّبَاسِ وَالْبُسْطِ
5843- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَبِثْتُ سَنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلْتُ أَهَابُهُ فَنَزَلَ يَوْماً مَنْزِلاً فَدَخَلَ الأَرَاكَ فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلْتُهُ فَقَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ ثُمَّ قَالَ: "كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لاَ نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئاً فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ وَذَكَرَهُنَّ اللَّهُ رَأَيْنَا لَهُنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنَا حَقّاً مِنْ غَيْرِ أَنْ نُدْخِلَهُنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِنَا وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي كَلاَمٌ فَأَغْلَظَتْ لِي فَقُلْتُ لَهَا وَإِنَّكِ لَهُنَاكِ قَالَتْ تَقُولُ هَذَا لِي وَابْنَتُكَ تُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُ حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا إِنِّي أُحَذِّرُكِ أَنْ تَعْصِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَتَقَدَّمْتُ إِلَيْهَا فِي أَذَاهُ فَأَتَيْتُ

(10/301)


أُمَّ سَلَمَةَ فَقُلْتُ لَهَا فَقَالَتْ أَعْجَبُ مِنْكَ يَا عُمَرُ قَدْ دَخَلْتَ فِي أُمُورِنَا فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ فَرَدَّدَتْ وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِذَا غَابَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُهُ أَتَيْتُهُ بِمَا يَكُونُ وَإِذَا غِبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَ أَتَانِي بِمَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَنْ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَقَامَ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَلِكُ غَسَّانَ بِالشَّأْمِ كُنَّا نَخَافُ أَنْ يَأْتِيَنَا فَمَا شَعَرْتُ إِلاَّ بِالأَنْصَارِيِّ وَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ قُلْتُ لَهُ وَمَا هُوَ أَجَاءَ الْغَسَّانِيُّ قَالَ أَعْظَمُ مِنْ ذَاكَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ فَجِئْتُ فَإِذَا الْبُكَاءُ مِنْ حُجَرِهِنَّ كُلِّهَا وَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَعِدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ وَعَلَى بَابِ الْمَشْرُبَةِ وَصِيفٌ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ اسْتَأْذِنْ لِي فَأَذِنَ لِي فَدَخَلْتُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ وَتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِذَا أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ وَقَرَظٌ فَذَكَرْتُ الَّذِي قُلْتُ لِحَفْصَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَالَّذِي رَدَّتْ عَلَيَّ أُمُّ سَلَمَةَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِثَ تِسْعاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ".
5844- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتْنَةِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكَانَتْ هِنْدٌ لَهَا أَزْرَارٌ فِي كُمَّيْهَا بَيْنَ أَصَابِعِهَا".
قوله: "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجوز من اللباس والبسط" معنى قوله: "يتجوز" يتوسع فلا يضيق بالاقتصار على صنف بعينه، أو لا يضيق بطلب النفيس والغالي، بل يستعمل ما تيسر، ووقع في رواية الكشميهني: "يتجزى" بجيم وزاي أيضا لكنها ثقيلة مفتوحة بعدها ألف وهي أوضح، والبسط بفتح الموحدة ما يبسط ويجلس عليه. حديث ابن عباس في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا، وقد تقدم شرحه في الطلاق مستوفى والغرض منه نومه صلى الله عليه وسلم على حصير وتحت رأسه مرفقة حشوها ليف، وقوله في هذه الرواية: "مرفقة" بكسر أوله وسكون الراء وفتح الفاء بعدها قاف ما يرتفق به، وقد تقدم في الرواية الأخرى بلفظ: "وسادة" وقوله: "فما شعرت بالأنصاري وهو يقول قد حدث أمر" في رواية الكشميهني: "فما شعرت إلا بالأنصاري وهو يقول" وفي نسخة عنه "فما شعرت بالأنصاري إلا وهو يقول" قال الكرماني: سقط حرف الاستثناء من جل النسخ بل من كلها، وهو مقدر والقرينة تدل عليه، أو "ما" زائدة والتقدير شعرت بالأنصاري وهو يقول، أو ما مصدرية وتكون هي المبتدأ وبالأنصاري الخبر أي شعوري متلبس بالأنصاري قائلا. قلت: ويحتمل أن تكون ما نافية على حالها بغير احتياج لحرف الاستثناء، والمراد المبالغة في نفي شعوره بكلام الأنصاري من شدة ما دهمه من الخبر الذي أخبر به، ويكون قد استثبته فيه مرة أخرى، ولذلك نقله عنه، لكن رواية الكشميهني ترجح الاحتمال الأول وتوضح أن قول

(10/302)


الكرماني بل كلها ليس كذلك، وقوله: "وعلى باب المشربة وصيف" بمهملة وفاء وزن عظيم هو الغلام دون البلوغ وقد يطلق على من بلغ الخدمة، يقال وصف الغلام بالضم وصافة. وقول عمر: "فتقدمت إليها في أذاه" أي أنذرتها من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقع من العقوبة بسبب أذاه. قوله: " كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة" قال ابن بطال قرن النبي صلى الله عليه وسلم نزول الخزائن بالفتنة إشارة إلى أنها تسبب عنها، وإلى أن القصد في الأمر خير من الإكثار وأسلم من الفتنة، ومطابقة حديث أم سلمة هذا للترجمة من جهة أنه صلى الله عليه وسلم حذر من لباس الرقيق من الثياب الواصفة لأجسامهن لئلا يعرين في الآخرة، وفيما حكاه الزهري عن هند ما يؤيد ذلك قال: وفيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلبس الثياب الشفافة لأنه إذا حذر من لبسها من ظهور العورة كان أولى بصفة الكمال من غيره. اهـ. وهو مبني على أحد الأقوال في تفسير المراد بقوله: "كاسية عارية" كما سيأتي بيانه في كتاب الفتن، ويحتمل أن يكون الحديثان دالين على الترجمة بالتوزيع. فحديث عمر مطابق للبسط وحديث أم سلمة مطابق للباس، والمراد بقوله يتجزى أي فيما يتعلق بنفسه وبأهله. قوله: "قال الزهري: وكانت هند لها أزرار في كميها بين أصابعها" هو موصول بالإسناد المذكور إلى الزهري، وقوله: "أزرار" وقع للأكثر وفي رواية أبي أحمد الجرجاني "إزار" براء واحدة وهو غلط، والمعنى أنها كانت تخشى أن يبدو من جسدها شيء بسبب سعة كميها فكانت تزرر ذلك لئلا يبدو منه شيء فتدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "كاسية عارية".

(10/303)


32 - باب مَا يُدْعَى لِمَنْ لَبِسَ ثَوْباً جَدِيداً
5845- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَتْنِي أُمُّ خَالِدٍ بِنْتُ خَالِدٍ قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ قَالَ: " مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ قَالَ ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ فَأُتِيَ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ وَقَالَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي مَرَّتَيْنِ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ وَيَقُولُ يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا وَيَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا" وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشِيَّةِ الْحَسَنُ قَالَ إِسْحَاقُ حَدَّثَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِي أَنَّهَا رَأَتْهُ عَلَى أُمِّ خَالِدٍ".
قوله: "باب ما يدعى لمن لبس ثوبا جديدا" كأنه لم يثبت عنده حديث ابن عمر قال: "رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عمر ثوبا فقال: البس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا" أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان، وأعله النسائي. وجاء أيضا فيما يدعو به من لبس الثوب الجديد أحاديث: منها ما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي سعيد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء ثم يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له أعوذ بك من شره وشر ما صنع له" وأخرج الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث عمر رفعه: "من لبس جديدا فقال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي - ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به - كان في حفظ الله وفي كنف الله حيا وميتا" وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث معاذ بن أنس رفعه: "من لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه". وحديث أم خالد بنت سعيد المذكور في هذا

(10/303)


الباب تقدم شرحه في "باب الخميصة السوداء" قريبا، وتقدم بيان الاختلاف في قوله صلى الله عليه وسلم لها: "أبلي وأخلقي" هل بالقاف أو الفاء، وقوله فيه: "خميصة سوداء" لا ينافي ما وقع في كتاب الجهاد أنه كان عليها قميص أصفر، لأن القميص كان عليها لما جيء بها، والخميصة هي التي كسيتها. وقوله في آخره: "قال إسحاق" هو ابن سعيد راوي الحديث عن أبيه، وهو موصول بالسند المذكور، وقوله: "حدثتني امرأة من أهلي" لم أقف على اسمها، وقوله إنها رأته على أم خالد أي الثوب، ويستفاد من ذلك أنه بقي زمانا طويلا، وقد تقدم ما يدل على ذلك صريحا في "باب الخميصة".

(10/304)


33 - باب النَّهْيِ عَنْ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ
5846- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ" .
قوله: "باب النهي عن التزعفر للرجال" أي في الجسد، لأنه ترجم بعده "باب الثوب المزعفر" وقيده بالرجل ليخرج المرأة. قوله: "عن عبد العزيز" هو ابن صهيب. قوله: "أن يتزعفر الرجل" كذا رواه عبد الوارث وهو ابن سعيد مقيدا، ووافقه إسماعيل بن علية وحماد بن زيد عند مسلم وأصحاب السنن، ووقع في رواية حماد بن زيد "نهى عن التزعفر للرجال" ورواه شعبة عن ابن علية عند النسائي مطلقا فقال: "نهى عن التزعفر" وكأنه اختصره وإلا فقد رواه عن إسماعيل فوق العشرة من الحفاظ مقيدا بالرجل، ويحتمل أن يكون إسماعيل أختصره لما حدث به شعبة والمطلق محمول على المقيد، ورواية شعبة عن إسماعيل من رواية الأكابر عن الأصاغر. واختلف في النهي عن التزعفر هل هو لرائحته لكونه من طيب النساء ولهذا جاء الزجر عن الخلوق؟ أو للونه فيلتحق به كل صفرة؟ وقد نقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: أنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر، وآمره إذا تزعفر أن يغسله. قال: وأرخص في المعصفر لأنني لم أجد أحدا يحكي عنه إلا ما قال علي "نهاني ولا أقول أنهاكم" قال البيهقي: قد ورد ذلك عن غير علي، وساق حديث عبد الله بن عمرو قال: "رأى علي النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما" أخرجه مسلما، وفي لفظ له "فقلت أغسلهما؟ قال لا بل أحرقهما" قال البيهقي فلو بلغ ذلك الشافعي لقال به اتباعا للسنة كعادته. وقد كره المعصفر جماعة من السلف ورخص فيه جماعة، وممن قال بكراهته من أصحابنا الحليمي، واتباع السنة هو الأولى. اهـ. وقال النووي في "شرح مسلم": أتقن البيهقي المسألة والله أعلم، ورخص مالك في المعصفر والمزعفر في البيوت وكرهه في المحافل، وسيأتي قريبا حديث ابن عمر في الصفرة، وتقدم في النكاح حديث أنس في قصة عبد الرحمن بن عوف حين تزوج وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، وتقدم الجواب عن ذلك بأن الخلوق كان في ثوبه علق به من المرأة ولم يكن في جسده، والكراهة لمن تزعفر في بدنه أشد من الكراهة لمن تزعفر في ثوبه. وقد أخرج أبو داود والترمذي في "الشمائل" والنسائي في "الكبرى" من طريق سلم العلوي عن أنس "دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، فكره ذلك، وقلما كان يواجه أحدا بشيء يكرهه، فلما قام قال: لو أمرتم هذا أن يترك هذه الصفرة" وسلم بفتح المهملة وسكون اللام فيه لين، ولأبي داود من حديث عمار رفعه: "لا تحضر الملائكة جنازة كافر ولا مضمخ بالزعفران" وأخرج أيضا من حديث عمار قال: "قدمت على أهلي ليلا وقد تشققت يداي، فخلقوني بزعفران، فسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرحب بي وقال: اذهب

(10/304)


فاغسل عنك هذا".

(10/305)


34 - باب الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ
5847- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْباً مَصْبُوغاً بِوَرْسٍ أَوْ بِزَعْفَرَانٍ" .
قوله: "باب الثوب المزعفر" ذكر فيه حديث ابن عمر "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بورس أو زعفران". حديث ابن عمر "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بورس أو زعفران" كذا أورده مختصرا، وقد تقدم مطولا مشروحا في كتاب الحج، وقد أخذ من التقييد بالمحرم جواز لبس الثوب المزعفر للحلال، قال ابن بطال: أجاز مالك وجماعة لباس الثوب المزعفر للحلال وقالوا: إنما وقع النهي عنه للمحرم خاصة، وحمله الشافعي والكوفيون على المحرم وغير المحرم، وحديث ابن عمر الآتي في "باب النعال السبتية" يدل على الجواز، فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بالصفرة. وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن جعفر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران" وفي سنده عبد الله بن مصعب الزبيري وفيه ضعف. وأخرج الطبراني من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبغ إزاره ورداءه بزعفران، وفيه راو مجهول، ومن المستغرب قول ابن العربي. لم يرد في الثوب الأصفر حديث، وقد ورد فيه عدة أحاديث كما ترى، قال المهلب: الصفرة أبهج الألوان إلى النفس، وقد أشار إلى ذلك ابن عباس في قوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} .

(10/305)


35 - باب الثَّوْبِ الأَحْمَرِ
5848- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْبُوعاً وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْهُ".
قوله: "باب الثوب الأحمر" ذكر فيه حديث البراء "كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعا، ورأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئا أحسن منه" وقد تقدم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أتم سياقا من هذا. قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "سمع البراء" هو ابن عازب، كذا قال أكثر أصحاب أبي إسحاق، وخالفهما أشعث فقال: "عن أبي إسحاق عن جابر بن سمرة" أخرجه النسائي وأعله الترمذي وحسنه، ونقل عن البخاري أنه قال: حديث أبي إسحاق عن البراء وعن جابر بن سمرة صحيحان وصححه الحاكم، وقد تقدم حديث أبي جحيفة قريبا، ويأتي وفيه: "حلة حمراء" أيضا. ولأبي داود من حديث هلال بن عامر عن أبيه "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بمنى على بعير وعليه برد أحمر" وإسناده حسن، وللطبراني بسند حسن عن طارق المحاربي نحوه لكن قال: "بسوق ذي المجاز" وتقدم في "باب التزعفر" ما يتعلق بالمعصفر، فإن غالب ما يصبغ بالعصفر يكون أحمر، وقد تلخص لنا من أقوال السلف في لبس الثوب الأحمر سبعة أقوال: الأول: الجواز مطلقا جاء عن علي وطلحة وعبد الله ابن جعفر والبراء وغير واحد من الصحابة، وعن سعيد بن المسيب والنخعي والشعبي وأبي قلابة وأبي وائل وطائفة من التابعين. القول الثاني: المنع مطلقا لما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو وما نقله البيهقي وأخرج ابن ماجه من حديث ابن عمر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المفدم" وهو بالفاء وتشديد الدال وهو المشبع بالعصفر فسره في الحديث، وعن عمر أنه كان إذا رأى على الرجل ثوبا معصفرا جذبه وقال: "دعوا هذا

(10/305)


36 - باب الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ
5849- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ
قوله: "باب الميثرة الحمراء" ذكر فيه حديث سفيان وهو الثوري عن أشعث وهو ابن أبي الشعثاء عن معاوية بن سويد عن البراء قال: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع" الحديث وفي آخره: "وعن لبس الحرير والديباج والإستبرق والمياثر الحمر" فالحرير قد سبق القول فيه، والديباج والإستبرق صنفان نفيسان منه، وأما المياثر فهي جمع ميثرة تقدم ضبطها في "باب لبس القسي". وقد أخرج أحمد والنسائي وأصله عند أبي داود بسند صحيح عن علي قال: "نهي عن المياثر الأرجوان" هكذا عندهم بلفظ: "نهي" على البناء للمجهول، وهو محمول على الرفع، وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان من طريق هبيرة بن يريم بتحتانية أوله وزن عظيم عن علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب، وعن لبس القسي، والميثرة الحمراء" قال أبو عبيد: المياثر الحمر التي جاء النهي عنها كانت من مراكب العجم من ديباج وحرير. وقال الطبري هي وعاء يوضع على سرج الفرس أو رحل البعير من الأرجوان وحكى في "المشارق" قولا أنها سروج من ديباج، وقولا أنها أغشية للسروج من حرير، وقولا أنها تشبه المخدة تحشى بقطن أو ريش يجعلها الراكب تحته، وهذا يوافق تفسير الطبري، والأقوال الثلاثة يحتمل أن لا تكون متخالفة بل الميثرة تطلق على كل منها، وتفسير أبي عبيد يحتمل الثاني والثالث، وعلى كل تقدير فالميثرة وإن كانت من حرير فالنهي فيها كالنهي عن الجلوس على الحرير، وقد تقدم القول فيه، ولكن تقييدها بالأحمر أخص من مطلق الحرير فيمتنع إن كانت حريرا، ويتأكد المنع إن كانت مع ذلك حمراء، وإن كانت من غير حرير فالنهي فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم، قال ابن بطال: كلام الطبري يقتضي التسوية في المنع من الركوب عليه سواء كانت من حرير أم من غيره، فكان النهي عنها إذا لم يكن من حرير للتشبه أو للسرف أو التزين، وبحسب ذلك تفصيل الكراهة بين التحريم والتنزيه، وأما تقييدها بالحمرة فمن يحمل المطلق على المقيد - وهم الأكثر - يخص المنع بما كان أحمر، والأرجوان المذكور في الرواية التي أشرت إليها بضم الهمزة والجيم بينهما راء ساكنة ثم واو خفيفة، وحكى عياض ثم القرطبي فتح الهمزة وأنكره النووي وصوب أن الضم هو المعروف في كتب الحديث واللغة والغريب، واختلفوا في المراد به فقيل هو صبغ أحمر شديد الحمرة وهو نور شجر من أحسن الألوان، وقيل: الصوف الأحمر، وقيل: كل شيء أحمر فهو أرجوان. ويقال ثوب أرجوان وقطيفة أرجوان، وحكى السيرافي أحمر أرجوان فكأنه وصف للمبالغة في الحمرة كما يقال أبيض يقق وأصفر فاقع، واختلفوا هل الكلمة عربية أو معربة؟ فإن قلنا باختصاص النهي بالأحمر من المياثر فالمعني في النهي عنها ما في غيرها كما تقدم في الباب قبله، وإن قلنا لا يختص بالأحمر فالمعني بالنهي عنها ما فيه من الترفه، وقد يعتادها الشخص فتعوزه فيشق عليه تركها فيكون النهي نهي إرشاد لمصلحة دنيوية، وإن قلنا النهي عنها من أجل التشبه بالأعاجم فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار ثم لما لم يصر الآن يختصر بشعارهم زال ذلك المعنى فتزول الكراهة، والله أعلم.

(10/307)


37 - باب النِّعَالِ السِّبْتِيَّةِ وَغَيْرِهَا
5850- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدٍ أَبِي مَسْلَمَةَ قَالَ: "سَأَلْتُ أَنَساً أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ".
5851- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعاً لَمْ أَرَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا قَالَ مَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ رَأَيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنْ الأَرْكَانِ إِلاَّ الْيَمَانِيَيْنِ وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلاَلَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَمَّا الأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّ إِلاَّ الْيَمَانِيَيْنِ وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا وَأَمَّا الإِهْلاَلُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ".
5852- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْباً مَصْبُوغاً بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ" .
5853- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِزَارٌ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَعْلاَنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ" .
قوله: "باب النعال" جمع نعل وهي مؤنثة، قال ابن الأثير: هي التي تسمى الآن تاسومة. وقال ابن العربي: النعل لباس الأنبياء، وإنما اتخذ الناس غيرها لما في أرضهم من الطين، وقد يطلق النعل على كل ما يقي القدم. قال صاحب المحكم: النعل والنعلة ما وقيت به القدم. قوله: "السبتية" بكسر المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة منسوبة إلى السبت. قال أبو عبيد: هي المدبوغة، ونقل عن الأصمعي وعن أبي عمرو الشيباني، زاد الشيباني بالقرظ، قال: وزعم بعض الناس أنها التي حلق عنها الشعر. قلت: أشار بذلك إلى مالك نقله ابن وهب عنه ووافقه، وكأنه مأخوذ من لفظ السبت لأن معناه القطع فالحلق بمعناه، وأيد ذلك جواب ابن عمر المذكور في الباب، وقد وافق الأصمعي الخليل وقالوا: قيل لها سبتية لأنها تسبتت بالدباغ أي لانت، قال أبو عبيد. كانوا في الجاهلية لا يلبس النعال المدبوغة إلا أهل السعة، واستشهد لذلك بشعر. حديث أنس في الصلاة في النعلين وقد تقدم شرحه في الصلاة. حديث ابن عمر من رواية سعيد المقبري عن عبيد بن جريج وهما تابعيان مدنيان. قوله: "رأيتك تصنع أربعا" فذكرها، فأما الاقتصار على مس الركنين اليمانيين فتقدم

(10/308)


شرحه في كتاب الحج، وكذلك الإهلال يوم التروية، وأما الصبغ بالصفرة فتقدم في باب التزعفر، ووقع في رواية ابن إسحاق عن عبيد بن جريج "تصفر بالورس" وأما لبس النعال السبتية فهو المقصود بالذكر هنا، وقول ابن عمر "يلبس النعال التي ليس فيها شعر" يؤيد تفسير مالك المذكور. وقال الخطابي: السبتية التي دبغت بالقرظ وهي التي سبت ما عليها من شعر أي حلق، قال وقد يتمسك بهذا من يدعي أن الشعر ينجس بالموت، وأنه لا يؤثر فيه الدباغ، ولا دلالة فيه لذلك، واستدل بحديث ابن عمر في لباس النبي صلى الله عليه وسلم النعال السبتية ومحبته لذلك على جواز لبسها على كل حال. وقال أحمد: يكره لبسها في المقابر لحديث بشير بن الخصاصية قال: "بينما أنا أمشي في المقابر علي نعلان إذا رجل ينادي من خلفي: يا صاحب السبتيتين إذا كنت في هذا الموضع فاخلع نعليك" أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم واحتج به على ما ذكر، وتعقبه الطحاوي بأنه يجوز أن يكون الأمر بخلعهما لأذى فيهما، وقد ثبت في الحديث أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا عنه مدبرين، وهو دال على جواز لبس النعال في المقابر، قال وثبت حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه، قال: فإذا جاز دخول المسجد بالنعل فالمقبرة أولى. قلت: ويحتمل أن يكون النهي لإكرام الميت كما ورد النهي عن الجلوس على القبر، وليس ذكر السبتيتين للتخصيص بل اتفق ذلك والنهي إنما هو للمشي على القبور بالنعال. حديث ابن عمر وابن عباس فيما لا يلبس المحرم، وفيه ذكر النعلين، قد تقدم شرحه في كتاب الحج. وفي هذه الأحاديث استحباب لبس النعل، وقد أخرج مسلم من حديث جابر رفعه: "استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكبا ما انتعل". أي أنه شبيه بالراكب في خفة المشقة وقلة التعب وسلامة الرجل من أذى الطريق، قاله النووي وقال القرطبي: هذا كلام بليغ ولفظ فصيح بحيث لا ينسج على منواله ولا يؤتى بمثاله، وهو إرشاد إلى المصلحة وتنبيه على ما يخفف المشقة، فإن الحافي المديم للمشي يلقى من الآلام والمشقة بالعثار وغيره ما يقطعه عن المشي ويمنعه من الوصول إلى مقصوده كالراكب فلذلك شبه به.

(10/309)


38 - باب يَبْدَأُ بِالنَّعْلِ الْيُمْنَى
5854- حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة قال أخبرني أشعث بن سليم سمعت أبي يحدث عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في طهوره وترجله وتنعله".
قوله: "باب يبدأ بالنعل اليمنى" ذكر فيه حديث عائشة "كان يحب التيمن في طهوره وتنعله" وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، وهو ظاهر فيما ترجم له. والله أعلم.

(10/309)


39 - باب لاَ يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ
5855- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعاً أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعاً" .
قوله: "باب لا يمشي في نعل واحدة" ذكر فيه حديث أبي هريرة من رواية الأعرج عنه، قال الخطابي: الحكمة في النهي أن النعل شرعت لوقاية الرجل عما يكون في الأرض من شوك أو نحوه، فإذا انفردت إحدى الرجلين

(10/309)


40 - باب يَنْزِعُ نَعْلَهُ الْيُسْرَى
5856- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ لِيَكُنْ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ" .
قوله: "باب ينزع نعله اليسرى" وقع ذكر هذه الترجمة قبل التي قبلها عند الجميع إلا أبا ذر، ولكل منهما وجه. قوله: "إذا انتعل" أي لبس النعل. قوله: "باليمين" في رواية الكشميهني باليمنى. قوله: "وإذا انتزع" في رواية مسلم: "وإذا خلع". قوله: "لتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع" زعم ابن وضاح فيما حكاه ابن التين أن هذا القدر مدرج وأن المرفوع انتهى عند قوله: "بالشمال" وضبط قوله أولهما وآخرهما بالنصب على أنه خبر كان أو على الحال والخبر تنعل وتنزع، وضبطا بمثناتين فوقانيتين وتحتانيتين مذكرين باعتبار النعل والخلع، قال ابن العربي: البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة لفضل اليمين حسا في القوة وشرعا في الندب إلى تقديمها. وقال النووي:

(10/311)


يستحب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم أو الزينة، والبداءة باليسار في ضد ذلك كالدخول إلى الخلاء ونزع النعل والخف والخروج من المسجد والاستنجاء وغيره من جميع المستقذرات، وقد مر كثير من هذا في كتاب الطهارة في شرح حديث عائشة: كان يعجبه التيمن. وقال الحليمي وجه الابتداء بالشمال عند الخلع أن اللبس كرامة لأنه وقاية للبدن، فلما كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدئ بها في اللبس وأخرت في الخلع لتكون الكرامة لها أدوم وحظها منها أكثر، قال ابن عبد البر: من بدأ بالانتعال في اليسرى أساء لمخالفة السنة، ولكن لا يحرم عليه لبس نعله. وقال غيره: ينبغي له أن ينزع النعل من اليسرى ثم يبدأ باليمنى، ويمكن أن يكون مراد ابن عبد البر ما إذا لبسهما معا فبدأ باليسرى فإنه لا يشرع له أن ينزعهما ثم يلبسهما على الترتيب المأمور به إذ قد فات محله. ونقل عياض وغيره الإجماع على أن الأمر فيه للاستحباب، والله أعلم.

(10/312)


41 - باب قِبَالاَنِ فِي نَعْلٍ وَمَنْ رَأَى قِبَالاً وَاحِداً وَاسِعاً
5857- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ نَعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهَا قِبَالاَنِ".
5858- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ: "خَرَجَ إِلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ بِنَعْلَيْنِ لَهُمَا قِبَالاَنِ فَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ هَذِهِ نَعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قوله: "باب قبالان في نعل" أي في كل فردة "ومن رأى قبالا واحدا واسعا" أي جائز. القبال بكسر القاف وتخفيف الموحدة وآخره لام هو الزمام وهو السير الذي يعقد فيه الشسع الذي يكون بين إصبعي الرجل. قوله: "همام" وقع في رواية ابن السكن على الفربري هشام بدل همام؛ والذي عند الجماعة أولى.
قوله: "أن نعلي النبي صلى الله عليه وسلم" وقع في رواية عند الكشميهني بالإفراد وكذا في قوله: "لهما". قوله: "قبالان" زاد ابن سعد عن عفان عن همام "من سبت ليس عليهما شعر" وقد أخرجه أحمد عن عفان بدون هذه الزيادة، وقوله: "سبت" بكسر المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة وقد فسره في الحديث. قوله: "حدثنا محمد" هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "عيسى بن طهمان قال: أخرج إلينا أنس بن مالك بنعلين لهما قبالان، فقال ثابت البناني: هذه نعل النبي صلى الله عليه وسلم" هذا مرسل قاله الإسماعيلي. قلت: صورته الإرسال لأن ثابتا لم يصرح بأن أنسا أخبره بذلك، فإن كان ثابت قاله بحضرة أنس وأقره أنس على ذلك فيكون أخذ عيسى بن طهمان له عن أنس عرضا، لكن قد تقدم هذا الحديث في الخمس من طريق ابن أحمد الزبيري عن عيسى بن طهمان بما ينفي هذا الاحتمال، ولفظه: "أخرج إلينا أنس نعلين جرداوتين لهما قبالان، فحدثني ثابت البناني بعد عن أنس أنهما نعلا النبي صلى الله عليه وسلم" فظهر بهذا أن رواية عيسى عن أنس إخراجه النعلين فقط وأن إضافتهما للنبي صلى الله عليه وسلم من رواية عيسى عن ثابت عن أنس، وقد أشار الإسماعيلي إلى أن إخراج طريق أبي أحمد أولى، وكأنه لم يستحضر أنها تقدمت هناك، والبخاري على عادته إذا صحت الطريق موصولة لا يمتنع من إيراد ما ظاهره الإرسال اعتمادا على الموصول، وقد أخرج الترمذي في "الشمائل" وابن ماجه بسند قوي من حديث ابن عباس "كانت لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان مثنى شراكهما" قال الكرماني: دلالة الحديث

(10/312)


على الترجمة من جهة أن النعل صادقة على مجموع ما يلبس في الرجلين، وأما الركن الثاني من الترجمة فمن جهة أن مقابلة الشيء بالشيء يفيد التوزيع، فلكل واحد من نعل كل رجل قبال واحد. قلت: بل أشار البخاري إلى ما ورد عن بعض السلف، فقد أخرج البزار والطبراني في "الصغير" من حديث أبي هريرة مثل حديث أنس هذا وزاد: "وكذا لأبي بكر ولعمر، وأول من عقد عقدة واحدة عثمان بن عفان" لفظ الطبراني وسياق البزار مختصر، ورجال سنده ثقات، وله شاهد أخرجه النسائي من رواية محمد بن سيرين عن عمرو بن أوس مثله دون ذكر عثمان.

(10/313)


باب القبة الحمرا من أدم
...
42 - باب الْقُبَّةِ الْحَمْرَاءِ مِنْ أَدَمٍ
5859- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ وَرَأَيْتُ بِلاَلاً أَخَذَ وَضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَبْتَدِرُونَ الْوَضُوءَ فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئاً تَمَسَّحَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئاً أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ".
5860- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الأَنْصَارِ وَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ".
قوله: "باب القبة الحمراء من أدم" بفتح الهمزة والمهملة هو الجلد المدبوغ، وكأنه صبغ بحمره قبل أن يجعل قبة. ذكر فيه طرفا من حديث أبي جحيفة، وقد تقدم في أوائل الصلاة بتمامه مشروحا، وساقه فيه بهذا الإسناد بعينه، والغرض منه هنا قوله: "وهو في قبة حمراء من أدم" فهو مطابق لما ترجم له، وتقدم شرح الحلة الحمراء قريبا في "باب الثوب الأحمر" ولعله أراد الإشارة إلى تضعيف حديث رافع المقدم ذكره هناك. ذكر حديث أنس قال: "أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم" وهو أيضا طرف من حديث أورده بتمامه في كتاب الخمس عن أبي اليمان بهذا الإسناد بعينه. قال الكرماني: هذا لا يدل على أن القبة حمراء، لكن يكفي أنه يدل على بعض الترجمة، وكثيرا ما يفعل البخاري ذلك. قلت: ويمكن أن يقال: لعله حمل المطلق على المقيد وذلك لقرب العهد، فإن القصة التي ذكرها أنس كانت في غزوة حنين، والتي ذكرها أبو جحيفة كانت في حجة الوداع، وبينهما نحو سنتين، فالظاهر أنها هي تلك القبة لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتأنق في مثل ذلك حتى يستبدل، وإذا وصفها أبو جحيفة بأنها حمراء في الوقت الثاني فلأن تكون حمرتها موجودة في الوقت الأول أولى. قوله: "وقال الليث حدثني يونس عن ابن شهاب" هو الزهري المذكور في السند الذي قبله، وقد اقتطع هذه الجملة من الحديث فساقها على لفظ الليث، وأول حديث شعيب عنده في فرض الخمس "إن ناسا من الأنصار قالوا: حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء - فذكر القصة قال - فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم" الحديث بطوله، وقد تقدم شرحه في غزوة حنين. وقد وصل الإسماعيلي رواية الليث من طريق الرمادي: "حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثني يونس" ومن طريق حرملة عن ابن وهب "أخبرني يونس" وساقه بلفظ: "فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم" هكذا اقتطعه. وقد أخرجه مسلم عن حرملة، وأوله

(10/313)


عنده "إن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله" فذكر الحديث بطوله.

(10/314)


43 - باب الْجُلُوسِ عَلَى الْحَصِيرِ وَنَحْوِهِ
5861- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيراً بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ حَتَّى كَثُرُوا فَأَقْبَلَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ" .
قوله: "باب الجلوس على الحصير ونحوه" أما الحصير فمعروف يتخذ من السعف وما أشبهه، وأما قوله: "ونحوه" فيريد من الأشياء التي تبسط وليس لها قدر رفيع. حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجر حصيرا بالليل ويصلي عليه" ومعتمر في إسناده هو ابن سليمان التيمي، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وسعيد هو المقبري وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق أولهم أبو سلمة وهم مدنيون، وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شريح بن هانئ أنه: "سأل عائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والله يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} ؟ فقالت: لم يكن يصلي على الحصير" ويمكن الجمع بحمل النفي على المداومة، لكن يخدش فيه ما ذكره شريح من الآية، وقد تقدم شرح حديث عائشة في كتاب الصلاة، وترجم المصنف في أوائل الصلاة "باب الصلاة على الحصير" وأورد فيه حديث أنس "فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس" الحديث، وسبق ما يتعلق به، قوله في حديث عائشة يحتجر بحاء مهملة ثم جيم ثم راء مهملة للأكثر أي يتخذ حجرة لنفسه؛ يقال: حجرت الأرض واحتجرتها إذا جعلت عليها علامة تمنعها عن غيرك. ووقع في رواية الكشميهني بزاي في آخره. قوله: "يثوبون" بمثلثة ثم موحدة أي يرجعون، وقوله فيه: "فإن الله لا يمل حتى تملوا" تقدم شرحه أيضا في كتاب الإيمان، وأن الملال كناية عن القبول أو الترك، أو أطلق على سبيل المشاكلة. وقوله: "وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام" أي ما استمر في حياة العامل، وليس المراد حقيقة الدوام التي هي شمول جميع الأزمنة. ووقع في رواية الكشميهني: "ما داوم" أي ما داوم عليه العامل.

(10/314)


44 - باب الْمُزَرَّرِ بِالذَّهَبِ
5862- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَخْرَمَةَ قَالَ لَهُ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَتْ عَلَيْهِ أَقْبِيَةٌ فَهُوَ يَقْسِمُهَا فَاذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ فَذَهَبْنَا فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ لِي يَا بُنَيِّ ادْعُ لِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْظَمْتُ ذَلِكَ فَقُلْتُ أَدْعُو لَكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لَيْسَ بِجَبَّارٍ فَدَعَوْتُهُ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرٌ بِالذَّهَبِ فَقَالَ: يَا مَخْرَمَةُ هَذَا خَبَأْنَاهُ لَكَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ" .

(10/314)


باب خواتم الذهب
...
45 - باب خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ
5863- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبْعٍ نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ قَالَ حَلْقَةِ الذَّهَبِ وَعَنْ الْحَرِيرِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ وَالْقَسِّيِّ وَآنِيَةِ الْفِضَّةِ وَأَمَرَنَا بِسَبْعٍ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَرَدِّ السَّلاَمِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ" .
5864- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ" وَقَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعَ النَّضْرَ سَمِعَ بَشِيراً ... مِثْلَهُ.
5865- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ فَرَمَى بِهِ وَاتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ أَوْ فِضَّةٍ".
[الحديث 5865 – أطرافه في: 5866، 5867، 5873، 5876، 6651، 7298]
قوله: "باب خواتيم الذهب" جمع خاتم، ويجمع أيضا على خواتم بلا ياء، وعلى خياتيم بياء بدل الواو، وبلا ياء أيضا، وفي الخاتم ثمان لغات: فتح التاء وكسرها وهما واضحتان، وبتقديمها على الألف مع كسر الخاء ختام، وبفتحها وسكون التحتانية وضم المثناة بعدها واو خيتوم، وبحذف الياء والواو مع سكون المثناة ختم، وبألف بعد الخاء وأخرى بعد التاء خاتام، وبزيادة تحتانية بعد المثناة المكسورة خاتيام، وبحذف الأولى وتقديم التحتانية خيتام، وقد جمعتها في بيت وهو:

(10/315)


خاتام خاتم ختم خاتم وختا ... م خاتيام وخيتوم وخيتام
وقبله:
خذ نظم عد لغات الخاتم انتظمت ... ثمانيا ما حواها قبل نظام
ثم زدت ثالثا:
وهمز مفتوح تاء تاسع وإذا ... ساغ القياس أتم العشر خاتام
أما الأول: فذكر أبو البقاء في إعراب الشواذ في الكلام على من قرأ العالمين بالهمز قال: ومثله الخأتم بالهمز. وأما الثاني: فهو على الاحتمال، واقتصر كثيرون منهم النووي على أربعة، والحق أن الختم والختام مختص بما يختم به فتكمل الثمان فيه. وأما ما يتزين به فليس فيه إلا ستة، وأنشدوا في الخاتيام وهو أغربها:
أخذت من سعداك خاتياما ... لموعد تكتسب الآثاما
ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول: حديث البراء قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبع: نهانا عن خاتم الذهب" أو قال: "حلقة الذهب" كذا في هذه الطريق من رواية آدم عن شعبة عن أشعث بن سليم وهو ابن الشعثاء "سمعت معاوية بن سويد بن مقرن قال سمعت البراء" فذكره بتقديم النواهي على الأوامر، وتقدم في أوائل الجنائز عن أبي الوليد عن شعبة بقديم الأوامر على النواهي، لكن سقط من النواهي ذكر المياثر وقال فيه: "خاتم الذهب" ولم يشك. وأورده في المظالم عن سعيد بن الربيع عن شعبة لكن لم يسق فيه المنهيات جملة، وأورده في الطب عن حفص بن عمر عن شعبة لكن سقط من النواهي آنية الفضة، وذكر من الأوامر ثلاثة فقط: اتباع الجنائز وعيادة المريض وإفشاء السلام، واختصر الباقي. وقال فيه أيضا: "خاتم الذهب" وأورده في أواخر الأدب عن سليمان بن حرب عن شعبة كذلك، لكن لم يذكر القسي ولا آنية الفضة. وقال بدل الإستبرق السندس. وأخرجه في الأيمان والنذور من طريق غندر عن شعبة مقتصرا على إبرار القسم حسب، فهذا ما عنده من تغاير السياق في رواية شعبة فقط، وأما من رواية غيره عن أشعث عنده أيضا فإنه أخرجه في الأشربة فقط من رواية أبي عوانة عن الأشعث فقدم الأوامر على النواهي وساقه تاما وقال فيه: "ونهانا عن خواتيم الذهب" وهكذا أخرجه من طريق أبي الأحوص عن أشعث مثله سواء وهو المطابق للترجمة هنا، وأخرجه في أوائل الاستئذان من طريق جرير عن أشعث كذلك لكن قال: "ونهى عن تختم الذهب" وقد تقدم قريبا في اللباس من رواية سفيان الثوري في آخر "باب القسي" مختصرا جدا "نهانا عن المياثر الحمر وعن القسي" وفي "باب الميثرة الحمراء" من روايته: "أمرنا بسبع" فذكر منها العيادة واتباع الجنائز وتشميت العاطس "ونهانا عن سبع" فلم يذكر منها خاتم الذهب ولا آنية الفضة، فهذه جميع طرق هذا الحديث عنده، فأما المنهيات فقد شرحت في أماكنها ومعظمها في هذا الكتاب كتاب اللباس، وتقدم الكلام على آنية الفضة في كتاب الأشربة، وأما الأوامر فنذكر كل واحدة منها في بابها، ويأتي بسطها في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. قوله: "عن بشير بن نهيك" بفتح الموحدة وكسر المعجمة، ونهيك بالنون وزنه سواء. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن خاتم الذهب" في الكلام حذف تقديره. نهى عن لبس خاتم الذهب. قوله: "وقال عمرو" هو ابن مرزوق "أنبأنا شعبة" ساق هذا الإسناد لما فيه من بيان سماع قتادة من النضر وهو ابن أنس بن مالك المذكور في السند الذي قبله، وسماع النضر من بشير بن نهيك وقد وصله أبو عوانة في صحيحه عن أبي قلابة الرقاشي وقاسم بن أصبغ في مصنفه عن محمد بن غالب

(10/316)


ابن حرب كلاهما عن عمرو بن مرزوق به، ووقع التصريح بسماع قتادة من النضر بهذا الحديث أيضا في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة وأخرجه الإسماعيلي كذلك، قال ابن دقيق العيد: إخبار الصحابي عن الأمر والنهي على ثلاث مراتب: الأولى أن يأتي بالصيغة كقوله: افعلوا أو لا تفعلوا، الثانية قوله أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهانا عن كذا وهو كالمرتبة الأولى في العمل به أمرا ونهيا، وإنما نزل عنها لاحتمال أن يكون ظن ما ليس بأمر أمرا، إلا أن هذا الاحتمال مرجوح للعلم بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة. المرتبة الثالثة أمرنا ونهينا على البناء للمجهول وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها لاحتمال أن يكون الآمر غير النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تقرر هذا فالنهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء. قلت: وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة "أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتم من ذهب، فأخذوه وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة بنت ابنته فقال: تحلي به" قال ابن دقيق العيد: وظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة واستقر الأمر عليه، قال عياض: وما نقل عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم من تختمه بالذهب فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنة فيه فالناس بعده مجمعون على خلافه، وكذا ما روي فيه عن خباب وقد قال له ابن مسعود "أما آن لهذا الخاتم أن يلقى؟ فقال: إنك لن تراه علي بعد اليوم" فكأنه ما كان بلغه النهي فلما بلغه رجع. قال: وقد ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال ذلك في الحرير، قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي إثبات الخلاف في التحريم، وهو يناقض القول بالإجماع على التحريم، ولا بد من اعتبار وصف كونه خاتما. قلت: التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض واستقر الإجماع بعده على التحريم، وقد جاء عن جماعة من الصحابة لبس خاتم الذهب، من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن أبي إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وصهيب وذكر ستة أو سبعة. وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن حذيفة وعن جابر بن سمرة وعن عبيد الله بن يزيد الخطمي نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد "نزعنا من يدي أسيد خاتما من ذهب" وأغرب ما ورد من ذلك ما جاء عن البراء الذي روى النهي، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر قال: "رأيت على البراء خاتما من ذهب" وعن شعبة عن أبي إسحاق نحوه أخرجه البغوي في "الجعديات" وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك قال: "رأيت على البراء خاتما من ذهب فقال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما فألبسنيه فقال: البس ما كساك الله ورسوله" قال الحازمي: إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ. قلت: لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي حديث النهي المتفق على صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله إما بأن يكون حمله على التنزيه أو فهم الخصوصية له من قوله البس ما كساك الله ورسوله، وهذا أولى من قول الحازمي: لعل البراء لم يبلغه النهي. ويؤيده الاحتمال الثاني أنه وقع في رواية أحمد "كان الناس يقولون للبراء لم تتختم بالذهب وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيذكر لهم الحديث ثم يقول: كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البس ما كساك الله ورسوله" ومن أدلة النهي أيضا ما رواه يونس عن الزهري عن أبي إدريس عن رجل له صحبة قال: "جلس رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده خاتم من ذهب فقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بقضيب فقال: ألق هذا" وعموم الأحاديث المقدم ذكرها في "باب لبس الحرير" حيث قال في الذهب والحرير " هذان حرامان على رجال أمتي حل لإناثها " وحديث عبد الله بن عمرو رفعه: " من مات من أمتي وهو

(10/317)


يلبس الذهب حرم الله عليه ذهب الجنة" الحديث أخرجه أحمد والطبراني، وفي حديث ابن عمر ثالث أحاديث الباب ما يستدل به على نسخ جواز لبس الخاتم إذا كان من ذهب، واستدل به على تحريم الذهب على الرجال قليله وكثيره للنهي عن التختم وهو قليل، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التحريم يتناول ما هو في قدر الخاتم وما فوقه كالدملج والمعضد وغيرهما، فأما ما هو دونه فلا دلالة من الحديث عليه، وتناول النهي جميع الأحوال فلا يجوز لبس خاتم الذهب لمن فاجأه الحرب لأنه لا تعلق له بالحرب، بخلاف ما تقدم في الحرير من الرخصة في لبسه بسبب الحرب، وبخلاف ما على السيف أو الترس أو المنطقة من حلية الذهب فإنه لو فجأه الحرب جاز له الضرب بذلك السيف فإذا انقضت الحرب فلينتقض لأنه كله من متعلقات الحرب بخلاف الخاتم. حديث ابن عمر سيأتي شرحه في الباب الذي يليه، وقوله فيه: "فاتخذه الناس" أي اتخذوا مثله كما بينه بعد، وقوله: "من ورق أو فضة" شك من الراوي وجزم في الذي يليه بقوله: "من فضة" وفي الذي يليه بأنه "من ورق" والورق بفتح الواو وكسر الراء ويجوز إسكانها، وحكى الصغاني(1) وحكى كسر أوله مع السكون فتلك أربع لغات، وفيها لغة خامسة الرقة والراء بدل الواو كالوعد والعدة، وقيل الورق يختص بالمصكوك والرقة أعم.
ـــــــ
(1) بياض بأصله. قال مصحح طبعة بولاق: ولعل موضعه لفظ "فتحها" أي الراء، بدليل قوله بعده "فتلك أربع لغات".

(10/318)


46 - باب خَاتَمِ الْفِضَّةِ
5866- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ وَقَالَ لاَ أَلْبَسُهُ أَبَداً ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ فِضَّةٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَلَبِسَ الْخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسَ".

(10/318)


47 - باب
5867- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ فَقَالَ: "لاَ أَلْبَسُهُ أَبَداً" فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ".
5868- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ يَوْماً وَاحِداً ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اصْطَنَعُوا الْخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ وَلَبِسُوهَا فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَهُ فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ".
تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وَزِيَادٌ وَشُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ ابْنُ مُسَافِرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَرَى خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ.

(10/318)


48 - باب فَصِّ الْخَاتَمِ
5869- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ قَالَ: "سُئِلَ أَنَسٌ هَلْ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً قَالَ أَخَّرَ لَيْلَةً صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَنَامُوا وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا" .

(10/321)


5870- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ حُمَيْداً يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ فِضَّةٍ وَكَانَ فَصُّهُ مِنْهُ". وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَساً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب فص الخاتم" قال الجوهري: الفص بفتح الفاء والعامة تكسرها وأثبتها غيره لغة وزاد بعضهم الضم وعليه جرى ابن مالك في المثلث. حديث حميد "سئل أنس: هل اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما؟ قال: أخر ليلة صلاة العشاء" الحديث. وقد تقدم شرحه في المواقيت من كتاب الصلاة. وقوله: "وبيص" بموحدة وآخره مهملة هو البريق وزنا ومعنى، وسيأتي من رواية عبد العزيز بن صهيب بلفظ: "بريقه" ومن رواية قتادة عن أنس بلفظ: "بياضه" ووقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس في آخره: "ورفع أنس يده اليسرى" أخرجه مسلم والنسائي، وله في أخرى "وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى". قوله في الطريق الثانية: "كان خاتمه من فضة" في رواية أبي داود من طريق زهير بن معاوية عن حميد "من فضة كله" فهذا نص في أنه كله من فضة، وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق إياس بن الحارث بن معيقيب عن جده قال: "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملويا عليه فضة، فربما كان في يدي، قال: وكان معيقيب على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم" يعني كان أمينا عليه فيحمل على التعدد، وقد أخرج له ابن سعد شاهدا مرسلا عن مكحول "أن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من حديد ملويا عليه فضة، غير أن فصه باد" وآخر مرسلا عن إبراهيم النخعي مثله دون ما في آخره. وثالثا من رواية سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص "أن خالد بن سعيد - يعني ابن العاص - أتى وفي يده خاتم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ أطرحه، فطرحه فإذا خاتم من حديد ملوي عليه فضة. قال: فما نقشه؟ قال: محمد رسول الله، قال: فأخذه فلبسه" ومن وجه آخر عن سعيد بن عمرو المذكور أن ذلك جرى لعمرو بن سعيد أخي خالد بن سعيد، وسأذكر لفظه في "باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر؟". قوله: "وكان فصه منه" لا يعارضه ما أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن أنس "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق وكان فصه حبشيا" لأنه إما أن يحمل على التعدد وحينئذ فمعنى قوله حبشي أي كان حجرا من بلاد الحبشة، أو على لون الحبشة، أو كان جزعا أو عقيقا لأن ذلك قد يؤتى به من بلاد الحبشة، ويحتمل أن يكون هو الذي فصه منه ونسب إلى الحبشة لصفة فيه إما الصياغة وإما النقش. قوله: "وقال يحيى بن أيوب الخ" أراد بهذا التعليق بيان سماع حميد له من أنس، وقد تقدم في المواقيت معلقا أيضا، وذكرت من وصله ولله الحمد. وقد اعترضه الإسماعيلي فقال: ليس هذا الحديث من الباب الذي ترجمه في شيء، وأجيب بأنه أشار إلى أنه لا يسمى خاتما إلا إذا كان له فص، فإن كان بلا فص فهو حلقة. قلت: لكن في الطريق الثانية في الباب أن فص الخاتم كان منه، فلعله أراد الرد على من زعم أنه لا يقال له خاتم إلا إذا كان له فص من غيره، ويؤيده أن في رواية خالد بن قيس عن قتادة عن أنس عند مسلم: "فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حلقة من فضة" والذي يظهر لي أنه أشار إلى أن الإجمال في الرواية الأولى محمول على التبيين في الرواية الثانية.

(10/322)


49 - باب خَاتَمِ الْحَدِيدِ
5871- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلاً يَقُولُ:

(10/322)


جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي فَقَامَتْ طَوِيلاً فَنَظَرَ وَصَوَّبَ فَلَمَّا طَالَ مُقَامُهَا فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ قَالَ: " عِنْدَكَ شَيْءٌ تُصْدِقُهَا قَالَ لاَ قَالَ انْظُرْ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ وَاللَّهِ إِنْ وَجَدْتُ شَيْئاً قَالَ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ قَالَ لاَ وَاللَّهِ وَلاَ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ مَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ فَقَالَ أُصْدِقُهَا إِزَارِي. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِزَارُكَ إِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَلَسَ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّياً فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَقَالَ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ سُورَةُ كَذَا وَكَذَا لِسُوَرٍ عَدَّدَهَا قَالَ قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ" .
قوله: "باب خاتم الحديد" قد ذكرت ما ورد فيه في الباب الذي قبله، كأنه لم يثبت عنده شيء من ذلك على شرطه، وفيه دلالة على جواز لبس ما كان على صفته. وأما ما أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه "أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام؟ فطرحه. ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟ فطرحه. فقال: يا رسول الله من أي شيء أتخذه؟ قال: اتخذه من ورق، ولا تتمه مثقالا" وفي سنده أبو طيبة بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة اسمه عبد الله بن مسلم المروزي، قال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ ويخالف، فإن كان محفوظا حمل المنع على ما كان حديدا صرفا. وقد قال التيفاشي في "كتاب الأحجار" خاتم الفولاذ مطردة للشيطان إذا لوي عليه فضة، فهذا يؤيد المغايرة في الحكم. حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة وقوله فيه: "اذهب فالتمس ولو خاتما من حديد" استدل به على جواز لبس خاتم الحديد، ولا حجة فيه لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس، فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته. وقوله: "ولو خاتما" محذوف الجواب لدلالة السياق عليه، فإنه لما أمره بالتماس مهما وجد كأنه خشي أن يتوهم خروج خاتم الحديد لحقارته فأكد دخوله بالجملة المشعرة بدخول ما بعدها فيما قبلها، وقوله في الجواب "فقال لا والله، ولا خاتما من حديد" انتصب على تقدير لم أجد، وقد صرح به في الطريق الأخرى.

(10/323)


50 - باب نَقْشِ الْخَاتَمِ
5872- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى رَهْطٍ أَوْ أُنَاسٍ مِنْ الأَعَاجِمِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُمْ لاَ يَقْبَلُونَ كِتَاباً إِلاَّ عَلَيْهِ خَاتَمٌ فَاتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَكَأَنِّي بِوَبِيصِ أَوْ بِبَصِيصِ الْخَاتَمِ فِي إِصْبَعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي كَفِّهِ".
5873- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ

(10/323)


عَنْهُمَا قَالَ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ وَكَانَ فِي يَدِهِ ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ عُمَرَ ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِي يَدِ عُثْمَانَ حَتَّى وَقَعَ بَعْدُ فِي بِئْرِ أَرِيسَ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ".
قوله: "باب نقش الخاتم" ذكر فيه حديثين: أحدهما عن أنس. قوله: "حدثنا عبد الأعلى" هو ابن حماد وسعيد هو ابن أبي عروبة. قوله: "أراد أن يكتب إلى رهط أو أناس" هو شك من الراوي. قوله: "من الأعاجم" في رواية شعبة عن قتادة كما يأتي بعد باب "إلى الروم". قوله: "فقيل له" في مرسل طاوس عند ابن سعد أن قريشا هم الذين قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قوله: "نقشه محمد رسول الله" زاد ابن سعد من مرسل ابن سيرين "بسم الله محمد رسول الله" ولم يتابع على هذه الزيادة، وقد أورده من مرسل طاوس والحسن البصري وإبراهيم النخعي وسالم بن أبي الجعد وغيرهم ليس فيه الزيادة، وكذا وقع في الباب من حديث ابن عمر، وأما ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه أخرج لهما خاتما فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبسه فيه تمثال أسد قال معمر: فغسله بعض أصحابنا فشربه، ففيه مع إرساله ضعف، لأن ابن عقيل مختلف في الاحتجاج به إذا انفرد فكيف إذا خالف، وعلى تقدير ثبوته فلعله لبسه مرة قبل النهي. قوله: "في إصبع النبي صلى الله عليه وسلم أو في كفه" شك من الراوي، ووقع في رواية شعبة "في يده" وسيأتي من وجه آخر عن أنس في الباب الذي بعده "في خنصره". حديث ابن عمر، وقد تقدم شرحه في "باب خاتم الفضة".

(10/324)


51 - باب الْخَاتَمِ فِي الْخِنْصَرِ
5874- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً قَالَ: "إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَماً وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشاً فَلاَ يَنْقُشَنَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ" قَالَ فَإِنِّي لاَرَى بَرِيقَهُ فِي خِنْصَرِهِ".
قوله: "باب الخاتم في الخنصر" أي دون غيرها من الأصابع، وكأنه أشار إلى ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من طريق أبي بردة بن أبي موسى عن علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ألبس خاتمي في هذه وفي هذه" يعني السبابة والوسطى، وسيأتي بيان أي الخنصرين اليمنى أو اليسرى كان يلبس الخاتم فيه بعد باب. قوله: "فلا ينقش عليه أحد" في رواية الكشميهني وحده "ينقشن" بالنون المؤكدة، وإنما نهى أن ينقش أحد على نقشه لأن فيه اسمه وصفته، وإنما صنع فيه ذلك ليختم به فيكون علامة تختص به وتتميز عن غيره، فلو جاز أن ينقش أحد نظير نقشه لفات المقصود.

(10/324)


52 - باب اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ لِيُخْتَمَ بِهِ الشَّيْءُ أَوْ لِيُكْتَبَ بِهِ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ
5875- حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم، قيل له: إنهم لن يقرأوا كتابك إذا لم يكن مختوما، فاتخذ خاتما من فضة ونقشه محمد رسول الله فكأنما أنظر إلى بياضه في يده".

(10/324)


53 - باب مَنْ جَعَلَ فَصَّ الْخَاتَمِ فِي بَطْنِ كَفِّهِ
5876- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَنَعَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ فِي بَطْنِ كَفِّهِ إِذَا لَبِسَهُ فَاصْطَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ فَرَقِيَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ اصْطَنَعْتُهُ وَإِنِّي لاَ أَلْبَسُهُ فَنَبَذَهُ فَنَبَذَ النَّاسُ" .
قَالَ جُوَيْرِيَةُ: وَلاَ أَحْسِبُهُ إِلاَّ قَالَ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى
قوله: "باب من جعل فص الخاتم في بطن كفه" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر، قال ابن بطال. قيل لمالك يجعل الفص في باطن الكف؟ قال: لا. قال ابن بطال: ليس في كون فص الخاتم في بطن الكف ولا ظهرها

(10/325)


أمر ولا نهي. وقال غيره: السر في ذلك أن جعله في بطن الكف أبعد من أن يظن أنه فعله للتزين به، وقد أخرج أبو داود من حديث ابن عباس جعله في ظاهر الكف كما سأذكره قريبا. قوله: "حدثنا جويرية" هو ابن أسماء، وعبد الله هو ابن عمر. قوله: "اصطنع خاتما من ذهب وجعل" كذا للأكثر، وللمستملي والسرخسي "ويجعل" وقد تقدم شرح الحديث في "باب خاتم الفضة". قوله: "قال جويرية ولا أحسبه إلا قال في يده اليمنى" هو موصول بالإسناد المذكور؛ قال أبو ذر في روايته: لم يقع في البخاري موضع الخاتم من أي اليدين إلا في هذا. وقال الداودي: لم يجزم به جويرية، وتواطؤ الروايات على خلافه يدل على أنه لم يحفظه، وعمل الناس على لبس الخاتم في اليسار يدل على أنه المحفوظ. قلت: وكلامه متعقب فإن الظن فيه من موسى شيخ البخاري، وقد أخرجه ابن سعد عن مسلم بن إبراهيم، وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن عبد الله بن محمد بن أسماء كلاهما عن جويرية وجزما بأنه لبسه في يده اليمنى، وهكذا أخرج مسلم من طريق عقبة بن خالد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر في قصة اتخاذ الخاتم من ذهب وفيه: "وجعله في يده اليمنى" وأخرجه الترمذي وابن سعد من طريق موسى بن عقبة عن نافع بلفظ: "صنع النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب فتختم به في يمينه، ثم جلس على المنبر فقال: إني كنت اتخذت هذا الخاتم في يميني. ثم نبذه" الحديث. وهذا صريح من لفظه صلى الله عليه وسلم رافع للبس. وموسى بن عقبة أحد الثقات الأثبات، وأما ما أخرجه ابن عدي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو داود من طريق عبد العزيز بن أبي رواد كلاهما عن نافع عن ابن عمر "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يساره" فقد قال أبو داود بعده: ورواه ابن إسحاق وأسامة بن زيد عن نافع "في يمينه" انتهى. ورواية ابن إسحاق قد أخرجها أبو الشيخ في "كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من طريقه، وكذا رواية أسامة. وأخرجها محمد بن سعد أيضا. فظهر أن رواية اليسار في حديث نافع شاذة، ومن رواها أيضا أقل عددا وألين ممن روى اليمين، وقد أخرج الطبراني في "الأوسط" بسند حسن عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" وأخرج أبو الشيخ في "كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من رواية خالد بن أبي بكر عن سالم عن ابن عمر نحوه، فرجحت رواية اليمين في حديث ابن عمر أيضا. وقد ورد التختم في اليمين أيضا في أحاديث أخرى: منها عند مسلم من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتما من فضة في يمينه فصه حبشي" وأخرج أبو داود أيضا من طريق ابن إسحاق قال: "رأيت على الصلت بن عبد الله خاتما في خنصره اليمين، فسألته فقال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا وجعل فصه على ظهرها، ولا إخال ابن عباس إلا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم" وأورده الترمذي من هذا الوجه مختصرا "رأيت ابن عباس يتختم في يمينه ولا إخاله إلا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" وللطبراني من وجه آخر عن ابن عباس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" وفي سنده لين. وأخرج الترمذي أيضا من طريق حماد بن سلمة "رأيت ابن أبي رافع يتختم في يمينه وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" ثم نقل عن البخاري أنه أصح شيء روي في هذا الباب. وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي في "الشمائل" وصححه ابن حبان من طريق إبراهيم بن عبد الله ابن حنين عن أبيه عن علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه" وفي الباب عن جابر في "الشمائل" بسند لين، وعائشة عند البزار بسند لين، وعند أبي الشيخ بسند حسن، وعن أبي أمامه عند الطبراني بسند ضعيف، وعن أبي هريرة عند الدار قطني في "غرائب مالك" بسند ساقط. وورد التختم في اليسار من حديث ابن عمر كما تقدم، ومن حديث أنس أيضا أخرجه

(10/326)


مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: "كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر اليسرى". وأخرجه أبو الشيخ والبيهقي في "الشعب" من طريق قتادة عن أنس، ولأبي الشيخ من حديث أبي سعيد بلفظ: "كان يلبس خاتمه في يساره" وفي سنده لين، وأخرجه ابن سعد أيضا. وأخرج البيهقي في الأدب من طريق أبي جعفر الباقر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعلي والحسن والحسين يتختمون في اليسار" وأخرجه الترمذي موقوفا على الحسن والحسين فحسب، وأما دعوى الداودي أن العمل على التختم في اليسار فكأنه توهمه من استحباب مالك للتختم وهو يرجح عمل أهل المدينة فظن أنه عمل أهل المدينة، وفيه نظر، فإنه جاء عن أبي بكر وعمر وجمع جم من الصحابة والتابعين بعدهم من أهل المدينة وغيرهم التختم في اليمنى. وقال البيهقي في الأدب: يجمع بين هذه الأحاديث بأن الذي لبسه في يمينه هو خاتم الذهب كما صرح به في حديث ابن عمر. والذي لبسه في يساره هو خاتم الفضة، وأما رواية الزهري عن أنس التي فيها التصريح بأنه كان فضة ولبسه في يمينه فكأنها خطأ، فقد تقدم أن الزهري وقع له وهم في الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه وقع في روايته أنه الذي كان من فضة، وأن الذي في رواية غيره أنه الذي كان من ذهب، فعلى هذا فالذي كان لبسه في يمينه هو الذهب اهـ ملخصا. وجمع غيره بأنه لبس الخاتم أولا في يمينه ثم حوله إلى يساره، واستدل له بما أخرجه أبو الشيخ وابن عدي من رواية عبد الله بن عطاء عن نافع عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم تختم في يمينه، ثم أنه حوله في يساره" فلو صح هذا لكان قاطعا للنزاع، ولكن سنده ضعيف. وأخرج ابن سعد من طريق جعفر بن محمد عن أبيه قال: "طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه الذهب ثم تختم خاتما من ورق فجعله في يساره" وهذا مرسل أو معضل، وقد جمع البغوي في "شرح السنة" بذلك وأنه تختم أولا في يمينه ثم تختم في يساره وكان ذلك آخر الأمرين. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك فقال: لا يثبت هذا ولا هذا، ولكن في يمينه أكثر، وقد تقدم قول البخاري أن حديث عبد الله بن جعفر أصح شيء ورد فيه وصرح فيه بالتختم في اليمين، وفي المسألة عند الشافعية اختلاف والأصح اليمين. قلت: ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللبس للتزين به فاليمين أفضل، وإن كان للتختم به فاليسار أولى لأنه كالمودع فيها، ويحصل يناوله منها باليمين وكذا وضعه فيها، ويترجح التختم قي اليمين مطلقا لأن اليسار آلة الاستنجاء فيصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة، ويترجح التختم في اليسار بما أشرت إليه من التناول. وجنحت طائفة إلى استواء الأمرين وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث، وإلى ذلك أشار أبو داود حيث ترجم "باب التختم في اليمين واليسار" ثم أورد الأحاديث مع اختلافها في ذلك بغير ترجيح، ونقل النووي وغيره الإجماع على الجواز ثم قال: ولا كراهة فيه - يعني عند الشافعية - وإنما الاختلاف في الأفضل. وقال البغوي: كان آخر الأمرين التختم في اليسار. وتعقبه الطبري بأن ظاهره النسخ، وليس ذلك مراده بل الإخبار بالواقع اتفاقا، والذي يظهر أن الحكمة فيه ما تقدم، والله أعلم.

(10/327)


54 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَنْقُشُ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِهِ
5877- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ

(10/327)


وَنَقَشْتُ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَلاَ يَنْقُشَنَّ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ" .
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقش" بضم أوله "على نقش خاتمه" ذكر فيه حديث أنس من رواية عبد العزيز بن صهيب عنه في اتخاذ الخاتم من فضة وفيه: "فلا ينقش أحد على نقشه". حديث أنس من رواية عبد العزيز بن صهيب عنه في اتخاذ الخاتم من فضة وفيه: "فلا ينقش أحد على نقشه" وقوله فيه: "إنا اتخذنا" بصيغة الجمع وهي للتعظيم هنا، والمراد أني اتخذت. وأخرج الترمذي من طريق معمر عن ثابت عن أنس نحوه وقال فيه: "ثم قال لا تنقشوا عليه" وأخرج الدار قطني في "الأفراد" من طريق سلمة بن وهرام عن عكرمة عن يعلى بن أمية قال: "أنا صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم خاتما لم يشركني فيه أحد، نقش فيه محمد رسول الله" فيستفاد منه اسم الذي صاغ خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ونقشه. وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن ينقش أحد على نقشه أي مثل نقشه فقد تقدمت الإشارة إلى الحكمة فيه في "باب خاتم الفضة" وقد أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" عن ابن عمر أنه نقش على خاتمه عبد الله بن عمر، وكذا أخرج عن سالم عن عبد الله بن عمر أنه نقش اسمه على خاتمه، وكذا القاسم بن محمد، قال ابن بطال: وكان مالك يقول: من شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم في خواتمهم. وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة وأبي عبيدة أنه كان نقش خاتم كل واحد منهما "الحمد لله" وعن علي "الله الملك" وعن إبراهيم النخعي "بالله" وعن مسروق "بسم الله" وعن أبي جعفر الباقر "العزة لله" وعن الحسن والحسين لا بأس بنقش ذكر الله على الخاتم، قال النووي: وهو قول الجمهور، ونقل عن ابن سيرين وبعض أهل العلم كراهته. انتهى. وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن سيرين أنه لم يكن يرى بأسا أن يكتب الرجل في خاتمه "حسبي الله" ونحوها، فهذا يدل على أن الكراهة عنه لم تثبت، ويمكن الجمع بأن الكراهة حيث يخاف عليه حمله للجنب والحائض والاستنجاء بالكف التي هو فيها، والجواز حيث حصل الأمن من ذلك، فلا تكون الكراهة لذلك بل من جهة ما يعرض لذلك، والله أعلم.

(10/328)


55 - باب هَلْ يُجْعَلُ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاَثَةَ أَسْطُرٍ
5878- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اسْتُخْلِفَ كَتَبَ لَهُ وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاَثَةَ أَسْطُرٍ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ وَاللَّهِ سَطْرٌ".
5879- قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَزَادَنِي أَحْمَدُ حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ وَفِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَهُ وَفِي يَدِ عُمَرَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسَ قَالَ فَأَخْرَجَ الْخَاتَمَ فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ قَالَ فَاخْتَلَفْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مَعَ عُثْمَانَ فَنَزَحَ الْبِئْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ".
قوله: "باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر" قال ابن بطال: ليس كون نقش الخاتم ثلاثة أسطر أو سطرين أفضل من كونه سطرا واحدا، كذا قال. قلت: قد يظهر أثر الخلاف من أنه إذا كان سطرا واحدا يكون الفص مستطيلا لضرورة كثرة الأحرف، فإذا تعددت الأسطر أمكن كونه مربعا أو مستديرا، وكل منهما أولى من المستطيل. قوله: "حدثني أبي" هو عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس. قوله: "عن ثمامة" هو ابن عبد الله بن أنس عم عبد الله بن المثنى الراوي، والسند كله بصريون من آل أنس. قوله: "عن أنس" في رواية الإسماعيلي من

(10/328)


طريق علي بن المديني عن محمد بن عبد الله الأنصاري "حدثني أبي حدثنا ثمامة حدثني أنس". قوله: "أن أبا بكر رضي الله عنه لما استخلف كتب له" لم يذكر المكتوب وقد تقدمت الإشارة إليه في كتاب الزكاة وأنه كتب له مقادير الزكاة. قوله: "وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر محمد سطر ورسول سطر والله سطر" هذا ظاهره أنه لم يكن فيه زيادة على ذلك، لكن أخرج أبو الشيخ قي "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من رواية عرعرة بن البرند بكسر الموحدة والراء بعدها نون ساكنة ثم دال عن عزرة بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها راء ابن ثابت عن ثمامة عن أنس قال: "كان فص خاتم النبي صلى الله عليه وسلم حبشيا مكتوبا عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله" وعرعرة ضعفه ابن المديني، وزيادته هذه شاذة، وظاهره أيضا أنه كان على هذا الترتيب، لكن لم تكن كتابته على السياق العادي فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به يقتضي أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويا. وأما قول بعض الشيوخ أن كتابته كانت من أسفل إلى فوق يعني أن الجلالة في أعلى الأسطر الثلاثة ومحمد في أسفلها فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك، فإنه قال فيها "محمد سطر والسطر الثاني رسول والسطر الثالث الله" ولك أن تقرأ محمد بالتنوين وعدمه والله بالرفع وبالجر. قوله: "وزادني أحمد حدثنا الأنصاري إلى آخره" هذه الزيادة موصولة، وأحمد المذكور جزم المزي في "الأطراف" أنه أحمد بن حنبل، لكن لم أر هذا الحديث في "مسند أحمد" من هذا الوجه أصلا. قوله: "وفي يد عمر بعد أبي بكر، فلما كان عثمان جلس على بئر أريس" وقع في رواية ابن سعد عن الأنصاري "ثم كان في يد عثمان ست سنين، فلما كان في الست الباقية كنا معه على بئر أريس". قوله: "فجعل يعبث به" في رواية ابن سعد "فجعل يحوله في يده". قوله: "فسقط" في رواية ابن سعد "فوقع في البئر". قوله: "فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان فنزح البئر فلم نجده" أي في الذهاب والرجوع والنزول إلى البئر والطلوع منها، ووقع في رواية ابن سعد "فطلبناه مع عثمان ثلاثة أيام فلم نقدر عليه" قال بعض العلماء: كان في خاتمه صلى الله عليه وسلم من السر شيء مما كان في خاتم سليمان عليه السلام، لأن سليمان لما فقد خاتمه ذهب ملكه، وعثمان لما فقد خاتم النبي صلى الله عليه وسلم انتقض عليه الأمر وخرج عليه الخارجون وكان ذلك مبدأ الفتنة التي أفضت إلى قتله واتصلت إلى آخر الزمان. قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث أن يسير المال إذا ضاع يجب البحث في طلبه والاجتهاد في تفتيشه، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك لما ضاع عقد عائشة وحبس الجيش على طلبه حتى وجد، كذا قال، وفيه نظر، فأما عقد عائشة فقد ظهر أثر ذلك بالفائدة العظيمة التي نشأت عنه وهي رخصة التيمم فكيف يقاس عليه غيره؟ وأما فعل عثمان فلا ينهض الاحتجاج به أصلا لما ذكر، لأن الذي يظهر أنه إنما بالغ في التفتيش عليه لكونه أثر النبي صلى الله عليه وسلم قد لبسه واستعمله وختم به، ومثل ذلك يساوي في العادة قدرا عظيما من المال، وإلا لو كان غير خاتم النبي صلى الله عليه وسلم لاكتفي بطلبه بدون ذلك، وبالضرورة يعلم أن قدر المؤنة التي حصلت في الأيام الثلاثة تزيد على قيمة الخاتم لكن اقتضت صفته عظيم قدره فلا يقاس عليه كل ما ضاع من يسير المال، قال: وفيه أن من فعل الصالحين العبث بخواتيمهم وما يكون بأيديهم وليس ذلك بعائب لهم، قلت: وإنما كان كذلك لأن من مثلهم إنما ينشأ عن فكر، وفكرتهم إنما هي في الخير. قال الكرماني: معني قوله: "يعبث به" يحركه أو يخرجه من إصبعه ثم يدخله فيها وذلك صورة العبث، وإنما يفعل الشخص ذلك عند تفكره في الأمور. قال ابن بطال: وفيه أن من طلب شيئا ولم ينجح فيه بعد ثلاثة أيام أن له أن يتركه، ولا يكون بعد الثلاث مضيعا، وأن الثلاث حد يقع بها العذر في

(10/329)


تعذر المطلوبات. وفيه استعمال آثار الصالحين ولباس ملابسهم على جهة التبرك والتيمن بها.

(10/330)


باب الخاتم للنساء وكان على عائشة خواتيم الذهب
...
56 - باب الْخَاتَمِ لِلنِّسَاءِ. وَكَانَ عَلَى عَائِشَةَ خَوَاتِيمُ ذَهَبٍ
5880- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَزَادَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ "فَأَتَى النِّسَاءَ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ".
قوله: "باب الخاتم للنساء" قال ابن بطال: الخاتم للنساء من جملة الحلي الذي أبيح لهن. قوله: "وكان على عائشة خواتيم الذهب" وصله ابن سعد من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب قال: "سألت القاسم بن محمد فقال: لقد رأيت والله عائشة تلبس المعصفر وتلبس خواتيم الذهب". قوله: "طاوس عن ابن عباس شهدت العيد من النبي صلى الله عليه وسلم فصلى قبل الخطبة" سقط لفظ: "فصلى" من رواية المستملي والسرخسي. وهي مرادة ثابتة في أصل الحديث؛ فإنه طرف من حديث تقدم في صلاة العيد من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج بسنده هنا. قوله: "وزاد ابن وهب عن ابن جريج" يعني بهذا السند إلى ابن عباس، وقد تقدم بالزيادة موصولا في تفسير سورة الممتحنة من رواية هارون بن معروف عن ابن وهب. قوله: "فأتى النساء فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم" الفتخ بفتح الفاء ومثناة فوق بعدها خاء معجمة جمع فتخة وهي الخواتيم التي تلبسها النساء في أصابع الرجلين قاله ابن السكيت وغيره، وقيل الخواتيم التي لا فصوص لها، وقيل الخواتم الكبار كما تقدم ذلك من تفسير عبد الرزاق في كتاب العيدين مع بسط ذلك.

(10/330)


57 - باب الْقَلاَئِدِ وَالسِّخَابِ لِلنِّسَاءِ يَعْنِي قِلاَدَةً مِنْ طِيبٍ وَسُكٍّ
5881- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تَصَدَّقُ بِخُرْصِهَا وَسِخَابِهَا".
قوله: "باب القلائد والسخاب للنساء" السخاب بكسر المهملة وتخفيف الخاء المعجمة وبعد الألف موحدة. قوله: "يعني قلادة من طيب وسك" بضم المهملة وتشديد الكاف. وفي رواية الكشميهني: "ومسك" بكسر الميم وسكون المهملة وكاف خفيفة، والسخاب جمع سخب بضمتين، وقد تقدم بيان ما فسره به غيره في "باب ما ذكر في الأسواق" من كتاب البيوع. حديث ابن عباس من رواية سعيد بن جبير عنه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم - وفيه - فجعلت المرأة تلقي سخابها وخرصها" بضم الخاء المعجمة وسكون الراء ثم صاد مهملة، هي الحلقة الصغيرة من ذهب أو فضة، وقد تقدم تفسيره في "باب الخطبة بعد العيد" من كتاب العيدين.

(10/330)


58 - باب اسْتِعَارَةِ الْقَلاَئِدِ
5882- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(10/330)


59 - باب الْقُرْطِ لِلنِّسَاءِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ
5883- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيداً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي قُرْطَهَا".
قوله: "باب القرط للنساء" بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة: ما يحلى به الأذن ذهبا كان أو فضة صرفا أو مع لؤلؤ وغيره ويعلق غالبا على شحمتها. قوله: "وقال ابن عباس: أمرهن النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن" هذا طرف من حديث وصله المؤلف رحمه الله في العيدين وفي الاعتصام وغيرهما من طريق عبد الرحمن بن عابس عن ابن عباس، فأما في الاعتصام فقال في رواية: "فجعل النساء يشرن إلى آذانهن وحلوقهن" وقال في العيدين "فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال" أخرجه قبيل كتاب الجمعة من هذا الوجه بلفظ: "فجعلت المرأة تهوي بيدها إلى حلقها تلقي في ثوب بلال" ومعنى الإهواء الإيماء باليد إلى الشيء ليؤخذ، وقد ظهر أنه في الآذان إشارة إلى الحلق، وأما في الحلوق فالذي يظهر أن المراد القلائد فإنها توضع في العنق وإن كان محلها إذا تدلت الصدر، واستدل به على جواز ثقب أذن المرأة لتجعل فيها القرط وغيره مما يجوز لهن التزين به، وفيه نظر لأنه لم يتعين وضع القرط في ثقبة الأذن، بل يجوز أن يشبك في الرأس بسلسلة لطيفة حتى تحاذي الأذن وتنزل عنها، سلمنا لكن إنما يؤخذ من ترك إنكاره عليهن، ويجوز أن تكون آذانهن ثقبت قبل مجيء الشرع فيغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، ونحوه قول أم زرع "أناس من حلي أذني" ولا حجة فيه لما ذكرنا. وقال ابن القيم: كره الجمهور ثقب أذن الصبي ورخص بعضهم في الأنثى. قلت: وجاء الجواز في الأنثى عن أحمد للزينة، والكراهة للصبي. قال الغزالي في "الإحياء" يحرم ثقب أذن المرأة ويحرم الاستئجار عليه إلا إن ثبت فيه شيء من جهة الشرع. قلت: جاء عن ابن عباس فيما أخرجه الطبراني في "الأوسط": سبعة في الصبي من السنة فذكر السابع منها وثقب أذنه، وهو يستدرك على قول بعض الشارحين: لا مستند لأصحابنا في قولهم إنه سنة. قوله: "أخبرني

(10/331)


عدي" هو ابن ثابت، وقد تقدم قبل بابين من طريق شعبة أيضا بهذا الإسناد بلفظ: "خرصها" بدل قرطها.

(10/332)


60 - باب السِّخَابِ لِلصِّبْيَانِ
5884- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ فَانْصَرَفَ فَانْصَرَفْتُ فَقَالَ: أَيْنَ لُكَعُ ثَلاَثاً ادْعُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَقَامَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَمْشِي وَفِي عُنُقِهِ السِّخَابُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بِيَدِهِ هَكَذَا فَقَالَ الْحَسَنُ بِيَدِهِ هَكَذَا فَالْتَزَمَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ" وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ.
قوله: "باب السخاب للصبيان" تقدم بيان السخاب. حديث أبي هريرة تقدم شرحه في "باب ما ذكر في الأسواق" من كتاب البيوع مستوفى، وقوله فيه: "أين لكع؟" في رواية المستملي والسرخسي "أي لكع" بصيغة النداء.

(10/332)


61 - باب الْمُتَشَبِّهُونَ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتُ بِالرِّجَالِ
5885- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ" تَابَعَهُ عَمْرٌو أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ.
[الحديث 5885 – طرفاه في: 5886، 6534]
قوله: "باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال" أي ذم الفريقين، ويدل على ذلك اللعن المذكور في الخبر. قوله: "حدثنا محمد بن جعفر" كذا لأبي ذر، ولغيره: "حدثنا غندر" وهو هو. قوله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين" قال الطبري: المعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس. قلت: وكذا في الكلام والمشي، فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد، فرب قوم لا يفترق زي نسائهم من رجالهم في اللبس، لكن يمتاز النساء باحتجاب والاستتار، وأما ذم التشبه بالكلام والمشي فمختص بمن تعمد ذلك، وأما من كان ذلك من أصل خلقته فإنما يؤمر بتكلف تركه والإدمان على ذلك بالتدريج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذم، ولا سيما إن بدا منه ما يدل على الرضا به، وأخذ هذا واضح من لفظ المتشبهين. وأما إطلاق من أطلق كالنووي وأن المخنث الخلقي لا يتجه عليه اللوم فمحمول على ما إذا لم يقدر على ترك التثني والتكسر في المشي والكلام بعد تعاطيه المعالجة لترك ذلك، وإلا متى كان ترك ذلك ممكنا ولو بالتدريج فتركه بغير عذر لحقه اللوم، واستدل لذلك الطبري بكونه صلى الله عليه وسلم لم يمنع المخنث من الدخول على النساء حتى سمع منه التدقيق في وصف المرأة كما في

(10/332)


62 - باب إِخْرَاجِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنْ الْبُيُوتِ
5886- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلاَتِ مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ. قَالَ: فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُلاَناً، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلاَناً".
5887- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا وَفِي الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ غَداً الطَّائِفَ فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلاَنَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَدْخُلَنَّ هَؤُلاَءِ عَلَيْكُنَّ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ يَعْنِي أَرْبَعَ عُكَنِ بَطْنِهَا فَهِيَ تُقْبِلُ بِهِنَّ وَقَوْلُهُ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ يَعْنِي أَطْرَافَ هَذِهِ الْعُكَنِ الأَرْبَعِ لِأَنَّهَا مُحِيطَةٌ بِالْجَنْبَيْنِ حَتَّى لَحِقَتْ وَإِنَّمَا قَالَ بِثَمَانٍ وَلَمْ يَقُلْ بِثَمَانِيَةٍ وَوَاحِدُ الأَطْرَافِ وَهُوَ ذَكَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ثَمَانِيَةَ أَطْرَافٍ".
قوله: "باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت" كذا للأكثر، وللنسفي "باب إخراجهم" وكذا عند الإسماعيلي وأبي نعيم. قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي "عن يحيى" هو ابن أبي كثير، وأخرجه أبو داود

(10/333)


الطيالسي في مسنده عن شعبة وهشام جميعا عن قتادة عن عكرمة، وكأن أبا داود حمل رواية هشام على رواية شعبة فإن رواية شعبة عن قتادة هي باللفظ المذكور في الباب الذي قبله، ورواية هشام عن يحيى هي بهذا اللفظ الذي في هذا الباب، وقد أخرجه المصنف وأبو داود في "السنن" كلاهما عن مسلم بن إبراهيم، وأخرجه أحمد عن إسماعيل بن علية ويحيى القطان ويزيد بن هارون كلهم عن هشام عن يحيى بن أبي كثير. قوله: "المخنثين من الرجال" تأتي الإشارة إلى ضبطه عقب هذا. قوله: "والمترجلات من النساء" زاد أبو داود من طريق يزيد بن أبي زياد عن عكرمة "فقلت له ما المترجلات من النساء؟ قال: المتشبهات بالرجال". قوله: "فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانا وأخرج عمر فلانة" كذا في رواية أبي ذر "فلانة" بالتأنيث وكذا وقع في "شرح ابن بطال" وللباقين "فلانا" بالتذكير، وكذا عند أحمد. وقد أخرج الطبراني وتمام الرازي في فوائده من حديث واثلة مثل حديث ابن عباس هذا بتمامه وقال فيه: "وأخرج النبي صلى الله عليه وسلم أنجشة. وأخرج عمر فلانا" وأنجشة هو العبد الأسود الذي كان يحدو بالنساء، وسيأتي خبره في ذلك في كتاب الأدب، وقد تقدم ذكر أسامي من كان في العهد النبوي من المخنثين، ولم أقف في شيء من الروايات على تسمية الذي أخرجه عمر، إلى أن ظفرت بكتاب لأبي الحسن المدايني سماه "كتاب المغربين" بمعجمة وراء مفتوحة ثقيلة، فوجدت فيه عدة قصص لمن غربهم عمر عن المدينة، وسأذكر ذلك في كتاب أواخر الحدود إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا زهير" هو ابن معاوية: الجعفي. قوله: "وفي البيت مخنث" تقدم ضبطه وتسميته في أواخر كتاب النكاح، وشرح الحديث مستوفى، وبيان ما وقع هنا من كلام البخاري من شرح قوله: "تقبل بأربع وتدبر بثمان" وقوله في آخر الحديث: "لا يدخلن" بضم أوله وتشديد النون "هؤلاء عليكن" كذا للأكثر وهو الوجه. وفي رواية المستملي والسرخسي "عليكم" بصيغة جمع المذكر، ويوجه بأنه جمع مع النساء المخاطبات بذلك من يلوذ بهن من صبي ووصيف، فجاء التغليب. وقد تفتح التحتانية أوله مخففا ومثقلا. وفي هذه الأحاديث مشروعية إخراج كل من يحصل به التأذي للناس عن مكانه إلى أن يرجع عن ذلك أو يتوب.

(10/334)


63 - باب قَصِّ الشَّارِبِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحْفِي شَارِبَهُ حَتَّى يُنْظَرَ إِلَى بَيَاضِ الْجِلْدِ وَيَأْخُذُ هَذَيْنِ يَعْنِي بَيْنَ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ
5888- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ نَافِعٍ ح قَالَ أَصْحَابُنَا عَنْ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ" .
[الحديث 5888 – طرفه في: 5890]
5889- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً " الْفِطْرَةُ خَمْسٌ أَوْ خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ" .
[الحديث 5889 – طرفاه في: 5891، 6297]
قوله: "باب قص الشارب" هذه الترجمة وما بعدها إلى آخر كتاب اللباس لها تعلق باللباس من جهة الاشتراك في الزينة، فذكر أولا التراجم المتعلقة بالشعور وما شاكلها، وثانيا المتعلقة بالتطيب، وثالثا المتعلقة بتحسين الصورة

(10/334)


ورابعا المتعلقة بالتصاوير لأنها قد تكون في الثياب، وختم بما يتعلق بالارتداف وتعلقه به خفي وتعلقه بكتاب الأدب الذي يليه ظاهر والله أعلم. وأصل القص تتبع الأثر، وقيده ابن سيده في "المحكم" بالليل، والقص أيضا إيراد الخبر تاما على من لم يحضره، ويطلق أيضا على قطع شيء من شيء بآلة مخصوصة، والمراد به هنا الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال، وكذا قص الظفر أخذ أعلاه من غير استئصال. قوله: "وكان ابن عمر" كذا لأبي ذر والنسفي وهو المعتمد، ووقع للباقين "وكان عمر" - قلت: وهو خطأ فإن المعروف عن عمر أنه كان يوفر شاربه. قوله: "يحفي شاربه" بالحاء المهملة والفاء ثلاثيا ورباعيا من الإحفاء أو الحفو والمراد الإزالة. قوله: "حتى يرى بياض الجلد" وصله أبو بكر الأثرم من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: "رأيت ابن عمر يحفي شاربه حتى لا يترك منه شيئا". وأخرج الطبري من طريق عبد الله بن أبي عثمان "رأيت ابن عمر يأخذ من شاربه أعلاه وأسفله" وهذا يرد تأويل من تأول في أثر ابن عمر أن المراد به إزالة ما على طرف الشفة فقط. قوله: "ويأخذ هذين يعني بين الشارب واللحية" كذا وقع في التفسير في الأصل، وقد ذكره رزين في جامعه من طريق نافع عن ابن عمر جازما بالتفسير المذكور. وأخرج البيهقي نحوه، وقوله: "بين" كذا للجميع إلا أن عياضا ذكر أن محمد بن أبي صفرة رواه بلفظ: "من" التي للتبعيض، والأول هو المعتمد. قوله: "حدثنا المكي بن إبراهيم عن حنظلة عن نافع. قال أصحابنا عن المكي: عن ابن عمر" كذا للجميع، والمعنى أن شيخه مكي بن إبراهيم حدثه به عن حنظلة وهو ابن أبي سفيان الجمحي عن نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا لم يذكر ابن عمر في السند، وحدث به غير البخاري عن مكي موصولا بذكر ابن عمر فيه وهو المراد بقول البخاري "قال أصحابنا" هذا هو المعتمد وبهذا جزم شيخنا ابن الملقن رحمه الله لكن قال: ظهر لي أنه موقوف على نافع في هذه الطريق، وتلقى ذلك من الحميدي فإنه جزم بذلك في "الجمع" وهو محتمل وأما الكرماني فزعم أن الرواية الثانية منقطعة لم يذكر فيها بين مكي وابن عمر أحدا فقال: المعنى أن البخاري قال: روى أصحابنا الحديث منقطعا فقالوا حدثنا مكي عن ابن عمر فطرحوا ذكر الراوي الذي بينهما، كذا قال، وهو وإن كان ظاهر ما أورد البخاري لكن تبين من كلام الأئمة أنه موصول بين مكي وابن عمر. وقال الزركشي: هذا الموضع مما يجب أن يعتني به الناظر، وهو ماذا الذي أراد بقوله: "قال أصحابنا عن المكي عن ابن عمر" فيحتمل أنه رواه مرة عن شيخه مكي عن نافع مرسلا ومرة عن أصحابه مرفوعا عن ابن عمر، ويحتمل أن بعضهم نسب الراوي عن ابن عمر إلى أنه المكي اهـ. وهذا الثاني هو الذي جزم به الكرماني، وهو مردود، ثم قال الزركشي: ويشهد للأول أن البخاري ربما روى عن المكي بالواسطة كما تقدم في البيوع، ووقع له في كتابه نظائر لذلك، منها ما سيأتي قريبا في "باب الجعد" حيث قال: "حدثنا مالك بن إسماعيل" فذكر حديثا ثم قال في آخره: "قال بعض أصحابي عن مالك بن إسماعيل" فذكر زيادة في المتن، ونظيره في الاستئذان في "باب قوله قوموا إلى سيدكم". قلت: وهو قوله: "حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة" فذكر حديثا وقال في آخره: "أفهمني بعض أصحابي عن أبي الوليد" فذكر كلمة في المتن. وقريب منه ما سبق في المناقب في ذكر أسامة بن زيد حيث قال: "حدثنا سليمان بن عبد الرحمن" فذكر حديثا وقال في آخره: "حدثني بعض أصحابنا عن سليمان" فذكر زيادة في المتن أيضا. قلت: والفرق بين هذه المواضع وبين حديث الباب أن الاختلاف في الباب وقع في الوصل والإرسال، والاختلاف في غيره وقع بالزيادة في المتن، لكن اشترك الجميع في مطلق الاختلاف، والله أعلم. وقد أورد البخاري الحديث

(10/335)


المذكور في الباب الذي يليه من طريق إسحاق بن سليمان عن حنظلة موصولا مرفوعا، لكنه نزل فيه درجة، وطريق مكي وقعت لنا في "مسند ابن عمر" لأبي أمية الطرسوسي قال: "حدثنا مكي بن إبراهيم" فذكره موصولا مرفوعا وزاد فيه بعد قوله قص الشارب والظفر "وحلق العانة"، وكذا أخرجه البيهقي في "الشعب" من وجه آخر عن مكي. قلت: وهذا الحديث أغفله المزي في "الأطراف" فلم يذكره في ترجمة حنظلة عن نافع عن ابن عمر لا من طريق مكي ولا من طريق إسحاق بن سليمان، ثم بعد أن كتب هذا ذكر لي محدث حلب الشيخ برهان الدين الحلبي أن شيخنا البلقيني قال له: القائل "قال أصحابنا" هو البخاري، والمراد بالمكي حنظلة بن أبي سفيان الجمحي فإنه مكي، قال: والسندان متصلان، وموضع الاختلاف بيان أن مكي بن إبراهيم لما حدث به البخاري سمي حنظلة، وأما أصحاب البخاري فلما رووه له عن حنظلة لم يسموه بل قالوا: "عن المكي" قال فالسند الأول مكي عن حنظلة عن نافع عن ابن عمر، والثاني أصحابنا عن المكي عن نافع عن ابن عمر، ثم قال: وفي فهم ذلك صعوبة، وكأنه كان يتبجح بذلك، ولقد صدق فيما ذكر من الصعوبة ومقتضاه أن يكون عند البخاري جماعة لقوا حنظلة وليس كذلك، فإن الذي سمع من حنظلة هذا الحديث لا يحدث البخاري عنه إلا بواسطة وهو إسحاق بن سليمان الرازي، وكانت وفاته قبل طلب البخاري الحديث، قال ابن سعد مات سنة تسع وتسعين ومائة. وقال ابن نافع وابن حبان مات سنة مائتين، وقد أفصح أبو مسعود في "الأطراف" بالمراد فقال في ترجمة حنظلة عن نافع عن ابن عمر حديث: "من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظافر وقص الشارب" خ في اللباس "عن أحمد بن أبي رجاء عن إسحاق بن سليمان عن حنظلة عن نافع عن ابن عمر، وعن مكي بن إبراهيم عن حنظلة عن نافع" قال: "وقال أصحابنا عن مكي عن حنظلة عن نافع عن ابن عمر " فصرح بأن مراد البخاري بقوله عن المكي المكي بن إبراهيم وأن مراده بقوله عن ابن عمر بالسند المذكور وهو عن حنظلة عن نافع عنه. والحاصل أنه كما قدمته أن مكي بن إبراهيم لما حدث به البخاري أرسله، ولما حدث به غير البخاري وصله، فحكى البخاري ذلك ثم ساقه موصولا من طريق إسحاق بن سليمان. قوله: "حدثنا علي" هو ابن المديني وبذلك جزم المزي. قوله: "الزهري حدثنا" هو من تقديم الراوي على الصيغة وهو سائغ، وقد رواه الحميدي عن سفيان قال: سمعت الزهري أخرجه أبو عوانة وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريقه، ورواه أحمد عن سفيان عن الزهري بالعنعنة، وكذا أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغير واحد، وأبو داود عن مسدد كلهم عن سفيان. قوله: "عن أبي هريرة رواية" هي كناية عن قول الراوي: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو نحوها"، وقد وقع في رواية مسدد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أحمد في روايته أن سفيان كان تارة يكني وتارة يصرح، وقد تقرر في علوم الحديث أن قول الراوي رواية أو يرويه أو يبلغ به ونحو ذلك محمول على الرفع، وسيأتي في الباب الذي يليه من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري زيادة أبي سلمة مع سعيد بن المسيب في السند أخرجه أبو الشيخ. قوله: "الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة" كذا وقع هنا، ولمسلم وأبي داود بالشك وهو من سفيان. ووقع في رواية أحمد "خمس من الفطرة" ولم يشك، وكذا وقع هنا في رواية معمر عن الزهري عند الترمذي والنسائي، ووقع في رواية إبراهيم بن سعد بالعكس كما في الباب الذي يليه بلفظ: "الفطرة خمس" وكذا في رواية يونس بن يزيد عن الزهري عند مسلم والنسائي، وهي محمولة على الأولى، قال ابن دقيق العيد:

(10/336)


دلالة "من" على التبعيض فيه أظهر من دلالة هذه الرواية على الحصر، وقد ثبت في أحاديث أخرى زيادة على ذلك فدل على أن الحصر فيها غير مراد. واختلف في النكتة في الإتيان بهذه الصيغة، فقيل برفع الدلالة وأن مفهوم العدد ليس بحجة، وقيل بل كان أعلم أولا بالخمس ثم أعلم بالزيادة، وقيل بل الاختلاف في ذلك بحسب المقام فذكر في كل موضع اللائق بالمخاطبين، وقيل أريد بالحصر المبالغة لتأكيد أمر الخمس المذكورة كما حمل عليه قوله: "الدين النصيحة" و"الحج عرفة" ونحو ذلك. ويدل على التأكيد ما أخرجه الترمذي والنسائي من حديث زيد بن أرقم مرفوعا: "من لم يؤخذ شاربه فليس منا" وسنده قوي. وأخرج أحمد من طريق يزيد ابن عمرو المعافري نحوه وزاد فيه: حلق العانة وتقليم الأظافر، وسيأتي في الكلام على الختان دليل من قال بوجوبه. وذكر ابن العربي أن خصال الفطرة تبلغ ثلاثين خصلة، فإذا أراد خصوص ما ورد لفظ الفطرة فليس كذلك، وإن أراد أعم من ذلك فلا تنحصر في الثلاثين بل تزيد كثيرا، وأقل ما ورد في خصال الفطرة حديث ابن عمر المذكور قبل فإنه لم يذكر فيه إلا ثلاثا، وسيأتي في الباب الذي يليه أنه ورد بلفظ الفطرة وبلفظ: "من الفطرة" وأخرج الإسماعيلي في رواية له بلفظ: "ثلاث من الفطرة" وأخرجه في رواية أخرى بلفظ: "من الفطرة" فذكر الثلاث وزاد الختان؛ ولمسلم من حديث عائشة "عشر من الفطرة" فذكر الخمسة التي في حديث أبي هريرة إلا الختان وزاد: إعفاء اللحية والسواك والمضمضة والاستنشاق وغسل البراجم والاستنجاء، أخرجه من رواية مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عنها، لكن قال في آخره إن الراوي نسي العاشرة إلا أن تكون المضمضة، وقد أخرجه أبو عوانة في مستخرجه بلفظ: "عشرة من السنة" وذكر الاستنثار بدل الاستنشاق. وأخرج النسائي من طريق سليمان التيمي قال: "سمعت طلق بن حبيب يذكر عشرة من الفطرة" فذكر مثله إلا أنه قال: "وشككت في المضمضة" وأخرجه أيضا من طريق أبي بشر عن طلق قال: "من السنة عشر" فذكر مثله إلا أنه ذكر الختان بدل غسل البراجم، ورجح النسائي الرواية المقطوعة على الموصولة المرفوعة. والذي يظهر لي أنها ليست بعلة قادحة، فإن راويها مصعب بن شيبة وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما ولينه أحمد وأبو حاتم وغيرهما فحديثه حسن، وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ، وقول سليمان التيمي "سمعت طلق بن حبيب يذكر عشرا من الفطرة" يحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها من قبل نفسه على ظاهر ما فهمه النسائي، ويحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها وسندها فحذف سليمان السند. وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمار بن ياسر مرفوعا نحو حديث عائشة قال: "من الفطرة المضمضة والاستنشاق والسواك وغسل البراجم والانتضاح" وذكر الخمس التي في حديث أبي هريرة ساقه ابن ماجه. وأما أبو داود فأحال به على حديث عائشة ثم قال: "وروي نحوه عن ابن عباس" وقال: خمس في الرأس وذكر منها الفرق ولم يذكر إعفاء اللحية. قلت: كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره والطبري من طريقه بسند صحيح عن طاوس عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال: ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد. قلت: فذكر مثل حديث عائشة كما في الرواية التي قدمتها عن أبي عوانة سواء ولم يشك في المضمضة، وذكر أيضا الفرق بدل إعفاء اللحية وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس فذكر غسل الجمعة بدل الاستنجاء؛ فصار مجموع الخصال التي وردت في هذه الأحاديث خمس عشرة خصلة اقتصر أبو شامة في "كتاب السواك وما أشبه ذلك" منها على اثني عشر، وزاد النووي واحدة في "شرح مسلم" وقد رأيت قبل

(10/337)


الخوض في شرح الخمس الواردة في الحديث المتفق عليه أن أشير إلى شرح العشر الزائدة عليها: فأما الوضوء والاستنشاق والاستنثار والاستنجاء والسواك وغسل الجمعة فتقدم شرحها في كتاب الطهارة، وأما إعفاء اللحية فيأتي في الباب الذي يليه، وأما الفرق فيأتي بعد أبواب، وأما غسل البراجم فهو بالموحدة والجيم جمع برجمة بضمتين وهي عقد الأصابع التي في ظهر الكف، قال الخطابي: هي المواضع التي تتسخ ويجتمع فيها الوسخ ولا سيما ممن لا يكون طري البدن. وقال الغزالي: كانت العرب لا تغسل اليد عقب الطعام فيجتمع في تلك العضون وسخ، فأمر بغسلها. قال النووي: وهي سنة مستقلة ليست مختصة بالوضوء، يعني أنها يحتاج إلى غسلها في الوضوء والغسل والتنظيف، وقد ألحق بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فإن في بقائه إضرارا بالسمع، وقد أخرجه ابن عدي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعاهد البراجم عند الوضوء لأن الوسخ إليها سريع" وللترمذي الحكيم من حديث عبد الله بن بشر رفعه: "قصوا أظفاركم، وادفنوا قلاماتكم، ونقوا براجمكم" وفي سنده راو مجهول. ولأحمد من حديث ابن عباس "أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ولم لا يبطئ عني وأنتم لا تستنون - أي لا تستاكون - ولا تقصون شواربكم ولا تنقون رواجبكم" والرواجب جمع راجبة بجيم وموحدة قال أبو عبيد: البراجم والرواجب مفاصل الأصابع كلها. وقال ابن سيده: البرجمة المفصل الباطن عند بعضهم، والرواجب بواطن مفاصل أصول الأصابع، وقيل قصب الأصابع، وقيل هي ظهور السلاميات، وقيل ما بين البراجم من السلاميات. وقال ابن الأعرابي: الراجبة البقعة الملساء التي بين البراجم، والبراجم المسبحات من مفاصل الأصابع، وفي كل إصبع ثلاث برجمات إلا الإبهام فلها برجمتان. وقال الجوهري: الرواجب مفاصل الأصابع اللاتي تلي الأنامل، ثم البراجم، ثم الأشاجع اللاتي على الكف. وقال أيضا: الرواجب رءوس السلاميات من ظهر الكف، إذا قبض القابض كفه نشزت وارتفعت، والأشاجع أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف، واحدها أشجع. وقيل هي عروق ظاهر الكف. وأما الانتضاح فقال أبو عبيد الهروي. هو أن يأخذ قليلا من الماء فينضح به مذاكيره بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. وقال الخطابي: انتضاح الماء الاستنجاء به، وأصله من النضح وهو الماء القليل، فعلى هذا هو والاستنجاء خصلة واحدة، وعلى الأول فهو غيره، ويشهد له ما أخرجه أصحاب السنن من رواية الحكم بن سفيان الثقفي أو سفيان بن الحكم عن أبيه أنه "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، توضأ ثم أخذ حفنة من ماء فانتضح بها" وأخرج البيهقي من طريق سعيد بن جبير: أن رجلا أتى ابن عباس فقال إني أجد بللا إذا قمت أصلي، فقال له ابن عباس: انضح بماء، فإذا وجدت من ذلك شيئا فقل هو منه. وأما الخصال الواردة في المعنى لكن لما يرد التصريح فيها بلفظ الفطرة فكثيرة، منها ما أخرجه الترمذي من حديث أبي أيوب رفعه: "أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح" واختلف في ضبط الحياء فقيل بفتح المهملة والتحتانية الخفيفة، وقد ثبت في الصحيحين أن " الحياء من الإيمان" وقيل هي بكسر المهملة وتشديد النون، فعلى الأول هي خصلة معنوية تتعلق: بتحسين الخلق، وعلى الثاني هي خصلة حسية تتعلق بتحسين البدن. وأخرج البزار والبغوي في "معجم الصحابة" والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" من طريق فليح بن عبد الله الخطمي عن أبيه عن جده رفعه: "خمس من سنن المرسلين" فذكر الأربعة المذكورة إلا النكاح وزاد الحلم والحجامة والحلم بكسر المهملة وسكون اللام، وهو مما يقوي الضبط الأول في حديث أبي أيوب، وإذا تتبع ذلك من الأحاديث

(10/338)


كثر العدد كما أشرت إليه والله أعلم. ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع، منها تحسين الهيئة، وتنظيف البدن جملة وتفصيلا، والاحتياط للطهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان، وامتثال أمر الشارع، والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل قد حسنت صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها، أو حافظوا على ما يستمر به حسنها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب، لأن الإنسان إذا بدأ في الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النفس إليه، فيقيل قوله، ويحمد رأيه، والعكس بالعكس. وأما شرح الفطرة فقال الخطابي: ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالفطرة هنا السنة، وكذا قاله غيره، قالوا والمعنى أنها من سنن الأنبياء. وقالت طائفة: المعنى بالفطرة الدين وبه جزم أبو نعيم في المستخرج. وقال النووي في "شرح المهذب" جزم الماوردي والشيخ أبو إسحاق بأن المراد بالفطرة في هذا الحديث الدين، واستشكل ابن الصلاح ما ذكره الخطابي وقال: معنى الفطرة بعيد من معنى السنة، لكن لعل المراد أنه على حذف مضاف أي سنة الفطرة. وتعقبه النووي بأن الذي نقله الخطابي هو الصواب. فإن في صحيح البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من السنة قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار" قال: وأصح ما فسر الحديث بما جاء في رواية أخرى لا سيما في البخاري اهـ. وقد تبعه شيخنا ابن الملقن على هذا، ولم أر الذي قاله في شيء من نسخ البخاري، بل الذي فيه من حديث ابن عمر بلفظ: "الفطرة" وكذا من حديث أبي هريرة. نعم وقع التعبير بالسنة موضع الفطرة في حديث عائشة عند أبي عوانة في رواية، وفي أخرى بلفظ الفطرة كما في رواية مسلم والنسائي وغيرهما. وقال الراغب أصل الفطر بفتح الفاء الشق طولا. ويطلق على الوهي وعلى الاختراع وعلى الإيجاد، والفطرة الإيجاد على غير مثال. وقال أبو شامة، أصل الفطرة الخلقة المبتدأة، ومنه فاطر السماوات والأرض أي المبتدئ خلقهن، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة" أي على ما ابتدأ الله خلقه عليه، وفيه إشارة إلى قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} والمعنى أن كل أحد لو ترك من وقت ولادته وما يؤديه إليه نظره لأداه إلى الدين الحق وهو التوحيد، ويؤيده قوله تعالى قبلها: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ} وإليه يشير في بقية الحديث حيث عقبه بقوله: "فأبواه يهودانه وينصرانه" والمراد بالفطرة في حديث الباب أن هذه الأشياء إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها وحثهم عليها واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها صورة اهـ. وقد رد القاضي البيضاوي الفطرة في حديث الباب إلى مجموع ما ورد في معناها وهو الاختراع والجبلة والدين والسنة فقال: هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع، وكأنها أمر جبلي فطروا عليها انتهى. وسوغ الابتداء بالنكرة في قوله: "خمس من الفطرة" أن قوله: "خمس" صفة موصوف محذوف والتقدير خصال خمس ثم فسرها، أو على الإضافة أي خمس خصال. ويجوز أن تكون الجملة خبر مبتدأ محذوف والتقدير الذي شرع لكم خمس من الفطرة، والتعبير في بعض روايات الحديث بالسنة بدل الفطرة يراد بها الطريقة لا التي تقابل الواجب، وقد جزم بذلك الشيخ أبو حامد والماوردي وغيرهما وقالوا: هو كالحديث الآخر "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" وأغرب القاضي أبو بكر بن العربي فقال: عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة، فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين فكيف

(10/339)


من جملة المسلمين، كذا قال في "شرح الموطأ" وتعقبه أبو شامة بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النظافة لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها اكتفاء بدواعي الأنفس، فمجرد الندب إليها كاف. ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه قال: دل الخبر على أن الفطرة بمعنى الدين، والأصل فيما أضيف إلى الشيء أنه منه أن يكون من أركانه لا من زوائده حتى يقوم دليل على خلافه، وقد ورد الأمر باتباع إبراهيم عليه السلام، وثبت أن هذه الخصال أمر بها إبراهيم عليه السلام، وكل شيء أمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن أمر به. وتعقب بأن وجوب الاتباع لا يقتضى وجوب كل متبوع فيه بل يتم الاتباع بالامتثال، فإن كان واجبا على المتبوع كان واجبا على التابع أو ندبا فندب، فيتوقف ثبوت وجوب هذه الخصال على الأمة على ثبوت كونها كانت واجبة على الخليل عليه السلام. قوله: "الختان" بكسر المعجمة وتخفيف المثناة مصدر ختن أي قطع، والختن بفتح ثم سكون قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص. ووقع في رواية يونس عند مسلم: "الاختتان" والختان اسم لفعل الخاتن ولموضع الختان أيضا كما في حديث عائشة إذا التقى الختانان والأول المراد هنا قال الماوردي: ختان الذكر قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، والمستحب أن تستوعب من أصلها عند أول الحشفة، وأقل ما يجزئ أن لا يبقى منها ما يتغشى به شيء من الحشفة. وقال إمام الحرمين: المستحق في الرجال قطع القلفة، وهي الجلدة التي تغطي الحشفة حتى لا يبقى من الجلدة شيء متدل. وقال ابن الصباغ: حتى تنكشف جميع الحشفة. وقال ابن كج فيما نقله الرافعي: يتأدى الواجب بقطع شيء مما فوق الحشفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها. قال النووي: وهو شاذ، والأول هو المعتمد. قال الإمام: والمستحق من ختان المرأة ما ينطلق عليه الاسم. قال الماوردي: ختانها قطع جلدة تكون أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة أو كعرف الديك، والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصاله. وقد أخرج أبو داود من حديث أم عطية أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة" وقال: أنه ليس بالقوي. قلت: وله شاهدان من حديث أنس ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ في كتاب العقيقة وآخر عن الضحاك بن قيس عند البيهقي، قال النووي: ويسمى ختان الرجل إعذارا بذال معجمة، وختان المرأة خفضا بخاء وضاد معجمتين. وقال أبو شامة: كلام أهل اللغة يقتضي تسمية الكل إعذارا والخفض يختص بالأنثى. قال أبو عبيدة: عذرت الجارية والغلام وأعذرتهما ختنتهما وأختنتهما وزنا ومعنى قال الجوهري: والأكثر خفضت الجارية، قال: وتزعم العرب أن الغلام إذا ولد في القمر فسخت قلفته أي اتسعت فصار كالمختون، وقد استحب العلماء من الشافعية فيمن ولد مختونا أن يمر بالموسى على موضع الختان من غير قطع قال أبو شامة: وغالب من يولد كذلك لا يكون ختانه تاما بل يظهر طرف الحشفة فإن كان كذلك وجب تكميله. وأفاد الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في "المدخل" أنه اختلف في النساء هل يخفضن عموما أو يفرق بين نساء المشرق فيخفضن ونساء المغرب فلا يخفضن لعدم الفضلة المشروع قطعها منهن، بخلاف نساء المشرق، قال: فمن قال إن من ولد مختونا استحب إمرار الموسى عل الموضع امتثالا للأمر قال في حق المرأة كذلك ومن لا فلا. وقد ذهب إلى وجوب الختان دون باقي الخصال الخمس المذكورة في الباب الشافعي وجمهور أصحابه. وقال به من القدماء عطاء حتى قال: لو أسلم الكبير لم يتم إسلامه حتى يختن. وعن أحمد وبعض المالكية: يجب. وعن أبي حنيفة واجب وليس بفرض. وعنه سنة يأثم بتركه. وفي وجه للشافعية لا يجب في حق النساء وهو الذي أورده صاحب "المغني"

(10/340)


عن أحمد. وذهب أكثر العلماء وبعض الشافعية إلى أنه ليس بواجب، ومن حجتهم حديث شداد بن أوس رفعه: "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء" وهذا لا حجة فيه لما تقرر أن لفظ السنة إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب، لكن لما وقعت التفرقة بين الرجال والنساء في ذلك دل على أن المراد افتراق الحكم. وتعقب بأنه لم ينحصر في الوجوب فقد يكون في حق الذكور آكد منه في حق النساء أو يكون في حق الرجال للندب وفي حق النساء للإباحة، على أن الحديث لا يثبت لأنه من رواية حجاج بن أرطاة ولا يحتج به أخرجه أحمد والبيهقي. لكن له شاهد أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" من طريق سعيد بن بشر عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس، وسعيد مختلف فيه. وأخرجه أبو الشيخ والبيهقي من وجه آخر عن ابن عباس، وأخرجه البيهقي أيضا من حديث أبي أيوب، واحتجوا أيضا بأن الخصال المنتظمة مع الختان ليست واجبة إلا عند بعض من شذ فلا يكون الختان واجبا، وأجيب بأنه لا مانع أن يراد بالفطرة وبالسنة في الحديث القدر المشترك الذي يجمع الوجوب والندب وهو الطلب المؤكد، فلا يدل ذلك على عدم الوجوب ولا ثبوته فيطلب الدليل من غيره. وأيضا فلا مانع من جمع المختلفي الحكم بلفظ أمر واحد كما في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فإيتاء الحق واجب، والأكل مباح. هكذا تمسك به جماعة، وتعقبه الفاكهاني في "شرح العمدة" فقال الفرق بين الآية والحديث أن الحديث تضمن لفظة واحدة استعملت في الجميع، فتعين أن يحمل على أحد الأمرين الوجوب أو الندب، بخلاف الآية فإن صيغة الأمر تكررت فيها، والظاهر الوجوب، فصرف في أحد الأمرين بدليل وبقي الآخر على الأصل. وهذا التعقب إنما يتم على طريقة من يمنع استعمال اللفظ الواحد في معنيين، وأما من يجيزه كالشافعية فلا يرد عليهم. واستدل من أوجب الاختتان بأدلة: الأول أن القلفة تحبس النجاسة فتمنع صحة الصلاة كمن أمسك نجاسة بفمه، وتعقب بأن الفم في حكم الظاهر، بدليل أن وضع المأكول فيه لا يفطر به الصائم، بخلاف داخل القلفة فإنه في حكم الباطن، وقد صرح أبو الطيب الطبري بأن هذا القدر عندنا مغتفر. الثاني ما أخرجه أبو داود من حديث كليب جد عثيم بن كثير "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ألق عنك شعار الكفر واختتن" مع ما تقرر أن خطابه للواحد يشمل غيره حتى يقوم دليل الخصوصية. وتعقب بأن سند الحديث ضعيف وقد قال ابن المنذر: لا يثبت فيه شيء، 5 الثالث جوار كشف العور من المختون، وسيأتي أنه إنما يشرع لمن بلغ أو شارف البلوغ وجواز نظر الخاتن إليها وكلاهما حرام، فلو لم يجب لما أبيح ذلك، وأقدم من نقل عنه الاحتجاج بهذا أبو العباس بن سريج نقله عنه الخطابي وغيره، وذكر النووي أنه رآه في "كتاب الودائع" المنسوب لابن سريج قال: ولا أظنه يثبت عنه، قاله أبو شامة: وقد عبر عنه جماعة من المصنفين بعده بعبارات مختلفة كالشيخ أبي حامد والقاضي الحسين وأبي الفرج السرخسي والشيخ في "المهذب". وتعقبه عياض بأن كشف النور مباح لمصلحة الجسم والنظر إليها يباح للمداواة، وليس ذلك واجبا إجماعا، وإذا جاز في المصلحة الدنيوية كان في المصلحة الدينية أولى. وقد استشعر القاضي حسين هذا فقال: فإن قيل قد يترك الواجب كثرك الإنصات للخطبة بالتشاغل بركعتي التحية، وكترك القيام في الصلاة لسجود التلاوة، وكشف العورة للمداواة مثلا. وأجاب عن الأولين ولم يجب عن الثالث. وأجاب النووي بأن كشف العورة لا يجوز لكل مداواة فلا يتم المراد. وقوى أبو شامة الإيراد بأنهم جوزوا الغاسل الميت أن يحلق عانة الميت، ولا يتأتى ذلك للغاسل إلا بالنظر واللمس وهما حرامان، وقد أجيزا لأمر

(10/341)


مستحب. الرابع: احتج أبو حامد وأتباعه كالماوردي بأنه قطع عضو لا يستخلف من الجسد تعبدا فيكون واجبا كقطع اليد في السرقة، وتعقب بأن قطع اليد إنما أبيح في مقابلة جرم عظيم. فلم يتم القياس. الخامس: قال الماوردي: في الختان إدخال ألم عظيم على النفس وهو لا يشرع إلا في إحدى ثلاث خصال: لمصلحة، أو عقوبة، أو وجوب. وقد انتفى الأولان فثبت الثالث. وتعقبه أبو شامة بأن في الختان عدة مصالح كمزيد الطهارة والنظافة فإن القلفة من المستقذرات عند العرب، وقد كثر ذم الأقلف في أشعارهم، وكان للختان عندهم قدر، وله وليمة خاصة به، وأقر الإسلام ذلك. السادس: قال الخطابي محتجا بأن الختان واجب بأنه من شعار الدين، وبه يعرف المسلم من الكافر، حتى لو وجد مختون بين جماعة قتلى غير مختونين صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين. وتعقبه أبو شامة بأن شعار الدين ليست كلها واجبة، وما ادعاء في المقتول مردود لأن اليهود وكثيرا من النصارى يختنون فليقيد ما ذكر بالقرينة. قلت: قد بطل دليله. السابع: قال البيهقي: أحسن الحجج أن يحتج بحديث أبي هريرة الذي في الصحيحين مرفوعا: "اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم" وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وصح عن ابن عباس أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن هي خصال الفطرة ومنهن الختان، والابتلاء غالبا إنما يقع بما يكون واجبا، وتعقب بأنه لا يلزم ما ذكر إلا إن كان إبراهيم عليه السلام فعله على سبيل الوجوب، فإنه من الجائز أن يكون فعله على سبيل الندب فيحصل امتثال الأمر باتباعه على وفق ما فعل، وقد قال الله تعالى في حق نبيه محمد {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وقد تقرر في الأصول أن أفعاله بمجردها لا تدل على الوجوب، وأيضا فباقي الكلمات العشر ليست واجبة. وقال الماوردي: إن إبراهيم عليه السلام لا يفعل ذلك في مثل سنة إلا عن أمر من الله اهـ، وما قاله بحثا قد جاء منقولا، فأخرج أبو الشيخ في العقيقة من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه: أن إبراهيم عليه السلام أمر أن يختتن وهو حينئذ ابن ثمانين سنة فعجل واختتن بالقدوم فاشتد عليه الوجع فدعا ربه فأوحى الله إليه إنك عجلت قبل أن نأمرك بآلته، قال: يا رب كرهت أن أؤخر أمرك. قال الماوردي: القدوم جاء مخففا ومشددا وهو الفأس الذي اختتن به، وذهب غيره إلى أن المراد به مكان يسمى القدوم.
وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين: يقال هو كان مقيله، وقيل اسم قرية بالشام. وقال أبو شامة: هو موضع بالقرب من القرية التي فيها قبره، وقيل بقرب حلب؛ وجزم غير واحد أن الآلة بالتخفيف، وصرح ابن السكيت بأنه لا يشدد وأثبت بعضهم الوجهين في كل منهما، وقد تقدم بعض هذا في شرح الحديث المذكور في ذكر إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء، ووقع عند أبي الشيخ من طريق أخرى أن إبراهيم لما اختتن كان ابن مائة وعشرين سنة وأنه عاش بعد ذلك إلى أن أكمل مائتي سنة، والأول أشهر، وهو أنه اختتن وهو ابن ثمانين وعاش بعدها أربعين، والغرض أن الاستدلال بذلك متوقف كما تقدم على أنه كان في حق إبراهيم عليه السلام واجبا، فإن ثبت ذلك استقام الاستدلال به وإلا فالنظر باق. واختلف في الوقت الذي يشرع فيه الختان، قال الماوردي: له وقتان وقت وجوب ووقت استحباب، فوقت الوجوب البلوغ ووقت الاستحباب قبله، والاختيار في اليوم السابع من بعد الولادة، وقيل من يوم الولادة، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر ففي السنة السابعة، فإن بلغ وكان نضوا نحيفا يعلم من حاله أنه إذا اختتن تلف سقط الوجوب. ويستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب إلا لعذر، وذكر القاضي حسين أنه لا يجوز أن يختتن الصبي حتى يصير ابن عشر سنين لأنه حينئذ يوم ضربه على ترك الصلاة، وألم الختان فوق ألم

(10/342)


الضرب فيكون أولى بالتأخير، وزيفه النووي في "شرح المهذب" وقال إمام الحرمين: لا يجب قبل البلوغ لأن الصبي ليس من أهل العبادة المتعلقة بالبدن فكيف مع الألم، قال: ولا يرد وجوب العدة على الصبية لأنه لا يتعلق به تعب بل هو مضي زمان محض. وقال أبو الفرج السرخسي: في ختان الصبي وهو صغير مصلحة من جهة أن الجلد بعد التمييز يغلظ ويخشن فمن ثم جوز الأئمة الختان قبل ذلك، ونقل ابن المنذر عن الحسن ومالك كراهة الختان يوم السابع لأنه فعل اليهود. وقال مالك: يحسن إذا أثغر أي ألقى ثغره وهو مقدم أسنانه، وذلك يكون في السبع سنين وما حولها، وعن الليث يستحب ما بين سبع سنين إلى عشر سنين، وعن أحمد لم أسمع فيه شيئا. وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس قال: "سبع من السنة في الصبي يسمى في السابع ويختن" الحديث وقد قدمت ذكره في كتاب العقيقة وأنه ضعيف. وأخرج أبو الشيخ من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن ابن المنكدر أو غيره عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن حسنا وحسينا لسبعة أيام" قال الوليد فسألت مالكا عنه فقال: لا أدري، ولكن الختان طهرة فكلما قدمها كان أحب إلي. وأخرج البيهقي حديث جابر. وأخرج أيضا من طريق موسى بن علي عن أبيه: أن إبراهيم عليه السلام ختن إسحاق وهو ابن سبعة أيام. وقد ذكرت في أبواب الوليمة من كتاب النكاح مشروعية الدعوة في الختان، وما أخرجه أحمد من طريق الحسن عن عثمان بن أبي العاص أنه دعي إلى ختان فقال: "ما كنا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ندعى له" وأخرجه أبو الشيخ من رواية فبين أنه كان ختان جارية. وقد نقل الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في "المدخل" أن السنة إظهار ختان الذكر وإخفاء ختان الأنثى. والله أعلم. قوله: "والاستحداد" بالحاء المهملة استفعال من الحديد والمراد به استعمال الموسى في حلق الشعر من مكان مخصوص من الجسد، قيل وفي التعبير بهذه اللفظة مشروعية الكناية عما يستحي منه إذا حصل الإفهام بها وأغنى عن التصريح، والذي يظهر أن ذلك من تصرف الرواة. وقد وقع في رواية النسائي في حديث أبي هريرة هذا التعبير بحلق العانة، وكذا في حديث عائشة وأنس المشار إليهما من قبل عند مسلم، قال النووي: المراد بالعانة الشعر الذي فوق ذكر الرجل وحواليه، وكذا الشعر الذي حوالي فرج المرأة. ونقل عن أبي العباس بن سريج أنه الشعر النابت حول حلقة الدبر فتحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما؛ قال وذكر الحلق لكونه هو الأغلب وإلا فيجوز الإزالة بالنورة والنتف وغيرهما. وقال أبو شامة: العانة الشعر النابت على الركب بفتح الراء والكاف وهو ما انحدر من البطن فكان تحت الثنية وفوق الفرج، وقيل لكل فخذ ركب، وقيل ظاهر الفرج وقيل الفرج بنفسه سواء كان من رجل أو امرأة، قال: ويستحب إماطة الشعر عن القبل والدبر بل هو من الدبر أولى خوفا من أن يعلق شيء من الغائط فلا يزيله المستنجي إلا بالماء ولا يتمكن من إزالته بالاستجمار، قال ويقوم التنور مكان الحلق وكذلك النتف والقص، وقد سئل أحمد عن أخذ العانة بالمقراض فقال أرجو أن يجزئ، قيل فالنتف؟ قال: وهل يقوى على هذا أحد؟ وقال ابن دقيق العيد قال أهل اللغة: العانة الشعر النابت على الفرج، وقيل هو منبت الشعر، قال وهو المراد في الخبر. وقال أبو بكر بن العربي: شعر العانة أولى الشعور بالإزالة لأنه يكثف ويتلبد فيه الوسخ، بخلاف شعر الإبط. قال: وأما حلق ما حول الدبر فلا يشرع، وكذا قال الفاكهي في "شرح العمدة" أنه لا يجوز، كذا قال ولم يذكر للمنع مستندا، والذي استند إليه أبو شامة قوي، بل ربما تصور الوجوب في حق من تعين ذلك في حقه، كمن لم يجد من الماء إلا القليل وأمكنه أن لو حلق الشعر أن لا يعلق به شيء من الغائط

(10/343)


يحتاج معه إلى غسله وليس معه ماء زائد على قدر الاستنجاء. وقال ابن دقيق العيد: كأن الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الدبر ذكره بطريق القياس، قال: والأولى في إزالة الشعر هنا الحلق اتباعا، ويجوز النتف، بخلاف الإبط فإنه بالعكس لأنه تحتبس تحته الأبخرة بخلاف العانة، والشعر من الإبط بالنتف يضعف وبالحلق يقوى فجاء الحكم في كل من الموضعين بالمناسب. وقال النووي وغيره: السنة في إزالة شعر العانة الحلق بالموسى في حق الرجل والمرأة معا، وقد ثبت الحديث الصحيح عن جابر في النهي عن طروق النساء ليلا حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة، وقد تقدم شرحه في النكاح، لكن يتأدى أصل السنة بالإزالة بكل مزيل. وقال النووي أيضا: والأولى في حق الرجل الحلق وفي حق المرأة النتف. واستشكل بأن فيه ضررا على المرأة بالألم وعلى الزوج باسترخاء المحل فإن النتف يرخي المحل باتفاق الأطباء، ومن ثم قال ابن دقيق للعيد: إن بعضهم مال إلى ترجيح الحلق في حق المرأة لأن النتف يرخي المحل، لكن قال ابن العربي: إن كانت شابة فالنتف في حقها أولى لأنه يربو مكان النتف، وإن كانت كهلة فالأولى في حقها الحلق لأن النتف يرخى المحل، ولو قيل الأولى في حقها التنور مطلقا لما كان بعيدا. وحكى النووي في وجوب الإزالة عليها إذا طلب ذلك منها وجهين أصحهما الوجوب، ويفترق الحكم في نتف الإبط وحلق العانة أيضا بأن نتفت الإبط وحلقه يجوز أن يتعاطاه الأجنبي، بخلاف حلق العانة فيحرم إلا في حق من يباح له المس والنظر كالزوج والزوجة. وأما التنور فسئل عنه أحمد فأجازه، وذكر أنه يفعله، وفيه حديث عن أم سلمة أخرجه ابن ماجه والبيهقي ورجاله ثقات، ولكنه أعله بالإرسال، وأنكر أحمد صحته ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا طلى ولي عانته بيده" ومقابله حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتنور، وكان إذا كثر شعره حلقه" ولكن سنده ضعيف جدا. قوله: "ونتف الإبط" في رواية الكشميهني: "الآباط" بصيغة الجمع، والإبط بكسر الهمزة والموحدة وسكونها وهو المشهور وصوبه الجواليقي، وهو يذكر ويؤنث، وتأبط الشيء وضعه تحت إبطه. والمستحب البداءة فيه باليمنى، ويتأدى أصل السنة بالحلق ولا سيما من يؤلمه النتف. وقد أخرج ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" عن يونس بن عبد الأعلى قال دخلت على الشافعي ورجل يحلق إبطه فقال: إني علمت أن السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع. قال الغزالي: هو في الابتداء موجع ولكن يسهل على من اعتاده، قال: والحلق كاف لأن المقصود النظافة. وتعقب بأن الحكمة في نتفه أنه محل للرائحة الكريهة، وإنما ينشأ ذلك من الوسخ الذي يجتمع بالعرق فيه فيتلبد ويهيج، فشرع فيه النتف الذي يضعفه فتخف الرائحة به، بخلاف الحلق فإنه يقوي الشعر ويهبجه فتكثر الرائحة لذلك. وقال ابن دقيق العيد: من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل، لكن بين أن النتف مقصود من جهة المعنى فذكر نحو ما تقدم، قال: وهو معنى ظاهر لا يهمل فإن مورد النص إذا احتمل معنى مناسبا يحتمل أن يكون مقصودا في الحكم لا يترك والذي يقوم مقام النتف في ذلك التنور لكنه يرق الجلد فقد يتأذى صاحبه به ولا سيما إن كان جلده رقيقا وتستحب البداءة في إزالته باليد اليمنى، ويزيل ما في اليمنى بأصابع اليسرى وكذا اليسرى إن أمكن وإلا فباليمنى. قوله: "وتقليم الأظفار" وهو تفعيل من القلم وهو القطع. ووقع في حديث ابن عمر "قص الأظفار" كما في حديث الباب، ووقع في حديثه في الباب الذي يليه بلفظ: "تقليم" وفي حديث عائشة وأنس "قص الأظفار" والتقليم أعم، والأظفار جمع ظفر بضم الظاء والفاء وبسكونها، وحكى أبو زيد كسر أوله، وأنكره ابن سيده، وقد قيل إنها قراءة الحسن، وعن أبي السماك أنه

(10/344)


قرئ بكسر أوله وثانيه، والمراد إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر، لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة، وقد حكى أصحاب الشافعي فيه وجهين: فقطع المتولي بأن الوضوء حينئذ لا يصح، وقطع الغزالي في "الإحياء" بأنه يعفى عن مثل ذلك، واحتج بأن غالب الأعراب لا يتعاهدون ذلك، ومع ذلك لم يرد في شيء من الآثار أمرهم بإعادة الصلاة وهو ظاهر، لكن قد يعلق بالظفر إذا طال النجو لمن استنجى بالماء ولم يمعن غسله فيكون إذا صلى حاملا للنجاسة، وقد أخرج البيهقي في "الشعب" من طريق قيس بن أبي حازم قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة فأوهم فيها، فسئل فقال: ما لي لا أوهم ورفع أحدكم بين ظفره وأنملته" رجاله ثقات مع إرساله، وقد وصله الطبراني من وجه آخر. والرفغ بضم الراء وبفتحها وسكون الفاء بعدها غين معجمة يجمع على أرفاغ وهي مغابن الجسد كالإبط وما بين الأنثيين والفخذين وكل موضع يجتمع فيه الوسخ، فهو من تسمية الشيء باسم ما جاوره، والتقدير وسخ رفغ أحدكم، والمعنى أنكم لا تقلمون أظفاركم ثم تحكون بها أرفاغكم فيتعلق بها ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة، قال أبو عبيد: أنكر عليهم طول الأظفار وترك قصها. قلت: وفيه إشارة إلى الندب إلى تنظيف المغابن كلها، ويستحب الاستقصاء في إزالتها إلى حد لا يدخل منه ضرر على الأصبع، واستحب أحمد للمسافر أن يبقي شيئا لحاجته إلى الاستعانة لذلك غالبا. ولم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث، لكن جزم النووي في "شرح مسلم" بأنه يستحب البداءة بمسبحة اليمنى ثم بالوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم الإبهام، وفي اليسرى بالبداعة بخنصرها ثم بالبنصر إلى الإبهام ويبدأ في الرجلين بخنصر اليمنى إلى الإبهام، وفي اليسرى بإبهامها إلى الخنصر، ولم يذكر للاستحباب مستندا. وقال في "شرح المهذب" بعد أن نقل عن الغزالي وأن المازري اشتد إنكاره عليه فيه: لا بأس بما قاله الغزالي إلا في تأخير إبهام اليد اليمنى فالأولى أن تقدم اليمنى بكمالها على اليسرى، قال: وأما الحديث الذي ذكره الغزالي فلا أصل له. اهـ. وقال ابن دقيق العيد: يحتاج من ادعى استحباب تقديم اليد في القص على الرجل إلى دليل، فإن الإطلاق يأبى ذلك. قلت: يمكن أن يؤخذ بالقياس على الوضوء والجامع التنظيف، وتوجيه البداءة باليمنى لحديث عائشة الذي مر في الطهارة "كان يعجبه التيمن في طهوره وترجله وفي شأنه كله" والبداءة بالمسبحة منها لكونها أشرف الأصابع لأنها آلة التشهد، وأما اتباعها بالوسطى فلأن غالب من يقلم أظفاره يقلمها قبل ظهر الكف فتكون الوسطى جهة يمينه فيستمر إلى أن يختم بالخنصر ثم يكمل اليد بقص الإبهام، وأما اليسرى فإذا بدأ بالخنصر لزم أن يستمر على جهة اليمين إلى الإبهام، قال شيخنا في "شرح الترمذي" وكان ينبغي أن لو أخر إبهام اليمنى ليختم بها ويكون قد استمر على الانتقال إلى جهة اليمنى، ولعل الأول لحظ فصل كل يد عن الأخرى، وهذا التوجيه في اليمين يعكر على ما نقله في الرجلين إلا أن يقال غالب من يقلم أظفار رجليه يقلمها من جهة باطن القدمين فيستمر التوجيه. وقد قال صاحب "الإقليد" قضية الأخذ في ذلك بالتيامن أن يبدأ بخنصر اليمنى إلى أن ينتهي إلى خنصر اليسرى في اليدين والرجلين معا، وكأنه لحظ أن القص يقع من باطن الكفين أيضا، وذكر الدمياطي أنه تلقى عن بعض المشايخ أن من قص أظفاره مخالفا لم يصبه رمد وأنه جرب ذلك مدة طويلة. وقد نص أحمد على استحباب قصها مخالفا، وبين ذلك أبو عبد الله بن بطة من أصحابهم فقال: يبدأ بخنصره اليمنى ثم الوسطى ثم الإبهام ثم البنصر ثم السبابة، ويبدأ بإبهام اليسرى على العكس من اليمنى، وقد أنكر ابن دقيق العيد الهيئة التي ذكرها الغزالي ومن تبعه وقال: كل ذلك لا أصل له وإحداث استحباب

(10/345)


لا دليل عليه، وهو قبيح عندي بالعالم، ولو تخيل متخيل أن البداءة بمسبحة اليمنى من أجل شرفها فبقية الهيئة لا يتخيل فيه ذلك. نعم البداءة بيمنى اليدين ويمنى الرجلين له أصل وهو كان يعجبه التيامن اهـ. ولم يثبت أيضا في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث، وقد أخرجه جعفر المستغفري بسند مجهول، ورويناه في "مسلسلات التيمي" من طريقه، وأقرب ما وقفت عليه في ذلك ما أخرجه البيهقي من مرسل أبي جعفر الباقر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة" وله شاهد موصول عن أبي هريرة، لكن سنده ضعيف أخرجه البيهقي أيضا في "الشعب"، وسئل أحمد عنه فقال: يسن في يوم الجمعة قبل الزوال، وعنه يوم الخميس، وعنه يتخير، وهذا هو المعتمد أنه يستحب كيف ما احتاج إليه؛ وأما ما أخرج مسلم من حديث أنس "وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا يترك أكثر من أربعين يوما" كذا وقت فيه على البناء للمجهول، وأخرجه أصحاب السنن بلفظ: "وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأشار العقيلي إلى أن جعفر بن سليمان الضبعي تفرد به، وفي حفظه شيء، وصرح ابن عبد البر بذلك فقال: لم يروه غيره، وليس بحجة وتعقب بأن أبا داود والترمذي أخرجاه من رواية صدقة بن موسى عن ثابت، وصدقة بن موسى وإن كان فيه مقال لكن تبين أن جعفرا لم ينفرد به وقد أخرج ابن ماجه نحوه من طريق علي بن جدعان عن أنس، وفي علي أيضا ضعف. وأخرجه ابن عدي من وجه ثالث من جهة عبد الله بن عمران شيخ مصري عن ثابت عن أنس، لكن أتى فيه بألفاظ مستغربة قال: أن يحلق الرجل عانته كل أربعين يوما، وأن ينتف إبطه كلما طلع، ولا يدع شاربيه يطولان: وأن يقلم أظفاره من الجمعة إلى الجمعة. وعبد الله والراوي عنه مجهولان. قال القرطبي في "المفهم" ذكر الأربعين تحديد لأكثر المدة، ولا يمنع تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، والضابط في ذلك الاحتياج. وكذا قال النووي: المختار أن ذلك كله يضبط بالحاجة. وقال في "شرح المهذب" ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة في هذا وفي جميع الخصال المذكورة. قلت: لكن لا يمنع من التفقد يوم الجمعة، فإن المبالغة في التنظف فيه مشروع والله أعلم. وفي "سؤالات مهنا" عن أحمد قلت له: "يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه. قلت: بلغك فيه شيء؟ قال: كان ابن عمر يدفنه" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشعر والأظفار وقال: لا يتلعب به سحرة بني آدم. قلت: وهذا الحديث أخرجه البيهقي من حديث وائل بن حجر نحوه. وقد استحب أصحابنا دفنها لكونها أجزاء من الآدمي والله أعلم. "فرع": لو استحق قص أظفاره فقص بعضا أبدى فيه ابن دقيق العيد احتمالا من منع لبس إحدى النعلين وترك الأخرى كما تقدم في بابه قريبا. قوله: "وقص الشارب" تقدم القول في القص أول الباب، وأما الشارب فهو الشعر النابت على الشفة العليا. واختلف في جانبيه وهما السبالان فقيل: هما من الشارب ويشرع قصهما معه، وقيل هما من جملة شعر اللحية وأما القص فهو الذي في أكثر الأحاديث كما هنا، وفي حديث عائشة وحديث أنس كذلك كلاهما عند مسلم، وكذا حديث حنظلة عن ابن عمر في أول الباب، وورد الخبر بلفظ: "الحلق" وهي رواية النسائي عن محمد بن عبد الله بن يزيد عن سفيان بن عيينة بسند هذا الباب، ورواه جمهور أصحاب ابن عيينة بلفظ: "القص" وكذا سائر الروايات عن شيخه الزهري. ووقع عند النسائي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "تقصير الشارب" نعم وقع الأمر بما يشعر بأن رواية الحلق محفوظ كحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "جزوا

(10/346)


الشوارب" وحديث ابن عمر المذكور في الباب الذي يليه بلفظ: "أحفوا الشوارب " وفي الباب الذي يليه بلفظ: "انهكوا الشوارب" فكل هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب المبالغة في الإزالة، لأن الجز وهو بالجيم والزاي الثقيلة قص الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد، والإحفاء بالمهملة والفاء الاستقصاء ومنه "حتى أحفوه بالمسألة" قال أبو عبيد الهروي معناه ألزقوا الجز بالبشرة. وقال الخطابي: هو بمعنى الاستقصاء، والنهك بالنون والكاف المبالغة في الإزالة، ومنه ما تقدم في الكلام على الختان قوله صلى الله عليه وسلم للخافضة "أشمي ولا تنهكي" أي لا تبالغي في ختان المرأة وجرى على ذلك أهل اللغة. وقال ابن بطال: النهك التأثير في الشيء وهو غير الاستئصال، قال النووي: المختار في قص الشارب أنه يقصه حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله، وأما رواية: "أحفوا" فمعناها أزيلوا ما طال على الشفتين، قال ابن دقيق العيد: ما أدري هل نقله عن المذهب أو قاله اختيارا منه لمذهب مالك. قلت: صرح "في شرح المهذب" بأن هذا مذهبنا. وقال الطحاوي لم أر عن الشافعي في ذلك شيئا منصوصا، وأصحابه الذين رأيناهم كالمزني والربيع كانوا يحفون، وما أظنهم أخذوا ذلك إلا عنه وكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإحفاء أفضل من التقصير. وقال ابن القاسم عن مالك: إحفاء الشارب عندي مثلة، والمراد بالحديث المبالغة في أخذ الشارب حتى يبدو حرف الشفتين وقال أشهب: سألت مالكا عمن يحفي شاربه فقال: أرى أن يوجع ضربا. وقال لمن يحلق شاربه: هذه بدعة ظهرت في الناس. اهـ. وأغرب ابن العربي فنقل عن الشافعي أنه يستحب حلق الشارب، وليس ذلك معروفا عند أصحابه، قال الطحاوي: الحلق هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد اهـ. وقال الأثرم: كان أحمد يحفي شاربه إحفاء شديدا، ونص على أنه أولى من القص. وقال القرطبي: وقص الشارب أن يأخذ ما طال على الشفة بحيث لا يؤذي الأكل ولا يجتمع فيه الوسخ. قال: والجز والإحفاء هو القص المذكور، وليس بالاستئصال عند مالك. قال: وذهب الكوفيون إلى أنه الاستئصال، وبعض العلماء إلى التخيير في ذلك. قلت: هو الطبري، فإنه حكى قول مالك وقول الكوفيين ونقل عن أهل اللغة أن الإحفاء الاستئصال ثم قال: دلت السنة على الأمرين، ولا تعارض، فإن القص يدل على أخذ البعض والإحفاء يدل على أخذ الكل وكلاهما ثابت فيتخير فيما شاء. وقال ابن عبد البر: الإحفاء محتمل لأخذ الكل، والقص مفسر للمراد، والمفسر مقدم على المجمل اهـ. ويرجح قول الطبري ثبوت الأمرين معا في الأحاديث المرفوعة، فأما الاقتصار على القص ففي حديث المغيرة بن شعبة "ضفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاربي وفي فقصه على سواك" أخرجه أبو داود. واختلف في المراد بقوله: "على سواك" فالراجح أنه وضع سواكا عند الشفة تحت الشعر وأخذ الشعر بالمقص، وقيل المعنى قصه على أثر سواك، أي بعدما تسوك. ويؤيد الأول ما أخرجه البيهقي في هذا الحديث قال فيه: "فوضع السواك تحت الشارب وقص عليه" وأخرج البزار من حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا وشاربه طويل فقال: ائتوني بمقص وسواك، فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه" وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس وحسنه "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص شاربه" وأخرج البيهقي والطبراني من طريق شرحبيل بن مسلم الخولاني قال: "رأيت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصون شواربهم: أبو أمامة الباهلي، والمقدام بن معدي كرب الكندي، وعتبة بن عوف السلمي والحجاج بن عامر الثمالي، وعبد الله بن بسر. وأما الإحفاء ففي رواية ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر قال: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: إنهم يوفون سبالهم، ويحلقون لحالهم فخالفوهم" قال: فكان ابن عمر يستقرض سبلته فيجزها كما يجز

(10/347)


الشاة أو البعير" أخرجه الطبري والبيهقي، وأخرجا من طريق عبد الله بن رافع قال: "رأيت أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا أسيد الأنصاري وسلمة بن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم كالحلق" لفظ الطبري. وفي رواية البيهقي "يقصون شواربهم مع طرف الشفة" وأخرج الطبري من طرق عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة أنهم كانوا يحلقون شواربهم. وقد تقدم في أول الباب أثر ابن عمر أنه كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى بياض الجلد، لكن كل ذلك محتمل لأن يراد استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا، ومحتمل لأن يراد استئصال ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها ولا يستوعب بقيتها، نظرا إلى المعنى في مشروعية ذلك وهو مخالفة المجوس والأمن من التشويش على الأكل وبقاء زهومة المأكول فيه، وكل ذلك يحصل بما ذكرنا، وهو الذي يجمع مفترق الأخبار الواردة في ذلك، وبذلك جزم الداودي في شرح أثر ابن عمر المذكور، وهو مقتضى تصرف البخاري لأنه أورد أثر ابن عمر وأورد بعده حديثه وحديث أبي هريرة في قص الشارب، فكأنه أشار إلى أن ذلك هو المراد من الحديث. وعن الشعبي أنه كان يقص شاربه حتى يظهر حرف الشفة العلياء وما قاربه من أعلاه ويأخذ ما يزيد مما فوق ذلك وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم ولا يزيد على ذلك، وهذا أعدل ما وقفت عليه من الآثار. وقد أبدى ابن العربي لتخفيف شعر الشارب معنى لطيفا فقال: إن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر لما فيه من اللزوجة ويعسر تنقيته عند غسله، وهو بإزاء حاسة شريفة وهي الشم، فشرع تخفيفه ليتم الجمال والمنفعة به. قلت: وذلك يحصل بتخفيفه ولا يستلزم إحفافه وإن كان أبلغ، وقد رجح الطحاوي الحلق على القص بتفضيله صلى الله عليه وسلم الحلق على التقصير في النسك، ووهى ابن التين الحلق بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من حلق" وكلاهما احتجاج بالخبر في غير ما ورد فيه ولا سيما الثاني، ويؤخذ مما أشار إليه ابن العربي مشروعية تنظيف داخل الأنف وأخذ شعره إذا طال، والله أعلم. وقد روى مالك عن زيد بن أسلم "أن عمر كان إذا غضب فتل شاربه" فدل على أنه كان يوفره. وحكى ابن دقيق العيد عن بعض الحنفية أنه قال: لا بأس بإبقاء الشوارب في الحرب إرهابا للعدو، وزيفه. "فصل": في فوائد تتعلق بهذا الحديث: الأولى - قال النووي: يستحب أن يبدأ في قص الشارب باليمين. الثانية يتخير بين أن يقص ذلك بنفسه أو يولي ذلك غيره لحصول المقصود من غير هتك مروءة بخلاف الإبط، ولا ارتكاب حرمة بخلاف العانة. قلت: محل ذلك حيث لا ضرورة، وأما من لا يحسن الحلق فقد يباح له إن لم تكن له زوجة تحسن الحلق أن يستعين بغيره بقدر الحاجة، لكن محل هذا إذا لم يجد ما يتنور به فإنه يغني عن الحلق ويحصل به المقصود وكذا من لا يقوى على النتف ولا يتمكن من الحلق إذا استعان بغيره في الحلق لم تهتك المروءة من أجل الضرورة كما تقدم عن الشافعي، وهذا لمن لم يقو على التنور من أجل أن النورة تؤذي الجلد الرقيق كجلد الإبط، وقد يقال مثل ذلك في حلق العانة من جهة المغابن التي بين الفخذ والأنثيين، وأما الأخذ من الشارب فينبغي فيه التفصيل بين من يحسن أخذه بنفسه بحيث لا يتشوه وبين من لا يحسن فيستعين بغيره، ويلتحق به من لا يجد مرآة ينظر وجهه فيها عند أخذه. الثالثة: قال النووي: يتأدى أصل السنة بأخذ الشارب بالمقص وبغيره. وتوقف ابن دقيق العيد في قرضه بالسن ثم قال: من نظر إلى اللفظ منع ومن نظر إلى المعنى أجاز. الرابعة: قال ابن دقيق العيد: لا أعلم أحدا قال بوجوب قص الشارب من حيث هو هو، واحترز بذلك من وجوبه بعارض حيث يتعين

(10/348)


كما تقدمت الإشارة إليه من كلام ابن العربي، وكأنه لم يقف على كلام ابن حزم في ذلك فإنه قد صرح بالوجوب في ذلك وفي إعفاء اللحية.

(10/349)


باب تقيلم الأظافر
...
64 - باب تَقْلِيمِ الأَظْفَارِ
5890- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ حَنْظَلَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مِنْ الْفِطْرَةِ حَلْقُ الْعَانَةِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ" .
5891- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْآبَاطِ" .
5892- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ".
[الحديث 5892 – طرفه في: 5893]
قوله: "باب تقليم الأظفار" تقدم بيان ذلك في الذي قبله، وقد ذكر فيه ثلاثة أحاديث، الثالث منها لا تعلق له بالظفر وإنما هو مختص بالشارب واللحية فيمكن أن يكون مراده في هذه الترجمة والتي قبلها تقليم الأظفار وما ذكر معها وقص الشارب وما ذكر معه، ويحتمل أن يكون أشار إلى أن حديث ابن عمر في الأول وحديثه في الثالث واحد، منهم من طوله ومنهم من اختصره. قوله: "حدثنا أحمد بن أبي رجاء" هو أحمد بن عبد الله بن أيوب الهروي، وإسحاق بن سليمان هو الرازي، وحنظلة هو ابن سفيان الجمحي. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" كذا للجميع، وزعم أبو مسعود في "الأطراف" أن البخاري ذكره من هذا الوجه موقوفا ثم تعقبه بأن أبا سعيد الأشج رواه عن إسحاق بن سليمان مرفوعا، وتعقب الحميدي كلام أبي مسعود فأجاد. قوله: "من الفطرة" كذا للجميع، وقد تقدم نقل النووي أنه وقع فيه بلفظ: "من السنة". قوله: "وقص الشارب" في رواية الإسماعيلي: "وأخذ الشارب" وفي أخرى له "وقص الشوارب" قال: "وقال مرة الشارب" قال الجياني: وقع في كلامهم أنه لعظم الشوارب وهو من الواحد الذي فرق وسمى كل جزء منه باسمه فقالوا لكل جانب منه شاربا ثم جمع شوارب وحكى ابن سيده عن بعضهم: من قال الشاربان أخطأ؛ وإنما الشاربان ما طال من ناحية السبلة، قال: وبعضهم يسمي السبلة كلها شاربا، ويؤيده أثر عمر الذي أخرجه مالك أنه "كان إذا غضب فتل شاربه" والذي يمكن فتله من شعر الشارب السبال وقد سماه شاربا. حديث أبي هريرة قد تقدم شرحه مستوفى. قوله: "عمر بن محمد بن زيد" أي ابن عبد الله بن عمر. قوله: "خالفوا المشركين" في حديث أبي هريرة عند مسلم: "خالفوا المجوس" وهو المراد في حديث ابن عمر فإنهم كانوا يقصون لحاهم ومنهم من كان يحلقها. قوله: "أحفوا

(10/349)


الشوارب" بهمزة قطع من الإحفاء للأكثر، وحكى ابن دريد حفى شاربه حفوا إذا استأصل أخذ شعره، فعلى هذا فهي همزة وصل. قوله: "ووفروا اللحى" أما قوله: "وفروا" فهو بتشديد الفاء من التوفير وهو الإبقاء أي اتركوها وافرة وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع في الباب الذي يليه "أعفوا" وسيأتي تحريره، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم "أرجئوا" وضبطت بالجيم والهمزة أي أخروها، وبالخاء المعجمة بلا همز أي أطيلوها، وله في رواية أخرى "أوفوا" أي اتركوها وافية، قال النووي: وكل هذه الروايات بمعنى واحد، واللحى بكسر اللام وحكي ضمها وبالقصر والمد جمع لحية بالكسر فقط وهي اسم لما نبت على الخدين والذقن. قوله: "وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه" هو موصول بالسند المذكور إلى نافع، وقد أخرجه مالك في "الموطأ" عن نافع بلفظ: "كان ابن عمر إذا حلق رأسه في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه" وفي حديث الباب مقدار المأخوذ، وقوله: "فضل" بفتح الفاء والضاد المعجمة ويجوز كسر الضاد كعلم والأشهر الفتح قاله ابن التين. وقال الكرماني: لعل ابن عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك فحلق رأسه كله وقصر من لحيته ليدخل في عموم قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} وخص ذلك من عموم قوله: "وفروا اللحى" فحمله على حالة غير حالة النسك. قلت: الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه، فقد قال الطبري: ذهب قوم إلى ظاهر الحديث فكرهوا تناول شيء من اللحية من طولها ومن عرضها. وقال قوم إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد، ثم ساق بسنده إلى ابن عمر أنه فعل ذلك، وإلى عمر أنه فعل ذلك برجل، ومن طريق أبي هريرة أنه فعله. وأخرج أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال: "كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة" وقوله: "نعفي" بضم أوله وتشديد الفاء أي نتركه وافرا وهذا يؤيد ما نقل عن ابن عمر، فإن السبال بكسر المهملة وتخفيف الموحدة جمع سبلة بفتحتين وهي ما طال من شعر اللحية، فأشار جابر إلى أنهم يقصرون منها في النسك. ثم حكى الطبري اختلافا فيما يؤخذ من اللحية هل له حد أم لا؟ فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي يزيد منها على قدر الكف، وعن الحسن البصري أنه يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش، وعن عطاء نحوه قال: وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها، قال: وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة وأسنده عن جماعة، واختار قول عطاء. وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به، واستدل بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها" وهذا أخرجه الترمذي ونقل عن البخاري أنه قال في رواية عمر بن هارون. لا أعلم له حديثا منكرا إلا هذا اهـ. وقد ضعف عمر بن هارون مطلقا جماعة. وقال عياض: يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها، وأما الأخذ من طولها وعرضها إذا عظمت فحسن، بل تكره الشهرة في تعظيمها كما يكره في تقصيرها، كذا قال، وتعقبه النووي بأنه خلاف ظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها؛ قال: والمختار تركها على حالها وأن لا يتعرض لها بتقصير ولا غيره، وكأن مراده بذلك في غير النسك لأن الشافعي نص على استحبابه فيه، وذكر النووي عن الغزالي - وهو في ذلك تابع لأبي طالب المكي في "القوت" - قال: يكره في اللحية عشر خصال: خضبها بالسواد لغير الجهاد، وبغير السواد إيهاما للصلاح لا لقصد الاتباع، وتبييضها استعجالا للشيخوخة لقصد التعاظم على الأقران، ونتفها إبقاء للمرودة وكذا تحذيفها ونتف

(10/350)


الشيب. ورجح النووي تحريمه لثبوت الزجر عنه كما سيأتي قريبا، وتصفيفها طاقة طاقة تصنعا ومخيلة، وكذا ترجيلها والتعرض لها طولا وعرضا على ما فيه من اختلاف، وتركها شعثة إيهاما للزهد، والنظر إليها إعجابا، وزاد النووي: وعقدها، لحديث رويفع رفعه: "من عقد لحيته فإن محمدا منه بريء" الحديث أخرجه أبو داود، قال الخطابي: قيل المراد عقدها في الحرب وهو من زي الأعاجم، وقيل المراد معالجة الشعر لينعقد، وذلك من فعل أهل التأنيث.
" تنبيه ": أنكر ابن التين ظاهر ما نقل عن ابن عمر فقال: ليس المراد أنه كان يقتصر على قدر القبضة من لحيته، بل كان يمسك عليها فيزيل ما شذ منها، فيمسك من أسفل ذقنه بأصابعه الأربعة ملتصقة فيأخذ ما سفل عن ذلك ليتساوى طول لحيته. قال أبو شامة: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها. وقال النووي: يستثنى من الأمر بإعفاء اللحى ما لو نبتت للمرأة لحية فإنه يستحب لها حلقها، وكذا لو نبت لها شارب أو عنفقة، وسيأتي البحث فيه في "باب المتنمصات".

(10/351)


65 - باب إِعْفَاءِ اللِّحَى. وعَفَوْا: كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ
5893- حدثني محمد أخبرنا عبدة أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى" .
قوله: "باب إعفاء اللحى" كذا استعمله من الرباعي، وهو بمعنى الترك. ثم قال: عفوا كثروا وكثرت أموالهم وأراد تفسير قوله في الأعراف {حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} فقد تقدم هناك بيان من فسر قوله عفوا يكثروا، فإما أن يكون أشار بذلك إلى أصل المادة، أو إلى أن لفظ الحديث وهو "أعفوا اللحى" جاء بالمعنيين، فعلى الأول يكون بهمزة قطع وعلى الثاني بهمزة وصل، وقد حكى ذلك جماعة من الشراح منهم ابن التين قال: وبهمزة قطع أكثر. وقال ابن دقيق العيد: تفسير الإعفاء بالتكثير من إقامة السبب مقام المسبب، لأن حقيقة الإعفاء الترك، وترك التعرض للحية يستلزم تكثيرها. وأغرب ابن السيد فقال: حمل بعضهم قوله: "أعفوا اللحى" على الأخذ منها بإصلاح ما شذ منها طولا وعرضا، واستشهد بقول زهير "على آثار من ذهب العفاء". وذهب الأكثر إلى أنه بمعنى وفروا أو كثروا، وهو الصواب. قال ابن دقيق العيد: لا أعلم أحدا فهم من الأمر في قوله: "أعفوا اللحى" تجويز معالجتها بما يغزرها كما يفعله بعض الناس، قال: وكأن الصارف عن ذلك قرينة السياق في قوله في بقية الخبر "وأحفوا الشوارب" انتهى. ويمكن أن يؤخذ من بقية طرق ألفاظ الحديث الدالة على مجرد الترك، والله أعلم.
" تنبيه ": في قوله أعفوا وأحفوا ثلاثة أنواع من البديع: الجناس والمطابقة والموازنة.

(10/351)


3 - باب مَا يُذْكَرُ فِي الشَّيْبِ
5894- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: "سَأَلْتُ أَنَساً أَخَضَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغْ الشَّيْبَ إِلاَّ قَلِيلاً".
5895- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: "سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ خِضَابِ النَّبِيِّ

(10/351)


3 - باب الْخِضَابِ
5899- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ" .
قوله: "باب الخضاب" أي تغيير لون شيب الرأس واللحية. قوله: "عن أبي سلمة وسليمان بن يسار" كذا جمع بينهما، وتابعه الأوزاعي عن الزهري أخرجه النسائي، ورواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري عن أبي سلمة وحده، وقد مضت رواية صالح في أحاديث الأنبياء، ورواية الآخرين عند النسائي عن أبي هريرة في رواية إسحاق بن راهويه عن سفيان بسنده أنهما سمعا أبا هريرة أخرجه النسائي. قوله: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم" هكذا أطلق، ولأحمد بسند حسن عن أبي أمامة قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب" وأخرج الطبراني في "الأوسط" نحوه من حديث أنس، وفي "الكبير" من حديث عتبة بن عبد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشعر مخالفة للأعاجم" وقد تمسك به من أجاز الخضاب بالسواد وقد تقدمت في باب ذكر بني إسرائيل من أحاديث الأنبياء مسألة استثناء الخضب بالسواد لحديثي جابر وابن عباس، وأن من العلماء من رخص فيه في الجهاد ومنهم من رخص فيه مطلقا وأن الأولى كراهته، وجنح النووي إلى أنه كراهة تحريم، وقد رخص فيه طائفة من السلف منهم سعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغير واحد واختاره ابن أبي عاصم في "كتاب الخضاب" له وأجاب عن حديث ابن عباس رفعه: "يكون قوم يخضبون بالسواد لا يجدون ريح الجنة" بأنه لا دلالة فيه على كراهة الخضاب بالسواد بل فيه الإخبار عن قوم هذه صفتهم، وعن حديث جابر "جنبوه السواد" بأنه

(10/354)


في حق من صار شيب رأسه مستشبعا ولا يطرد ذلك في حق كل أحد انتهى. وما قاله خلاف ما يتبادر من سياق الحديثين. نعم يشهد له ما أخرجه هو عن ابن شهاب قال: "كنا نخضب بالسواد إذ كان الوجه جديدا، فلا نغص الوجه والأسنان تركناه" وقد أخرج الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أبي الدرداء رفعه: "من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة" وسنده لين، ومنهم من فرق في ذلك بين الرجل والمرأة فأجازه لها دون الرجل، واختاره الحليمي، وأما خضب اليدين والرجلين فلا يجوز للرجال إلا في التداوي. وقوله: "فخالفوهم" في رواية مسلم: "فخالفوا عليهم واصبغوا" وللنسائي من حديث ابن عمر رفعه: "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود" ورجاله ثقات، لكن اختلف على هشام بن عروة فيه كما بينه النسائي وقال إنه غير محفوظ، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" من حديث عائشة وزاد: "والنصارى" ولأصحاب السنن وصححه الترمذي من حديث أبي ذر رفعه: "إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم" وهذا يحتمل أن يكون على التعاقب ويحتمل الجمع، وقد أخرج مسلم من حديث أنس قال: "اختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بحتا" وقوله بحتا بموحدة مفتوحة ومهملة ساكنة بعدها مثناة أي صرفا، وهذا يشعر بأن أبا بكر كان يجمع بينهما دائما. والكتم نبات باليمن يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة، وصبغ الحناء أحمر فالصبغ بهما معا يخرج بين السواد والحمرة. واستنبط ابن أبي عاصم من قوله صلى الله عليه وسلم: "جنبوه السواد" أن الخضاب بالسواد كان من عادتهم، وذكر ابن الكلبي أن أول من اختضب بالسواد من العرب عبد المطلب، وأما مطلقا ففرعون، وقد اختلف في الخضب وتركه فخضب أبو بكر وعمر وغيرهما كما تقدم، وترك الخضاب علي وأبي بن كعب وسلمة بن الأكوع وأنس وجماعة، وجمع الطبري بأن من صبغ منهم كان اللائق به كمن يستشنع شيبه، ومن ترك كان اللائق به كمن لا يستشنع شيبه، وعلى ذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الذي أخرجه مسلم في قصة أبي قحافة حيث قال صلى الله عليه وسلم لما رأى رأسه كأنها الثغامة بياضا " غيروا هذا وجنبوه السواد" ومثله حديث أنس الذي تقدمت الإشارة إليه أول "باب ما يذكر في الشيب" زاد الطبري وابن أبي عاصم من وجه آخر عن جابر "فذهبوا به فحمروه" والثغامة بضم المثلثة وتخفيف المعجمة نبات شديد البياض زهره وثمره، قال: فمن كان في مثل حال أبي قحافة استحب له الخضاب لأنه لا يحصل به الغرور لأحد، ومن كان بخلافه فلا يستحب في حقه، ولكن الخضاب مطلقا أولى لأنه فيه امتثال الأمر في مخالفة أهل الكتاب، وفيه صيانة الشعر عن تعلق الغبار وغيره به، إلا إن كان من عادة أهل البلد ترك الصبغ وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير في مقام الشهرة فالترك في حقه أولى. ونقل الطبري بعد أن أورد حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه بلفظ: "من شاب شيبة فهي له نور إلى أن ينتفها أو يخضبها" وحديث ابن مسعود "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره خصالا" فذكر منها تغيير الشيب، إذ بعضهم ذهب إلى أن هذه الكراهة تستحب بحديث الباب. ثم ذكر الجمع وقال: دعوى النسخ لا دليل عليها. قلت: وجنح إلى النسخ الطحاوي وتمسك بالحديث الآتي قريبا أنه "كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم صار يخالفهم ويحث على مخالفتهم" كما سيأتي تقريره في "باب الفرق" إن شاء الله تعالى. وحديث عمرو بن شعيب المشار إليه أخرجه الترمذي وحسنه ولم أر في شيء من طرقه الاستثناء المذكور فالله أعلم. قال ابن العربي: وإنما نهى عن النتف دون الخضب لأن فيه تغيير الخلقة من أصلها، بخلاف الخضب فإنه لا يغير الخلقة على الناظر إليه والله أعلم. وقد نقل عن أحمد أنه يجب، وعنه يجب ولو مرة، وعنه لا أحب

(10/355)


لأحد ترك الخضب ويتشبه بأهل الكتاب، وفي السواد عنه كالشافعية روايتان المشهورة يكره وقيل محرم، ويتأكد المنع لمن دلس به.

(10/356)


68 - باب الْجَعْدِ
5900- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلاَ بِالْقَصِيرِ وَلَيْسَ بِالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ وَلَيْسَ بِالْآدَمِ وَلَيْسَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلاَ بِالسَّبْطِ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ".
5901- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: "مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَحْسَنَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ مَالِكٍ إِنَّ جُمَّتَهُ لَتَضْرِبُ قَرِيباً مِنْ مَنْكِبَيْهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مَا حَدَّثَ بِهِ قَطُّ إِلاَّ ضَحِكَ قَالَ شُعْبَةُ شَعَرُهُ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ".
5902- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أُرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَرَأَيْتُ رَجُلاً آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ اللِّمَمِ قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً مُتَّكِئاً عَلَى رَجُلَيْنِ أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا فَقِيلَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا فَقِيلَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ" .
5903- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حِبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُهُ مَنْكِبَيْهِ".
[الحديث 5903 – طرفه في: 5904]
5904- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ "كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْكِبَيْهِ".
5905- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ شَعَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "كَانَ شَعَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجِلاً لَيْسَ بِالسَّبِطِ وَلاَ الْجَعْدِ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ".
[الحديث 5905 – طرفه في: 5906]

(10/356)


5906- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَخْمَ الْيَدَيْنِ لَمْ أَرَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَكَانَ شَعَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجِلاً لاَ جَعْدَ وَلاَ سَبِطَ".
5907- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَخْمَ الْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ حَسَنَ الْوَجْهِ لَمْ أَرَ بَعْدَهُ وَلاَ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَكَانَ بَسِطَ الْكَفَّيْنِ".
[الحديث 5907 – أطرافه في: 5908، 5910، 5911]
5908، 5909- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هَانِئٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَوْ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَخْمَ الْقَدَمَيْنِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، لَمْ أَرَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ".
5910- وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَثْنَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ".
5911، 5912- وَقَالَ أَبُو هِلاَلٍ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَوْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَخْمَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ لَمْ أَرَ بَعْدَهُ شَبَهاً لَهُ".
5913- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ فَقَالَ إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَاكَ وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذْ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي" .
قوله: "باب الجعد" هو صفة الشعر، يقال شعر جعد بفتح الجيم وسكون المهملة وبكسرها. حديث أنس في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم شرحه في المناقب، والمقصود منه هنا قوله: "وليس بالجعد القطط ولا بالسبط" أي أن شعره كان بين الجعودة والسبوطة، وقد تقدم بيان ذلك في المناقب، وأن الشعر الجعد هو الذي يتجعد كشعور السودان، وأن البسط هو الذي يسترسل فلا يتكسر منه شيء كشعور الهنود، والقطط - بفتح الطاء - البالغ في الجعودة بحيث يتفلفل، وقوله: "وليس في لحيته عشرون شعرة بيضاء" تقدم في المناقب بيان الاختلاف في تعيين العدد المذكور ومما لم يتقدم هناك أن في حديث الهيثم بن دهر عند الطبراني ثلاثون شعرة عددا وسنده ضعيف، والمعتمد ما تقدم أنهن دون العشرين. قوله: "حدثنا مالك بن إسماعيل" هو أبو غسان النهدي. قوله: "قال بعض أصحابي عن مالك" هو ابن إسماعيل المذكور. قوله: "أن جمته" بضم الجيم وتشديد الميم أي شعر رأسه إذا نزل إلى قرب المنكبين قال الجوهري في حرف الواو: والوفرة العشر إلى شحمة الأذن، ثم الجمة ثم اللمة إذا ألمت بالمنكبين. وقد خالف هذا في حرف الجيم فقال: إذا بلغت المنكبين فهي جمة، واللمة إذا جاوزت شحم الأذن. وتقدم نظيره في ترجمة عيسى من أحاديث الأنبياء في شرح

(10/357)


حديث ابن عمر. قال شيخنا في "شرح الترمذي": كلام الجوهري الثاني هو الموافق لكلام أهل اللغة. وجمع ابن بطال بين اللفظين المختلفين في الحديث بأن ذلك إخبار عن وقتين، فكان إذا غفل عن تقصيره بلغ قريب المنكبين وإذا قصه لم يجاوز الأذنين وجمع غيره بأن الثاني كان إذا اعتمر يقصر والأول في غير تلك الحالة وفيه بعد. ثم هذا الجمع إنما يصلح لو اختلفت الأحاديث، وأما هنا فاللفظان وردا في حديث واحد متحدا المخرج، وهما من رواية أبي إسحاق عن البراء، فالأولى في الجمع بينهما الحمل على المقاربة؛ وقد وقع في حديث أنس الآتي قريبا كما وقع في حديث البراء. قوله: "لتضرب قريبا من منكبيه" في رواية شعبة المعلقة عقب هذا "شعره يبلغ شحمة أذنيه" وقد تقدم في المناقب أن في رواية يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق ما يجمع بين الروايتين ولفظه: "له شعر يبلغ شحمة أذنيه إلى منكبيه" وحاصله أن الطويل منه يصل إلى المنكبين وغيره إلى شحمة الأذن، والمراد ببعض أصحابه الذي أبهمه يعقوب بن سفيان، فإنه كذلك أخرجه عن مالك بن إسماعيل بهذا السند وفيه الزيادة. قوله: "قال شعبة: شعره يبلغ شحمة أذنيه" كذا لأبي ذر والنسفي ولغيرهما، تابعه شعبة "شعره الخ" وقد وصله المؤلف رحمه الله في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم" من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن البراء، وشرحه الكرماني على رواية الأكثر وأشار إلى أن البخاري لم يذكر شيخ شعبة قال: فيحتمل أنه أبو إسحاق لأنه شيخه. حديث ابن عمر في صفة عيسى ابن مريم وفيه: "له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم" وفي صفة الدجال "وأنه جعد قطط" وقد تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء، وغلط من استدل بهذا الحديث على أن الدجال يدخل المدينة أو مكة، إذ لا يلزم من كون النبي صلى الله عليه وسلم رآه في المنام بمكة أنه دخلها حقيقة، ولو سلم أنه رآه في زمانه صلى الله عليه وسلم بمكة فلا يلزم أن يدخلها بعد ذلك إذا خرج في آخر الزمان، وقد استدل على ابن صياد أنه ما هو الدجال بكونه سكن المدينة، ومع ذلك فكان عمر وجابر يحلفان على أنه هو الدجال كما سيأتي في آخر الفتن. حديث أنس أورده من عدة طرق عن قتادة عنه ووقع في الرواية الأولى "يضرب شعره منكبيه" وفي الثانية "كان شعره بين أذنيه وعاتقه" والجواب عنه كالجواب في حديث البراء سواء. وقد أخرج مسلم وأبو داود من رواية إسماعيل بن علية عن حميد عن أنس "كان شعر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنصاف أذنيه" ووقع عند داود وابن ماجه وصححه الترمذي من طريق أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "كان شعر النبي صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة" لفظه أبي داود، ولفظ ابن ماجه بنحوه، ولفظ الترمذي عكسه "فوق الجمة ودون الوفرة" وجمع بينهما شيخنا في "شرح الترمذي" بأن المراد بقوله فوق ودون بالنسبة إلى المحل، وتارة بالنسبة إلى الكثرة والقلة، فقوله: "فوق الجمة" أي أرفع في المحل، وقوله: "دون الجمة" أي في القدر وكذا بالعكس، وهو جمع جيد لولا أن مخرج الحديث متحد، وإسحاق في السند الأول هو ابن راهويه وحبان بفتح المهملة وتشديد الموحدة هو ابن هلال. قوله: "كان شعر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا" بفتح الراء وكسر الجيم، وقد تضم وتفتح، أي فيه تكسير يسير، يقال رجل شعره إذا مشطه فكان بين السبوطة والجعودة، وقد فسره الراوي كذلك في بقبة الحديث. ثم أورد من طريق أخرى عن جرير وهو ابن حازم أيضا زاد فيها "كان ضخم اليدين" وفي ثالثة "كان ضخم الرأس والقدمين" ولم يذكر ما في الروايتين الأوليين من صفة الشعر، وزاد: "لم أر قبله ولا بعده مثله" قال: "وكان سبط الكفين" ثم أورده من طريق معاذ بن هانئ عن همام بسند نحوه لكن قال: "عن قتادة عن أنس، أو عن رجل عن أبي هريرة" وهذه الزيادة لا

(10/358)


تأثير لها في صحة الحديث، لأن الذين جزموا بكون الحديث عن قتادة عن أنس أضبط وأتقن من معاذ بن هانئ، وهم حبان بن هلال وموسى بن إسماعيل كما هنا، وكذا جرير بن حازم كما مضى ومعمر كما سيأتي حيث جزما به عن قتادة عن أنس، ويحتمل أن يكون عند قتادة من الوجهين؛ والرجل المبهم يحتمل أن يكون هو سعيد بن المسيب فقد أخرج ابن سعد من روايته عن أبي هريرة نحوه، وقتادة معروف بالرواية عن سعيد بن المسيب، وجوز الكرماني أن يكون الحديث من مسند أبي هريرة، وإنما وقع التردد في الراوي هل هو أنس أو رجل مبهم ثم رجح كون التردد في كونه من مسند أنس أو من مسند أبي هريرة بأن أنسا خادم النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعرف بوصفه من غيره فبعد أن يروي عن رجل عن صحابي آخر هو أقل ملازمة له منه ا ه، وكلامه الأخير لا يحتمله السياق أصلا، وإنما الاحتمال البعيد ما ذكره أولا، والحق أن التردد فيه من معاذ بن هانئ هل حدثه به همام عن قتادة عن أنس أو عن قتادة عن رجل عن أبي هريرة، وبهذا جزم أبو مسعود والحميدي والمزي وغيرهم من الحفاظ. قوله: "وقال هشام" هو ابن يوسف "عن معمر عن قتادة عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم شثن الكفين والقدمين" هذا التعليق وصله الإسماعيلي من طريق علي بن بحر عن هشام بن يوسف به سواء، وكذا أخرجه يعقوب بن سفيان عن مهدي بن أبي مهدي عن هشام بن يوسف، وقوله: "شثن" بفتح المعجمة وسكون المثلثة وبكسرها بعدها نون أي غليظ الأصابع والراحة، قال ابن بطال: كانت كفه صلى الله عليه وسلم ممتلئة لحما، غير أنها مع ضخامتها كانت لينة كما تقدم في حديث أنس يعني الذي مضى في المناقب "ما مسست حريرا ألين من كفه صلى الله عليه وسلم" قال: وأما قول الأصمعي الشثن غلظ الكف مع خشونتها فلم يوافق على تفسيره بالخشونة، والذي فسره به الخليل وأبو عبيدة أولى، ويؤيده قوله في الرواية الأخرى "ضخم الكفين والقدمين" قال ابن بطال: وعلى تقدير تسليم ما فسر الأصمعي به الشثن يحتمل أن يكون أنس وصف حالتي كف النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا عمل بكفه في الجهاد أو في مهنة أهله صار كفه خشنا للعارض المذكور، وإذا ترك ذلك رجع كفه إلى أصل جبلته من النعومة والله أعلم. وقال عياض: فسر أبو عبيد الشثن بالغلظ مع القصر، وتعقب بأنه ثبت في وصفه صلى الله عليه وسلم أنه كان سابل الأطراف. قلت: ويؤيده قوله في رواية أبي النعمان في الباب: "كان بسط الكفين" ووقع هنا في رواية الكشميهني: "سبط الكفين" بتقديم المهملة على الموحدة، وهو موافق لوصفها باللين. قال العياض: وفي رواية المروزي "سبط أو بسط" بالشك والتحقيق في الشثن أنه الغلظ من غير قيد قصر ولا خشونة، وقد نقل ابن خالويه أن الأصمعي لما فسر الشثن بما مضى قيل له إنه ورد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فآلى على نفسه أنه لا يفسر شيئا في الحديث اهـ - ومجيء شثن الكفين بدل سبط الكفين أو بسط الكفين قال دال على أن المراد وصف الخلقة وأما من فسره ببسط العطاء فإنه وإن كان الواقع كذلك لكن ليس مرادا هنا. قوله: "وقال أبو هلال أنبأنا قتادة عن أنس أو جابر كان النبي صلى الله عليه وسلم ضخم الكفين والقدمين لم أر بعده شبيها له" هذا التعليق وصله البيهقي في "الدلائل" ووقع لنا بعلو في "فوائد العيسوي" كلاهما من طريق أبي سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي حدثنا أبو هلال به، وأبو هلال اسمه محمد بن سليم الراسبي بكسر المهملة والموحدة بصري صدوق وقد ضعفه من قبل حفظه فلا تأثير لشكه أيضا، وقد بينت إحدى روايات جرير بن حازم صحة الحديث بتصريح قتادة بسماعه له من أنس، وكأن المصنف أراد بسياق هذه الطرق بيان الاختلاف فيه على قتادة وأنه لا تأثير له ولا يقدح في صحة الحديث، وخفي مراده على بعض الناس فقال: هذه الروايات الواردة في صفة الكفين والقدمين لا تعلق لها بالترجمة، وجوابه

(10/359)


أنها كلها حديث واحد اختلفت رواته بالزيادة فيه والنقص، والمراد منه بالأصالة صفة الشعر وما عدا ذلك فهو تبع والله أعلم. وما دل عليه الحديث من كون شعره صلى الله عليه وسلم كان إلى قرب منكبيه كان غالب أحواله، وكان ربما طال حتى يصير ذؤابة ويتخذ منه عقائص وضفائر كما أخرج أبو داود والترمذي بسند حسن من حديث أم هانئ قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وله أربع غدائر" وفي لفظ: "أربع ضفائر" وفي رواية ابن ماجه: "أربع غدائر يعني ضفائر" والغدائر بالغين المعجمة جمع غديرة بوزن عظيمة، والضفائر بوزنه. فالغدائر هي الذوائب والضفائر هي العقائص، فحاصل الخبر أن شعره طال حتى صار ذوائب فضفره أربع عقائص، وهذا محمول على الحال التي يبعد عهده بتعهده شعره فيها وهي حالة الشغل بالسفر ونحوه والله أعلم. وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه من رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل فقال: "ذناب ذباب، فرجعت فجززته، ثم أتيت من الغد فقال: "إني لم أعنك " وهذا أحسن. حديث أبو هريرة وجابر ذكرا تبعا لحديث أنس كما تقدم. حديث ابن عباس في ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام وقد تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء. والغرض منه قوله: " وأما موسى فرجل آدم - بالمد - جعد" الحديث، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "صاحبكم" نفسه صلى الله عليه وسلم.

(10/360)


69 - باب التَّلْبِيدِ
5914- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: "سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مَنْ ضَفَّرَ فَلْيَحْلِقْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالتَّلْبِيدِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلَبِّداً".
5915- حَدَّثَنِي حِبَّانُ بْنُ مُوسَى وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالاَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ مُلَبِّداً يَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لاَ يَزِيدُ عَلَى هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ".
5916- حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ" .
قوله: "باب التلبيد" هو جمع الشعر في الرأس بما يلزق بعضه ببعض كالخطمي والصمغ لئلا يتشعث ويقمل في الإحرام، وقد تقدم بسطه في الحج. قوله: "سمعت عمر يقول من ضفر" بفتح المعجمة والفاء مخففا ومثقلا. قوله: "فليحلق ولا تشبهوا بالتلبيد" يعني في الحج "وكان ابن عمر يقول: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ملبدا" كذا في هذه الرواية، وتقدم في أوائل الحج بلفظ: "سمعت رسول الله يهل ملبدا" كما في الرواية التي تلي هذه في الباب، وأما قول عمر فحمله ابن بطال على أن المراد إن أراد الإحرام فضفر شعره ليمنعه من الشعث لم يجز له أن يقصر،

(10/360)


لأنه فعل ما يشبه التلبيد الذي أوجب الشارع فيه الحلق، وكان عمر يرى أن من لبد رأسه في الإحرام تعين عليه الحلق والنسك ولا يجزئه التقصير، فشبه من ضفر رأسه بمن لبده. فلذلك أمر من ضفران يحلق. ويحتمل أن يكون عمر أراد الأمر بالحلق عند الإحرام حتى لا يحتاج إلى التلبيد ولا إلى الضفر، أي من أراد أن يضفر أو يلبد فليحلق فهو أولى من أن يضفر أو يلبد، ثم إذا أراد بعد ذلك التقصير لم يصل إلى الأخذ من سائر النواحي كما هي السنة، وأما قوله: "تشبهوا" فحكى ابن بطال أنه بفتح أوله والأصل لا تتشبهوا فحذفت إحدى التاءين، قال: ويجوز ضم أوله وكسر الموحدة، والأول أظهر. وأما قول ابن عمر فظاهره أنه فهم عن أبيه أنه كان يرى أن ترك التلبيد أولى، فأخبر هو أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وتقدم شرح التلبيد وحكمه في كتاب الحج. تقدم شرح التلبيد وحكمه في كتاب الحج. حديث حفصة "إني لبدت رأسي وقلدت هديي" الحديث تقدم شرحه في كتاب الحج.

(10/361)


70 - باب الْفَرْقِ
5917- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ أَشْعَارَهُمْ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ فَسَدَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاصِيَتَهُ ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ".
5918- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ قَالاَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فِي مَفْرِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".
قوله: "باب الفرق" بفتح الفاء وسكون الراء بعدها قاف، أي فرق شعر الرأس، وهو قسمته في المفرق وهو وسط الرأس، يقال فرق شعره فرقا بالسكون، وأصله من الفرق بين الشيئين، والمفرق مكان انقسام الشعر من الجبين إلى دارة وسط الرأس، وهو بفتح الميم وبكسرها، وكذلك الراء تكسر وتفتح. قوله: "عن ابن عباس" كذا وصله إبراهيم بن سعد ويونس، وقد تقدم في الهجرة وغيرها، واختلف على معمر في وصله وإرساله، قال عبد الرزاق في مصنفه "أنبأنا معمر عن الزهري عن عبيد الله لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة" فذكره مرسلا، وكذا أرسله مالك حيث أخرجه في "الموطأ" عن زياد بن سعد عن الزهري ولم يذكر من فوقه. قوله: "كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه" في رواية معمر " وكان إذا شك في أمر لم يؤمر فيه بشيء صنع ما يصنع أهل الكتاب". قوله: "وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم" بسكون السين وكسر الدال المهملتين أي يرسلونها. قوله: "وكان المشركون يفرقون" هو بسكون الفاء وضم الراء وقد شددها بعضهم حكاه عياض قال: والتخفيف أشهر، وكذا في قوله: "ثم فرق" الأشهر فيه التخفيف، وكأن السر في ذلك أن أهل الأوثان أبعد عن الإيمان من أهل الكتاب، ولأن أهل الكتاب يتمسكون بشريعة في الجملة فكان يحب موافقتهم ليتألفهم ولو أدت موافقتهم إلى مخالفة أهل الأوثان، فلما أسلم أهل الأوثان الذين معه والذين حوله واستمر أهل الكتاب على

(10/361)


كفرهم تمحضت المخالفة لأهل الكتاب. قوله: "ثم فرق بعد" في رواية معمر "ثم أمر بالفرق ففرق" وكان الفرق آخر الأمرين، ومما يشبه الفرق والسدل صبغ الشعر وتركه كما تقدم، ومنها صوم عاشوراء، ثم أمر بنوع مخالفة لهم فيه بصوم يوم قبله أو بعده، ومنها استقبال القبلة، ومخالفتهم في مخالطة الحائض حتى قال: "اصنعوا كل شيء إلا الجماع" فقالوا: ما يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، وقد تقدم بيانه في كتاب الحيض، وهذا الذي استقر عليه الأمر. ومنها ما يظهر إلى النهي عن صوم يوم السبت، وقد جاء ذلك من طرق متعددة في النسائي وغيره، وصرح أبو داود بأنه منسوخ وناسخه حديث أم سلمة "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت والأحد يتحرى ذلك ويقول إنهما يوما عبد الكفار وأنا أحب أن أخالفهم" وفي لفظ: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان أكثر صيامه السبت والأحد" أخرجه أحمد والنسائي، وأشار بقوله: "يوما عيد" إلى أن يوم السبت عيد عند اليهود والأحد عيد عند النصارى وأيام العيد لا تصام فخالفهم بصيامها، ويستفاد من هذا أن الذي قاله بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيدا بل الأولى في المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه، وأما السبت والأحد فالأول أن يصاما معا وفرادى امتثالا لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب، قال عياض: سدل الشعر إرساله، يقال سدل شعره وأسدله إذا أرسله ولم يضم جوانبه، وكذا الثوب، والفرق تفريق الشعر بعضه من بعض وكشفه عن الجبين، قال والفرق سنة لأنه الذي استقر عليه الحال. والذي يظهر أن ذلك وقع بوحي، لقول الراوي في أول الحديث إنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فالظاهر أنه فرق بأمر من الله حتى ادعى بعضهم فيه النسخ ومنع السدل واتخاذ الناصية. وحكي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وتعقبه القرطبي بأن الظاهر أن الذي كان صلى الله عليه وسلم يفعله إنما هو لأجل استئلافهم، فلما لم ينجع فيهم أحب مخالفتهم فكانت مستحبة لا واجبة عليه. وقول الراوي "فيما لم يؤمر فيه بشيء" أي لم يطلب منه والطلب يشمل الوجوب والندب وأما توهم النسخ في هذا فليس بشيء لإمكان الجمع، بل يحتمل أن لا يكون الموافقة والمخالفة حكما شرعيا إلا من جهة المصلحة، قال: ولو كان السدل منسوخا لصار إليه الصحابة أو أكثرهم، والمنقول عنهم أن منهم من كان يفرق ومنهم من كان يسدل ولم يعب بعضهم على بعض، وقد صح أنه كانت له صلى الله عليه وسلم لمة، فإن انفرقت فرقها وإلا تركها، فالصحيح أن الفرق مستحب لا واجب، وهو قول مالك والجمهور. قلت: وقد جزم الحازمي بأن السدل نسخ بالفرق، واستدل برواية معمر التي أشرت إليها قبل وهو ظاهر. وقال النووي: الصحيح جواز السدل والفرق. قال: واختلفوا في معنى قوله: "يحب موافقة أهل الكتاب" فقيل للاستئناف كما تقدم، وقيل المراد أنه كان مأمورا باتباع شرائعهم فيما لم يوح إليه بشيء وما علم أنهم لم يبدلوه. واستدل به بعضهم على أن شرع من قبلنا شرع لنا حتى يرد في شرعنا ما يخالفه، وعكس بعضهم فاستدل به على أنه ليس بشرع لنا لأنه لو كان كذلك لم يقل "يحب" بل كان يتحتم الاتباع. والحق أن لا دليل في هذا على المسألة، لأن القائل به يقصره على ما ورد في شرعنا أنه شرع لهم لا ما يؤخذ عنهم هم إذ لا وثوق بنقلهم، والذي جزم به القرطبي أنه كان يوافقهم لمصلحة التأليف محتمل، ويحتمل أيضا - وهو أقرب - أن الحالة التي تدور بين الأمرين لا ثالث لهما إذا لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم شيء كان يعمل فيه بموافقة أهل الكتاب لأنهم أصحاب شرع بخلاف عبدة الأوثان فإنهم ليسرا على شريعة، فلما أسلم المشركون انحصرت المخالفة في أهل الكتاب فأمر بمخالفتهم، وقد جمعت المسائل التي وردت الأحاديث فيها بمخالفة

(10/362)


أهل الكتاب فزادت على الثلاثين حكما، وقد أودعتها كتابي الذي سميته "القول الثبت في الصوم يوم السبت" ويؤخذ من قول ابن عباس في الحديث: "كان يحب موافقة أهل الكتاب" وقوله: "ثم فرق" بعد نسخ حكم تلك الموافقة كما قررته ولله الحمد، ويؤخذ منه أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ. حديث عائشة قالت: "كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم" وقد تقدم شرحه في الحج، وقوله: "عبد الله" هو ابن رجاء الذي أخرج الحديث عنه مقرونا بأبي الوليد وهو الطيالسي، وأراد أن أبا الوليد رواه بلفظ الجمع فقال: "مفارق" وعبد الله بن رجاء رواه بلفظ الإفراد فقال: "مفرق" وقد وافق عبد الله بن رجاء آدم عند المصنف في الطهارة ومحمد بن كثير عند الإسماعيلي وكذا عند مسلم من رواية الحسن بن عبيد الله وعند أحمد من رواية منصور وحماد وعطاء بن السائب كلهم عن إبراهيم عنه، ووافق أبا الوليد محمد بن جعفر غندر عند مسلم والأعمش عند أحمد والنسائي وعبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عند مسلم، وكأن الجمع وقع باعتبار تعدد انقسام الشعر، والله أعلم.

(10/363)


71 - باب الذَّوَائِبِ
5919- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ عَنْبَسَةَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ ح وحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ خَالَتِي وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ قَالَ فَأَخَذَ بِذُؤَابَتِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ بِهَذَا وَقَالَ بِذُؤَابَتِي أَوْ بِرَأْسِي".
قوله: "باب الذوائب" جمع ذؤابة، والأصل ذآئب فأبدلت الهمزة واوا، والذؤابة ما يتدلى من شعر الرأس. ذكر فيه حديث ابن عباس في صلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، وقد مضى شرحه في الصلاة، والغرض منه هنا قوله: "فأخذ بذؤابتي" فإن فيه تقريره صلى الله عليه وسلم على اتخاذ الذؤابة، وفيه دفع لرواية من فسر القزع بالذؤابة كما سأذكره في الباب الذي يليه. أورد المصنف الحديث من رواية الفضل بن عنبسة عن هشيم، ثم أردفها بروايته عاليا عن قتيبة عن هشيم، وإنما أورده نازلا من أجل تصريح هشيم فيها بالإخبار، ثم أردفه بروايته عاليا أيضا عن عمرو بن محمد الناقد عن هشيم مصرحا أيضا، وكأنه استظهر بذلك لأن في الفضل بن عنبسة مقالا لكنه غير قادح، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع.

(10/363)


72 - باب الْقَزَعِ
5920- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنِي مَخْلَدٌ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَفْصٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ نَافِعٍ أَخْبَرَهُ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ الْقَزَعِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: قُلْتُ: وَمَا الْقَزَعُ؟ فَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: إِذَا حَلَقَ الصَّبِيَّ وَتَرَكَ هَا هُنَا شَعَرَةً

(10/363)


باب تطييب المرأة زوجها بيدها
...
3 - باب تَطْيِيبِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا بِيَدَيْهَا
5922- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "طَيَّبْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي لِحُرْمِهِ وَطَيَّبْتُهُ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ".
قوله: "باب تطيب المرأة زوجها بيديها" كأن فقه هذه الترجمة من جهة الإشارة إلى الحديث الوارد في الفرق بين طيب الرجل والمرأة، وأن طيب الرجل ما ظهر ريحه وخفي لونه والمرأة بالعكس، فلو كان ذلك ثابتا لامتنعت المرأة من تطيب زوجها لما يعلق بيديها وبدنها منه حالة تطييبها له، وكان يكفيه أن يطيب نفسه، فاستدل المصنف بحديث عائشة المطابق للترجمة، وقد تقدم مشروحا في الحج، وهو ظاهر فيما ترجم له، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي وصححه الحاكم من حديث عمران بن حصين وله شاهد عن أبي موسى الأشعري عند الطبراني في "الأوسط" ووجه التفرقة أن المرأة مأمورة بالاستتار حالة بروزها من منزلها، والطيب الذي له رائحة لو شرع لها كانت فيه زيادة في الفتنة بها، وإذا كان الخبر ثابتا فالجمع بينه وبين حديث الباب أن لها مندوحة أن تغسل أثره إذا أرادت الخروج، لأن منعها خاص بحالة الخروج والله أعلم. وألحق بعض العلماء بذلك لبسها النعل الصرارة وغير ذلك مما يلفت النظر إليها. وأحمد بن محمد شيخ البخاري فيه هو المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك ويحيى هو ابن سعد الأنصاري. قوله: "طيبته بيدي لحرمه، وطيبته بيدي بمنى قبل أن يفيض" سيأتي بعد أبواب من وجه آخر عنها أنها طيبته بذريرة.

(10/366)


74 - باب الطِّيبِ فِي الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ
5923- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ".
قوله: "باب الطيب في الرأس واللحية" إن كان باب بالتنوين فيكون ظاهر الترجمة الحصر في ذلك، وإن كان بالإضافة فالتقدير باب حكم الطيب أو مشروعية الطيب. قوله: "حدثني إسحاق بن نصر" هو ابن إبراهيم بن نصر نسبه إلى جده، وإسرائيل هو ابن يونس، وأبو إسحاق هو السبيعي. قوله: "بأطيب ما أجد" يؤيد ما ذكرته في الباب الذي قبله، ولعله أشار بالترجمة إلى الحديث المذكور في التفرقة بين طيب الرجال والنساء. وقال ابن بطال: يؤخذ منه أن طيب الرجال لا يجعل في الوجه بخلاف طيب النساء، لأنهن يطيبن وجوههن ويتزين بذلك بخلاف الرجال، فإن تطييب الرجل في وجهه لا يشرع لمنعه من التشبه بالنساء.

(10/366)


75 - باب الِامْتِشَاطِ
5924- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ "أَنَّ رَجُلاً

(10/366)


76 - باب تَرْجِيلِ الْحَائِضِ زَوْجَهَا
5920- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا حَائِضٌ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ ... مِثْلَهُ
قوله: "باب ترجيل الحائض زوجها" أي تسريحها شعره. حديث مالك عن ابن شهاب وهشام بن عروة فرقهما كلاهما عن عروة عن عائشة، وقد تقدم في الطهارة عن عبد الله بن يوسف الذي أخرجه عنه هنا عن مالك عن الزهري فقط، والحديث في الموطأ هكذا مفرقا عند أكثر الرواة، ورواه خالد بن مخلد وابن وهب ومعن بن عيسى وعبد الله بن نافع وأبو حذافة عن مالك عن ابن شهاب وهشام بن عروة جميعا عن عروة أخرجها الدار قطني في "الموطآت". قوله: "كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض" كذا عند جميع الرواة عن مالك، ورواه أبو حذافة عنه عن هشام بلفظ: "أنها كانت تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مجاور في المسجد وهي حائض يخرجه إليها" أخرجه الدار قطني أيضا.

(10/368)


77 - باب التَّرْجِيلِ وَالتَّيَمُّنِ
5926- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ مَا اسْتَطَاعَ فِي تَرَجُّلِهِ وَوُضُوئِهِ".
قوله: "باب الترجيل والتيمن فيه" ذكر فيه حديث عائشة "كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله" وقد تقدم شرحه في الطهارة. والتيمن في الترجل أن يبدأ بالجانب الأيمن وأن يفعله باليمنى، قال ابن بطال: الترجيل تسريح شعر الرأس واللحية ودهنه، وهو من النظافة وقد ندب الشرع إليها. وقال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وأما حديث النهي عن الترجل إلا غبا يعني الحديث الذي أشرت إليه قريبا فالمراد به ترك المبالغة في الترفه وقد روى أبو أمامة بن ثعلبة رفعه: "البذاذة من الإيمان" اهـ. وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود، والبذاذة بموحدة ومعجمتين رثاثة الهيئة، والمراد بها هنا ترك الترفه والتنطع في اللباس والتواضع فيه مع القدرة لا بسبب جحد نعمة الله تعالى. وأخرج النسائي من طريق عبد الله بن بريدة "أن رجلا من الصحابة يقال له عبيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن كثير من الإرفاه" قال ابن بريدة الإرفاه الترجل. قلت: الإرفاه بكسر الهمزة وبفاء وآخره هاء التنعم والراحة، ومنه الرفه بفتحتين وقيده في الحديث بالكثير إشارة إلى أن الوسط المعتدل منه لا يذم، وبذلك يجمع بين الأخبار. وقد أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي هريرة رفعه: "من كان له شعر فليكرمه" وله شاهد من حديث عائشة في "الغيلانيات" وسنده حسن أيضا.

(10/368)


78 - باب مَا يُذْكَرُ فِي الْمِسْكِ
5927- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ"
قوله: "باب ما يذكر في المسك" قد تقدم التعريف به في كتاب الذبائح حيث ترجم له "باب المسك". حديث أبي هريرة رفعه: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم" الحديث من أجل قوله: "أطيب عند الله من ريح المسك" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصيام، وقوله هنا: "فإنه لي وأنا أجزي به" ظاهر سياقه أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك وإنما هو من كلام الله عز وجل. وهو من رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، كذلك أخرجه المصنف في التوحيد من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يرويه عن ربكم عز وجل، قال: لكل عمل كفارة فالصوم لي وأنا أجزي به" الحديث. وأخرجه الشيخان من رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله غز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" ولمسلم من طريق ضرار بن مرة عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعد قالا: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يقول: "إن الصوم لي وأنا أجزي به" وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الصيام مع الإشارة إلى ما بينت هنا، وذكرت أقوال العلماء في معنى إضافته سبحانه وتعالى الصيام إليه بقوله: "فإنه في" ونقلت عن أبي الخير الطالقاني أنه أجاب عنه بأجوبة كثيرة نحو الخمسين، وأنني لم أقف عليه، وقد يسر الله تعالى الوقوف على كلامه، وتتبعت ما ذكره متأملا فلم أجد فيه زيادة على الأجوبة العشرة التي حررتها هناك إلا إشارات صوفية وأشياء تكررت معنى وإن تغايرت لفظا وغالبها يمكن ردها إلى ما ذكرته، فمن ذلك قوله لأنه عبادة خالية عن السعي، وإنما هي ترك محض. وقوله: يقول هو لي فلا يشغلك ما هو لك عما هو في. وقوله: من شغله ما لي عني أعرضت عنه وإلا كنت له عوضا عن الكل. وقوله لا يقطعك ما لي عني. وقوله: لا يشغلك الملك عن المالك. وقوله: فلا تطلب غيري. وقوله: فلا يفسد ما لي عليك بك. وقوله: فاشكرني على أن جعلتك محلا للقيام بما هو لي. وقوله: فلا تجعل لنفسك فيه حكما. وقوله فمن ضيع حرمة ما لي ضيعت حرمة ما له لأن فيه جبر الفرائض والحدود. وقوله فمن أداه بما لي وهو نفسه صح البيع. وقوله فكن حيث تصلح أن تؤدي ما لي. وقوله أضافه إلى نفسه لأن به يتذكر العبد نعمة الله عليه في الشبع. وقوله لأن فيه تقديم رضا الله على هوى النفس. وقوله لأن فيه التمييز بين الصائم المطيع وبين الآكل العاصي. وقوله: لأنه كان محل نزول القرآن. وقوله لأن ابتداءه على المشاهدة وانتهاءه على المشاهدة لحديث: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وقوله: لأن فيه رياضة النفس بترك المألوفات. وقوله: لأن فيه حفظ الجوارح عن المخالفات. وقوله: لأن فيه قطع الشهوات. وقوله لأن فيه مخالفة النفس بترك محبوبها وفي مخالفة النفس موافقة الحق. وقوله: لأن فيه فرحة اللقاء. وقوله لأن فيه مشاهدة الآمر به. وقوله لأن فيه مجمع العبادات لأن مدارها على الصبر والشكر وهما حاصلان فيه. وقوله معناه الصائم لي لأن الصوم صفة الصائم وقوله معنى الإضافة الإشارة إلى الحماية لئلا يطمع الشيطان في إفساده. وقوله لأنه عبادة استوى فيها الحر والعبد والذكر والأنثى، وهذا عنوان ما ذكره مع إسهاب في العبارة، ولم أستوعب ذلك لأنه ليس على شرطي في هذا

(10/369)


الكتاب، وإنما كنت أجد النفس متشوقة إلى الوقوف على تلك الأجوبة، وغالب من نقل عنه من شيوخنا لا يسوقها وإنما يقتصر على أن الطالقاني أجاب عنه بنحو من خمسين أو ستين جوابا ولا يذكر منه شيئا، فلا أدري أتركوه إعراضا أو مللا، أو اكتفى الذي وقف عليه أولا بالإشارة ولم يقف عليه من جاء من بعده، والله أعلم.

(10/370)


3 - باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الطِّيبِ
5928- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ".
قوله: "باب ما يستحب من الطيب" كأنه يشير إلى أنه يندب استعمال أطيب ما يوجد من الطيب، ولا يعدل إلى الأدنى مع وجود الأعلى، ويحتمل أن يشير إلى التفرقة بين الرجال والنساء في التطيب كما تقدمت الإشارة إليه قريبا. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل ووهيب هو ابن خالد وهشام هو ابن عروة. قوله: "عن عثمان بن عروة" هكذا أدخل هشام بينه وبين أبيه عروة في هذا الحديث أخاه عثمان، وذكر الحميدي عن سفيان بن عيينة أن عثمان قال له: ما يروي هشام هذا الحديث إلا عني اهـ. وقد ذكر مسلم في مقدمة كتابه أن الليث وداود العطار وأبا أسامة وافقوا وهيب بن خالد عن هشام في ذكر عثمان، وأن أيوب وابن المبارك وابن نمير وغيرهم رووه عن هشام عن أبيه بدون ذكر عثمان. قلت: ورواية الليث عند النسائي والدارمي، ورواية داود العطار عند أبي عوانة. ورواية أبي أسامة وصلها مسلم. ورواية أيوب عند النسائي. وذكر الدار قطني أن إبراهيم بن طهمان وابن إسحاق وحماد بن سلمة في آخرين رووه أيضا عن هشام بدون ذكر عثمان، قال: ورواه ابن عيينة عن هشام عن عثمان قال: ثم لقيت عثمان فحدثني به وقال لي: لم يروه هشام إلا عني. قال الدار قطني: لم يسمعه هشام عن أبيه وإنما سمعه من أخيه عن أبيه. وأخرج الإسماعيلي عن سفيان قال: لا أعلم عند عثمان إلا هذا الحديث اهـ. وقد أورد له أحمد في مسنده حديثا آخر في فضل الصف الأول وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. قوله: "عند إحرامه بأطيب ما أجد" في رواية أبي أسامة بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم. وفي رواية أحمد عن ابن عيينة "حدثنا عثمان أنه سمع أباه يقول: سألت عائشة بأي شيء طيبت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: بأطيب الطيب" وكذا أخرجه مسلم، وله من طريق عمرة عن عائشة "لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض بأطيب ما وجدت" ومن طريق الأسود عن عائشة "كان إذا أراد أن يحرم بتطيب بأطيب ما يجد" وله من وجه آخر عن الأسود عنها "كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم" ومن طريق القاسم عن عائشة "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بطيب فيه مسك" وقد تقدم بسط هذا الموضع والبحث في أحكامه في كتاب الحج، والغرض منه هنا أن المراد بأطيب الطيب المسك، وقد ورد ذلك صريحا أخرجه مالك من حديث أبي سعيد رفعه قال: "المسك أطيب الطيب" وهو عند مسلم أيضا.

(10/370)


80 - باب مَنْ لَمْ يَرُدَّ الطِّيبَ
5929- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ

(10/370)


81 - باب الذَّرِيرَةِ
5930- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ سَمِعَ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمَ يُخْبِرَانِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ بِذَرِيرَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالإِحْرَامِ".
قوله: "باب الذريرة" بمعجمة وراءين بوزن عظيمة، وهي نوع من الطيب مركب، قال الداودي تجمع مفرداته ثم تسحق وتنخل ثم تذر في الشعر والطوق فلذلك سميت ذريرة، كذا قال، وعلى هذا فكل طيب مركب ذريرة، لكن الذريرة نوع من الطيب مخصوص يعرفه أهل الحجاز وغيرهم، وجزم غير واحد منهم النووي بأنه فتاب قصب طيب يجاء به من الهند. قوله: "حدثنا عثمان بن الهيثم أو محمد عنه" أما محمد فهو ابن يحيى الذهلي، وأما عثمان فهو من شيوخ البخاري، وقد أخرج عنه عدة أحاديث بلا واسطة منها في أواخر الحج، وفي النكاح. وأخرج عنه في الأيمان والنذور كما سيأتي حديثا آخر بمثل هذا التردد. قوله: "أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة" أي ابن الزبير وهو مدني ثقة قليل الحديث ما له في البخاري إلا هذا الحديث الواحد، وقد ذكر ابن حبان في أتباع التابعين من الثقات. قوله: "سمع عروة" هو جده والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر. قوله: "بذريرة" كأن الذريرة كان فيها مسك بدليل الرواية الماضية. قوله: "للحل والإحرام" كذا وقع مختصرا هنا وكذا لمسلم، وأخرجه

(10/371)


الإسماعيلي من رواية روح بن عبادة عن ابن جريج بلفظ: "حين أحرم وحين رمى الجمرة يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت".

(10/372)


82 - باب الْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ
5931- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى مَالِي لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}
قوله: "باب المتفلجات للحسن" أي لأجل الحسن، والمتفلجات جمع متفلجة وهي التي تطلب الفلج أو تصنعه، والفلج بالفاء واللام والجيم انفراج ما بين الثنيتين، والتفلج أن يفرج بين المتلاصقين بالمبرد ونحوه، وهو مختص عادة بالثنايا والرباعيات، ويستحسن من المرأة فربما صنعته المرأة التي تكون أسنانها متلاصقة لتصير متفلجة، وقد تفعله الكبيرة توهم أنها صغيرة، لأن الصغيرة غالبا تكون مفلجة جديدة السن، ويذهب ذلك في الكبر، وتحديد الأسنان يسمى الوشر بالراء، وقد ثبت النهي عنه أيضا في بعض طرق حديث ابن مسعود ومن حديث غيره في السنن وغيرها، وستأتي الإشارة إليه في آخر "باب الموصولة" فورد النهي عن ذلك لما فيه من تغيير الخلقة الأصلية. قوله: "حدثنا عثمان" هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر وإبراهيم هو النخعي، وعلقمة هو ابن قيس، والإسناد كله كوفيون. وقال الدار قطني: تابع منصور الأعمش. ومن أصحاب الأعمش من لم يذكر عنه علقمة في السند. وقال إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي عن أم يعقوب عن ابن مسعود، والمحفوظ قول منصور. قوله: "لعن الله الواشمات" جمع واشمة بالشين المعجمة وهي التي تشم "والمستوشمات" جمع مستوشمة وهي التي تطلب الوشم، ونقل ابن التيم عن الداودي أنه قال: الواشمة التي يفعل بها الوشم والمستوشمة التي تفعله، ورد عليه ذلك. وسيأتي بعد بابين من وجه آخر عن منصور بلفظ: "المستوشمات" وهو بكسر الشين التي تفعل ذلك وبفتحها التي تطلب ذلك، ولمسلم من طريق مفضل بن مهلهل عن منصور "والموشومات" وهي من يفعل بها الوشم. قال أهل اللغة: الوشم بفتح ثم سكون أن يغرز في العضو إبرة أو نحوها حتى يسيل الدم ثم يحشى بنورة أو غيرها فيخضر. وقال أبو داود في السنن. الواشمة التي تجعل الخيلان في وجهها بكحل أو مداد، والمستوشمة المعمول بها انتهى. وذكر الوجه للغالب وأكثر ما يكون في الشفة وسيأتي عن نافع في آخر الباب الذي يليه أنه يكون في اللثة، فذكر الوجه ليس قيدا، وقد يكون في اليد وغيرها من الجسد، وقد يفعل ذلك نقشا، وقد يجعل دوائر، وقد يكتب اسم المحبوب، وتعاطيه حرام بدلالة اللعن كما في حديث الباب، ويصير الموضع الموشوم نجسا لأن الدم انحبس فيه فتجب إزالته إن أمكنت ولو بالجرح إلا إن خاف منه تلفا أو شينا أو فوات منفعة عضو فيجوز إبقاؤه، وتكفي التوبة في سقوط الإثم، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة. قوله: "والمتنمصات" يأتي شرحه في باب مفرد يلي الباب الذي يليه، ووقع عند أبي داود عن محمد بن عيسى عن جرير "الواصلات" بدل المتنمصات هنا. قوله: "والمتفلجات للحسن" يفهم منه أن المذمومة من فعلت ذلك لأجل الحسن

(10/372)


فلو احتاجت إلى ذلك لمداواة مثلا جاز. قوله: "المغيرات خلق الله" هي صفة لازمة لمن يصنع الوشم والنمص والفلج وكذا الوصل على إحدى الروايات. قوله: "ما لي لا ألعن" كذا هنا باختصار، ويأتي بعد باب عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير بزيادة ولفظه: "فقالت أم يعقوب ما هذا" وأخرجه مسلم عن عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم شيخي البخاري فيه أتم سياقا منه فقال: "بلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات الخ؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن؟" وذكر مسلم أن السياق لإسحاق. وقد أخرجه أبو داود عن عثمان وسياقه موافق لسياق إسحاق إلا في أحرف يسيرة لا تغير المعنى وسبق في تفسير سورة الحشر للمصنف من طريق الثوري عن منصور بتمامه، لكن لم يقل فيه: "وكانت تقرأ القرآن" وما في قول ابن مسعود "ما لي لا ألعن" استفهامية، وجوز الكرماني أن تكون نافية وهو بعيد. قوله: "وهو في كتاب الله" { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} كذا أورده مختصرا، زاد في رواية إسحاق "فقالت والله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته" وفي رواية مسلم عن عثمان "ما بين لوحي المصحف" والمراد به ما يجعل المصحف فيه، وكانوا يكتبون المصحف في الرق ويجعلون له دفتين من خشب، وقد يطلق على الكرسي الذي يوضع عليه المصحف اسم لوحين، قوله: "فقالت والله لقد قرأت" في رواية مسلم: "لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه" كذا فيه بإثبات الياء في الموضعين وهي لغة، والأفصح حذفها في خطاب المؤنث في الماضي. قوله: "وما آتاكم الرسول - إلى - فانتهوا" في رواية مسلم: "قال الله عز وجل وما آتاكم الخ" وزاد: "فقالت المرأة إني أرى شيئا من هذا على امرأتك" وقد تقدم ذلك في تفسير الحشر، وقد أخرجه الطبراني من طريق مسروق عن عبد الله وزاد في آخره: "فقال عبد الله ما حفظت وصية شعيب إذا" يعني قوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} وفي إطلاق ابن مسعود نسبة لعن من فعل ذلك إلى كتاب الله وفهم أم يعقوب منه أنه أراد بكتاب الله القرآن وتقريره لها على هذا الفهم ومعارضتها له بأنه ليس في القرآن وجوابه بما أجاب دلالة على جواز نسبة ما يدل عليه الاستنباط إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم نسبة قولية، فكما جاز نسبة لعن الواشمة إلى كونه في القرآن لعموم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} مع ثبوت لعنه صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك يجوز نسبة من فعل أمرا يندرج في عموم خبير نبوي ما يدل على منعه إلى القرآن، فيقول القائل مثلا: لعن الله من غير منار الأرض في القرآن، ويستند في ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك. " تنبيه ": أم يعقوب المذكورة في هذا الحديث لا يعرف اسمها وهي من بني أسد بن خزيمة، ولم أقف لها على ترجمة، ومراجعتها ابن مسعود تدل على أن لها إدراكا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(10/373)


باب وصل الشعر
...
83 - باب الْوَصْلِ فِي الشَّعَرِ
5932- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ "أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَامَ حَجَّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ كَانَتْ بِيَدِ حَرَسِيٍّ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ".

(10/373)


5933- وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ" .
5934- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ يَنَّاقٍ يُحَدِّثُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ جَارِيَةً مِنْ الأَنْصَارِ تَزَوَّجَتْ وَأَنَّهَا مَرِضَتْ فَتَمَعَّطَ شَعَرُهَا فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهَا فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ" .
تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ.
5935- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي أَنْكَحْتُ ابْنَتِي ثُمَّ أَصَابَهَا شَكْوَى فَتَمَرَّقَ رَأْسُهَا وَزَوْجُهَا يَسْتَحِثُّنِي بِهَا أَفَأَصِلُ رَأْسَهَا فَسَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ".
[الحديث 5935 – طرفاه في: 5936، 5941]
5936- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: "لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ" .
5937- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ" . وَقَالَ نَافِعٌ: الْوَشْمُ فِي اللِّثَةِ.
[الحديث 5937 – أطرافه في: 5940، 5942، 5947]
5938- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: "قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ قَالَ مَا كُنْتُ أَرَى أَحَداً يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ الزُّورَ يَعْنِي الْوَاصِلَةَ فِي الشَّعَرِ".
قوله: "باب وصل الشعر" أي الزيادة فيه من غيره. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن حميد بن عبد الرحمن" في رواية معمر عن الزهري "حدثني حميد بن عبد الرحمن" أخرجه أحمد. وفي رواية يونس عن الزهري أنبأنا حميد أخرجه الترمذي. وقد أخرج مسلم روايتي معمر ويونس، لكن أحال بهما على رواية مالك. وأخرجه الطبراني من طريق النعمان بن راشد عن الزهري فقال: "عن السائب بن يزيد" بدل حميد بن عبد الرحمن، وحميد هو المحفوظ. قوله: "عام حج" تقدم في ذكر بني إسرائيل من طريق سعيد بن المسيب عن معاوية تعيين العام المذكور. قوله: "وتناول قصة من شعر

(10/374)


كانت بيد حرسي" القصة بضم القاف وتشديد المهملة الخصلة من الشعر. وفي رواية سعيد بن المسيب "كبة" ولمسلم من وجه آخر عن سعيد بن المسيب "أن معاوية قال: إنكم أخذتم زي سوء؛ وجاء رجل بعصا على رأسها خرقة" والحرسي بفتح الحاء والراء وبالسين المهملات نسبة إلى الحرس وهم خدم الأمير الذين يحرسونه، ويقال للواحد حرسي لأنه اسم جنس، وعند الطبراني من طريق عروة عن معاوية من الزيادة "قال: وجدت هذه عند أهلي وزعموا أن النساء يزدنه في شعورهن" وهذا يدل على أنه لم يكن يعرف ذلك في النساء قبل ذلك. وفي رواية سعيد بن المسيب "ما كنت أرى يفعل ذلك إلا اليهود". قوله: "أين علماؤكم؟" تقدم في ذكر بني إسرائيل أن فيه إشارة إلى قلة العلماء يومئذ بالمدينة، ويحتمل أنه أراد بذلك إحضارهم ليستعين بهم على ما أراد من إنكار ذلك أو لينكر عليهم سكوتهم عن إنكارهم هذا الفعل قبل ذلك. قوله: "إنما هلكت بنو إسرائيل" في رواية معمر عند مسلم إنما عذب بنو إسرائيل، ووقع في رواية سعيد بن المسيب المذكورة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه فسماه الزور" وفي رواية قتادة عن سعيد عند مسلم: "نهى عن الزور" وفي آخره: "ألا وهذا الزور" قال قتادة: يعني ما تكثر به النساء أشعارهن من الخرق. وهذا الحديث حجة للجمهور في منع وصل الشعر بشيء آخر سواء كان شعرا أم لا، ويؤيده حديث جابر "زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئا" أخرجه مسلم. وذهب الليث ونقله أبو عبيدة عن كثير من الفقهاء أن الممتنع من ذلك وصل الشعر بالشعر، وأما إذا وصلت شعرها بغير الشعر من خرقة وغيرها فلا يدخل في النهي. وأخرج أبو داود بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: لا بأس بالقرامل؛ وبه قال أحمد والقرامل جمع قرمل بفتح القاف وسكون الراء نبات طويل الفروع لين، والمراد به هنا خيوط من حرير أو صوف يعمل ضفائر تصل به المرأة شعرها، وفصل بعضهم بين ما إذا كان ما وصل به الشعر من غير الشعر مستورا بعد عقده مع الشعر بحيث يظن أنه من الشعر، وبين ما إذا كان ظاهرا، فمنع قوم الأول فقط لما فيه من التدليس وهو قوي، ومنهم من أجاز الوصل مطلقا سواء كان بشعر آخر أو بغير شعر إذا كان بعلم الزوج وبإذنه، وأحاديث الباب حجة عليه. ويستفاد من الزيادة في رواية قتادة منع تكثير شعر الرأس بالخرق كما لو كانت المرأة مثلا قد تمزق شعرها فتضع عوضه خرقا توهم أنها شعر. وقد أخرج مسلم عقب حديث معاوية هذا حديث أبي هريرة وفيه: "ونساء كاسيات عاريات رءوسهن كأسنمة البخت"، قال النووي: يعني يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها، قال: وفي الحديث ذم ذلك. وقال القرطبي: البخت بضم الموحدة وسكون المعجمة ثم مثناة جمع بختية وهي ضرب من الإبل عظام الأسنمة والأسنمة بالنون جمع سنام وهو أعلى ما في ظهر الجمل شبه رءوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رءوسهن تزيينا وتصنعا، وقد يفعلن ذلك بما يكثرن به شعورهن. "تنبيه": كما يحرم على المرأة الزيادة في شعر رأسها يحرم عليها حلق شعر رأسها بغير ضرورة، وقد أخرج الطبري من طريق أم عثمان بنت سفيان عن ابن عباس قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها" وهو عند أبي داود من هذا الوجه بلفظ: "ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير" والله أعلم. حديث أبي هريرة. قوله: "وقال ابن أبي شيبة" هو أبو بكر كذا أخرجه في مسنده ومصنفه بهذا الإسناد، ووصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريقه، وأخرجه الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن يونس بن محمد كذلك، فيحتمل أن يكون هو المراد لأن أبا بكر وعثمان كلاهما من شيوخ البخاري، ويونس هو المؤدب، وفليح هو ابن سليمان. قوله: "لعن الله

(10/375)


الواصلة" أي التي تصل الشعر سواء كان لنفسها أم لغيرها "والمستوصلة" أي التي تطلب فعل ذلك ويفعل بها، وكذا القول في الواشمة والمستوشمة، وتقدم تفسيره. وهذا صريح في حكاية ذلك عن الله تعالى إن كان خبرا فيستغنى عن استنباط ابن مسعود، ويحتمل أن يكون دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على من فعلت ذلك. قوله: "الحسن بن مسلم بن يناق" بفتح التحتانية وتشديد النون وآخره قاف كأنه اسم عجمي، ويحتمل أن يكون اسم فعال من الأنيق وهو الشيء الحسن المعجب فسهلت همزته ياء، والحسن المذكور تابعي صغير من أهل مكة ثقة عندهم وكان كثير الرواية عن طاوس ومات قبله. قوله: "أن جارية من الأنصار تزوجت" تقدم ما يتعلق بتسميتها وتسمية الزوج في كتاب النكاح. قوله: "فتمعط" بالعين والطاء المهملتين أي خرج من أصله، وأصل المعط المد كأنه مد إلى أن تقطع، ويطلق أيضا على من سقط شعره. قوله: "فأرادوا أن يصلوها" أي يصلوا شعرها، وقوله: "فسألوا" تقدم هناك أن السائل أمها، وهو في حديث أسماء بنت أبي بكر الذي يلي هذا. قوله: "تابعه ابن إسحاق عن أبان بن صالح عن الحسن" هو ابن مسلم، وهذه المتابعة رويناها موصولة في "أمالي المحاملي" من رواية الأصبهانيين عنه، ثم من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق "حدثني أبان بن صالح" فذكره وصرح بالتحديث في جميع السند وأول الحديث عنده "أن امرأة سألت عائشة - وهي عندها - عن وصل المرأة رأسها بالشعر" فذكر الحديث وقال فيه: "فتمرق" بالراء والقاف. وقال فيه: "أفأضع على رأسها شيئا" والباقي مثله. وفائدة هذه المتابعة أن يعلم أن الحديث عند صفية بنت شيبة عن عائشة وعن أسماء بنت أبي بكر جميعا، ولأبان بن صالح في هذا المعنى حديث آخر أخرجه أبو داود من رواية أسامة بن زيد عنه عن مجاهد عن ابن عباس فذكر الحديث المرفوع دون القصة وزاد فيه النامصة والمتنمصة وقال في آخره: "والمستوشمة من غير داء" وسنده حسن، ويستفاد منه أن من صنعت الوشم عن غير قصد له بل تداوت مثلا فنشأ عنه الوشم أن لا تدخل في الزجر. قوله: "منصور بن عبد الرحمن" هو الحجبي وأمه هي صفية بنت شيبة، وفضيل بن سليمان راويه عن منصور وإن كان في حفظه شيء، لكن قد تابعه وهيب بن خالد عن منصور عند مسلم، وأبو معشر البراء عند الطبراني. قوله: "فتمزق" بالزاي أي تقطع، كذا للكشميهني والحموي وهي رواية مسلم، وبالراء للباقين أي مرق من أصله وهو أبلغ، ويحتمل أن يكون من المرق وهو نتف الصوف، وللطبراني من طريق محمد بن إسحاق عن فاطمة بنت المنذر "فأصابتها الحصبة أو الجدري فسقط شعرها، وقد صحت وزوجها يستحثنا وليس على رأسها شعر، أفنجعل على رأسها شيئا نجملها به؟" الحديث. وقوله: "أفأصل رأسها؟" في رواية الكشميهني: "شعرها" وهو المراد بالرواية الأخرى. قوله: "فسب" بالمهملة والموحدة أي لعن كما صرح به في الرواية الأخرى. قوله: "عن امرأته فاطمة" هي بنت المنذر بن الزبير بن العوام، وهي بنت عم هشام بن عروة الراوي عنها، وأسماء بنت أبي بكر هي جدتهما معا لأنها أم المنذر وأم عروة، وهذه الطريق تؤكد رواية منصور بن عبد الرحمن عن أمه، وأن للحديث عن أسماء بنت أبي بكر أصلا ولو كان مختصرا. قوله: "الواصلة والمستوصلة" هذا القدر الذي وجدته من حديث أسماء فكأنها ما سمعت الزيادة التي في حديث أبي هريرة وفي حديث ابن عمر في الواشمة والمستوشمة فأخرج الطبري بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم قال: "دخلت مع أبي على أبي بكر الصديق فرأيت يد أسماء موشومة" قال الطبري: كأنها كانت صنعته قبل النهي فاستمر في يدها، قال:

(10/376)


ولا يظن بها أنها فعلته بعد النهي لثبوت النهي عن ذلك. قلت: فيحتمل أنها لم تسمعه، أو كانت بيدها جراحة فداوتها فبقي الأثر مثل الوشم في يدها. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، وعبيد الله بالتصغير هو ابن عمر العمري. قوله: "قال نافع: الوشم في اللثة" بكسر اللام وتخفيف المثلثة وهي ما على الأسنان من اللحم وقال الداودي: هو أن يعمل على الأسنان صفرة أو غيرها، كذا قال، ولم يرد نافع الحصر في كون الوشم في اللثة بل مراده أنه قد يقع فيها. وفي هذه الأحاديث حجة لمن قال يحرم الوصل في الشعر والوشم والنمص على الفاعل والمفعول به، وهي حجة على من حمل النهي فيه على التنزيه، لأن دلالة اللعن على التحريم من أقوى الدلالات، بل عند بعضهم أنه من علامات الكبيرة. وفي حديث عائشة دلالة على بطلان ما روي عنها أنها رخصت في وصل الشعر بالشعر وقالت: إن المراد بالواصل المرأة تفجر في شبابها ثم تصل ذلك بالقيادة، وقد رد ذلك الطبري وأبطله بما جاء عن عائشة في قصة المرأة المذكورة في الباب. حديث معاوية وفيه طهارة شعر الآدمي لعدم الاستفصال، وإيقاع المنع على فعل الوصل لا على كون الشعر نجسا، وفيه نظر، وفيه جواز إبقاء الشعر وعدم وجوب دفنه، وفيه قيام الإمام بالنهي على المنبر ولا سيما إذا رآه فاشيا فيفشي إنكاره تأكيدا ليحذر منه، وفيه إنذار من عمل المعصية بوقوع الهلاك بمن فعلها قبله كما قال تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} وفيه جواز تناول الشيء في الخطبة ليراه من لم يكن رآه للمصلحة الدينية وفيه إباحة الحديث عن بني إسرائيل وكذا غيرهم من الأمم للتحذير مما عصوا فيه.

(10/377)


84 - باب الْمُتَنَمِّصَاتِ
5939- حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: "لعن عبد الله الواشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فقالت أم يعقوب: ما هذا؟ قال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله وفي كتاب الله قالت والله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته قال والله لئن قرأتيه لقد وجدتيه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . قوله: "باب المتنمصات" جمع متنمصة وحكى ابن الجوزي منتمصة بتقديم الميم على النون وهو مقلوب، والمتنمصة التي تطلب النماص، والنامصة التي تفعله، والنماص إزالة شعر الوجه بالمنقاش، ويسمى المنقاش منماصا لذلك، ويقال إن النماص يختص بإزالة شعر الحاجبين لترفيعهما أو تسويتهما. قال أبو داود في السنن: النامصة التي تنقش الحاجب حتى ترقه. ذكر فيه حديث ابن مسعود الماضي في "باب المتفلجات" قال الطبري: لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها التي خلقها الله عليها بزيادة أو نقص التماس الحسن لا للزوج ولا لغيره كمن تكون مقرونة الحاجبين فتزيل ما بينهما توهم البلج أو عكسه، ومن تكون لها سن زائدة فتقلعها أو طويلة فتقطع منها أو لحية أو شارب أو عنفقة فتزيلها بالنتف، ومن يكون شعرها قصيرا أو حقيرا فتطوله أو تغزره بشعر غيرها، فكل ذلك داخل في النهي. وهو من تغيير خلق الله تعالى. قال: ويستثنى من ذلك ما يحصل به الضرر والأذية كمن يكون لها سن زائدة أو طويلة تعيقها في الأكل أو إصبع زائدة تؤذيها أو تؤلمها فيجوز ذلك، والرجل في هذا الأخير

(10/377)


كالمرأة. وقال النووي: يستثنى من النماص ما إذا نبت للمرأة لحية أو شارب أو عنفقة فلا يحرم عليها إزالتها بل يستحب. قلت: وإطلاقه مقيد بإذن الزوج وعلمه، وإلا فمتى خلا عن ذلك منع للتدليس. وقال بعض الحنابلة: إن كان النمص أشهر شعارا للفواجر امتنع وإلا فيكون تنزيها. وفي رواية يجوز بإذن الزوج إلا إن وقع به تدليس فيحرم، قالوا ويجوز الحف والتحمير والنقش والتطريف إذا كان بإذن الزوج لأنه من الزينة. وقد أخرج الطبري من طريق أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة وكانت شابة يعجبها الجمال فقالت: المرأة تحف. جبينها لزوجها فقالت: أميطي عنك الأذى ما استطعت. وقال النووي: يجوز التزين بما ذكر، إلا الحف فإنه من جملة النماص.

(10/378)


85 - باب الْمَوْصُولَةِ
5940- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ" .
5941- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّهُ سَمِعَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْمُنْذِرِ تَقُولُ سَمِعْتُ أَسْمَاءَ قَالَتْ: "سَأَلَتْ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي أَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ فَامَّرَقَ شَعَرُهَا وَإِنِّي زَوَّجْتُهَا أَفَأَصِلُ فِيهِ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ" .
5942- حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْوَاشِمَةُ وَالْمُوتَشِمَةُ وَالْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ يَعْنِي لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
5943- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ مَا لِي لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ".
قوله: "باب الموصولة" تقدمت مباحثه قبل بباب. قوله: "عبدة" هو ابن سليمان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري. قوله: "المستوصلة" هي التي تطلب وصل شعرها. قوله: "أصابتها" في رواية الكشميهني: "أصابها" بالتذكير على إرادة الحب، والحصبة بفتح الحاء المهملة وسكون الصاد المهملة ويجوز فتحها وكسرها بعدها موحدة: بثرات حمر تخرج في الجلد متفرقة، وهي نوع من الجدري. قوله: "امرق" بتشديد الميم بعدها راء وأصله انمرق بنون فذهبت في الإدغام، ووقع في رواية الحموي والكشميهني بالزاي بدل الراء كما تقدم. قوله: "حدثني يوسف بن موسى حدثنا الفضل بن دكين" كذا للأكثر وهو كذلك في رواية النسفي. وفي رواية المستملي: "الفضل بن زهير" ولبعض رواة الفربري أيضا: "الفضل بن زهير أو الفضل بن دكين" وجزم مرة أخرى بالفضل بن زهير، قال أبو علي الغساني: هو الفضل بن دكين بن

(10/378)


حماد بن زهير فنسب مرة إلى جد أبيه وهو أبو نعيم شيخ البخاري، وقد حدث عنه بالكثير بغير واسطة، وحدث هنا وفي مواضع أخرى قليلة بواسطة. قوله: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم أو قال قال النبي صلى الله عليه وسلم" شك من الراوي وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن صخر بن جويرية بلفظ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "لعن الله - ثم قال في آخره - يعني لعن النبي صلى الله عليه وسلم" لم يتجه لي هذا التفسير إلا إن كان المراد لعن الله على لسان نبيه أو لعن النبي صلى الله عليه وسلم للعن الله، وقد سقط الكلام الأخير من بعض الروايات وسقط من بعضها لفظ: "لعن الله" من أوله. وقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن صخر بن جويرية بلفظ: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكذا في أول الباب، ويأتي كذلك بعد باب، وقد تقدم في آخر "باب وصل الشعر" بلفظ: "لعن الله" وكلها من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع. قوله: "والمستوصلة" في رواية النسائي من طريق محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر "الموتصلة" وهي بمعناها وكذا في حديث أسماء "الموصولة". قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، وسفيان هو الثوري. ولم يقع في هذه الرواية للواصلة ولا للموصولة ذكر، وإنما أشار به إلى ما ورد في بعض طرقه وقد تقدم بيانه في "باب المتفلجات" وأنه صرح بذكر الواصلة فيه في التفسير، وعند أحمد والنسائي من طريق الحسن العوفي عن يحيى بن الخراز عن مسروق "أن المرأة جاءت إلى ابن مسعود فقالت: أنبئت أنك تنهى عن الواصلة؟ قال: نعم" القصة بطولها، وفي آخره: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النامصة والواشرة والواصلة والواشمة إلا من أذى".

(10/379)


86 - باب الْوَاشِمَةِ
5944- حَدَّثَنِي يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْعَيْنُ حَقٌّ وَنَهَى عَنْ الْوَشْمِ" .
حَدَّثَنِي ابْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ ذَكَرْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ حَدِيثَ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ سَمِعْتُهُ مِنْ أُمِّ يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ... مِثْلَ حَدِيثِ مَنْصُورٍ.
5945- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُ أَبِي فَقَالَ: "إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ وَالْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ" .
قوله: "باب الواشمة" تقدم شرحه قريبا. حديث أبي هريرة "العين حق، ونهى عن الوشم" وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب الطب، ويأتي في الباب الذي يليه عن أبي هريرة بلفظ آخر في الوشم. حديث ابن مسعود أورده مختصرا من وجهين وقد تقدم بيانه في "باب المتفلجات". قوله: "رأيت أبي فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى" كذا أورده مختصرا وساقه في البيوع تاما ولفظه: "رأيت أبي اشترى حجاما فكسر محاجمه. فسألته عن ذلك" فذكر الحديث كالذي هنا وزاد: "وعن كسب الأمة" وسيأتي بأتم من سياقه في "باب من لعن المصور".

(10/379)


87 – بَاب الْمُسْتَوْشِمَةِ
5946- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُتِيَ عُمَرُ بِامْرَأَةٍ تَشِمُ فَقَامَ فَقَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ مَنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَشْمِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُمْتُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا سَمِعْتُ قَالَ مَا سَمِعْتَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لاَ تَشِمْنَ وَلاَ تَسْتَوْشِمْنَ" .
5947- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ" .
5948- حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه "لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله".
قوله: "عن عمارة" هو ابن القعقاع بن شبرمة، وأبو زرعة هو ابن عمرو بن جرير. قوله: "أتي عمر بامرأة تشم" قلت لم تسم هذه المرأة. قوله: "أنشدكم بالله" يحتمل أن يكون عمر سمع الزجر عن ذلك فأراد أن يستثبت فيه، أو كان نسيه فأراد أن يتذكره، أو بلغه ممن لم يصرح بسماعه فأراد أن يسمعه ممن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فقال أبو هريرة" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "لا تشمن" بفتح أوله وكسر المعجمة وسكون الميم ثم نون خطاب جمع المؤنث بالنهي، وكذا "ولا تستوشمن" أي لا تطلبن ذلك، وهذا يفسر قوله في الباب الذي قبله "نهى عن الوشم" وفائدة ذكر أبي هريرة قصة عمر إظهار ضبطه وأن عمر كان يستثبته في الأحاديث مع تشدد عمر، ولو أنكر عليه عمر ذلك لنقل. الحديث الثاني والحديث الثالث عن ابن عمر وعن ابن مسعود وقد تقدما. قال الخطابي: إنما ورد الوعيد الشديد في هذه الأشياء لما فيها من الغش والخداع، ولو رخص في شيء منها لكان وسيلة إلى استجازة غيرها من أنواع الغش، ولما فيها من تغيير الخلقة، وإلى ذلك الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله: "المغيرات خلق الله" والله أعلم.

(10/380)


88 - باب التَّصَاوِيرِ
5949- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتاً فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ تَصَاوِيرُ" وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعْتُ أَبَا طَلْحَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب التصاوير" جمع تصوير بمعنى الصورة والمراد بيان حكمها من جهة مباشرة صنعتها، ثم من جهة

(10/380)


استعمالها واتخاذها. قوله: "عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة" أي ابن مسعود. قوله: "عن أبي طلحة" هو زيد بن سهل الأنصاري زوج أم سليم والدة أنس. قوله: "وقال الليث حدثني يونس الخ" وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي صالح كاتب الليث حدثنا الليث، وفائدة هذا التعليق تصريح الزهري بن شهاب وتصريح شيخه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وكذا من فوقهما بالتحديث في جميع الإسناد، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عبد الله بن وهب عن يونس وفيه التصريح أيضا، ووقع في رواية الأوزاعي عن الزهري عن عبيد الله عن أبي طلحة لم يذكر ابن عباس بينهما، ورجح الدار قطني رواية من أثبته، وقد أخرجه مالك في الموطأ عن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه دخل على أبي طلحة يعوده فذكر قصة وفيها المتن المذكور وزاد فيه استثناء الرقم في الثوب كما سيأتي البحث فيه، فلعل عبيد الله سمعه من ابن عباس عن أبي طلحة ثم لقي أبا طلحة لما دخل يعوده فسمعه منه، ويؤيد ذلك زيادة القصة في رواية أبي النضر لكن قال ابن عبد البر: الحديث لعبيد الله عن ابن عباس عن أبي طلحة، فإن عبيد الله لم يدرك أبا طلحة ولا سهل بن حنيف، كذا قال وكأن مستنده في ذلك أن سهل بن حنيف مات في خلافة علي وعبيد الله لم يدرك عليا بل قال علي بن المديني إنه لم يدرك زيد بن ثابت ولا رآه، وزيد مات بعد سهل بن حنيف بمدة، ولكن روى الحديث المذكور محمد بن إسحاق عن أبي النضر فذكر القصة لعثمان بن حنيف لا لسهل أخرجه الطبراني، وعثمان تأخر بعد سهل بمدة وكذلك أبو طلحة، فلا يبعد أن يكون عبيد الله أدركهما. قوله: "لا تدخل الملائكة" ظاهره العموم، وقيل: يستثنى من ذلك الحفظة فإنهم لا يفارقون الشخص في كل حالة، وبذلك جزم ابن وضاح والخطابي وآخرون، لكن قال القرطبي: كذا قال بعض علمائنا، والظاهر العموم، والمخصص يعني الدال على كون الحفظة لا يمتنعون من الدخول ليس نصا. قلت: ويؤيده أنه ليس من الجائز أن يطلعهم الله تعالى على عمل العبد ويسمعهم قوله وهم بباب الدار التي هو فيها مثلا، ويقابل القول بالتعميم القول بتخصيص الملائكة بملائكة الوحي، وهو قول من ادعى أن ذلك كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم كما سأذكره وهو شاذ. قوله: "بيتا فيه كلب" المراد بالبيت المكان الذي يستقر فيه الشخص سواء كان بناء أو خيمة أم غير ذلك، والظاهر العموم في كل كلب لأنه نكرة في سياق النفي، وذهب الخطابي وطائفة إلى استثناء الكلاب التي أذن في اتخاذها وهي كلاب الصيد والماشية والزرع، وجنح القرطبي إلى ترجيح العموم، وكذا قال النووي، واستدل لذلك بقصة الجرو التي تأتي الإشارة إليها في حديث ابن عمر بعد ستة أبواب، قال فامتنع جبريل من دخول البيت الذي كان فيه مع ظهور العذر فيه، قال فلو كان العذر لا يمنعهم من الدخول لم يمتنع جبريل من الدخول اهـ. ويحتمل أن يقال: لا يلزم من التسوية بين ما علم به أو لم يعلم فيما لم يؤمر باتخاذه أن يكون الحكم كذلك فيما أذن في اتخاذه قال القرطبي. واختلف في المعنى الذي في الكلب حتى منع الملائكة من دخول البيت الذي هو فيه، فقيل: لكونها نجسة العين، ويتأيد ذلك بما ورد في بعض طرق الحديث عن عائشة عند مسلم: "فأمر بنضح موضع الكلب" وقيل: لكونها من الشياطين، وقيل: لأجل النجاسة التي تتعلق بها فإنها تكثر أكل النجاسة وتتلطخ بها فينجس ما تعلقت به، وعلى هذا يحمل من لا يقول إن الكلب نجس العين نضح موضعه احتياطا لأن النضح مشروع لتطهير المشكوك فيه، واختلف في المراد بالملائكة فقيل: هو على العموم وأيده النووي بقصة جبريل الآتي ذكرها فقيل: يستثنى الحفظة، وأجاب الأول بجواز أن لا يدخلوا مع استمرار الكناية بأن يكونوا على باب البيت، وقيل: المراد من

(10/381)


نزل منهم بالرحمة، وقيل: من نزل بالوحي خاصة كجبريل، وهذا نقل عن ابن وضاح والداودي وغيرهما ويلزم منه اختصاص النهي بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الوحي انقطع بعده وبانقطاعه انقطع نزولهم. وقيل: التخصيص في الصفة أي لا يدخله الملائكة دخولهم بيت من لا كلب فيه. قوله: "ولا تصاوير" في رواية معمر الماضية في بدء الخلق عن الزهري "ولا صورة" بالإفراد، وكذا في معظم الروايات وفائدة إعادة حرف النفي الاحتراز من توهم القصر في عدم الدخول على اجتماع الصنفين، فلا يمتنع الدخول مع وجود أحدهما، فلما أعيد حرف النفي صار التقدير ولا تدخل بيتا فيه صورة، قال الخطابي: والصورة التي لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه ما يحرم اقتناؤه، وهو ما يكون من الصور التي فيها الروح مما لم يقطع رأسه أو لم يمتهن على ما سيأتي تقريره في "باب ما وطئ من التصاوير" بعد بابين، وتأتي الإشارة إلى تقوية ما ذهب إليه الخطابي في "باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" وأغرب ابن حبان فادعى أن هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهو نظير الحديث الآخر "لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس " قال فإنه محمول على رفقة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ محال أن يخرج الحاج والمعتمر لقصد بيت الله عز وجل على رواحل لا تصحبها الملائكة وهم وفد الله انتهى وهو تأويل بعيد جدا لم أره لغيره، ويزيل شبهته أن كونهم وفد الله لا يمنع أن يؤاخذوا بما يرتكبونه من خطيئة فيجوز أن يحرموا بركة الملائكة بعد مخالطتهم لهم إذا ارتكبوا النهي واستصحبوا الجرس، وكذا القول فيمن يقتني الصورة والكلب. والله أعلم. وقد استشكل كون الملائكة لا تدخل المكان الذي فيه التصاوير مع قوله سبحانه وتعالى عند ذكر سليمان عليه السلام {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} وقد قال مجاهد: كانت صورا من نحاس أخرجه الطبري. وقال قتادة: كانت من خشب ومن زجاج أخرجه عبد الرزاق. والجواب أن ذلك كان جائزا في تلك الشريعة وكانوا يعملون أشكال الأنبياء والصالحين منهم على هيئتهم في العبادة ليتعبدوا كعبادتهم، وقد قال أبو العالية: لم يكن ذلك في شريعتهم حراما ثم جاء شرعنا بالنهي عنه، ويحتمل أن يقال إن التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذوات الأرواح، وإذا كان اللفظ محتملا لم يتعين الحمل على المعنى المشكل، وقد ثبت في الصحيحين حديث عائشة في قصة الكنيسة التي كانت بأرض الحبشة وما فيها من التصاوير، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: "كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله" فإن ذلك يشعر بأنه لو كان ذلك جائزا في ذلك الشرع ما أطلق عليه صلى الله عليه وسلم أن الذي فعله شر الخلق، فدل على أن فعل صور الحيوان فعل محدث أحدثه عباد الصور، والله أعلم.

(10/382)


89 - باب عَذَابِ الْمُصَوِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
5950- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ قَالَ: "كُنَّا مَعَ مَسْرُوقٍ فِي دَارِ يَسَارِ بْنِ نُمَيْرٍ فَرَأَى فِي صُفَّتِهِ تَمَاثِيلَ فَقَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ" .
5951- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ

(10/382)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ" .
[الحديث 5951 – طرفه في: 7558]
قوله: "باب عذاب المصورين يوم القيامة" أي الذين يصنعون الصور. قوله: "عن مسلم" هو ابن صبيح أبو الضحى وهو بكنيته أشهر، وجوز الكرماني أن يكون مسلم بن عمران البطين ثم قال إنه الظاهر، وهو مردود فقد وقع في رواية مسلم في هذا الحديث من طريق وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى. قوله: "كنا مع مسروق" هو ابن الأجدع. قوله: "في دار يسار بن نمير" هو بتحتانية ومهملة خفيفة، وأبوه بنون مصغر؛ ويسار مدني سكن الكوفة وكان مولى عمر وخازنه، وله رواية عن عمر وعن غيره. وروى عنه أبو وائل وهو من أقرانه، وأبو بردة بن أبي موسى وأبو إسحاق السبيعي، وهو موثق ولم أر له في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "فرأى في صفته" بضم المهملة وتشديد الفاء في رواية منصور عن أبي الضحى عند مسلم: "كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل فقال لي مسروق هذه تماثيل كسرى، فقلت: لا هذه تماثيل مريم" كأن مسروقا ظن أن التصوير كان من مجوسي، وكانوا يصورون صورة ملوكهم حتى في الأواني، فظهر أن التصوير كان من نصراني لأنهم يصورون صورة مريم والمسيح وغيرهما ويعبدونها. قوله: "سمعت عبد الله" هو ابن مسعود وفي رواية منصور فقال: "أما إني سمعت عبد الله بن مسعود". قوله: "إن أشد الناس عذابا عند الله المصورون" وقع في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان "يوم القيامة" بدل قوله: "عند الله" وكذا هو في مسند ابن أبي عمر عن سفيان، وأخرجه عن الإسماعيلي من طريقه، فلعل الحميدي حدث به على الوجهين بدليل ما وقع في الترجمة، أو لما حدث به البخاري حدث به بلفظ: "عند الله" والترجمة مطابقة للفظ الذي في حديث ابن عمر ثاني حديثي الباب، والمراد بقوله: "عند الله" حكم الله. ووقع عند مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش أن "من أشد الناس" واختلف نسخه ففي بعضها "المصورين" وهي للأكثر وفي بعضها "المصورون" وهي لأحمد عن أبي معاوية أيضا، ووجهت بأن "من" زائدة واسم إن أشد، ووجهها ابن مالك على حذف ضمير الشأن والتقدير أنه من أشد الناس الخ. وقد استشكل كون المصور أشد الناس عذابا مع قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فإنه يقتضي أن يكون المصور أشد عذابا من آل فرعون، وأجاب الطبري بأن المراد هنا من يصور ما يعبد من دون الله وهو عارف بذلك قاصدا له فإنه يكفر بذلك، فلا يبعد أن يدخل مدخل آل فرعون وأما من لا يقصد ذلك فإنه يكون عاصيا بتصويره فقط. وأجاب غيره بأن الرواية بإثبات "من" ثابتة وبحذفها محمولة عليها، وإذا كان من يفعل التصوير من أشد الناس عذابا كان مشتركا مع غيره، وليس في الآية ما يقتضي اختصاص آل فرعون بأشد العذاب بل هم في العذاب الأشد، فكذلك غيرهم يجوز أن يكون في العذاب الأشد، وقوى الطحاوي ذلك بما أخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود رفعه: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين" وكذا أخرجه أحمد. وقد وقع بعض هذه الزيادة في رواية ابن أبي عمر التي أشرت إليها فاقتصر على المصور وعلى من قتله نبي. وأخرج الطحاوي أيضا من حديث عائشة مرفوعا: "أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل هجا رجلا فهجا القبيلة بأسرها" قال الطحاوي: فكل

(10/383)


واحد من هؤلاء يشترك مع الآخر في شدة العذاب. وقال أبو الوليد بن رشد في "مختصر مشكل الطحاوي" ما حاصله. إن الوعيد بهذه الصيغة إن ورد في حق كافر فلا إشكال فيه لأنه يكون مشتركا في ذلك مع آل فرعون ويكون فيه دلالة على عظم كفر المذكور، وإن ورد في حق عاص فيكون أشد عذابا من غيره من العصاة ويكون ذلك دالا على عظم المعصية المذكورة. وأجاب القرطبي في "المفهم" بأن الناس الذين أضيف إليهم "أشد" لا يراد بهم كل الناس بل بعضهم وهم من يشارك في المعنى المتوعد عليه بالعذاب، ففرعون أشد الناس الذين ادعوا الإلهية عذابا، ومن يقتدي به في ضلالة كفره أشد عذابا ممن يقتدي به في ضلالة فسقه، ومن صور صورة ذات روح للعبادة أشد عذابا ممن يصورها لا للعبادة. واستشكل ظاهر الحديث أيضا بإبليس وبابن آدم الذي سن القتل، وأجيب بأنه في إبليس واضح، ويجاب بأن المراد بالناس من ينسب إلى آدم، وأما في ابن آدم فأجيب بأن الثابت في حقه أن عليه مثل أوزار من يقتل ظلما، ولا يمتنع أن يشاركه في مثل تعذيبه من ابتدأ الزنا مثلا فإن عليه مثل أوزار من يزني بعده لأنه أول من سن ذلك، ولعل عدد الزناة أكثر من القاتلين. قال النووي قال العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره فصنعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، فأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام. قلت: ويؤيد التعميم فيما له ظل وفيما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها أي طمسها" الحديث، وفيه: "من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد" وقال الخطابي: إنما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل. قال: والمراد بالصور هنا التماثيل التي لها روح وقيل: يفرق بين العذاب والعقاب، فالعذاب يطلق على ما يؤلم من قول أو فعل كالعتب والإنكار، والعقاب يختصن بالفعل فلا يلزم من كون المصور أشد الناس عذابا أن يكون أشد الناس عقوبة. هكذا ذكره الشريف المرتضى في "الغرر" وتعقب بالآية المشار إليها وعليها انبنى الإشكال، ولم يكن هو عرج عليها، فلهذا ارتضى التفرقة، والله أعلم. واستدل به أبو علي الفارسي في "التذكرة" على تكفير المشبهة فحمل الحديث عليهم وأنهم المراد بقوله المصورون أي الذين يعتقدون أن لله صورة. وتعقب بالحديث الذي بعده في الباب بلفظ: "إن الذين يصنعون هذه الصورة يعذبون" وبحديث عائشة الآتي بعد بابين بلفظ: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون" وغير ذلك، ولو سلم له استدلاله لم يرد عليه الإشكال المقدم ذكره. وخص بعضهم الوعيد الشديد بمن صور قاصدا أن يضاهي، فإنه يصير بذلك القصد كافرا، وسيأتي في "باب ما وطئ من التصاوير" بلفظ: "أشد الناس عذابا الذين يضاهون بخلق الله تعالى" وأما من عداه فيحرم عليه ويأثم. لكن إثمه دون إثم المضاهي. قلت: وأشد منه من يصور ما يعبد من دون الله كما تقدم. وذكر القرطبي أن أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شيء حتى أن بعضهم عمل صنمه من عجوة ثم جاع فأكله. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر العمري. قوله: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم" هو أمر تعجيز، ويستفاد منه صفة تعذيب المصور، وهو أن يكلف نفخ الروح في الصورة التي صورها، وهو لا يقدر على ذلك، فيستمر تعذيبه كما سيأتي تقريره في "باب من صور صورة" بعد أبواب.

(10/384)


90 - باب نَقْضِ الصُّوَرِ
5952- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئاً فِيهِ تَصَالِيبُ إِلاَّ نَقَضَهُ".
5953- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ قَالَ: "دَخَلْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ دَاراً بِالْمَدِينَةِ فَرَأَى أَعْلاَهَا مُصَوِّراً يُصَوِّرُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً" ثُمَّ دَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى بَلَغَ إِبْطَهُ فَقُلْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مُنْتَهَى الْحِلْيَةِ".
[الحديث 5953 – طرفه في: 7559]
قوله: "باب نقض الصور" بفتح النون وسكون القاف بعدها معجمة، والصور بضم المهملة وفتح الواو جمع صورة، وحكي سكون الواو في الجمع أيضا. قوله: "هشام" هو ابن أبي عبد الله الدستوائي. قوله: "عن يحيى" هو ابن أبي كثير، وعمران بن حطان تقدم ذكره في أوائل كتاب اللباس. وفي قوله: "أن عائشة حدثته" رد على ابن عبد البر في قوله إن عمران لم يسمع من عائشة، وقد أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده من رواية صالح بن سرح عن عمران "سمعت عائشة" فذكر حديثا آخر. وفي الطبري الصغير بسند قوي من وجه آخر عن عمران "قالت لي عائشة" وتقدم في أوائل اللباس له حديث آخر فيه التصريح بسؤاله عائشة. قوله: "لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب" جمع صليب كأنهم سموا ما كانت فيه صورة الصليب تصليبا تسمية بالمصدر، ووقع في رواية الإسماعيلي: "شيئا فيه تصليب" وفي رواية الكشميهني: "تصاوير" يدل تصاليب، ورواية الجماعة أثبت، فقد أخرجه النسائي من وجه آخر عن هشام فقال: "تصاليب" وكذا أخرجه أبو داود من رواية أبان العطار عن يحيى بن أبي كثير، وعلى هذا فيحتاج إلى مطابقة الحديث للترجمة، والذي يظهر أنه استنبط من نقض الصليب نقض الصورة التي تشترك مع الصليب في المعنى وهو عبادتهما من دون الله. فيكون المراد بالصور في الترجمة خصوص ما يكون من ذوات الأرواح، بل أخص من ذلك. قوله: "إلا نقضه" كذا للأكثر، ووقع في رواية أبان إلا قضبه، بتقديم القاف ثم المعجمة ثم الموحدة، وكذا وقع في رواية عند ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن هشام ورجحها بعض شراح "المصابيح" وعكسه الطيبي فقال: رواية البخاري أضبط والاعتماد عليهم أولى. قلت: ويترجح من حيث المعنى أن النقض يزيل الصورة مع بقاء الثوب على حاله، والقضب وهو القطع يزيل صورة الثوب، قال ابن بطال: في هذا الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان ينقض الصورة سواء كانت مما له ظل أم لا، وسواء كانت مما توطأ أم لا، سواء في الثياب وفي الحيطان وفي الفرش والأوراق وغيرها. قلت: وهذا مبني على ثبوت الرواية بلفظ: "تصاوير" وأما بلفظ: "تصاليب" فلا لأن في التصاليب معنى زائدا على مطلق الصور، لأن الصليب مما عبد من دون الله بخلاف الصور فليس جميعها مما عبد، فلا يكون فيه حجة على من فرق في الصور بين ما له روح فمنعه وما لا روح فيه فلم يمنعه كما سيأتي تفصيله. فإذا كان المراد بالنقض الإزالة دخل طمسها فيما لو كانت نقشا في

(10/385)


الحائط أو حكها أو لطخها بما يغيب هيئتها. قوله: "عبد الواحد" هو ابن زياد، وعمارة هو ابن القعقاع. قوله: "حدثنا أبو زرعة" هو ابن عمرو بن جرير. قوله: "دخلت مع أبي هريرة" جاء عن أبي زرعة المذكور حديث آخر بسند آخر أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من طريق علي بن مدرك عن عبد الله بن نجي بنون وجيم مصغر عن أبيه عن علي رفعه: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة" . قوله: "دارا بالمدينة" هي لمروان بن الحكم، وقع ذلك في رواية محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عند مسلم من هذا الوجه، وعند مسلم أيضا والإسماعيلي من طريق جرير عن عمارة "دارا تبنى لسعيد أو لمروان" بالشك، وسعيد هو ابن العاص بن سعيد الأموي، وكان هو ومروان بن الحكم يتعاقبان إمرة المدينة لمعاوية، والرواية الجازمة أولى. قوله: "مصورا يصور" لم أقف على اسمه، وقوله: "يصور" بصيغة المضارعة للجميع، وضبطه الكرماني بوجهين أحدهما هذا والآخر بكسر الموحدة وضم الصاد المهملة وفتح الواو ثم راء منونة، وهو بعيد. قوله: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي" هكذا في البخاري، وقد وقع نحو ذلك في حديث آخر لأبي هريرة تقدم قريبا في "باب ما يذكر في المسك" وفيه حذف بينه ما وقع في رواية جرير المذكورة "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} الخ، ونحوه في رواية ابن فضيل، وقوله: "ذهب" أي قصد وقوله: "كخلقي" التشبيه في فعل الصورة وحدها لا من كل الوجوه، قال ابن بطال: فهم أبو هريرة أن التصوير يتناول ما له ظل وما ليس له ظل، فلهذا أنكر ما ينقش في الحيطان. قلت: هو ظاهر من عموم اللفظ، ويحتمل أن يقصر على ما له ظل من جهة قوله: "كخلقي" فإن خلقه الذي اخترعه ليس صورة في حائط بل هو خلق تام، لكن بقية الحديث تقتضي تعميم الزجر عن تصوير كل شيء وهي قوله: "فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة" وهي بفتح المعجمة وتشديد الراء، ويجاب عن ذلك بأن المراد إيجاد حبة على الحقيقة لا تصويرها. ووقع لابن فضيل من الزيادة "وليخلقوا شعرة" والمراد بالحبة حبة القمح بقرينة ذكر الشعير، أو الحبة أعم، والمراد بالذرة النملة، والغرض تعجيزهم تارة بتكليفهم خلق حيوان وهو أشد وأخرى بتكليفهم خلق جماد وهو أهون، ومع ذلك لا قدرة لهم على ذلك. قوله: "ثم دعا بتور" أي طلب تورا، وهو بمثناة إناء كالطست تقدم بيانه في كتاب الطهارة. قوله: "من ماء" أي فيه ماء. قوله: "فغسل يديه حتى بلغ إبطه" في هذه الرواية اختصار وبيانه في رواية جرير بلفظ: "فتوضأ أبو هريرة فغسل يده حتى بلغ إبطه وغسل رجليه حتى بلغ ركبتيه" أخرجها الإسماعيلي، وقدم قصة الوضوء على قصة المصور، ولم يذكر مسلم قصة الوضوء هنا. قوله: "منتهى الحلية" في رواية جرير "إنه منتهى الحلية" كأنه يشير إلى الحديث المتقدم في الطهارة في فصل الغرة والتحجيل في الوضوء، ويؤيده حديثه الآخر "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" وقد تقدم شرحه، والبحث في ذلك مستوفى هناك. وليس بين ما دل عليه الخبر من الزجر عن التصوير وبين ما ذكر من وضوء أبي هريرة مناسبة، وإنما أخبر أبو زرعة بما شاهد وسمع من ذلك.

(10/386)


باب ما وطىء من التصاوير
...
91 - باب مَا وُطِئَ مِنْ التَّصَاوِيرِ
5954- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ وَمَا بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ مِنْهُ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْتُ

(10/386)


بِقِرَامٍ لِي عَلَى سَهْوَةٍ لِي فِيهَا تَمَاثِيلُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَهُ وَقَالَ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ قَالَتْ فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ ".
5955- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ وَعَلَّقْتُ دُرْنُوكاً فِيهِ تَمَاثِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَنْزِعَهُ فَنَزَعْتُهُ".
5956- "وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ".
قوله: "باب ما وطئ من التصاوير" أي هل يرخص فيه؟ ووطئ بضم الواو مبني للمجهول، أي صار يداس عليه ويمتهن. قوله: "القاسم" هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. قوله: "من سفر" في رواية البيهقي أنها غزوة تبوك، وفي أخرى لأبي داود والنسائي غزوة تبوك أو خيبر على الشك. قوله: "بقرام" بكسر القاف وتخفيف الراء: هو ستر فيه رقم ونقش، وقيل: ثوب من صوف ملون يفرش في الهودج أو يغطى به. قوله: "على سهوة" بفتح المهملة وسكون الهاء هي صفة من جانب البيت، وقيل: الكوة، وقيل: الرف، وقيل: أربعة أعواد أو ثلاثة يعارض بعضها ببعض يوضع عليها شيء من الأمتعة، وقيل: أن يبنى من حائط البيت حائط صغير ويجعل السقف على الجميع فما كان وسط البيت فهو السهوة وما كان داخله فهو المخدع، وقيل: دخلة في ناحية البيت، وقيل: بيت صغير يشبه المخدع، وقيل: بيت صغير منحدر في الأرض وسمكه مرتفع من الأرض كالخزانة الصغيرة يكون فيها المتاع، ورجح هذا الأخير أبو عبيد، ولا مخالفة بينه وبين الذي قبله. قلت: وقد وقع في حديث عائشة أيضا في ثاني حديثي الباب أنها علقته على بابها، وكذا في رواية زيد بن خالد الجهني عن عائشة عند مسلم، فتعين أن السهوة بيت صغير علقت الستر على بابه. قوله: "فيه تماثيل" بمثناة ثم مثلثة جمع تمثال وهو الشيء المصور، أعم من أن يكون شاخصا أو يكون نقشا أو دهانا أو نسجا في ثوب. وفي رواية بكير بن الأشج عن عبد الرحمن بن القاسم عند مسلم أنها نصبت سترا فيه تصاوير. قوله: "هتكه" أي نزعه، وقد وقع في الرواية التي بعدها "فأمرني أن أنزعه فنزعته". قوله: "أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" أي يشبهون ما يصنعونه بما يصنعه الله، ووقع في رواية الزهري عن: القاسم عند مسلم: "الذين يشبهون بخلق الله" وقد تقدم الكلام على قوله: "أشد" قبل بباب. قوله: "فجعلناه وسادة أو وسادتين" تقدم هذا الحديث في المظالم من طريق عبيد الله العمري عن عبد الرحمن بن القاسم بهذا السند قالت: "فاتخذت منه نمرقتين فكانتا في البيت يجلس عليهما" وهو عند مسلم من وجه آخر عن عبيد الله بلفظ: "فأخذته فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت" والنمرقة يأتي ضبطها في الباب الذي يليه. ولمسلم من طريق بكير بن الأشج "فقطعته وسادتين فقال رجل في المجلس يقال له ربيعة بن عطاء: أفما سمعت أبا محمد، يريد القاسم بن محمد، يذكر أن عائشة قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفق عليهما؟ قال ابن القاسم يعني عبد الرحمن: لا. قال: لكني قد سمعته". قوله: "عبد الله بن داود" هو الخريبي بمعجمة وراء وموحدة مصغر، وهشام هو ابن عروة. قوله: "درنوكا" زاد مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام "على بابي" والدرنوك بضم الدال المهملة وسكون الراء بعدها نون مضمومة ثم كاف ويقال فيه درموك بالميم بدل النون، قال الخطابي: هو ثوب غليظ له خمل إذا فرش فهو بساط، وإذا علق

(10/387)


فهو ستر. قوله: "فيه تماثيل" زاد في رواية أبي أسامة عند مسلم: "فيه الخيل ذوات الأجنحة". واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ الصور إذا كانت لا ظل لها، وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال كالمخاد والوسائد، قال النووي: وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، ولا فرق في ذلك بين ما له ظل وما لا ظل له، فإن كان معلقا على حائط أو ملبوسا أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام. قلت: وفيما نقله مؤاخذات: منها أن ابن العربي من المالكية نقل أن الصورة إذا كان لها ظل حرم بالإجماع سواء كانت مما يمتهن أم لا، وهذا الإجماع محله في غير لعب البنات كما سأذكره في "باب من صور صورة" وحكى القرطبي في "المفهم" في الصور التي لا تتخذ للإبقاء كالفخار قولين أظهرهما المنع. قلت: وهل يلتحق ما يصنع من الحلوى بالفخار، أو بلعب البنات؟ محل تأمل. وصحح ابن العربي أن الصورة التي لا ظل لها إذا بقيت على هيئتها حرمت سواء كانت مما يمتهن أم لا، وإن قطع رأسها أو فرقت هيئتها جاز، وهذا المذهب منقول عن الزهري وقواه النووي، وقد يشهد له حديث النمرقة - يعني المذكور في الباب الذي بعده - وسيأتي ما فيه. ومنها أن إمام الحرمين نقل وجها أن الذي يرخص فيه مما لا ظل له ما كان على ستر أو وسادة، وأما ما على الجدار والسقف فيمنع، والمعنى فيه أنه بذلك يصير مرتفعا فيخرج عن هيئة الامتهان بخلاف الثوب فإنه بصدد أن يمتهن، وتساعده عبارة "مختصر المزني" صورة ذات روح إن كانت منصوبة.
ونقل الرافعي عن الجمهور أن الصورة إذا قطع رأسها ارتفع المانع. وقال المتولي في "التتمة" لا فرق. ومنها أن مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب ولو كان معلقا على ما في خبر أبي طلحة، لكن إن ستر به الجدار منع عندهم، قال النووي: وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقا، وهو مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصورة فيه بلا ظل بغير شك، ومع ذلك فأمر بنزعه. قلت: المذهب المذكور نقله ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد بسند صحيح ولفظه عن ابن عون "قال دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء" ففي إطلاق كونه مذهبا باطلا نظر، إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله: "إلا رقما في ثوب" فإنه أعم من أن يكون معلقا أو مفروشا، وكأنه جعل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركبا من كونه مصورا ومن كونه ساترا للجدار، ويؤيده ما ورد في بعض طرقه عند مسلم. فأخرج من طريق سعيد بن يسار عن زيد بن خالد الجهني قال: "دخلت على عائشة" فذكر نحو حديث الباب لكن قال: "فجذبه حتى هتكه وقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين. قال فقطعنا منه وسادتين" الحديث؛ فهذا يدل على أنه كره ستر الجدار بالثوب المصور، فلا يساويه الثوب الممتهن ولو كانت فيه صورة، وكذلك الثوب الذي لا يستر به الجدار. والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة، وكان من أفضل أهل زمانه، وهو الذي روى حديث النمرقة، فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة ما استجاز استعمالها، لكن الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك يدل على أنه مذهب مرجوح، وأن الذي رخص فيه من ذلك ما يمتهن، لا ما كان منصوبا. وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق أيوب عن عكرمة قال: كانوا يقولون في التصاوير في البسط والوسائد التي توطأ ذل لها. ومن طريق عاصم عن عكرمة قال: كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبا، ولا يرون بأسا بما وطئته الأقدام. ومن طريق ابن سيرين وسالم بن عبد الله وعكرمة بن خالد وسعيد بن جبير فرقهم أنهم قالوا: لا بأس

(10/388)


بالصورة إذا كانت توطأ. ومن طريق عروة أنه كان يتكئ على المرافق فيها التماثيل الطير والرجال. قوله في آخر الحديث: "وكنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد" كذا أورده عقب حديث التصوير، وهو حديث آخر مستقل قد أفرده في كتاب الطهارة من وجه آخر عن الزهري عن عروة، وأخرجه عقب حديث عائشة في صفة الغسل من طريق عبد الله بن المبارك عن هشام بن عروة به، وتقدم شرحه هناك، وكأن البخاري سمع الحديث على هذه الصورة فأورده كما هو واغتفر ذلك لكون المتن قصيرا مع أن كثرة عادته التصرف في المتن بالاختصار والاقتصار. وقال الكرماني: يحتمل أن الدرموك كان في باب المغتسل، أو اقتضى الحال ذكر الاغتسال إما بحسب سؤال وإما بغيره.

(10/389)


92 - باب مَنْ كَرِهَ الْقُعُودَ عَلَى الصُّورَةِ
5957- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ الْقَاسِمِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ فَقُلْتُ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا أَذْنَبْتُ قَالَ: مَا هَذِهِ النُّمْرُقَةُ؟ قُلْتُ: لِتَجْلِسَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا. قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ الصُّورَةُ" .
5958- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ الصُّورَةُ" قَالَ بُسْرٌ ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ فَعُدْنَاهُ فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ فَقُلْتُ لعبيد الله رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنْ الصُّوَرِ يَوْمَ الأَوَّلِ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَالَ إِلاَّ رَقْماً فِي ثَوْبٍ". وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ بُكَيْرٌ حَدَّثَهُ بُسْرٌ حَدَّثَهُ زَيْدٌ حَدَّثَهُ أَبُو طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب من كره القعود على الصور" أي ولو كانت مما توطأ. قوله: "جويرية" بالجيم والراء مصغر. قوله: "عن عائشة" في رواية مالك عن نافع عن القاسم "عن عائشة أنها أخبرته" وسيأتي بعد بابين. قوله: "نمرقة" بفتح النون وسكون الميم وضم الراء بعدها قاف كذا ضبطها القزاز وغيره، وضبطها ابن السكيت بضم النون أيضا وبكسرها وكسر الراء، وقيل: في النون الحركات الثلاث والراء مضمومة جزما والجمع نمارق، وهي الوسائد التي يصف بعضها إلى بعض، وقيل: النمرقة الوسادة التي يجلس عليها.
قوله: "فلم يدخل" زاد مالك في روايته فعرفت الكراهية في وجهه. قوله: "أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت" يستفاد منه جواز التوبة من الذنوب كلها إجمالا وإن لم يستحضر التائب خصوص الذنب الذي حصلت به مؤاخذته. قوله: "ما هذه النمرقة" في رواية مالك "ما بال هذه". قوله: "قلت لتجلس عليها" في رواية مالك "اشتريتها لتقعد عليها". قوله: "وتوسدها" بفتح أوله وبتشديد السين المهملة أصله تتوسدها. قوله: "إن أصحاب هذه الصور الخ" وفيه: "إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصور" والجملة الثانية هي المطابقة لامتناعه من الدخول، وإنما قدم الجملة الأولى عليها

(10/389)


اهتماما بالزجر عن اتخاذ الصور، لأن الوعيد إذا حصل لصانعها فهو حاصل لمستعملها، لأنها لا تصنع إلا لتستعمل فالصانع متسبب والمستعمل مباشر فيكون أولى بالوعيد، ويستفاد منه أنه لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أو لا، ولا ببن أن تكون مدهونة أو منقوشة أو منقورة أو منسوجة، خلافا لمن استثنى النسج وادعى أنه ليس بتصوير، وظاهر حديثي عائشة هذا والذي قبله يدل على أنه صلى الله عليه وسلم استعمل الستر الذي فيه الصورة بعد أن قطع وعملت منه الوسادة، وهذا يدل على أنه لم يستعمله أصلا، وقد أشار المصنف إلى الجمع بينهما بأنه لا يلزم من جواز اتخاذ ما يوطأ من الصور جواز القعود على الصورة فيجوز أن يكون استعمل من الوسادة ما لا صورة فيه، ويجوز أن يكون رأى التفرقة بين القعود والاتكاء وهو بعيد، ويحتمل أيضا أن يجمع بين الحديثين بأنها لما قطعت الستر وقع القطع في وسط الصورة مثلا فخرجت عن هيئتها فلهذا صار يرتفق بها، ويؤيد هذا الجمع الحديث الذي في الباب قبله في نقض الصور وما سيأتي في حديث أبي هريرة المخرج في السنن، وسأذكره في الباب بعده. وسلك الداودي في الجمع مسلكا آخر فادعى أن حديث الباب ناسخ لجميع الأحاديث الدالة على الرخصة، واحتج بأنه خبر والخبر لا يدخله النسخ فيكون هو الناسخ. قلت: والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وقد أمكن الجمع فلا يلتفت لدعوى النسخ، وأما ما احتج به فرده ابن التين بأن الخبر إذا قارنه الأمر جاز دخول النسخ فيه. قوله: "عن بكير" بالموحدة مصغر، في رواية النسائي عن عيسى بن حماد عن الليث "حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج" وكذا عند أحمد عن حجاج بن محمد وهاشم بن القاسم عن الليث. قوله: "عن بسر" بضم الموحدة وسكون المهملة، في رواية عمرو بن الحارث عن بكير "أن بسر بن سعيد حدثه" وقد مضت في بدء الخلق. قوله: "عن زيد بن خالد" هو الجهني الصحابي، في رواية عمرو أيضا: "أن زيد بن خالد الجهني حدثه ومع بسر بن سعيد عبيد الله الخولاني الذي كان في حجر ميمونة". قوله: "أبي طلحة" هو زيد بن سهل الأنصاري الصحابي المشهور، وفي الإسناد تابعيان في نسق وصحابيان في نسق، وعلى رواية بسر عن عبيد الله الخولاني للزيادة الآتي ذكرها يكون فيه ثلاثة من التابعين في نسق وكلهم مدنيون. ووقع في رواية عمرو بن الحارث أن أبا طلحة حدثه. قوله: "فيه صورة" كذا لكريمة وغيرها. وفي رواية أبي ذر عن مشايخه إلا المستملي: "صور" بصيغة الجمع، وكذا في قوله: "فإذا على بابه ستر فيه صورة" ووقع في رواية عمرو بن الحارث "فإذا نحن في بيته بستر فيه تصاوير" وهي تقوي رواية أبي ذر. قوله: "فقلت لعبيد الله الخولاني" أي الذي كان معه كما بينته رواية عمرو بن الحارث، وعبيد الله هو ابن الأسود ويقال ابن أسد، ويقال له ربيب ميمونة لأنها كانت ربته وكان من مواليها ولم يكن ابن زوجها، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في الصلاة من روايته عن عثمان. قوله: "يوم الأول" في رواية الكشميهني: "يوم أول". قوله: "فقال عبيد الله ألم تسمعه حين قال: إلا رقما في ثوب" في رواية عمرو بن الحارث "فقال إنه قال إلا رقما في ثوب، ألا سمعته؟ قلت: لا. قال: بلى قد ذكره". قوله: "وقال ابن وهب أخبرني عمرو هو ابن الحارث" تقدم أنه وصله في بدء الخلق، وقد بينت ما في روايته من فائدة زائدة، ووقع عند النسائي من وجه آخر عن بسر بن سعيد عن عبيدة بن سفيان قال: "دخلت أنا وأبو سلمة بن عبد الرحمن على زيد بن خالد نعوده فوجدنا عنده نمرقتين فيهما تصاوير. وقال أبو سلمة: أليس حدثتنا" فذكر الحديث، فقال زيد: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إلا رقما في ثوب" قال النووي: يجمع بين الأحاديث بأن المراد باستثناء الرقم في الثوب ما كانت

(10/390)


الصورة فيه من غير ذوات الأرواح كصورة الشجر ونحوها اهـ. ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي كما يدل عليه حديث أبي هريرة الذي أخرجه أصحاب السنن وسأذكره في الباب الذي يليه. وقال ابن العربي: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقما فأربعة أقوال: الأول: يجوز مطلقا على ظاهر قوله في حديث الباب إلا رقما في ثوب، الثاني: المنع مطلقا حتى الرقم، الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم وإن قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز، قال وهذا هو الأصح، الرابع: إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقا لم يجز.

(10/391)


93 - باب كَرَاهِيَةِ الصَّلاَةِ فِي التَّصَاوِيرِ
5959- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمِيطِي عَنِّي فَإِنَّهُ لاَ تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلاَتِي
قوله: "باب كراهية الصلاة في التصاوير" أي في الثياب المصورة. قوله: "عبد الوارث" هو ابن سعيد، والإسناد كله بصريون. قوله: "كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها" تقدم ضبط القرام قريبا. قوله: "أميطي" أي أزيلي وزنه ومعناه. قوله: "تعرض" بفتح أوله وكسر الراء أي أنظر إليها فتشغلني، ووقع في حديث عائشة عند مسلم أنها كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة وكان النبي صلى الله عليه وسلم: يصلي إليه، فقال: أخريه عني. ووجه انتزاع الترجمة من الحديث أن الصور إذا كانت تلهي المصلي وهي مقابله فكذا تلهيه وهو لابسها بل حالة اللبس أشد، ويحتمل أن تكون "في" بمعنى "إلى" فتحصل المطابقة وهو اللائق بمراده، فإن في المسألة خلافا، فنقل عن الحنفية أنه لا تكره الصلاة إلى جهة فيها صورة إذا كانت صغيرة أو مقطوعة الرأس، وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة أيضا في النمرقة لأنه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت الذي كان فيه الستر المصور أصلا حتى نزعه وهذا يدل على أنه أقره وصلى وهو منصوب إلى أن أمر بنزعه من أجل ما ذكر من رؤيته الصورة حالة الصلاة، ولم يتعرض لخصوص كونها صورة. ويمكن الجمع بأن الأول كانت تصاويره من ذوات الأرواح وهذا كانت تصاويره من غير الحيوان كما تقدم تقريره في حديث زيد بن خالد.

(10/391)


باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة
...
الصور في بيوتهم ويعظمونها فكرهت الملائكة ذلك فلم تدخل بيته هجرا له لذلك. قوله: "عمر بن محمد" أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر، وسالم شيخه هو عم أبيه وهو ابن عبد الله بن عمر. قوله: "وعد جبريل النبي صلى الله عليه وسلم" زادت عائشة "في ساعة يأتيه فيها" أخرجه مسلم. قوله: "فراث عليه" بالمثلثة أي أبطأ، وفي حديث عائشة "فجاءت تلك الساعة ولم يأته". قوله: "حتى اشتد على النبي صلى الله عليه وسلم" في حديث عائشة "وفي يده عصا فألقاها من يده وقال: ما يخلف الله وعده ولا رسله " وفي حديث ميمونة عند مسلم نحو حديث عائشة وفيه: "أنه أصبح واجما" بالجيم أي منقبضا. قوله: "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه فشكا إليه ما وجد" أي من إبطائه "فقال له: إنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب " في هذا الحديث اختصار، وحديث عائشة أتم ففيه: "ثم التفت فإذا جر وكلب تحت سريره فقال: يا عائشة متى دخل هذا الكلب؟ فقالت: وايم الله ما دريت. ثم أمر به فأخرج، فجاء جبريل، فقال: واعدتني فجلست لك فلم تأت. فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك" وفي حديث ميمونة "فظل يومه على ذلك، ثم وقع في نفسه جرو كلب فأمر به فأخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل" وزاد فيه الأمر بقتل الكلاب. وحديث أبي هريرة في السنن وصححه الترمذي وابن حبان أتم سياقا منه ولفظه: "أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية النسائي: "إما أن تقطع رءوسها أو تجعل بسطا توطأ" وفي هذا الحديث ترجيح قول من ذهب إلى أن الصورة التي تمتنع الملائكة من دخول المكان التي تكون فيه باقية على هيئتها مرتفعة غير ممتهنة، فأما لو كانت ممتهنة أو غير ممتهنة لكنها غيرت من هيئتها إما بقطعها من نصفها أو بقطع رأسها فلا امتناع. وقال القرطبي: ظاهر حديث زيد بن خالد عن أبي طلحة الماضي قيل إن الملائكة لا تمتنع من دخول البيت الذي فيه صورة إن كانت رقما في الثوب، وظاهر حديث عائشة المنع ويجمع بينهما بأن يحمل حديث عائشة على الكراهة وحديث أبي طلحة على مطلق الجواز وهو لا ينافي الكراهة. قلت: وهو جمع حسن، لكن الجمع الذي دل عليه حديث أبي هريرة أولى منه، والله تعالى أعلم.

(10/292)


95 - باب مَنْ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتاً فِيهِ صُورَةٌ
5961- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرته أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية قالت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت؟ قال: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم وقال إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة" .
قوله: "باب من لم يدخل بيتا فيه صورة" ذكر فيه حديث عائشة في النمرقة وقد تقدم بيانه في "باب من كره

(10/392)


القعود على التصاوير" قال الرافعي: وفي دخول البيت الذي فيه الصورة وجهان: قال الأكثر: يكره. وقال أبو محمد: يحرم، فلو كانت الصورة في ممر الدار لا داخل الدار كما في ظاهر الحمام أو دهليزها لا يمتنع الدخول، قال وكان السبب فيه أن الصورة في الممر ممتهنة وفي المجلس مكرمة. قلت: وقصة إطلاق نص المختصر وكلام الماوردي وابن الصباغ وغيرهما لا فرق.

(10/393)


96 - باب مَنْ لَعَنَ الْمُصَوِّرَ
حدثنا محمد بن المثنى قال حدثني محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه "أنه اشترى غلاما حجاما فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور" .
قوله: "باب من لعن المصور" ذكر فيه حديث أبي جحيفة وقد تقدم بيانه في "باب الواشمة".

(10/393)


97 - باب مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ
5963- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ سَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يُحَدِّثُ قَتَادَةَ قَالَ: "كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمْ يَسْأَلُونَهُ وَلاَ يَذْكُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سُئِلَ فَقَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ" .
قوله: "باب من صور صورة الخ" كذا ترجم بلفظ الحديث، ووقع عند النسفي "باب" بغير ترجمة، وثبتت الترجمة عند الأكثر، وسقط الباب والترجمة من رواية الإسماعيلي، وعلى ذلك جرى ابن بطال، ونقل عن المهلب توجيه إدخال حديث الباب في الباب الذي قبله فقال: اللعن في اللغة الإبعاد من رحمة الله تعالى، ومن كلف أن ينفخ الروح وليس بنافخ فقد أبعد من الرحمة. قوله: "حدثنا عياش" هو بالتحتانية وبالشين المعجمة، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى، وسعيد هو ابن أبي عروبة، والسند كله بصريون. قوله: "سمعت النضر بن أنس بن مالك يحدث قتادة" كان سعيد بن أبي عروبة كثير الملازمة لقتادة فاتفق أن قتادة والنضر بن أنس اجتمعا، فحدث النضر قتادة فسمعه سعيد وهو معه، ووقع في رواية المستملي وغيره: "يحدثه قتادة" والضمير للحديث، وقتادة بالنصب على المفعولية والفاعل النضر، وضبطه بعضهم بالرفع على أن الضمير للنضر وفاعل يحدث قتادة، وهو خطأ لأنه لا يلائم قوله: "سمعت النضر" ولأن قتادة لم يسمع من ابن عباس ولا حضر عنده، وقد تقدم تصريح البخاري بأن سعيدا سمع من النضر هذا الحديث الواحد، ووقع في رواية خالد بن الحارث عن سعيد عن قتادة عن النضر بن أنس أخرجها الإسماعيلي، وقوله: "عن قتادة" من المزيد في متصل الأسانيد فإن كان خالد حفظه احتمل أن يكون سعيد كان سمعه من قتادة عن النضر ثم لقي النضر فسمعه منه فكان يحدثه به على الوجهين، وقد حدث به قتادة عن النضر من غير طريق سعيد أخرجها الإسماعيلي من رواية هشام الدستوائي عن قتادة. قوله: "وهم يسألونه ولا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم" أي يجيبهم عما يسألونه بالفتوى من غير أن يذكر الدليل من السنة، وقد وقع بيان ذلك عند الإسماعيلي من رواية

(10/393)


98 - باب الارْتِدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ
5964- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ".
قوله: "باب الارتداف على الدابة" أي إركاب راكب الدابة خلفه غيره، وقد كنت استشكلت إدخال هذه التراجم في كتاب اللباس، ثم ظهر لي أن وجهه أن الذي يرتدف لا يأمن من السقوط فينكشف فأشار إلى أن احتمال السقوط لا يمنع من الارتداف إذ الأصل عدمه فيتحفظ المرتدف إذا ارتدف من السقوط، وإذا سقط فليبادر إلى الستر، وتلقيت فهم ذلك من حديث أنس في قصة صفية الآتي في "باب إرداف المرأة خلف الرجل" وقال الكرماني الغرض الجلوس على لباس الدابة وإن تعدد أشخاص الراكبين عليها، والتصريح بلفظ القطيفة في الحديث الثامن مشعر بذلك. قوله: "أبو صفوان" هو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان الأموي. قوله: "ركب على حمار" هو طرف من حديث طويل تقدم أصله في العلم، ويأتي بهذا السند في الاستئذان ثم في الرقاق، وهو ظاهر في مشروعية الارتداف.

(10/395)


99 - باب الثَّلاَثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ
5965- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ اسْتَقْبَلَهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَحَمَلَ وَاحِداً بَيْنَ يَدَيْهِ وَالآخَرَ خَلْفَهُ".
قوله: "باب الثلاثة على الدابة" كأنه يشير إلى الزيادة التي في حديث الباب الذي بعده، والأصل في ذلك ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" عن جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ثلاثة على دابة" وسنده ضعيف. وأخرج

(10/395)


100 - باب حَمْلِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ غَيْرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِصَدْرِ الدَّابَّةِ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ
5966- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ ذُكِرَ شَرُّ الثَّلاَثَةِ عِنْدَ عِكْرِمَةَ فَقَالَ "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَمَلَ قُثَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْفَضْلَ خَلْفَهُ أَوْ قُثَمَ خَلْفَهُ وَالْفَضْلَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَيُّهُمْ شَرٌّ أَوْ أَيُّهُمْ خَيْرٌ".
قوله: "باب حمل صاحب الدابة غيره بين يديه. وقال بعضهم: صاحب الدابة أحق بصدر الدابة إلا أن يأذن له" ثبت هذا التعليق عند النسفي، وهو لأبي ذر عن المستملي وحده، والبعض المبهم هو الشعبي أخرجه ابن أبي

(10/396)


شيبة عنه، وقد جاء ذلك مرفوعا أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وصححه ابن حبان والحاكم من طريق حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ جاءه رجل ومعه حمار فقال: يا رسول الله اركب، وتأخر الرجل، فقال: لأنت أحق بصدر دابتك إلا أن تجعله لي، قال: قد جعلته لك. فركب" وهذا الرجل هو معاذ بن جبل بينه حبيب بن الشهيد في روايته عن عبد الله بن بريدة لكنه أرسله، أخرجه ابن أبي شيبة من طريقه. قال ابن بطال: كأن البخاري لم يرتض إسناده يعني حديث بريدة فأدخل حديث ابن عباس ليدل على معناه. قلت: ليس هو على شرطه، فلذلك اقتصر على الإشارة إليه، وقد وجدت له شاهدا من حديث النعمان بن بشير أخرجه الطبراني وفيه زيادة الاستثناء. وأخرج أحمد من حديث قيس بن سعد بدون هذه الزيادة. وفي الباب عدة أحاديث مرفوعة وموقوفة بمعنى ذلك، قال ابن العربي: إنما كان الرجل أحق بصدر دابته لأنه شرف والشرف حق المالك، ولأنه يصرفها في المشي حيث شاء وعلى أي وجه أراد من إسراع أو بطء ومن طول أو قصر، بخلاف غير المالك. وقوله في حديث بريدة "إلا أن تجعله لي " يريد الركوب على مقدم الدابة، وفيه نظر لأن الرجل قد تأخر وقال له: يا رسول الله اركب، أي في المقدم، فدل على أنه جعله له، ويمكن أن يجاب بأن المراد أنه طلب منه أن يجعله له صريحا، أو الضمير للتصرف في الدابة بعد الركوب كيف أراد كما أشار إليه ابن العربي في حق صاحب الدابة، فكأنه قال اجعل حقك لي كله من الركوب على مقدم الدابة وما يترتب على ذلك. قوله: "ذكر شر الثلاثة عند عكرمة" كذا للمستملي وفي رواية الكشميهني: "أشر" بزيادة ألف أوله. وفي رواية الحموي "الأشر" فأما أشر بزيادة ألف فهي لغة تقدم تقريرها في شرح حديث عبد الله بن سلام، ففيه: "قالوا أخيرنا وابن أخيرنا" وجاء في المثل "صغراها أشرها" وقالوا أيضا: "نعوذ بالله من نفس حرى، وعين شرى" أي ملأى من الشر، وهو مثل أصغر وصغرى. وأما الرواية بزيادة اللام فهو مثل قولهم: الحسن الوجه والواهب المائة، والمراد بلفظ الأشر الشر لأن أفعل التفضيل لا يستعمل على هذه الصور إلا نادرا. قوله: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" بفتح الهمزة من أتى ورسول الله بالرفع أي جاء، وقد حمل قثم بين يديه والفضل خلفه وهما ولدا العباس بن عبد المطلب وأخوا عبد الله بن عباس راوي الحديث. قوله: "أو قثم خلفه" شك من الراوي، وقثم بقاف ومثلثة وزن عمر، ليس له في البخاري رواية، وهو صحابي، وذكره الحافظ عبد الغني مع غير الصحابة فوهم. قوله: "فأيهم شر أو أيهم خير" ؟ هذا كلام عكرمة يرد به على من ذكر له شر الثلاثة وقال الداودي: إن ثبت الخبر في ذلك قدم على هذا ويكون ناسخا له، لأن الفعل يدخله النسخ والخبر لا يدخله النسخ، كذا، قال. ودعوى النسخ هنا في غاية البعد، والجمع الذي أشار إليه الطبري أولا أولى. ==بعده

=======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............