السبت، 7 مايو 2022

كتاب : 36. و37- من فتح الباري : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

  كتاب : 36.فتح الباري : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 ==باب الدعاء للصبيان بالبركة ومسح وءوسهم
...
31 - باب الدُّعَاءِ لِلصِّبْيَانِ بِالْبَرَكَةِ وَمَسْحِ رُءُوسِهِمْ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى وُلِدَ لِي غُلاَمٌ وَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ
6352- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ الْجَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ "سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ"

 32 - باب الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6357- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ "لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ أَلاَ أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ فَقُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"
6358- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا السَّلاَمُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ"
قوله: "باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" هذا الإطلاق يحتمل حكمها وفضلها وصفتها ومحلها، والاقتصار على ما أورده في الباب يدل على إرادة الثالث، وقد يؤخذ منه الثاني، أما حكمها فحاصل ما وقفت عليه من كلام العلماء فيه عشرة مذاهب: أولها قول ابن جرير الطبري إنها من المستحبات وادعى الإجماع على ذلك. ثانيها مقابله وهو نقل ابن القصار وغيره الإجماع على أنها تجب في الجملة بغير حصر لكن أقل ما يحصل به الإجزاء مرة. ثالثها تجب في العمر في صلاة أو في غيرها وهي مثل كلمة التوحيد قاله أبو بكر الرازي من الحنفية  وابن حزم وغيرهما. وقال القرطبي المفسر: لا خلاف في وجوبها في العمر مرة وأنها واجبة في كل حين وجوب السنن المؤكدة، وسبقه ابن عطية. رابعها تجب في القعود آخر الصلاة بين قول التشهد وسلام التحلل قاله الشافعي ومن تبعه. خامسها تجب في التشهد وهو قول الشعبي وإسحاق بن راهويه. سادسها تجب في الصلاة من غير تعيين من نقل ذلك عن أبي جعفر الباقر. سابعها يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد قاله أبو بكر بن بكير من المالكية: ثامنها كلما ذكر قاله الطحاوي وجماعة من الحنفية والحليمي وجماعة من الشافعية. وقال ابن العربي من المالكية إنه الأحوط، وكذا قال الزمخشري. تاسعها في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مرارا حكاه الزمخشري. عاشرها في كل دعاء حكاه أيضا. وأما محلها فيؤخذ مما أوردته من بيان الآراء في حكمها، وسأذكر ما ورد فيه عند الكلام على فضلها، وأما صفتها فهي أصل ما يعول عليه في حديثي الباب. قوله: "حدثنا الحكم" لم أقف عليه في جميع الطرق عن شعبة إلا هكذا غير منسوب، وهو فقيه الكوفة في عصره وهو ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغر، ووقع عن الترمذي والطبراني وغيرهما من رواية مالك بن مغول وغيره منسوبا قالوا "عن الحكم بن عتيبة" وعبد الرحمن بن أبي ليلى تابعي كبير وهو والد ابن أبي ليلى فقيه الكوفة محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى ينسب إلى جده. قوله: "لقيني كعب بن عجرة" في رواية فطر بن خليفة عن ابن أبي ليلى "لقيني كعب بن عجرة الأنصاري" أخرجه الطبراني، ونقل ابن سعد عن الواقدي أنه أنصاري من أنفسهم، وتعقبه فقال: لم أجده في نسب الأنصار، والمشهور أنه بلوى، والجمع بين القولين أنه بلوى حالف الأنصار، وعين المحاربي عن مالك بن مغول عن الحكم المكان الذي التقيا به، فأخرجه الطبري من طريقه بلفظ أن كعبا قال له وهو يطوف بالبيت. قوله: "ألا أهدي لك هدية" زاد عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن جده كما تقدم في أحاديث للأنبياء "سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا" يجوز في أن الفتح والكسر؛ وقال الفاكهاني في "شرح العمدة": في هذا السياق إضمار تقديره فقال عبد الرحمن نعم فقال كعب إن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وقع ذلك صريحا في رواية شبابة وعفان عن شعبة بلفظ: "قلت بلى قال" أخرجه الخلعي في فوائده. وفي رواية عبد الله بن عيسى المذكورة ولفظه: "فقلت بلى فاهدها لي، فقال". قوله: "فقلنا يا رسول الله" كذا في معظم الروايات عن كعب بن عجرة "قلنا" بصيغة الجمع، وكذا وقع في حديث أبي سعيد في الباب، ومثله في حديث أبي بريدة عند أحمد وفي حديث طلحة عند النسائي وفي حديث أبي هريرة عند الطبري، ووقع عند أبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة بسند حديث الباب: "قلنا أو قالوا يا رسول الله" بالشك والمراد الصحابة أو من حضر منهم، ووقع عند السراج والطبراني من رواية قيس بن سعد عن الحكم به "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا" وقال الفاكهاني: الظاهر أن السؤال صدر من بعضهم لا من جميعهم ففيه التعبير عن البعض بالكل. ثم قال: ويبعد جدا أن يكون كعب هو الذي باشر السؤال منفردا فأتى بالنون التي للتعظيم، بل لا يجوز ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله: "قولوا فلو كان السائل واحدا لقال له قل ولم يقل قولوا" انتهى، ولم يظهر لي وجه نفي الجواز وما المانع أن يسأل الصحابي الواحد عن الحكم فيجيب صلى الله عليه وسلم بصيغة الجمع إشارة إلى اشتراك الكل في الحكم، ويؤكده أن في نفس السؤال "قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي" كلها بصيغة الجمع فدل على أنه سأل لنفسه ولغيره فحسن الجواب بصيغة الجمع، لكن الإتيان بنون العظمة في

(11/153)


خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يظن بالصحابي، فإن ثبت أن السائل كان متعددا فواضح، وإن ثبت أنه كان واحدا فالحكمة في الإتيان بصيغة الجمع الإشارة إلى أن السؤال لا يختص به بل يريد نفسه ومن يوافقه على ذلك، فحمله على ظاهره من الجمع هو المعتمد، على أن الذي نفاه الفاكهاني قد ورد في بعض الطرق، فعند الطبري من طريق الأجلح، عن الحكم بلفظ: "قمت إليه فقلت: السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال قل اللهم صل على محمد الحديث" وقد وقفت من تعيين من باشر السؤال على جماعة: وهم كعب بن عجزة وبشير بن سعد والد النعمان وزيد بن خارجة الأنصاري وطلحة بن عبيد الله وأبو هريرة وعبد الرحمن بن بشير، أما كعب فوقع عند الطبراني من رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم بهذا السند بلفظ: "قلت يا رسول الله قد علمنا" وأما بشير ففي حديث أبي مسعود عند مالك ومسلم وغيرهما أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد "أمرنا الله أن نصلي عليك" الحديث، وأما زيد بن خارجة فأخرج النسائي من حديثه قال: "أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا علي واجتهدوا في الدعاء وقولوا: اللهم صل على محمد" الحديث. وأخرج الطبري من حديث طلحة قال: "قلت يا رسول الله كيف الصلاة عليك" ومخرج حديثهما واحد، وأما حديث أبي هريرة فأخرج الشافعي من حديثه أنه قال: "يا رسول الله كيف نصلي عليك" وأما حديث عبد الرحمن بن بشير فأخرجه إسماعيل القاضي في كتاب "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" قال: "قلت أو قيل للنبي صلى الله عليه وسلم" هكذا عنده على الشك، وأبهم أبو عوانة في صحيحه من رواية الأجلح وحمزة الزيات عن الحكم السائل ولفظه: "جاء رجل فقال: يا رسول الله قد علمنا" ووقع لهذا السؤال سبب أخرجه البيهقي والخلعي من طريق الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني" حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الأعمش ومسعر ومالك بن مغول عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية قلنا: يا رسول الله، قد علمنا" الحديث. وقد أخرج مسلم هذا الحديث عن محمد بن بكار عن إسماعيل ابن زكريا ولم يسق لفظه بل أحال به على ما قبله فهو على شرطه، وأخرجه السراج من طريق مالك بن مغول وحده كذلك. وأخرج أحمد والبيهقي وإسماعيل القاضي من طريق يزيد بن أبي زياد والطبراني من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والطبري من طريق الأجلح والسراج من طريق سفيان وزائدة فرقهما وأبو عوانة في صحيحه من طريق الأجلح وحمزة الزيات كلهم عن الحكم مثله. وأخرج أبو عوانة أيضا من طريق مجاهد عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى مثله، وفي حديث طلحة عند الطبري "أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ} الآية فكيف الصلاة عليك". قوله: "قد علمنا" المشهور في الرواية بفتح أوله وكسر اللام مخففا، وجوز بعضهم ضم أوله والتشديد على البناء للمجهول، ووقع في رواية ابن عيينة عن يزيد بن أبي زياد وبالشك ولفظه: "قلنا قد علمناه أو علمنا" رويناه في "الخليعات" وكذا أخرج السراج من طريق مالك بن مغول عن الحكم بلفظ: "علمنا" أو علمناه ووقع في رواية حفص بن عمر المذكورة "أمرتنا أن نصلي عليك، وأن نسلم عليك، فأما السلام فقد عرفناه" وفي ضبط عرفناه ما تقدم في علمناه وأراد بقوله: "أمرتنا" أي بلغتنا عن الله تعالى أنه أمر بذلك، ووقع في حديث أبي مسعود "أمرنا الله" وفي رواية عبد الله بن عيسى المذكورة "كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله قد علمنا كيف نسلم" أي علمنا الله كيفية السلام عليك على لسانك وبواسطة بيانك. وأما إتيانه بصيغة الجمع في قوله: "عليكم" فقد بين مراده بقوله، أهل

(11/154)


البيت، لأنه لو اقتصر عليها لاحتمل أن يريد بها التعظيم، وبها تحصل مطابقة الجواب للسؤال حيث قال: "على محمد وعلى آل محمد" وبهذا يستغنى عن قول من قال: في الجواب زيادة على السؤال لأن السؤال وقع عن كيفية الصلاة عليه فوقع الجواب عن ذلك بزيادة كيفية الصلاة على آله. قوله: "كيف نسلم عليك" قال البيهقي: فيه إشارة إلى السلام الذي في التشهد وهو قول "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فيكون المراد بقولهم "فكيف نصلي عليك" أي بعد التشهد. انتهى. وتفسير السلام بذلك هو الظاهر. وحكى ابن عبد البر فيه احتمالا، وهو أن المراد به السلام الذي يتحلل به من الصلاة وقال: إن الأول أظهر، وكذا ذكر عياض وغيره، ورد بعضهم الاحتمال المذكور بأن سلام التحلل لا يتقيد به اتفاقا، كذا قيل، وفي نقل الاتفاق نظر، فقد جزم جماعة من المالكية بأنه يستحب للمصلي أن يقول عند سلام التحلل، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام عليكم، ذكره عياض وقبله ابن أبي زيد وغيره. قوله: "فكيف نصلي عليك" زاد أبو مسعود في حديثه، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله وإنما تمنوا ذلك خشية أن يكون لم يعجبه السؤال المذكور لما تقرر عندهم من النهي عن ذلك، فقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} من سورة المائدة بيان ذلك، ووقع عند الطبري من وجه آخر في هذا الحديث، فسكت حتى جاءه الوحي فقال: "تقولون" واختلف في المراد بقولهم "كيف" فقيل المراد السؤال عن معنى الصلاة المأمور بها بأي لفظ يؤدى، وقيل عن صفتها، قال عياض: لما كان لفظ الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} يحتمل الرحمة والدعاء والتعظيم سألوا بأي لفظ تؤدى؟ هكذا قال بعض المشايخ، ورجح الباجي أن السؤال إنما وقع عن صفتها لا عن جنسها، وهو أظهر لأن لفظ: "كيف" ظاهر في الصفة، وأما الجنس فيسأل عنه بلفظ: "ما" وبه جزم القرطبي فقال: هذا سؤال من أشكلت عليه كيفية ما فهم أصله، وذلك أنهم عرفوا المراد بالصلاة فسألوا عن الصفة التي تليق بها ليستعملوها انتهى. والحامل لهم على ذلك أن السلام لما تقدم بلفظ مخصوص وهو "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فهموا منه أن الصلاة أيضا تقع بلفظ مخصوص، وعدلوا عن القياس لإمكان الوقوف على النص ولا سيما في ألفاظ الأذكار فإنها تجيء خارجة عن القياس غالبا، فوقع الأمر كما فهموا فإنه لم يقل لهم قولوا الصلاة عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ولا قولوا الصلاة والسلام عليك إلخ بل علمهم صيغة أخرى. قوله: "قال قولوا اللهم" هذه كلمة كثر استعمالها في الدعاء وهو بمعنى يا الله، والميم عوض عن حرف النداء فلا يقال اللهم غفور رحيم مثلا وإنما يقال اللهم اغفر لي وارحمني، ولا يدخلها حرف النداء إلا في نادر كقول الراجز. إني إذا ما حادث ألما أقول يا اللهم يا اللهما واختص هذا الاسم بقطع الهمزة عند النداء ووجوب تفخيم لامه وبدخول حرف النداء عليه مع التعريف، وذهب الفراء ومن تبعه من الكوفيين إلى أن أصله يا الله وحذف حرف النداء تخفيفا والميم مأخوذ من جملة محذوفة مثل أمنا بخير، وقيل بل زائدة كما في زرقم للشديد الزرقة، وزيدت في الاسم العظيم تفخيما، وقيل بل هو كالواو الدالة على الجمع كأن الداعي قال: يا من اجتمعت له الأسماء الحسنى، ولذلك شددت الميم لتكون عوضا عن علامة الجمع، وقد جاء عن الحسن البصري: اللهم مجتمع الدعاء، وعن النضر بن شميل: من قال اللهم فقد سأل الله بجميع أسمائه. قوله: "صل" تقدم في أواخر تفسير الأحزاب عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه عند ملائكته، ومعنى صلاة الملائكة عليه الدعاء له. وعند ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان قال: صلاة

(11/155)


الله مغفرته وصلاة الملائكة الاستغفار. وعن ابن عباس أن معنى صلاة الرب الرحمة وصلاة الملائكة الاستغفار. وقال الضحاك بن مزاحم: صلاة الله رحمته. وفي رواية عنه مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء أخرجهما إسماعيل القاضي عنه، وكأنه يريد الدعاء بالمغفرة ونحوها. وقال المبرد: الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة رقة تبعث على استدعاء الرحمة. وتعقب بأن الله غاير بين الصلاة والرحمة في قوله {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} وكذلك فهم الصحابة المغايرة من قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} حتى سألوا عن كيفية الصلاة مع تقدم ذكر الرحمة في تعليم السلام حيث جاء بلفظ: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقال لهم قد علمتم ذلك في السلام، وجوز الحليمي أن تكون الصلاة بمعنى السلام عليه، وفيه نظر وحديث الباب يرد على ذلك، وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من الله تعالى والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة، وقيل صلاة الله على خلقه تكون خاصة وتكون عامة فصلاته على أنبيائه هي ما تقدم من الثناء والتعظيم، وصلاته على غيرهم الرحمة فهي التي وسعت كل شيء. ونقل عياض عن بكر القشيري قال: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الله تشريف وزيادة تكرمة وعلى من دون النبي رحمة، وبهذا التقرير يظهر الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين سائر المؤمنين حيث قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} وقال قبل ذلك في السورة المذكورة {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} ومن المعلوم أن القدر الذي يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أرفع مما يليق بغيره، والإجماع منعقد على أن في هذه الآية من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتنويه به ما ليس في غيرها. وقال الحليمي في الشعب معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه، فمعنى قولنا اللهم صل على محمد عظم محمدا. والمراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} ادعوا ربكم بالصلاة عليه انتهى. ولا يعكر عليه عطف آله وأزواجه وذريته عليه فإنه لا يمتنع أن يدعى لهم بالتعظيم، إذ تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به، وما تقدم عن أبي العالية أظهر، فإنه يحصل به استعمال لفظ الصلاة بالنسبة إلى الله وإلى ملائكته وإلى المؤمنين المأمورين بذلك بمعنى واحد، ويؤيده أنه لا خلاف في جواز الترحم على غير الأنبياء، واختلف في جواز الصلاة على غير الأنبياء، ولو كان معنى قولنا اللهم صلى على محمد اللهم ارحم محمدا أو ترحم على محمد لجاز لغير الأنبياء، وكذا لو كانت بمعنى البركة وكذا الرحمة لسقط الوجوب في التشهد عند من يوجبه بقول المصلي في التشهد "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" ويمكن الانفصال بأن ذلك وقع بطريق التعبد فلا بد من الإتيان به ولو سبق الإتيان بما يدل عليه. قوله: "على محمد وعلى آل محمد" كذا وقع في الموضعين في قوله صل وفي قوله وبارك، ولكن وقع في الثاني وبارك على آل إبراهيم، ووقع عند البيهقي من وجه آخر عن آدم شيخ البخاري فيه على إبراهيم ولم يقل على آل إبراهيم، وأخذ البيضاوي من هذا أن ذكر الآل في رواية الأصل مقحم كقوله على آل أبي أوفى. قلت: والحق أن ذكر محمد وإبراهيم وذكر آل محمد وآل إبراهيم ثابت في أصل الخير. وإنما حفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر، وسأبين من ساقه تاما بعد قليل. وشرح الطيبي على ما وقع في رواية البخاري هنا فقال: هذا اللفظ يساعد قول من قال إن معنى قول الصحابي "علمنا كيف السلام عليك" أي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

(11/156)


صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فكيف نصلي عليك أي على أهل بيتك، لأن الصلاة عليه قد عرفت مع السلام من الآية، قال: فكان السؤال عن الصلاة على الآل تشريفا لهم. وقد ذكر محمد في الجواب لقوله تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وفائدته الدلالة على الاختصاص، قال: وإنما ترك ذكر إبراهيم لينبه على هذه النكتة، ولو ذكر لم يفهم أن ذكر محمد على سبيل التمهيد انتهى. ولا يخفى ضعف ما قال. ووقع في حديث أبي مسعود عند أبي داود والنسائي: "على محمد النبي الأمي" وفي حديث أبي سعيد في الباب: "على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم" ولم يذكر آل محمد ولا آل إبراهيم، وهذا إن لم يحمل على ما قلته أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر والأظهر فساد ما بحثه الطيبي. وفي حديث أبي حميد في الباب بعده" على محمد وأزواجه وذريته" ولم يذكر الآل في الصحيح، ووقعت في رواية ابن ماجه وعند أبي داود من حديث أبي هريرة "اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته" وأخرجه النسائي من الوجه الذي أخرجه منه أبو داود ولكن وقع في السند اختلاف بين موسى بن إسماعيل شيخ أبو داود فيه وبين عمرو بن عاصم شيخ شيخ النسائي فيه فروياه معا عن حبان بن يسار وهو بكسر المهملة وتشديد الموحدة وأبوه بمثناة ومهملة خفيفة فوقع في رواية موسى عنه عن عبيد الله بن طلحة عن محمد بن علي عن نعيم المجمر عن أبي هريرة. وفي رواية عمرو بن عاصم عنه عن عبد الرحمن بن طلحة عن محمد بن علي عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي بن أبي طالب، ورواية موسى أرجح، ويحتمل أن يكون لحبان فيه سندان. ووقع في حديث أبي مسعود وحده في آخره: "في العالمين إنك حميد مجيد" ومثله في رواية داود بن قيس عن نعيم المجمر عن أبي هريرة عند السراج، قال النووي في "شرح المهذب": ينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول: "اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك" مثله وزاد في آخره: "في العالمين" وقال في "الأذكار" مثله وزاد عبدك ورسولك بعد قوله محمد في محل ولم يزدها في بارك. وقال في "التحقيق" و "الفتاوى" مثله إلا أنه أسقط النبي الأمي في وبارك، وفاته أشياء لعلها توازي قدر ما زاده أو تزيد عليه، منها قوله: "أمهات المؤمنين" بعد قوله أزواجه ومنها "وأهل بيت" بعد قوله وذريته، وقد وردت حديث ابن مسعود عند الدار قطني، ومنها "ورسولك" في وبارك، ومنها "في العالمين" في الأول، ومنها "إنك حميد مجيد" قبل وبارك، ومنها "اللهم" قبل وبارك فإنهما ثبتا معا في رواية للنسائي، ومنها "وترحم على محمد إلخ" وسيأتي البحث فيها بعد، ومنها في آخر التشهد "وعلينا معهم" وهي عند الترمذي من طريق أبي أسامة عن زائدة عن الأعمش عن الحكم نحو حديث الباب، قال في آخره: قال عبد الرحمن ونحن نقول، وعلينا معهم، وكذا أخرجها السراج من طريق زائدة، وتعقب ابن العربي هذه الزيادة قال: هذا شيء انفرد به زائدة فلا يعول عليه، فإن الناس اختلفوا في معنى الآل اختلافا كثيرا ومن جملته أنهم أمته فلا يبقى للتكرار فائدة، واختلفوا أيضا في جواز الصلاة على غير الأنبياء فلا نرى أن نشرك في هذه الخصوصية مع محمد وآله أحدا. وتعقبه شيخنا في "شرح الترمذي" بأن زائدة من الإثبات فانفراده لو انفرد لا يضر مع كونه لم ينفرد، فقد أخرجها إسماعيل القاضي كتاب فضل الصلاة من طريقين عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ويزيد استشهد به مسلم، وعند البيهقي في "الشعب" من حديث جابر نحو حديث الباب وفي آخره: "وعلينا معهم" وأما الإيراد الأول فإنه يختص بمن يرى أن معنى الآل كل الأمة، ومع ذلك فلا يمتنع

(11/157)


أن يعطف الخاص على العام ولا سيما في الدعاء، وأما الإيراد الثاني فلا نعلم من منع ذلك تبعا، وإنما الخلاف في الصلاة على غير الأنبياء استقلالا، وقد شرع الدعاء للآحاد بما دعاه به النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه في حديث: "اللهم إني أسالك من خير ما سألك منه محمد" وهو حديث صحيح أخرجه مسلم انتهى ملخصا. وحديث جابر ضعيف. ورواية يزيد أخرجها أحمد أيضا عن محمد بن فضيل عنه وزاد في آخره: قال يزيد فلا أدري أشيء زاده عبد الرحمن من قبل نفسه أو رواه عن كعب، وكذا أخرجه الطبري من رواية محمد ابن فضيل، ووردت هذه الزيادة من وجهين آخرين مرفوعين أحدهما عند الطبراني من طريق فطر بن خليفة عن الحكم بلفظ: يقولون اللهم صل على محمد إلى قوله وآل إبراهيم وصل علينا معهم، وبارك على محمد مثله، وفي آخره وبارك علينا معهم، ورواته موثقون لكنه فيما أحسب مدرج لما بينه زائدة عن الأعمش. ثانيهما عند الدار قطني من وجه آخر عن ابن مسعود مثله لكن قال اللهم بدل الواو في وصل وفي وبارك، وفيه عبد الوهاب بن مجاهد وهو ضعيف، وقد تعقب الإسنوي ما قاله النووي فقال: لم يستوعب ما ثبت في الأحاديث مع اختلاف كلامه. وقال الأذرعي: لم يسبق إلى ما قال. والذي يظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات ويقول كل ما ثبت هذا مرة وهذا مرة، وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة التشهد لم ترد مجموعة في حديث واحد انتهى. وكأنه أخذه من كلام ابن القيم فإنه قال: إن هذه الكيفية لم ترد مجموعة في طريق من الطرق، والأولى أن يستعمل كل لفظ ثبت على حدة فبذلك يحصل الإتيان بجميع ما ورد بخلاف ما إذا قال الجميع دفعة واحدة فإن الغالب على الظن أنه صلى الله عليه وسلم لم يقله كذلك. وقال الإسنوي أيضا: كان يلزم الشيخ أن يجمع الألفاظ الواردة في التشهد. وأجيب بأنه لا يلزم من كونه لم يصرح بذلك أن لا يلتزمه. وقال ابن القيم أيضا: قد نص الشافعي على أن الاختلاف في ألفاظ التشهد ونحوه كالاختلاف في القراءات، ولم يقل أحد من الأئمة باستحباب التلاوة بجميع الألفاظ المختلفة في الحرف الواحد من القرآن وإن كان بعضهم أجاز ذلك عند التعليم للتمرين انتهى. والذي يظهر أن اللفظ إن كان بمعنى اللفظ الآخر سواء كما في أزواجه وأمهات المؤمنين فالأولى الاقتصار في كل مرة على أحدهما وإن كان اللفظ يستقل بزيادة معنى ليس في اللفظ الآخر البتة، فالأولى الإتيان به، ويحتمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر كما تقدم، وإن كان يزيد على الآخر في المعنى شيئا ما فلا بأس بالإتيان به احتياطا. وقالت طائفة منهم الطبري: إن ذلك الاختلاف المباح، فأي لفظ ذكره المرء أجزأ، والأفضل أن يستعمل أكمله وأبلغه. واستدل على ذلك باختلاف النقل عن الصحابة فذكر ما نقل عن علي، وهو حديث موقوف طويل أخرجه سعيد بن منصور والطبري والطبراني وابن فارس وأوله "اللهم داحي المدحوات" إلى أن قال: "اجعل شرائف صلواتك وتوامي بركاتك ورأفة تحيتك على محمد عبدك ورسولك" الحديث. وعن ابن مسعود بلفظ: "اللهم اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيد المرسلين إمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك" الحديث أخرجه ابن ماجه والطبري، وادعى ابن القيم أن أكثر الأحاديث بل كلها مصرحة بذكر محمد وآل محمد وبذكر آل إبراهيم فقط أو بذكر إبراهيم فقط قال: ولم يجيء في حديث صحيح بلفظ إبراهيم وآل إبراهيم معا إنما أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن السباق عن رجل من بني الحارث عن ابن مسعود، ويحيى مجهول وشيخه مبهم فهو سند ضعيف، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر قوي لكنه موقوف على ابن مسعود، وأخرجه النسائي والدار قطني من حديث

(11/158)


طلحة. قلت: وغفل عما وقع في صحيح البخاري كما تقدم في أحاديث الأنبياء في ترجمة إبراهيم عليه السلام من طريق عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بلفظ: "كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وكذا في قوله: "كما باركت" وكذا وقع في حديث أبي مسعود البدري من رواية محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن محمد ابن عبد الله بن زيد عنه أخرجه الطبري، بل أخرجه الطبري أيضا في رواية الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه من طريق عمرو بن قيس عن الحكم بن عتيبة فذكره بلفظ: "على محمد وآل محمد إنك حميد مجيد" وبلفظ: "على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد" وأخرجه أيضا من طريق الأجلح عن الحكم مثله سواء. وأخرج أيضا من طريق حنظلة ابن علي عن أبي هريرة ما سأذكره، وأخرجه أبو العباس السراج من طريق داود بن قيس عن نعيم المجمر عن أبي هريرة "أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد" ومن حديث بريدة رفعه: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" وأصله عند أحمد، ووقع في حديث ابن مسعود المشار إليه زيادة أخرى وهي "وارحم محمدا وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم" الحديث، وأخرجه الحاكم في صحيحه من حديث ابن مسعود فاغتر بتصحيحه قوم فوهموا، فإنه من رواية يحيى بن السباق وهو مجهول، عن رجل مبهم. نعم أخرج ابن ماجه ذلك عن ابن مسعود من قوله: "قال قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد عبدك ورسولك" الحديث وبالغ ابن العربي في إنكار ذلك فقال: حذار مما ذكره ابن أبي زيد من زيادة "وترحم" فإنه قريب من البدعة لأنه صلى الله عليه وسلم علمهم كيفية الصلاة عليه بالوحي ففي الزيادة على ذلك استدراك عليه انتهى. وابن أبي زيد ذكر ذلك في صفة التشهد في "الرسالة" لما ذكر ما يستحب في التشهد ومنه "اللهم صل على محمد وآل محمد" فزاد: "وترحم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد إلخ" فإن كان إنكاره لكونه لم يصح فمسلم، وإلا فدعوى من ادعى أنه لا يقال ارحم محمدا مردودة لثبوت ذلك في عدة أحاديث أصحها في التشهد "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" ثم وجدت لابن أبي زيد مستندا، فأخرج الطبري في تهذيبه من طريق حنظلة بن علي عن أبي هريرة رفعه: "من قال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم شهدت له يوم القيامة وشفعت له" ورجال سنده رجال الصحيح إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاص الراوي له عن حنظلة بن علي فإنه مجهول. "تنبيه": هذا كله فيما يقال مضموما إلى السلام أو الصلاة، وقد وافق ابن العربي الصيدلاني من الشافعية على المنع. وقال أبو القاسم الأنصاري شارح "الإرشاد" يجوز ذلك مضافا إلى الصلاة ولا يجوز مفردا، ونقل عياض عن الجمهور الجواز مطلقا. وقال القرطبي في "المفهم" إنه الصحيح لورود الأحاديث به، وخالفه غيره: ففي "الذخيرة" من كتب الحنفية عن محمد يكره ذلك لإيهامه النقص لأن الرحمة غالبا إنما تكون عن فعل ما يلام عليه، وجزم ابن عبد البر بمنعه فقال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول رحمه الله لأنه قال من صلى علي، ولم يقل من ترحم علي ولا من دعا لي، وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خص هذا اللفظ تعظيما له فلا يعدل عنه إلى غيره، ويؤيده

(11/159)


قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} انتهى. وهو بحث حسن لكن في التعليل الأول نظر، والمعتمد الثاني، والله أعلم. قوله: "وعلى آل محمد" قيل أصل "آل" أهل قلبت الهاء همزة ثم سهلت ولهذا إذا صغر رد إلى الأصل فقالوا أهيل، وقيل بل أصله أول من آل إذا رجع، سمي بذلك من يئول إلى الشخص ويضاف إليه، ويقويه أنه لا يضاف إلا إلى معظم فيقال آل القاضي ولا يقال آل الحجام بخلاف أهل، ولا يضاف آل أيضا غالبا إلى غير العاقل ولا إلى المضمر عند الأكثر، وجوره بعضهم بقلة، وقد ثبت في شعر عبد المطلب في قوله في قصة أصحاب الفيل من أبيات "وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك". وقد يطلق آل فلان على نفسه وعليه وعلى من يضاف إليه جميعا وضابطه أنه إذا قيل فعل آل فلان كذا دخل هو فيهم إلا بقرينة، ومن شواهده قوله صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي، إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة، وإن ذكرا معا فلا، وهو كالفقير والمسكين، وكذا الإيمان والإسلام والفسوق والعصيان، ولما اختلفت ألفاظ الحديث في الإتيان بهما معا وفي إفراد أحدهما كان أولى المحامل أن يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك كله، ويكون بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأما التعدد فبعيد لأن غالب الطرق تصرح بأنه وقع جوابا عن قولهم "كيف نصلي عليك" ويحتمل أن يكون بعض من اقتصر على آل إبراهيم بدون ذكر إبراهيم رواه بالمعنى بناء على دخول إبراهيم في قوله آل إبراهيم كما تقدم. واختلف في المراد بآل محمد في هذا الحديث، فالراجح أنهم من حرمت عليهم الصدقة، وقد تقدم بيان الاختلاف في ذلك واضحا في كتاب الزكاة، وهذا نص عليه الشافعي واختاره الجمهور، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة" وقد تقدم في البيوع من حديث أبي هريرة، ولمسلم من حديث عبد المطلب بن ربيعة في أثناء حديث مرفوع "إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" وقال أحمد: المراد بآل محمد في حديث التشهد أهل بيته، وعلى هذا فهل يجوز أن يقال أهل عوض آل؟ روايتان عندهم. وقيل المراد بآل محمد أزواجه وذريته لأن أكثر طرق هذا الحديث جاء بلفظ: "وآل محمد" وجاء في حديث أبي حميد موضعه "وأزواجه وذريته" فدل على أن المراد بالآل الأزواج والذرية، وتعقب بأنه ثبت الجمع بين الثلاثة كما في حديث أبي هريرة، فيحمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ غيره فالمراد بالآل في التشهد الأزواج ومن حرمت عليهم الصدقة ويدخل فيهم الذرية، فبذلك يجمع بين الأحاديث. وقد أطلق على أزواجه صلى الله عليه وسلم آل محمد في حديث عائشة "ما شبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثا" وقد تقدم ويأتي في الرقاق، وفيه أيضا من حديث أبي هريرة "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وكأن الأزواج أفردوا بالذكر تنويها بهم وكذا الذرية، وقيل المراد بالآل ذرية فاطمة خاصة حكاه النووي في "شرح المهذب". وقيل هم جميع قريش حكاه ابن الرفعة في "الكفاية". وقيل المراد بالآل جميع الأمة أمة الإجابة. وقال ابن العربي: مال إلى ذلك مالك واختاره الأزهري وحكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الشافعية ورجحه النووي في شرح مسلم، وقيده القاضي حسين والراغب بالأتقياء منهم، وعليه يحمل كلام من أطلق، ويؤيده قوله تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أوليائي منكم المتقون" وفي "نوادر أبي العيناء" إنه غض من بعض الهاشميين فقال له أتغض مني وأنت تصلي علي في كل صلاة في قولك اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، فقال: إني أريد الطيبين الطاهرين ولست منهم. ويمكن أن يحمل كلام من أطلق على أن المراد بالصلاة الرحمة المطلقة فلا تحتاج إلى تقييد، وقد

(11/160)


استدل لهم بحديث أنس رفعه: "آل محمد كل تقي" أخرجه الطبراني ولكن سنده واه جدا.وأخرج البيهقي عن جابر نحوه من قوله بسند ضعيف. قوله: "كما صليت على آل إبراهيم" اشتهر السؤال عن موقع التشبيه مع أن المقرر أن المشبه دون المشبه به، والواقع هنا عكسه لأن محمدا صلى الله عليه وسلم وحده أفضل من آل إبراهيم ومن إبراهيم ولا سيما قد أضيف إليه آل محمد، وقضية كونه أفضل أن تكون الصلاة المطلوبة أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل لغيره، وأجيب عن ذلك بأجوبة: الأول أنه قال ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم، وقد أخرج مسلم من حديث أنس "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية، قال: ذاك إبراهيم" أشار إليه ابن العربي وأيده بأنه سأل لنفسه التسوية مع إبراهيم وأمر أمته أن يسألوا له ذلك فزاده الله تعالى بغير سؤال أن فضله على إبراهيم. وتعقب بأنه لو كان كذلك لغير صفة الصلاة عليه بعد أن علم أنه أفضل. الثاني أنه قال ذلك تواضعا وشرع ذلك لأمته ليكتسبوا بذلك الفضيلة. الثالث أن التشبيه إنما هو لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا للقدر بالقدر فهو كقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهو كقول القائل أحسن إلى ولدك كما أحسنت إلى فلان ويريد بذلك أصل الإحسان لا قدره، ومنه قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ورجح هذا الجواب القرطبي في "المفهم". الرابع أن الكاف للتعليل كما في قوله: "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم" وفي قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} . وقال بعضهم: الكاف على بابها من التشبيه ثم عدل عنه للإعلام بخصوصية المطلوب. الخامس أن المراد أن يجعله خليلا كما جعل إبراهيم، وأن يجعل له لسان صدق كما جعل لإبراهيم مضافا إلى ما حصل له من المحبة، ويرد عليه ما ورد على الأول، وقربه بعضهم بأنه مثل رجلين يملك أحدهما ألفا ويملك الآخر ألفين فسأل صاحب الألفين أن يعطي ألفا أخرى نظير الذي أعطيها الأول فيصير المجموع للثاني أضعاف ما للأول. السادس أن قوله: "اللهم صل على محمد" مقطوع عن التشبيه فسيكون التشبيه متعلقا بقوله: "وعلى آل محمد" وتعقب بأن غير الأنبياء لا يمكن أن يساووا الأنبياء فكيف تطلب لهم صلاة مثل الصلاة التي وقعت لإبراهيم والأنبياء من آله؟ ويمكن الجواب عن ذلك بأن المطلوب الثواب الحاصل لهم لا جميع الصفات التي كانت سببا للثواب، وقد نقل العمراني في "البيان" عن الشيخ أبي حامد أنه نقل هذا الجواب عن نص الشافعي، واستبعد ابن القيم صحة ذلك عن الشافعي لأنه مع فصاحته ومعرفته بلسان العرب لا يقول هذا الكلام الذي يستلزم هذا التركيب الركيك المعيب من كلام العرب، كذا قال، وليس التركيب المذكور بركيك بل التقدير اللهم صل على محمد وصل على آل محمد كما صليت إلى آخره فلا يمتنع تعلق التشبيه بالجملة الثانية. السابع أن التشبيه إنما هو للمجموع بالمجموع فإن في الأنبياء من آل إبراهيم كثرة، فإذا قوبلت تلك الذوات الكثيرة من إبراهيم وآل إبراهيم بالصفات الكثيرة التي لمحمد أمكن انتفاء التفاضل. قلت: ويعكر على هذا الجواب أنه وقع في حديث أبي سعيد ثاني حديثي الباب مقابلة الاسم فقط بالاسم فقط ولفظه: "اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم". الثامن أن التشبيه بالنظر إلى ما يحصل لمحمد وآل محمد من صلاة كل فرد فرد، فيحصل من مجموع صلاة المصلين من أول التعليم إلى آخر الزمان أضعاف ما كان لآل إبراهيم، وعبر ابن العربي عن هذا بقوله: المراد دوام ذلك واستمراره. التاسع أن التشبيه راجع إلى المصلي فيما يحصل له من الثواب لا بالنسبة إلى ما يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ضعيف لأنه يصير كأنه قال اللهم أعطني ثوابا على صلاتي على النبي صلى الله عليه وسلم

(11/161)


كما صليت على آل إبراهيم، ويمكن أن يجاب بأن المراد مثل ثواب المصلي على آل إبراهيم. العاشر دفع المقدمة المذكورة أولا وهي أن المشبه به يكون أرفع من المشبه، وأن ذلك ليس مطردا، بل قد يكون التشبيه بالمثل بل وبالدون كما في قوله تعالى {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى؟ ولكن لما كان المراد من المشبه به أن يكون شيئا ظاهرا واضحا للسامع حسن تشبيه النور بالمشكاة، وكذا هنا لما كان تعظيم إبراهيم وآل إبراهيم بالصلاة عليهم مشهورا واضحا عند جميع الطوائف حسن أن يطلب لمحمد وآل محمد بالصلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم وآل إبراهيم، ويؤيد ذلك ختم الطلب المذكور بقوله: "في العالمين" أي كما أظهرت الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، ولهذا لم يقع قوله في العالمين إلا في ذكر آل إبراهيم دون ذكر آل محمد على ما وقع في الحديث الذي ورد فيه وهو حديث أبي مسعود فيما أخرجه مالك ومسلم وغيرهما، وعبر الطيبي عن ذلك بقوله: ليس التشبيه المذكور من باب إلحاق الناقص بالكامل بل من باب إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر. وقال الحليمي: سبب هذا التشبيه أن الملائكة قالت في بيت إبراهيم "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد" وقد علم أن محمدا وآل محمد من أهل بيت إبراهيم فكأنه قال: أجب دعاء الملائكة الذين قالوا ذلك محمد وآل محمد كما أجبتها عندما قالوها في آل إبراهيم الموجودين حينئذ، ولذلك ختم بما ختمت به الآية وهو قوله: "إنك حميد مجيد". وقال النووي بعد أن ذكر بعض هذه الأجوبة: أحسنها ما نسب إلى الشافعي والتشبيه لأصل الصلاة بأصل الصلاة أو للمجموع بالمجموع. وقال ابن القيم بعد أن زيف أكثر الأجوبة إلا تشبيه المجموع بالمجموع: وأحسن منه أن يقال هو صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، وقد ثبت ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} قال: محمد من آل إبراهيم فكأنه أمرنا أن نصلي على محمد وعلى آل محمد خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عموما فيحصل لآله ما يليق بهم ويبقى الباقي كله له، وذلك القدر أزيد مما لغيره من آل إبراهيم قطعا، ويظهر حينئذ فائدة التشبيه، وأن المطلوب له بهذا اللفظ أفضل من المطلوب بغيره من الألفاظ. ووجدت في مصنف لشيخنا مجد الدين الشيرازي اللغوي جوابا آخر نقله عن بعض أهل الكشف حاصله أن التشبيه لغير اللفظ المشبه به لا لعينه، وذلك أن المراد بقولنا "اللهم صل على محمد" اجعل من أتباعه من يبلغ النهاية في أمر الدين كالعلماء بشرعه بتقريرهم أمر الشريعة "كما صليت على إبراهيم" بأن جعلت في أتباعه أنبياء يقررون الشريعة، والمراد بقوله: "وعلى آل محمد" اجعل من أتباعه ناسا محدثين بالفتح يخبرون بالمغيبات كما صليت على إبراهيم بأن جعلت فيهم أنبياء يخبرون بالمغيبات، والمطلوب حصول صفات الأنبياء لآل محمد وهم أتباعه في الدين كما كانت حاصلة بسؤال إبراهيم، وهذا محصل ما ذكره، وهو جيد إن سلم أن المراد بالصلاة هنا ما ادعاه، والله أعلم. وفي نحو هذه الدعوى جواب آخر: المراد اللهم استجب دعاء محمد في أمته كما استجبت دعاء إبراهيم في بنيه، ويعكر على هذا عطف الآل في الموضعين. قوله: "على آل إبراهيم" هم ذريته من إسماعيل وإسحاق كما جزم به جماعة من الشراح، وإن ثبت أن إبراهيم كان له أولاد من غير سارة وهاجر فهم داخلون لا محالة. ثم إن المراد المسلمون منهم بل المتقون، فيدخل فيهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون دون من عداهم، وفيه ما تقدم في آل محمد. قوله: "وبارك" المراد بالبركة هنا الزيادة من الخير والكرامة، وقيل المراد التطهير من العيوب والتزكية، وقيل المراد إثبات ذلك واستمراره من قولهم بركت الإبل أي ثبتت على

(11/162)


الأرض، وبه سميت بركة الماء بكسر أوله وسكون ثانية لإقامة الماء فيها. والحاصل أن المطلوب أن يعطوا من الخير أوفاه، وأن يثبت ذلك ويستمر دائما. والمراد بالعالمين فيما رواه أبو مسعود في حديثه أصناف الخلق، وفيه أقوال أخرى: قيل ما حواه بطن الفلك، وقيل كل محدث، وقيل ما فيه روح، وقيل بقيد العقلاء، وقيل الإنس والجن فقط. قوله: "إنك حميد مجيد" أما الحميد فهو فعيل من الحمد بمعنى محمود، وأبلغ منه وهو من حصل له من صفات الحمد أكملها، وقيل هو بمعنى الحامد أي يحمد أفعال عباده. وأما المجيد فهو من المجد وهو صفة من كمل في الشرف، وهو مستلزم للعظمة والجلال كما أن الحمد يدل على صفة الإكرام، ومناسبة ختم هذا الدعاء بهذين الاسمين العظيمين أن المطلوب تكريم الله لنبيه وثناؤه عليه والتنويه به وزيادة تقريبه، وذلك مما يستلزم طلب الحمد والمجد ففي ذلك إشارة إلى أنهما كالتعليل للمطلوب، أو هو كالتذييل له، والمعنى إنك فاعل ما تستوجب به الحمد من النعم المترادفة، كريم بكثرة الإحسان إلى جميع عبادك. واستدل بهذا الحديث على إيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل صلاة لما وقع في هذا الحديث من الزيادة في بعض الطرق عن أبي مسعود، وهو ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن محمد ابن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد عنه بلفظ: "فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا" وقد أشرت إلى شيء من ذلك في تفسير سورة الأحزاب. وقال الدار قطني: إسناده حسن متصل. وقال البيهقي: إسناده حسن صحيح. وتعقبه ابن التركماني بأنه قال في "باب تحريم قتل ماله روح" بعد ذكر حديث فيه ابن إسحاق: الحفاظ يتوقون ما ينفرد به. قلت: وهو اعتراض متجه لأن هذه الزيادة تفرد بها ابن إسحاق، لكن ما ينفرد به وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث وهو هنا كذلك، وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحا وهذه طريقة ابن حبان ومن ذكر معه، وقد احتج بهذه الزيادة جماعة من الشافعية كابن خزيمة والبيهقي لإيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد بعد التشهد وقبل السلام، وتعقب بأنه لا دلالة فيه على ذلك، بل إنما يفيد إيجاب الإتيان بهذه الألفاظ على من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، وعلى تقدير أن يدل على إيجاب أصل الصلاة فلا يدل على هذا المحل المخصوص، ولكن قرب البيهقي ذلك بما تقدم أن الآية لما نزلت وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد علمهم كيفية السلام عليه في التشهد والتشهد داخل الصلاة فسألوا عن كيفية الصلاة فعلمهم، فدل على أن المراد بذلك إيقاع الصلاة عليه في التشهد بعد الفراغ من التشهد الذي تقدم تعليمه لهم، وأما احتمال أن يكون ذلك خارج الصلاة فهو بعيد كما قال عياض وغيره. وقال ابن دقيق العيد: ليس فيه تنصيص على أن الأمر به مخصوص بالصلاة، وقد كثر الاستدلال به على وجوب الصلاة، وقرر بعضهم الاستدلال بأن الصلاة عليه واجبة بالإجماع وليست الصلاة عليه خارج الصلاة واجبة بالإجماع فتعين أن تجب في الصلاة، قال: وهذا ضعيف، لأن قوله لا تجب في غير الصلاة بالإجماع إن أراد به عينا فهو صحيح لكن لا يفيد المطلوب لأنه يفيد أن تجب في أحد الموضعين لا بعينه، وزعم القرافي في "الذخيرة" أن الشافعي هو المستدل بذلك، ورده بنحو ما رد به ابن دقيق العيد، ولم يصب في نسبة ذلك للشافعي، والذي قاله الشافعي في "الأم": فرض الله الصلاة على رسوله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فلم يكن فرض الصلاة عليه في موضع أولى منه في الصلاة، ووجدنا الدلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك: أخبرنا إبراهيم بن محمد حدثني صفوان بن سليم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن

(11/163)


عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله كيف نصلي عليك -يعني في الصلاة- قال: تقولون اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم" الحديث، أخبرنا إبراهيم بن محمد حدثني سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "كان يقول في الصلاة: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم" الحديث، قال الشافعي: فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم التشهد في الصلاة، وروي عنه أنه علمهم كيف يصلون عليه في الصلاة، لم يجز أن نقول التشهد في الصلاة واجب والصلاة عليه فيه غير واجبة. وقد تعقب بعض المخالفين هذا الاستدلال من أوجه: أحدها ضعف إبراهيم بن أبي يحيى والكلام فيه مشهور، الثاني على تقدير صحته فقوله في الأول "يعني في الصلاة" لم يصرح بالقائل "يعني" الثالث قوله في الثاني "إنه كان يقول في الصلاة" وإن كان ظاهره أن الصلاة المكتوبة لكنه يحتمل أن يكون المراد بقوله في الصلاة أي في صفة الصلاة عليه، وهو احتمال قوي، لأن أكثر الطرق عن كعب بن عجرة كما قدم تدل على أن السؤال وقع عن صفة الصلاة لا عن محلها، الرابع ليس في الحديث ما يدل على تعين ذلك في التشهد خصوصا بينه وبين السلام من الصلاة، وقد أطنب قوم في نسبة الشافعي في ذلك إلى الشذوذ، منهم أبو جعفر الطبري وأبو جعفر الطحاوي وأبو بكر بن المنذر والخطابي، وأورد عياض في "الشفاء" مقالاتهم وعاب عليه ذلك غير واحد لأن موضوع كتابه يقتضي تصويب ما ذهب إليه الشافعي لأنه من جملة تعظيم المصطفى، وقد استحسن هو القول بطهارة فضلاته مع أن الأكثر على خلافه لكنه استجاده لما فيه من الزيادة في تعظيمه، وانتصر جماعة للشافعي فذكروا أدلة نقلية ونظرية، ودفعوا دعوى الشذوذ فنقلوا القول بالوجوب عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأصح ما ورد في ذلك عن الصحابة والتابعين ما أخرجه الحاكم بسند قوي عن ابن مسعود قال: "يتشهد الرجل ثم يصلي على النبي ثم يدعو لنفسه" وهذا أقوى شيء يحتج به للشافعي، فإن ابن مسعود ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد في الصلاة وأنه قال: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء" فلما ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصلاة عليه قبل الدعاء دل على أنه اطلع على زيادة ذلك بين التشهد والدعاء، واندفعت حجة من تمسك بحديث ابن مسعود في دفع ما ذهب إليه الشافعي مثل ما ذكر عياض قال: وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه له النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ذكر الصلاة عليه، وكذا قول الخطابي أن في آخر حديث ابن مسعود "إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك" لكن رد عليه بأن هذه الزيادة مدرجة، وعلى تقدير ثبوتها فتحمل على أن مشروعية الصلاة عليه وردت بعد تعليم التشهد، ويتقوى ذلك بما أخرجه الترمذي عن عمر موقوفا "الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم" قال ابن العربي: ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي فيكون له حكم الرفع انتهى. وورد له شاهد مرفوع في "جزء الحسن بن عرفة" وأخرج العمري في "عمل يوم وليلة" عن ابن عمر بسند جيد قال: "لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة علي" فخرج البيهقي في "الخلافيات" بسند قوي عن الشعبي وهو من كبار التابعين قال: "من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد فليعد صلاته" وأخرج الطبري بسند صحيح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين قال: "كنا نعلم التشهد فإذا قال وأشهد أن محمدا عبده ورسوله يحمد ربه ويثنى عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل حاجته" وأما فقهاء الأمصار فلم يتفقوا على مخالفة الشافعي في ذلك بل جاء عن أحمد روايتان، وعن إسحاق الجزم به في العمد فقال: إذا تركها يعيد والخلاف أيضا عند المالكية ذكرها ابن الحاجب في سنن الصلاة ثم قال: على الصحيح، فقال شارحه ابن

(11/164)


عبد السلام: يريد أن في وجوبها قولين، وهو ظاهر كلام ابن المواز منهم. وأما الحنفية فألزم بعض شيوخنا من قال بوجوب الصلاة عليه كما ذكر كالطحاوي ونقله السروجي في "شرح الهداية" عن أصحاب "المحيط" و "العقد" و "التحفة" و "المغيث" من كتبهم أن يقولوا بوجوبها في التشهد لتقدم ذكره في آخر التشهد، لكن لهم أن يلتزموا ذلك لكن لا يجعلونه شرطا في صحة الصلاة. وروى الطحاوي أن حرملة انفرد عن الشافعي بإيجاب ذلك بعد التشهد وقبل سلام التحلل قال: لكن أصحابه قبلوا ذلك وانتصروا له وناظروا عليه انتهى. واستدل له ابن خزيمة ومن تبعه بما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وكذا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، من حديث فضالة بن عبيد قال: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي فقال: عجل هذا، ثم دعاه فقال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء" وهذا مما يدل على أن قول ابن مسعود المذكور قريبا مرفوع فإنه بلفظه، وقد طعن ابن عبد البر في الاستدلال بحديث فضالة للوجوب فقال: لو كان كذلك لأمر المصلي بالإعادة كما أمر المسيء بإعادة صلاته، وكذا أشار إليه ابن حزم. وأجيب باحتمال أن يكون الوجوب وقع عند فراغه. ويكفي التمسك بالأمر في دعوى الوجوب. وقال جماعة منهم الجرجاني من الحنفية: لو كانت فرضا للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأنه علمهم التشهد وقال: "فيتخير من الدعاء ما شاء" ولم يذكر الصلاة عليه. وأجيب باحتمال أن لا تكون فرضت حينئذ. وقال شيخنا في "شرح الترمذي": قد ورد هذا في الصحيح بلفظ: "ثم ليتخير" و "ثم" للتراخي فدل على أنه كان هناك شيء بين التشهد والدعاء. واستدل بعضهم بما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رفعه: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع" . الحديث وعلى هذا عول ابن جزم في إيجاب هذه الاستعاذة في التشهد وفي كون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مستحبة عقب التشهد لا واجبة، وفيه ما فيه، والله أعلم. وقد انتصر ابن القيم للشافعي فقال: أجمعوا على مشروعية الصلاة عليه في التشهد، وإنما اختلفوا في الوجوب والاستحباب، وفي تمسك من لم يوجبه بعمل السلف الصالح نظر لأن عملهم كان بوفاقه، إلا إن كان يريد بالعمل الاعتقاد فيحتاج إلى نقل صريح عنهم بأن ذلك ليس بواجب وأنى يوجد ذلك؟ قال: وأما قول عياض أن الناس شنعوا على الشافعي فلا معنى له، فأي شناعة في ذلك لأنه لم يخالف نصا ولا إجماعا ولا قياسا ولا مصلحة راجحة؟ بل القول بذلك من محاسن مذهبه. وأما نقله للإجماع فقد تقدم رده، وأما دعواه أن الشافعي اختار تشهد ابن مسعود فيدل على عدم معرفة باختيارات الشافعي فإنه إنما اختار تشهد ابن عباس وأما ما احتج به جماعة من الشافعية من الأحاديث المرفوعة الصريحة في ذلك فإنها ضعيفة كحديث سهل بن سعد وعائشة وأبي مسعود وبريدة وغيرهم، وقد استوعبها البيهقي في "الخلافيات" ولا بأس بذكرها للتقوية لا أنها تنهض بالحجة. قلت: ولم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلا ما نقل عن إبراهيم النخعي، ومع ذلك فلفظ المنقول عنه كما تقدم يشعر بأن غيره كان قائلا بالوجوب فإنه عبر بالأجزاء. قوله في ثاني حديثي الباب "ابن أبي حازم والدراوردي" اسم كل منهما عبد العزيز، وابن أبي حازم ممن يحتج به البخاري، والدراوردي إنما يخرج له في المتابعات أو مقرونا بآخر، ويزيد شيخهما هو ابن عبد الله بن الهاد، وعبد الله بن خباب بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة. قوله: "هذا السلام عليك" أي عرفناه كما وقع تقريره في الحديث الأول وتقدمت بقية فوائده في الذي قبله، واستدل بهذا الحديث على تعين هذا اللفظ الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم

(11/165)


لأصحابه في امتثال الأمر سواء قلنا بالوجوب مطلقا أو مقيدا بالصلاة، وأما تعينه في الصلاة فعن أحمد في رواية، والأصح عند أتباعه لا تجب، واختلف في الأفضل: فعن أحمد أكمل ما ورد، وعنه يتخير، وأما الشافعية فقالوا يكفي أن يقول: "اللهم صل على محمد" واختلفوا هل يكفي الإتيان بما يدل على ذلك كأن يقوله بلفظ الخبر فيقول: صل الله على محمد مثلا، والأصح إجزاؤه. وذلك أن الدعاء بلفظ الخبر آكد فيكون جائزا بطريق الأولى. ومن منع وقف عند التعبد. وهو الذي رجحه ابن العربي. بل كلامه يدل على أن الثواب الوارد لمن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم إنما يحصل لمن صلى عليه بالكيفية المذكورة. واتفق أصحابنا على أنه لا يجزئ أن يقتصر على الخبر كأن يقول الصلاة على محمد، إذ ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى، واختلفوا في تعين لفظ محمد، لكن جوزوا الاكتفاء بالوصف دون الاسم كالنبي ورسول الله لأن لفظ محمد وقع التعبد به فلا يجزئ عنه إلا ما كان أعلى منه، ولهذا قالوا لا يجزئ الإتيان بالضمير ولا بأحمد مثلا في الأصح فيهما مع تقدم ذكره في التشهد بقوله النبي وبقوله محمد، وذهب الجمهور إلى الاجتزاء بكل لفظ أدى المراد بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم حتى قال بعضهم: ولو قال في أثناء التشهد الصلاة والسلام عليك أيها النبي أجزأ، وكذا لو قال أشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، بخلاف ما إذا قدم عبده ورسوله، وهذا ينبغي أن ينبني على أن ترتيب ألفاظ التشهد لا يشترط وهو الأصح، ولكن دليل مقابله قوي لقولهم "كما يعلمنا السورة" وقول ابن مسعود "عدهن في يدي" ورأيت لبعض المتأخرين فيه تصنيفا، وعمدة الجمهور في الاكتفاء بما ذكر أن الوجوب ثبت بنص القرآن بقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فلما سأل الصحابة عن الكيفية وعلمها لهم النبي صلى الله عليه وسلم واختلف النقل لتلك الألفاظ اقتصر على ما اتفقت عليه الروايات وترك ما زاد على ذلك كما في التشهد، إذ لو كان المتروك واجبا لما سكت عنه انتهى. وقد استشكل ذلك ابن الفركاح في "الإقليد" فقال: جعلهم هذا هو الأقل يحتاج إلى دليل على الاكتفاء بمسمى الصلاة، فإن الأحاديث الصحيحة ليس فيها الاقتصار، والأحاديث التي فيها الأمر بمطلق الصلاة ليس فيها ما يشير إلى ما يجب من ذلك في الصلاة، وأقل ما وقع في الروايات "اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم" ومن ثم حكى الفوراني عن صاحب الفروع في إيجاب ذكر إبراهيم وجهين، واحتج لمن لم يوجبه بأنه ورد بدون ذكره في حديث زيد بن خارجة عند النسائي بسند قوي ولفظه: "صلوا علي وقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" وفيه نظر لأنه من اختصار بعض الرواة فإن النسائي أخرجه من هذا الوجه بتمامه، وكذا الطحاوي واختلف في إيجاب الصلاة على الآل ففي تعينها أيضا عند الشافعية والحنابلة روايتان، والمشهور عندهم لا، وهو قول الجمهور وادعى كثير منهم فيه الإجماع وأكثر من أثبت الوجوب من الشافعية نسبوه إلى الترنجي، ونقل البيهقي في "الشعب" عن أبي إسحاق المروزي وهو من كبار الشافعية قال: أنا أعتقد وجوبها، قال البيهقي: وفي الأحاديث الثابتة دلالة على صحة ما قال. قلت: وفي كلام الطحاوي في مشكلة ما يدل على أن حرملة نقله عن الشافعي واستدل به على مشروعية الصلاة على النبي وآله في التشهد الأول والمصحح عند الشافعية استحباب الصلاة عليه فقط لأنه مبني على التخفيف وأما الأول فبناه الأصحاب على حكم ذلك في التشهد الأخير إن قلنا بالوجوب. قلت: واستدل بتعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكيفية بعد سؤالهم عنها بأنها أفضل كيفيات الصلاة عليه، لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل؛ ويترتب على ذلك لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلاة فطريق البر أن يأتي بذلك هكذا صوبه النووي في "الروضة" بعد

(11/166)


ذكر حكاية الرافعي عن إبراهيم المروزي أنه قال: يبر إذا قال: كلما ذكره الذاكرون، وكلما سها عن ذكره الغافلون. قال النووي وكأنه أخذ ذلك من كون الشافعي ذكر هذه الكيفية. قلت: وهي في خطبة الرسالة، لكن بلفظ غفل بدل سها. وقال الأذرعي: إبراهيم المذكور كثير النقل من تعليقة القاضي حسين، ومع ذلك فالقاضي قال: في طريق البر يقول اللهم صل على محمد كما هو أهله ومستحقه، وكذا نقله البغوي في تعليقه. قلت: ولو جمع بينها فقال ما في الحديث وأضاف إليه أثر الشافعي وما قاله القاضي لكان أشمل، ويحتمل أن يقال: يعمد إلى جميع ما اشتملت عليه الروايات الثابتة فيستعمل منها ذكرا يحصل به البر، وذكر شيخنا مجد الدين الشيرازي في جزء له في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض العلماء أنه قال: أفضل الكيفيات أن يقول: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وأزواجه وذريته وسلم عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك. وعن آخر نحوه لكن قال: عدد الشفع والوتر وعدد كلماتك التامة. ولم يسم قائلها. والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا فليقل اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم" الحديث والله أعلم. "تنبيه": إن كان مستند المروزي ما قاله الشافعي فظاهر كلام الشافعي أن الضمير لله تعالى، فإن لفظه: "وصلى الله على نبيه كلما ذكره الذاكرون" فكان حق من غير عبارته أن يقول: اللهم صل على محمد كلما ذكرك الذاكرون إلخ، واستدل به على جواز الصلاة على غير الأنبياء، وسيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده، واستدل به على أن الواو لا تقتضي الترتيب لأن صيغة الأمر وردت بالصلاة والتسليم بالواو في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} وقدم تعليم السلام قبل الصلاة كما قالوا "علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك" واستدل به على رد قول النخعي: يجزئ في امتثال الأمر بالصلاة قوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته في التشهد، لأنه لو كان كما قال لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى ذلك ولما عدل إلى تعليمهم كيفية أخرى، واستدل به على أن إفراد الصلاة عن التسليم لا يكره وكذا العكس، لأن تعليم التسليم تقدم قبل تعليم الصلاة كما تقدم فأفرد التسليم مدة في التشهد قبل الصلاة عليه، وقد صرح النووي بالكراهة، واستدل بورود الأمر بهما معا في الآية، وفيه نظر. نعم يكره أن يفرد الصلاة ولا يسلم أصلا أما لو صلى في وقت وسلم في وقت آخر فإنه يكون ممتثلا، واستدل به على فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جهة ورود الأمر بها واعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيتها، وقد ورد في التصريح بفضلها أحاديث قوية لم يخرج البخاري منها شيئا، منها ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا" وله شاهد عن أنس عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان، وعن أبي بردة بن نيار وأبي طلحة كلاهما عند النسائي ورواتهما ثقات، ولفظ أبي بردة ولفظ أبي طلحة عنده نحوه وصححه ابن حبان "من صلى علي من أمتي صلاة مخلصا من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات ورفعه بها عشر درجات وكتب له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات" ، ومنها حديث ابن مسعود رفعه: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم على صلاة" وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ: "صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة" ولا بأس بسنده، وورد الأمر بإكثار الصلاة عليه يوم الجمعة من حديث أوس بن أوس وهو عند أحمد وأبي داود وصححه ابن حبان والحاكم، ومنها حديث: "البخيل

(11/167)


من ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وإسماعيل القاضي وأطنب في تخريج طرقه وبيان الاختلاف فيه من حديث على ومن حديث ابنه الحسين ولا يقصر عن درجة الحسن، ومنها حديث: "من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة" أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي هريرة وابن أبي حاتم من حديث جابر والطبراني من حديث حسين بن علي، وهذه الطرق يشد بعضها بعضا وحديث: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: "من ذكرت عنده ولم يصل على فمات فدخل النار فأبعده الله" وله شاهد عنده، وصححه الحاكم، وله شاهد من حديث أبي ذر في الطبراني وآخر عن أنس عند ابن أبي شيبة وآخر مرسل عن الحسن عند سعيد بن منصور، وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة ومن حديث مالك بن الحويرث ومن حديث عبد الله بن عباس عند الطبراني ومن حديث عبد الله بن جعفر عند الفريابي وعند الحاكم من حديث كعب بن عجرة بلفظ: "بعد من ذكرت عنده فلم يصل علي" وعند الطبراني من حديث جابر رفعه: "شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل علي" وعند عبد الرزاق من مرسل قتادة "من الجفاء أن أذكر عند رجل فلا يصلي علي" ومنها حديث أبي بن كعب "أن رجلا قال يا رسول الله إني أكثر الصلاة فما أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت. قال الثلث؟ قال ما شئت، وإن زدت فهو خير" إلى أن قال: "أجعل لك كل صلاتي؟ قال: إذا تكفى همك" الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند حسن، فهذا الجيد من الأحاديث الواردة في ذلك، وفي الباب أحاديث كثيرة ضعيفة وواهية، وأما ما وضعه القصاص في ذلك فلا يحصى كثرة وفي الأحاديث القوية غنية عن ذلك. قال الحليمي: المقصود بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التقرب إلى الله بامتثال أمره وقضاء حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا. وتبعه ابن عبد السلام فقال: ليست صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه. وقال ابن العربي: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يصلي عليه لدلالة ذلك على نصوع العقيدة وخلوص النية وإظهار المحبة والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة صلى الله عليه وسلم، وقد تمسك الأحاديث المذكورة من أوجب الصلاة عليه كلما ذكر، لأن الدعاء بالرغم والإبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد والوعيد على الترك من علامات الوجوب، ومن حيث المعنى أن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه وإحسانه مستمر فيتأكد إذا ذكر وتمسكوا أيضا بقوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} فلو كان إذا ذكر لا يصلي عليه لكان كآحاد الناس. ويتأكد ذلك إذا كان المعنى بقوله: {دُعَاءَ الرَّسُولِ} الدعاء المتعلق بالرسول. وأجاب من لم يوجب ذلك بأجوبة: منها أنه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين فهو قول مخترع، ولو كان ذلك على عمومه للزم المؤذن إذا أذن وكذا سامعه وللزم القارئ إذا مر ذكره في القرآن وللزم الداخل في الإسلام إذا تلفظ بالشهادتين ولكان في ذلك من المشقة والحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه، ولكان الثناء على الله كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به. وقد أطلق القدوري وغيره من الحنفية أن القول بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله، لأنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليك، ولأنه لو كان كذلك لم يتفرغ السامع لعبادة أخرى، وأجابوا عن الأحاديث بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك وطلبه وفي حق

(11/168)


من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنا. وفي الجملة لا دلالة على وجوب تكرر ذلك بتكرر ذكره صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد واحتج الطبري لعدم الوجوب أصلا مع ورود صيغة الأمر بذلك بالاتفاق من جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن ذلك غير لازم فرضا حتى يكون تاركه عاصيا، قال: فدل ذلك على أن الأمر فيه للندب ويحصل الامتثال لمن قاله ولو كان خارج الصلاة. وما ادعاه من الإجماع معارض بدعوى غيره الإجماع على مشروعية ذلك في الصلاة إما بطريق الوجوب وإما بطريق الندب، ولا يعرف عن السلف لذلك مخالف إلا ما أخرجه ابن أبي شيبة والطبري عن إبراهيم أنه كان يرى أن قول المصلي في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته يجزئ عن الصلاة، ومع ذلك لم يخالف في أصل المشروعية وإنما ادعى إجزاء السلام عن الصلاة، والله أعلم. ومن المواطن التي اختلف في وجوب الصلاة عليه فيها التشهد الأول وخطبة الجمعة وغيرها من الخطب وصلاة الجنازة، ومما يتأكد ووردت فيه أخبار خاصة أكثرها بأسانيد جيدة عقب إجابة المؤذن وأول الدعاء وأوسطه وآخره وفي أوله آكد وفي آخر القنوت وفي أثناء تكبيرات العيد وعند دخول المسجد والخروج منه وعند الاجتماع والتفرق وعند السفر والقدوم وعند القيام لصلاة الليل وعند ختم القرآن وعند الهم والكرب وعند التوبة من الذنب وعند قراءة الحديث تبليغ العلم والذكر وعند نسيان الشيء، وورد ذلك أيضا في أحاديث ضعيفة وعند استلام الحجر وعند طنين الأذن وعند التلبية وعقب الوضوء وعند الذبح والعطاس، وورد المنع منها عندهما أيضا، وورد الأمر بالإكثار منها يوم الجمعة في حديث صحيح كما تقدم.

(11/169)


باب هل يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)
...
33 - باب هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}
6359- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ "عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ كَانَ إِذَا أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَتِهِ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى"
6360- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ "أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"
قوله: "باب هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم" أي استقلالا أو تبعا، ويدخل في الغير الأنبياء والملائكة والمؤمنون، فأما مسألة الأنبياء فورد فيها أحاديث حديث علي في الدعاء بحفظ القرآن ففيه: "وصل علي وعلى سائر النبيين" أخرجه الترمذي والحاكم، وحديث بريدة رفعه: "لا تتركن في التشهد الصلاة علي وعلى أنبياء الله" الحديث أخرجه البيهقي بسند واه، وحديث أبي هريرة رفعه: "صلوا على أنبياء الله " الحديث أخرجه إسماعيل القاضي بسند ضعيف، وحديث ابن عباس رفعه: "إذا صليتم علي فصلوا على أنبياء الله، فإن الله بعثهم كما بعثني" أخرجه الطبراني ورويناه في "فوائد العيسوي" وسنده ضعيف أيضا، وقد ثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه قال: "ما أعلم الصلاة

(11/169)


تنبغي على أحد من أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم" وهذا سند صحيح، وحكي القول به عن مالك وقال: ما تعبدنا به وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره. وقال عياض: عامة أهل العلم على الجواز. وقال سفيان يكره أن يصلي إلا على نبي، ووجدت بخط بعض شيوخي مذهب مالك لا يجوز أن يصلي إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال أكره الصلاة على غير الأنبياء وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به. وخالفه يحيى بن يحيى فقال: لا بأس به، واحتج بأن الصلاة دعاء بالرحمة فلا يمنع إلا بنص أو إجماع، قال عياض: والذي أميل إليه قول مالك وسفيان وهو قول المحققين من المتكلمين والفقهاء قالوا: يذكر غير الأنبياء بالرضا والغفران والصلاة على غير الأنبياء يعني استقلالا لم تكن من الأمر المعروف وإنما أحدثت في دولة بني هاشم، وأما الملائكة فلا أعرف فيه حديثا نصا، وإنما يؤخذ ذلك من الذي قبله إن ثبت، لأن الله تعالى سماهم رسلا، وأما المؤمنون فاختلف فيه فقيل: لا تجوز إلا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وحكي عن مالك كما تقدم. وقالت طائفة لا تجوز مطلقا استقلالا وتجوز تبعا فيما ورد به النص أو ألحق به لقوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} ولأنه لما علمهم السلام قال: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" ولما علمهم الصلاة قصر ذلك عليه وعلى أهل بيته، وهذا القول اختاره القرطبي في "المفهم" وأبو المعالي من الحنابلة، وقد تقدم تقريره في تفسير سورة الأحزاب، هو اختيار ابن تيمية من المتأخرين. وقالت طائفة: تجوز تبعا مطلقا ولا تجوز استقلالا، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة. وقالت طائفة تكره استقلالا لا تبعا وهي رواية عن أحمد. وقال النووي: هو خلاف الأولى وقالت طائفة: تجوز مطلقا، وهو مقتضى صنيع البخاري فإنه صدر بالآية وهي قوله: "وصل عليهم" ثم علق الحديث الدال على الجواز مطلقا وعقبه بالحديث الدال على الجواز تبعا، فأما الأول وهو حديث عبد الله بن أبي أوفى فتقدم شرحه في كتاب الزكاة، ووقع مثله عن قيس بن سعد بن عبادة "أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وهو يقول: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة" أخرجه أبو داود والنسائي وسنده جيد، وفي حديث جابر "إن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم صل علي وعلى زوجي ففعل" أخرجه أحمد مطولا ومختصرا وصححه ابن حبان، وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد ونص عليه أحمد في رواية أبي داود وبه قال إسحاق وأبو ثور وداود والطبري، واحتجوا بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "إن الملائكة تقول لروح المؤمن صلى الله عليك وعلى جسدك" وأجاب المانعون عن ذلك كله بأن ذلك صدر من الله ورسوله ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا وليس ذلك لأحد غيرهما. وقال البيهقي: يحمل قول ابن عباس بالمنع إذا كان على وجه التعظيم لا ما إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة. وقال ابن القيم: المختار أن يصلي على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وآله وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجمال، وتكره في غير الأنبياء لشخص مفرد بحيث يصير شعارا ولا سيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة، فلو اتفق وقوع ذلك مفردا في بعض الأحايين من غير أن يتخذ شعارا لم يكن به بأس، ولهذا لم يرد في حق غير من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقول ذلك لهم وهم من أدى زكاته إلا نادرا كما في قصة زوجة جابر وآل سعد بن عبادة. "تنبيه": اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي فقيل: يشرع مطلقا، وقيل بل تبعا، ولا يفرد لواحد لكونه صار شعارا للرافضة، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني. قوله في ثاني حديثي الباب

(11/170)


"عبد الله بن أبي بكر عن أبيه" هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، مختلف في اسمه وقيل كنيته اسمه، وروايته عن عمرو بن سليم من الأقران، وولده من صغار التابعين، ففي السند ثلاثة من التابعين في نسق، والسند كله مدنيون. قوله: "وذريته" بضم المعجمة وحكى كسرها هي النسل، وقد يختص بالنساء والأطفال، وقد يطلق على الأصل، وهي من ذرأ بالهمز أي خلق، إلا أن الهمزة سهلت لكثرة الاستعمال، وقيل بل هي من الذر أي خلقوا أمثال الذر وعليه فليس مهموز الأصل، والله أعلم. واستدل به على أن المراد بآل محمد أزواجه وذريته كما تقدم البحث فيه في الكلام على آل محمد في الباب الذي قبله، واستدل به على أن الصلاة على الآل لا تجب لسقوطها في هذا الحديث، وهو ضعيف لأنه لا يخلو أن يكون المراد بالآل غير أزواجه وذريته أو أزواجه وذريته، وعلى تقدير كل منهما لا ينهض الاستدلال على عدم الوجوب، أما على الأول فلثبوت الأمر بذلك في غير هذا الحديث، وليس في هذا الحديث المنع منه بل أخرج عبد الرزاق من طريق ابن طاوس عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن رجل من الصحابة الحديث المذكور بلفظ: "صل على محمد وأهل بيته وأزواجه وذريته" وأما على الثاني فواضح، واستدل به البيهقي على أن الأزواج من أهل البيت وأيده بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}

(11/171)


34 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ آذَيْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً"
6361- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة" كذا ترجم بهذا اللفظ، وأورده بلفظ: "اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة" أورده من طريق يونس وهو ابن يزيد عن ابن شهاب، وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه مثله، وظاهر سياقه أنه حذف منه شيء من أوله، وقد بينه مسلم من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه بهذا الإسناد بلفظ: "اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن سببته أو جلدته فاجعل ذلك كفارة له يوم القيامة" ومن طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "اللهم إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعله له زكاة ورحمة" ومن طريق الأعرج عن أبي هريرة مثل رواية ابن أخي ابن شهاب لكن قال: "فأي المؤمنين آذيته شتمته لعنته جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة" ومن طريق سالم عن أبي هريرة بلفظ: "اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدا" الحديث وفيه: "فأيما مؤمن آذيته" والباقي بمعناه بلفظ: "أو" وأخرج من حديث عائشة بيان سبب هذا الحديث قالت: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه فسبهما ولعنهما، فلما خرجا قلت له، فقال: أما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا " وأخرجه من حديث جابر نحوه، وأخرجه من حديث أنس وفيه

(11/171)


تقييد المدعو عليه بأن يكون ليس لذلك بأهل ولفظه: "إنما أنا بشر أرضى كما يرضي البشر وأغضب كما يغضب البشر؛ فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة" وفيه قصة لأم سليم. قوله: "اللهم فأيما مؤمن" الفاء جواب الشرط المحذوف لدلالة السياق عليه، قال المازري: إن قيل كيف يدعو صلى الله عليه وسلم بدعوة على من ليس لها بأهل؟ قيل: المراد بقوله: "ليس لها بأهل" عندك في باطن أمره لا على ما يظهر مما يقتضيه حاله وجنايته حين دعائي عليه، فكأنه يقول: من كان باطن أمره عندك أنه ممن ترضي عنه فاجعل دعوتي عليه التي اقتضاها ما ظهر لي من مقتضى حاله حينئذ طهورا وزكاة، قال: وهذا معنى صحيح لا إحالة فيه، لأنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بالظواهر، وحساب الناس في البواطن على الله انتهى. وهذا مبني على قول من قال: إنه كان يجتهد في الأحكام ويحكم بما أدى إليه اجتهاده، وأما من قال: كان لا يحكم إلا بالوحي فلا يأتي منه هذا الجواب. ثم قال المازري: فإن قيل فما معنى قوله وأغضب كما يغضب البشر؟ فإن هذا يشير إلى أن تلك الدعوة وقعت بحكم سورة الغضب، لا أنها على مقتضى الشرع، فيعود السؤال، فالجواب أنه يحتمل أنه أراد أن دعوته عليه أو سبه أو جلده كان مما خير بين فعله له عقوبة للجاني أو تركه والزجر له بما سوى ذلك، فيكون الغضب لله تعالى بعثه على لعنه أو جلده، ولا يكون ذلك خارجا عن شرعه. قال: ويحتمل أن يكون ذلك خرج مخرج الإشفاق وتعليم أمته الخوف من تعدى حدود الله، فكأنه أظهر الإشفاق من أن يكون الغضب يحمله على زيادة في عقوبة الجاني لولا الغضب ما وقعت، أو إشفاقا من أن يكون الغضب يحمله على زيادة يسيرة في عقوبة الجاني لولا الغضب ما زادت، ويكون من الصغائر على قول من يجوزها، أو يكون الزجر يحصل بدونها. ويحتمل أن يكون اللعن والسب يقع منه من غير قصد إليه فلا يكون في ذلك كاللعنة الواقعة رغبة إلى الله وطلبا للاستجابة. وأشار عياض إلى ترجيح هذا الاحتمال الأخير فقال: يحتمل أن يكون ما ذكره من سب ودعاء غير مقصود ولا منوي، ولكن جرى على عادة العرب في دعم كلامها وصلة خطابها عند الحرج والتأكيد للعتب لا على نية وقوع ذلك، كقولهم عقري حلقي وتربت يمينك، فأشفق من موافقة أمثالها القدر، فعاهد ربه ورغب إليه أن يجعل ذلك القول رحمة وقربة انتهى. وهذا الاحتمال حسن إلا أنه يرد عليه قوله: "جلدته" فإن هذا الجواب لا يتمشى فيه، إذ لا يقع الجلد عن غير قصد، وقد ساق الجميع مساقا واحدا إلا إن حمل على الجلدة الواحدة فيتجه. ثم أبدى القاضي احتمالا آخر فقال: كان لا يقول ولا يفعل صلى الله عليه وسلم في حال غضبه إلا الحق، لكن غضبه لله قد يحمله على تعجيل معاقبة مخالفه وترك الإغضاء والصفح، ويؤيده حديث عائشة "ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله" وهو في الصحيح. قلت: فعلى هذا فمعنى قوله: "ليس لها بأهل" أي من جهة تعين التعجيل. وفي الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته وجميل خلقه وكرم ذاته حيث قصد مقابلة ما وقع منه بالجبر والتكريم، وهذا كله في حق معين في زمنه واضح، وأما ما وقع منه بطريق التعميم لغير معين حتى يتناول من لم يدرك زمنه صلى الله عليه وسلم فما أظنه يشمله، والله أعلم.

(11/172)


35 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ الْفِتَنِ
6362- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ

(11/172)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ الْمَسْأَلَةَ فَغَضِبَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ لاَ تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لاَفٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاَحَى الرِّجَالَ يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ حُذَافَةُ ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الْحَائِطِ" وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
قوله: "باب التعوذ من الفتن" ستأتي هذه الترجمة وحديثها في كتاب الفتن. سيأتي في كتاب الفتن، وتقدم شيء من شرحه يتعلق بسبب نزول الآية المذكورة في آخر الحديث في تفسير سورة المائدة، وقوله: "أحفوه" بحاء مهملة ساكنة وفاء مفتوحة أي ألحوا عليه، يقال أحفيته إذا حملته على أن يبحث عن الخبر، وقوله: "لاف" بالرفع ويجوز النصب على الحال، وقوله: "إذا لاحى" بمهملة خفيفة أي خاصم، وفي الحديث أن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع من حكمه فإنه لا يقول إلا الحق في الغضب والرضا، وفيه فهم عمر وفضل علمه.

(11/173)


36 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ
6363- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ "أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي طَلْحَةَ الْتَمِسْ لَنَا غُلاَمًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا نَزَلَ فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ فَلَمْ أَزَلْ أَخْدُمُهُ حَتَّى أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ وَأَقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَدْ حَازَهَا فَكُنْتُ أَرَاهُ يُحَوِّي وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ أَوْ كِسَاءٍ ثُمَّ يُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالًا فَأَكَلُوا وَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءَهُ بِهَا ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ"
قوله: "باب التعوذ من غلبة الرجال" ذكر فيه حديث أنس في قصة خيبر، وذكر صفية بنت حيى، وتقدم شرح ذلك في المغازي وغيرها، وسيأتي منه التعوذ مفردا بعد أبواب. قوله: "فكنت أسمعه يكثر أن يقول" استدل به على أن هذه الصيغة لا تدل على الدوام ولا الإكثار، وإلا لما كان لقوله: "يكثر" فائدة، وتعقب بأن

(11/173)


المراد بالدوام أعم من الفعل والقوة، ويظهر لي أن الحاصل أنه لم يعرف لذلك مزيلا، ويفيد قوله: "يكثر" وقوع ذلك من فعله كثيرا. قوله: "من الهم والحزن إلى قوله والجبن" يأتي شرحه قريبا. قوله: "وضلع الدين" أصل الضلع وهو بفتح المعجمة واللام الاعوجاج، يقال ضلع بفتح اللام يضلع أي مال، والمراد به هنا ثقل الدين وشدته وذلك حيث لا يجد من عليه الدين وفاء ولا سيما مع المطالبة. وقال بعض السلف ما دخل هم الدين قلبا إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه. قوله: "وغلبة الرجال" أي شدة تسلطهم كاستيلاء الرعاع هرجا ومرجا. قال الكرماني: هذا الدعاء من جوامع الكلم، لأن أنواع الرذائل ثلاثة: نفسانية وبدنية وخارجية، فالأولى بحسب القوى التي للإنسان وهي ثلاثة: العقلية والغضبية والشهوانية، فالهم والحزن يتعلق بالعقلية، والجبن بالغضبية، والبخل بالشهوانية. والعجز والكسل بالبدنية. والثاني يكون عند سلامة الأعضاء وتمام الآلات والقوى، والأول عند نقصان عضو ونحوه، والضلع والغلبة بالخارجية فالأول مالي والثاني جاهي، والدعاء مشتمل على جميع ذلك.

(11/174)


37 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
6364- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ "سَمِعْتُ أُمَّ خَالِدٍ بِنْتَ خَالِدٍ قَالَ وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"
قوله: "باب التعوذ من عذاب القبر" تقدم الكلام عليه في أواخر كتاب الجنائز. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة، وأم خالد بنت خالد اسمها أمة بتخفيف الميم بنت خالد بن سعيد بن العاص، تقدم ذكرها في اللباس وأنها ولدت بأرض الحبشة لما هاجر أبواها إليها، ثم قدموا المدينة وكانت صغيرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد حفظت عنه.
6365- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ مُصْعَبٍ "كَانَ سَعْدٌ يَأْمُرُ بِخَمْسٍ وَيَذْكُرُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهِنَّ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا يَعْنِي فِتْنَةَ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"
6366- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتَا لِي إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَكَذَّبْتُهُمَا وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا فَخَرَجَتَا وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَجُوزَيْنِ وَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ صَدَقَتَا إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ كُلُّهَا فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلاَةٍ إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"
قوله: "باب التعوذ من البخل" كذا وقعت هذه الترجمة هنا للمستملي وحده، وهي غلط من وجهين: أحدهما أن الحديث الأول في الباب وإن كان فيه ذكر البخل لكن قد ترجم لهذه الترجمة بعينها بعد أربعة أبواب وذكر فيه الحديث المذكور بعينه، ثانيهما أن الحديث الثاني مختص بعذاب القبر لا ذكر للبخل فيه أصلا فهو بقية من الباب الذي قبله وهو اللائق به، وقوله: "عن عبد الملك" هو ابن عمير كما سيأتي منسوبا في الباب المشار إليه. قوله: "عن

(11/174)


مصعب" هو ابن سعد بن أبي وقاص، وسيأتي قريبا من رواية غندر عن شعبة عن عبد الملك عن مصعب بن سعد، ولعبد الملك بن عمير فيه شيخ آخر، فقد تقدم في كتاب الجهاد من طريق أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن عمرو بن ميمون عن سعد وقال في آخره: "قال عبد الملك: فحدثت به مصعبا فصدقه" وأورده الإسماعيلي من طريق زائدة عن عبد الملك عن مصعب وقال في آخره: "فحدثت به عمرو بن ميمون فقال وأنا حدثني بهن سعد" وقد أورده الترمذي من طريق عبيد الله بن عمرو الرقى عن عبد الملك عن مصعب بن سعد وعمرو بن ميمون جميعا عن سعد وساقه على لفظ مصعب، وكذا أخرجه النسائي من طريق زائدة عن عبد الملك عنهما، وأخرجه البخاري من طريق زائدة عن عبد الملك عن مصعب وحده، وفي سياق عمرو أنه كان يقول ذلك دبر الصلاة، وليس ذلك في رواية مصعب. وفي رواية مصعب ذكر البخل وليس في رواية عمرو، وقد رواه أبو إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود هذه رواية زكريا عنه. وقال إسرائيل عنه عن عمرو عن عمر بن الخطاب، ونقل الترمذي عن الدارمي أنه قال: كان أبو إسحاق يضطرب فيه. قلت: لعل عمرو بن ميمون سمعه من جماعة، فقد أخرجه النسائي من رواية زهير عن أبي إسحاق عن عمرو عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمى منهم ثلاثة كما ترى، وقوله إنه "كان سعد يأمر" في رواية الكشميهني: "يأمرنا" بصيغة الجمع، وجرير المذكور في الحديث الثاني هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر من صغار التابعين، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة وهو ومسروق شيخه من كبار التابعين، ورجال الإسناد كلهم كوفيون إلى عائشة، ورواية أبي وائل عن مسروق من الأقران، وقد ذكر أبو علي الجياني أنه وقع في رواية أبي إسحاق المستملي عن الفربري في هذا الحديث: "منصور عن أبي وائل ومسروق عن عائشة" بواو بدل عن قال: والصواب الأول، ولا يحفظ لأبي وائل عن عائشة رواية. قلت أما كونه الصواب فصواب لاتفاق الرواة في البخاري على أنه من رواية أبي وائل عن مسروق، وكذا أخرجه مسلم وغيره من رواية منصور، وأما النفي فمردود فقد أخرج الترمذي من رواية أبي وائل عن عائشة حديثين أحدهما "ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهذا أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه من رواية أبي وائل عن مسروق عن عائشة، والثاني "إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها" الحديث أخرجه أيضا من رواية عمرو بن مرة "سمعت أبا وائل عن عائشة" وهذا أخرجه الشيخان أيضا من رواية منصور والأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة، وهذا جميع ما في الكتب الستة لأبي وائل عن عائشة.
وأخرج ابن حبان في صحيحه من رواية شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن عائشة حديث: "ما من مسلم يشاك شوكة فما دونها إلا رفعه الله بها درجة" الحديث، وفي بعض هذا ما يرد إطلاق أبي علي.
قوله: "دخلت علي عجوزان من عجز يهود المدينة" عجز بضم العين المهملة والجيم بعدها زاي جمع عجوز مثل عمود وعمد، ويجمع أيضا على عجائز، وهذه رواية الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة شيخ البخاري فيه، قال ابن السكيت: ولا يقال عجوزة. وقال غيره: هي لغة رديئة. وقوله: "ولم أنعم" هو رباعي من أنعم والمراد أنها لم تصدقهما أولا. قوله: "فقلت يا رسول الله إن عجوزين وذكرت له فقال صدقتا" قال الكرماني حذف خبر "إن" للعلم به والتقدير دخلنا. قلت: ظهر لي أن البخاري هو الذي اختصره، فقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة شيخ البخاري فيه فساقه ولفظه: "فقلت

(11/175)


له: يا رسول الله إن عجوزين من عجائز يهود المدينة دخلتا علي فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: صدقتا "وكذا أخرجه مسلم من وجه آخر عن جرير شيخ عثمان فيه، فعلى هذا فيضبط "وذكرت" له بضم التاء وسكون الراء أي ذكرت له ما قالتا، وقوله: "تسمعه البهائم" تقدم شرحه مستوفى، وبينت طريق الجمع بين جزمه صلى الله عليه وسلم هنا بتصديق اليهوديتين في إثبات عذاب القبر وقوله في الرواية: "عائذا بالله من ذلك" وكلا الحديثين عن عائشة، وحاصله أنه لم يكن أوحى إليه أن المؤمنين يفتنون في القبور فقال: "إنما يفتن يهود" جري على ما كان عنده من علم ذلك، ثم لما علم بأن ذلك يقع لغير اليهود استعاذ منه وعلمه وأمر بإيقاعه في الصلاة ليكون أنجح في الإجابة، والله أعلم

(11/176)


38 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ
6367- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ"
قوله: "باب التعوذ من فتنة المحيا" أي زمن الحياة "الممات" أي من الموت من أول النزع وهلم جرا. حديث أنس وفيه ذكر العجز والكسل والجبن، وقد تقدم الكلام عليه في الجهاد والبخل، وسيأتي بعد بابين، والهرم والمراد به الزيادة في كبر السن، وعذاب القبر وقد مضى في الجنائز. وأما فتنة المحيا والممات فقال ابن بطال هذه كلمة جامعة لمعان كثيرة، وينبغي للمرء أن يرغب إلى ربه في رفع ما نزل ودفع ما لم ينزل، ويستشعر الافتقار إلى ربه في جميع ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جميع ما ذكر دفعا عن أمته وتشريعا لهم ليبين لهم صفة المهم من الأدعية. قلت: وقد تقدم شرح المراد بفتنة المحيا وفتنة الممات في "باب الدعاء قبل السلام" في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة، وأصل الفتنة الامتحان والاختبار، واستعملت في الشرع في اختبار كشف ما يكره، ويقال فتنت الذهب إذا اختبرته بالنار لتنظر جودته، وفي الغفلة عن المطلوب كقوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وتستعمل في الإكراه على الرجوع عن الدين كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . قلت: واستعملت أيضا في الضلال والإثم والكفر والعذاب والفضيحة، ويعرف المراد حيثما ورد بالسياق والقرائن.

(11/176)


39 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ
6368- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّ قَلْبِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ"

(11/176)


40 - باب الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْجُبْنِ وَالْكَسَلِ كُسَالَى وَكَسَالَى وَاحِدٌ
6369- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو "قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ"
قوله: "باب الاستعاذة من الجبن والكسل" تقدم شرحهما في كتاب الجهاد. قوله: "كسالى وكسالى واحد" بفتح الكاف وضمها، قلت: وما قراءتان قرأ الجمهور بالضم وقرأ الأعرج بالفتح، وهي لغة بني تميم، وقرأ ابن السميفع بالفتح أيضا لكن أسقط الألف وسكن السين ووصفهم بما يوصف به المؤنث المفرد لملاحظة معنى الجماعة، وهو كما قرئ {وَتَرَى النَّاسَ سكرَى} والكسل الفتور والتواني وهو ضد النشاط. قوله: "حدثنا سليمان" هو ابن بلال، ووقع التصريح به في رواية أبي زيد المروزي.قوله: "عمرو بن أبي عمرو" هو مولى المطلب الماضي ذكره في "باب التعوذ من غلبة الرجال". قوله: "فكنت أسمعه يكثر أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم إلى قوله والجبن" تقدم شرح هذه الأمور الستة، ومحصله إن الهم لما يتصوره العقل من المكروه في الحال، والحزن لما وقع في الماضي، والعجز ضد الاقتدار، والكسل ضد النشاط، والبخل ضد الكرم، والجبن ضد الشجاعة. وقوله: "وضلع الدين" تقدم ضبطه وتفسيره قبل ثلاث أبواب، وقوله: "وغلبة الرجال" هي إضافة للفاعل، استعاذ من أن يغلبه الرجال لما في ذلك من الوهن في النفس والمعاش.

(11/178)


41 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ الْبُخْلِ الْبُخْلُ وَالْبَخَلُ وَاحِدٌ مِثْلُ الْحُزْنِ وَالْحَزَنِ
6370- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ "عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهَؤُلاَءِ الْخَمْسِ وَيُحَدِّثُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"
قوله: "باب التعوذ من البخل" تقدم الكلام عليه قبل. قوله: "البخل والبخل واحد" يعني بضم أوله وسكون ثانيه وبفتحهما. قوله: "مثل الحزن والحزن" يعني في وزنهما. قوله: "وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر" في

(11/178)


42 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ أَرَاذِلُنَا سُقَّاطنا
6371- حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب "عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ يقول اللهم إني أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل "
قوله: "باب التعوذ من أرذل العمر أراذلنا سقاطنا" بضم المهملة وتشديد القاف جمع ساقط وهو اللئيم في حسبه ونسبه، وهذا قد تقدم القول فيه في أوائل تفسير سورة هود، وأورد فيه حديث أنس وليس فيه لفظ الترجمة لكنه أشار بذلك إلى أن المراد بأرذل العمر في حديث سعد بن أبي وقاص الذي قبله الهرم الذي في حديث أنس لمجيئها موضع الأخرى من الحديث المذكور.

(11/179)


43 - باب الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْوَجَعِ
6372- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا"
6373- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ " عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنْ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لاَ قُلْتُ فَبِشَطْرِهِ قَالَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإِنَّكَ

(11/179)


44 - باب الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَفِتْنَةِ النَّارِ
6374- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "تَعَوَّذُوا بِكَلِمَاتٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ"
6375- حدثنا يحيى بن موسى حدثنا وكيع حدثنا هشام بن عروة عن أبيه "عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار وفتنة القبر وعذاب القبر وشر فتنة فلهذا وشر فتنة الفقر ومن شر فتنة المسيح الدجال اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب"
قوله: "باب الاستعاذة من أرذل العمر ومن فتنة الدنيا ومن فتنة النار" في رواية الكشميهني: "ومن عذاب النار" بدل فتنة النار. قوله: "أنبأنا الحسين" هو ابن علي الجعفي الزاهد المشهور، وإسحاق الراوي عنه هو ابن راهويه، وشيخه زائدة، هو ابن قدامة، وعبد الملك هو ابن عمير، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى قبل قليل و كذا حديث عائشة ثاني حديثي الباب.

(11/181)


45 - باب الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى
6376- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا سلام بن أبي مطيع عن هشام عن أبيه "عن خالته ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار ومن عذاب النار وأعوذ بك من فتنة القبر وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة الغني وأعوذ بك من فتنة الفقر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال"
قوله: "باب الاستعاذة من فتنة الغنى" ذكر فيه حديث عائشة المذكور مختصرا من رواية وكيع عن هشام بن عروة، وقد تقدم شرحه.

(11/181)


46 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ
6377- حدثنا محمد أخبرنا أبو معاوية أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه "عن عائشة رضي الله عنها

(11/181)


47 - باب الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ الْبَرَكَةِ
6378-6379- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسٌ خَادِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ قَالَ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ وَعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مِثْلَهُ"
قوله: "باب الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة" سقط هذا الباب والترجمة من رواية السرخسي والصواب إثباته. قوله: "شعبة قال سمعت قتادة عن أنس عن أم سليم أنها قالت يا رسول الله أنس خادمك ادع الله له. الحديث" وفي آخره "وعن هشام بن زيد سمعت أنس بن مالك مثله" قلت هكذا قال غندر عن شعبة جعل الحديث من مسند أم سليم، وكذا أخرجه الترمذي عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه عن محمد بن جعفر وهو غندر هذا فذكر مثله، ولكنه لم يذكر رواية هشام بن زيد التي في آخره. وقال: حسن صحيح، وأخرجه الإسماعيلي من رواية حجاج بن محمد عن شعبة فقال فيه: "عن أم سليم" كما قال غندر، وكذا أخرجه أحمد عن حجاج بن محمد وعن محمد بن جعفر كلاهما عن شعبة، وأخرجه في "باب من خص أخاه بالدعاء" من رواية سعيد بن الربيع عن شعبة عن قتادة قال: "سمعت أنسا قال قالت أم سليم" وظاهره أنه من مسند أنس وهو في الباب الذي يلي هذا كذلك، وكذا تقدم في "باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر" من طريق حرمي بن عمارة عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: "قالت أمي" وكذا أخرجه مسلم من رواية أبي داود الطيالسي والإسماعيلي من رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة. وهذا الاختلاف لا يضر فإن أنسا حضر ذلك بدليل ما أخرجه مسلم من رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس قال: "جاءت بي أمي أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هذا ابني أنس يخدمك، فادع الله له، فقال: اللهم أكثر ماله وولده" وأما رواية هشام بن زيد المعطوفة هنا فإنها معطوفة على رواية قتادة، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية حجاج بن محمد عن شعبة عن قتادة وهشام بن زيد جميعا عن أنس، وكذا صنيع مسلم حيث أخرجه من رواية أبي داود عن شعبة. "تنبيه": ذكر الكرماني أنه وقع هنا "وعن هشام بن عروة قال" والأول هو الصحيح. قوله: "أنها قالت يا رسول الله أنس

(11/182)


خادمك ادع الله له" تقدم لهذا الحديث مبدأ من رواية حميد عن أنس في كتاب الصيام في "باب من زار قوما فلم يفطر عندهم" وقد بسطت شرحه هناك بما يغني عن إعادته، وذكرت طرفا منه قريبا في "باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر".

(11/183)


باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة
6380-6381- حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع حدثنا شعبة عن قتادة "قال سمعت أنسا رضي الله عنه قال قالت أم سليم: أنس خادمك ادع الله له قال اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته"
قوله: "باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة" تقدم شرحه في الذي قبله، وتقدم الحديث سندا ومتنا في باب قول الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ومن خص أخاه بالدعاء

(11/183)


48- باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الِاسْتِخَارَةِ
6382- حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو مُصْعَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ "عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَالسُّورَةِ مِنْ الْقُرْآنِ إِذَا هَمَّ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَمُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ"
قوله: "باب الدعاء عند الاستخارة" هي استفعال من الخير أو من الخيرة بكسر أوله وفتح ثانيه بوزن العنبة، اسم من قولك خار الله له، واستخار الله طلب منه الخيرة، وخار الله له أعطاه ما هو خير له، والمراد طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموال" بفتح الميم وتخفيف الواو جمع مولى، واسمه زيد، ويقال زيد جد عبد الرحمن وأبوه لا يعرف اسمه، وعبد الرحمن من ثقات المدنيين، وكان ينسب إلى ولاء آل علي بن أبي طالب، وخرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن في زمن المنصور، فلما قتل محمد حبس عبد الرحمن المذكور بعد أن ضرب. وقد وثقه ابن المعين وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، وذكره ابن عدي في "الكامل" في الضعفاء، وأسند عن أحمد بن حنبل أنه قال: كان محبوسا في المطبق حين هزم هؤلاء يعني بني حسن، قال: وروي عن محمد بن المنكدر حديث الاستخارة وليس أحد يرويه غيره، وهو منكر، وأهل المدينة إذا كان حديث غلطا يقولون: ابن المنكدر عن جابر، كما أن أهل البصرة يقولون: ثابت عن أنس يحملون

(11/183)


49 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْوُضُوءِ
6383- حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة "عن أبي موسى قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال اللهم اغفر لعبيد أبي عامر ورأيت بياض إبطيه فقال اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس"
قوله: "باب الدعاء عند الوضوء" ذكر فيه حديث أبي موسى قال: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ به، ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر" الحديث، ذكره مختصرا، وقد تقدم بطوله في المغازي في "باب غزوة أوطاس".

(11/187)


50 - باب الدُّعَاءِ إِذَا عَلاَ عَقَبَةً
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ أَوْ قَالَ أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ هِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ"

(11/187)


51 - باب الدُّعَاءِ إِذَا هَبَطَ وَادِيًا. فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه
قوله: "باب الدعاء إذا هبط واديا فيه حديث جابر" كذا ثبت عند المستملي والكشميهني وسقط لغيرهما، والمراد بحديث جابر ما تقدم في الجهاد وفي "باب التسبيح إذا هبط واديا" من حديثه بلفظ: "كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا".وقال بعده "باب التكبير إذا علا شرفا" وأورد فيه حديث جابر أيضا لكن بلفظ: "وإذا تصوبنا" بدل "نزلنا" والتصويب الانحدار وقد ورد بلفظ: "هبطنا" في هذا الحديث عند النسائي وابن خزيمة وأشرت إلى شرحه هناك، ومناسبة التكبير عند الصعود إلى المكان المرتفع أن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس لما فيه من استشعار الكبرياء، فشرع لمن تلبس به أن يذكر كبرياء الله تعالى وأنه أكبر من كل شيء فيكبره ليشكر له ذلك فيزيده من فضله، ومناسبة التسبيح عند الهبوط لكون المكان المنخفض محل ضيق فيشرع فيه التسبيح لأنه من أسباب الفرج، كما وقع في قصة يونس عليه السلام حين سبح في الظلمات فنجى من الغم

(11/188)


52 - باب الدُّعَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ رَجَعَ. فِيهِ يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ
6385- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الأَرْضِ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ"

(11/188)


53 - باب الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ
6386- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَالَ مَهْيَمْ أَوْ مَهْ قَالَ قَالَ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"
6387- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو "عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْعَ أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ ثَيِّبًا قَالَ هَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ أَوْ تُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ قُلْتُ هَلَكَ أَبِي فَتَرَكَ سَبْعَ أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ قَالَ فَبَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقُلْ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرٍو بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ"
قوله: "باب الدعاء للمتزوج" فيه حديث أنس في تزويج عبد الرحمن بن عوف وحديث جابر في تزويجه الثيب. حديث أنس في تزويج عبد الرحمن بن عوف، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب النكاح، والمراد هنا قوله: "بارك الله لك" وقوله: "فقال مهيم أو مه" شك من الراوي، والمعتمد ما في الرواية المتقدمة وهو الجزم بالأول ومعناه ما حالك، ومه في هذه الرواية استفهامية انقلبت الألف هاء. حديث جابر في تزويجه الثيب وفيه: "هلا جارية تلاعبها" وقد تقدم شرحه في النكاح، والمراد منه قوله فيه: "بارك الله عليك" وقوله فيه: "تزوجت يا جابر قلت نعم، قال بكرا أم ثيبا" انتصب على حذف فعل تقديره أتزوجت، وقوله في الجواب "قلت ثيب" بالرفع على أن التقدير مثلا التي تزوجتها ثيب، قيل وكان الأحسن النصب على نسق الأول أي تزوجت ثيبا. قلت: ولا يمتنع أن يكون منصوبا فكتب بغير ألف على تلك اللغة، وقوله فيه: "أو

(11/190)


تضاحكها" شك من الراوي "وهو يعين أحد الاحتمالين في تلاعبها هل من اللعب أو من اللعاب "وقد تقدم بيانه عند شرحه. قوله: "لم يقل ابن عيينة ومحمد بن مسلم عن عمرو بارك الله عليك" أما رواية سفيان بن عيينة فتقدمت موصولة في المغازي وفي النفقات من طريقه، وأما رواية محمد بن مسلم وهو الطائفي فتقدم الكلام عليها في المغازي، ومناسبة قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن "بارك الله لك" ولجابر "بارك الله عليك" أن المراد بالأول اختصاصه بالبركة في زوجته وبالثاني شمول البركة له في جودة عقله حيث قدم مصلحة أخواته على حظ نفسه فعدل لأجلهن عن تزوج البكر مع كونها أرفع رتبة للمتزوج الشاب من الثيب غالبا.

(11/191)


54- - باب مَا يَقُولُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ
6388- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا"
قوله: "باب ما يقول إذا أتى أهله" ذكر فيه حديث ابن عباس، وفي لفظه ما يقتضي أن القول المذكور يشرع عند إرادة الجماع فيرفع احتمال ظاهر الحديث أنه يشرع عند الشروع في الجماع. حديث ابن عباس، وفي لفظه ما يقتضي أن القول المذكور يشرع عند إرادة الجماع فيرفع احتمال ظاهر الحديث أنه يشرع عند الشروع في الجماع، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب النكاح. وقوله: "لم يضره شيطان أبدا" أي لم يضر الولد المذكور بحيث يتمكن من إضراره في دينه أو بدنه، وليس المراد رفع الوسوسة من أصلها.

(11/191)


55 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
6389- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ "عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ربنا آتنا في الدنيا حسنة" كذا ذكره بلفظ الآية. الحديث من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس بلفظ: "كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اللهم آتنا إلى آخر الآية" وقد أورده في تفسير البقرة عن أبي معمر عن عبد الوارث بسنده هذا ولكن لفظه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول" وللباقي مثله وأخرجه مسلم من طريق إسماعيل بن علية عن عبد العزيز قال: "سأل قتادة أنسا أي دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر؟ قال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة إلى آخره. قال: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها" وهذا الحديث سمعه شعبة من إسماعيل بن علية عن عبد العزيز عن أنس مختصرا رواه عنه يحيى بن أبي بكير قال فلقيت إسماعيل فحدثني به فذكره كما عند مسلم، وأورده مسلم من طريق شعبة عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الآية. وهذا مطابق للترجمة. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي نعيم حدثنا عبد السلام أبو طالوت "كنت عند أنس فقال له ثابت: إن إخوانك يسألونك أن تدعو لهم، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فذكر القصة وفيها: إذا آتاكم الله ذلك فقد آتاكم الخير كله" قال

(11/191)


56 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا
6390- حدثنا فروة بن أبي المغراء حدثنا عبيدة بن حميد عن عبد الملك بن عمير عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص "عن أبيه رضي الله عنه قال ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا هؤلاء الكلمات كما تعلم الكتابة اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن نرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر"
قوله: "باب التعوذ من فتنة الدنيا" تقدمت هذه الترجمة ضمن ترجمة وذلك قبل اثنى عشر بابا، وتقدم شرح الحديث أيضا.

(11/192)


57 - باب تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ
6391- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنْذِرٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(11/192)


58 - باب الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ}
6392- حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأَحْزَابِ فَقَالَ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الأَحْزَابَ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ"
6393- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ صَلاَةِ الْعِشَاءِ قَنَتَ اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي

(11/193)


رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ"
6394- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ عَاصِمٍ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ فَأُصِيبُوا فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ عَلَى شَيْءٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ فَقَنَتَ شَهْرًا فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ وَيَقُولُ إِنَّ عُصَيَّةَ عَصَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ"
6395- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ السَّامُ عَلَيْكَ فَفَطِنَتْ عَائِشَةُ إِلَى قَوْلِهِمْ فَقَالَتْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَهْلًا يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي أَنِّي أَرُدُّ ذَلِكِ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ وَعَلَيْكُمْ"
6396- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ "حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَالَ مَلاَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ وَهِيَ صَلاَةُ الْعَصْرِ"
قوله: "باب الدعاء على المشركين" كذا أطلق هنا، وقيده في الجهاد بالهزيمة والزلزلة وذكر فيه أحاديث: الأول قوله: "وقال ابن مسعود: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" وهذا طرف من حديث تقدم موصولا في كتاب الاستسقاء وتقدم شرحه هناك. الثاني قوله: "وقال: اللهم عليك بأبي جهل" أي بإهلاكه، وسقط هذا التعليق من رواية أبي زيد، وهو طرف من حديث لابن مسعود أيضا في قصة سلي الجزور التي ألقاها أشقى القوم على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم موصولا في الطهارة، وهو رابع الأحاديث المذكورة في الترجمة التي أشرت إليها آنفا في كتاب الجهاد. الثالث قوله: "وقال ابن عمر: دعا النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وقال: اللهم العن فلانا وفلانا، حتى أنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} هذا أيضا طرف من حديث تقدم موصولا في غزوة أحد وفي تفسير آل عمران وتقدم شرحه وتسمية من أبهم من المدعو عليهم. قوله: "حدثنا ابن سلام" هو محمد بن أبي خالد اسمه إسماعيل وابن أبي أوفى هو عبد الله. قوله: "على الأحزاب" تقدم المراد به قريبا، وسريع الحساب أي سريع فيه أو المعنى أن مجيء الحساب سريع، وتقدم شرح الحديث مستوفى في "باب لا تتمنوا لقاء العدو" من كتاب الجهاد. حديث أبي هريرة في الدعاء في القنوت للمستضعفين من المسلمين، وفيه: "اللهم اشدد وطأتك على مضر" أي خذهم بشدة، وأصلها من الوطء بالقدم والمراد الإهلاك، لأن من يطأ على الشيء برجله فقد استقصى في هلاكه والمراد بمضر القبيلة المشهورة التي منها جميع بطون قيس وقريش وغيرهم، وهو على حذف مضاف أي كفار مضر، وقد تقدم في الجهاد أنه يشرح في المغازي فلم يتهيأ ذلك فشرح في تفسير سورة النساء، وقوله فيه: "اللهم أنج

(11/194)


سلمة ابن هشام" نقل ابن التين عن الداودي أنه قال: هو عم أبي جهل، قال: فعلى هذا فاسم أبي جهل هشام واسم جده هشام. قلت: وهو خطأ من عدة أوجه فإن اسم أبي جهل عمرو واسم أبيه هشام، وسلمة أخوه بلا خلاف بين أهل الإخبار في ذلك، فلعله كان فيه: "قاسم أبي أبي جهل" فيستقيم، لكن قوله وسلمة عم أبي جهل خطأ فيرجع الخطأ. حديث أنس "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية يقال لهم القراء" الحديث، وقد تقدم شرحه في غزوة بئر معونة من كتاب المغازي، وقوله: "وجد" من الوجد بفتح ثم سكون أي حزن. حديث عائشة "كانت اليهود يسلمون"، وقد تقدم شرحه في كتاب الاستئذان. حديث علي "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق" الحديث وفيه: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا" وقد تقدم شرحه في تفسير سورة البقرة، وأشرت إلى اختلاف العلماء في الصلاة الوسطى وبلغته إلى عشرين قولا. وقد تعسف أبو الحسن بن القصار في تأويله فقال: إنما تسمية العصر وسطى يختص بذلك اليوم لأنهم شغلوا عن الظهر والعصر والمغرب فكانت العصر بالنسبة إلى الثلاثة التي شغلوا عنها وسطى، لا أن المراد بالوسطى تفسير ما وقع في سورة البقرة. قلت: وقوله في هذه الرواية: "وهي صلاة العصر" جزم الكرماني بأنه مدرج في الخير من قول بعض رواته، وفيه نظر، فقد تقدم في الجهاد من رواية عيسى بن يونس وفي المغازي من رواية روح بن عبادة وفي التفسير من رواية يزيد بن هارون ومن رواية يحيى بن سعيد كلهم عن هشام ولم يقع عنده ذكر صلاة العصر عن أحد منهم، إلا أنه وقع في المغازي "إلى أن غابت الشمس" وهو مشعر بأنها العصر، وأخرجه مسلم من رواية أبي أسامة ومن رواية المعتمر بن سليمان ومن رواية يحيى بن سعيد ثلاثتهم عن هشام كذلك ولكن بلفظ: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وكذا أخرجه من طريق شتير بن شكل عن علي ومن طريق مرة عن عبد الله بن مسعود مثله سواء، وأصرح من ذلك ما أخرجه من حديث حذيفة مرفوعا: "شغلونا عن صلاة العصر" وهو ظاهر في أنه من نفس الحديث، وقوله في السند "حدثنا الأنصاري" يريد محمد بن عبد الله بن المثنى القاضي وهو من شيوخ البخاري، ولكن ربما أخرج عنه بواسطة كالذي هنا، وقوله: "حدثنا هشام بن حسنان" يرجح قول من قال في الرواية التي مضت في الجهاد من طريق عيسى بن يونس "حدثنا هشام" أنه ابن حسان، وقد كنت ظننت أنه الدستوائي ورددت على الأصيلي حيث جزم بأنه ابن حسان ثم نقل تضعيف هشام بن حسان يروم رد الحديث فتعقبته هناك، ثم وقفت على هذه الرواية فرجعت عما ظننته، لكن أجيب الآن عن تضعيفه لهشام بأن هشام بن حسان وإن تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه لكن لم يضعفه بذلك أحد مطلقا بل بقيد بعض شيوخه، واتفقوا على أنه ثبت في الشيخ الذي حدث عنه بحديث الباب وهو محمد بن سيرين، قال سعيد بن أبي عروبة: ما كان أحد أحفظ عن ابن سيرين من هشام. وقال يحيى القطان: هشام بن حسان ثقة في محمد بن سيرين. وقال أيضا: هو أحب إلي في ابن سيرين من عاصم الأحوال وخالد الحذاء. وقال علي بن المديني: كان يحيى القطان يضعف حديث هشام بن حسان عن عطاء وكان أصحابنا يثبتونه، قال: وأما حديثه عن محمد بن سيرين فصحيح. وقال يحيى بن معين: كان ينفي حديثه عن عطاء وعن عكرمة وعن الحسن. قلت: قد قال أحمد ما يكاد ينكر عليه شيء إلا ووجدت غيره قد حدث به، إما أيوب وإما عوف. وقال ابن عدي: أحاديثه مستقيمة، ولم أر فيها شيئا منكرا انتهى. وليس له في الصحيحين عن عطاء شيء، وله في

(11/195)


البخاري شيء يسير عن عكرمة وتوبع عليه، والله أعلم.

(11/196)


59 - باب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ
6397- حدثنا علي حدثنا سفيان حدثنا أبو الزناد عن الأعرج "عن أبي هريرة رضي الله عنه ثم قدم الطفيل بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها فظن الناس أنه يدعو عليهم فقال اللهم اهد دوسا وأت بهم"
قوله: "باب الدعاء للمشركين" تقدمت هذه الترجمة وحديث أبي هريرة فيها في كتاب الجهاد، لكن زاد: "بالهدي ليتألفهم" وقد تقدم شرحه هناك، وذكرت وجه الجمع بين الترجمتين: والدعاء على المشركين والدعاء للمشركين وأنه باعتبارين، وحكى ابن بطال أن الدعاء للمشركين ناسخ للدعاء على المشركين ودليله قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} قال: والأكثر على أن لا نسخ، وأن الدعاء على المشركين جائز، وإنما النهي عن ذلك في حق من يرجى تألفهم ودخولهم في الإسلام، ويحتمل في التوفيق بينهما أن الجواز حيث يكون في الدعاء ما يقتضي زجرهم عن تماديهم على الكفر، والمنع حيث يقع الدعاء عليهم بالهلاك على كفرهم، والتقييد بالهداية يرشد إلى أن المراد بالمغفرة في قوله في الحديث الآخر "اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" العفو عما جنوه عليه في نفسه لا محو ذنوبهم كلها لأن ذنب الكفر لا يمحى، أو المراد بقوله: "اغفر لهم" اهدهم إلى الإسلام الذي تصح معه المغفرة، أو المعنى اغفر لهم إن أسلموا، والله أعلم.

(11/196)


60 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ
6398- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُوسَى "عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ وَحَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ"
[الحديث 6398- طرفه في: 6399]
6399- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى وَأَبِي بُرْدَةَ أَحْسِبُهُ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَايَايَ

(11/196)


61 - باب الدُّعَاءِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
6400- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا إِلاَّ أَعْطَاهُ وَقَالَ بِيَدِهِ قُلْنَا يُقَلِّلُهَا يُزَهِّدُهَا"
قوله: "باب الدعاء في الساعة التي في يوم الجمعة" أي التي ترجى فيها إجابة الدعاء.وقد ترجم في كتاب الجمعة "باب الساعة التي في يوم الجمعة" ولم يذكر في البابين شيئا يشعر بتعيينها. وقد اختلف في ذلك كثيرا، واقتصر الخطابي منها على وجهين: أحدهما أنها ساعة الصلاة، والآخر أنها ساعة من النهار عند دنو الشمس للغروب، وتقدم سياق الحديث في كتاب الجمعة من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يقللها" وقد ذكرت شرحه هناك، واستوعبت الخلاف الوارد في الساعة المذكورة فزاد على الأربعين قولا، واتفق لي نظير ذلك ليلة القدر. وقد ظفرت بحديث يظهر منه وجه المناسبة بينهما في العدد المذكور، وهو ما أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة من طريق سعيد بن الحارث عن أبي سلمة قال: "قلت يا أبا سعيد إن أبا هريرة حدثنا عن الساعة التي في الجمعة فقال: سألت عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني كنت أعلمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر". وفي هذا الحديث إشارة إلى أن كل رواية جاء فيها تعيين وقت الساعة المذكورة مرفوعا وهم، والله أعلم. قوله: "يسأل الله خيرا" يقيد قوله في رواية الأعرج "شيئا" وأن الفضل المذكور لمن يسأل الخير، فيخرج الشر مثل الدعاء بالإثم وقطيعة الرحم ونحو ذلك. وقوله: "وقال بيده" فيه إطلاق القول على الفعل، وقد وقع في رواية الأعرج "وأشار بيده". قوله: "قلنا يقللها يزهدها" يحتمل أن يكون قوله يزهدها وقع تأكيدا لقوله يقللها، وإلى ذلك أشار الخطابي. ويحتمل أن يكون قال أحد اللفظين فجمعهما الراوي. ثم وجدته عند الإسماعيلي من رواية أبي خيثمة زهير بن حرب "يقللها ويزهدها" فجمع بينهما، وهو عطف تأكيد. وقد أخرجه مسلم عن زهير بن حرب عن إسماعيل شيخ مسدد فيه فلم يقع عنده "قلنا" ولفظه:" وقال بيده يقللها يزهدها" وأخرجه أبو عوانة عن الزعفراني عن إسماعيل بلفظ:" وقال بيده هكذا فقلنا يزهدها أو يقللها" وهذه أوضح الروايات والله أعلم.

(11/199)


62 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْتَجَابُ لَنَا فِي الْيَهُودِ وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا
6401- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ عَائِشَةَ

(11/199)


63 - باب التَّأْمِينِ
6402- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"
قوله: "باب التأمين" يعني قول "آمين" عقب الدعاء.حديث أبي هريرة "إذا أمن القارئ فأمنوا" وقد تقدم شرحه في كتاب الصلاة، والمراد بالقارئ هنا الإمام إذا قرأ في الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد بالقارئ أعم من ذلك. وورد في التأمين مطلقا أحاديث منها حديث عائشة مرفوعا: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين" رواه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة، وأخرجه ابن ماجه أيضا من حديث ابن عباس بلفظ: "ما حسدتكم على آمين، فأكثروا من قول آمين" وأخرج الحاكم "عن حبيب بن مسلمة الفهري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمن بعضهم إلا أجابهم الله تعالى" ولأبي داود من حديث أبي زهير النميري قال: "وقف النبي صلى الله عليه وسلم على رجل قد ألح في الدعاء فقال: أوجب إن ختم، فقال: بأي شيء؟ قال بآمين. فأتاه الرجل فقال: يا فلان اختم بآمين وأبشر" وكان أبو زهير يقول: آمين مثل الطابع على الصحيفة. وقد ذكرت في "باب جهر الإمام بالتأمين" في كتاب الصلاة. ما في آمين من اللغات واختلاف في معناها فأغنى عن الإعادة.

(11/200)


64 - باب فَضْلِ التَّهْلِيلِ

(11/200)


65 - باب فَضْلِ التَّسْبِيحِ
6405- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ"
6406- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ"
[الحديث 6406- طرفاه في 6682، 7563]
قوله: "باب فضل التسبيح" يعني قول سبحان الله، ومعناه تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص، فيلزم نفي الشريك والصاحبة والولد وجميع الرذائل. ويطلق التسبيح ويراد به جميع ألفاظ الذكر، ويطلق ويراد به صلاة النافلة. وأما صلاة التسبيح فسميت بذلك لكثرة التسبيح فيها. وسبحان اسم منصوب على أنه واقع موقع المصدر لفعل محذوف تقديره سبحت الله سبحانا، كسبحت الله تسبيحة ولا يستعمل غالبا إلا مضافا، وهو مضاف إلى المفعول أي سبحت الله، ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل أي نزه الله نفسه والمشهور الأول، وقد جاء غير مضاف في الشعر كقوله: سبحانه ثم سبحانا أنزهه. قوله: "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" زاد في رواية سهيل بن أبي صالح عن سمي عن أبي صالح "من قال حين يمسي وحين يصبح" ويأتي في ذلك ما ذكره النووي من أن الأفضل أن يقول ذلك متواليا في أول النهار وفي أول الليل، والمراد بقوله: "وإن كانت مثل زبد البحر" الكناية عن المبالغة في الكثرة، قال عياض قوله: "حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" مع قوله في التهليل "محيت عنه مائة سيئة" قد يشعر بأفضلية التسبيح على التهليل، يعني لأن عدد زبد البحر أضعاف

(11/206)


أضعاف المائة، لكن تقدم في التهليل "ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به" فيحتمل أن يجمع بينهما بأن يكون التهليل أفضل وأنه بما زيد من رفع الدرجات وكتب الحسنات ثم ما جعل مع ذلك من فضل عتق الرقاب قد يزيد على فضل التسبيح وتكفيره جميع الخطايا لأنه قد جاء "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار" فحصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا عموما بعد حصر ما عدد منها خصوصا مع زيادة مائة درجة وما زاده عتق الرقاب الزيادة على الواحدة، ويؤيده الحديث الآخر "أفضل الذكر التهليل" وأنه أفضل ما قاله والنبيون من قبله وهو كلمة التوحيد والإخلاص، وقيل إنه اسم الله الأعظم، وقد مضى شرح التسبيح وإنه التنزيه عما لا يليق بالله تعالى وجميع ذلك داخل في ضمن "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" انتهى ملخصا. قلت: وحديث: "أفضل الذكر لا إله إلا الله" أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث جابر، ويعارضه في الظاهر حديث أبي ذر "قلت يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله، قال: إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده" أخرجه مسلم. وفي رواية: "سئل أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفاه الله لملائكته: سبحان الله وبحمده" وقال الطيبي في الكلام على حديث أبي ذر: فيه تلميح بقوله تعالى حكاية عن الملائكة {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} ويمكن أن يكون قوله: "سبحان الله وبحمده" مختصرا من الكلمات الأربع وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لأن "سبحان الله" تنزيه له عما لا يليق بجلاله وتقديس لصفاته من النقائص. فيندرج فيه معنى لا إله إلا الله، وقوله: "وبحمده" صريح في معنى والحمد لله لأن الإضافة فيه بمعنى اللام في الحمد، ويستلزم ذلك معنى الله أكبر لأنه إذا كان كل الفضل والأفضال لله ومن الله وليس من غيره شيء من ذلك فلا يكون أحد أكبر منه، ومع ذلك كله فلا يلزم أن يكون التسبيح أفضل من التهليل لأن التهليل صريح في التوحيد والتسبيح متضمن له، ولأن نفي الآلهة في قول "لا إله" نفي لمضمنها من فعل الخلق والرزق والإثابة والعقوبة، وقول "إلا الله" إثبات لذلك، ويلزم منه نفي ما يضاده ويخالفه من النقائص، فمنطوق سبحان الله تنزيه ومفهومه توحيد ومنطوق لا إله إلا الله توحيد ومفهومه تنزيه، يعني فيكون لا إله إلا الله أفضل لأن التوحيد أصل والتنزيه ينشأ عنه والله أعلم. وقد جمع القرطبي بما حاصله: إن هذه الأذكار إذا أطلق على بعضها أنه أفضل الكلام أو أحبه إلى الله فالمراد إذا انضمت إلى أخواتها، بدليل حديث سمرة عند مسلم: "أحب الكلام إلى الله أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" ويحتمل أن يكتفي في ذلك بالمعنى فيكون من اقتصر على بعضها كفى، لأن حاصلها التعظيم والتنزيه، ومن نزهه فقد عظمه ومن عظمه فقد نزهه، انتهى. وقال النووي: هذا الإطلاق في الأفضلية محمول على كلام الآدمي، وإلا فالقرآن أفضل الذكر. وقال البيضاوي: الظاهر أن المراد من الكلام كلام البشر، فإن للثلاث الأول وإن وجدت في القرآن لكن الرابعة لم توجد فيه، ولا يفضل ما ليس فيه على ما هو فيه. قلت ويحتمل أن يجمع بأن تكون "من" مضمرة في قوله: "أفضل الذكر لا إله إلا الله" وفي قوله: "أحب الكلام" بناء على أن لفظ أفضل وأحب متساويان في المعنى، لكن يظهر مع ذلك تفضيل لا إله إلا الله لأنها ذكرت بالتنصيص عليها بالأفضلية الصريحة وذكرت مع أخواتها بالأحبية فحصل لها التفضيل تنصيصا وانضماما والله أعلم. وأخرج الطبري من رواية عبد الله بن باباة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "إن الرجل إذا قال لا إله إلا الله فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله عملا حتى يقولها،

(11/207)


وإذا قال الحمد لله فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد حتى يقولها" ومن طريق الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: "من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين". "تكميل": أخرج النسائي بسند صحيح عن أبي سعيد "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال موسى يا رب علمني شيئا أذكرك به، قال: قل لا إله إلا الله" الحديث وفيه: "لو أن السماوات السبع وعامرهن والأرضين السبع جعلن في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله" فيؤخذ منه أن الذكر بلا إله إلا الله أرجح من الذكر بالحمد لله، ولا يعارضه حديث أبي مالك الأشعري رفعه: "والحمد لله تملأ الميزان" فإن الملء يدل على المساواة والرجحان صريح في الزيادة فيكون أولى، ومعنى "ملء الميزان" أن ذاكرها يمتلئ ميزانه ثوابا. وذكر ابن بطال عن بعض العلماء أن الفضل الوارد في حديث الباب وما شابهه إنما هو لأهل الفضل في الدين والطهارة من الجرائم العظام، وليس من أصر على شهواته وانتهك دين الله وحرماته بلا حق بالأفاضل المطهرين في ذلك.ويشهد له قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} .قوله: "حدثنا ابن فضيل" هو محمد، وأبوه بالفاء والمعجمة مصغر، وعمارة هو ابن القعقاع بن شبرمة، وأبو زرعة هو ابن عمرو بن جرير، ورجال الإسناد ما بين زهير بن حرب وأبي هريرة كوفيون. قوله: "خفيفتان على اللسان إلخ" قال الطيبي الخفة مستعارة للسهولة، شبه سهولة جريان هذا الكلام على اللسان بما يخف على الحامل من بعض المحمولات فلا يشق عليه، فذكر المشبه وأراد المشبه به، وأما الثقل فعلى حقيقته لأن الأعمال تتجسم عند الميزان، والخفة والسهولة من الأمور النسبية. وفي الحديث حث على المواظبة على هذا الذكر وتحريض على ملازمته، لأن جميع التكاليف شاقة على النفس. وهذا سهل ومع ذلك يثقل في الميزان كما تثقل الأفعال الشاقة فلا ينبغي التفريط فيه. وقوله: "حبيبتان إلى الرحمن" ثنية حبيبة وهي المحبوبة، والمراد أن قائلها محبوب لله، ومحبة الله للعبد إرادة إيصال الخير له والتكريم، وخص الرحمن من الأسماء الحسنى للتنبيه على سعة رحمة الله، حيث يجازى على العمل القليل بالثواب الجزيل، ولما فيها من التنزيه والتحميد والتعظيم، وفي الحديث جواز السجع في الدعاء إذا وقع بغير كلفة، وسيأتي بقية شرح هذا الحديث في آخر الصحيح حيث ختم به المصنف إن شاء الله تعالى

(11/208)


66 - باب فَضْلِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
6407- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ"
6408- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ قَالَ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي قَالُوا يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ قَالَ فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِي قَالَ

(11/208)


فَيَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ قَالَ فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا قَالَ يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِي قَالَ يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً قَالَ فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ قَالَ يَقُولُونَ مِنْ النَّارِ قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً قَالَ فَيَقُولُ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَالَ يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ قَالَ هُمْ الْجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب فصل ذكر الله عز وجل" ذكر فيه حديثي أبي موسى وأبي هريرة وهما ظاهران فيما ترجم له، والمراد بالذكر هنا الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات وهي "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة والاستغفار ونحو ذلك والدعاء بخيري الدنيا والآخرة، ويطلق ذكر الله أيضا ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة، ثم الذكر يقع تارة باللسان ويؤجر عليه الناطق، ولا يشترط استحضاره لمعناه ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفي النقائص عنه ازداد كمالا، فإن وقع ذلك في عمل صالح مهما فرض من صلاة أو جهاد أو غيرهما ازداد كمالا، فإن صحيح التوجه وأخلص لله تعالى في ذلك فهو أبلغ الكمال. وقال الفخر الرازي: المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد، والذكر بالقلب التفكر في أدلة الذات والصفات وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله. والذكر بالجوارح هو أن تصير مستغرقة في الطاعات، ومن ثم سمى الله الصلاة ذكرا فقال: "فاسعوا إلى ذكر الله" ونقل عن بعض العارفين قال: الذكر على سبعة أنحاء: فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرجاء، وذكر الروح بالتسليم والرضاء. وورد في فضل الذكر أحاديث أخرى منها ما أخرجه المصنف في أواخر كتاب التوحيد عن أبي هريرة "قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" الحديث. ومنها ما أخرجه في صلاة الليل من حديث أبي هريرة أيضا رفعه: "يعقد الشيطان" الحديث وفيه: "فإن قام فذكر الله انحلت عقدة" ومنها ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعا: "لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة" الحديث. ومن حديث أبي ذر رفعه: "أحب الكلام إلى الله ما اصطفى لملائكته: سبحان ربي وبحمده" الحديث. ومن حديث معاوية رفعه أنه قال لجماعة جلسوا يذكرون الله تعالى "أتاني جبريل فأخبرني

(11/209)


أن الله يباهي بكم الملائكة". ومن حديث سمرة رفعه: "أحب الكلام إلى الله أربع: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت" ومن حديث أبي هريرة رفعه: "لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" وأخرج الترمذي والنسائي وصححه الحاكم عن الحارث بن الحارث الأشعري حديث طويل وفيه: "فآمركم أن تذكروا الله، وإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين أحرز نفسه منهم، فكذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى" . وعن عبد الله بن بسر "أن رجلا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي. فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله" أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم. وأخرج ابن حبان نحوه أيضا من حديث معاذ بن جبل وفيه أنه السائل عن ذلك. وأخرج الترمذي من حديث أنس رفعه: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر" وأخرج الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا: "ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله عز وجل" وقد أشرت إليه مستشكلا في أوائل الجهاد مع ما ورد في فضل المجاهد أنه كالصائم لا يفطر وكالقائم لا يفتر وغير ذلك مما يدل على أفضليته على غيره من الأعمال الصالحة، وطريق الجمع - والله أعلم - أن المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء الذكر الكامل وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلا من غير استحضار لذلك. وأن أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره، وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه. أو قتاله الكفار مثلا فهو الذي بلغ الغاية القصوى، والعلم عند الله تعالى. وأجاب القاضي أبو بكر بن العربي بأنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله بقلبه عند صدقته أو صيامه مثلا فليس عمله كاملا، فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية. ويشير إلى ذلك حديث: "نية المؤمن أبلغ من عمله". قوله: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت" سقط لفظ: "ربه" الثانية من رواية غير أبي ذر، هكذا وقع في جميع نسخ البخاري، وقد أخرجه مسلم عن أبي كريب وهو محمد بن العلاء شيخ البخاري فيه بسنده المذكور بلفظ: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت "وكذا أخرجه الإسماعيلي وابن حبان صحيحه جميعا عن أبي يعلى عن أبي كريب، وكذا أخرجه أبو عوانة عن أحمد بن عبد الحميد والإسماعيلي أيضا عن الحسن بن سفيان عن عبد الله بن براد، وعن القاسم ابن زكريا عن يوسف بن موسى وإبراهيم بن سعيد الجوهري وموسى بن عبد الرحمن المسروقي والقاسم بن دينار كلهم عن أبي أسامة، فتوارد هؤلاء على هذا اللفظ يدل على أنه هو الذي حدث به بريد بن عبد الله شيخ أبي أسامة، وانفراد البخاري باللفظ المذكور دون بقية أصحاب أبي كريب وأصحاب أبي أسامة يشعر بأنه رواه من حفظه أو تجوز في روايته بالمعنى الذي وقع له وهو أن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا السكن وإن إطلاق الحي والميت في وصف البيت إنما يراد به ساكن البيت فشبه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وباطنه بنور المعرفة

(11/210)


وغير الذاكر بالبيت الذي ظاهره عاطل وباطنه باطل؛ وقيل موقع التشبيه بالحي والميت لما في الحي من النفع لمن يواليه والضر لمن يعاديه وليس ذلك في الميت. قوله: "حدثنا قتيبة" هو ابن سعيد، وصرح بذلك في غير رواية أبي ذر. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد. قوله: "عن أبي صالح" لم أره من حديث الأعمش إلا بالعنعنة لكن اعتمد البخاري على وصله لكون شعبة رواه عن الأعمش كما سأذكره. فإن شعبة كان لا يحدث عن شيوخه المنسوبين للتدليس إلا بما تحقق أنهم سمعوه. قوله: "عن أبي هريرة" كذا قال جرير، وتابعه الفضيل بن عياض عند ابن حبان وأبو بكر بن عياش عند الإسماعيلي كلاهما عن الأعمش، وأخرجه الترمذي عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش فقال: "عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد" هكذا بالشك للأكثر، وفي نسخة "وعن أبي سعيد" بواو العطف، والأول هو المعتمد، فقد أخرجه أحمد عن أبي معاوية بالشك وقال: شك الأعمش، وكذا قال ابن أبي الدنيا عن إسحاق، بن إسماعيل عن أبي معاوية، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد وقال شك سليمان يعني الأعمش، قال الترمذي: حسن صحيح، وقد روى عن أبي هريرة من غير هذا الوجه يعني كما تقدم بغير تردد.قوله بعد سياق المتن "رواه شعبة عن الأعمش" يعني بسنده المذكور. قوله: "ولم يرفعه" هكذا وصله أحمد قال حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال بنحوه ولم يرفعه، وهكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية بشر بن خالد عن محمد بن جعفر موقوفا. قوله: "ورواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" وصله مسلم وأحمد من طريقه، وسأذكر ما في روايته من فائدة. قوله: "إن لله ملائكة" زاد الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وابن حبان من طريق إسحاق بن راهويه كلاهما عن جرير "فضلا" وكذا لابن حبان من طريق فضيل بن عياض، وكذا لمسلم من رواية سهيل، قال عياض في "المشارق" ما نصه: في روايتنا عن أكثرهم بسكون الضاد المعجمة وهو الصواب، ورواه العذري والهوزني "فضل" بالضم وبعضهم بضم الضاد، ومعناه زيادة على كتاب الناس هكذا جاء مفسرا في البخاري، قال: وكان هذا الحرف في كتاب ابن عيسى "فضلاء" بضم أوله وفتح الضاد والمد وهو وهم هنا وإن كانت هذه صفتهم عليهم السلام. وقال في "الإكمال" الرواية فيه عند جمهور شيوخنا في مسلم والبخاري بفتح الفاء وسكون الضاد فذكر نحو ما تقدم وزاد: هكذا جاء مفسرا في البخاري في رواية أبي معاوية الضرير. وقال ابن الأثير في "النهاية" فضلا أي زيادة عن الملائكة المرتبين مع الخلائق، ويروي بسكون الضاد وبضمها قال بعضهم والسكون أكثر وأصوب. وقال النووي: ضبطوا فضلا على أوجه أرجحها بضم الفاء والضاد والثاني بضم الفاء وسكون الضاد ورجحه بعضهم وادعى أنها أكثر وأصوب، والثالث بفتح الفاء وسكون الضاد، قال القاضي عياض: هكذا الرواية عند جمهور شيوخنا في البخاري ومسلم، والرابع بضم الفاء والضاد كالأول لكن برفع اللام يعني على أنه خبر إن، والخامس فضلاء بالمد جمع فاضل قال العلماء ومعناه على جميع الروايات أنهم زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق لا وظيفة لهم إلا حلق الذكر. وقال الطيبي فضلا بضم الفاء وسكون الضاد جمع فاضل كنزل ونازل انتهى، ونسبة عياض هذه اللفظة للبخاري وهم فإنها ليست في صحيح البخاري هنا في جميع الروايات إلا أن تكون خارج الصحيح، ولم يخرج البخاري الحديث المذكور عن أبي معاوية أصلا وإنما أخرجه من طريقه الترمذي، وزاد ابن أبي الدنيا والطبراني رواية جرير فضلا عن كتاب

(11/211)


الناس، ومثله لابن حبان من رواية فضيل ابن عياض وزاد: "سياحين في الأرض" وكذا هو في رواية أبي معاوية عند الترمذي والإسماعيلي عن كتاب الأيدي، ولمسلم من رواية سهيل عن أبيه "سيارة فضلا". قوله: "يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر" في رواية سهيل "يتبعون مجالس الذكر". وفي حديث جابر بن أبي يعلى "إن لله سرايا من الملائكة تقف وتحل بمجالس الذكر في الأرض". قوله: "فإذا وجدوا قوما" في رواية فضيل بن عياض "فإذا رأوا قوما" وفي رواية سهيل "فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر". قوله: "تنادوا" في رواية الإسماعيلي: "يتنادون". قوله: "هلموا إلى حاجتكم" في رواية أبي معاوية "بغيتكم" وقوله: "هلموا" على لغة أهل نجد، وأما أهل الحجاز فيقولون للواحد والاثنين والجمع هلم بلفظ الإفراد، وقد تقدم تقرير ذلك في التفسير.واختلف في أصل هذه الكلمة فقيل هل لك في الأكل أم، أي اقصد، وقيل أصله لم بضم اللام وتشديد الميم وها للتنبيه حذفت ألفها تخفيفا. قوله: "فيحفونهم بأجنحتهم" أي يدنون بأجنحتهم حول الذاكرين، والباء للتعدية وقيل للاستعانة. قوله: "إلى السماء الدنيا" في رواية الكشميهني: "إلى سماء الدنيا" وفي رواية سهيل "قعدوا معهم وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملؤوا ما بينهم وبين سماء الدنيا". قوله: "قال فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم" في رواية الكشميهني: "بهم" كذا للإسماعيلي، وهي جملة معترضة وردت لرفع التوهم، زاد في رواية سهيل "من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض" وفي رواية الترمذي "فيقول الله: أي شيء تركتم عبادي يصنعون". قوله: "ما يقول عبادي؟ قال: تقول يسبحونك" كذا لأبي ذر بالإفراد فيهما، ولغيره: "قالوا يقولون" ولابن أبي الدنيا "قال يقولون" وزاد سهيل في روايته: "فإذا تفرقوا" أي أهل المجلس "عرجوا" أي الملائكة "وصعدوا إلى السماء". قوله: "يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك" زاد إسحاق وعثمان عن جرير "ويمجدونك" وكذا لابن أبي الدنيا. وفي رواية أبي معاوية "فيقولون تركناهم يحمدونك ويمجدونك ويذكرونك" وفي رواية الإسماعيلي: "قالوا ربنا مررنا بهم وهم يذكرونك إلخ" وفي رواية سهيل "جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك" وفي حديث أنس عند البزار "ويعظمون آلاءك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك ويسألونك لآخرتهم ودنياهم" ويؤخذ من مجموع هذه الطرق المراد بمجالس الذكر وأنها التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرهما وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة، وفي دخول قراءة الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته والاجتماع على صلاة النافلة في هذه المجالس نظر، والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوهما والتلاوة حسب، وإن كانت قراءة الحديث ومدارسة العلم والمناظرة فيه من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى. قوله: "قال فيقول هل رأوني؟ قال فيقولون لا والله ما رأوك" كذا ثبت لفظ الجلالة في جميع نسخ البخاري وكذا في بقية المواضع، وسقط لغيره. قوله: "كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا" زاد أبو ذر في روايته: "وتحميدا" وكذا لابن أبي الدنيا، وزاد في رواية الإسماعيلي: "وأشد لك ذكرا" وفي رواية ابن أبي الدنيا "وأكثر لك تسبيحا".قوله: "قال يقول" في رواية أبي ذر "فيقول". قوله: "فما يسألوني" في رواية أبي معاوية "فأي شيء يطلبون". قوله: "يسألونك الجنة" في رواية سهيل "يسألونك جنتك". قوله: "كانوا أشد عليها حرصا" زاد أبو معاوية في روايته: "عليها" وفي رواية ابن أبي الدنيا "كانوا أشد حرصا

(11/212)


وأشد طلبة وأعظم لها رغبة". قوله: "قال فمم يتعوذون؟ قال يقولون من النار" في رواية أبي معاوية "فمن أي شيء يتعوذون؟ فيقولون من النار" وفي رواية سهيل "قالوا ويستجيرونك. وقال ومم يستجيرونني؟ قالوا من نارك". قوله: "كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة" في رواية أبي معاوية "كانوا أشد منها هربا وأشد منها تعوذا وخوفا" وزاد سهيل في روايته: "قالوا ويستغفرونك" قال فيقول: قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا" وفي حديث أنس "فيقول غشوهم رحمتي".قوله: "يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة" في رواية أبي معاوية "فيقولون إن فيهم فلانا الخطاء لم يردهم إنما جاء لحاجة" وفي رواية سهيل "قال يقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر فجلس معهم" وزاد في روايته: "قال وله قد غفرت". قوله: "هم الجلساء" في رواية أبي معاوية وكذا في رواية سهيل "هم القوم" وفي اللام إشعار بالكمال أي هم القوم كل القوم. قوله: "لا يشقى جليسهم" كذا لأبي ذر، ولغيره: "لا يشقى بهم جليسهم" وللترمذي "لا يشقى لهم جليس" وهذه الجملة مستأنفة لبيان المقتضى لكونهم أهل الكمال، وقد أخرج جعفر في الذكر من طريق أبي الأشهب عن الحسن البصري قال: "بينما قوم يذكرون الله إذ أتاهم رجل فقعد إليهم، قال فنزلت الرحمة ثم ارتفعت، فقالوا ربنا فيهم عبدك فلان، قال غشوهم رحمتي، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين، فلو قيل لسعد بهم جليسهم لكان ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود. "تنبيه": اختصر أبو زيد المروزي في روايته عن الفربري متن هذا الحديث فساق منه إلى قوله: "هلموا إلى حاجتكم" ثم قال: فذكر الحديث. وفي الحديث فضل مجالس الذكر والذاكرين؛ وفضل الاجتماع على ذلك، وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى به عليهم إكراما لهم ولو لم يشاركهم في أصل الذكر. وفيه محبة الملائكة بني آدم واعتناؤهم بهم، وفيه أن السؤال قد يصدر من السائل وهو أعلم بالمسئول عنه من المسئول لإظهار العناية بالمسئول عنه والتنوية بقدره والإعلان بشرف منزلته. وقيل إن في خصوص سؤال الله الملائكة عن أهل الذكر الإشارة إلى قولهم {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فكأنه قيل لهم: انظروا إلى ما حصل منهم من التسبيح والتقديس مع ما سلط عليهم من الشهوات ووساوس الشيطان، وكيف عالجوا ذلك وضاهوكم في التسبيح والتقديس، وقيل إنه يؤخذ من هذا الحديث أن الذكر الحاصل من بني آدم أعلى وأشرف من الذكر الحاصل من الملائكة لحصول ذكر الآدميين مع كثرة الشواغل ووجود الصوارف وصدوره في عالم الغيب، بخلاف الملائكة في ذلك كله. وفيه بيان كذب من ادعى من الزنادقة أنه يرى الله تعالى جهرا في دار الدنيا، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة رفعه: "واعلموا أنكم لم تروا ربكم حتى تموتوا" . وفيه جواز القسم في الأمر المحقق تأكيدا له وتنويها به. وفيه أن الذي اشتملت عليه الجنة من أنواع الخيرات والنار من أنواع المكروهات فوق ما وصفتا به، وإن الرغبة والطلب من الله والمبالغة في ذلك من أسباب الحصول.

(11/213)


67 - باب قَوْلِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ
6409- حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن أخبرنا عبد الله أخبرنا سليمان التيمي عن أبي عثمان "عن

(11/213)


أبي موسى الأشعري قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في عقبة أو قال في ثنية قال فلما علا عليها رجل نادى فرفع صوته لا إله إلا الله والله أكبر قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته قال فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ثم قال يا أبا موسى أو يا عبد الله ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة قلت بلى قال لا حول ولا قوة إلا بالله"
قوله: "باب قول لا حول ولا قوة إلا بالله" ذكر فيه حديث أبي موسى، وقد تقدم قريبا في "باب الدعاء إذا علا عقبة" ووعدت بشرحه في كتاب القدر، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

(11/214)


68 - باب لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدٍ
6409- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً " قَالَ لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدًا لاَ يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ"
قوله: "باب لله مائة اسم غير واحدة" كذا لأبي ذر، ولغيره: "مائة غير واحد" بالتذكير، وكذا اختلف الرواة في هذا في لفظ المتن. قوله: "حفظناه من أبي الزناد" في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان "حدثنا أبو الزناد" وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريقه. قوله: "رواية" في رواية الحميدي "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولمسلم عن عمرو بن محمد الناقد عن سفيان بهذا السند عن النبي صلى الله عليه وسلم وللمصنف في التوحيد من رواية شعيب "عن أبي الزناد بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" ووقع عند الدار قطني في "غرائب مالك" من رواية عبد الملك بن يحيى ابن بكير عن أبيه عن ابن وهب عن مالك بالسند المذكور "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل: لي تسعة وتسعون اسما". قلت: وهذا الحديث رواه عن الأعرج أيضا موسى بن عقبة عند ابن ماجه من رواية زهير بن محمد عنه وسرد الأسماء، ورواه عن أبي الزناد أيضا شعيب بن أبي حمزة كما مضى في الشروط، ويأتي في التوحيد، وأخرجه الترمذي من رواية الوليد بن مسلم عن شعيب وسرد الأسماء، ومحمد بن عجلان عند أبي عوانة، ومالك عند ابن خزيمة والنسائي، والدار قطني في "غرائب مالك" وقال: صحيح عن مالك وليس في الموطأ قدر ما عند أبي نعيم في طرق الأسماء الحسنى، وعبد الرحمن بن أبي الزناد عند الدار قطني، وأبو عوانة ومحمد ابن إسحاق عند أحمد وابن ماجه، وموسى بن عقبة عند أبي نعيم من رواية حفص بن ميسرة عنه. ورواه عن أبي هريرة أيضا همام بن منبه عند مسلم وأحمد، ومحمد بن سيرين عند مسلم والترمذي والطبراني في الدعاء وجعفر الفريابي في الذكر، وأبو رافع عند الترمذي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن عند أحمد، وابن ماجه وعطاء بن يسار وسعيد المقبري وسعيد بن المسيب وعبد الله بن شقيق ومحمد بن جبير بن مطعم والحسن البصري أخرجها أبو نعيم بأسانيد عنهم كلها ضعيفة، وعراك بن مالك عند البزار لكن شك فيه، ورويناها في "جزء المعالي" وفي "أمالي الجرفي" من طريقه بغير شك، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي هريرة سلمان الفارسي وابن عباس وابن عمر وعلي وكلها عند أبي نعيم أيضا بأسانيد ضعيفة، وحديث علي في "طبقات الصوفية" لأبي

(11/214)


عبد الرحمن السلمي، وحديث ابن عباس وابن عمر معا في الجزء الثالث عشر من "أمالي أبي القاسم بن بشران" وفي "فوائد أبي عمر بن حيوية" انتقاء الدار قطني، هذا جميع ما وقفت عليه من طرقه. وقد أطلق ابن عطية في تفسيره أنه تواتر عن أبي هريرة فقال: في سرد الأسماء نظر، فإن بعضها ليس في القرآن ولا في الحديث الصحيح، ولم يتواتر الحديث من أصله وإن خرج في الصحيح، ولكنه تواتر عن أبي هريرة، كذا قال ولم يتواتر عن أبي هريرة أيضا بل غاية أمره أن يكون مشهورا، ولم يقع في شيء من طرقه سرد الأسماء إلا في رواية الوليد بن مسلم عند الترمذي. وفي رواية زهير بن محمد عن موسى بن عقبة عند ابن ماجه، وهذان الطريقان يرجعان إلى رواية الأعرج، وفيهما اختلاف شديد في سرد الأسماء والزيادة والنقص على ما سأشير إليه. ووقع سرد الأسماء أيضا في طريق ثالثة أخرجها الحاكم في "المستدرك" وجعفر الفريابي في الذكر من طريق عبد العزيز بن الحصين عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، واختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر من بعض الرواة، فمشى كثير منهم على الأول واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم، لأن كثيرا من هذه الأسماء كذلك. وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج لخلو أكثر الروايات عنه. ونقله عبد العزيز النخشبي عن كثير من العلماء، قال الحاكم بعد تخريج الحديث من طريق صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بسياق الأسماء الحسنى، والعلة فيه عندهما تفرد الوليد بن مسلم، قال ولا أعلم خلافا عند أهل الحديث أن الوليد أوثق وأحفظ وأجل وأعلم من بشر بن شعيب وعلي بن عياش وغيرهما من أصحاب شعيب، يشير إلى أن بشرا وعليا وأبا اليمان رووه عن شعيب بدون سياق الأسماء فرواية أبي اليمان عند المصنف، ورواية علي عند النسائي، ورواية بشر عند البيهقي، وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه واحتمال الإدراج، قال البيهقي: يحتمل أن يكون التعيين وقع من بعض الرواة في الطريقين معا، ولهذا وقع الاختلاف الشديد بينهما، ولهذا الاحتمال ترك الشيخان تخريج التعيين. وقال الترمذي بعد أن أخرجه من طريق الوليد: هذا حديث غريب حدثنا به غير واحد عن صفوان ولا نعرفه إلا من حديث صفوان وهو ثقة، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ولا نعلم في شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذه الطريق وقد روي بإسناد أخر عن أبي هريرة فيه ذكر الأسماء وليس له إسناد صحيح انتهى. ولم ينفرد به صفوان فقد أخرجه البيهقي من طريق موسى بن أيوب النصيبي وهو ثقة عن الوليد أيضا، وقد اختلف في سنده على الوليد فأخرجه عثمان الدارمي في "النقض على المريسي" عن هشام بن عمار عن الوليد فقال: عن خليد بن دعلج عن قتادة عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة فذكره بدون التعيين، قال الوليد وحدثنا سعيد بن عبد العزيز مثل ذلك وقال: كلها في القرآن "هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" وسرد الأسماء وأخرجه أبو الشيخ ابن حبان من رواية أبي عامر القرشي عن الوليد بن مسلم بسند آخر فقال: حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة، قال زهير: فبلغنا أن غير واحد من أهل العلم قال إن أولها أن تفتتح بلا إله إلا الله وسرد الأسماء وهذه الطريق أخرجها ابن ماجه وابن أبي عاصم والحاكم من طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد لكن سرد الأسماء أولا فقال بعد قوله من حفظها دخل الجنة: الله الواحد الصمد إلخ ثم قال بعد أن انتهى العد: قال زهير فبلغنا عن غير واحد من أهل العلم أن أولها يفتتح بلا إله إلا الله

(11/215)


له الأسماء الحسنى. قلت: والوليد بن مسلم أوثق من عبد الملك بن محمد الصنعاني، ورواية الوليد تشعر بأن التعيين مدرج، وقد تكرر في رواية الوليد عن زهير ثلاثة أسماء وهي "الأحد الصمد الهادي" ووقع بدلها في رواية عبد الملك "المقسط القادر الوالي" وعند الوليد أيضا: "الوالي الرشيد" وعند عبد الملك "الوالي الراشد" وعند الوليد "العادل المنير" وعند عبد الملك "الفاطر القاهر" واتفقا في البقية. وأما رواية الوليد عن شعيب وهي أقرب الطرق إلى الصحة وعليها عول غالب من شرح الأسماء الحسنى فسياقها عند الترمذي، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور". وقد أخرجه الطبراني عن أبي زرعة الدمشقي عن صفوان بن صالح فخالف في عدة أسماء فقال: "القائم الدائم" بدل "القابض الباسط" و "الشديد" بدل "الرشيد" و "الأعلى المحيط مالك يوم الدين" بدل "الودود المجيد الحكيم" ووقع عند ابن حبان عن الحسن بن سفيان عن صفوان "الرافع" بدل المانع ووقع في صحيح ابن خزيمة في رواية صفوان أيضا مخالفة في بعض الأسماء، قال: "الحاكم" بدل "الحكيم" و "القريب" بدل" الرقيب" و "المولى" بدل "الوالي" و "الأحد" بدل "المغني" ووقع في رواية البيهقي وابن منده من طريق موسى بن أيوب عن الوليد "المغيث" بالمعجمة والمثلثة بدل "المقيت" بالقاف والمثناة، ووقع بين رواية زهير وصفوان المخالفة في ثلاثة وعشرين اسما، فليس في رواية زهير "الفتاح القهار الحكم العدل الحسيب الجليل المحصي المقتدر المقدم المؤخر البر المنتقم المغني النافع الصبور البديع الغفار الحفيظ الكبير الواسع الأحد مالك الملك ذو الجلال والإكرام" وذكر بدلها "الرب الفرد الكافي القاهر المبين بالموحدة الصادق الجميل البادي بالدال القديم البار بتشديد الراء الوفي البرهان الشديد الواقي بالقاف القدير الحافظ العادل المعطي العالم الأحد الأبد الوتر ذو القوة" ووقع في رواية عبد العزيز بن الحصين اختلاف أخر فسقط فيها مما في رواية صفوان من "القهار" إلى تمام خمسة عشر اسما على الولاء، وسقط منها أيضا: "القوي الحليم الماجد القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل المقسط الجامع الضار النافع الوالي الرب" فوقع فيها مما في رواية موسى بن عقبة المذكورة آنفا ثمانية عشر اسما على الولاء، وفيها أيضا: "الحنان المنان الجليل الكفيل المحيط القادر الرفيع الشاكر الأكرم الفاطر الخلاق الفاتح المثيب بالمثلثة ثم الموحدة العلام المولى النصير ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الإله المدبر بتشديد الموحدة" قال الحاكم: إنما أخرجت رواية عبد العزيز بن الحصين شاهدا لرواية الوليد عن شعبة لأن الأسماء التي زادها على الوليد كلها في القرآن، كذا قال، وليس كذلك، وإنما تؤخذ من القرآن بضرب من التكلف لا أن جميعها ورد فيه بصورة الأسماء. وقد قال الغزالي في "شرح الأسماء" له: لا أعرف أحدا من العلماء عني بطلب أسماء وجمعها سوى رجل من حفاظ المغرب يقال له علي بن حزم فإنه قال: صح عندي قريب من ثمانين اسما يشتمل عليها

(11/216)


كتاب الله والصحاح من الأخبار، فلتطلب البقية من الأخبار الصحيحة.قال الغزالي: وأظنه لم يبلغه الحديث يعني الذي أخرجه الترمذي أو بلغه فاستضعف إسناده، قلت: الثاني هو مراده، فإنه ذكر نحو ذلك في "المحلى" ثم قال: والأحاديث الواردة في سرد الأسماء ضعيفة لا يصح شيء منها أصلا، وجميع ما تتبعته من القرآن ثمانية وستون اسما. فإنه اقتصر على ما ورد فيه بصورة الاسم لا ما يؤخذ من الاشتقاق كالباقي من قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ولا ما ورد مضافا كالبديع من قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وسأبين الأسماء التي اقتصر عليها قريبا. وقد استضعف الحديث أيضا جماعة فقال الداودي: لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عين الأسماء المذكورة. وقال ابن العربي يحتمل أن تكون الأسماء تكملة الحديث المرفوع، ويحتمل أن تكون من جمع بعض الرواة وهو الأظهر عندي. وقال أبو الحسن القابسي: أسماء الله وصفاته لا تعلم إلا بالتوقيف من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولا يدخل فيها القياس ولم يقع في الكتاب ذكر عدد معين، وثبت في السنة أنها تسعة وتسعون، فأخرج بعض الناس من الكتاب تسعة وتسعين اسما، والله أعلم بما أخرج من ذلك، لأن بعضها ليست أسماء يعني صريحة. ونقل الفخر الرازي عن أبي زيد البلخي أنه طعن في حديث الباب فقال: أما الرواية التي لم يسرد فيها الأسماء وهي التي اتفقوا على أنها أقوى من الرواية التي سردت فيها الأسماء فضعيفة من جهة أن الشارع ذكر هذا العدد الخاص ويقول إن من أحصاه دخل الجنة ثم لا يسأله السامعون عن تفصيلها، وقد علمت شدة رغبة الخلق في تحصيل هذا المقصود، فيمتنع أن لا يطالبوه بذلك، ولو طالبوه لبينها لهم ولو بينها لما أغفلوه ولنقل ذلك عنهم. وأما الرواية التي سردت فيها الأسماء فيدل على ضعفها عدم تناسبها في السياق ولا في التوقيف ولا في الاشتقاق، لأنه إن كان المراد الأسماء فقط فغالبها صفات، وإن كان المراد الصفات فالصفات غير متناهية. وأجاب الفخر الرازي عن الأول بجواز أن يكون المراد من عدم تفسيرها أن يستمروا على المواظبة بالدعاء بجميع ما ورد من الأسماء رجاء أن يقعوا على تلك الأسماء المخصوصة، كما أبهمت ساعة الجمعة وليلة القدر والصلاة الوسطى. وعن الثاني بأن سردها إنما وقع بحسب التتبع والاستقراء على الراجح فلم يحصل الاعتناء بالتناسب، وبأن المراد من أحصى هذه الأسماء دخل الجنة بحسب ما وقع الاختلاف في تفسير المراد بالإحصاء فلم يكن القصد حصر الأسماء انتهى. وإذا تقرر رجحان أن سرد الأسماء ليس مرفوعا فقد اعتنى جماعة بتتبعها من القرآن من غير تقييد بعدد، فروينا في "كتاب المائتين" لأبي عثمان الصابوني بسنده إلى محمد بن يحيى الذهلي أنه استخرج الأسماء من القرآن، وكذا أخرج أبو نعيم عن الطبراني عن أحمد بن عمرو الخلال عن ابن أبي عمرو "حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين سألت أبا جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء الحسنى فقال: هي في القرآن. وروينا في "فوائد تمام" من طريق أبي الطاهر بن السرح عن حبان بن نافع عن سفيان بن عيينة الحديث، يعني حديث: "إن لله تسعة وتسعين اسما" قال فوعدنا سفيان أن يخرجها لنا من القرآن فأبطأ، فأتينا أبا زيد فأخرجها لنا فعرضناها على سفيان فنظر فيها أربع مرات وقال: نعم هي هذه، وهذا سياق ما ذكره جعفر. وأبو زيد قالا: ففي الفاتحة خمسة "الله رب الرحمن الرحيم مالك" وفي البقرة "محيط قدير عليم حكيم علي عظيم تواب بصير ولي واسع كاف رءوف بديع شاكر واحد سميع قابض باسط حي قيوم غني حميد غفور حليم" وزاد جعفر "إله قريب مجيب عزيز نصير قوي شديد سريع خبير" قالا: وفي آل عمران "وهاب قائم" زاد

(11/217)


جعفر الصادق "باعث منعم متفضل "وفي النساء" رقيب حسيب شهيد مقيت وكيل "زاد جعفر"علي كبير" وزاد سفيان "عفو" وفي الأنعام "فاطر قاهر" وزاد جعفر "مميت غفور برهان" وزاد سفيان "لطيف خبير قادر" وفي الأعراف "محيي مميت" وفي الأنفال "نعم المولى ونعم النصير" وفي هود "حفيظ مجيد ودود فعال لما يريد" زاد سفيان "قريب مجيب" وفي الرعد "كبير متعال" وفي إبراهيم "منان" زاد جعفر "صادق وارث" وفي الحجر "خلاق" وفي مريم "صادق وارث" زاد جعفر "فرد" وفي طه عند جعفر وحده "غفار" وفي المؤمنين "كريم" وفي النور "حق مبين" زاد سفيان "نور" وفي الفرقان "هاد" وفي سبأ "فتاح" وفي الزمر "عالم" عند جعفر وحده، وفي المؤمن "غافر قابل ذو الطول" زاد سفيان "شديد" وزاد جعفر "رفيع" وفي الذاريات "رزاق ذو القوة المتين" بالتاء وفي الطور "بر" وفي اقتربت "مقتدر" زاد جعفر "مليك" وفي الرحمن "ذو الجلال والإكرام" زاد جعفر "رب المشرقين ورب المغربين باقي معين" وفي الحديد "أول آخر ظاهر باطن" وفي الحشر "قدوس سلام مؤمن مهيمن عزيز جبار متكبر خالق بارئ مصور" زاد جعفر "ملك" وفي البروج "مبدئ معيد" وفي الفجر "وتر" عند جعفر وحده، وفي الإخلاص "أحد صمد" هذا آخر ما رويناه عن جعفر وأبي زيد وتقرير سفيان من تتبع الأسماء من القرآن، وفيها اختلاف شديد وتكرار وعدة أسماء لم ترد بلفظ الاسم وهي "صادق منعم متفضل منان مبدئ معيد باعث قابض باسط برهان معين مميت باقي "ووقفت في كتاب "المقصد الأسنى" لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الزاهد أنه تتبع الأسماء من القرآن فتأملته فوجدته كرر أسماء وذكر مما لم أره فيه بصيغة الاسم "الصادق والكاشف والعلام" وذكر من المضاف "الفالق" من قوله: "فالق الحب والنوى" وكان يلزمه أن يذكر القابل من قوله: "قابل التوب" وقد تتبعت ما بقي من الأسماء مما ورد في القرآن بصيغة الاسم مما لم يذكر في رواية الترمذي وهي "الرب الإله المحيط القدير الكافي الشاكر الشديد القائم الحاكم الفاطر الغافر القاهر المولى النصير الغالب الخالق الرفيع المليك الكفيل الخلاق الأكرم الأعلى المبين بالموحدة الحفي بالحاء المهملة والفاء القريب الأحد الحافظ "فهذه سبعة وعشرون اسما إذا انضمت إلى الأسماء التي وقعت في رواية الترمذي مما وقعت في القرآن بصيغة الاسم تكمل بها التسعة والتسعون وكلها في القرآن، لكن بعضها بإضافة كالشديد من {شَدِيدُ الْعِقَابِ} والرفيع من {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} والقائم من قوله: {قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} والفاطر من {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} والقاهر من {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} والمولى والنصير من {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} والعالم من {عَالِمُ الْغَيْبِ} والخالق من قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} والغافر من {غَافِرِ الذَّنْبِ} والغالب من {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} والرفيع من {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} والحافظ من قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً} ومن قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقد وقع نحو ذلك من الأسماء التي في رواية الترمذي وهي المحيي من قوله: {لَمُحْيِي الْمَوْتَى} والمالك من قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ} والنور من قوله: {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والبديع من قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والجامع من قوله: {جَامِعُ النَّاسِ} والحكم من قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} والوارث من قوله: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} والأسماء التي تقابل هذه مما وقع في رواية الترمذي مما لم تقع في القرآن بصيغة الاسم وهي سبعة وعشرون اسما "القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل العدل الجليل الباعث المحصي المبدئ المعيد المميت الواجد الماجد المقدم المؤخر الوالي ذو الجلال والإكرام المقسط المغني

(11/218)


المانع الضار النافع الباقي الرشيد الصبور" فإذا اقتصر من رواية الترمذي على ما عدا هذه الأسماء وأبدلت بالسبعة والعشرين التي ذكرتها خرج من ذلك تسعة وتسعون اسما كلها في القرآن واردة بصيغة الاسم ومواضعها كلها ظاهرة من القرآن إلا قوله الحفي فإنه في سورة مريم في قول إبراهيم {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} وقل من نبه على ذلك، ولا يبقى بعد ذلك إلا النظر في الأسماء المشتقة من صفة واحدة مثل "القدير والمقتدر والقادر والغفور والغفار والغافر والعلي والأعلى والمتعال والملك والمليك والمالك والكريم والأكرم والقاهر والقهار والخالق والخلاق والشاكر والشكور والعالم والعليم" فأما أن يقال لا يمنع ذلك من عدها فإن فيها التغاير في الجملة فإن بعضها يزيد بخصوصية على الآخر ليست فيه،وقد وقع الاتفاق على أن الرحمن الرحيم اسمان مع كونهما مشتقين من صفة واحدة ولو منع من عد ذلك للزم أن لا يعد ما يشترك الاسمان فيه مثلا من حيث المعنى مثل الخالق البارئ المصور لكنها عدت لأنها ولو اشتركت في معنى الإيجاد والاختراع فهي مغايرة من جهة أخرى وهي أن الخالق يفيد القدرة على الإيجاد والبارئ يفيد الموجد لجوهر المخلوق والمصور يفيد خالق الصورة في تلك الذات المخلوقة وإذا كان ذلك لا يمنع المغايرة لم يمتنع عدها أسماء مع ورودها والعلم عند الله تعالى. وهذا سردها لتحفظ ولو كان في ذلك إعادة لكنه يغتفر لهذا القصد "الله الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار التواب الوهاب الخلاق الرزاق الفتاح العليم الحليم العظيم الواسع الحكيم الحي القيوم السميع البصير اللطيف الخبير العلي الكبير المحيط القدير المولى النصير الكريم الرقيب القريب المجيب الوكيل الحسيب الحفيظ المقيت الودود المجيد الوارث الشهيد الولي الحميد الحق المبين القوي المتين الغني المالك الشديد القادر المقتدر القاهر الكافي الشاكر المستعان الفاطر البديع الغافر الأول الآخر الظاهر الباطن الكفيل الغالب الحكم العالم الرفيع الحافظ المنتقم القائم المحيي الجامع المليك المتعالي النور الهادي الغفور الشكور العفو الرءوف الأكرم الأعلى البر الحفي الرب الإله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". قوله: "لله تسعة وتسعون" في رواية الحميدي "إن لله تسعة وتسعين" وكذا في رواية شعيب. قوله: "اسما" كذا في معظم الروايات بالنصب على التمييز، وحكى السهيلي أنه روى بالجر وخرجه على لغة من يجعل الإعراب في النون ويلزم الجمع الياء فيقول كم سنينك برفع النون وعددت سنينك بالنصب وكم مر من سنينك بكسر النون ومنه قول الشاعر "وقد جاوزت حد الأربعين "بكسر النون فعلامة النصب في الرواية فتح النون وحذف التنوين لأجل الإضافة، وقوله مائة بالرفع والنصب على البدل في الروايتين. قوله: "إلا واحدة" قال ابن بطال كذا وقع هنا ولا يجوز في العربية، قال: ووقع في رواية شعيب في الاعتصام "إلا واحدا" بالتذكير وهو الصواب كذا قال، وليست الرواية المذكورة في الاعتصام بل في التوحيد، وليست الرواية التي هنا خطأ بل وجهوها. وقد وقع في رواية الحميدي هنا "مائة غير واحد" بالتذكير أيضا، وخرج التأنيث على إرادة التسمية. وقال السهيلي بل أنث الاسم لأنه كلمة، واحتج بقول سيبويه: الكلمة اسم أو فعل أو حرف، فسمي الاسم كلمة وقال ابن مالك: أنث باعتبار معنى التسمية أو الصفة أو الكلمة. وقال جماعة من العلماء: الحكمة في قوله: "مائة غير واحد" بعد قوله: "تسعة وتسعون" أن يتقرر ذلك في نفس السامع جمعا بين جهتي الإجمالي والتفصيل أو دفعا للتصحيف الخطي والسمعي، واستدل به على صحة استثناء القليل من الكثير وهو متفق عليه، وأبعد من استدل

(11/219)


به على جواز الاستثناء مطلقا حتى يدخل استثناء الكثير حتى لا يبقى إلا القليل. وأغرب الداودي فيما حكاه عنه ابن التين فنقل الاتفاق على الجواز، وأن من أقر ثم استثنى عمل باستثنائه حتى لو قال له على ألف إلا تسعمائة وتسعة وتسعين أنه لا يلزمه إلا واحد. وتعقبه ابن التين فقال: ذهب إلى هذا في الإقرار جماعة، وأما نقل الاتفاق فمردود فالخلاف ثابت حتى في مذهب مالك، وقد قال أبو الحسن اللخمي منهم: لو قال أنت طالق ثلاثا إلا ثنتين وقع عليه ثلاث، ونقل عبد الوهاب وغيره عن عبد الملك وغيره أنه لا يصح استثناء الكثير من القليل. ومن لطيف أدلتهم أن من قال صمت الشهر إلا تسعا وعشرين يوما يستهجن لأنه لم يصم إلا يوما واليوم لا يسمى شهرا، وكذا من قال لقيت القوم جميعا إلا بعضهم ويكون ما لقي إلا وحدا. قلت: والمسألة مشهورة فلا يحتاج إلى الإطالة فيها. وقد اختلف في هذا العدد هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذه العدة أو أنها أكثر من ذلك ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة؟ فذهب الجمهور إلى الثاني، ونقل النووي اتفاق العلماء عليه فقال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى، وليس معناه أنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد وصححه ابن حبان: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك" وعند مالك عن كعب الأحبار في دعاء "وأسألك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم" وأورد الطبري عن قتادة نحوه، ومن حديث عائشة أنها دعت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك. وسيأتي في الكلام على الاسم الأعظم. وقال الخطابي: في هذا الحديث إثبات هذه الأسماء المخصوصة بهذا العدد وليس فيه منع ما عداها من الزيادة، وإنما للتخصيص لكونها أكثر الأسماء وأبينها معاني، وخبر المبتدأ في الحديث هو قوله: "من أحصاها" لا قوله: "لله" وهو كقولك لزيد ألف درهم أعدها للصدقة أو لعمرو مائة ثوب من زاره ألبسه إياها. وقال القرطبي في "المفهم" نحو ذلك ونقل ابن بطال عن القاضي أبي بكر بن الطيب قال ليس في الحديث دليل على أنه ليس لله من الأسماء إلا هذه العدة وإنما معنى الحديث أن من أحصاها دخل الجنة، ويدل على عدم الحصر أن أكثرها صفات وصفات الله لا تتناهى. وقيل إن المراد الدعاء بهذه الأسماء لأن الحديث مبني على قوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} " فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تسعة وتسعون فيدعي بها ولا يدعي بغيرها حكاه ابن بطال عن المهلب، وفيه نظر لأنه ثبت في أخبار صحيحة الدعاء بكثير من الأسماء التي لم ترد في القرآن كما في حديث ابن عباس في قيام الليل "أنت المقدم وأنت المؤخر" وغير ذلك. وقال الفخر الرازي: لما كانت الأسماء من الصفات وهي إما ثبوتية حقيقية كالحي أو إضافية كالعظيم وإما سلبية كالقدوس وإما من حقيقية وإضافية كالقدير أو من سلبية إضافية كالأول والآخر وإما من حقيقة وإضافية سلبية كالملك، والسلوب غير متناهية لأنه عالم بلا نهاية قادر على ما لا نهاية له فلا يمتنع أن يكون له من ذلك اسم فيلزم أن لا نهاية لأسمائه. وحكى القاضي أبو بكر ابن العربي عن بعضهم أن لله ألف اسم، قال ابن العربي وهذا قليل فيها، ونقل الفخر الرازي عن بعضهم أن لله أربعة آلاف اسم استأثر بعلم ألف منها وأعلم الملائكة بالبقية والأنبياء بألفين منها وسائر الناس بألف، وهذه دعوى تحتاج إلى دليل. واستدل بعضهم لهذا القول بأنه ثبت في نفس حديث الباب أنه وتر يحب الوتر، والرواية التي سردت فيها

(11/220)


الأسماء لم يعد فيها الوتر فدل على أن له اسما آخر غير التسعة والتسعين. وتعقبه من ذهب إلى الحصر في التسعة والتسعين كابن حزم بأن الخبر الوارد لم يثبت رفعه وإنما هو مدرج كما تقدمت الإشارة إليه، واستدل أيضا على عدم الحصر بأنه مفهوم عدد وهو ضعيف، وابن حزم ممن ذهب إلى الحصر في العدد المذكور، وهو لا يقول بالمفهوم أصلا ولكنه احتج بالتأكيد في قوله صلى الله عليه وسلم: "مائة إلا واحدا" قال لأنه لو جاز أن يكون له اسم زائد على العدد المذكور لزم أن يكون له مائة اسم فيبطل قوله مائة إلا واحدا، وهذا الذي قاله ليس بحجة على ما تقدم، لأن الحصر المذكور عندهم باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها، فمن ادعى على أن الوعد وقع لمن أحصى زائدا على ذلك أخطأ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هناك اسم زائد، واحتج بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} وقد قال أهل التفسير: من الإلحاد في أسمائه تسميته بما لم يرد في الكتاب أو السنة الصحيحة، وقد ذكر منها في آخر سورة الحشر عدة، وختم ذلك بأن قال له الأسماء الحسنى، قال: وما يتخيل من الزيادة في العدة المذكور لعله مكرر معنى وإن تغاير لفظا كالغافر والغفار والغفور مثلا فيكون المعدود من ذلك واحدا فقط، فإذا اعتبر ذلك وجمعت الأسماء الواردة نصا في القرآن وفي الصحيح من الحديث لم تزد على العدد المذكور. وقال غيره: المراد بالأسماء الحسنى في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ما جاء في الحديث: "إن لله تسعة وتسعين اسما" فإن ثبت الخبر الوارد في تعيينها وجب المصير إليه وإلا فليتتبع من الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، فإن التعريف في الأسماء للعهد فلا بد من المعهود فإنه أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها فلا بد من وجود المأمور به قلت: والحوالة على الكتاب العزيز أقرب، وقد حصل بحمد الله تتبعها كما قدمته وبقي أن يعمد إلى ما تكرر لفظا ومعنى من القرآن فيقتصر عليه ويتتبع من الأحاديث الصحيحة تكملة العدة المذكورة فهو نمط آخر من التتبع عسى الله أن يعين عليه بحوله وقوته آمين.
"فصل" وأما الحكمة في القصر على العدد المخصوص فذكر الفخر الرازي عن الأكثر أنه تعبد لا يعقل معناه كما قيل في عدد الصلوات وغيرها، ونقل عن أبي خلف محمد بن عبد الملك الطبري السلمي قال: إنما خص هذا العدد إشارة إلى أن الأسماء لا تؤخذ قياسا. وقيل الحكمة فيه أن معاني الأسماء ولو كانت كثيرة جدا موجودة في التسعة والتسعين المذكورة، وقيل الحكمة فيه أن العدد زوج وفرد، والفرد أفضل من الزوج، ومنتهى الأفراد من غير تكرار تسعة وتسعون لأن مائة وواحدا يتكرر فيه الواحد. وإنما كان الفرد أفضل من الزوج لأن الوتر أفضل من الشفع لأن الوتر من صفة الخالق والشفع من صفة المخلوق، والشفع يحتاج للوتر من غير عكس. وقيل الكمال في العدد حاصل في المائة لأن الأعداد ثلاثة أجناس: آحاد وعشرات ومئات، والألف مبتدأ لآحاد أخر، فأسماء الله مائة استأثر الله منها بواحد وهو الاسم الأعظم فلم يطلع عليه أحد فكأنه قيل مائة لكن واحد منها عند الله وقال غيره: ليس الاسم الذي يكمل المائة مخفيا بل هو الجلالة، وممن جزم بذلك السهيلي فقال: الأسماء الحسنى مائة على عدد درجات الجنة والذي يكمل المائة، الله، ويؤيده قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} فالتسعة والتسعون لله فهي زائدة عليه وبه تكمل المائة. واستدل بهذا الحديث على أن الاسم هو المسمى حكاه أبو القاسم القشيري في شرح أسماء الله الحسنى فقال: في هذا الحديث دليل على أن الاسم هو المسمى، إذ لو كان غيره كانت الأسماء غيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ثم قال: والمخلص من ذلك أن المراد بالاسم

(11/221)


هنا التسمية.وقال الفخر الرازي: المشهور من قول أصحابنا أن الاسم نفس المسمى وغير التسمية، وعند المعتزلة الاسم نفس التسمية وغير المسمى، واختار الغزالي أن الثلاثة أمور متباينة. وهو الحق عندي، لأن الاسم إن كان عبارة عن اللفظ الدال على الشيء بالوضع وكان المسمى عبارة عن نفس ذلك الشيء المسمى فالعلم الضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى وهذا مما لا يمكن وقوع النزاع فيه. وقال أبو العباس القرطبي في "المفهم": الاسم في العرف العام هو الكلمة الدالة على شيء مفرد، وبهذا الاعتبار لا فرق بين الاسم والفعل والحرف إذ كل واحد منها يصدق عليه ذلك، وإنما التفرقة بينها باصطلاح النحاة وليس ذلك من غرض المبحث هنا، وإذا تقرر هذا عرف غلط من قال إن الاسم هو المسمى حقيقة كما زعم بعض الجهلة فألزم أن من قال نار احترق، فلم يقدر على التخلص من ذلك. وأما النحاة فمرادهم بأن الاسم هو المسمى أنه من حيث إنه لا يدل إلا عليه ولا يقصد إلا هو، فإن كان ذلك الاسم من الأسماء الدالة على ذات المسمى دل عليها من غير مزيد أمر آخر، وإن كان من الأسماء الدالة على معنى زائد دل على أن تلك الذات منسوبة إلى ذلك الزائد خاصة دون غيره، وبيان ذلك أنك إذا قلت زيد مثلا فهو يدل على ذات متشخصة في الوجود من غير زيادة ولا نقصان، فإن قلت العالم دل على أن تلك الذات منسوبة للعلم، ومن هذا صح عقلا أن تتكثر الأسماء المختلفة على ذات واحدة ولا توجب تعددا فيها ولا تكثيرا قال: وقد خفي هذا على بعضهم ففر منه هربا من لزوم تعدد في ذات الله تعالى فقال: إن المراد بالاسم التسمية، ورأى أن هذا يخلصه من التكثر، وهذا فرار من غير مفر إلى مفر.وذلك أن التسمية إنما هي وضع الاسم وذكر الاسم فهي نسبة الاسم إلى مسماه؛ فإذا قلنا لفلان تسميتان اقتضى أن له اسمين ننسبهما إليه، فبقي الإلزام على حاله من ارتكاب التعسف. ثم قال القرطبي: وقد يقال الاسم هو المسمى على إرادة أن هذه الكلمة التي هي الاسم تطلق ويراد بها المسمى، كما قيل ذلك في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي سبح ربك فأريد بالاسم المسمى. وقال غيره: التحقيق في ذلك أنك إذا سميت شيئا باسم فالنظر في ثلاثة أشياء: ذلك الاسم وهو اللفظ، ومعناه قبل التسمية، ومعناه بعدها وهو الذات التي أطلق عليها اللفظ، والذات واللفظ متغايران قطعا، والنحاة إنما يطلقونه على اللفظ لأنهم إنما يتكلمون في الألفاظ، وهو غير مسمى قطعا والذات هي المسمى قطعا وليست هي الاسم قطعا، والخلاف في الأمر الثالث وهو معنى اللفظ قبل التلقيب، فالمتكلمون يطلقون الاسم عليه ثم يختلفون في أنه الثالث أو لا، فالخلاف حينئذ إنما هو في الاسم المعنوي هل هو المسمى أو لا، لا في الاسم اللفظي، والنحوي لا يطلق الاسم على غير اللفظ لأنه محط صناعته، والمتكلم لا ينازعه في ذلك ولا يمنع إطلاق اسم المدلول على الدال. وإنما يزيد عليه شيئا آخر دعاه إلى تحقيقه ذكر الأسماء والصفات وإطلاقها على الله تعالى، قال: ومثال ذلك أنك إذا قلت جعفر لقبه أنف الناقة فالنحوي يريد باللقب لفظ أنف الناقة، والمتكلم يريد معناه وهو ما يفهم منه من مدح أو ذم، ولا يمنع ذلك قول النحوي اللقب لفظ يشعر بضعة أو رفعة، لأن اللفظ يشعر بذلك لدلالته على المعنى والمعنى في الحقيقة هو المقتضي للضعة والرفعة، وذات جعفر هي الملقبة عند الفريقين، وبهذا يظهر أن الخلاف في أن الاسم هو المسمى أو غير المسمى خاص بأسماء الأعلام المشتقة. ثم قال القرطبي: فأسماء الله وإن تعددت فلا تعدد في ذاته ولا تركيب، لا محسوسا كالجسميات ولا عقليا كالمحدودات، وإنما تعددت الأسماء بحسب الاعتبارات الزائدة على الذات، ثم هي من جهة دلالتها على أربعة

(11/222)


ضرب: الأول ما يدل على الذات مجردة كالجلالة فإنه يدل عليه دلالة مطلقة غير مقيدة وبه يعرف جميع أسمائه فيقال الرحمن مثلا من أسماء الله ولا يقال الله من أسماء الرحمن، ولهذا كان الأصح أنه اسم علم غير مشتق وليس بصفة. الثاني ما يدل على الصفات الثابتة للذات كالعليم والقدير والسميع والبصير. الثالث ما يدل على إضافة أمر ما إليه كالخالق والرازق. الرابع ما يدل على سلب شيء عنه كالعلي والقدوس. وهذه الأقسام الأربعة منحصرة في النفي والإثبات. واختلف في الأسماء الحسنى هل هي توقيفية بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله أسماء، إلا إذا ورد نص إما في الكتاب أو السنة، فقال الفخر: المشهور عن أصحابنا أبها توقيفية. وقالت المعتزلة والكرامية: إذا دل العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حق الله جاز إطلاقه على الله. وقال القاضي أبو بكر والغزالي: الأسماء توقيفية دون الصفات، قال: وهذا هو المختار. واحتج الغزالي بالاتفاق على أنه لا يجوز لنا أن نسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم لم يسمه به أبوه ولا سمى به نفسه وكذا كل كبير من الخلق، قال: فإذا امتنع ذلك في حق المخلوقين فامتناعه في حق الله أولى. واتفقوا على أنه لا يجوز أن يطلق عليه اسم ولا صفة توهم نقصا ولو ورد ذلك نصا، فلا يقال ماهد ولا زارع ولا فالق ولا نحو ذلك وإن ثبت في قوله: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} ، {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ، {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} " ونحوها، ولا يقال له ماكر ولا بناء وإن ورد {وَمَكَرَ اللَّهُ} {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} وقال أبو القاسم القشيري: الأسماء تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة والإجماع، فكل اسم ورد فيها وجب إطلاقه في وصفه، وما لم يرد لا يجوز ولو صح معناه. وقال أبو إسحاق الزجاج: لا يجوز لأحد أن يدعو الله بما لم يصف به نفسه، والضابط أن كل ما أذن الشرع أن يدعى به سواء كان مشتقا أو غير مشتق فهو من أسمائه، وكل ما جاز أن ينسب إليه سواء كان مما يدخله التأويل أو لا فهو من صفاته ويطلق عليه اسما أيضا. قال الحليمي: الأسماء الحسنى تنقسم إلى العقائد الخمس: الأولى إثبات الباري ردا على المعطلين وهي الحي والباقي والوارث وما في معناها. والثانية توحيده ردا على المشركين وهي الكافي والعلي والقادر ونحوها، والثالثة تنزيهه ردا على المشبهة وهي القدوس والمجيد والمحيط وغيرها. والرابعة اعتقاد أن كل موجود من اختراعه ردا على القول بالعلة والمعلول وهي الخالق والبارئ والمصور والقوي وما يلحق بها. والخامسة أنه مدبر لما اخترع ومصرفه على ما شاء وهو القيوم والعليم والحكيم وشبهها. وقال أبو العباس بن معد: من الأسماء ما يدل على الذات عينا وهو الله، وعلى الذات مع سلب كالقدوس والسلام، ومع إضافة كالعلي العظيم، ومع سلب وإضافة كالملك والعزيز ومنها ما يرجع إلى صفة كالعليم والقدير، ومع إضافة كالحليم والخبير، أو إلى القدرة مع إضافة كالقهار، وإلى الإرادة مع فعل وإضافة كالرحمن الرحيم. وما يرجع إلى صفة فعل كالخالق والبارئ، ومع دلالة على الفعل كالكريم واللطيف. قال: فالأسماء كلها لا تخرج عن هذه العشرة، وليس فيها شيء مترادف إذ لكل اسم خصوصية ما وإن اتفق بعضها مع بعض في أصل المعنى انتهى كلامه. ثم وقفت عليه منتزعا من كلام الفخر الرازي في شرح الأسماء الحسنى. وقال الفخر أيضا: الألفاظ الدالة على الصفات ثلاثة: ثابتة في حق الله قطعا، وممتنعة قطعا، وثابتة لكن مقرونة بكيفية، فالقسم الأول منه ما يجوز ذكره مفردا ومضافا وهو كثير جدا كالقادر والقاهر، ومنه ما يجوز مفردا ولا يجوز مضافا إلا بشرط كالخالق فيجوز خالق ويجوز خالق كل شيء مثلا ولا يجوز خالق القردة، ومنه عكسه يجوز مضافا ولا يجوز مفردا كالمنشئ يجوز منشئ الخلق ولا يجوز منشئ فقط. والقسم الثاني إن ورد السمع بشيء منه أطلق وحمل على

(11/223)


ما يليق به.والقسم الثالث إن ورد السمع بشيء منه أطلق ما ورد منه ولا يقاس عليه ولا يتصرف فيه بالاشتقاق كقوله تعالى: {وَمَكَرَ اللَّهُ} و {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فلا يجوز ماكر ومستهزئ. "تكميل": وإذ قد جرى ذكر الاسم الأعظم في هذه المباحث فليقع الإمام بشيء من الكلام عليه، وقد أنكره قوم كأبي جعفر الطبري وأبي الحسن الأشعري وجماعة بعدهما كأبي حاتم بن حبان والقاضي أبي بكر الباقلاني فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض، ونسب ذلك بعضهم لمالك لكراهيته أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها من السور لئلا يظن أن بعض القرآن أفضل من بعض فيؤذن ذلك باعتقاد نقصان المفضول عن الأفضل، وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم العظيم وأن أسماء الله كلها عظيمة، وعبارة أبي جعفر الطبري: اختلفت الآثار في تعيين الاسم الأعظم، والذي عندي أن الأقوال كلها صحيحة إذ لم يرد في خبر منها أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه، فكأنه يقول كل اسم من أسمائه تعالى يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم كما تقدم. وقال ابن حبان الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك كما أطلق ذلك في القرآن والمراد به. مزيد ثواب القارئ وقيل المراد بالاسم الأعظم كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به مستغرقا بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى فإن من تأتى له ذلك استجيب له. ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق وعن الجنيد وعن غيرهما. وقال آخرون: استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، وأثبته آخرون معينا واضطربوا في ذلك وجملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة عشر قولا: الأول الاسم الأعظم "هو" نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف، واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام معظم حضرته لم يقل له: أنت قلت كذا، وإنما يقول هو يقول تأدبا معه. الثاني "الله" لأنه اسم لم يطلق على غيره، ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى ومن ثم أضيفت إليه. الثالث "الله الرحمن الرحيم" ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة أنها "سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم فلم يفعل، فصلت ودعت: اللهم إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك الرحيم وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم" الحديث وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها "إنه لفي الأسماء التي دعوت بها" . قلت: وسنده ضعيف وفي الاستدلال به نظر لا يخفى. الرابع "الرحمن الرحيم الحي القيوم" لما أخرج الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين" {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وفاتحة سورة آل عمران {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي وحسنه الترمذي وفي نسخة صحيحة: وفيه نظر لأنه من رواية شهر بن حوشب. الخامس "الحي القيوم" أخرج ابن ماجه من حديث أبي أمامة "الاسم الأعظم في ثلاث سور: البقرة وآل عمران وطه" قال القاسم الراوي عن أبي أمامة: التمسته منها فعرفت أنه الحي القيوم، وقواه الفخر الرازي واحتج بأنهما يدلان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما. السادس "الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام الحي القيوم" ورد ذلك مجموعا في حديث أنس عند أحمد والحاكم وأصله عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان. السابع "بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام" أخرجه أبو يعلى من طريق السدي ابن يحيى عن رجل من طيئ وأثنى عليه قال: "كنت أسأل الله أن يريني الاسم الأعظم فأريته مكتوبا في الكواكب في السماء".الثامن. "ذو الجلال والإكرام" أخرج الترمذي من حديث معاذ بن جبل قال: "سمع

(11/224)


النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال، قد استجيب لك فسل" واحتج له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الإلهية، لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب، وفي الإكرام إشارة إلى جميع الإضافات.التاسع "الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث بريدة، وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك. العاشر "رب رب" أخرجه الحاكم من حديث أبي الدرداء وابن عباس بلفظ: "اسم الله الأكبر رب رب" وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة "إذا قال العبد يا رب يا رب، قال الله تعالى: لبيك عبدي سل تعط" رواه مرفوعا وموقوفا.الحادي عشر "دعوة ذي النون" أخرج النسائي والحاكم عن فضالة بن عبيد رفعه: "دعوة ذي النون في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم قط إلا استجاب الله له". الثاني عشر نقل الفخر الرازي عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه الاسم الأعظم فرأى في النوم "هو الله الله الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم". الثالث عشر هو مخفي في الأسماء الحسنى، ويؤيده حديث عائشة المتقدم "لما دعت ببعض الأسماء وبالأسماء الحسنى. فقال لها صلى الله عليه وسلم: إنه لفي الأسماء التي دعوت بها". الرابع عشر "كلمة التوحيد" نقله عياض تقدم قبل هذا. واستدل بحديث الباب على انعقاد اليمين بكل اسم ورد في القرآن أو الحديث الثابت وهو وجه غريب حكاه ابن كج من الشافعية؛ ومنع الأكثر لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفا فليحلف بالله" وأجيب بأن المراد الذات لا خصوص هذا اللفظ، وإلى هذا الإطلاق ذهب الحنفية والمالكية وابن حزم وحكاه ابن كج أيضا، والمعروف عند الشافعية والحنابلة وغيرهم من العلماء أن الأسماء ثلاثة أقسام: أحدها ما يختص بالله كالجلالة والرحمن ورب العالمين فهذا ينعقد به اليمين إذا أطلق ولو نوى به غير الله. ثانيها ما يطلق عليه وعلى غيره لكن الغالب إطلاقه عليه وأنه يقيد في حق غيره بضرب من التقييد كالجبار والحق والرب ونحوها فالحلف به يمين، فإن نوى به غير الله فليس بيمين. ثالثها ما يطلق في حق الله وفي حق غيره على حد سواء كالحي والمؤمن، فإن نوى به غير الله أو أطلق فليس بيمين، وإن نوى الله تعالى فوجهان صحح النووي أنه يمين وكذا في المحرر. وخالف في الشرحين فصحح أنه ليس بيمين. واختلف الحنابلة فقال القاضي أبو يعلى ليس بيمين وقال المجد ابن تيمية في المحرر إنها يمين. قوله: "من حفظها" هكذا رواه علي بن المديني ووافقه الحميدي وكذا عمرو الناقد عند مسلم. وقال ابن أبي عمر عن سفيان "من أحصاها" أخرجه مسلم والإسماعيلي من طريقه، وكذا قال شعبة عن أبي الزناد كما تقدم في الشروط ويأتي في التوحيد، قال الخطابي: الإحصاء في مثل هذا يحتمل وجوها: أحدها أن يعدها حتى يستوفيها يريد أنه لا يقتصر على بعضها لكن يدعو الله بها كلها ويثني عليه بجميعها فيستوجب الموعود عليها من الثواب. ثانيها المراد بالإحصاء الإطاقة كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} ومنه حديث: "استقيموا ولن تحصوا" أي لن تبلغوا كنه الاستقامة، والمعنى من أطاق القيام بحق هذه الأسماء والعمل بمقتضاها وهو أن يعتبر معانيها فيلزم نفسه بواجبها فإذا قال: "الرزاق" وثق بالرزق وكذا سائر الأسماء. ثالثها المراد بالإحصاء الإحاطة بمعانيها من قول العرب فلان ذو حصاة أي ذو عقل ومعرفة انتهى ملخصا. وقال القرطبي: المرجو من كرم الله تعالى أن من حصل له إحصاء هذه الأسماء على إحدى هذه المراتب مع صحة النية أن يدخله الله الجنة، وهذه المراتب الثلاثة للسابقين والصديقين وأصحاب اليمين. وقال غيره: معنى أحصاها عرفها، لأن العارف بها

(11/225)


لا يكون إلا مؤمنا والمؤمن يدخل الجنة.وقيل معناه عدها معتقدا، لأن الدهري لا يعترف بالخالق. والفلسفي لا يعترف بالقادر وقيل أحصاها يريد بها وجه الله وإعظامه. وقيل معنى أحصاها عمل بها، فإذا قال: "الحكيم" مثلا سلم جميع أوامره لأن جميعها على مقتضى الحكمة وإذا قال: "القدوس" استحضر كونه منزها عن جميع النقائص، وهذا اختيار أبي الوفا بن عقيل. وقال ابن بطال: طريق العمل بها أن الذي يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم فإن الله يحب أن يرى حلاها على عبده، فليمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، وما كان يختص بالله تعالى كالجبار والعظيم فيجب على العبد الإقرار بها والخضوع لها وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية والرهبة، فهذا معنى أحصاها وحفظها، ويؤيده أن من حفظها عدا وأحصاها سردا ولم يعمل بها يكون كمن حفظ القرآن ولم يعمل بما فيه، وقد ثبت الخبر في الخوارج أنهم يقرءون القرآن ولا يجاوز حناجرهم. قلت: والذي ذكره مقام الكمال، ولا يلزم من ذلك أن لا يرد الثواب لمن حفظها وتعبد بتلاوتها والدعاء بها وإن كان متلبسا بالمعاصي كما يقع مثل ذلك في قارئ القرآن سواء، فإن ا القارئ ولو كان متلبسا بمعصية غير ما يتعلق بالقراءة يثاب على تلاوته عند أهل السنة، فليس ما بحثه ابن بطال بدافع لقول من قال إن المراد حفظها سردا والله أعلم. وقال النووي قال البخاري وغيره من المحققين: معناه حفظها، وهذا هو الأظهر لثبوته نصا في الخبر. وقال في "الأذكار" هو قول الأكثرين. وقال ابن الجوزي: لما ثبت في بعض طرق الحديث: "من حفظها" بدل "أحصاها" اخترنا أن المراد العد أي من عدها ليستوفيها حفظا. قلت: وفيه نظر، لأنه لا يلزم من مجيئه بلفظ حفظها تعين السرد عن ظهر قلب، بل يحتمل الحفظ المعنوي. وقيل المراد بالحفظ حفظ القرآن لكونه مستوفيا لها، فمن تلاه ودعا بما فيه من الأسماء حصل المقصود. قال النووي: وهذا ضعيف، وقيل المراد من تتبعها من القرآن. وقال ابن عطية: معنى أحصاها عدها وحفظها، ويتضمن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والرغبة فيها والاعتبار بمعانيها. وقال الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدها فقط لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العمل بها. وقال أبو نعيم الأصبهاني: الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو التعداد، وإنما هو العمل والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها. وقال أبو عمر الطلمنكي من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المعرفة بالأسماء والصفات وما تتضمن من الفوائد وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالم لمعاني الأسماء ولا مستفيدا بذكرها ما تدل عليه من المعاني. وقال أبو العباس بن معد: يحتمل الإحصاء معنيين أحدهما أن المراد تتبعها من الكتاب والسنة حتى يحصل عليها، والثاني أن المراد أن يحفظها بعد أن يجدها محصاة. قال: ويؤيده أنه ورد في بعض طرقه: "من حفظها" قال: ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أطلق أولا قوله: "من أحصاها دخل الجنة" ووكل العلماء إلى البحث عنها ثم يسر على الأمة الأمر فألقاها إليهم محصاة وقال: "من حفظها دخل الجنة" قلت: وهذا الاحتمال بعيد جدا لأنه يتوقف على أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث بهذا الحديث مرتين إحداهما قبل الأخرى، ومن أين يثبت ذاك ومخرج اللفظين واحد؟ وهو عن أبي هريرة، والاختلاف عن بعض للرواة عنه في أي اللفظين قاله. قال: وللإحصاء معان أخرى، منها الإحصاء الفقهي وهو العلم بمعانيها من اللغة وتنزيهها على الوجوه التي تحملها الشريعة ومنها الإحصاء النظري وهو أن يعلم معنى كل اسم بالنظر في الصيغة ويستدل عليه بأثره الساري

(11/226)


في الوجود فلا تمر على موجود إلا ويظهر لك فيه معنى من معاني الأسماء وتعرف خواص بعضها وموقع القيد ومقتضى اسم، قال: وهذا أرفع مراتب الإحصاء، قال: وتمام ذلك أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر والباطن بما يقتضيه كل اسم، من الأسماء فيعبد الله بما يستحقه من الصفات المقدسة التي وجبت لذاته، قال فمن حصلت له جميع مراتب الإحصاء حصل على الغاية، ومن منح منحي من مناحيها فثوابه بقدر ما نال والله أعلم. "تنبيه": وقع في تفسير ابن مردويه وعند أبي نعيم من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة بدل قوله من أحصاها دخل الجنة "من دعا بها دخل الجنة" وفي سنده حصين بن مخارق وهو ضعيف، وزاد خليد بن دعلج في روايته التي تقدمت الإشارة إليها "وكلها في القرآن" وكذا وقع من قول سعيد بن عبد العزيز، وكذا وقع في حديث ابن عباس وابن عمر معا بلفظ: "من أحصاها دخل الجنة وهي في القرآن "وسيأتي في كتاب التوحيد شرح معاني كثير من الأسماء حيث ذكرها المصنف في تراجمه إن شاء الله تعالى. وقوله: "دخل الجنة" عبر بالماضي تحقيقا لوقوعه وتنبيها على أنه وإن لم يقع فهو في حكم الواقع لأنه كائن لا محالة. قوله: "وهو وتر يحب الوتر" في رواية مسلم: "والله وتر يحب الوتر" وفي رواية شعيب بن أبي حمزة "أنه وتر يحب الوتر" ويجوز فتح الواو وكسرها، والوتر الفرد ومعناه في حق الله أنه الواحد الذي لا نظير له في ذاته ولا انقسام، وقوله: "يحب الوتر" قال عياض معناه أن الوتر في العدد فضلا على الشفع في أسمائه لكونه دالا على الوحدانية في صفاته، وتعقب بأنه لو كان المراد به الدلالة على الوحدانية لما تعددت الأسماء، بل المراد أن الله يحب الوتر من كل شيء وأن تعدد ما فيه الوتر، وقيل هو منصرف إلى من يعبد الله بالوحدانية والتفرد على سبيل الإخلاص، وقيل لأنه أمر بالوتر في كثير من الأعمال والطاعات كما في الصلوات الخمس ووتر الليل وإعداد الطهارة وتكفين الميت وفي كثير من المخلوقات كالسماوات والأرض انتهى ملخصا. وقال القرطبي: الظاهر أن الوتر هنا للجنس، إذ لا معهود جرى ذكره حتى يحمل عليه فيكون معناه أنه وتر يحب كل وتر شرعه، ومعنى محبته له أنه أمر به وأثاب عليه، ويصلح ذلك العموم ما خلقه وترا من مخلوقاته أو معنى محبته له أنه خصصه بذلك لحكمة يعلمها، ويحتمل أن يريد بذلك وترا بعينه وإن لم يجر له ذكر. ثم اختلف هؤلاء فقيل: المراد صلاة الوتر، وقيل صلاة الجمعة، وقيل يوم الجمعة، وقيل يوم عرفة، وقيل آدم، وقيل غير ذلك. قال: والأشبه ما تقدم من حمله على العموم. قال: ويظهر لي وجه آخر وهو أن الوتر يراد به التوحيد فيكون المعنى أن الله في ذاته وكماله وأفعاله واحد ويحب التوحيد، أي أن يوحد ويعتقد انفراده بالألوهية دون خلقه فيلتئم أول الحديث وآخره. والله أعلم. قلت: لعل من حمله على صلاة الوتر استند إلى حديث علي "أن الوتر ليس بحتم كالمكتوبة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتر ثم قال أوتروا يا أهل القرآن فإن الله وتر يحب الوتر" أخرجوه في السنن الأربعة وصححه ابن خزيمة واللفظ له، فعلى هذا التأويل تكون اللام في هذا الخبر للعهد لتقدم ذكر الوتر المأمور به، لكن لا يلزم أن يحمل الحديث الأخر على هذا بل العموم فيه أظهر، كما أن العموم في حديث على محتمل أيضا. وقد طعن حفظ ألفاظ تعد في أيسر مدة؟ وتعقب بأن الشرط المذكور ليس مطردا ولا حصر فيه، بل قد تحصل الجنة بغير ذلك كما ورد في كثير من الأعمال غير الجهاد أن فاعله يدخله الجنة. وأما دعوى أن حفظها يحصل في أيسر مدة فإنما يرد على من حمل الحفظ والإحصاء على معنى أن يسردها عن ظهر

(11/227)


قلب، فأما من أوله على بعض الوجوه المتقدمة فإنه يكون في غاية المشقة، ويمكن الجواب عن الأول بأن الفضل واسع.

(11/228)


69 - باب الْمَوْعِظَةِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ
6411- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ "قَالَ كُنَّا نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللَّهِ إِذْ جَاءَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَقُلْنَا أَلاَ تَجْلِسُ قَالَ لاَ وَلَكِنْ أَدْخُلُ فَأُخْرِجُ إِلَيْكُمْ صَاحِبَكُمْ وَإِلاَ جِئْتُ أَنَا فَجَلَسْتُ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ أَمَا إِنِّي أَخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا"
قوله: "باب الموعظة ساعة بعد ساعة" مناسبة هذا الباب لكتاب الدعوات أن الموعظة يخالطها غالبا التذكير بالله، وقد تقدم أن الذكر من جملة الدعاء، وختم به أبواب الدعوات التي عقبها بكتاب الرقاق لأخذه من كل منهما شوبا. قوله: "حدثني شقيق" هو أبو وائل، ووقع كذلك في كتاب العلم من طريق الثوري عن الأعمش، وقد ذكرت هناك ما يتعلق بسماع الأعمش له من أبي وائل. قوله: "كنا ننتظر عبد الله" يعني ابن مسعود. قوله: "إذ جاء يزيد بن معاوية" في رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن شقيق "كنا جلوسا عند باب عبد الله ننتظره فمر بنا يزيد بن معاوية النخعي". قلت: وهو كوفي تابعي ثقة عابد، ذكر العجلي أنه من طبقة الربيع بن خثيم، وذكر البخاري في تاريخه أنه قتل غازيا بفارس كأنه في خلافة عثمان، وليس له في الصحيحين ذكر إلا في هذا الموضع، ولا أحفظ له رواية، وهو نخعي كما وقع عند مسلم، وفيه رد على ابن التين في حكايته أنه عبسي بالموحدة. قوله: "قلت ألا تجلس؟ قال: لا، ولكن أدخل فأخرج إليكم صاحبكم" في رواية أبي معاوية "فقلنا أعلمه بمكاننا فدخل عليه". قوله: "أما إني" بتخفيف الميم "أخبر" بضم أوله وفتح الموحدة على البناء للمجهول، وقد تقدم في العلم أن هذا الكلام قاله ابن مسعود جواب قولهم وددنا أنك لو ذكرتنا كل يوم، وأنه كان يذكرهم كل خميس، وزاد فيه أن ابن مسعود قال: إني أكره أن أملكم. قوله: "كان يتخولنا بالموعظة" تقدم البحث فيه وبيان معناه وقول من حدث به بالنون بدل اللام من "يتخولنا". قال الخطابي: المراد أنه كان يراعي الأوقات في تعليمهم ووعظهم ولا يفعله كل يوم خشية الملل، والتخول التعهد، وقيل إن بعضهم رواه بالحاء المهملة وفسره بأن المراد يتفقد أحوالهم التي يحصل لهم فيها النشاط للموعظة فيعظهم فيها ولا يكثر عليهم لئلا يملوا، حكى ذلك الطيبي ثم قال: ولكن الرواية في الصحاح بالخاء المعجمة. قوله: "في الأيام" يعني فيذكرهم أياما ويتركهم أياما، فقد ترجم له في كتاب العلم "باب من جعل لأهل العلم أياما معلومة".قوله: "كراهية السآمة علينا" أي أن تقع منا السامة، وقد تقدم توجيه "علينا" في كتاب العلم وأن السآمة ضمنت معنى المشقة فعديت بعلي.وفيه رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وحسن التوصل إلى تعليمهم وتفهيمهم ليأخذوا عنه بنشاط لا عن ضجر ولا ملل، ويقتدى به في ذلك، فإن التعليم بالتدريج أخف مؤنة وأدعى إلى الثبات من أخذه بالكد والمغالبة. وفيه منقبة لابن مسعود لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم في القول والعمل ومحافظته على ذلك.

(11/228)


"خاتمة": اشتمل كتاب الدعوات من الأحاديث المرفوعة على مائة وخمسة وأربعين حديثا، منها أحد وأربعون معلقة والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى مائة وأحد وعشرون حديثا والبقية خالصة وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث شداد في سيد الاستغفار وحديث أبي هريرة في عدد الاستغفار كل يوم وحديث حذيفة في القول عند النوم وحديث أبي ذر في ذلك وحديث أبي الدرداء في من شهد أن لا إله إلا الله وحديث ابن عباس في اجتناب السجع في الدعاء وحديث جابر في الاستخارة وحديث أبي أيوب في التهليل، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين تسعة آثار. والله أعلم.

(11/229)


كتاب الرقاق
باب ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
81- كِتَاب الرِّقَاقِ
1 – بَاب ما جاء في الرقاق وأن لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الْآخِرَةِ
6412- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"
قَالَ عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ"
6413- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الْآخِرَهْ فَأَصْلِحْ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ"
6414- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ "حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَحْفِرُ وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ وَيَمُرُّ بِنَا فَقَالَ اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ تَابَعَهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ"
قوله "بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الرقاق الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة" كذا لأبي ذر عن السرخسي وسقط عنده عن المستملي والكشميهني: "الصحة والفراغ" ومثله للنسفي، وكذا للإسماعيلي لكن قال: "وأن لا عيش" كذا لأبي الوقت لكن قال: "باب لا عيش" وفي رواية كريمة عن الكشميهني: "ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش، الآخرة" قال مغلطاي: عبر جماعة من العلماء في كتبهم بالرقائق. قلت: منهم ابن المبارك والنسائي في "الكبرى" وروايته كذلك في نسخة معتمدة من رواية النسفي عن البخاري والمعنى واحد والرقاق والرقائق جمع رقيقة وسميت هذه الأحاديث بذلك لأن في كل منها ما يحدث في القلب رقة. قال أهل اللغة: الرقة الرحمة وضد الغلظ، ويقال للكثير الحياء رق وجهه استحياء. وقال الراغب: متى كانت الرقة في جسم فضدها

(11/229)


الصفاقة كثوب رقيق وثوب صفيق، ومتى كانت في نفس فضدها القسوة كرقيق القلب وقاسي القلب. وقال الجوهري: وترقيق الكلام تحسينه. قوله: "أخبرنا المكي" كذا للأكثر بالألف واللام في أوله، وهو اسم بلفظ النسب، وهو من الطبقة العليا من شيوخ البخاري، وقد أخرج أحمد عنه هذا الحديث بعينه. قوله: "هو ابن أبي هند" الضمير لسعيد لا لعبد الله، وهو من تفسير المصنف، ووقع في رواية أحمد عن مكي ووكيع جميعا "حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند" وعبد الله المذكور من صغار التابعين لأنه لقي بعض صغار الصحابة وهو أبو أمامة بن سهل. قوله: "عن أبيه" في رواية يحيى القطان عن عبد الله بن سعيد" حدثني أبي "أ خرجه الإسماعيلي قوله: "عن ابن عباس" في الرواية التي بعدها "سمعت ابن عباس". قوله: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" كذا لسائر الرواة، لكن عند أحمد "الفراغ والصحة" وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق إسماعيل بن جعفر وابن المبارك ووكيع كلهم عن عبد الله ابن سعيد بسنده "الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس" ولم يبين لمن اللفظ، وأخرجه الدارمي عن مكي بن إبراهيم شيخ البخاري فيه كذلك بزيادة ولفظه: "إن الصحة والفراغ نعمتان من نعم الله" والباقي سواء، وهذه الزيادة وهي قوله: "من نعم الله" وقعت في رواية ابن عدي المشار إليها، وقوله: "نعمتان" تثنية نعمة وهي الحالة الحسنة، وقيل هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان للغير، والغبن بالسكون وبالتحريك. وقال الجوهري: هو في البيع بالسكون وفي الرأي بالتحريك، وعلى هذا فيصح كل منهما في هذا الخبر فإن من لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبن لكونه باعهما ببخس ولم يحمد رأيه في ذلك قال ابن بطال: معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغا حتى يكون مكفيا صحيح البدن فمن حصل له ذبك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه، فمن فرط في ذلك فهو المغبون. وأشار بقوله: "كثير من الناس" إلى أن الذي يوفق لذلك قليل. وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل:
يسر الفتى طول السلامة والبقا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل
يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل
وقال الطيبي: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للمكلف مثلا بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس وعدو الدين، ليربح خيري الدنيا والآخرة وقريب منه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الآيات. وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح. وقوله في الحديث: "مغبون فيهما كثير من الناس" كقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية. وقال القاضي وأبو بكر بن العربي: اختلف

(11/230)


في أول نعمة الله على العبد فقيل الإيمان، وقيل الحياة، وقيل الصحة، والأول أولى فإنه نعمة مطلقة، وأما الحياة والصحة فإنهما نعمة دنيوية، ولا تكون نعمة حقيقة إلا إذا صاحبت الإيمان وحينئذ يغبن فيها كثير من الناس أي يذهب ربحهم أو ينقص، فمن استرسل مع نفسه الأمارة بالسوء الخالدة إلى الراحة فترك المحافظة على الحدود والمواظبة على الطاعة فقد غبن، وكذلك إذا كان فارغا فإن المشغول قد يكون له معذرة بخلاف الفارغ فإنه يرتفع عنه المعذرة وتقوم عليه الحجة. قوله: "وقال عباس العنبري" هو بالمهملة والموحدة ابن عبد العظيم أحد الحفاظ، بصري من أوساط شيوخ البخاري، وقد أخرجه ابن ماجه عن العباس المذكور فقال في كتاب الزهد من السنن في "باب الحكمة منه": حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري فذكره سواء، قال الحاكم: هذا الحديث صدر به ابن المبارك كتابه فأخرجه عن عبد الله بن سعيد بهذا الإسناد. قلت: وأخرجه الترمذي والنسائي من طريقه قال الترمذي رواه غير واحد عن عبد الله بن سعيد فرفعوه، ووقفه بعضهم على ابن عباس وفي الباب عن أنس انتهى وأخرجه الإسماعيلي من طرق عن ابن المبارك، ثم من وجهين عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن سعيد، ثم من طريق بندار عن يحيى بن سعيد القطان عن عبد الله به ثم قال: قال بندار ربما حدث به يحيى بن سعيد ولم يرفعه. وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا. قوله: "عن معاوية بن قرة" أي ابن إياس المزني، ولقرة صحبة، ووقع في رواية آدم في فضائل الأنصار عن شعبة "حدثنا أبو إياس معاوية بن قرة" وإياس هو القاضي المشهور بالذكاء. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة" في رواية المستملي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال". قوله: "فأصلح الأنصار والمهاجرة" تقدم في فضل الأنصار بيان الاختلاف على شعبة في لفظه وأنه عطف عليه رواية شعبة عن قتادة عن أنس وزيادة من زاد فيه أن ذلك كان يوم الخندق فطابق حديث سهل بن سعد المذكور في الذي بعده وزيادة من زاد فيه أنهم كانوا يقولون "نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا فأجابهم بذلك" وتقدم في غزوة الخندق من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس أتم من ذلك كله، وفيه من طريق حميد عن أنس أن ذلك كان في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم. فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال ذلك. قوله: "الفضيل بن سليمان" هو بالتصغير وهو النميري، صدوق في حفظه شيء. قوله: "وهو يحفر ونحن ننقل التراب" تقدم في فضل الأنصار من رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل "خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يحفرون الخندق" الحديث، ويجمع بأن منهم من كان يحفر مع النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان ينقل التراب. قوله: "وبصر بنا" بفتح أوله وضم الصاد المهملة. وفي رواية الكشميهني: "ويمر بنا" من المرور. قوله: "فاغفر" تقدم في غزوة الخندق بلفظ: "فاغفر للمهاجرين والأنصار" وأن الألفاظ المنقولة في ذلك بعضها موزون أكثرها غير موزون، ويمكن رده إلى الوزن بضرب من الزحاف، وهو غير مقصود إليه بالوزن فلا يدخل هو في الشعر. وفي هذين الحديثين إشارة إلى تحقير عيش الدنيا لما يعرض له من التكدير وسرعة الفناء. قال ابن المنير مناسبة إيراد حديث أنس وسهل مع حديث ابن عباس الذي تضمنته الترجمة أن الناس قد غبن كثير منهم في الصحة والفراغ لإيثارهم لعيش الدنيا على عيش الآخرة، فأراد الإشارة إلى أن العيش الذي اشتغلوا به ليس بشيء بل العيش الذي شغلوا عنه هو المطلوب، ومن فاته فهو المغبون.

(11/231)


2 - باب مَثَلِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى "أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ

(11/231)


وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}
6415- حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه "عن سهل قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها, ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها"
قوله:" باب مثل الدنيا في الآخرة" هذه الترجمة بعض لفظ حديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طريق قيس بن أبي حازم عن المستورد بن شداد رفعه: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع" وسنده إلى التابعي على شرط البخاري لأنه لم يخرج للمستورد، واقتصر على ذكر حديث سهل ابن سعد "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" فإن قدر السوط من الجنة إذا كان خيرا من الدنيا فيكون الذي يساويها مما في الجنة دون قدر السوط فيوافق ما دل عليه حديث المستورد، وقد تقدم شرح قوله: "غدوة في سبيل الله" في كتاب الجهاد. قال القرطبي: هذا نحو قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} وهذا بالنسبة إلى ذاتها وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا قدر لها ولا خطر، وإنما أورد ذلك على سبيل التمثيل والتقريب وإلا فلا نسبة بين المتناهي وبين ما لا يتناهى، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "فلينظر بم يرجع" ووجهه أن القدر الذي يتعلق بالإصبع من ماء البحر لا قدر له ولا خطر وكذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة والحاصل أن الدنيا كالماء الذي يعلق، في الأصبع من البحر والآخرة كسائر البحر. "تنبيه": اختلف في ياء "يرجع" فذكر الرامهرمزي أن أهل الكوفة رووه بالمثناة قال فجعلوا الفعل للإصبع وهي مؤنثة، ورواه أهل البصرة بالتحتانية قال فجعلوا الفعل لليم. قلت: أو للواضع. قوله: "وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولهو - إلى قوله: مَتَاعُ الْغُرُورِ} كذا في رواية أبي ذر، وساق في رواية كريمة الآية كلها، وعلى هذا فتفتح الهمزة في أنما محافظة على لفظ التلاوة، فإن أول الآية {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} إلخ" ولولا ما وقع من سياق بقية الآية لجوزت أن يكون المصنف أراد الآية التي في القتال وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} الآية. قال ابن عطية: المراد بالحياة الدنيا في هذه الآية ما يختص بدار الدنيا من تصرف، وأما ما كان فيها من الطاعة وما لا بد منه مما يقيم الأود ويعين على الطاعة فليس مرادا هنا، والزينة ما يتزين به مما هو خارج عن ذات الشيء مما يحسن به الشيء، والتفاخر يقع بالنسب غالبا كعادة العرب، والتكاثر ذكر متعلقه في الآية، وصورة هذا المثال أن المرء يولد فينشأ فيقوى فيكسب المال والولد ويرأس، ثم يأخذ بعد ذلك في الانحطاط فيشيب ويضعف ويسقم وتصيبه النوائب من مرض ونقص في مال وعز، ثم يموت فيضمحل أمره ويصير ماله لغيره وتغير رسومه، فحاله كحال أرض أصابها مطر فنبت عليها العشب نباتا معجبا أنيقا ثم هاج أي يبس وأصفر ثم تحطم وتفرق إلى أن اضمحل، قال: واختلف في المراد بالكفار، فقيل: جمع كافر بالله لأنهما أشد تعظيما للدنيا وإعجابا بمحاسنها. وقيل: المراد بهم الزراع مأخوذ من كفر الحب في الأرض أي ستره بها، وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر

(11/232)


بالنبات فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة، انتهى ملخصا. وقوله في آخر الآية {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} قال الفراء: لا يوقف على شديد لأن تقدير الكلام أنها إما عذاب شديد وإما مغفرة من الله ورضوان. واستحسن غيره الوقف على شديد لما فيه من المبالغة في التنفير من الدنيا والتقدير للكافرين، ويبتدئ {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أي للمؤمنين. وقيل: إن قوله: "وفي الآخرة" قسيم لقوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} والأول صفة الدنيا وهي اللعب وسائر ما ذكر، والثاني صفة الآخرة وهي عذاب شديد لمن عصى ومغفرة ورضوان لمن أطاع. وأما قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} إلخ" فهو تأكيد لما سبق أي تغر من كن إليها، وأما التقى فهي له بلاغ إلى الآخرة. ولما أورد الغزالي حديث المستورد في الإحياء عقبه بأن قال ما ملخصه: أعلم أن مثل أهل الدنيا في غفلتهم كمثل قوم ركبوا سفينة فانتهوا إلى جزيرة معشبة فخرجوا لقضاء الحاجة فحذرهم الملاح من التأخر فيها وأمرهم أن يقيموا بقدر حاجتهم وحذرهم أن يقلع بالسفينة ويتركهم، فبادر فرجع سريعا فصادف أحسن الأمكنة وأوسعها فاستقر فيه، وانقسم الباقون فرقا الأولى استغرقت في النظر إلى أزهارها المونقة وأنهارها المطردة وثمارها الطيبة وجواهرها ومعادنها، ثم استيقظ فبادر إلى السفينة فلقي مكانا دون الأول فنجا في الجملة، الثانية كالأولى لكنهما أكبت على تلك الجواهر والثمار والأزهار ولم تسمح نفسه لتركها فحمل منها ما قدر عليه فتشاغل بجمعه وحمله فوصل إلى السفينة فوجد مكانا أضيق من الأول ولم تسمح نفسه برمي ما استصحبه فصار مثقلا به، ثم لم يلبث أن ذبلت الأزهار ويبست الثمار وهاجت الرياح فلم يجد بدا من إلقاء ما استصحبه حتى نجا بحشاشة نفسه، الثالثة تولجت في الغياض غفلت عن وصية الملاح ثم سمعوا نداءه بالرحيل فمرت فوجدت السفينة سارت فبقيت بما استصحبت في البر حتى هلكت، والرابعة اشتدت بها الغفلة عن سماع النداء وسارت السفينة فتقسموا فرقا منهم من افترسته السباع ومنهم من تاه على وجهه حتى هلك ومنهم من مات جوعا ومنهم من نهشته الحيات، قال: فهذا مثل أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة وغفلتهم عن عاقبة أمرهم. ثم ختم بأن قال: وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن يغتر بالأحجار من الذهب والفضة والهشيم من الأزهار والثمار وهو لا يصحبه شيء من ذلك بعد الموت. والله المستعان.

(11/233)


3 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ
6416- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو المُنْذِرِ الطُّفَاوِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ قَالَ حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: كن في الدنيا كأنك غريب" هكذا ترجم ببعض الخبر إشارة إلى ثبوت رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن من رواه موقوفا قصر فيه. قوله: "عن الأعمش حدثني مجاهد" أنكر العقيلي هذه اللفظة وهي "حدثني مجاهد" وقال: إنما رواه الأعمش بصيغة "عن مجاهد" كذلك رواه أصحاب الأعمش عنه وكذا

(11/233)


أصحاب الطفاوي عنه، وتفرد ابن المديني بالتصريح قال ولم يسمعه الأعمش عن مجاهد وإنما من ليث بن أبي سليم عنه فدلسه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق الحسن بن قزعة "حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن الأعمش عن مجاهد" بالعنعنة وقال: قال الحسن بن قزعة ما سألني يحيى بن معين إلا عن هذا الحديث، وأخرجه ابن حبان في "روضة العقلاء" من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي عن الطفاوي بالعنعنة أيضا وقال: مكثت مدة أظن أن الأعمش دلسه عن مجاهد وإنما من ليث حتى رأيت علي بن المديني رواه عن الطفاوي فصرح بالتحديث، يشير إلى رواية البخاري التي في الباب. قلت: وقد أخرجه أحمد والترمذي من رواية سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وأخرجه ابن عدي في الكامل من طريق حماد بن شعيب عن أبي يحيى القتات عن مجاهد، وليث وأبو يحيى ضعيفان والعمدة على طريق الأعمش، وللحديث طريق أخرى أخرجه النسائي من رواية عبدة بن أبي لبابة عن ابن عمر مرفوعا، وهذا مما يقوي الحديث المذكور لأن رواته من رجال الصحيح، وإن كان اختلف في سماع عبدة من ابن عمر. قوله: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي" فيه تعين ما أبهم في رواية ليث عند الترمذي "أخذ ببعض جسدي" والمنكب بكسر الكاف مجمع العضد والكتف، وضبط في بعض الأصول بالتثنية. قوله: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" قال الطيبي: ليست أو للشك بل للتخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى بل، فشبه الناسك السالك بالغريب الذي ليس له مسكن يأويه ولا مسكن يسكنه، ثم ترقى وأضرب عنه إلى عابر السبيل لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق فإن من شأنه أن لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة، ومن ثم عقبه بقوله: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح إلخ" وبقوله: "وعد نفسك في أهل القبور" والمعنى استمر سائرا ولا تفتر، فإنك إن قصرت انقطعت وهلكت في تلك الأودية، وهذا معنى المشبه به، وأما المشبه فهو قوله: "وخذ من صحتك لمرضك" أي أن العمر لا يخلو عن صحة ومرض، فإذا كنت صحيحا فسر سير القصد وزد عليه بقدر قوتك ما دامت فيك قوة بحيث تكون ما بك من تلك الزيادة قائما مقام ما لعله يفوت حالة المرض والضعف، زاد عبدة في روايته عن ابن عمر "اعبد الله كأنك تراه وكن في الدنيا" الحديث، وزاد ليث في روايته: "وعد نفسك في أهل القبور" وفي رواية سعيد بن منصور "وكأنك عابر سبيل" وقال ابن بطال: لما كان الغريب قليل الانبساط إلى الناس بل هو مستوحش منهم إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه مستأنس به فهو دليل في نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته عليه وتخفيفه من الأثقال غير مثبت بما يمنعه من قطع سفره معه زاده وراحلته يبلغانه إلى بغيته من قصده شبهه بهما، وفي ذلك إشارة إلى إيثار الزهد في الدنيا وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره فكذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل. وقال غيره: هذا الحديث أصل في الحث على الفراغ عن الدنيا والزهد فيها والاحتقار لها والقناعة فيها بالبلغة. وقال النووي: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنا ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه. وقال غيره: عابر السبيل هو المار على الطريق طالبا وطنه، فالمرء في الدنيا كعبد أرسله سيده في حاجة إلى غير بلده، فشأنه أن يبادر بفعل ما أرسل فيه ثم يعود إلى وطنه ولا يتعلق بشيء غير ما هو فيه وقال غيره: المراد أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا منزلة الغريب فلا يعلق قلبه بشيء، من بلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع

(11/234)


إليه، ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجته وجهازه للرجوع إلى وطنه، وهذا شأن الغريب. أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكان بعينه بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة. واستشكل عطف عابر السبيل على الغريب وقد تقدم جواب الطيبي، وأجاب الكرماني بأنه من عطف العام على الخاص، وفيه نوع من الترقي لأن تعلقاته أقل من تعلقات الغريب المقيم. قوله: "وكان ابن عمر يقول" في رواية ليث "وقال لي ابن عمر إذا أصبحت" الحديث. قوله: "وخذ من صحتك" أي زمن صحتك "لمرضك" في رواية ليث "لسقمك" والمعنى اشتغل في الصحة بالطاعة بحيث لو حصل تقصير في المرض لا يجبر بذلك. قوله: "ومن حياتك لموتك" في رواية ليث "قبل موتك" وزاد: "فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا" أي هل يقال له شقي أو سعيد، ولم يرد اسمه الخاص به فإنه لا يتغير. وقيل المراد هل هو حي أو ميت. وهذا القدر الموقوف من هذا تقدم محصل معناه في حديث ابن عباس أول كتاب الرقاق، وجاء معناه من حديث ابن عباس أيضا مرفوعا أخرجه الحاكم "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" وأخرجه ابن المبارك في الزهد بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون، قال بعض العلماء: كلام ابن عمر منتزع من الحديث المرفوع، وهو متضمن لنهاية قصر الأمل، وأن العاقل ينبغي له إذا أمسى لا ينتظر الصباح وإذا أصبح لا ينتظر المساء، بل يظن أن أجله مدركه قبل ذلك. قال: وقوله: "خذ من صحتك إلخ" أي اعمل ما تلقى نفعه بعد موتك، وبادر أيام صحتك بالعمل الصالح فإن المرض قد يطرأ فيمتنع من العمل فيخشى على من فرط في ذلك أن يصل إلى المعاد بغير زاد. ولا يعارض ذلك الحديث الماضي في الصحيح "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحا مقيما" لأنه ورد في حق من يعمل، والتحذير الذي في حديث ابن عمر في حق من لم يعمل شيئا، فإنه إذا مرض ندم على تركه العمل، وعجز لمرضه عن العمل فلا يفيده الندم. وفي الحديث مس المعلم أعضاء المتعلم عند التعليم والموعوظ عند الموعظة وذلك للتأنيس والتنبيه، ولا يفعل ذلك غالبا إلا بمن يميل إليه، وفيه مخاطبة الواحد وإرادة الجمع، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيصال الخير لأمته، والحض على ترك الدنيا والاقتصار على ما لا بد منه

(11/235)


4 - باب فِي الأَمَلِ وَطُولِهِ. وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ" بِمُزَحْزِحِهِ بِمُبَاعِدِهِ
6417- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مُنْذِرٍ عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَقَالَ هَذَا الإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ

(11/235)


بِهِ أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا"
6418- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطُوطًا فَقَالَ هَذَا الأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأَقْرَبُ"
قوله: "باب في الأمل وطوله" الأمل بفتحتين رجاء ما تحبه النفس من طول عمر وزيادة غنى، وهو قريب المعنى من التمني. وقيل الفرق بينهما أن الأمل ما تقدم له سبب والتمني بخلافه. وقيل لا ينفك الإنسان من أمل، فإن فاته ما أمله عول على التمني. ويقال الأمل إرادة الشخص تحصيل شيء يمكن حصوله فإذا فاته تمناه. قوله: "وقوله تعالى {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} الآية" كذا للنسفي وساق في رواية كريمة وغيرها إلى الغرور، وقع في رواية أبي ذر إلى قوله: "فقد فاز" والمطلوب هنا ما سقط من روايته وهو الإشارة إلى أن متعلق الأمل ليس بشيء لأنه متاع الغرور، شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغره حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته، والشيطان هو المدلس وهو الغرور بالفتح الناشئ عنه الغرور بالضم، وقد قرئ في الشاذ هنا بفتح الغين أي متاع الشيطان، ويجوز أن يكون بمعنى المفعول وهو المخدوع فتتفق القراءتان. قوله: "بمزحزحه: بمباعده" وقع هذا في رواية النسفي وكذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، والمراد أن معنى قوله: "زحزح" في هذه الآية فمن زحزح بوعد، وأصل الزحزحة الإزالة، ومن أزيل عن الشيء فقد بوعد منه وقال للكرماني: مناسبة هذه الآية للترجمة أن في أول الآية "كل نفس ذائقة الموت" وفي آخرها {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أو أن قوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ} مناسب لقوله: "وما هو بمزحزحه" وفي تلك الآية {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} قوله: "وقوله {ذرهم يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} الآية" كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة وغيرها إلى {يَعْلَمُونَ} وسقط قوله: "وقوله" للنسفي، قال الجمهور هي عامة. وقال جماعة هي في الكفار خاصة والأمر فيه للتهديد، وفيه زجر عن الانهماك في ملاذ الدنيا. قوله: "وقال علي بن أبي طالب ارتحلت الدنيا مدبرة إلخ" هذه قطعة من أثر لعلي جاء عنه موقوفا ومرفوعا، وفي أوله شيء مطابق للترجمة صريحا، فعند ابن أبي خشيبة في "المصنف" وابن المبارك في "الزهد" من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد وزبيد الأيامي عن رجل من بني عامر، وسمي في رواية لابن أبي شيبة مهاجر العامري، وكذا في "الحلية" من طريق أبي مريم عن زبيد عن مهاجر بن عمير قال: قال علي "إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسى الآخرة. ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة" الحديث كالذي في الأصل سواء، ومهاجر المذكور هو العامري المبهم قبله وما عرفت حاله، وقد جاء مرفوعا أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب قصر الأمل" من رواية اليمان بن حذيفة عن علي بن أبي حفصة مولى علي "عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أشد ما أتخوف عليكم خصلتين" فذكر معناه واليمان وشيخه لا يعرفان، وجاء من حديث جابر أخرجه أبو عبد الله بن منده من طريق المنكدر بن محمد ابن المنكدر عن أبيه عن جابر مرفوعا، والمنكدر ضعيف، وتابعه علي بن أبي علي اللهبي عن

(11/236)


ابن المنكدر بتمامه وهو ضعيف أيضا وفي بعض طرق هذا الحديث: "فاتباع الهوى يصرف بقلوبكم عن الحق، وطول الأمل يصرف هممكم إلى الدنيا". ومن كلام علي أخذ بعض الحكماء قوله: "الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة فعجب لمن يقبل على المدبرة ويدبر على المقبلة" وورد في ذم الاسترسال مع الأمل حديث أنس رفعه: "أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا" أخرجه البزار: وعن عبد الله بن عمرو رفعه: "صلاح أول هذه الأمة بالزهادة واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل" أخرجه الطبراني وابن أبي الدنيا، وقيل إن قصر الأمل حقيقة الزهد، وليس كذلك بل هو سبب، لأن من قصر أمله زهد، ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب، لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وقيل: من قصر أمله قل همه وتنور قلبه، لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة، وقل همه، ورضي بالقليل. وقال ابن الجوزي: الأمل مذموم للناس إلا للعلماء، فلولا أملهم لما صنفوا ولا ألفوا. وقال غيره: الأمل مطبوع في جميع بني آدم كما سيأتي في الحديث الذي في الباب بعده "لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين حب الدنيا وطول الأمل" وفي الأمل سر لطيف لأنه لولا الأمل ما تهنى أحد بعيش ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته. له في أثر علي "فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل" جعل اليوم نفس العمل والمحاسبة مبالغة وهو كقولهم نهاره صائم، والتقدير في الموضعين ولا حساب فيه ولا عمل فيه، وقوله: "ولا حساب" بالفتح بغير تنوين ويجوز الرفع منونا، وكذا قوله ولا عمل قوله: "يحيى بن سعيد" هو القطان، وسفيان هو الثوري، وأبوه سعيد بن مسروق، ومنذر هو ابن يعلى الثوري ووقع في رواية الإسماعيلي: "أبو يعلى" فقط، والربيع بن خثيم بمعجمة ومثلثة مصغر، وعبد الله هو ابن مسعود ومن الثوري فصاعدا كوفيون. قوله: "خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا" الخط الرسم والشكل، والمربع المستوى الزوايا قوله: "وخط خطا في الوسط خارجا منه وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط" قيل هذه صفة الخط:

(11/237)


والأول المعتمد، وسياق الحديث يتنزل عليه، فالإشارة بقوله: "هذا الإنسان" إلى النقطة الداخلة، وبقوله: "وهذا أجله محيط به" إلى المربع، وبقوله: "وهذا الذي هو خارج أمله" إلى الخط المستطيل المنفرد، وبقوله: "وهذه إلى الخطوط" وهي مذكورة على سبيل المثال لا أن المراد انحصارها في عدد معين، ويؤيده قوله في حديث أنس بعده "إذ جاءه الخط الأقرب" فإنه أشار به إلى الخط المحيط به، ولا شك أن الذي يحيط به أقرب إليه من الخارج عنه، وقوله: "خططا" بضم المعجمة والطاء الأولى للأكثر ويجوز فتح الطاء، وقوله: "هذا إنسان" مبتدأ وخبر أي هذا الخط هو الإنسان على التمثيل. قوله: "وهذه الخطط" بالضم فيهما أيضا. وفي رواية المستملي والسرخسي "وهذه الخطوط". قوله: "الأعراض" جمع عرض بفتحتين وهو ما ينتفع به له الدنيا في الخير وفي الشر، والعرض بالسكون ضد الطويل، ويطلق على ما يقابل النقدين والمراد هنا الأول. قوله: "نهشه" بالنون والشين المعجمة أي أصابه. واستشكلت هذه الإشارات الأربع مع أن الخطوط ثلاثة فقط وأجاب الكرماني بأن للخط الداخل اعتبارين: فالمقدار الداخل منه هر الإنسان والخارج أمله، والمراد بالأعراض الآفات العارضة له فإن سلم من هذا لم يسلم من هذا وإن سلم من الجميع ولم تصبه آفة من مرض أو فقد مال أو غير ذلك بغته الأجل. والحاصل أن من لم يمت بالسيب مات بالأجل. وفي الحديث إشارة إلى الحض على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل. وعبر بالنهش وهو لدغ ذات السم مبالغة في الإصابة والإهلاك. قوله:" حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، وثبت كذلك في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن عبد العزيز بن سلام عنه. قوله: "همام" هو ابن يحيى وثبت كذلك في رواية الإسماعيلي. قوله: "عن إسحاق" في رواية الإسماعيلي: "حدثنا إسحاق" وهو ابن أخي أنس لأمه. قوله: "خطوطا" قد فسرت في حديث ابن مسعود. قوله: "فبينما هو كذلك" في رواية الإسماعيلي: "يأمل" وعند البيهقي في الزهد من وجه عن إسحاق سياق المتن أتمم منه ولفظه: "خط خطوطا وخط خطا ناحية ثم قال هل تدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني، وذلك الخط الأمل، بينما يأمل إذ جاءه الموت" وإنما جمع الخطوط ثم اقتصر في التفصيل على اثنين اختصارا، والثالث الإنسان، والرابع الآفات. وقد أخرج الترمذي حديث أنس من رواية حماد بن سلمة عن عبيد الله بن أبي بكر ابن أنس عن أنس بلفظ: "هذا ابن آدم وهذا أجله، ووضع يده عند قفاه ثم بسطها فقال: وثم أمله، وثم أجله إن أجله أقرب إليه من أمله". قال الترمذي: وفي الباب عن أبي سعيد. قلت: أخرجه أحمد من رواية علي بن علي عن أبي المتوكل عنه ولفظه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم غرز عودا بين يديه ثم غرز إلى جنبه آخر ثم غرز الثالث فأبعده ثم قال: هذا الإنسان وهذا أجله وهذا أمله"، والأحاديث متوافقة على أن الأجل أقرب من الأمل

(11/238)


5 - باب مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ
لِقَوْلِهِ تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ}
6419- حَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ مُطَهَّرٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً"
تَابَعَهُ أَبُو حَازِمٍ وَابْنُ عَجْلاَنَ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ"

(11/238)


6420- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الأَمَلِ قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ"
6421- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ" رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ
قوله: "باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، لقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} كذا للأكثر، وسقط قوله: "لقوله تعالى" وفي رواية النسفي "يعني الشيب" وثبت قوله يعني الشيب في رواية أبي ذر وحده، وقد اختلف أهل التفسير فيه فالأكثر على أن المراد به الشيب لأنه يأتي في سن الكهولة فما بعدها، وهو علامة لمفارقة سن الصبي الذي هو مظنة اللهو. وقال علي: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا أيضا في المراد بالتعمير في الآية على أقوال: أحدها أنه أربعون سنة، نقله الطبري عن مسروق وغيره، وكأنه أخذه من قوله: "بلغ أشده وبلغ أربعين سنة". والثاني ست وأربعون سنة أخرجه ابن مردويه من طريق مجاهد عن ابن عباس وتلا الآية، ورواته رجال الصحيح، إلا ابن خثيم فهو صدوق وفيه ضعف. والثالث سبعون سنة أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء عن ابن عباس {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} فقال نزلت تعييرا لأبناء السبعين، وفي إسناده يحيى بن ميمون وهو ضعيف الرابع ستون، وتمسك قائله بحديث الباب وورد في بعض طرقه التصريح بالمراد، فأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق سعيد بن سليمان عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة بلفظ: "العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم ستون سنة: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} وأخرجه ابن مردويه من طريق حماد بن زيد عن أبي حازم عن سهل بن سعد مثله. الخامس التردد بين الستين والسبعين أخرجه ابن مردويه من طريق أبي معشر عن سعيد عن أبي هريرة بلفظ: "من عمر ستين أو سبعين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر" وأخرجه أيضا من طريق معتمر بن سليمان عن معمر عن رجل من غفار يقال له محمد عن سعيد عن أبي هريرة بلفظ: "من بلغ الستين والسبعين" ومحمد الغفاري هو ابن معن الذي أخرجه البخاري من طريقه اختلف عليه في لفظه، كما اختلف على سعيد المقبري في لفظه، وأصح الأقوال في ذلك ما ثبت في حديث الباب ويدخله في هذا حديث: "معترك المنايا ما بين ستين وسبعين" أخرجه أبو يعلى من طريق إبراهيم بن الفضل عن سعيد عن أبي هريرة، وإبراهيم ضعيف.قوله: "حدثنا عبد السلام بن مطهر" بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الهاء المفتوحة وشيخه عمر بن علي هو المقدمي، وقد تقدم بهذا الإسناد إلى أبي هريرة حديث آخر وذكرت أن عمر مدلس وأنه أورده بالعنعنة وبينت عذر البخاري في ذلك أنه وجد من وجه آخر مصرح فيه بالسماع، وأما هذا الحديث فقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن رجل من بني غفار عن سعيد المقبري بنحوه، وهذا الرجل المبهم هو معن بن محمد الغفاري، فهي متابعة قوية لعمر بن علي

(11/239)


أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن معمر، ووقع لشيخه فيه وهم ليس هذا موضع بيانه. قوله: "أعذر الله" الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول لو مد لي في الأجل لفعلت ما أمرت به، يقال أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكنه منه. وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية، ونسبة الإعذار إلى الله مجازية والمعنى أن الله لم يترك للعبد سببا في الاعتذار يتمسك به. والحاصل أنه لا يعاقب إلا بعد حجه. قوله: "أخر أجله" يعني أطاله "حتى بلغه ستين سنة" وفي رواية معمر "لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى يبلغ ستين سنة أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه". قوله: "تابعه أبو حازم وابن عجلان عن المقبري" أما متابعة أبي حازم وهو سلمة بن دينار فأخرجها الإسماعيلي من طريق عبد العزيز بن أبي حازم "حدثني أبي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة "كذا أخرجه الحفاظ عن عبد العزيز بن أبي حازم وخالفهم هارون بن معروف فرواه عن ابن أبي حازم عن أبيه عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أخرجه الإسماعيلي، وإدخاله بين سعيد وأبي هريرة فيه رجلا من المزيد في متصل الأسانيد، وقد أخرجه أحمد والنسائي من رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بغير واسطة. وأما طريق محمد بن عجلان فأخرجه أحمد من رواية سعيد بن أبي أيوب عن محمد بن عجلان عن سعيد ابن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه في العمر" قال ابن بطال: إنما كانت الستون حدا لهذا لأنها قريبة من المعترك وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية فهذا إعذار بعد إعذار لطفا من الله بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة وإن كانوا فطروا على حب الدنيا وطول الأمل لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليتمثلوا ما أمروا به من الطاعة وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية. وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل. وأصرح من ذلك ما أخرجه الترمذي بسند حسن إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رفعه: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك". قال بعض الحكماء الأسنان أربعة سن الطفولية، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة وهي آخر الأسنان، وغالب ما يكون ما بين الستين والسبعين فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط، فينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة. وقد استنبط منه بعض الشافعية أن من استكمل ستين فلم يحج مع القدرة فإنه يكون مقصرا: ويأثم إن مات قبل أن يحج، بخلاف ما دون ذلك. قوله: "يونس" هو ابن يزيد الأيلي. قوله: "لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل" المراد بالأمل هنا محبة طول العمر، فسره حديث أنس الذي بعده في آخر الباب، وسماه شابا إشارة إلى قوة استحكام حبه للمال، أو هو من باب المشاكلة والمطابقة. قوله: "قال ليث عن يونس، وابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب أخبرني سعيد" هو ابن المسيب "وأبو سلمة" يعني كلاهما عن أبي هريرة. أما رواية ليث وهو ابن سعد فوصلها الإسماعيلي من طريق أبي صالح كاتب الليث "حدثنا الليث حدثني يونس هو ابن يزيد عن ابن شهاب أخبرني سعيد وأبو سلمة عن أبي هريرة بلفظه إلا أنه قال: "المال" بدل الدنيا. وأما رواية ابن وهب فوصلها مسلم عن حرملة عنه بلفظ: "قلب الشيخ شاب على حب اثنتين طول الحياة وحب المال" وأخرجه الإسماعيلي من طريق أيوب بن سويد عن يونس

(11/240)


مثل رواية ابن وهب سواء، وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن أبي هريرة بزيادة في أوله قال: "إن ابن آدم يضعف جسمه وينحل لحمه من الكبر وقلبه شاب" . قوله: "حدثنا مسلم" كذا لأبي ذر غير منسوب ولغيره: "حدثنا مسلم بن إبراهيم" وهشام هو الدستوائي. قوله: "يكبر" بفتح الموحدة أي يطعن في السن. قوله: "ويكبر معه" بضم الموحدة أي يعظم، ويجوز الفتح، ويجوز الضم في الأول تعبيرا عن الكثرة وهي كثرة عدد السنين بالعظم. قوله: "اثنتان حب المال وطول العمر" في رواية أبي عوانة عن قتادة عند مسلم: "يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان الحرص على المال، والحرص على العمر" ثم أخرجه من طريق معاذ بن هشام عن أبيه قاله بمثله. قوله: "رواه شعبة عن قتادة" وصله مسلم من رواية محمد بن جعفر عن شعبة ولفظه: "سمعت قتادة يحدث عن أنس، بنحوه" وأخرجه أحمد عن محمد بن جعفر بلفظ: "يهرم ابن آدم ويشب منه اثنتان" وفائدة هذا التعليق دفع توهم الانقطاع فيه لكون قتادة مدلسا وقد عنعنه، لكن شعبة لا يحدث عن المدلسين إلا بما علم أنه داخل في سماعهم فيستوي في ذلك التصريح والعنعنة بخلاف غيره. قال النووي هذا مجاز واستعارة ومعناه: أن قلب الشيخ كامل الحب للمال متحكم في ذلك كاحتكام قوة الشاب في شبابه، هذا صوابه، وقيل في تفسيره غير هذا مما لا يرتضى، وكأنه أشار إلى قول عياض: هذا الحديث فيه من المطابقة وبديع الكلام الغاية، وذلك أن الشيخ من شأنه أن تكون آماله وحرصه على الدنيا قد بليت على بلاء جسمه إذا انقضى عمره ولم يبق له إلا انتظار الموت، فلما كان الأمر بضده ذم. قال: والتعبير بالشاب إشارة إلى كثرة الحرص وبعد الأمل الذي هو في الشباب أكثر وبهم أليق لكثرة الرجاء عادة عندهم في طول أعمارهم ودوام استمتاعهم ولذاتهم في الدنيا. قال القرطبي: في هذا الحديث كراهة الحرص على طول العمر وكثرة المال وأن ذلك ليس بمحمود. وقال غيره: الحكمة في التخصيص بهذين الأمرين أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه، فهو راغب في بقائها فأحب لذلك طول العمر، وأحب المال لأنه من أعظم الأسباب في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبا طول العمر، فكلما أحس بقرب نفاد ذلك أشتد حبه له ورغبته في دوامه. واستدل به على أن الإرداة في القلب خلافا لمن قال إنها في الرأس، قاله المازري. "تنبيه": قال الكرماني كان ينبغي له أن يذكر هذا الحديث في الباب السابق يعني "باب في الأمل وطوله". قلت: ومناسبته للباب الذي ذكره فيه ليست ببعيدة ولا خفية.

(11/241)


6 - باب الْعَمَلِ الَّذِي يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ. فِيهِ سَعْدٌ
6422- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ وَزَعَمَ مَحْمُودٌ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا مِنْ دَلْوٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ
6423- قَالَ "سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصارِيَّ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ قَالَ غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَنْ يُوَافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ"
6423- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ

(11/241)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلاَّ الْجَنَّةُ"
قوله: "باب العمل الذي يبتغي به وجه الله تعالى" ثبتت هذه الترجمة للجميع، وسقطت من شرح ابن بطال فأضاف حديثها عن عتبان الذي قبله، ثم أخذ في بيان المناسبة لترجمة من بلغ ستين سنة فقال: خشي المصنف أن يظن أن من بلغ الستين وهو مواظب على المعصية أن ينفذ عليه الوعيد، فأورد هذا الحديث المشتمل على أن كلمة الإخلاص تنفع قائلها، إشارة إلى أنها لا تخص أهل عمر دون عمر ولا أهل عمل دون عمل، قال: ويستفاد منه أن التوبة مقبولة ما لم يصل إلى الحد الذي ثبت النقل فيه أنها لا تقبل معه وهو الوصول إلى الغرغرة. وتبعه ابن المنير فقال: يستفاد منه أن الأعذار لا تقطع التوبة بعد ذلك وإنما تقطع الحجة التي جعلها الله للعبد بفضله، ومع ذلك فالرجاء باق بدليل حديث عتبان وما ذكر معه. قلت: وعلى ما وقع في الأصول فهذه مناسبة تعقيب الباب الماضي بهذا الباب. قوله: "فيه سعد" كذا للجميع، وسقط للنسفي وللإسماعيلي وغيرهما، وسعد فيما يظهر لي هو ابن أبي وقاص، وحديثه المشار إليه ما تقدم في المغازي وغيرها من رواية عامر بن سعد عن أبيه في قصة الوصية وفيه: "الثلث والثلث كثير" وفيه قوله: "فقلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة" الحديث، وقد تقدم هذا اللفظ في كتاب الهجرة إلى المدينة. قوله: "حدثنا معاذ بن أسد" هو المروزي، وشيخه عبد الله هو ابن المبارك. قوله: "غدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لن يوافي" هكذا أورده مختصرا، وليس هذا القول معقبا بالغدو بل بينهما أمور كثيرة من دخول النبي صلى الله عليه وسلم منزله وصلاته فيه وسؤالهم أن يتأخر عندهم حتى يطعموه وسؤاله عن مالك بن الدخشم وكلام من وقع في حقه والمراجعة في ذلك، وفي آخره ذلك القول المذكور هنا، وقد أورده في "باب المساجد في البيوت" في أوائل الصلاة وأورده أيضا مطولا من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري في أبواب صلاة التطوع، فخرج منه أيضا في أوائل الصلاة في "باب إذا زار قوما فصلى عندهم" عن معاذ بن أسد بالسند المذكور في حديث الباب من المتن طرفا غير المذكور هنا، وقوله في هذه الرواية: "حرم الله عليه النار" وقع في الرواية الماضية "حرمه الله على النار" قال الكرماني ما ملخصه: والمعنى واحد لوجود التلازم بين الأمرين، واللفظ الأول هو الحقيقة لأن النار تأكل ما يلقى فيها، والتحريم يناسب الفاعل فيكون اللفظ الثاني مجازا. قوله: "يعقوب بن عبد الرحمن" هو الإسكندراني. قوله: "عن عمرو" هو ابن أبي عمرو مولى المطلب. قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن عندي جزاء" أي ثواب ولم أر لفظ جزاء في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، ولأبي نعيم من طريق السراج كلاهما عن قتيبة. قوله: "إذا قبضت صفيه" بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتانية وهو الحبيب المصافي كالولد والأخ وكل من يحبه الإنسان، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت. قوله: "ثم احتسبه إلا الجنة" قال الجوهري احتسب ولده إذا مات كبيرا. فإن مات صغيرا قيل أفرطه، وليس هذا التفصيل مرادا هنا بل المراد باحتسبه صبر على فقده راجيا الأجر من الله على ذلك، وأصل الحسبة بالكسر الأجرة، والاحتساب طلب الأجر من الله تعالى

(11/242)


خالصا. واستدل به ابن بطال على أن من مات له ولد واحد يلتحق بمن مات له ثلاثة وكذا اثنان، وأن قول الصحابي كما مضى في "باب فضل من مات له ولد" من كتاب الجنائز "ولم نسأله عن الواحد" لا يمنع من حصول الفضل لمن مات له واحد، فلعله صلى الله عليه وسلم سئل بعد ذلك عن الواحد فأخبر بذلك، أو أنه أعلم بأن حكم الواحد حكم ما زاد عليه فأخبر به. قلت: وقد تقدم في الجنائز تسمية من سأل عن ذلك، والرواية التي فيها "ثم لم نسأله عن الواحد" ولم يقع لي إذ ذاك وقوع السائل عن الواحد. وقد وجدت من حديث جابر ما أخرجه أحمد من طريق محمود ابن أسد عن جابر وفيه: "قلنا يا رسول الله واثنان؟ قال: واثنان. قال محمود فقلت لجابر أراكم لو قلتم واحدا لقال واحد، قال وأنا والله أظن ذاك" ورجاله موثقون. وعند أحمد والطبراني من حديث معاذ رفعه: "أوجب ذو الثلاثة. فقال له معاذ: وذو الاثنين؟ قال: وذو الاثنين" زاد في رواية الطبراني قال: "أو واحد" وفي سنده ضعف. وله في الكبير والأوسط من حديث جابر بن سمرة رفعه: "من دفن له ثلاثة فصبر" الحديث وفيه: "فقالت أم أيمن: وواحد؟ فسكت ثم قال: يا أم أيمن من دفن واحدا فصبر عليه واحتسبه وجبت له الجنة" وفي سندهما ناصح بن عبد الله وهو ضعيف جدا. ووجه الدلالة من حديث الباب أن الصفي أعم من أن يكون ولدا أم غيره وقد أفرد وتب الثواب بالجنة لمن مات له فاحتسبه، ويدخل هذا ما أخرجه أحمد والنسائي من حديث قرة بن إياس "أن رجلا كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال: أتحبه؟ قال: نعم. ففقده فقال ما فعل فلان؟ قالوا: يا رسول الله مات ابنه، فقال: ألا تحب أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة، إلا وجدته ينتظرك. فقال رجل: يا رسول الله أله خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم" وسنده على شرط الصحيح وقد صححه ابن حبان والحاكم.

(11/243)


7 - باب مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهَرَةِ الدُّنْيَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا
6425- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ كَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ فَوَافَتْهُ صَلاَةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ"
6426- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ "عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ

(11/243)


فَقَالَ إِنِّي فَرَطُكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا"
6427- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ قِيلَ وَمَا بَرَكَاتُ الأَرْضِ قَالَ زَهْرَةُ الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَصَمَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ جَبِينِهِ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ قَالَ أَنَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ لَقَدْ حَمِدْنَاهُ حِينَ طَلَعَ ذَلِكَ قَالَ لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ إِلاَّ بِالْخَيْرِ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَإِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضِرَةِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَاجْتَرَّتْ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ"
6428- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا محمد بن جعفر حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَمْرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ قَالَ "سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ فَمَا أَدْرِي قال النبي صلى الله عليه وسلم: بَعْدَ قَوْلِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ"
6429- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ"
6430- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ "قَالَ سَمِعْتُ خَبَّابًا وَقَدْ اكْتَوَى يَوْمَئِذٍ سَبْعًا فِي بَطْنِهِ وَقَالَ لَوْلاَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِالْمَوْتِ إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمْ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا لاَ نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلاَّ التُّرَابَ"
6431- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ "قَالَ أَتَيْتُ خَبَّابًا وَهُوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ فَقَالَ إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ مَضَوْا لَمْ تَنْقُصْهُمْ الدُّنْيَا شَيْئًا وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ شَيْئًا لاَ نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلاَّ في التُّرَابَ"

(11/244)


6432- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ خَبَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.."
قوله: "باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها" المراد بزهرة الدنيا بهجتها ونضارتها وحسنها والتنافس يأتي بيانه في الباب. قوله: "إسماعيل بن عبد الله" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن موسى بن عقبة" هو عم إسماعيل الراوي عنه. قوله: "قال: قال ابن شهاب" هو الزهري قوله: "أن عمرو بن عوف" تقدم بيان نسبه في الجزية. وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق وهم موسى وابن شهاب وعروة وصحابيان وهما المسور وعمرو، كلهم مدنيون وكذا بقية رجال الإسناد من إسماعيل فصاعدا. قوله: "إلى البحرين" سقط "إلى" من رواية الأكثر وثبتت للكشميهني. قوله: "فواقفت" في رواية المستملي والكشميهني: "فوافقت". قوله: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم" بنصب الفقر أي ما أخشى عليكم الفقر، ويجوز الرفع بتقدير ضمير أي ما الفقر أخشاه عليكم، والأول هو الراجح، وخص بعضهم جواز ذلك بالشعر، وهذه الخشية يحتمل أن يكون سببها علمه أن الدنيا ستفتح عليهم ويحصل لهم الغنى بالمال، وقد ذكر ذلك في أعلام النبوة مما أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوعه قبل أن يقع فوقع. وقال الطيبي: فائدة تقديم المفعول هنا الاهتمام بشأن الفقر، فإن الوالد المشفق إذا حضره الموت كان اهتمامه بحال ولده في المال، فأعلم صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه وإن كان لهم في الشفقة عليهم كالأب لكن حاله في أمر المال يخالف حال الوالد، وأنه لا يخشى عليهم الفقر كما يخشاه الوالد، ولكن يخشى عليهم من الغني الذي هو مطلوب الوالد لولده. والمراد بالفقر العهدي وهو ما كان عليه الصحابة من قلة الشيء ويحتمل الجنس والأول أولى، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى أن مضرة الفقر دون مضرة الغنى، لأن مضرة الفقر دنيوية غالبا ومضرة الغنى دينية غالبا. قوله: "فتنافسوها" بفتح المثناة فيها، والأصل فتنافسوا فحذفت إحدى التاءين، والتنافس من المنافسة وهي الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به والمغالبة عليه، وأصلها من الشيء النفيس في نوعه، يقال نافست في الشيء منافسة ونفاسة ونفاسا، ونفس الشيء بالضم نفاسة صار مرغوبا فيه، ونفست به بالكسر بخلت، ونفست عليه لم أره أهلا لذلك. قوله: "فتهلككم" أي لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه فتمنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك. قال ابن بطال: فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها، فلا يطمئن إلى زخرفها ولا ينافس غيره فيها، ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبا والفقير آمن من ذلك. حديث عقبة بن عامر في صلاته صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد بعد ثمان سنين، وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر كتاب الجنائز وعلامات النبوة، وقوله: "أنا فرطكم" بفتح الفاء والراء أي السابق إليه. حديث أبي سعيد. قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وقد وافقه في رواية هذا الحديث عن مالك بتمامه ابن وهب وإسحاق بن محمد وأبو قرة، ورواه معن بن عيسى والوليد بن مسلم عن مالك مختصرا منهما طرفا، وليس هو في الموطأ قاله الدار قطني في "الغرائب". قوله: "عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أكثر ما أخاف عليكم" في رواية هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار

(11/245)


الماضية في كتاب الزكاة في أوله "إنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم" وفي رواية السرخسي "إني مما أخاف" وما في قوله ما يفتح في موضع نصب لأنها اسم أن، و "مما" في قوله: "إن مما" في موضع رفع لأنها الخبر. قوله: "زهرة الدنيا" زاد هلال "وزينتها" وهو عطف تفسير، وزهرة الدنيا بفتح الزاي وسكون الهاء. وقد قرئ في الشاذ عن الحسن وغيره بفتح الهاء فقيل هما بمعنى مثل جهرة وجهرة، وقيل بالتحريك جمع زاهر كفاجر وفجرة، والمراد بالزهرة الزينة والبهجة كما في الحديث، والزهرة مأخوذة من زهرة الشجر وهو نورها بفتح النون، والمراد ما فيها من أنواع المتاع والعين والثياب والزروع وغيرها مما يفتخر الناس بحسنه مع قلة البقاء. قوله: "فقال رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "هل يأتي" في رواية هلال "أو يأتي" وهي بفتح الواو والهمزة للاستفهام والواو عاطفة على شيء مقدر أي تصير النعمة عقوبة؟ لأن زهرة الدنيا نعمة من الله فهل تعود هذه النعمة نقمة؟ وهو استفهام استرشاد لا إنكار، والباء في قوله: "بالشر" صلة ليأتي، أى هل يستجلب الخير الشر؟. قوله: "ظننت" في رواية الكشميهني: "ظننا" وفي رواية هلال "فرئينا" بضم الراء وكسر الهمزة وفي رواية الكشميهني: "فأرينا" بضم الهمزة. قوله: "ينزل عليه" أي الوحي، وكأنهم فهموا ذلك بالقرينة من الكيفية التي جرت عادته بها عندما يوحى إليه. قوله: "ثم جعل يمسح عن جبينه" في رواية الدار قطني "العرق" وفي رواية هلال "فيمسح عنه الرحضاء" بضم الراء وفتح المهملة ثم المعجمة والمد هو "العرق" وقيل الكثير، وقيل عرق الحمى، وأصل الرخص بفتح ثم سكون الغسيل، ولهذا فسره الخطابي أنه عرق يرخص الجلد لكثرته. قوله: "قال أبو سعيد لقد حمدناه حين طلع لذلك" في رواية المستملي: "حين طلع ذلك" وفي رواية هلال "وكأنه حمده". والحاصل أنهم لاموه أولا حيث رأوا سكوت النبي صلى الله عليه وسلم فظنوا أنه أغضبه، ثم حمدوه آخرا لما رأوا مسألته سببا لاستفادة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قوله:" وكأنه حمده "فأخذوه من قرينة الحال. قوله: "لا يأتي الخير إلا بالخير" زاد في رواية الدار قطني تكرار ذلك ثلاث مرات. وفي رواية هلال "إنه لا يأتي الخير بالشر" ويؤخذ منه أن الرزق ولو كثر فهو من جملة الخير، إنما يعرض له الشر بعارض البخل به عمن يستحقه والإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع، وأن كل شيء قضى الله أن يكون خيرا فلا يكون شرا وبالعكس، ولكن يخشى على من رزق الخير أن يعرض له في تصرفه فيه ما يجلب له الشر. ووقع في مرسل سعيد المقبري عند سعيد بن منصور "أو خير هو؟ ثلاث مرات" وهو استفهام إنكار، أي أن المال ليس خيرا حقيقيا وإن سمي خيرا لأن الخير الحقيقي هو ما يعرض له من الإنفاق في الحق، كما أن الشر الحقيقي فيه ما يعرض له من الإمساك عن الحق والإخراج في الباطل، وما ذكر في الحديث بعد ذلك من قوله: "إن هذا المال خضرة حلوة" كضرب المثل بهذه الجملة. قوله: "إن هذا المال" في رواية الدار قطني "ولكن هذا المال إلخ" ومعناه أن صورة الدنيا حسنة مونقة، والعرب تسمى كل شيء مشرق ناضر أخضر. وقال ابن الأنباري: قوله: "المال خضرة حلوة" ليس هو صفة المال وإنما هو للتشبيه. كأنه قال: المال كالبقلة الخضراء الحلوة، أو التاء في قوله خضرة وحلوة باعتبار ما يشتمل عليه المال من زهرة الدنيا، أو على معنى فائدة المال أي أن الحياة به أو العيشة، أو أن المراد بالمال هنا الدنيا لأنه من زينتها، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقد وقع في حديث أبي سعيد أيضا المخرج في السنن "الدنيا خضرة حلوة" فيتوافق الحديثان، ويحتمل

(11/246)


أن تكون التاء فيهما للمبالغة. قوله: "وإن كل ما أنبت الربيع" أي الجدول، وإسناد الإثبات إليه مجازي والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى. وفي رواية هلال "وأن مما ينبت" ومما في قوله مما ينبت للتكثير وليست من للتبعيض لتوافق رواية: "كل ما أنبت" وهذا الكلام كله وقع كالمثل للدنيا، وقد وقع التصريح بذلك في مرسل سعيد المقبري. قوله: "يقتل حبطا أو يلم" أما حبطا فبفتح المهملة والموحدة والطاء مهملة أيضا، والحبط انتفاخ البطن من كثرة الأكل يقال حبطت الدابة تحبط حبطا إذا أصابت مرعى طيبا فأمعنت في الأكل حتى تنتفخ فتموت، وروي بالخاء المعجمة من التخبط وهو الاضطراب والأول المعتمد، وقوله: "يلم" بضم أوله أي يقرب من الهلاك.قوله: "إلا" بالتشديد على الاستثناء، وروي بفتح الهمزة وتخفيف اللام للاستفتاح. قوله: "آكلة" بالمد وكسر الكاف، "الخضر" بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين للأكثر وهو ضرب من الكلأ يعجب الماشية وواحدة خضرة وفي رواية الكشميهني بضم الخاء وسكون الضاد وزيادة الهاء في آخره. وفي رواية السرخسي "الخضراء" بفتح أوله وسكون ثانيه وبالمد، ولغيرهم بضم أوله وفتح ثانيه جمع خضرة. قوله: "امتلأت خاصرتاها" تثنية خاصرة بخاء معجمة وصاد مهملة وهما جانبا البطن من الحيوان. وفي رواية الكشميهني: "خاصرتها" بالإفراد. قوله: "أتت" بمثناة أي جاءت وفي رواية هلال "استقبلت". قوله: "اجترت" بالجيم أي استرفعت ما أدخلته في كرشها من العلف فأعادت مضغه. قوله: "وثلطت" بمثلثة ولام مفتوحتين ثم طاء مهملة وضبطها ابن التين بكسر اللام أي ألقت ما في بطنها رقيقا، زاد الدار قطني "ثم عادت فأكلت" والمعنى أنها إذا شبعت فثقل عليها ما أكلت تحيلت في دفعه بأن تجتر فيزداد نعومة، ثم تستقبل الشمس فتحمي بها فيسهل خروجه؛ فإذا خرج زال الانتفاخ فسلمت، وهذا بخلاف من لم تتمكن من ذلك فإن الانتفاخ يقتلها سريعا، قال الأزهري: هذا الحديث إذا فرق لم يكد يظهر معناه، وفيه مثلان أحدهما للمفرط في جميع الدنيا المانع من إخراجها في وجهها وهو ما تقدم أي الذي يقتل حبطا. والثاني المقتصد في جمعها وفي الانتفاع بها وهو آكلة الخضر فإن الخضر ليس من أحرار البقول التي ينبتها الربيع ولكنها الحبة والحبة ما فوق البقل ودون الشجر التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول، فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلا لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها ولا منعها من مستحقها، فهو ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر، وأكثر ما تحبط الماشية إذا انحبس رجيعها في بطنها. وقال الزين بن المنير: آكلة الخضر هي بهيمة الأنعام التي ألف المخاطبون أحوالها في سومها ورعيها وما يعرض لها من البشم وغيره، والخضر والنبات الأخضر وقيل حرار العشب التي تستلذ الماشية أكله فتستكثر منه، وقيل هو ما ينبت بعد إدراك العشب وهياجه فإن الماشية تقتطف منه مثلا شيئا فشيئا ولا يصيبنها منه ألم، وهذا الأخير فيه نظر فإن سياق الحديث يقتضى وجود الحبط للجميع إلا لمن وقعت منه المداومة حتى اندفع عنه ما يضره، وليس المراد أن آكلة الخضر لا يحصل لها من أكله ضرر البتة، والمستنى آكلة الخضر بالوصف المذكور لا كل من اتصف بأنه آكلة الخضر، ولعل قائله وقعت له رواية فيها "يقتل أو يلم إلا آكلة الخضر" ولم يذكر ما بعده فشرحه على ظاهر هذا الاختصار. قوله: "فنعم المعونة" هو في رواية هلال "فنعم صاحب المسلم هو". قوله: "وإن أخذه بغير حقه" في رواية هلال "وأنه من يأخذه بغير حقه". قوله:" كالذي يأكل ولا يشبع" زاد هلال "ويكون شهيدا عليه يوم القيامة" يحتمل أن يشهد عليه حقيقة بأن ينطقه الله تعالى، ويجوز أن يكون

(11/247)


مجازا، والمراد شهادة الملك الموكل به. ويؤخذ من الحديث التمثيل لثلاثة أصناف، لأن الماشية إذا رعت الخضر للتغذية إما أن تقتصر منه على الكفاية، وإما أن تستكثر، الأول الزهاد والثاني إما أن يحتال على إخراج ما لو بقي لضر فإذا أخرجه زال الضر واستمر النفع، وإما أن يهمل ذلك، الأول العاملون في جميع الدنيا بما يجب من إمساك وبذل، والثاني العاملون في ذلك بخلاف ذلك. وقال الطيبي: يؤخذ منه أربعة أصناف: فمن أكل منه أكل مستلذ مفرط منهمك حتى تنتفخ أضلاعه ولا يقلع فيسرع إليه الهلاك، ومن أكل كذلك لكنه أخذ في الاحتيال لدفع الداء بعد أن استحكم فغلبه فأهلكه، ومن أكل كذلك لكنه بادر إلى إزالة ما يضره ويحيل في دفعه حتى انهضم فيسلم، ومن أكل غير مفرط ولا منهمك وإنما اقتصر على ما يسد جوعته ويمسك رمقه، فالأول مثال الكافر والثاني مثال العاصي الغافل عن الإقلاع والتوبة إلا عند فوتها والثالث مثال للمخلط المبادر للتوبة حيث تكون مقبولة والرابع مثال الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، وبعضها لم يصرح به في الحديث وأخذه منه محتمل، وقوله: "فنعم المعونة" كالتذييل للكلام المتقدم، وفيه حذف تقديره إن عمل فيه بالحق. وفيه إشارة إلى عكسه، وهو بئس الرفيق هو لمن عمل فيه بغير الحق، وقوله: "كالذي يأكل ولا يشبع" ذكر في مقابلة "فنعم المعونة هو" وقوله: "ويكون شهيدا عليه" أي حجة يشهد عليه بحرصه وإسرافه وإنفاقه فيما لا يرضى الله. وقال الزين بن المنير: في هذا الحديث وجوه من التشبيهات بديعة: أولها تشبيه المال ونموه بالنبات وظهوره، ثانيها تشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب بالبهائم المنهمكة في الأعشاب، وثالثها تشبيه الاستكثار منه والادخار له بالشره في الأكل والامتلاء منه، ورابعها تشبيه الخارج من المال مع عظمته في النفوس حتى أدى إلى المبالغة في البخل به بما تطرحه البهيمة من السلح ففيه إشارة بديعة إلى استقذاره شرعا، وخامسها تشبيه المتقاعد عن جمعه وضمه بالشاه إذا استراحت وحطت جانبها مستقبلة عين الشمس فإنها من أحسن حالاتها سكونا وسكينة وفيه إشارة إلى إدراكها لمصالحها، وسادسها تشبيه موت الجامع المانع بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرها، وسابعها تشبيه المال بالصاحب الذي لا يؤمن أن ينقلب عدوا، فإن المال من شأنه أن يحرز ويشد وثاقه حبا له وذلك يقتضي منعه من مستحقه فيكون سببا لعقاب مقتنيه، وثامنها تشبيه آخذه بغير حق بالذي يأكل ولا يشبع. وقال الغزالي: مثل المال مثل الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع، فإن أصابها العارف الذي يحترز عن شرها ويعرف استخراج ترياقها كان نعمة، وإن أصابها الغبي فقد لقي البلاء المهلك. وفي الحديث جلوس الإمام على المنبر عند الموعظة في غير خطبة الجمعة ونحوها. وفيه جلوس الناس حوله والتحذير من المنافسة في الدنيا. وفيه استفهام العالم عما يشكل وطلب الدليل لدفع المعارضة. وفيه تسمية المال خيرا، ويؤيده قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} وفي قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} . وفيه ضرب المثل بالحكمة وإن وقع في اللفظ ذكر ما يستهجن كالبول فإن ذلك يغتفر لما يترتب على ذكره من المعاني اللائقة بالمقام. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي عند إرادة الجواب عما يسأل عنه، وهذا على ما ظنه الصحابة، ويجوز أن يكون سكوته ليأتي بالعبارة الوجيزة الجامعة المفهمة. وقد عد ابن دريد هذا الحديث وهو قوله: "إن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم" من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يسبق صلى الله عليه وسلم إلى معناه، وكل من وقع شيء منه في كلامه فإنما أخذه منه. ويستفاد منه ترك العجلة في الجواب إذا كان يحتاج إلى التأمل. وفيه لوم من ظن به تعنت في السؤال وحمد من أجاد فيه،

(11/248)


ويؤيد أنه من الوحي قوله يمسح العرق فإنها كانت عادته عند نزول الوحي كما تقدم في بدء الوحي "وإن جبينه ليتفصد عرقا" وفيه تفضيل الغني على الفقير، ولا حجة فيه لأنه يمكن التمسك به لمن لم يرجح أحدهما على الآخر. والعجب أن النووي قال: فيه حجة لمن رجح الغني على الفقير، وكان قبل ذلك شرح قوله: "لا يأتي الخير إلا بالخير" على أن المراد أن الخير الحقيقي لا يأتي إلا بالخير، لكن هذه الزهرة ليست خيرا حقيقيا لما فيها من الفتنة والمنافسة والاشتغال عن كمال الإقبال على الآخرة. قلت: فعلى هذا يكون حجة لمن يفضل الفقر على الغنى والتحقيق أن لا حجة فيه لأحد القولين. وفيه الحض على إعطاء المسكين واليتيم وابن السبيل. وفيه أن المكتسب للمال من غير حله لا يبارك له فيه لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع. وفيه ذم الإسراف وكثرة الأكل والنهم فيه، وأن اكتساب المال من غير حله وكذا إمساكه عن إخراج الحق منه سبب لمحقه فيصير عير مبارك كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} . حديث عمران بن حصين. قوله: "سمعت أبا جمرة" هو بالجيم والراء وهو الضبعي نصر بن عمران، وقد روى شعبة عن أبي حمزة بالمهملة والزاي حديثا لكنه عند مسلم دون البخاري، وليس لشعبة في البخاري عن أبي جمرة بهذه الصورة إلا عن نصر بن عمران. وزهدم بالزاي وزن جعفر ومضرب بالضاد المعجمة ثم الموحدة والتشديد باسم الفاعل، وقد تقدم شرح هذا الحديث في الشهادات وفي أول فضائل الصحابة، وكذا الحديث الذي بعده. قوله: "عن أبي حمزة" بالمهملة والزاي هو محمد بن ميمون السكري، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو. حديث خباب أورده من طريقين في الأولى زيادة على ما في الثانية، وهو حديث واحد ذكر فيه بعض الرواة ما لم يذكر بعض وأبهم شيئا قاله شعبة، وقد تقدمت روايته له عن إسماعيل بن أبي خالد في أواخر كتاب المرضي قبل كتاب الطب وشرح هناك وزاد أحمد عن وكيع بهذا السند في هذا المتن فقال في أوله "دخلنا على خباب نعوده وهو يبني حائطا له فقال: إن المسلم يؤجر في كل شيء إلا ما يجعله في هذا التراب "وقد تقدم شرح هذه الزيادة هناك. وإسماعيل في الطريقين هر ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم ورجال الإسناد من وكيع فصاعدا كوفيون، ويحيى في السند الثاني هو ابن سعيد القطان وهو بصري. انظر الحديث السابق حديث خباب أيضا، ورجاله من شيخ البخاري فصاعدا كوفيون، وسفيان هو الثوري. قوله: "عن شقيق أبي وائل عن خباب" تقدم في الهجرة من طريق يحيى بن سعيد القطان عن الأعمش "سمعت أبا وائل حدثنا خباب". قوله: "هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قصه" كذا لأبي ذر، وهو بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ضمير، والمراد أن الراوي قص الحديث وأشار به إلى ما أخرجه بتمامه في أول الهجرة إلى المدينة عن محمد بن كثير بالسند المذكور هنا وقرنه برواية يحيى القطان عن الأعمش وساقه بتمامه وقال بعد المذكور هنا "فوقع أجرنا على الله تعالى، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير" الحديث، وقد تقدم ذكره في الجنائز وأحلت شرحه على ما هنا، وذكر في الهجرة في موضعين وفي غزوة أحد في موضعين وأحلت به في الهجرة على المغازي، ولم يتيسر في المغازي التعرض لشرحه ذهولا والله المستعان. وسيأتي بعد ثمانية أبواب في "باب فضل الفقر" إن شاء الله تعالى.

(11/249)


باب قول الله تعالى ياأيها الناس (إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا)
...
8- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ

(11/249)


يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} جَمْعُهُ سُعُرٌ قَالَ مُجَاهِدٌ الْغَرُورُ الشَّيْطَانُ
6433- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ أَخْبَرَهُ قَالَ أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِطَهُورٍ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمَقَاعِدِ فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَهُوَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَغْتَرُّوا"
قوله: "باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ الآية إلى قوله: { السَّعِيرِ } كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة الآيتين. قوله: "جمعه سعر" بضمتين يعني السعير، وهو فعيل بمعنى مفعول من السعر بفتح أوله وسكون ثانيه وهو الشهاب من النار. قوله: "وقال مجاهد: الغرور الشيطان" ثبت هذا الأثر هنا في رواية الكشميهني وحده، ووصله الفريابي في تفسيره عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهو تفسير قوله تعالى: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وهو فعول بمعنى فاعل تقول غررت فلانا أصبت غرته ونلت ما أردت منه "والغرة" بالكسر غفلة في اليقظة والغرور كل ما يغر الإنسان، وإنما فسر بالشيطان لأنه رأس في ذلك. قوله: "شيبان" هو ابن عبد الرحمن، و "يحيى" هو ابن كثير، و "محمد بن إبراهيم" هو التيمي واسم جده الحارث بن خالد وكانت له صحبة. قوله: "أخبرني معاذ بن عبد الرحمن" أي ابن عثمان بن عبيد الله التيمي، وعثمان جده هو أخو طلحة بن عبيد الله، ووالده عبد الرحمن صحابي أخرج له مسلم، وكان يلقب شارب الذهب، وقتل مع ابن الزبير. ووقع في رواية الأوزاعي عن يحيى عن محمد بن إبراهيم عن شقيق بن سلمة. هذه رواية الوليد بن مسلم عند النسائي وابن ماجه. وفي رواية عبد الحميد بن حبيب عن الأوزاعي بسنده "عن عيسى بن طلحة" بدل شقيق بن سلمة. قال المزي في "الأطراف": رواية الوليد أصوب. قلت: ورواية شيبان أرجح من رواية الأوزاعي لأن نافع بن جبير وعبد الله بن أبي سلمة وافقا محمد بن إبراهيم التيمي في روايته له عن معاذ بن عبد الرحمن، ويحتمل أن يكون الطريقان محفوظين لأن محمد بن إبراهيم صاحب حديث فلعله سمعه من معاذ ومن عيسى بن طلحة وكل منهما من رهطه ومن بلده المدينة النبوية، وأما شقيق بن سلمة فليس من رهطه ولا من بلده. والله أعلم. قوله: "أن ابن أبان أخبره" قال عياض وقع لأبي ذر والنسفي والكافة "أن ابن أبان أخبره" ووقع لابن السكن "أن حمران بن أبان" ووقع للجرجاني وحده "أن أبان أخبره" وهو خطأ. قلت: ووقع في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر "أن ابن أبان" وقد أخرجه أحمد عن الحسن بن موسى عن شيبان بسند البخاري فيه ووقع عنده "أن حمران بن أبان أخبره". قوله: "فأحسن الوضوء" في رواية نافع بن جبير عن حمران "فأسبغ الوضوء" وتقدم في الطهارة من وجه آخر عن حمران بيان صفة الإسباغ المذكور والتثليث فيه وقول عروة "إن هذا أسبغ الوضوء". قوله: "ثم قال من توضأ مثل هذا الوضوء" تقدم هناك توجيهه وتعقب من نفي ورود الرواية بلفظ: "مثل" وأن الحكمة في ورودها بلفظ: "نحو" التعذر على كل أحد أن يأتي بمثل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "ثم أتى المسجد فركع ركعتين ثم جلس" هكذا

(11/250)


أطلق صلاة ركعتين، وهو نحو رواية ابن شهاب. الماضية في كتاب الطهارة، وقيده مسلم في روايته من طريق نافع بن جبير عن حمران بلفظ: "ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو في المسجد" وكذا وقع في رواية هشام بن عروة عن أبيه عن حمران عنده "فيصلي صلاة" وفي أخرى له عنه "فيصلي الصلاة المكتوبة" وزاد: "إلا غفر الله له ما بينها وبين الصلاة التي تليها" أي التي سبقتها، وفيه تقييد لما أطلق قوله في الرواية الأخرى "غفر الله له ما تقدم من ذنبه" وإن التقدم خاص بالزمان الذي بين الصلاتين، وأصرح منه في رواية أبي صخرة عن حمران عند مسلم أيضا: "ما من مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب عليه فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارة لما بينهن"، وتقدم من طريق عروة عن حمران "إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة حتى يصليها" وله من طريق عمرو بن سعيد بن العاص عن عثمان بنحوه، وفيه تقييده بمن لم يغش الكبيرة، وقد بينت توجيه ذلك في كتاب الطهارة واضحا، والحاصل أن لحمران عن عثمان حديثين في هذا: أحدهما مقيد بترك حديث النفس وذلك في صلاة ركعتين مطلقا غير مقيد بالمكتوبة، والآخر في الصلاة المكتوبة في الجماعة أو في المسجد من غير تقييد بترك حديث النفس. قوله: "قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تغتروا" قدمت شرحه في الطهارة وحاصله لا تحملوا الغفران على عمومه في جميع الذنوب فتسترسلوا في الذنوب اتكالا على غفرانها بالصلاة، فإن الصلاة التي تكفر الذنوب هي المقبولة ولا اطلاع لأحد عليه. ظهر لي جواب آخر وهو أن المكفر بالصلاة هي الصغائر فلا تغتروا فتعملوا الكبيرة بناء على تكفير الذنوب بالصلاة فإنه خاص بالصغائر، أو لا تستكثروا من الصغائر فإنها بالإصرار تعطي حكم الكبيرة فلا يكفرها ما يكفر الصغيرة، أو أن ذلك خاص بأهل الطاعة فلا يناله من هو مرتبك في المعصية. والله أعلم.

(11/251)


9 - باب ذَهَابِ الصَّالِحِينَ وَيُقَالُ الذِّهَابُ الْمَطَرُ
6434- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ مِرْدَاسٍ الأَسْلَمِيِّ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوْ التَّمْرِ لاَ يُبَالِيهِمْ اللَّهُ بَالَةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يُقَالُ حُفَالَةٌ وَحُثَالَةٌ"
قوله: "باب ذهاب الصالحين" أي موتهم. قوله: "ويقال الذهاب المطر" ثبت هذا في رواية السرخسي وحده ومراده أن لفظ الذهاب مشترك على المضي وعلى المطر. وقال بعض أهل اللغة: الذهاب الأمطار اللينة، وهو جمع ذهبة بكسر أوله وسكون ثانيه. قوله: "حدثني يحيى بن حماد" هو من قدماء مشايخه، وقد أخرج عنه بواسطة في كتاب الحيض. قوله: "عن بيان" بموحدة ثم تحتانية خفيفة وهو ابن بشر، وقيس هو ابن أبي حازم، ومرداس الأسلمي هو ابن مالك، زاد الإسماعيلي: رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي عنده في رواية محمد بن فضيل عن بيان، وتقدم من وجه آخر في غزوة الحديبية من كتاب المغازي أنه كان من أصحاب الشجرة أي الذين بايعوا بيعة الرضوان، وذكر مسلم في الوحدان وتبعه جماعة ممن صنف فيها أنه لم يرو عنه إلا قيس بن أبي حازم، ووقع في "التهذيب للمزي" في ترجمة مرداس هذا أنه روى عنه زياد بن علاقة أيضا، وتعقب بأنه مرداس آخر أفرده أبو

(11/251)


علي بن السكن في الصحابة عن مرداس بن مالك وقال: إنه مرداس بن غروة. وممن فرق بينهما البخاري والرازي والبستي ورجحه ابن السكن. قوله: "يذهب الصالحون الأول فالأول" في رواية عبد الواحد بن غياث عن أبي عوانة عند الإسماعيلي: "يقبض" بدل يذهب والمراد قبض أرواحهم، وعنده من رواية خالد الطحان عن بيان "يذهب الصالحون أسلافا وقبض الصالحون الأول فالأول" والثانية تفسير للأولى.قوله: "ويبقى حثالة أو حفالة" هو شك هل هي بالثاء المثلثة أو بالفاء والحاء المهملة في الحالين ووقع في رواية عبد الواحد "حثالة" بالمثلثة جزما.قوله: "كحثالة الشعير أو التمر" يحتمل الشك ويحتمل التنويع، وقع في رواية عبد الواحد "كحثالة الشعير" فقط. وفي رواية: "حتى لا يبقى إلا مثل حثالة التمر والشعير" زاد غير أبي ذر من رواة البخاري: قال أبو عبد الله وهو البخاري حثالة وحفالة يعني أنهما بمعنى واحد.وقال الخطابي: الحثالة بالفاء وبالمثلثة الرديء من كل شيء، وقيل آخر ما يبقى من الشعير والتمر وأردأه. وقال ابن التين: الحثالة سقط الناس، وأصلها ما يتساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما.وقال الداودي: ما يسقط من الشعير عند الغربلة ويبقى من التمر بعد الأكل.ووجدت لهذا الحديث شاهدا من رواية الفزارية امرأة عمر بلفظ: "تذهبون الخير فالخير حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر ينزو بعضهم على بعض نزو المعز" أخرجه أبو سعيد بن يونس في "تاريخ مصر" وليس فيه تصريح برفعه لكن له حكم المرفوع. قوله: "لا يباليهم الله بالة" قال الخطابي: أي لا يرفع لهم قدرا ولا يقيم لهم وزنا، يقال باليت بفلان وما باليت به مبالاة وبالية وبالة.وقال غيره: أصل بالة بالية فحذفت الياء تخفيفا. وتعقب قول الخطابي بأن بالية ليس مصدرا لباليت وإنما هو اسم مصدره. وقال أبو الحسن القابسي: سمعته في الوقف بالة، ولا أدري كيف هو في الدرج، والأصل باليته بالاة فكأن الألف حذفت في الوقف. كذا قال، وتعقبه ابن التين بأنه لم يسمع في مصدره بالاة. قال: ولو علم القابسي ما نقله الخطابي أن بالة مصدر مصادر لما احتاج إلى هذا التكلف. قلت: تقدم في المغازي من رواية عيسى بن يونس عن بيان بلفظ:" لا يعبأ الله بهم شيئا "وفي رواية عبد الواحد" لا يبالي الله عنهم" وكذا في رواية خالد الطحان، و "عن" هنا بمعنى الباء يقال ما باليت به وما باليت عنه، وقول يعبأ بالمهملة الساكنة والموحدة مهموز أي لا يبالي، وأصله من العبء بالكسر ثم الموحدة مهموز وهو الثقل فكأن معنى لا يعبأ به أنه لا وزن له عنده. ووقع في آخر حديث الفزارية المذكور آنفا" على أولئك تقوم الساعة "قال ابن بطال: في الحديث أن موت الصالحين من أشراط الساعة.وفيه الندب إلى الاقتداء بأهل الخير، والتحذير من مخالفتهم خشية أن يصير من خالفهم ممن لا يعبأ الله به.وفيه أنه يجوز انقراض أهل الخير في آخر الزمان حتى لا يبقى إلا أهل الشر، واستدل به على جواز خلو الأرض من عالم حتى لا يبقى إلا أهل الجهل صرفا. ويؤيده الحديث الآتي في الفتن "حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا" وسيأتي بسط القول في هذه المسألة هناك إن شاء الله تعالى.
"تنبيه": وقع في نسخة الصغاني هنا قال أبو عبد الله حفالة وحثالة أي أنها رويت بالفاء وبالمثلثة، وهما بمعنى واحد.

(11/252)


باب ما يتقى من فتنة المال وقوله تعالى (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)
...
10- باب مَا يُتَّقَى مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ, وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}

(11/252)


6435- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ"
6436- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا وَلاَ يَمْلاَ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ"
[الحديث 6436- طرفه في: 6437]
6437- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِثْلَ وَادٍ مَالًا لاَحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ وَلاَ يَمْلاَ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلاَ أَدْرِي مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ أَمْ لاَ قَالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ"
6438- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَكَّةَ فِي خُطْبَتِهِ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ أُعْطِيَ وَادِيًا ملآن مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلاَ يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ"
6439- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ "قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلَنْ يَمْلاَ فَاهُ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ
6440- وَقَالَ لَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ كُنَّا نَرَى هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ}
قوله: "باب ما يتقى" بضم أوله وبالمثناة والقاف. قوله: "من فتنة المال" أي الالتهاء به. قوله: "وقول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي تشغل البال عن القيام بالطاعة، وكأنه أشار بذلك إلى ما أخرجه الترمذي وابن حيان والحاكم وصححوه من حديث كعب بن عياض "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال" وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور عن جبير بن نفير مثله وزاد: "ولو سيل لابن آدم

(11/253)


واديان من مال لتمنى إليه ثالثا" الحديث وبها تظهر المناسبة جدا؛ وقوله سيل بكسر المهملة بعدها تحتانية ساكنة ثم لام على البناء للمجهول يقال سال الوادي إذا جرى ماؤه، وأما الفتنة بالولد فورد فيه ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن صححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث بريدة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يعثران فنزل عن المنبر فحملها فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولاكم فتنة" الحديث وظاهر الحديث أن قطع الخطبة والنزول لهما فتنة دعا إليها محبة الولد فيكون مرجوحا، والجواب أن ذلك إنما هو في حق غيره، وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فهو لبيان الجواز فيكون في حقه راجحا، ولا يلزم من فعل الشيء لبيان الجواز أن لا يكون الأولى ترك فعله ففيه تنبيه على أن الفتنة بالولد مراتب، وإن هذا من أدناها، وقد يجر إلى ما فوقه فيحذر.قوله: "حدثني يحيى بن يوسف" هو الزمي بكسر الزاي وتشديد الميم ويقال له ابن أبي كريمة فقيل هي كنية أبيه وقيل.هو جده واسمه كنيته، أخرج عنه البخاري بغير واسطة في الصحيح وأخرج عنه خارج الصحيح بواسطة. قوله: "أخبرني أبو بكر بن عياش" بمهملة تحتانية ثقيلة ثم معجمة، ووقع في رواية غير أبي ذر "حدثنا". قوله: "عن أبي حصين" بمهملتين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم. وفي رواية غير أبي ذر أيضا: "حدثنا". قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية الإسماعيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإسماعيلي وافق أبا بكر على رفعه شريك القاضي، وقيس بن الربيع عن أبي حصين، وخالفهم إسرائيل فرواه عن أبي حصين موقوفا. قلت: إسرائيل أثبت منهم، ولكن اجتماع الجماعة يقاوم ذلك، وحينئذ تتم المعارضة بين الرفع والوقف فيكون الحكم للرفع والله أعلم. وقد تقدم هذا الحديث سندا ومتنا في باب الحراسة في الغزو من كتاب الجهاد، وهو من نوادر ما وقع في هذا الجامع الصحيح. قوله: "تعس" بكسر العين المهملة ويجوز الفتح أي سقط والمراد هنا هلك. وقال ابن الأنباري: التعس الشر، قال تعالى: {فَتَعْساً لَهُمْ} أراد ألزمهم الشر، وقيل التعس البعد أي بعدا لهم.وقال غيره قولهم تعسا لفلان نقيض قولهم لعا له، فتعسا دعاء عليه بالعثرة ولعا دعاء له بالانتقاش.قوله: "عبد الدينار" أي طالبه الحريص على جمعه القائم على حفظه، فكأنه لذلك خادمه وعبده. قال الطيبي: قيل خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها كالأسير الذي لا يجد خلاصا، ولم يقل مالك الدينار ولا جامع الدينار لأن المذموم من الملك والجمع الزيادة على قدر الحاجة. وقوله: "إن أعطى إلخ "يؤذن بشدة الحرص على ذلك. وقال غيره: جعله عبدا لهما لشغفه وحرصه، فمن كان عبدا لهواه لم يصدق في حقه "إياك نعبد" فلا يكون من اتصف بذلك صديقا. قوله: "والقطيفة" هي الثوب الذي له خمل "والخميصة الكساء المربع" وقد تقدم الحديث، في كتاب الجهاد من رواية عبد الله بن دينار عن أبي صالح بلفظ: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" وقوله وانتكس أي عاوده المرض فعلى ما تقدم من تفسير التعس بالسقوط يكون المراد أنه إذا قام من سقطته عاوده السقوط، ويحتمل أن يكون المعنى بانتكس بعد تعس انقلب على رأسه بعد أن سقط. ثم وجدته في شرح الطيبي، قال في قوله: "تعس وانتكس" فيه الترقي في الدعاء عليه لأنه إذا تعس انكب على وجهه فإذا انتكس انقلب على رأسه، وقيل التعس الخر على الوجه والنكس الخر على الرأس. وقوله في الرواية المذكورة "وإذا شيك" بكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم كاف أي إذا

(11/254)


دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها بالمنقاش وهو معنى قوله فلا انتقش، ويحتمل أن يريد لم يقدر الطبيب أن يخرجها.وفيه إشارة إلى الدعاء عليه بما يثبطه عن السعي والحركة، وسوغ الدعاء عليه كونه قصر عمله على جمع الدنيا واشتغل بها عن الذي أمر به من التشاغل بالواجبات والمندوبات.قال الطيبي: وإنما خص انتقاش الشوكة بالذكر لأنه أسهل ما يتصور من المعاونة، فإذا انتفى ذلك الأسهل انتفى ما فوقه بطريق الأولى.قوله: "إن أعطي" بضم أوله. قوله: "وإن لم يعط لم يرض" وقع من وجه آخر عن أبي بكر بن عياش عند ابن ماجه والإسماعيلي بلفظ الوفاء عوض الرضا وأحدهما ملزوم للآخر غالبا. قوله: "عن عطاء" هو ابن أبي رباح، وصرح في الرواية الثانية بسماع ابن جريج له من عطاء، وهذا هو الحكمة في إيراد الإسناد النازل عقب العالي إذ بينه وبين ابن جريح في الأول واحد وفي الثاني اثنان، وفي السند الثاني أيضا فائدة أخرى وهي الزيادة في آخره، ومحمد في الثاني هو ابن سلام وقد نسب في رواية أبي زيد المروزي كذلك، ومخلد بفتح الميم واللام بينهما خاء معجمة. قوله: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم" هذا من الأحاديث التي صرح فيها ابن عباس بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قليلة بالنسبة لمرويه عنه، فإنه أحد المكثرين، ومع ذلك فتحمله كان أكثره عن كبار الصحابة. قوله: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا" في الرواية الثانية "لو أن لابن آدم واديا مالا لأحب أن له إليه مثله" ونحوه في حديث أنس في الباب وجمع بين الأمرين في الباب أيضا، ومثله في مرسل جبير بن نفير الذي قدمته وفي حديث أبي الذي سأذكره، وقوله: "من مال" فسره في حديث ابن الزبير بقوله: "من ذهب" ومثله في حديث أنس في الباب وفي حديث زيد بن أرقم عند أحمد وزاد: "وفضة" وأوله مثل لفظ رواية ابن عباس الأولى، ولفظه عند أبي عبيدة في فضائل القرآن "كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغى الثالث" وله من حديث جابر بلفظ: "لو كان لابن آدم وادي نخل" وقوله: "لابتغى" بالغين المعجمة وهو افتعل بمعنى الطلب، ومثله في حديث زيد بن أرقم، وفي الرواية الثانية "أحب" وكذا في حديث أنس. وقال في حديث أنس "لتمنى مثله ثم تمنى مثله حتى يتمنى أودية". قوله: "ولا يملأ جوف ابن آدم" في رواية حجاج بن محمد عن ابن جريح عند الإسماعيلي: "نفس" بدل "جوف" وفي حديث جابر كالأول، وفي مرسل حبير بن نفير "ولا يشبع" بضم أوله "جوف" وفي حديث ابن الزبير "ولا يسد جوف" وفي الرواية الثانية في الباب: "ولا يملأ عين" وفي حديث أنس فيه: "ولا يملأ فاه" ومثله في حديث أبي واقد عند أحمد، وله في حديث زيد بن أرقم "ولا يملأ بطن" قال الكرماني: ليس المراد الحقيقة في عضو بعينه بقرينة عدم الانحصار في التراب إذ غيره يملؤه أيضا، بل هو كناية عن الموت لأنه مستلزم للامتلاء، فكأنه قال لا يشبع من الدنيا حتى يموت، فالغرض من العبارات كلها واحد وهي من التفنن في العبارة. قلت: وهذا يحسن فيما إذا اختلفت مخارج الحديث، وأما إذا اتحدت فهو من تصرف الرواة، ثم نسبة الامتلاء للجوف واضحة، والبطن بمعناه، وأما النفس فعبر بها عن الذات وأطلق الذات وأراد البطن من إطلاق الكل وإرادة البعض، وأما بالنسبة إلى الفم فلكونه الطريق إلى الوصول للجوف، ويحتمل أن يكون المراد بالنفس العين، وأما العين فلأنها الأصل في الطلب لأنه يرى ما يعجبه فيطلبه ليحوزه إليه، وخص البطن في أكثر الروايات لأن أكثر ما يطلب المال لتحصيل المستلذات أكثرها يكون للأكل والشرب. وقال الطيبي: وقع قوله: "ولا يملأ إلخ" موقع التذييل والتقرير للكلام السابق كأنه قيل ولا يشبع من خلق من

(11/255)


التراب إلا بالتراب.ويحتمل أن تكون الحكمة في ذكر التراب، دون غيره أن المرء لا ينقضي طمعه حتى يموت، فإذا مات كان من شأنه أن يدفن فإذا دفن صب عليه التراب فملأ حوفه وفاه وعينيه ولم يبق منه موضع يحتاج إلى تراب غيره.وأما النسبة إلى الفم فلكونه الطريق إلى للوصول للجوف.قوله: "ويتوب الله على من تاب" أي أن الله يقبل التوبة من الحريص كما يقبلها من غيره، قيل وفيه إشارة إلى ذم الاستكثار من جمع المال وتمني ذلك والحرص عليه، للإشارة إلى أن الذي يترك ذلك يطلق عليه أنه تاب، ويحتمل أن يكون تاب بالمعنى اللغوي وهو مطلق الرجوع أي رجع عن ذلك الفعل والتمني. وقال الطيبي: يمكن أن يكون معناه أن الآدمي مجبول على حب المال وأنه لا يشبع من جمعه إلا من حفظه الله تعالى ووفقه لإزالة هذه الجبلة عن نفسه وقليل ما هم، فوضع "ويتوب" موضعه إشعارا بأن هذه الجبلة مذمومة جارية مجرى الذنب، وأن إزالتها ممكنة بتوفيق الله وتسديده، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ففي إضافة الشح إلى النفس دلالة على أنه غريزة فيها. وفي قوله: "ومن يوق" إشارة إلى إمكان إزالة ذلك، ثم رتب الفلاح على ذلك قال: وتؤخذ المناسبة أيضا من ذكر التراب، فإن فيه إشارة إلى أن الآدمي خلق من التراب ومن طبعه القبض واليبس، وأن إزالته ممكنة بأن يمطر الله عليه ما يصلحه حتى يثمر الخلال الزكية والخصال المرضية، قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} فوقع قوله: "ويتوب الله إلخ" موقع الاستدراك، أي أن ذلك العسر الصعب يمكن أن يكون يسيرا على من يسره الله تعالى عليه. قوله: "قال ابن عباس: فلا أدري من القرآن هو أم لا" يعني الحديث المذكور، وسيأتي بيان ذلك في الكلام على حديث أبي. قوله: "قال وسمعت ابن الزبير" القائل هو عطاء، وهو متصل بالسند المذكور. وقوله: "على المنبر" بين في الرواية التي بعدها أنه منبر مكة، وقوله: "ذلك" إشارة إلى الحديث، وظاهره أنه باللفظ المذكور بدون زيادة ابن عباس. قوله: "عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل" أي غسيل الملائكة وهو حنظلة بن أبي عامر الأوسي، وهو جد سليمان المذكور لأنه ابن عبد الله بن حنظلة، ولعبد الله صحبة وهو من صغار الصحابة وقتل يوم الحرة وكان الأمير على طائفة الأنصار يومئذ، وأبوه استشهد بأحد وهو من كبار الصحابة وأبوه أبو عامر يعرف بالراهب وهو الذي بني مسجد الضرار بسببه ونزل فيه القرآن. وعبد الرحمن معدود في صغار التابعين لأنه لقي بعض صغار الصحابة، وهذا الإسناد من أعلى ما في صحيح البخاري لأنه في حكم الثلاثيات وإن كان رباعيا، وعباس بن سهل بن سعد هو ولد الصحابي المشهور. قوله: "عبد العزيز" هو الأويسي، وصالح هو ابن كيسان، وابن شهاب هو الزهري. قوله: "أحب أن يكون" كذا وقع بغير لام وهو جائز، وقد تقدم من رواية ابن عباس بلفظ: "لأحب" قوله: "وقال لنا أبو الوليد" هو الطيالسي هشام بن عبد الملك، وشيخه حماد بن سلمة لم يعدوه فيمن خرج له البخاري موصولا، بل علم المزي على هذا السند في" الأطراف" علامة التعليق، وكذا رقم لحماد بن سلمة في التهذيب علامة التعليق ولم ينبه على هذا الموضع، وهو مصير منه إلى استواء قال فلان وقال لنا فلان، وليس بجيد لأن قوله قال لنا ظاهر في الوصل وإن كان بعضهم قال إنها للإجازة أو للمناولة أو للمذاكرة فكل ذلك في حكم الموصول، وإن كان التصريح بالتحديث أشد اتصالا، والذي ظهر لي بالاستقراء من صنيع البخاري أنه لا يأتي بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن ليس على شرطه في أصل موضوع كتابه، كأن يكون

(11/256)


ظاهره الوقف، أو في السند من ليس على شرطه في الاحتجاج، فمن أمثلة الأول قوله في كتاب النكاح في "باب ما يحل من النساء وما يحرم": "قال لنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد هو القطان" فذكر عن ابن عباس قال: "حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع" الحديث، فهذا من كلام ابن عباس فهو موقوف، وإن كان يمكن أن يتلمح له ما يلحقه بالمرفوع. ومن أمثلة الثاني قوله في المزارعة "قال لنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان العطار" فذكر حديث أنس "لا يغرس مسلم غرسا" الحديث، فأبان ليس على شرطه كحماد بن سلمة، وعبر في التخريج لكل منهما بهذه الصيغة لذلك، وقد علق عنهما أشياء بخلاف الواسطة التي بينه وبينه وذلك تعليق ظاهر؛ وهو أظهر في كونه لم يسقه مساق الاحتجاج من هذه الصيغة المذكورة هنا، لكن السر فيه ما ذكرت وأمثلة ذلك في الكتاب كثيرة تظهر لمن تتبعها. قوله: "عن ثابت" هو البناني ويقال إن حماد بن سلمة كان أثبت الناس في ثابت، وقد أكثر مسلم من تخريج ذلك محتجا به ولم يكثر من الاحتجاج بحماد بن سلمة كإكثاره في احتجاجه بهذه النسخة. قوله: "عن أبي" هو ابن كعب، وهذا من رواية صحابي عن صحابي وإن كان أبي أكبر من أنس. قوله: "كنا نرى" بضم النون أوله أي نظن، ويجوز فتحها من الرأي أي نعتقد. قوله: "هذا" لم يبين ما أشار إليه بقوله هذا، وقد بينه الإسماعيلي من طريق موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة ولفظه: "كنا نرى هذا الحديث من القرآن: لو أن لابن آدم واديين من مال لتمني واديا ثالثا "الحديث دون قوله: "ويتوب الله إلخ". قوله: "حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} " زاد في رواية موسى بن إسماعيل "إلى آخر السورة" وللإسماعيلي أيضا من طريق عفان ومن طريق أحمد بن إسحاق، الحضرمي قالا "حدثنا حماد بن سلمة" فذكر مثله وأوله "كنا نرى أن هذا من القرآن إلخ". "تنبيه": هكذا وقع حديث أبي بن كعب من رواية ثابت عن أنس عنه مقدما على رواية ابن شهاب عن أنس في هذا الباب عند أبي ذر، وعكس ذلك غيره وهو الأنسب، قال ابن بطال وغيره: قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} خرج على لفظ الخطاب لأن الله فطر الناس على حب المال والولد فلهم رغبة في الاستكثار من ذلك، ومن لازم ذلك الغفلة عن القيام بما أمروا به حتى يفجأهم الموت. وفي أحاديث الباب ذم الحرص والشره ومن ثم آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا والقناعة باليسير والرضا بالكفاف، ووجه ظنهم أن الحديث المذكور من القرآن ما تضمنه من ذم الحرص على الاستكثار من جمع المال والتقريع بالموت الذي يقطع ذلك ولا بد لكل أحد منه، فلما نزلت هذه السورة وتضمنت معنى ذلك مع الزيادة عليه علموا أن الأول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شرحه بعضهم على أنه كان قرآنا ونسخت تلاوته لما نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فاستمرت تلاوتها فكانت ناسخة لتلاوة ذلك. وأما الحكم فيه والمعنى فلم ينسخ إذ نسخ التلاوة لا يستلزم المعارضة بين الناسخ والمنسوخ كنسخ الحكم، والأول أولى، وليس ذلك من النسخ في شيء. قلت: يؤيد ما رده ما أخرجه الترمذي من طريق زر بن حبيش "عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ عليه {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قال وقرأ فيها: إن الدين عند الله الحنيفية السمحة" الحديث، وفيه: "وقرأ عليه: لو أن لابن آدم واديا من مال" الحديث وفيه: "ويتوب الله على من تاب" وسنده جيد، والجمع بينه وبين حديث أنس عن أبي المذكور آنفا أنه يحتمل أن يكون أبي لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم "لم يكن" وكان هذا الكلام في آخر ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم احتمل عنده أن يكون بقية السورة واحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتهيأ له أن يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك حتى

(11/257)


نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فلم ينتف الاحتمال. ومنه ما وقع عند أحمد وأبي عبيد في "فضائل القرآن" من حديث أبي واقد الليثي قال: "كنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه فيحدثنا، فقال لنا ذات يوم: إن الله قال إنما أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون له ثان" الحديث بتمامه، وهذا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به عن الله تعالى على أنه من القرآن، ويحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية، والله أعلم وعلى الأول فهو مما نسخت تلاوته جزما وإن كان حكمه مستمرا. ويؤيد هذا الاحتمال ما أخرج أبو عبيد في "فضائل القرآن" من حديث أبي موسى قال: "قرأت سورة نحو براءة فغبت وحفظت منها: ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا" الحديث، ومن حديث جابر "كنا نقرأ لو أن لابن آدم ملء واد مالا لأحب إليه مثله"

(11/258)


11 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "هَذَا الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ" , وقوله تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ عُمَرُ اللَّهُمَّ إِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ إِلاَّ أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَهُ لَنَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ أُنْفِقَهُ فِي حَقِّهِ
6441- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ هَذَا الْمَالُ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ قَالَ لِي يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا المال خضرة حلوة" تقدم شرحه قريبا في "باب ما يحذر من زهرة الدنيا" في شرح حديث أبي سعيد الخدري.قوله: "وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} الآية" كذا لأبي ذر، ولأبي زيد المروزي {حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الآية" وللإسماعيلي مثل أبي ذر وزاد:" إلى قوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وساق ذلك في رواية كريمة. وقوله: "زين" قيل الحكمة في ترك الإفصاح بالذي زين أن يتناول اللفظ جميع من تصح نسبة التزيين إليه، وإن كان العلم أحاط بأنه سبحانه وتعالى هو الفاعل بالحقيقة، فهو الذي أوجد الدنيا وما فيها وهيأها للانتفاع وجعل القلوب مائلة إليها، وإلى ذلك الإشارة بالتزيين ليدخل فيه حديث النفس ووسوسة الشيطان، ونسبة ذلك إلى الله تعالى باعتبار الخلق والتقدير والتهيئة، ونسبة ذلك للشيطان باعتبار ما أقدره الله عليه من التسلط على الآدمي بالوسوسة الناشئ عنها حديث النفس. وقال ابن التين بدأ في الآية بالنساء لأنهن أشد الأشياء فتنة للرجال، ومنه حديث: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" قال: ومعنى تزيينها إعجاب الرجل بها وطواعيته لها. والقناطير جمع قنطار، واختلف في تقديره فقيل سبعون ألف دينار وقيل سبعة آلاف دينار وقيل مائة وعشرون رطلا وقيل مائة رطل وقيل ألف مثقال وقيل ألف ومائتا أوقية،

(11/258)


وقيل معناه الشيء الكثير مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه. وقال ابن عطية: القول الأخير قيل هذا أصح الأقوال لكن يختلف القنطار في البلاد باختلافها في قدر الوقية. قوله: "وقال عمر: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرج بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه" سقط هذا التعليق في رواية أبي زيد المروز، وفي هذا الأثر إشارة إلى أن فاعل التزيين المذكور في الآية هو الله، وأن تزيين ذلك بمعنى تحسينه في قلوب بني آدم وأنهم جبلوا على ذلك، لكن منهم من استمر على ما طبع عليه من ذلك وانهمك فيه وهو المذموم، ومنهم من راعى فيه الأمر والنهي ووقف عند ما حد له من ذلك وذلك بمجاهدة نفسه بتوفيق الله تعالى له فهذا لم يتناوله الذم، ومنهم من ارتقى عن ذلك فزهد فيه بعد أن قدر عليه وأعرض عنه مع إقباله عليه وتمكنه منه، فهذا هو المقام المحمود، وإلى ذلك الإشارة بقول عمر "اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه" وأثره هذا وصله الدار قطني في غرائب مالك من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن مالك عن يحيى بن سعيد هو الأنصاري "أن عمر بن الخطاب أتى بمال من المشرق يقال له نفل كسرى، فأمر به فصب وغطى، ثم دعا الناس فاجتمعوا ثم أمر به فكشف عنه، فإذا حلى كثير وجوهر ومتاع، فبكى عمر وحمد الله عز وجل فقالوا له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ هذه غنائم غنمها الله لنا ونزعها من أهلها، فقال: ما فتح من هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم واستحلوا حرمتهم. قال فحدثني زيد بن أسلم أنه بقى من ذلك المال مناطق وخواتم فرفع، فقال له عبد الله بن أرقم: حتى متى تحبسه لا تقسمه؟ قال: بلى إذا رأيتني فارغا فآذني به، فلما رآه فارغا بسط شيئا في حش نخلة ثم جاء به في مكتل فصبه. فكأنه استكثره ثم قال: اللهم أنت قلت {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} ، فتلا الآية حتى فرغ منها ثم قال: لا نستطيع إلا أن نحب ما زينت لنا، فقني شره وارزقني أن أنفقه في حقك، فما قام حتى ما بقي منه شيء" وأخرجه أيضا من طريق عبد العزيز بن يحيى المدني عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه نحوه، وهذا موصول لكن في سنده إلى عبد العزيز ضعف. وقال بعد قوله واستحلوا حرمتهم وقطعوا أرحامهم: فما رام حتى قسمه، وبقيت منه قطع. وقال بعد قوله لا نستطيع إلا أن يتزين لنا ما زينت لنا. والباقي نحوه، وزاد في آخره قصة أخرى. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "ثم قال: إن هذا المال، ربما قال سفيان: قال لي يا حكيم إن هذا المال" فاعل قال أولا هو النبي صلى الله عليه وسلم والقائل "ربما" هو علي بن المدايني راويه عن سفيان، والقائل قال لي هو حكيم بن حزام صحابي الحديث المذكور، وحكيم بالرفع بغير تنوين منادى مفرد حذف منه حرف النداء، وظاهر السياق إن حكيما قال لسفيان وليس كذلك لأنه لم يدركه لأن بين وفاة حكيم ومولد سفيان نحو الخمسين سنة ولهذا لا يقرأ حكيم بالتنوين وإنما المراد أن سفيان رواه مرة بلفظ: "ثم قال" أي النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا المال" ومرة بلفظ: "ثم قال لي يا حكيم إن هذا المال إلخ" وقد وقع بإثبات حرف النداء في معظم الروايات، وإنما سقط من رواية أبي زيد المروزي، وتقدم شرح قوله: "فمن أخذه بطيب نفس إلخ" في باب "الاستعفاف عن المسألة" من كتاب الزكاة، وتقدم شرح قوله في آخره: "واليد العليا خير من اليد السفلى" في "باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى" من كتاب الزكاة أيضا، وقوله: "بورك له فيه" زاد الإسماعيلي من رواية إبراهيم بن يسار عن سفيان بسنده ومتنه، وإبراهيم كان أحد الحفاظ وفيه مقال.

(11/259)


6442- حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ قَالَ فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ"
قوله: "باب ما قدم من ماله فهو له" الضمير للإنسان المكلف، وحذفه للعلم به وإن لم يجر له ذكر.قوله: "عمر بن حفص" أي ابن غياث. وعبد الله هو ابن مسعود، ورجال السند كلهم كوفيون. قوله: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله" أي أن الذي يخلفه الإنسان من المال وإن كان هو في الحال منسوبا إليه فإنه باعتبار انتقاله إلى وارثه يكون منسوبا للوارث، فنسبته للمالك في حياته حقيقية ونسبته للوارث في حياة المورث مجازية ومن بعد موته حقيقية. قوله: "فإن ماله ما قدم" أي هو الذي يضاف إليه في الحياة وبعد الموت بخلاف المال الذي يخلفه، وقد أخرجه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش به سندا ومتنا وزاد في آخره: "ما تعدون الصرعة فيكم" الحديث وزاد فيه أيضا: "ما تعدون الرقوب فيكم" قال ابن بطال وغيره: فيه التحريض على تقديم ما يمكن تقديمه من المال في وجوه القربة والبر لينتفع به في الآخرة، فإن كل شيء يخلفه المورث يصير ملكا للوارث فإن عمل فيه بطاعة الله اختص بثواب ذلك وكان ذلك الذي تعب في جمعه ومنعه، وإن عمل فيه بمعصية الله فذاك أبعد لمالكه الأول من الانتفاع به إن سلم من تبعته. ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم لسعد "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة" لأن حديث سعد محمول على من تصدق بماله كله أو معظمه في مرضه، وحديث ابن مسعود في حق من يتصدق في صحته وشحه.

(11/260)


باب المكثرزن هم المقلون
...
13 - باب الْمُكْثِرُونَ هُمْ الْمُقِلُّونَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
6443- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ "عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَحْدَهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ قَالَ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ قَالَ فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ فَالْتَفَتَ فَرَآنِي فَقَالَ مَنْ هَذَا قُلْتُ أَبُو ذَرٍّ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَالَهْ قَالَ فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً فَقَالَ إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمْ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا قَالَ فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً فَقَالَ لِي اجْلِسْ هَا هُنَا قَالَ فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ فَقَالَ لِي اجْلِسْ هَا هُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ قَالَ فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى لاَ أَرَاهُ فَلَبِثَ عَنِّي فَأَطَالَ اللُّبْثَ ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ وَهُوَ يَقُولُ وَإِنْ

(11/260)


سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ مَنْ تُكَلِّمُ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا قَالَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ قَالَ بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ نَعَمْ قَالَ قُلْتُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ نَعَمْ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ" قَالَ النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَالأَعْمَشُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ بِهَذَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُرْسَلٌ لاَ يَصِحُّ إِنَّمَا أَرَدْنَا لِلْمَعْرِفَةِ وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ مُرْسَلٌ أَيْضًا لاَ يَصِحُّ وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ اضْرِبُوا عَلَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا إِذَا مَاتَ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ"
قوله: "باب المكثرون هم المقلون" كذا للأكثر، وللكشميهني: "الأقلون" وقد ورد الحديث باللفظين، ووقع في رواية المعرور عن أبي ذر "الأخسرون" بدل "المقلون" وهو بمعناه بناء على أن المراد بالقلة في الحديث قلة الثواب وكل من قل ثوابه فهو خاسر بالنسبة لمن كثر ثوابه.قوله: "وقوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} الآيتين" كذا لأبي ذر. وفي رواية أبي زيد بعد قوله وزينتها {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} ومثله للإسماعيلي لكن قال: "إلى قوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ولم يقل الآية. وساق الآيتين في رواية الأصيلي وكريمة. واختلف في الآية فقيل: هي على عمومها في الكفار وفيمن يرائي بعمله من المسلمين، وقد استشهد بها معاوية لصحة الحديث الذي حدث به أبو هريرة مرفوعا في المجاهد والقارئ والمتصدق "لقوله تعالى لكل منهم: إنما عملت ليقال فقد قيل فبكى معاوية لما سمع هذا الحديث ثم تلا هذه الآية" أخرجه الترمذي مطولا وأصله عند مسلم، وقيل بل هي في حق الكفار خاصة بدليل الحصر في قوله في الآية التي تليها {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} والمؤمن في الجملة مآله إلى الجنة بالشفاعة أو مطلق العفو، والوعيد في الآية بالنار وإحباط العمل وبطلانه إنما هو للكافر.وأجيب عن ذلك بأن الوعيد بالنسبة إلى ذلك العمل الذي وقع الرياء فيه فقط فيجازي فاعله بذلك إلا أن يعفو الله عنه، وليس المراد إحباط جميع أعماله الصالحة التي لم يقع فيها رياء. والحاصل أن من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له وجوزي في الآخرة بالعذاب لتجريده قصده إلى الدنيا وإعراضه على الآخرة، وقيل نزلت في المجاهدين خاصة وهو ضعيف؛ وعلى تقديره ثبوته فعمومها شامل لكل مراء، وعموم قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي في الدنيا مخصوص بمن لم يقدر الله له ذلك لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} فعلى هذا التقييد يحمل ذلك المطلق، وكذا يقيد مطلق قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} وبهذا يندفع إشكال من قال قد يوجد بعض الكفار مقترا عليه في الدنيا غير موسع عليه من المال أو من الصحة أو من طول العمر، بل قد يوجد من هو منحوس الحظ من جميع ذلك كمن قيل في حقه {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ومناسبة ذكر

(11/261)


الآية في الباب لحديثه أن في الحديث إشارة إلى أن الوعيد الذي فيها محمول على التأقيت في حق من وقع له ذلك من المسلمين لا على التأييد لدلالة الحديث على أن مرتكب جنس الكبيرة من المسلمين يدخل الجنة، وليس فيه ما ينفي أنه قد يعذب قبل ذلك، كما أنه ليس في الآية ما ينفي أنه قد يدخل الجنة بعد التعذيب على معصية الرياء. قوله: "حدثنا جرير" هو ابن عبد الحميد، وقد روى جرير بن حازم هذا الحديث لكن عن الأعمش عن زيد ابن وهب كما سيأتي بيانه، لكن قتيبة لم يدركه ابن حازم، وعبد العزيز بن رفيع بفاء ومهملة مصغر مكي سكن الكوفة وهو من صغار التابعين لقي بعض الصحابة كأنس. قوله: "عن أبي ذر" في رواية الأعمش الماضية في الاستئذان عن زيد بن وهب "حدثنا والله أبو ذر بالربذة" بفتح الراء والموحدة بعدها معجمة مكان معروف من عمل المدينة النبوية وبينهما ثلاث مراحل من طريق العراق، سكنه أبو ذر بأمر عثمان ومات به في خلافته، وقد تقدم بيان سبب ذلك في كتاب الزكاة. قوله: "خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان" هو تأكيد لقوله: "وحده" ويحتمل أن يكون لرفع توهم أن يكون معه أحد من غير جنس الإنسان من ملك أو جني. وفي رواية الأعمش عن زيد بن وهب عنه "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء" فأفادت تعيين الزمان والمكان، والحرة مكان معروف بالمدينة من الجانب الشمالي منها وكانت به الوقعة المشهورة في زمن يزيد بن معاوية. وقيل الحرة الأرض التي حجارتها سود، وهو يشمل جميع جهات المدينة التي لا عمارة فيها، وهذا يدل على أن قوله في رواية المعرور بن سويد عن أبي ذر "انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ظل الكعبة وهو يقول هم الأخسرون ورب الكعبة" فذكر قصة المكثرون وهي قصة أخرى مختلفة الزمان والمكان والسياق. قوله: "فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد فجعلت أمشي في ظل القمر" أي في المكان الذي ليس للقمر فيه ضوء ليخفي شخصه، وإنما استمر يمشي لاحتمال أن يطرأ للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة فيكون قريبا منه. قوله: "فالتقت فرآني فقال: من هذا" كأنه رأى شخصه ولم يتميز له. قوله: "فقلت أبو ذر" أي أنا أبو ذر. قوله: "جعلني الله فداءك" في رواية أبي الأحوص في الباب بعده عن الأعمش وكذا لأبي معاوية عن الأعمش عند أحمد "فقلت لبيك يا رسول الله" وفي رواية حفص عن الأعمش كما مضى في الاستئذان "فقلت لبيك وسعديك". قوله: "فقال أبا ذر تعال" في رواية الكشميهني: "تعاله" بهاء السكت؛ قال الداودي: فائدة الوقوف على هاء السكت أن لا يقف على ساكنين نقله ابن التين، وتعقب بأن ذلك غير مطرد، وقد اختصر أبو زيد المروزي في روايته سياق الحديث في هذا الباب فقال بعد قوله: "ليس معه أحد" فذكر الحديث وقال فيه: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة": هكذا عنده وساق الباقون الحديث بتمامه، ويأتي شرحه مستوفي في الباب الذي بعده. قوله: "وقال النضر بن شميل أنبأنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت والأعمش وعبد العزيز بن رفيع قالوا حدثنا زيد بن وهب بهذا" الغرض بهذا التعليق تصريح الشيوخ الثلاثة المذكورين بأن زيد بن وهب حدثهم، والأولان نسبا إلى التدليس مع أنه لو ورد من رواية شعبة بغير تصريح لأمن فيه التدليس لأنه كان لا يحدث عن شيوخه إلا بما لا تدليس فيه، وقد ظهرت فائدة ذلك في رواية جرير بن حازم عن الأعمش فإنه زاد فيه بين الأعمش وزيد بن وهب رجلا مبهما، ذكر ذلك الدار قطني في "العلل" فأفادت هذه الرواية المصرحة أنه من المزيد في متصل الأسانيد. وقد اعترض الإسماعيلي على قول البخاري في هذا السند "بهذا" فأشار إلى رواية عبد العزيز ابن رفيع، واقتضى ذلك أن رواية

(11/262)


شعبة هذه نظير روايته فقال: ليس في حديث قصة المقلين والمكثرين، إنما فيه قصة من مات لا يشرك بالله شيئا قال: والعجب من البخاري كيف أطلق ذلك ثم ساقه موصولا من طريق حميد ابن زنجويه حدثنا النضر بن شميل عن شعبة ولفظه: "أن جبريل بشرني أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق". قيل لسليمان يعني الأعمش إنما روى هذا الحديث عن أبي الدرداء، فقال: إنما سمعته عن أبي ذر.ثم أخرجه من طريق معاذ حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت وبلال والأعمش وعبد العزيز بن رفيع سمعوا زيد بن وهب عن أبي ذر زاد فيه راويا وهو بلال وهو ابن مرداس الفزاري، شيخ كوفي أخرج له أبو داود، وهو صدوق لا بأس به. وقد أخرجه أبو داود الطيالسي عن شعبة كرواية النضر ليس فيه بلال، وقد تبع الإسماعيلي على اعتراضه المذكور جماعة منهم مغلطاي ومن بعده، والجواب عن البخاري واضح على طريقة أهل الحديث لأن مراده أصل الحديث، فإن الحديث المذكور في الأصل قد اشتمل على ثلاثة أشياء فيجوز إطلاق الحديث على كل واحد من الثلاثة إذا أريد بقول البخاري "بهذا" أي بأصل الحديث لا خصوص اللفظ المساق، فالأول من الثلاثة "ما يسرني أن لي أحدا ذهبا" وقد رواه عن أبي ذر أيضا بنحوه الأحنف بن قيس وتقدم في الزكاة، والنعمان الغفاري وسالم بن أبي الجعد وسويد بن الحارث كلهم عن أبي ذر، وروياتهم عند أحمد، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أبو هريرة وهو في آخر الباب من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنه، وسيأتي في كتاب التمني من طريق همام، وأخرجه مسلم من طريق محمد بن زياد وهو عند أحمد من طريق سليمان بن يسار كلهم عن أبي هريرة كما سأبينه. الثاني حديث المكثرين والمقلين، وقد رواه عن أبي ذر أيضا المعرور بن سويد كما تقدمت الإشارة إليه والنعمان الغفاري وهو عند أحمد أيضا. الثالث حديث: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" وفي بعض طرقه: "وإن زنى وإن سرق" وقد رواه عن أبي ذر أيضا أبو الأسود الدؤلي وقد تقدم في اللباس، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أبو هريرة كما سيأتي بيانه لكن ليس فيه بيان "وإن زنى وإن سرق" وأبو الدرداء كما تقدمت الإشارة إليه من رواية الإسماعيلي، وفيه أيضا فائدة أخرى وهو أن بعض الرواة قال عن زيد بن وهب عن أبي الدرداء، فلذلك قال الأعمش لزيد ما تقدم في رواية حفص بن غياث عنه: قلت لزيد بلغني أنه أبو الدرداء، فأفادت رواية شعبة أن حبيبا وعبد العزيز وافقا الأعمش على أنه عن زيد بن وهب عن أبي ذر لا عن أبي الدرداء، وممن رواه عن زيد بن وهب عن أبي الدرداء محمد بن إسحاق فقال عن عيسى بن مالك عن زيد بن وهب عن أبي الدرداء أخرجه النسائي، والحسن بن عبيد الله النخعي أخرجه الطبراني من طرقه عن زيد بن وهب عن أبي الدرداء بلفظ: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" فقال أبو الدرداء "وإن زنى وإن سرق" قال: "وإن زنى وإن سرق" فكررها ثلاثا وفي الثالثة "وإن رغم أنف أبي الدرداء" وسأذكر بقية طرقه عن أبي الدرداء في آخر الباب الذي يليه. وذكره الدار قطني في "العلل" فقال يشبه أن يكون القولان صحيحين. قلت: وفي حديث كل منهما في بعض الطرق ما ليس في الأخر.

(11/263)


باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ما أحب أن يكون لي مثل أحد ذهبا
...
14 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا
6444- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ "قَالَ أَبُو

(11/263)


ذَرٍّ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلاَّ شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ثُمَّ مَشَى فَقَالَ إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمْ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ثُمَّ قَالَ لِي مَكَانَكَ لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ ثُمَّ انْطَلَقَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى فَسَمِعْتُ صَوْتًا قَدْ ارْتَفَعَ فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِي لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى أَتَانِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتًا تَخَوَّفْتُ فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ وَهَلْ سَمِعْتَهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي فَقَالَ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ"
6445- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ "قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا لَسَرَّنِي أَنْ لاَ تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاَثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا" لم أر لفظ هذا في رواية الأكثر، لكنه ثابت في لفظ الخبر الأول. قوله: "حدثنا الحسن بن الربيع" هو أبو علي البوراني بالموحدة والراء وبعد الألف نون، وأبو الأحوص هو سلام بالتشديد ابن سليم. قوله: "فاستقبلنا أحد" في رواية عبد العزيز بن رفيع "فالتفت فرآني" كما تقدم وتقدم قصة المكثيرين والمقلين، وقوله: "فاستقبلنا أحد" هو بفتح اللام، وأحد بالرفع على الفاعلية. وفي رواية حفص بن غياث "فاستقبلنا أحدا" بسكون اللام وأحدا بالنصب على المفعولية. قوله: "فقال يا أبا ذر، فقلت: لبيك يا رسول الله" زاد في رواية سالم بن أبي الجعد ومنصور عن زيد بن وهب عند أحمد "فقال: يا أبا ذر أي جبل هذا؟ قلت: أحد" وفي رواية الأحنف الماضية في الزكاة "يا أبا ذر أتبصر أحدا؟ قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار، وأنا أرى أن يرسلني في حاجة له فقلت: نعم". قوله: "ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار" في رواية حفص بن غياث "ما أحب أن لي أحدا ذهبا يأتي علي يوم وليلة أو ثلاث عندي منه دينار" وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش عن أحمد "ما أحب أن لي أحدا ذاك ذهبا" وفي رواية أبي شهاب عن الأعمش في الاستئذان "فلما أبصر أحدا قال: ما أحب أنه تحول لي ذهبا يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث" قال ابن مالك تضمن هذا الحديث استعمال حول بمعنى صير وأعمالها عملها، وهو استعمال صحيح خفي على أكثر النحاة، وقد جاءت هذه الرواية مبينة لما لم يسم فاعله فرفعت أول المفعولين وهو ضمير عائد على أحد ونصب ثانيهما وهو قوله:

(11/264)


"ذهبا" فصارت ببنائها لما لم يسم فاعله جارية مجرى صار في رفع المبتدأ ونصب الخبر. انتهى كلامه. وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث، وهو متحد المخرج فهو من تصرف الرواة فلا يكون حجة في اللغة، ويمكن الجمع بين قوله: "مثل أحد" وبين قوله: "تحول لي أحد" يحمل المثلية على شيء يكون وزنه من الذهب وزن أحد، والتحويل على أنه إذا انقلب ذهبا كان قدر وزنه أيضا. وقد اختلفت ألفاظ رواته عن أبي ذر أيضا: ففي رواية سالم ومنصور عن زيد بن وهب بعد قوله قلت أحد قال: "والذي نفسي بيده ما يسرني أنه ذهب قطعا أنفقه في سبيل الله أدع منه قيراطا" وفي رواية سويد بن الحارث عن أبي ذر "ما يسرني أن لي أحدا ذهبا أموت يوم أموت وعندي منه دينار أو نصف دينار". واختلفت ألفاظ الرواة أيضا في حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب كما سأذكره. قوله: "تمضي علي ثالثة" أي ليلة ثالثة، قيل وإنما قيد بالثلاثة لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أحد من الذهب في أقل منها غالبا، ويعكر عليه رواية: "يوم وليلة" فالأولى أن يقال الثلاثة أقصى ما يحتاج إليه في تفرقة مثل ذلك، والواحدة أقل ما يمكن. قوله: "إلا شيئا أرصده لدين" أي أعداه أو أحفظه. وهذا الإرصاد أعم من أن يكون لصاحب دين غائب حتى يحضر فيأخذه، أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يحل فيوفى. ووقع في رواية حفص وأبي شهاب جميعا عن الأعمش "إلا دينار" بالرفع، والنصب والرفع جائزان لأن المستثنى منه مطلق عام والمستثنى مقيد خاص فاتجه للنصب، وتوجيه الرفع أن المستثنى منه في سياق النفي وجواب لو هنا في تقدير النفي، ويجوز أن يحمل النفي الصريح في أن لا يمر على حمل إلا على الصفة، وقد فسر الشيء في هذه الرواية بالدينار، ووقع في رواية سويد بن الحارث عن أبي ذر "وعندي منه دينار أو نصف دينار" وفي رواية سالم ومنصور "أدع منه قيراطا. قال قلت: قنطارا؟ قال: قيراطا" وفيه:" ثم قال يا أبا ذر إنما أقول الذي هو أقل" ووقع في رواية الأحنف "ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير" فظاهره نفي محبة حصول المال ولو مع الإنفاق وليس مرادا، وإنما المعنى نفي إنفاق البعض مقتصرا عليه، فهو يحب إنفاق الكل إلا ما استثنى، وسائر الطرق تدل على ذلك، ويؤيده أن في رواية سليمان بن يسار عن أبي هريرة عند أحمد "ما يسرني أن أحدكم هذا ذهبا أنفق منه كل يوم في سبيل الله فيمر بي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين" ويحتمل أن يكون على ظاهره والمراد بالكراهة الإنفاق في خاصة نفسه لا في سبيل الله فهو محبوب. قوله: "إلا أن أقول به في عباد الله" هو استثناء بعد استثناء فيفيد الإثبات، فيؤخذ منه أن نفي محبة المال مقيدة بعدم الإنفاق فيلزم محبة وجوده مع الإنفاق، فمادام الإنفاق مستمرا لا يكره وجود المال، وإذا انتفى الإنفاق ثبتت كراهية وجود المال، ولا يلزم من ذلك كراهية حصول شيء آخر ولو كان قدر أحد أو أكثر مع استمرار الإنفاق. قوله: "هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه" هكذا اقتصر على ثلاث، وحمل على المبالغة لأن العطية لمن بين يديه هي الأصل، والذي يظهر لي أن ذلك من تصرفات الرواة، وأن أصل الحديث مشتمل على الجهات الأربع، ثم وجدته في الجزء الثالث من "البشرانيات" من رواية أحمد بن ملاعب عن عمر ابن حفص بن غياث عن أبيه بلفظ: "إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا وهكذا، وأرانا بيده" كذا فيه بإثبات الأربع، وقد أخرجه المصنف في الاستئذان عن عمر بن حفص مثله، لكن اقتصر من الأربع على ثلاث، وأخرجه أبو نعيم من طريق سهل بن بحر عن عمر بن حفص فاقتصر على ثنتين. قوله: "ثم مشى ثم قال: ألا إن الأكثرين هم المقلون يوم

(11/265)


القيامة" في رواية أبي شهاب في الاستقراض ورواية حفص في الاستئذان "هم الأقلون" بالميم في الموضعين. وفي رواية عبد العزيز بن رفيع الماضية في الباب قبله "إن المكثرين هم المقلون" بالميم في الموضعين، ولأحمد من رواية النعمان الغفاري عن أبي ذر "إن المكثرين الأقلون" والمراد الإكثار من المال والإقلال من ثواب الآخرة وهذا في حق من كان مكثرا ولم يتصف بما دل عليه الاستثناء بعده من الإنفاق. قوله: "إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه" في رواية أبي شهاب "إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وأشار أبو شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله" وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش عند أحمد "إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره" فاشتملت هذه الروايات على الجهات الأربع وإن كان كل منها اقتصر على ثلاث، وقد جمعها عبد العزيز بن رفيع في روايته ولفظه: "إلا من أعطاه الله خيرا - أي مالا - فنفح بنون وفاء ومهملة أي أعطى كثيرا بغير تكلف يمينا وشمالا وبين يديه ووراءه" وبقي من الجهات فوق وأسفل، والإعطاء من قبل كل منهما ممكن، لكن حذف لندوره. وقد فسر بعضهم الإنفاق من وراء بالوصية، وليس قيدا فيه بل قد يقصد الصحيح الإخفاء فيدفع لمن وراءه مالا يعطى به من هو أمامه. وقوله: "هكذا" صفة لمصدر محذوف أي أشار إشارة مثل هذه الإشارة، وقوله: "من خلفه" بيان للإشارة وخص عن اليمين والشمال لأن الغالب في الإعطاء صدوره باليدين، وزاد في رواية عبد العزيز بن رفيع "وعمل فيه خيرا" أي حسنة وفي سياقه جناس تام في قوله أعطاه الله خيرا. وفي قوله وعمل فيه خيرا، فمعنى الخير الأول المال والثاني الحسنة. قوله: "وقليل ما هم" ما زائدة مؤكدة للقلة، ويحتمل أن تكون موصوفة، ولفظ قليل هو الخبر وهم هو المبتدأ والتقدير وهم قليل، وقدم الخبر للمبالغة في الاختصاص. قوله: "ثم قال لي: مكانك" بالنصب أي الزم مكانك، وقوله: "لا تبرح" تأكيد لذلك، ورفع لتوهم أن الأمر بلزوم المكان ليس عاما في الأزمنة، وقوله: "حتى آتيك" غاية للزوم المكان المذكور. وفي رواية حفص "لا تبرح يا أبا ذر حتى أرجع" ووقع في رواية عبد العزيز بن رفيع "فمشيت معه ساعة، فقال لي اجلس هاهنا، فأجلسني في قاع" أي أرض سهلة مطمئنة. قوله: "ثم انطلق في سواد الليل" فيه إشعار بأن القمر كان قد غاب. قوله: "حتى توارى" أي غاب شخصه، زاد أبو معاوية "عني" وفي رواية حفص "حتى غاب عني" وفي رواية عبد العزيز "فأطلق في الحرة - أي دخل فيها - حتى لا أراه "وفي رواية أبي شهاب"فتقدم غير بعيد" زاد في رواية عبد العزيز "فأطال اللبث". قوله: "فسمعت صوتا قد ارتفع" في رواية أبي معاوية "فسمعت لغطا وصوتا". قوله: "فتخوفت أن يكون أحد عرض للنبي صلى الله عليه وسلم" أي تعرض له بسوء. ووقع في رواية عبد العزيز "فتخوفت أن يكون عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم:" وهو بضم أول عرض على البناء للمجهول. قوله: "فأردت أن آتيه" أي أتوجه إليه، ووقع في رواية عبد العزيز "فأردت أن أذهب" أي إليه ولم يرد أن يتوجه إلى حال سبيله بدليل رواية الأعمش في الباب. قوله: "فذكرت قوله لا تبرح فلم أبرح حتى أتاني" في رواية أبي معاوية عن الأعمش "فانتظرته حتى جاء". قوله: "قلت يا رسول الله لقد سمعت صوتا تخوفت فذكرت له" في رواية أبي معاوية "فذكرت له الذي سمعت" وفي رواية أبي شهاب "فقلت يا رسول الله الذي سمعت لو قال الصوت الذي سمعت" كذا فيه بالشك وفي رواية عبد العزيز "ثم إني سمعته وهو يقول وإن سرق وإن زنى، فقلت يا رسول الله من تكلم في جانب الحرة ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا". قوله: "فقال وهل سمعته؟ قلت نعم. قال ذاك

(11/266)


جبريل" أي الذي كنت أخاطبه، أو ذلك صوت جبريل. قوله: "أتاني" زاد في رواية حفص" فأخبرني". ووقع في رواية عبد العزيز "عرض لي - أي ظهر - فقال: بشر أمتك" ولم أر لفظ التبشير في رواية الأعمش. قوله: "من مات لا يشرك بالله شيئا" زاد الأعمش "من أمتك". قوله: "دخل الجنة" هو جواب الشرط. رتب دخول الجنة على الموت بغير إشراك بالله، وقد ثبت الوعيد بدخول النار لمن عمل بعض الكبائر، وبعدم دخول الجنة لمن عملها فلذلك وقع الاستفهام. قوله: "قلت وإن زنى وإن سرق" قال ابن مالك: حرف الاستفهام في أول هذا الكلام مقدر ولا بد من تقديره. وقال غيره التقدير أو إن زنى أو إن سرق دخل الجنة. وقال الطيبي: أدخل الجنة وإن زنى وإن سرق. والشرط حال، ولا يذكر الجواب مبالغة، وتتميما لمعنى الإنكار قال وإن زنى وإن سرق. ووقع في رواية عبد العزيز ابن رفيع "قلت يا جبريل وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم". وكررها مرتين للأكثر وثلاثا للمستملي وزاد في آخر الثالثة "وإن شرب الخمر" وكذا وقع التكرار ثلاثا في رواية أبي الأسود عن أبي ذر في اللباس، لكن بتقديم الزنا على السرقة كما في رواية الأعمش، ولم يقل "وإن شرب الخمر" ولا وقعت في رواية الأعمش، وزاد أبو الأسود "على رغم أنف أبي ذر" قال وكان أبو ذر إذا حدث بهذا الحديث يقول: "وإن رغم أنف أبي ذر" وزاد حفص ابن غياث في روايته عن الأعمش: قال الأعمش قلت لزيد بن وهب إنه بلغني أنه أبو الدرداء قال أشهد لحدثنيه أبو ذر بالربذة. قال الأعمش: وحدثني أبو صالح عن أبي الدرداء نحوه. وأخرجه أحمد عن أبي نمير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي الدرداء بلفظ: " إنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" نحوه، وفيه: "وإن رغم أنف أبي الدرداء"، قال البخاري في بعض النسخ عقب رواية حفص: حديث أبي الدرداء مرسل لا يصح إنما أردنا للمعرفة أي إنما أردنا أن نذكره للمعرفة بحاله. قال: والصحيح حديث أبي ذر قيل له: فحديث عطاء ابن يسار عن أبي للدرداء؟ فقال: مرسل أيضا لا يصح. ثم قال: اضربوا على حديث أبي الدرداء. قلت: فلهذا هو ساقط من معظم النسخ، وثبت في نسخة الصغاني، وأوله قال أبو عبد الله حديث أبي صالح عن أبي الدرداء مرسل، فساقه إلخ. ورواية عطاء بن يسار التي أشار إليها أخرجها النسائي من رواية محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار عن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم هو يقص على المنبر يقول: "ولمن خاف مقام ربه جنتان" فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ قال: وإن زنى وإن سرق، فأعدت فأعاد فقال في الثالثة قال: نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء "وقد وقع التصريح بسماع عطاء بن يسار له من أبي الدرداء في رواية ابن أبي حاتم في "التفسير" والطبراني في "المعجم" والبيهقي في "الشعب" قال البيهقي: حديث أبي الدرداء هذا غير حديث أبي ذر وإن كان فيه بعض معناه. قلت: وهما قصتان متغايرتان، وإن اشتركتا في المعنى الأخير وهو سؤال الصحابي بقوله وإن زنى وإن سرق، واشتركا أيضا في قوله وإن رغم، ومن المغايرة بينهما أيضا وقوع المراجعة المذكورة بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل في رواية أبي ذر دون أبي الدرداء، وله عن أبي الدرداء طرق أخرى منها للنسائي من رواية محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبي الدرداء نحو رواية عطاء بن يسار، ومنها للطبراني من طريق أم الدرداء عن أبي الدرداء رفعه بلفظ: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو الدرداء: وإن زنى وإن سرق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء" ومن طريق أبي مريم عن أبي الدرداء نحوه، ومن طريق كعب بن ذهل "سمعت أبا الدرداء رفعه. أتاني آت من ربي

(11/267)


فقال من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما، فقلت: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم ثم ثلثت فقال على رغم أنف عويمر فرددها، قال فأنا رأيت أبا الدرداء يضرب أنفه بإصبعه" ومنها لأحمد من طريق واهب بن عبد الله المغافري "عن أبي الدرداء رفعه: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي الدرداء. قال فخرجت لأنادي بها في الناس، فلقيني عمر فقال: ارجع، فإن الناس إن يعلموا بهذا اتكلوا عليها، فرجعت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدق عمر" قلت: وقد وقعت هذه الزيادة الأخيرة لأبي هريرة، ويأتي بسط ذلك في "باب من جاهد في طاعة الله تعالى" قريبا. قوله: "حدثنا أحمد بن شبيب" بفتح المعجمة وموحدتين مثل حبيب، وهو الحبطي بفتح المهملة والموحدة ثم الطاء المهملة نسبة إلى الحبطات من بني تميم، وهو بصري صدوق ضعفه ابن عبد البر تبعا لأبي الفتح الأزدي والأزدي غير مرضى فلا يتبع في ذلك، وأبوه يكنى أبا سعيد، روى عنه ابن وهب وهو من أقرانه، ووثقه ابن المديني. قوله: "وقال الليث حدثني يونس" هذا التعليق وصله الذهلي في "الزهريات" عن عبد الله بن صالح عن الليث، وأراد البخاري بإيراده تقوية رواية أحمد بن شبيب، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "لو كان لي" زاد في رواية الأعوج عن أبي هريرة عند أحمد في أوله "والذي نفسي بيده" وعنده في رواية همام عن أبي هريرة "والذي نفس محمد بيده". قوله: "مثل أحد ذهبا" في رواية الأعرج "لو أن أحدكم عندي ذهبا". قوله: "ما يسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئا أرصده لدين" في رواية الأعرج "إلا أن يكون شيء أرصده في دين علي" وفي رواية همام "وعندي منه دينار أجد من يقبله ليس شيئا أرصده في دين علي" قال ابن مالك: في هذا الحديث وقوع التمني بعد مثل، وجواب لو مضارعا منفيا بما، وحق جوابها أن يكون ماضيا مثبتا نحو لو قام لقمت، أو بلم نحو لو قام لم أقم. والجواب من وجهين: أحدهما أن يكون وضع المضارع موضع الماضي الواقع جوابا كما وقع موضعه وهو شرط في قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} ، ثانيهما أن يكون الأصل ما كان يسرني فحذف كان وهو جواب وفيه ضمير وهو الاسم ويسرني خبر، وحذف كان مع اسمها وبقاء خبرها كثير نظما ونثرا ومنه "المرء مجزي بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر" قال وأشبه شيء بحذف كان قبل يسرني حذف جعل قبل يجادلنا في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} أي جعل يجادلنا، والوجه الأول أولى. وفيه أيضا وقوع لا بين أن وتمر وهي زائدة والمعنى ما يسرني أن تمر. وقال الطيبي: قوله: "ما يسرني" هو جواب "لو" الامتناعية فيفيد أنه لم يسره المذكور بعده لأنه لم يكن عنده مثل أحد ذهبا، وفيه نوع مبالغة لأنه إذا لم يسره كثرة ما ينفقه فكيف ما لا ينفقه قال: وفي التقييد بالثلاثة تتميم ومبالغة في سرعة الإنفاق، فلا تكون لا زائدة كما قال ابن مالك بل النفي فيها على حاله. قلت: ويؤيد قول ابن مالك الرواية الماضية قبل في حديث أبي ذر بلفظ: "ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا تمضي على ثالثة". وفي حديث الباب من الفوائد أدب أبي ذر مع النبي صلى الله عليه وسلم وترقبه أحواله وشفقته عليه حتى لا يدخل عليه أدنى شيء مما يتأذى به. وفيه حسن الأدب مع الأكابر وأن الصغير إذا رأى الكبير منفردا لا يتسور عليه ولا يجلس معه ولا يلازمه إلا بإذن منه. وهذا بخلاف ما إذا كان في مجمع كالمسجد والسوق فيكون جلوسه معه

(11/268)


بحسب ما يليق به. وفيه جواز تكنية المرء نفسه لغرض صحيح كأن يكون أشهر من اسمه، ولا سيما إن كان الله مشتركا بغيره وكنيته فردة. وفيه جواز تفدية الصغير الكبير بنفسه وبغيرها، والجواب بمثل لبيك وسعديك زيادة في الأدب. وفيه الانفراد عند قضاء الحاجة. وفيه أن امتثال أمر الكبير والوقوف عنده أولى من ارتكاب ما يخالفه بالرأي ولو كان فيما يقتضيه الرأي توهم دفع مفسدة حتى يتحقق ذلك فيكون دفع المفسدة أولى. وفيه استفهام التابع من متبوعه على ما يحصل له فائدة دينية أو علمية أو غير ذلك. وفيه الأخذ بالقرائن لأن أبا ذر لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم، "أتبصر أحدا" فهم منه أنه يريد أن يرسله في حاجة فنظر إلى ما على أحد من الشمس ليعلم هل يبقى من النهار قدر يسعها. وفيه أن محل الأخذ بالقرينة إن كان في اللفظ ما يخصص ذلك، فإن الأمر وقع على خلاف ما فهمه أبو ذر من القرينة، فيؤخذ منه أن بعض القرائن لا يكون دالا على المراد وذلك لضعفه. وفيه المراجعة في العلم بما تقرر عند الطالب في مقابلة ما يسمعه مما يخالف ذلك، لأنه تقرر عند أبي ذر من الآيات والآثار الواردة في وعيد أهل الكبائر بالنار وبالعذاب، فلما سمع أن من مات لا يشرك دخل الجنة استفهم عن ذلك بقوله: "وإن زنى وإن سرق" واقتصر على هاتين الكبيرتين لأنهما كالمثالين فيما يتعلق بحق الله وحق العباد، وأما قوله في الرواية الأخرى "وإن شرب الخمر" فاللإشارة إلى فحش تلك الكبيرة لأنها تؤدي إلى خلل العقل الذي شرف به الإنسان على البهائم، وبوقوع الخلل فيه قد يزول التوقي الذي يحجز عن ارتكاب بقية الكبائر. وفيه أن الطالب إذا ألح في المراجعة يزجر بما من يليق به أخذا من قوله: "وإن رغم أنف أبي ذر" وقد حمله البخاري كما مضى في اللباس على من تاب عند الموت، وحمله غيره على أن المراد بدخول الجنة أعم من أن يكون ابتداء أو بعد المجازاة على المعصية، والأول هو وفق ما فهمه أبو ذر، والثاني أولى للجمع بين الأدلة، ففي الحديث حجة لأهل السنة ورد على من زعم من الخوارج والمعتزلة أن صاحب الكبيرة إذا مات عن غير توبة يخلد في النار، لكن في الاستدلال به لذلك نظر، لما مر من سياق كعب بن ذهل عن أبي الدرداء أن ذلك في حق من عمل سوءا أو ظلم نفسه ثم استغفر، وسنده جيد عند الطبراني. وحمله بعضهم على ظاهره وخص به هذه الأمة لقوله فيه: "بشر أمتك" وإن من مات من أمتي، وتعقب بالأخبار الصحيحة الواردة في أن بعض عصاة هذه الأمة يعذبون، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة "المفلس من أمتي" الحديث. وفيه تعقب على من تأول في الأحاديث الواردة في أن "من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة" وفي بعضها "حرم على النار" أن ذلك كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي، وهو مروي عن سعيد بن المسيب والزهري، ووجه التعقب ذكر الزنا والسرقة فيه فذكر على خلاف هذا التأويل، وحمله الحسن البصري على من قال الكلمة وأدى حقها بأداء ما وجب واجتناب ما نهى، ورجحه الطيبي إلا أن هذا الحديث يخدش فيه، وأشكل الأحاديث وأصعبها قوله: "لا يلقي الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة" وفي آخره وإن زنى وإن سرق" وقيل أشكلها حديث أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار" لأنه أتى فيه بأداة الحصر ومن الاستغراقية وصرح بتحريم النار، بخلاف قوله: "دخل الجنة" فإنه لا ينفي دخول النار أولا، قال الطيبي: لكن الأول يترجح بقوله: "وإن زنى وإن سرق" لأنه شرط لمجرد التأكيد، ولا سيما وقد كرره ثلاثا مبالغة وختم بقوله: "وإن رغم أنف أبي ذر" تتميما للمبالغة، والحديث الآخر مطلق يقبل التقييد فلا يقاوم قوله: "وإن زنى وإن

(11/269)


سرق" وقال النووي بعد أن ذكر المتون في ذلك والاختلاف في هذا الحكم: مذهب أهل السنة بأجمعهم أن أهل الذنوب في المشيئة، وأن من مات موقنا بالشهادتين يدخل الجنة، فإن كان دينا أو سليما من المعاصي دخل الجنة برحمة الله وحرم على النار، وإن كان من المخلطين بتضييع الأوامر أو بعضها وارتكاب النواهي أو بعضها ومات عن غير توبة فهو في خطر المشيئة، وهو بصدد أن يمضي عليه الوعيد إلا أن يشاء الله أن يعفو عنه، فإن شاء أن يعذبه فمصيره إلى الجنة بالشفاعة، انتهى. وعلى هذا فتقييد اللفظ الأول تقديره وإن زنى وإن سرق دخل الجنة، لكنه قبل ذلك إن مات مصرا على المعصية في مشيئة الله، وتقدير الثاني حرمه الله على النار إلا أن يشاء الله أو حرمه على نار الخلود والله أعلم. قال الطيبي: قال بعض المحققين قد يتخذ من أمثال هذه الأحاديث المبطلة ذريعة إلى طرح التكاليف وإبطال العمل ظنا أن ترك الشرك كاف، وهذا يستلزم طي بساط الشريعة وإبطال الحدود، وأن الترغيب في الطاعة والتحذير عن المعصية لا تأثير له بل يقتضي الانخلاع عن الدين والانحلال عن قيد الشريعة والخروج عن الضبط والولوج في الخبط وترك الناس سدى مهملين وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد أن يفضي إلى خراب الأخرى، مع أن قوله في بعض طرق الحديث: "أن يعبدوه" يتضمن جميع أنواع التكاليف الشرعية وقوله: "ولا يشركوا به شيئا" يشمل مسمى الشرك الجلي والخفي، فلا راحة للتمسك به في ترك العمل لأن الأحاديث إذا ثبتت وجب ضم بعضها إلى بعض فإنها في حكم الحديث الواحد، فيحمل مطلقها على مقيدها ليحصل العمل بجميع ما في مضمونها وبالله التوفيق. وفيه جواز الحلف بغير تحليف، ويستحب إذا كان لمصلحة كتأكيد أمر مهم وتحقيقه ونفي المجاز عنه. وفي قوله في بعض طرقه والذي نفس محمد بيده تعبير الإنسان عن نفسه باسمه دون ضميره، وقد ثبت بالضمير في الطريق الأخرى "والذي نفسي بيده" وفي الأول نوع تجريد، وفي الحلف بذلك زيادة في التأكيد لأن الإنسان إذا استحضر أن نفسه وهي أعز الأشياء عليه بيد الله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء استشعر الخوف منه فارتدع عن الحلف على ما لا يتحققه، ومن ثم شرع تغليظ الأيمان بذكر الصفات الإلهية ولا سيما صفات الجلال. وفيه الحث على الإنفاق في وجوه الخير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أعلى درجات الزهد في الدنيا بحيث إنه لا يحب أن يبقى بيده شيء من الدنيا إلا لإنفاقه فيمن يستحقه، وإما لإرصاده لمن له حق، وإما لتعذر من يقبل ذلك منه لتقييده في رواية همام عن أبي هريرة الآتية في كتاب التمني بقوله: "أجد من يقبله" ومنه يؤخذ جواز تأخير الزكاة الواجبة عن الإعطاء إذا لم يوجد من يستحق أخذها، وينبغي لمن وقع له ذلك أن يعزل القدر الواجب من ماله ويجتهد في حصول من يأخذه، فإن لم يجد فلا حرج عليه ولا ينسب إلى تقصير في حبسه. وفيه تقديم وفاء الدين على صدقة التطوع. وفيه جواز الاستقراض وقيده ابن بطال باليسير أخذا من قوله: "إلا دينارا" قال ولو كان عليه أكثر من ذلك لم يرصد لأدائه دينارا واحدا لأنه كان أحسن الناس قضاء. قال ويؤخذ من هذا أنه لا ينبغي الاستغراق في الدين بحيث لا يجد له وفاء فيعجز عن أدائه، وتعقب بأن الذي فهمه من لفظ الدينار من الوحدة ليس كما فهم، بل إنما المراد به الجنس، وأما قوله في الرواية الأخرى "ثلاثة دنانير" فليست الثلاثة فيه للتقليل بل للمثال أو لضرورة الواقع، وقد قيل إن المراد بالثلاثة أنها كانت كفايته فيما يحتاج إلى إخراجه في ذلك اليوم، وقيل بل هي دينار الدين كما في الرواية الأخرى ودينار للإنفاق على الأهل ودينار للإنفاق على الضيف، ثم المراد بدينار الدين الجنس ويؤيده تعبيره في أكثر الطرق بالشيء على الإبهام فيتناول القليل

(11/270)


والكثير. وفي الحديث أيضا الحث على وفاء الديون وأداء الأمانات وجواز استعمال "لو" عند تمني الخير وتخصيص الحديث الوارد عن استعمال "لو" على ما يكون في أمر غير محمود شرعا. وادعى المهلب أن قوله في رواية الأحنف عن أبي ذر "أتبصر أحدا؟ قال فنظرت ما عليه من الشمس" الحديث أنه ذكر للتمثيل في تعجيل إخراج الزكاة وأن المراد ما أحب أن أحبس ما أوجب الله على إخراجه بقدر ما بقي من النهار، وتعقبه عياض فقال: هو بعيد في التأويل، وإنما السياق بين في أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن ينبه على عظم أحد ليضرب به المثل في أنه لو كان قدره ذهبا ما أحب أن يؤخر عنده إلا لما ذكر من الإنفاق والإرصاد، فظن أبو ذر يريد أن يبعثه في حاجة ولم يكن ذاك مرادا إذ ذاك كما تقدم. وقال القرطبي: إنما استفهمه عن رؤيته ليستحضر قدره حتى يشبه له ما أراد بقوله: "إن لي مثله ذهبا". وقال عياض: قد يحتج به من يفضل للفقر على الغنى، وقد يحتج به من يفضل الغنى على الفقر، ومأخذ كل منهما واضح من سياق الخبر. وفيه الحض على إنفاق المال في الحياة وفي الصحة وترجيحه على إنفاقه عند الموت، وقد مضى فيه حديث:" أن تصدق وأنت صحيح شحيح" وذلك أن كثيرا من الأغنياء يشح بإخراج ما عنده ما دام في عافية فيأمل البقاء ويخشى الفقر، فمن خالف شيطانه وقهر نفسه إيثارا لثواب الآخرة فاز، ومن بخل بذلك لم يأمن الجور في الوصية، وإن سلم لم يأمن تأخير تنجيز ما أوصى به أو تركه أو غير ذلك من الآفات ولا سيما إن خلف وارثا غير موفق فيبذره في أسرع وقت ويبقى وباله على الذي جمعه، والله المستعان.

(11/271)


15 - باب الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ .
وَقال اللَّه تَعَالَى {أَيَحْسِبُونَ أَنَّ مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ -إلى قوله تَعالى- مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَمْ يَعْمَلُوهَا لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا
6446- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ"
قوله: "باب" بالتنوين "الغنى غنى النفس" أي سواء كان المتصف بذلك قليل المال أو كثيره، والغنى بكسر أوله مقصور وقد مد في ضرورة الشعر، وبفتح أوله مع المد هو الكفاية. قوله: "وقال الله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ - إلى قوله: هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} في رواية أبي ذر "إلى {عَامِلُونَ} وهذه رأس الآية التاسعة من ابتداء الآية المبدأ بها هنا، والآيات التي بين الأولى والثانية وبين الأخيرة والتي قبلها اعترضت في وصف المؤمنين، والضمير قوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} للمذكورين في قوله: "نمدهم" والمراد به من ذكر قبل ذلك في قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} والمعنى: أيظنون أن المال الذي نرزقهم إياه لكرامتهم علينا؟ إن ظنوا ذلك اخطئوا، بل هو استدراج كما قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} والإشارة في قوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} أي من الاستدراج المذكور. وأما قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} فالمراد به ما يستقبلون من الأعمال من كفر أو إيمان، وإلى ذلك أشار ابن عيينة في تفسيره بقوله: لم يعملوها لا بد أن يعلموها، وقد سبقه إلى مثل ذلك أيضا السدي وجماعة فقالوا: المعنى كتبت عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لتحق عليهم كلمة العذاب. ثم مناسبة الآية

(11/271)


للحديث أن خيرية المال ليست لذاته بل بحسب ما يتعلق به وإن كان يسمى خيرا في الجملة، وكذلك صاحب المال الكثير ليس غنيا لذاته بل بحسب تصرفه فيه. فإن كان في نفسه غنيا لم يتوقف في صرفه في الواجبات والمستحبات من وجوه البر والقربات، وإن كان في نفسه فقيرا أمسكه وامتنع من بذله فيما أمر به خشية من نفاده، فهو في الحقيقة فقير صورة ومعنى وإن كان المال تحت يده، لكونه لا ينتفع به لا في الدنيا ولا في الأخرى، بل ربما كان وبالا عليه. قوله: "حدثنا أبو بكر" هو ابن عياش بمهملة وتحتانية ثم معجمة، وهو القارئ المشهور.وأبو حصين بفتح أوله اسمه عثمان. والإسناد كله كوفيون إلى أبي هريرة. قوله: "عن كثرة العرض" بفتح المهملة والراء ثم ضاد معجمة، أما عن فهي سببية، وأما العرض فهو ما ينتفع به من متاع الدنيا، ويطلق بالاشتراك على ما يقابل الجوهر وعلى كل ما يعرض للشخص من مرض ونحوه. وقال أبو عبد الملك البوني فيما نقله ابن التين عنه قال: اتصل بي عن شيخ من شيوخ القيروان أنه قال: العرض بتحريك الراء الواحد من العروض التي يتجر فيها، قال: وهو خطأ، فقد قال الله تعالى: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} ولا خلاف بين أهل اللغة في أنه ما يعرض فيه، وليس هو أحد العروض التي يتجر فيها بل واحدها عرض بالإسكان وهو ما سوى النقدين. وقال أبو عبيد: العروض الأمتعة وهي ما سوى الحيوان والعقار وما لا يدخله كيل ولا وزن، وهكذا حكاه عياض وغيره. وقال ابن فارس: العرض بالسكون كل ما كان من المال غير نقد وجمعه عروض، وأما بالفتح فما يصيبه الإنسان من حظه في الدنيا، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} وقال: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} . قوله: "إنما الغنى غنى النفس" في رواية الأعرج عن أبي هريرة عند أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما: "إنما الغنى في النفس" وأصله في مسلم، ولابن حبان من حديث أبي ذر "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم. قال: وترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب" قال ابن بطال معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال لأن كثيرا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني. وقال القرطبي: معنى الحديث إن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس، وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع فعزت وعظمت وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمه من الناس ويصغر قدره عندهم فيكون أحقر من كل حقير وأذل من كل ذليل. والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعا بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة ولا يلح في الطلب ولا يحلف في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له، فكأنه واجد أبدا، والمتصف بفقر النفس على الضد منه لكونه لا يقنع بما أعطى بل هو أبدا في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه، ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف، فكأنه فقير من المال لأنه لم يستغن بما أعطى، فكأنه ليس بغنى، ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعال والتسليم لأمره علما بأن الذي عند الله خير وأبقى، فهو معرض عن الحرض والطلب، وما أحسن قول القائل:
غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا

(11/272)


وقال الطيبي: يمكن أن يراد بغنى النفس حصول الكمالات العلمية والعملية، وإلى ذلك أشار القائل:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
أي ينبغي أن ينفق أوقاته في الغنى الحقيقي وهو تحصيل الكمالات، لا في جمع المال فإنه لا يزداد بذلك إلا فقرا انتهى. وهذا وإن كان يمكن أن يراد لكن الذي تقدم أظهر في المراد، وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره فيتحقق أنه المعطي المانع فيرضى بقضائه ويشكره على نعمائه ويفزع إليه في كشف ضرائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غيره وبه تعالى، والغنى الوارد في قوله: "ووجدك عائلا فأغنى" يتنزل على غنى النفس، فإن الآية مكية ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال. والله أعلم.

(11/273)


16 - باب فَضْلِ الْفَقْرِ
6447- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا"
6448- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ "عُدْنَا خَبَّابًا فَقَالَ هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الإِذْخِرِ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا"
6449- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ "عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" تَابَعَهُ أَيُّوبُ وَعَوْفٌ وَقَالَ صَخْرٌ وَحَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
6450- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَأْكُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ"

(11/273)


6451- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ
قوله: "باب فضل الفقر" قيل أشار بهذه الترجمة عقب التي قبلها إلى تحقيق محل الخلاف في تفضيل الفقر على الغنى أو عكسه، لأن المستفاد من قوله: "الغنى غنى النفس" الحصر في ذلك، فيحمل كل ما ورد في فضل الغنى على ذلك، فمن لم يكن غني النفس لم يكن ممدوحا بل يكون مذموما فكيف يفضل، وكذا ما ورد من فضل الفقر لأن من لم يكن غني النفس فهو فقير النفس، وهو الذي تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم منه.والفقر الذي وقع فيه النزاع عدم المال والتقلل منه، وأما الفقر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فالمراد به احتياج المخلوق إلى الخالق، فالفقر للمخلوقين أمر ذاتي لا ينفكون عنه، والله هو الغني ليس بمحتاج لأحد. ويطلق الفقر أيضا على شيء اصطلح عليه الصوفية وتفاوتت فيه عباراتهم وحاصله كما قال أبو إسماعيل الأنصاري نفض اليد من الدنيا ضبطا وطلبا، مدحا وذما. وقالوا: إن المراد بذلك أن لا يكون ذلك في قلبه سواء حصل في يده أم لا، وهذا يرجع إلى ما تضمنه الحديث الماضي في الباب قبله أن الغنى غنى النفس على ما تقدم تحقيقه، والمراد بالفقر هنا الفقر من المال. وقد تكلم ابن بطال هنا على مسألة التفضيل بين الغنى والفقر فقال: طال نزاع الناس في ذلك، فمنهم من فضل الفقر واحتج بأحاديث الباب وغيرها من الصحيح والواهي، واحتج من فضل الغنى بما تقدم قبل هذا بباب في قوله: "إن المكثرين هم الأقلون إلا من قال بالمال هكذا" وحديث سعد الماضي في الوصايا "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة" وحديث كعب ابن مالك حيث استشار في الخروج من ماله كله فقال: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" وحديث: "ذهب أهل الدثور بالأجور" وفي آخره: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" وحديث عمرو بن العاص "نعم المال الصالح للرجل الصالح" أخرجه مسلم وغير ذلك قال: وأحسن ما رأيت في هذا قول أحمد بن نصر الداودي: الفقر والغنى محنتان من الله يختبر بهما عباده في الشكر والصبر كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} ، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يستعيذ من شر فتنة الفقر ومن شر فتنة الغنى" ثم ذكر كلاما طويلا حاصله أن الفقير والغنى متقابلان لما يعرض لكل منهما في فقره وغناه من العوارض فيمدح أو يذم والفضل كله في الكفاف لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وسيأتي قريبا، وعليه يحمل قوله: "أسالك غناي وغنى هؤلاء". وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا" الحديث فهو ضعيف وعلى تقدير ثبوته فالمراد به أن لا يجاوز به الكفاف. انتهى ملخصا. وممن جنح إلى تفضيل الكفاف القرطبي في "المفهم" فقال: جمع الله سبحانه وتعالى لنبيه الحالات الثلاث: الفقر والغنى والكفاف، فكان الأول أول حالاته فقام بواجب ذلك من مجاهدة النفس، ثم فتحت عليه الفتوح فصار بذلك في حد الأغنياء فقام بواجب ذلك من بذله لمستحقه والمواساة به والإيثار مع اقتصاره منه على ما يسد ضرورة عياله، وهي صورة الكفاف التي

(11/274)


مات عليها. قال: وهي حالة سليمة من الغنى المطغي والفقر المؤلم، وأيضا فصاحبها معدود في الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا؛ بل يجاهد نفسه في الصبر عن القدر الزائد على الكفاف، فلم يفته من حال الفقر إلا السلامة من قهر الحاجة وذل المسألة انتهى. ويؤيده ما تقدم من الترغيب في غنى النفس، وما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رفعه: "وارض بما قسم لك تكن أغنى الناس" وأصح ما ورد في ذلك ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو رفعه: "قد أفلح من هدي إلى الإسلام، ورزق الكفاف وقنع" وله شاهد عن فضالة بن عبيد نحوه عند الترمذي وابن حبان وصححاه قال النووي: فيه فضيلة هذه الأوصاف، والكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقصان. وقال القرطبي: هو ما يكف عن الحاجات ويدفع للضرورات ولا يلحق بأهل الترفهات، ومعنى الحديث أن من اتصف بتلك الصفات حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة، ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا. وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال، وقد قال: "خير الأمور أوساطها" انتهى. ويؤيده ما أخرجه ابن المبارك في "الزهد" بسند صحيح عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قليل العمل قليل الذنوب أفضل، أو رجل كثير العمل كثير الذنوب؟ فقال: "لا أعدل بالسلامة شيئا" فمن حصل له ما يكفيه واقتنع به أمن من آفات الغنى وآفات الفقر، وقد ورد حديث لو صح لكان نصا في المسألة وهو ما أخرجه ابن ماجه من طريق نفيع - وهو ضعيف - عن أنس رفعه: "ما من غني ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتا" قلت: وهذا كله صحيح، لكن لا يدفع أصل السؤال عن أيهما أفضل: الغنى أو الفقر؟ لأن النزاع إنما ورد في حق من اتصف بأحد الوصفين أيهما في حقه أفضل؟ ولهذا قال الداودي في آخر كلامه المذكور أولا: إن السؤال أيهما أفضل لا يستقيم، لاحتمال أن يكون لأحدهما من العمل الصالح ما ليس للآخر، فيكون أفضل، وإنما يقع السؤال عنهما إذا استويا بحيث يكون لكل منهما من العمل ما يقاوم به عمل الآخر، قال: فعلم أيهما أفضل عند الله انتهى.وكذا قال ابن تيمية، لكن قال: إذا استويا في التقوى فهما في الفضل سواء.وقد تقدم كلام ابن دقيق العيد في الكلام على حديث أهل الدثور قبيل كتاب الجمعة، ومحصل كلامه أن الحديث يدل على تفضيل الغنى على الفقر لما تضمنه من زيادة الثواب بالقرب المالية. إلا إن فسر الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي حصل للنفس من التطهير للأخلاق والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرف فيترجح الفقر، ولهذا المعنى ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر، لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثر منه في الغنى انتهى. وقال ابن الجوزي: صورة الاختلاف في فقير ليس بحريص وغني ليس بممسك إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني البخيل، وأن الغني المنفق أفضل من الفقير الحريص، قال: وكل ما يراد لغيره ولا يراد لعينه ينبغي أن يضاف إلى مقصوده فبه يظهر فضله. فالمال ليس محذورا لعينه بل لكونه قد يعوق عن الله وكذا العكس، فكم من غني لم يشغله غناه عن الله، وكم من فقير شغله فقره عن الله. إلى أن قال: وإن أخذت بالأكثر فالفقير عن الخطر أبعد لأن فتنة الغنى أشد من فتنة الفقر، ومن العصمة أن لا تجد، انتهى. وصرح كثير من الشافعية بأن الغنى الشاكر أفضل، وأما قول أبي علي الدقاق شيخ أبي القاسم القشيري: الغني أفضل من الفقير، لأن الغنى صفة الخالق والفقر صفة

(11/275)


المخلوق وصفة الحق أفضل من صفة الخلق فقد استحسنه جماعة من الكبار، وفيه نظر لما قدمته أول الباب، ويظهر منه أن هذا لا يدخل في أصل النزاع إذ ليس هو في ذات الصفتين وإنما هو في عوارضهما. وبين بعض من فضل الغني على الفقير كالطبري جهته بطريق أخرى فقال: لا شك أن محنة الصابر أشد من محنة الشاكر غير أني أقول كما قال مطرف بن عبد الله: لأن أعافي فأشكر أحب إلي من أن أبتلي فأصبر. قلت: وكأن السبب فيه ما جبل عليه طبع الآدمي من قلة الصبر، ولهذا يوجد من يقوم بحسب الاستطاعة بحق الصبر أقل ممن يقوم بحق الشكر بحسب الاستطاعة. وقال بعض المتأخرين فيما وجد بخط أبي عبد الله بن مرزوق: كلام الناس في أصل المسألة مختلف، فمنهم من فضل الفقر ومنهم من فضل الغنى ومنهم من فضل الكفاف وكل ذلك خارج عن محل الخلاف وهو أي الحالين أفضل عند الله للعبد حتى يتكسب ذلك ويتخلق به؟ هل التقلل من المال أفضل ليتفرغ قلبه من الشواغل وينال لذة المناجاة ولا ينهمك في الاكتساب ليستريح من طول الحساب، أو التشاغل باكتساب المال أفضل ليستكثر به من التقرب بالبر والصلة والصدقة لما في ذلك من النفع المتعدي؟ قال: وإذا كان الأمر كذلك فالأفضل ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور أصحابه من التقلل في الدنيا والبعد عن زهراتها، ويبقى النظر فيمن حصل له شيء من الدنيا بغير تكسب منه كالميراث وسهم الغنيمة هل الأفضل أن يبادر إلى إخراجه في وجوه البر حتى لا يبقى منه شيء، أو يتشاغل بتثميره ليستكثر من نفعه المتعدي؟ قال: وهو على القسمين الأولين. قلت: ومقتضى ذلك أن يبذل إلى أن يبقى في حال الكفاف ولا يضره ما يتجدد من ذلك إذا سلك هذه الطريقة. ودعوى أن جمهور الصحابة كانوا على التقلل والزهد ممنوعة بالمشهور من أحوالهم، فإنهم كانوا على قسمين بعد أن فتحت عليهم الفتوح، فمنهم من أبقى ما بيده مع التقرب إلى ربه بالبر والصلة والمواساة مع الاتصاف بغنى النفس، ومنهم من استمر على ما كان عليه قبل ذلك فكان لا يبقى شيئا مما فتح عليه به وهم قليل بالنسبة للطائفة الأخرى، ومن تبحر في سير السلف علم صحة ذلك، فأخبارهم في ذلك لا تحصى كثرة، وحديث خباب في الباب شاهد لذلك. والأدلة الواردة في فضل كل من الطائفتين كثيرة: فمن الشق الأول بعض أحاديث الباب وغيرها، ومن الشق الثاني حديث سعد بن أبي وقاص رفعه: "إن الله يحب الغني التقي الخفي" أخرجه مسلم، وهو دال لما قلته سواء حملنا الغني فيه على المال أو على غنى النفس، فإنه على الأول ظاهر وعلى الثاني يتناول القسمين فيحصل المطلوب. والمراد بالتقي وهو بالمثناة من يترك المعاصي امتثالا للمأمور به واجتنابا للمنهي عنه، والخفي ذكر للتتميم إشارة إلى ترك الرياء والله أعلم. ومن المواضع التي وقع فيها التردد من لا شيء له فالأولى في حقه أن يتكسب للصون عن ذل السؤال، أو يترك وينتظر ما يفتح عليه بغير مسألة، فصح عن أحمد مع ما اشتهر من زهده وورعه أنه قال لمن سأله عن ذلك: الزم السوق. وقال لآخر: استغن عن الناس، فلم أر مثل الغنى عنهم. وقال: ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله وأن يعودوا أنفسهم التكسب، ومن قال بترك التكسب فهو أحمق يريد تعطيل الدنيا. نقله عنه أبو بكر المروزي. وقال: أجرة التعليم والتعلم أحب إلي من الجلوس لانتظار ما في أيدي الناس. وقال أيضا: من جلس ولم يحترف دعته نفسه إلى ما في أيدي الناس. وأسند عن عمر "كسب فيه بعض الشيء خير من الحاجة إلى الناس" وأسند عن سعيد بن المسيب أنه قال عند موته وترك مالا "اللهم إنك تعلم أني لم أجمعه إلا لأصون به ديني" وعن سفيان الثوري وأبي سليمان الداراني ونحوهما من السلف نحوه، بل نقله البربهاري عن الصحابة والتابعين وأنه

(11/276)


لا يحفظ عن أحد منهم أنه ترك تعاطي الرزق مقتصرا على ما يفتح عليه. واحتج من فضل الغنى بآية الأمر في قوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الآية قال: وذلك لا يتم إلا بالمال. وأجاب من فضل الفقر بأنه لا مانع أن يكون الغنى في جانب أفضل من الفقر في حالة مخصوصة، ولا يستلزم أن يكون أفضل مطلقا وذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس كما صرح به أبو نعيم، وأبو حازم هو سلمة بن دينار. قوله: "مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده: ما رأيك في هذا"؟ تقدم في "باب الأكفاء في الدين" من أوائل النكاح عن إبراهيم بن حمزة عن أبي حازم "فقال ما تقولون في هذا" وهو خطاب لجماعة. ووقع في رواية جبير بن نفير عن أبي ذر عند أحمد وأبي يعلى وابن حبان بلفظ: "قال لي النبي صلى الله عليه وسلم انظر إلى أرفع رجل في المسجد في عينيك، قال فنظرت إلى رجل في حلة" الحديث، فعرف منه أن المسئول هو أبو ذر، ويجمع بينه وبين حديث سهل أن الخطاب وقع لجماعة منهم أبو ذر ووجه إليه فأجاب ولذلك نسبه لنفسه، وأما المار فلم أقف على اسمه، ووقع في رواية أخرى لابن حبان: "سألني رسول صلى الله عليه وسلم عن رجل من قريش فقال: هل تعرف فلانا؟ قلت: نعم" الحديث ووقع في المغازي لابن إسحاق ما قد يؤخذ منه أنه عيينة بن حصن الفزاري أو الأقرع بن حابس التميمي كما سأذكره. قوله: "فقال" أي المسئول. قوله: "رجل من أشراف الناس" أي هذا رجل من أشراف الناس، ووقع كذلك عند ابن ماجه عن محمد ابن الصباح عن أبي حازم. قوله: "هذا والله حري" بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وتشديد آخره، أي جدير وحقيق وزنا ومعنى، ووقع في رواية إبراهيم بن حمزة "قالوا حرى". قوله: "إن خطب أن ينكح" بضم أوله وفتح ثالثه أي تجاب خطبته "وإن شفع أن يشفع" بتشديد الفاء أي تقبل شفاعته، وزاد إبراهيم بن حمزة في روايته: "وإن قال أن يستمع" وفي رواية ابن حبان: "إذا سأل أعطى وإذا حضر أدخل". قوله: "ثم مر رجل" زاد إبراهيم "من فقراء المسلمين" وفي رواية ابن حبان: "مسكين من أهل الصفة". قوله: "هذا خير من ملء" بكسر الميم وسكون اللام مهموز. قوله: "مثل" بكسر اللام ويجوز فتحها، قال الطيبي: وقع التفضيل بينهما باعتبار مميزه وهو قوله بعد هذا لأن البيان والمبين شيء واحد، زاد أحمد وابن حبان: "عند الله يوم القيامة" وفي رواية ابن حبان الأخرى "خير من طلاع الأرض من الآخر" وطلاع بكسر المهملة وتخفيف اللام وآخره مهملة أي ما طلعت عليه الشمس من الأرض كذا قال عياض. وقال غيره: المراد ما فوق الأرض، وزاد في آخر هذه الرواية: "فقلت يا رسول الله أفلا يعطي هذا كما يعطي الآخر؟ قال: إذا أعطى خيرا فهو أهله وإذا صرف عنه فقد أعطى حسنة" وفي رواية أبي سالم الجيشاني عن أبي ذر فيما أخرجه محمد بن هارون الروياني في مسنده وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" ومحمد ابن الربيع الجيزي في "مسند الصحابة الذين نزلوا مصر" ما يؤخذ منه تسمية المار الثاني ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له كيف ترى جعيلا؟ قلت: مسكينا كشكله من الناس، قال: فكيف ترى فلانا؟ قلت: سيدا من السادات، قال: فيجعل خير من ملء الأرض مثل هذا. قال فقلت يا رسول الله ففلان هكذا وتصنع به ما تصنع؟ قال: إنه رأس قومه فأتألفهم" . وذكر ابن إسحاق في المغازي عن محمد بن إبراهيم التيمي مرسلا أو معضلا قال: "قيل يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع مائة مائة وتركت جعيلا. قال: والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض مثل عيينة والأقرع، ولكني أتألفهما وأكل جعيلا إلى إيمانه" ولجعيل المذكور ذكر في حديث أخيه عوف

(11/277)


بن سراقة في غزوة بني قريظة وفي حديث العرباض بن سارية في غزوة تبوك، وقيل فيه جعال بكسر أوله وتخفيف ثانيه ولعله صغر وقيل بل هما أخوان. وفي الحديث بيان فضل جعيل المذكور وأن السيادة بمجرد الدنيا لا أثر لها، وإنما الاعتبار في ذلك بالآخرة كما تقدم "أن العيش عيش الآخرة" وأن الذي يفوته الحظ من الدنيا يعاض عنه بحسنة الآخرة ففيه فضيلة للفقر كما ترجم به، لكن لا حجة فيه لتفضيل الفقير على الغني قال ابن بطال لأنه إن كان فضل عليه لفقره فكان ينبغي أن يقول: خير من ملء الأرض مثله لا فقير فيهم، وإن كان لفضله فلا حجة فيه. قلت يمكنهم أن يلتزموا الأول والحيثية مرعية، لكن تبين من سياق طرق القصة أن جهة تفضيله إنما هي لفضله بالتقوى وليست المسألة مفروضة في فقير متق وغني غير متق بل لا بد من استوائهما أولا في التقوى، وأيضا فما في الترجمة تصريح بتفضيل الفقر على الغنى، إذ لا يلزم من ثبوت فضيلة الفقر أفضليته، وكذلك لا يلزم من ثبوت أفضلية فقير على غني أفضلية كل فقير على كل غني. حديث خباب بن الأرت، وقد تقدم بعض شرحه في الجنائز فيما يتعلق بالكفر ونحو ذلك، وذكر في موضعين من الهجرة، وأحلت بشرحه على المغازي فلم يتفق ذلك ذهولا. قوله: "حدثنا الحميدي حدثنا سفيان" هو ابن عيينة "عن الأعمش" وقع في أوائل الهجرة بهذا السند سواء "حدثنا الأعمش". قوله: "عدنا" بضم المهملة من العيادة. قوله: "هاجرنا مع وسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة" أي بأمره وإذنه، أو المراد بالمعية الاشتراك في حكم الهجرة إذ لم يكن معه حسا إلا الصديق وعامر بن فهيرة. قوله: "نبتغي وجه الله" أي جهة ما عنده من الثواب لا جهة الدنيا. قوله: "فوقع" في رواية الثوري كما مضى في الهجرة عن الأعمش "فوجب" وإطلاق الوجوب على الله بمعنى إيجابه على نفسه بوعده الصادق وإلا فلا يجب على الله شيء. قوله: "أجرنا على الله" أي إثابتنا وجزاؤنا. قوله: "لم يأكل من أجره شيئا" أي من عرض الدنيا، وهذا مشكل على ما تقدم من تفسير ابتغاء وجه الله، ويجمع بأن إطلاق الأجر على المال في الدنيا بطريق المجاز بالنسبة لثواب الآخرة؛ وذلك أن القصد الأول هو ما تقدم لكن منهم من مات قبل الفتوح كمصعب بن عمير ومنهم من عاش إلى أن فتح عليهم، ثم انقسموا فمنهم من أعرض عنه وواسى به المحاويج أولا فأولا بحيث بقي على تلك الحالة الأولى وهم قليل منهم أبو ذر، وهؤلاء ملتحقون بالقسم الأول، ومنهم من تبسط في بعض المباح فيما يتعلق بكثرة النساء والسراري أو الخدم والملابس ونحو ذلك ولم يستكثر وهم كثير ومنهم ابن عمر، ومنهم من زاد فاستكثر بالتجارة وغيرها مع القيام بالحقوق الواجبة والمندوبة وهم كثير أيضا منهم عبد الرحمن بن عوف، وإلى هذين القسمين أشار خباب، فالقسم الأول وما التحلق به توفر له أجره في الآخرة، والقسم الثاني مقتضى الخبر أنه يحسب عليهم ما وصل إليهم من مال الدنيا من ثوابهم في الآخرة، ويؤيده ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "ما من غازية تغزو فتغنم وتسلم إلا تعجلوا ثلثي أجرهم" الحديث، ومن ثم آثر كثير من السلف قلة المال وقنعوا به إما ليتوفر لهم ثوابهم في الآخرة وإما ليكون أقل لحسابهم عليه. قوله: "منهم مصعب بن عمير" بصيغة التصغير هو ابن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي. يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي، وكان يكنى أبا عبد الله، من السابقين إلى الإسلام وإلى هجرة المدينة. قال البراء: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان القرآن أخرجه المصنف في أوائل الهجرة، وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله مع أهل العقبة الأولى يقرئهم ويعلمهم، وكان مصعب وهو

(11/278)


بمكة في ثروة ونعمة فلما هاجر صار في قلة، فأخرج الترمذي من طريق محمد بن كعب حدثني من سمع عليا يقول: "بينما نحن في المسجد إذ دخل علينا مصعب بن عمير وما عليه إلا بردة له مرقوعة بفروة، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآه للذي كان فيه من النعم والذي هو فيه اليوم". قوله: "قتل يوم أحد" أي شهيدا، وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثبت ذلك في مرسل عبيد بن عمير بسند صحيح عند ابن المبارك في كتاب الجهاد.قوله: "وترك نمرة" بفتح النون وكسر الميم ثم راء هي إزار من صوف مخطط أو بردة. قوله: "أينعت" بفتح الهمزة وسكون التحتانية وفتح النون والمهملة أي انتهت واستحقت القطف، وفي بعض الروايات ينعت بغير ألف وهي لغة، قال القزاز وأينعت أكثر. قوله: "فهو يهدبها" بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر المهملة ويجوز ضمها بعدها موحدة أي يقطفها. قال ابن بطال: في الحديث ما كان عليه السلف من الصدق في وصف أحوالهم. وفيه أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار. وفيه أن الكفن يكون ساترا لجميع البدن وأن الميت يصير كله عورة، ويحتمل أن يكون ذلك بطريق الكمال، وقد تقدم سائر ما يتعلق بذلك في كتاب الجنائز. ثم قال ابن بطال: ليس في حديث خباب تفضيل الفقير على الغني، وإنما فيه أن هجرتهم لم تكن لدنيا يصيبونها ولا نعمة يتعجلونها وإنما كانت لله خالصة ليثيبهم عليها في الآخرة فمن مات منهم قبل فتح البلاد توفر له ثوابه، ومن بقي حتى نال من طيبات الدنيا خشي أن يكون عجل لهم أجر طاعتهم، وكانوا على نعيم الآخرة أحرص. قوله: "سلم" بفتح المهملة وسكون اللام "ابن زرير" بزاي ثم راء وزن عظيم، وأبو رجاء هو العطاردي، وقد تقدم بهذا السند والمتن في صفة الجنة من بدء الخلق، ويأتي شرحه في صفة الجنة والنار من كتاب الرقاق هذا. قوله: "تابعه أيوب وعوف. وقال حماد بن نجيح وصخر عن أبي رجاء عن ابن عباس" أما متابعة أيوب فوصلها النسائي وتقدم بيان ذلك واضحا في كتاب النكاح. وأما متابعة عوف فوصلها المؤلف في كتاب النكاح. وأما متابعة حماد بن نجيح -وهو الإسكاف- البصري فوصلها النسائي من طريق عثمان بن عمر بن فارس عنه، وليس له في الكتابين سوى هذا الحديث الواحد، وقد وثقه وكيع وابن معين وغيرهما. وأما متابعة صخر -وهو ابن جويرية- فوصلها النسائي أيضا من طريق المعافي بن عمران عنه وابن منده في كتاب التوحيد من طريق مسلم بن إبراهيم حدثنا صخر بن جويرية وحماد بن نجيح قالا حدثنا أبو رجاء، وقد وقعت لنا بعلو في "الجعديات" من رواية على بن الجعد عن صخر قال سمعت أبا رجاء حدثنا ابن عباس به، قال الترمذي بعد أن أخرجه من طريق عوف: وقال أيوب عن أبي رجاء عن ابن عباس، وكلا الإسنادين ليس فيه مقال، ويحتمل أن يكون عن أبي رجاء عند كل منهما. وقال الخطيب في "المدرج": روى هذا الحديث أبو داود الطيالسي عن أبي الأشهب وجرير بن حازم وسلم بن زرير وحماد بن نجيح وصخر بن جويرية عن أبي رجاء عن عمران وابن عباس به، ولا نعلم أحدا جمع بين: هؤلاء فإن الجماعة رووه عن أبي رجاء عن ابن عباس، وسلم إنما رواه عن أبي رجاء عن عمران، ولعل جريرا كذلك، وقد جاءت الرواية عن أيوب عن أبي رجاء بالوجهين، ورواه سعيد بن أبي عروبة عن فطر عن أبي رجاء عن عمران، فالحديث عن أبي رجاء عنهما والله أعلم. قال ابن بطال: ليس قوله: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء" يوجب فضل الفقير على الغني، وإنما معناه أن الفقراء في الدنيا أكثر من الأغنياء فأخبر عن ذلك كما تقول أكثر أهل الدنيا الفقراء إخبارا عن الحال، وليس

(11/279)


الفقر أدخلهم الجنة وإنما دخلوا بصلاحهم مع الفقر، فإن الفقير إذ لم يكن صالحا لا يفضل. قلت: ظاهر الحديث التحريض على ترك التوسع من الدنيا كما أن فيه تحريض النساء على المحافظة على أمر الدين لئلا يدخلن النار كما تقدم تقرير ذلك في كتاب الإيمان في حديث: "تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قيل: بم؟ قال: بكفرهن، قيل يكفرن بالله؟ قال: يكفرون بالإحسان". قوله: "حدثنا أبو معمر" هو عبد الله بن محمد بن عمرو بن الحجاج. قوله: "عن أنس" في رواية همام عن قتادة "كنا نأتي أنس بن مالك" وسيأتي في الباب الذي بعده. قوله: "على خوان" بكسر المعجمة وتخفيف الواو وتقدم شرحه في كتاب الأطعمة. قوله: "وما أكل خبزا مرققا حتى مات" قال ابن بطال: تركه عليه الصلاة والسلام الأكل على الخوان وأكل المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة، والمال إنما يرغب فيه ليستعان به على الآخرة فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المال من هذا الوجه. وحاصله أن الخبر لا يدل على تفضيل الفقر على الغنى بل يدل على فضل القناعة والكفاف وعدم التبسط في ملاذ الدنيا، ويؤيده حديث ابن عمر "لا يصيب عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته، وإن كان عند الله كريما" أخرجه ابن أبي الدنيا قال المنذري وسنده جيد والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد الله بن أبي شيبة" هو أبو بكر وأبو شيبة جده لأبيه وهو ابن محمد بن أبي شيبة واسمه إبراهيم، أصله من واسط وسكن الكوفة وهو أحد الحفاظ الكبار، وقد أكبر عنه المصنف وكذا مسلم لكن مسلم يكنيه دائما والبخاري يسميه وقل أن كناه. قوله: "وما في بيتي شيء إلخ" لا يخالف ما تقدم في الوصايا من حديث عمرو بن الحارث المصطلقي "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته دينارا ولا درهما ولا شيئا" لأن مراده بالشيء المنفى ما تخلف عنه مما كان يختص به، وأما الذي أشارت إليه عائشة فكان بقية نفقتها التي تختص بها فلم يتحد الموردان. قوله: "يأكله ذو كبد" شمل جميع الحيوان وانتفى جميع المأكولات. قوله: "إلا شطر شعير" المراد بالشطر هنا البعض، والشطر يطلق على النصف وعلى ما قاربه وعلى الجهة وليست مرادة هنا، ويقال أرادت نصف وسق. قوله: "في رف لي" قال الجوهري الرف شبه الطاق في الحائط. وقال عياض: الرف خشب يرتفع عن الأرض في البيت يوضع فيه ما يراد حفظه. قلت: والأول أقرب للمراد. قوله: "فأكلت منه حتى طال علي، فكلته" بكسر الكاف "ففني" أي فرغ. قال ابن بطال حديث عائشة هذا في معنى حديث أنس في الأخذ من العيش بالاقتصاد وما يسد الجوعة. قلت: إنما يكون كذلك لو وقع بالقصد إليه، والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤثر بما عنده، فقد ثبت في الصحيحين أنه كان إذا جاءه ما فتح الله عليه من خيبر وغيرها من تمر وغيره يدخر قوت أهله سنة ثم يجعل ما بقي عنده عدة في سبيل الله تعالى، ثم كان مع ذلك إذا طرأ عليه طارئ أو نزل به ضيف يشير على أهله بإيثارهم فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عندهم أو معظمه، وقد روى البيهقي من وجه أخر عن عائشة قالت: "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا، ولكنه كان يؤثر على نفسه" ، وأما قولها "فكلته ففني" قال ابن بطال: فيه أن الطعام المكيل يكون فناؤه معلوما للعلم بكيله، وأن الطعام غير المكيل فيه البركة لأنه غير معلوم مقداره. قلت: في تعميم كل الطعام بذلك نظر، والذي يظهر أنه كان من الخصوصية لعائشة ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع مثل ذلك في حديث جابر الذي أذكره آخر الباب، ووقع مثل ذلك في مزود أبي هريرة الذي أخرجه الترمذي وحسنه والبيهقي في "الدلائل" من طريق أبي العالية عن أبي هريرة "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرات فقلت: ادع لي فيهن

(11/280)


بالبركة، قال فقبض ثم دعا ثم قال: خذهن فاجعلهن في مزود فإذا أردت أن تأخذ منهن فأدخل يدك فخذ ولا تنثر بهن نثرا، فحملت من ذلك كذا وكذا وسقا في سبيل الله، وكنا نأكل ونطعم وكان المزود معلقا بحقوي لا يفارقه، فلما قتل عثمان انقطع" وأخرجه البيهقي أيضا من طريق سهل ابن زياد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة مطولا وفيه: "فأدخل يدك فخذ ولا تكفئ فيكفأ عليك" ومن طريق يزيد بن أبي منصور عن أبيه عن أبي هريرة نحوه، ونحوه ما وقع في عكة المرأة وهو ما أخرجه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر "أن أم مالك كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمنا فيأتيها بنوها فيسألون الأدم فتعمد إلى العكة فتجد فيها سمنا فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو تركتها ما زال قائما" وقد استشكل هذا النهي مع الأمر بكيل الطعام وترتيب البركة على ذلك كما تقدم في البيوع من حديث المقدام بن معد يكرب بلفظ: "كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه" ، وأجيب بأن الكيل عند المبايعة مطلوب من أجل تعلق حق المتبايعين فلهذا القصد يندب، وأما الكيل عند الإنفاق فقد يبعث عليه الشح فلذلك كره، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق معقل بن عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم" قال القرطبي: سبب رفع النماء من ذلك عند العصر والكيل -والله أعلم- الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله ومواهب كراماته كثرة بركاته، والغفلة عن الشكر عليها والثقة بالذي وهبها والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة. ويستفاد منه أن من رزق شيئا أو أكرم بكرامة أو لطف به في أمر ما فالمتعين عليه موالاة الشكر ورؤية المنة لله تعالى، ولا يحدث في تلك الحالة تغييرا والله أعلم.

(11/281)


باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم تعن الدنيا
...
17 - باب كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَتَخَلِّيهِمْ عنْ الدُّنْيَا
6452- حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ أَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لاَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ وَإِنْ كُنْتُ لاَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ قَالَ أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ وَلاَ عَلَى أَحَدٍ إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً

(11/281)


أَتَقَوَّى بِهَا فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدٌّ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ قَالَ يَا أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خُذْ فَأَعْطِهِمْ قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اقْعُدْ فَاشْرَبْ فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ فَقَالَ اشْرَبْ فَشَرِبْتُ فَمَا زَالَ يَقُولُ اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا قَالَ فَأَرِنِي فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ"
6453- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ "سَمِعْتُ سَعْدًا يَقُولُ إِنِّي لاَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الْحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلاَمِ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِي"
6454- حَدَّثَنِي عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ"
6455- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ الأَزْرَقُ عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنْ هِلاَلٍ الْوَزَّانِ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلاَّ إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ"
6456- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ"
6457- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ "كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ وَقَالَ كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ وَلاَ رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ"
6458- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنِي أَبِي "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلاَّ أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ"

(11/282)


6459- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ فَقُلْتُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ"
6460- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا"
قوله: "باب" بالتنوين "كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه"؟ أي في حياته "وتخليهم عن الدنيا" أي عن ملاذها والتبسط فيها. قوله: "حدثنا أبو نعيم بنحو من نصف هذا الحديث" قال الكرماني: يستلزم أن يكون الحديث بغير إسناد يعني غير موصول، لأن النصف المذكور مبهم لا يدري أهو الأول أو الثاني. قلت: يحتمل أيضا أن يكون قدر النصف الذي حدثه به أبو نعيم ملفقا من الحديث المذكور، والذي يتبادر من الإطلاق أنه النصف الأول، وقد جزم مغلطاي وبعض شيوخنا، أن القدر المسموع له منه هو الذي ذكره في "باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن" من كتاب الاستئذان حيث قال: "حدثنا أبو نعيم حدثنا عمر بن ذر ح، وأخبرنا محمد بن مقاتل أنبأنا عبد الله هو ابن المبارك أنبأنا عمر بن ذر أنبأنا مجاهد عن أبي هريرة قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد لبنا في قدح فقال: أبا هر الحق أهل الصفة فادعهم إلي.قال فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فدخلوا" قال مغلطاي: فهذا هو القدر الذي سمعه البخاري من أبي نعيم، واعترضه الكرماني فقال ليس هذا ثلث الحديث ولا ربعه فضلا عن نصفه. قلت: وفيه نظر من وجهين آخرين: أحدهما احتمال أن يكون هذا السياق لابن المبارك فإنه لا يتعين كونه لفظ أبي نعيم، ثانيهما أنه منتزع من أثناء الحديث فإنه ليس فيه القصة الأولى المتعلقة بأبي هريرة ولا ما في آخره من حصول البركة في اللبن إلخ. نعم، المحرر قول شيخنا في "النكت على ابن الصلاح" ما نصه: القدر المذكور في الاستئذان بعض الحديث المذكور في الرقاق، قلت: فهو مما حدثه به أبو نعيم سواء كان بلفظه أم بمعناه، وأما باقيه الذي لم يسمعه منه فقال الكرماني إنه يصير بغير إسناد فيعود المحذور، كذا قال. وكأن مراده أنه لا يكون متصلا لعدم تصريحه بأن أبا نعيم حدثه به، لكن لا يلزم من ذلك محذور بل يحتمل كما قال شيخنا أن يكون البخاري حدث به عن أبي نعيم بطريق الوجادة أو الإجازة أو حمله عن شيخ آخر غير أبي نعيم، قلت: أو سمع بقية الحديث من شيخ سمعه من أبي نعيم، ولهذين الاحتمالين الأخيرين أوردته في "تعليق التعليق" فأخرجته من طريق علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم تاما ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" والبيهقي في "الدلائل" وأخرجه النسائي في "السنن الكبرى" عن أحمد بن يحيى الصوفي عن أبي نعيم بتمامه، واجتمع لي ممن سمعه من عمر بن ذر شيخ أبي نعيم أيضا جماعة: منهم روح بن عبادة أخرجه أحمد عنه وعلي بن مسهر ومن طريقه أخرجه الإسماعيلي وابن حبان في صحيحه ويونس بن بكير ومن طريقه أخرجه الترمذي والإسماعيلي والحاكم في المستدرك والبيهقي. وسأذكر ما في رواياتهم من فائدة زائدة. ثم قال

(11/283)


الكرماني مجيبا عن المحذور الذي ادعاه ما نصه: اعتمد البخاري على ما ذكره في الأطعمة عن يوسف بن عيسى فإنه قريب من نصف هذا الحديث. فلعله أراد بالنصف هنا ما لم يذكره ثمة فيصير الكل مسندا بعضه عن يوسف وبعضه عن أبي نعيم قلت: سند طريق يوسف مغاير لطريق أبي نعيم إلى أبي هريرة فيعود المحذور بالنسبة إلى خصوص طريق أبي نعيم فإنه قال في أول كتاب الأطعمة "حدثنا يوسف بن عيسى حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن أبي حازم عن أبي هريرة قال أصابني جهد" فذكر سؤاله عمر عن الآية وذكر مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وفيه: "فانطلق بي إلى رحله فأمر لي بعس من لبن فشربت منه ثم قال عد" فذكره ولم يذكر قصة أصحاب الصفة ولا ما يتعلق بالبركة التي وقعت في اللبن، وزاد في آخره ما دار بين أبي هريرة وعمر وندم عمر على كونه ما استتبعه، فظهر بذلك المغايرة بين الحديثين في السندين، وأما المتن ففي أحد الطريقين ما ليس في الآخر لكن ليس في طريق أبي حازم من الزيادة كبير أمر، والله أعلم. قوله: "عمر بن ذر" بفتح المعجمة وتشديد الراء. قوله: "أن أبا هريرة كان يقول" في رواية روح ويونس بن بكير وغيرهما: "حدثنا مجاهد عن أبي هريرة". قوله: "الله الذي لا إله إلا هو" كذا للأكثر بحذف حرف الجر من القسم، وهو في روايتنا بالخفض، وحكى بعضهم جواز النصب. وقال ابن التين رويناه بالنصب.وقال ابن جني: إذا حذف حرف القسم نصب الاسم بعده بتقدير الفعل، ومن العرب من يجر اسم الله وحده مع حذف حرف الجر فيقول: الله لأقومن، وذلك لكثرة ما يستعملونه. قلت: وثبت في رواية روح ويونس بن بكير وغيرهما بالواو في أوله فتعين الجر فيه. قوله: "إن كنت" بسكون النون مخففة من الثقيلة، وقوله: "لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع" أي ألصق بطني بالأرض، وكأنه كان يستفيد بذلك ما يستفيده من شد الحجر على بطنه، أو هو كناية عن سقوطه إلى الأرض مغشيا عليه كما وقع في رواية أبي حازم في أول الأطعمة "فلقيت عمر بن الخطاب فاستقرأته آية" فذكره، قال: "فمشيت غير بعيد فخررت على وجهي من الجهد والجوع، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي" الحديث. وفي حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة الآتي في كتاب الاعتصام "لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة من الجوع مغشيا علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بي الجنون وما بي إلا الجوع" وعند ابن سعد من طريق الوليد بن رباح عن أبي هريرة "كنت من أهل الصفة، وإن كان ليغشى علي فيما بين بيت عائشة وأم سلمة من الجوع" ومضى أيضا في مناقب جعفر من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة "وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني" وفيه: "كنت ألصق بطني بالحصى من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني" وزاد فيه الترمذي "وكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله" قوله: "وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع" عند أحمد في طريق عبد الله بن شقيق "أقمت مع أبي هريرة سنة فقال: لو رأيتنا وإنه ليأتي على أحدنا الأيام ما يجد طعاما يقيم به صلبه، حتى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشد به على أخمص بطنه ثم يشده بثوبه ليقيم به صلبه" قال العلماء فائدة شد الحجر المساعدة على الاعتدال والانتصاب، أو المنع من كثرة التحلل من الغذاء الذي في البطن لكون الحجر بقدر البطن فيكون الضعف أقل، أو لتقليل حرارة الجوع ببرد الحجر، أو لأن فيه الإشارة إلى كسر النفس. وقال الخطابي أشكل الأمر في شد الحجر على البطن من الجوع على قوم فتوهموا أنه تصحيف، وزعموا أنه الحجز بضم أوله وفتح الجيم بعدها زاي جمع الحجزة التي يشد بها الوسط، قال: ومن أقام بالحجاز وعرف

(11/284)


عادتهم عرف أن الحجر واحد الحجارة.وذلك أن المجاعة تعتريهم كثيرا فإذا خوى بطنه لم يمكن معه الانتصاب فيعمد حينئذ إلى صفائح رقاق في طول الكف أو أكبر فيربطها على بطن وتشد بعصابة فوقها فتعتدل قامته بعض الاعتدال، والاعتماد بالكبد على الأرض مما يقارب ذلك. قلت: سبقه إلى الإنكار المذكور أبو حاتم بن حبان في صحيحه، فلعله أشار إلى الرد عليه، وقد ذكرت كلامه وتعقبه في "باب التنكيل لمن أراد الوصال" من كتاب الصيام. قوله: "ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه" الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه ممن كان طريق منازلهم إلى المسجد متحدة. قوله: "فمر أبو بكر فسألته عن آية ما سألته إلا ليشبعني" بالمعجمة والموحدة من الشبع، ووقع في رواية الكشميهني: "ليستتبعني" بمهملة ومثناتين وموحدة أي يطلب مني أن أتبعه ليطعمني، وثبت كذلك في رواية روح وأكثر الرواة. قوله: "فمر ولم يفعل" أي الإشباع أو الاستتباع. قوله: "حتى مر بي عمر" يشير إلى أنه استمر في مكانه بعد ذهاب أبي بكر إلى أن مر عمر، ووقع في قصة عمر من الاختلاف في قوله: "ليشبعني" نظير ما وقع في التي قبلها، وزاد في رواية أبي حازم "فدخل داره وفتحها علي" أي قرأ الذي استفهمته عنه، ولعل العذر لكل من أبي بكر وعمر حمل سؤال أبي هريرة على ظاهره أو فهما ما أراده ولكن لم يكن عندهما إذ ذاك ما يطعمانه، لكن وقع في رواية أبي حازم من الزيادة أن عمر تأسف على عدم إدخاله أبا هريرة داره ولفظه: "فلقيت عمر فذكرت له وقلت له ولي الله ذلك من كان أحق به منك يا عمر" وفيه: "قال عمر والله لأن أكون أدخلتك أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم" فإن فيه إشعارا بأنه كان عنده ما يطعمه إذ ذلك فيرجح الاحتمال الأول، ولم يعرج على ما رمزه أبو هريرة من كنايته بذلك عن طلب ما يؤكل. وقد استنكر بعض مشايخنا ثبوت هذا عن أبي هريرة لاستبعاد مواجهة أبي هريرة لعمر بذلك، وهو استبعاد مستبعد. قوله: "ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي" استدل أبو هريرة بتبسمه صلى الله عليه وسلم على أنه عرف ما به، لأن التبسم تارة يكون لما يعجب وتارة يكون لإيناس من تبسم إليه ولم تكن تلك الحال معجبة فقوى الحمل على الثاني. قوله: "وما في وجهي" كأنه عرف من حال وجهه ما في نفسه من احتياجه إلى ما يسد رمقه. ووقع في رواية علي بن مسهر وروح "وعرف ما في وجهي أو نفسي" بالشك. قوله: "ثم قال لي يا أبا هريرة" في رواية علي بن مسهر "فقال أبو هر" وفي رواية روح "فقال أبا هر" فأما النصب فواضح، وأما الرفع فهو على لغة من لا يعرف لفظ الكنية، أو هو للاستفهام أي أنت أبو هر؟ وأما قوله: "هر" فهو بتشديد الراء وهو من رد الاسم المؤنث إلى المذكر والمصغر إلى المكبر، فإن كنيته في الأصل أبو هريرة تصغير هرة مؤنثا وأبو هر مذكر مكبر، وذكر بعضهم أنه يجوز فيه تخفيف الراء مطلقا فعلى هذا يسكن، ووقع في رواية يونس بن بكير "فقال أبو هريرة، أي أنت أبو هريرة، وقد ذكرت توجيهه قبل. قوله: "قلت لبيك رسول الله" كذا فيه بحذف حرف النداء، ووقع في رواية علي بن مسهر "فقلت لبيك يا رسول الله وسعديك". قوله: "الحق" بهمزة وصل وفتح المهملة أي اتبع.قوله: "ومضى فاتبعته" زاد في رواية علي بن مسهر فلحقته. قوله: "فدخل" زاد علي بن مسهر إلى أهله. قوله: "فأستأذن" بهمزة بعد الفاء والنون مضمومة فعل متكلم وعبر عنه بذلك مبالغة في التحقق.ووقع في رواية علي بن مسهر ويونس وغيرهما: "فاستأذنت". قوله: "فأذن لي فدخل" كذا فيه وهو إما تكرار لهذه اللفظة لوجود الفصل أو التفات، ووقع في رواية علي ابن مسهر "فدخلت" وهي واضحة. قوله:

(11/285)


"فوجد لبنا في قدح" في رواية علي بن مسهر "فإذا هو بلبن في قدح" وفي رواية يونس "فوجد قدحا من اللبن".قوله: "فقال: من أين هذا اللبن؟" زاد روح "لكم" وفي رواية ابن مسهر "فقال لأهله: من أين لكم هذا". قوله: "قالوا أهداه لك فلان أو فلانة" كذا بالشك، ولم أقف على اسم من أهداه. وفي رواية روح "أهداه لنا فلان أو آل فلان" وفي رواية يونس "أهداه لنا فلان". قوله: "الحق إلى أهل الصفة" كذا عدى الحق بإلى وكأنه ضمنها معنى انطلق، ووقع في رواية روح بلفظ: "انطلق". قوله: "قال وأهل الصفة من أضياف الإسلام" سقط لفظ: "قال" من رواية روح ولا بد منها فإنه كلام أبي هريرة قاله شارحا لحال أهل الصفة وللسبب في استدعائهم فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخصهم بما يأتيه من الصدقة ويشركهم فيما يأتيه من الهدية، وقد وقع في رواية يونس بن بكير هذا القدر في أول الحديث ولفظه عن أبي هريرة "قال كان أهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال والله الذي لا إله إلا هو إلخ" وفيه إشعار بأن أبا هريرة كان منهم. قوله: "لا يأوون على أهل ولا مال" في رواية روح والأكثر "إلى" بدل على. قوله: "ولا على أحد" تعميم بعد تخصيص فشمل الأقارب والأصدقاء وغيرهم. وقد وقع في حديث طلحة ابن عمرو عند أحمد وابن حبان والحاكم "كان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له بالمدينة عريف نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة" وفي مرسل يزيد بن عبد الله بن قسيط عند ابن سعد "كان أهل الصفة ناسا فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره" وله من طريق نعيم المجمر عن أبي هريرة "كنت من أهل الصفة" وكنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر فيبقى من بقي عشرة أو أقل أو أكثر فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعشى معه فإذا فرغنا قال: ناموا في المسجد"، وتقدم في "باب علامات النبوة" وغيره حديث عبد الرحمن بن أبي بكر "أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث" الحديث، ولأبي نعيم في "الحلية" من مرسل محمد بن سيرين "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قسم ناسا من أصحاب الصفة بين ناس من أصحابه فيذهب الرجل بالرجل والرجل بالرجلين حتى ذكر عشرة" الحديث، وله من حديث معاوية بن الحكم "بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة فجعل يوجه الرجل مع الرجل من الأنصار والرجلين والثلاثة حتى بقيت في أربعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم خامسنا فقال: انطلقوا بنا، فقال: يا عائشة عشينا" الحديث. قوله: "إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا" أي لنفسه. وفي رواية روح "ولم يصب منها شيئا" وزاد: "ولم يشركهم فيها" قوله: "وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها" في رواية علي بن مسهر "وشركهم" بالتشديد وقال: "فيها أو منها" بالشك ووقع عند يونس "الصدقة والهدية" بالتعريف فيهما، وقد تقدم في الزكاة وغيرها بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وتقدم في الهبة من حديث أبي هريرة مختصرا من رواية محمد بن زياد عنه "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قيل صدقة قال لأصحابه كلوا، ولم يأكل. وإن قيل هدية ضرب بيده فأكل معهم" ولأحمد وابن حبان من هذا الوجه "إذا أتي بطعام من غير أهله" ويجمع بين هذا وبين ما وقع في حديث الباب بأن ذلك كان قبل أن تبنى الصفة، فكان يقسم الصدقة فيمن يستحقها ويأكل من الهدية مع من حضر من أصحابه، وقد أخرج أبو نعيم في "الحلية" من مرسل الحسن قال: "بنيت صفة في المسجد لضعفاء المسلمين" ويحتمل أن يكون ذلك باختلاف حالين: فيحمل حديث الباب على ما إذا لم يحضره أحد فإنه

(11/286)


يرسل ببعض الهدية إلى أهل الصفة أو يدعوهم إليه كما في قصة الباب، وإن حضره أحد يشركه في الهدية فإن كان هناك فضل أرسله إلى أهل الصفة أو دعاهم. ووقع في حديث طلحة بن عمرو الذي ذكرته آنفا "وكنت فيمن نزل الصفة فوافقت رجلا فكان يجري علينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم مد من تمر بين كل رجلين" وفي رواية أحمد "فنزلت في الصفة مع رجل فكان بيني وبينه كل يوم مد من تمر" وهو محمول أيضا على اختلاف الأحوال: فكان أولا يرسل إلى أهل الصفة بما حضره أو يدعوهم أو يفرقهم على من حضر إن لم يحضره ما يكفيهم، فلما فتحت فدك وغيرها صار يجري عليهم من التمر في كل يوم ما ذكر؟ وقد اعتنى بجمع أسماء أهل الصفة أبو سعيد بن الأعرابي وتبعه أبو عبد الرحمن السلمي فزاد أسماء، وجمع بينهما أبو نعيم في أوائل "الحلية" فسرد جميع ذلك. ووقع في حديث أبي هريرة الماضي في علامات النبوة أنهم كانوا سبعين، وليس المراد حصرهم في هذا العدد وإنما هي عدة من كان موجودا حين القصة المذكورة، وإلا فمجموعهم أضعاف ذلك كما بينا من اختلاف أحوالهم. قوله: "فساءني ذلك" زاد في رواية علي بن مسهر "والله" والإشارة إلى ما تقدم من قوله: "ادعهم لي" وقد بين ذلك ب قوله: "فقلت" أي في نفسي "وما هذا اللبن"؟ أي ما قدره "في أهل الصفة"؟ والواو عاطفة على شيء محذوف، ووقع في رواية يونس بحذف الواو زاد في روايته: "وأنا رسوله إليهم" وفي رواية علي بن مسهر، "وأين يقع هذا اللبن من أهل الصفة وأنا ورسول الله"؟ وهو بالجر عطفا على أهل الصفة ويجوز الرفع والتقدير وأنا ورسول الله معهم. قوله: "وكنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها" زاد في رواية روح يومي وليلتي. قوله: "فإذا جاء" كذا فيه بالإفراد أي من أمرني بطلبه، وللأكثر "فإذا جاءوا" بصيغة الجمع. قوله: "أمرني" أي النبي صلى الله عليه وسلم "فكنت أنا أعطيهم" وكأنه عرف بالعادة ذلك لأنه كان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم ويخدمه، وقد تقدم في مناقب جعفر من حديث طلحة بن عبيد الله "كان أبو هريرة مسكينا لا أهل له ولا مال، وكان يدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيثما دار" أخرجه البخاري في تاريخه، وتقدم في البيوع وغيره من وجه آخر عن أبي هريرة "كنت امرءا مسكينا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني" ووقع في رواية يونس بن بكير "فسيأمرني أن أديره عليهم فما عسى أن يصيبني منه، وقد كنت أرجو أن أصيب منه ما يغنيني" أي عن جوع ذلك اليوم. قوله: "وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن" أي يصل إلي بعد أن يكتفوا منه. وقال الكرماني لفظ: "عسى" زائد. قوله: "ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد" يشير إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . قوله: "فأتيتهم فدعوتهم" قال الكرماني: ظاهره أن الإتيان والدعوة وقع بعد الإعطاء، وليس كذلك، ثم أجاب بأن معنى قوله: "فكنت أنا أعطيهم" عطف على جواب "فإذا جاءوا" فهو بمعنى الاستقبال، قلت: وهو ظاهر من السياق. قوله: "فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت" أي فقعد كل منهم في المجلس الذي يليق به، ولم أقف على عددهم إذ ذاك، وقد تقدم في أبواب المساجد في أوائل كتاب الصلاة من طريق أبي حازم عن أبي هريرة "رأيت سبعين من أصحاب الصفة" الحديث وفيه إشعار بأنهم كانوا أكثر من ذلك، وذكرت هناك أن أبا عبد الرحمن السلمي وأبا سعيد بن الأعرابي والحاكم اعتنوا بجمع أسمائهم فذكر كل منهم من لم يذكر الآخر، وجمع الجميع أبو نعيم في "الحلية" وعدتهم تقرب من المائة لكن الكثير من ذلك لا يثبت، وقد بين كثيرا من ذلك أبو نعيم، وقد قال أبو نعيم: كان عدد أهل الصفة يختلف بحسب اختلاف الحال فربما اجتمعوا فكثروا وربما

(11/287)


18 - باب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ
6461- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَشْعَثَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ مَسْرُوقًا "قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ الدَّائِمُ قَالَ قُلْتُ فَأَيَّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ قَالَتْ كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ"
6462- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ"
6463- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا"
6464- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ
[الحديث 6464- طرفه في 6467]
6465- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ وَقَالَ اكْلَفُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ"
6466- حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ "سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنْ الأَيَّامِ قَالَتْ لاَ كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطِيعُ"
6467- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ" قَالَ أَظُنُّهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ

(11/294)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا قَالَ مُجَاهِدٌ قَوْلًا سَدِيدًا وَسَدَادًا صِدْقًا"
6468- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى لَنَا يَوْمًا الصَّلاَةَ ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ قَدْ أُرِيتُ الْآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمْ الصَّلاَةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قُبُلِ هَذَا الْجِدَارِ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ"
قوله: "باب القصد" بفتح القاف وسكون المهملة، هو سلوك الطريق المعتدلة، أي استحباب ذلك؛ وسيأتي أنهم فسروا السداد بالقصد وبه تظهر المناسبة. قوله: "والمداومة على العمل" أي الصالح. ذكر فيه ثمانية أحاديث أكثرها مكرر وفي بعضها زيادة على بعض، ومحصل ما اشتملت عليه الحث على مداومة العمل الصالح وإن قل، وأن الجنة لا يدخلها أحد بعمله بل برحمة الله، وقصة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في صلاته، والأول هو المقصود بالترجمة والثاني ذكر استطرادا وله تعلق بالترجمة أيضا والثالث يتعلق بها أيضا بطريق خفي. قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد، وأشعث هو ابن سليم بن الأسود وأبوه يكنى أبا الشعثاء بمعجمة ثم مهملة ثم مثلثة وهو بها أشهر، وقد تقدم هذا الحديث بهذا الإسناد في "باب من نام عند السحر" من كتاب التهجد، وتقدم شرحه هناك. والمراد بالصارخ الديك. وقوله هنا "قلت في أي حين كان يقوم" وقع في رواية الكشميهني: "فأي حين" وقد تقدم هناك بلفظ: "قلت متى كان يقوم" وأعقبه برواية أبي الأحوص عن أشعث بلفظ: "إذا سمع الصارخ قام فصلى" اختصره، وأخرجه مسلم من هذا الوجه بتمامه وقال فيه: "قلت أي حين كان يصلي" فذكره. حديث عائشة أيضا من طريق عروة عنها أنها قالت: "كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه" وهذا يفسر الذي قبله، وقد ثبت هذا من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي يلي الذي بعده. حديث أبي هريرة من رواية سعيد المقبري عنه. قوله: "لن ينجي أحدا منكم عمله" في رواية أبي داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب "ما منكم من أحد ينجيه عمله" وأخرجه أبو نعيم من طريقه، وتقدم في كفارة المرض من طريق أبي عبيد عن أبي هريرة بلفظ: "لم يدخل أحدا عمله الجنة" وأخرجه مسلم أيضا وهو كلفظ عائشة في الحديث الرابع هنا، ولمسلم من طريق ابن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة "ليس أحد منكم ينجيه عمله" ومن طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه "لن ينجو أحد منكم بعمله" وله من حديث جابر "لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار" ومعنى قوله ينجي أي يخلص والنجاة من الشيء التخلص منه، قال ابن بطال في الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ما محصله أن تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن يحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها. ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فصرح بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال، وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول. ثم قال:

(11/295)


ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية، والتقدير ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم، لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم. وقال عياض طريق الجمع أن الحديث فسر ما أجمل في الآية، فذكر نحوا من كلام ابن بطال الأخير وأن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة كل ذلك لم يستحقه العامل بعمله. وإنما هو بفضل الله وبرحمته. وقال ابن الجوزي: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة: الأول أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة. الثاني أن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله. الثالث جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال. الرابع أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير والثواب لا ينفد فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا بمقابلة الأعمال. وقال الكرماني الباء في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ليس للسببية بل للإلصاق أو المصاحبة، أي أورثتموها ملابسة أو مصاحبة، أو للمقابلة نحو أعطيت الشاة بالدرهم، وبهذا الأخير جزم الشيخ جمال الدين بن هشام في "المغني" فسبق إليه فقال: ترد الباء للمقابلة وهي الداخلة على الأعواض كاشتريته بألف، ومنه {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وإنما لم تقدر هنا للسببية كما قالت المعتزلة وكما قال الجميع في "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" لأن المعطي بعوض قد يعطى مجانا بخلاف المسبب فلا يوجد بدون السبب، قال: وعلى ذلك ينتفي التعارض بين الآية والحديث. قلت: سبقه إلى ذلك ابن القيم فقال في كتاب "مفتاح دار السعادة": الباء المقتضية للدخول غير الباء الماضية، فالأولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والثانية بالمعاوضة نحو اشتريت منه بكذا فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة لأن العمل بمجرده ولو تناهي لا يوجب بمجرده دخول الجنة ولا أن يكون عوضا لها، لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها وهو لم يوفها حق شكرها، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبة وهو غير ظالم، وإذا رحمه في هذه الحالة كانت رحمته خيرا من عمله كما في حديث أبي بن كعب الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه في ذكر القدر ففيه: "لو أن الله عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم" الحديث، قال وهذا فصل الخطاب مع الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأعمال سببا في دخول الجنة من كل وجه، والقدرية الذين زعموا أن الجنة عوض العمل وأنها ثمنه وأن دخولها بمحض الأعمال، والحديث يبطل دعوى الطائفتين والله أعلم. قلت: وجوز الكرماني أيضا أن يكون المراد أن الدخول ليس بالعمل، والإدخال المستفاد من الإرث بالعمل، وهذا إن مشى في الجواب عن قوله تعالى: {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لم يمش في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا. وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله: "ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون" أي تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر بعد هذا أن تكون

(11/296)


الباء للمصاحبة أو للإلصاق أو المقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية. ثم رأيت النووي جزم بأن ظاهر الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل وهو من رحمة الله تعالى. ورد الكرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث. وقال المازري: ذهب أهل السنة إلى أن إثابة الله تعالى من أطاعه بفضل منه، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه، ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع، وله سبحانه وتعالى أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ولكنه أخبر أنه لا يفعل ذلك وخبره صدق لا خلف فيه. وهذا الحديث يقوي مقالتهم ويرد على المعتزلة حيث أثبتوا بعقولهم أعواض الأعمال، ولهم في ذلك خبط كثير وتفصيل طويل. قوله: "قالوا ولا أنت يا رسول الله"؟ وقع في رواية بشر بن سعيد عن أبي هريرة عند مسلم: "فقال رجل" ولم أقف على تعيين القائل قال الكرماني: إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلا برحمة الله فوجه تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر أنه إذا كان مقطوعا له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى. قلت: وسبق إلى تقرير هذا المعنى الرافعي في أماليه فقال: لما كان أجر النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعة أعظم وعمله في العبادة أقوم قيل له "ولا أنت" أي لا ينجيك عملك مع عظم قدره، فقال: "لا إلا برحمة الله" وقد ورد جواب هذا السؤال بعينه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم من حديث جابر بلفظ: "لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا برحمة من الله تعالى". قوله: "إلا أن يتغمدني الله" في رواية سهيل "إلا أن يتداركني". قوله: "برحمة" في رواية أبي عبيد "بفضل ورحمة" وفي رواية الكشميهني من طريقه "بفضل رحمته" وفي رواية الأعمش "برحمة وفضل" وفي رواية بشر بن سعيد "منه برحمة" وفي رواية ابن عون "بمغفرة ورحمة". وقال ابن عون بيده هكذا "وأشار على رأسه" وكأنه أراد تفسير معنى "يتغمدني" قال أبو عبيد: المراد بالتغمد الستر، وما أظنه إلا مأخوذا من غمد السيف لأنك إذا أغمدت السيف فقد ألبسته الغمد وسترته به. قال الرافعي: في الحديث أن العامل لا ينبغي أن يتكل على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات لأنه إنما عمل بتوفيق الله، وإنما ترك المعصية بعصمة الله، فكل ذلك بفضله ورحمته. قوله: "سددوا" في رواية بشر بن سعيد عن أبي هريرة عند مسلم: "ولكن سددوا" ومعناه اقصدوا السداد أي الصواب، ومعنى هذا الاستدراك أنه قد يفهم من النفي المذكور نفي فائدة العمل، فكأنه قيل بل له فائدة وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة التي تدخل العامل الجنة فاعملوا واقصدوا بعملكم الصواب أي اتباع السنة من الإخلاص وغيره ليقبل عملكم فينزل عليكم الرحمة. قوله: "وقاربوا" أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرطوا، وقد أخرج البزار من طريق محمد بن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر ولكن صوب إرساله، وله شاهد في الزهد لابن المبارك من حديث عبد الله بن عمرو موقوف "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" والمنبت بنون ثم موحدة ثم مثناة ثقيلة أي الذي عطب مركوبه من شدة السير، مأخوذ من البت وهو القطع أي صار منقطعا لم يصل إلى مقصوده وفقد مركوبه. الذي كان يوصله لو رفق به. وقوله: "أوغلوا" بكسر المعجمة من الوغول وهو الدخول في الشيء. قوله: "واغدوا وروحوا وشيئا من الدلجة" في رواية الطيالسي عن ابن أبي ذئب "وخطا من الدلجة" والمراد بالغدو

(11/297)


السير من أول النهار، وبالرواح السير من أول النصف الثاني من النهار، والدلجة بضم المهملة وسكون اللام ويجوز فتحها وبعد اللام جيم سير الليل يقال سار دلجة من الليل أي ساعة فلذلك قال شيئا من الدلجة لعسر سير جميع الليل، فكأن فيه إشارة إلى صيام جميع النهار وقيام بعض الليل وإلى أعم من ذلك من سائر أوجه العبادة، وفيه إشارة إلى الحث على الرفق في العبادة وهو الموافق للترجمة، وعبر بما يدل على السير لأن العابد كالسائر إلى محل إقامته وهو الجنة، وشيئا منصوب بفعل محذوف أي افعلوا، وقد تقدم بأبسط من هذا في كتاب الإيمان في "باب الدين يسر". قوله: "والقصد القصد" بالنصب على الإغراء أي الزموا الطريق الوسط المعتدل، ومنه قوله في حديث جابر ابن سمرة عند مسلم: "كانت خطبته قصدا" أي لا طويلة ولا قصيرة، واللفظ الثاني للتأكيد، ووقفت على سبب لهذا الحديث: فأخرج ابن ماجه من حديث جابر قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يصلي على صخرة فأتى ناحية فمكث ثم انصرف فوجده على حاله فقام فجمع يديه ثم قال: أيها الناس عليكم القصد، عليكم القصد". الحديث: قوله: "حدثنا عبد العزيز بن عبد الله" هو الأويسي، وسليمان هو ابن بلال. قوله: "عن موسى بن عقبة" قال الإسماعيلي بعد أن أخرجه من طريق محمد بن الحسين المخزومي عن سليمان ابن بلال عن عبد العزيز بن المطلب عن موسى بن عقبة: لم أر في كتاب البخاري "عن عبد العزيز بن المطلب" 0 بين سليمان وموسى. قلت: وهو المحفوظ، والذي زاده غير معتمد لأنه متفق على ضعفه وهو المعروف بابن زبالة بفتح الزاي وتخفيف الموحدة المدني، وهذا من الأمثلة لما تعقبته على ابن الصلاح في جزمه بأن الزيادات التي تقع في المستخرجات تحكم بصحتها لأنها خارجة مخرج الصحيح، ووجه التعقب أن الذين استخرجوا لم يصرحوا بالتزام ذلك، سلمنا أنهم التزموا ذلك لكن لم يفوا به، وهذا من أمثلة ذلك فإن ابن زبالة ليس من شرط الصحيح. قوله: "عن أبي سلمة بن عبد الرحمن" سيأتي ما يتعلق باتصاله بعد حديثين، وقد تقدم شرح المتن في الذي قبله. قوله: "وإن أحب الأعمال إلخ" خرج هذا جواب سؤال سيأتي بيانه في الذي بعده. قوله: "عن سعد بن إبراهيم" أي ابن عبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة شيخه هو عمه. قوله: "عن عائشة" وقع عند النسائي من طريق ابن إسحاق وهو السبيعي عن أبي سلمة عن أم سلمة فذكر معنى حديث عائشة، ورواية سعد بن إبراهيم أقوى لكون أبي سلمة بلديه وقريبه، بخلاف ابن إسحاق في الأمرين؛ ويحتمل أن يكون عند أبي سلمة عن أمي المؤمنين لاختلاف السياقين، فإن لفظه عن أم سلمة بعد زيادة في أوله "وكان أحب الأعمال إليه الذي يدوم عليه العبد وإن كان يسيرا" وقد تقدم من طريق القاسم بن محمد عن عائشة نحو سياق أبي سلمة عن عائشة. قوله: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله" لم أقف على تعيين السائل عن ذلك، لكن1 قوله: "قال أدومها وإن قل" فيه سؤال وهو أن المسئول عنه أحب الأعمال، وظاهره السؤال عن ذات العمل فلم يتطابقا، ويمكن أن يقال إن هذا السؤال وقع بعد قوله في الحديث الماضي في الصلاة وفي الحج وفي بر الوالدين حيث أجاب بالصلاة ثم بالبر إلخ ثم ختم ذلك بأن المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولا أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجرا لكن ليس فيه مداومة. قوله: "وقال" أي النبي صلى الله عليه وسلم، هو موصول بالسند المذكور. قوله: "اكلفوا" بفتح اللام وبضمها أيضا، قال ابن التين
ـــــــ
1 بياض بأصله.

(11/298)


هو في اللغة بالفتح ورويناه بالضم، والمراد به الإبلاغ بالشيء إلى غايته، يقال كلفت بالشيء إذا أولعت به، ونقل بعض الشراح أنه روى بفتح الهمزة وكسر اللام من الرباعي، ورد بأنه لم يسمع أكلف بالشيء، قال المحب الطبري: الكلف بالشيء التولع به فاستعير للعمل للالتزام والملابسة، وألفه ألف وصل، والحكمة في ذلك أن المديم للعمل يلازم الخدمة فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت ليجازي بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلا ثم انقطع. وأيضا فالعامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل فيتعرض للذم والجفاء، ومن ثم ورد الوعيد في حق من حفظ القرآن ثم نسيه، والمراد بالعمل هنا الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات. قوله: "ما تطيقون" أي قدر طاقتكم. والحاصل أنه أمر بالجد في العبادة والإبلاغ بها إلى حد النهاية، لكن بقيد ما لا تقع معه المشقة المفضية إلى السآمة والملال. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعلقمة هو ابن قيس وهو خال إبراهيم، والسند كله إلى عائشة كوفيون. قوله: "هل كان يخص شيئا من الأيام" أي بعبادة مخصوصة لا يفعل مثلها في غيره "قالت لا"، وقد استشكل ذلك بما ثبت عنها أن أكثر صيامه كان في شعبان كما تقدم تقريره في كتاب الصيام، وبأنه كان يصوم أيام البيض كما ثبت في السنن وتقدم بيانه أيضا. وأجيب بأن مرادها تخصيص عبادة معينة في وقت خاص، وإكثاره الصيام في شعبان إنما كان لأنه كان يعتريه الوعك كثيرا وكان يكثر السفر في الغزو فيفطر بعض الأيام التي كان يريد أن يصومها فيتفق أن لا يتمكن من قضاء ذلك إلا في شعبان فيصير صيامه في شعبان بحسب الصورة أكثر من صيامه في غيره. وأما أيام البيض فلم يكن يواظب على صيامها في أيام بعينها. بل كان ربما صام من أول الشهر وربما صام من وسطه وربما صام من آخره، ولهذا قال أنس "ما كنت تشاء أن تراه صائما من النهار إلا رأيته، ولا قائما من الليل إلا رأيته". وقد تقدم هذا كله بأبسط من هذا في كتاب الصيام أيضا. قوله: "كان عمله ديمة" بكسر الدال المهملة وسكون التحتانية أي دائما، والديمة في الأصل المطر المستمر مع سكون بلا رعد ولا برق، ثم استعمل في غيره، وأصلها الواو فانقلبت بالكسرة قبلها ياء. قوله: "وأيكم يستطيع إلخ" أي في العبادة كمية كانت أو كيفية من خشوع وخضوع وإخبات وإخلاص والله أعلم. قوله: "محمد بن الزبرقان" بكسر الزاي والراء بينهما باء موحدة وبالقاف هو أبو همام الأهوازي، وثقه علي بن المديني والدار قطني وغيرهما وقال أبو حاتم الرازي: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ؛ وما له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد وقد توبع فيه. قوله: "قال أظنه عن أبي النضر" هو سالم بن أبي أمية المدني التيمي، وفاعل أظنه هو علي بن المديني شيخ البخاري فيه، وكأنه جوز أن يكون موسى بن عقبة لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة بن عبد الرحمن وأن بينهما فيه واسطة وهو أبو النضر، لكن قد ظهر من وجه آخر أن لا واسطة لتصريح وهيب وهو ابن خالد عن موسى بن عقبة بقوله: "سمعت أبا سلمة" وهذا هو النكتة في إيراد الرواية المعلقة بعدها عن عفان عن وهيب، وطريق عفان هذه وصلها أحمد في مسنده قال: "حدثنا عفان بسنده" وأخرجها البيهقي في "الشعب" من طريق إبراهيم الحربي عن عفان. وأخرج مسلم الحديث المذكور من طريق بهز بن أسد عن وهيب. قوله: "سددوا وأبشروا" هكذا اقتصر على طرف المتن، لأن غرضه منه بيان اتصال السند فاكتفى، وقد ساقه أحمد بتمامه عن عفان مثل رواية أبي همام سواء لكن قدم وأخر في بعض ألفاظه، وكذا لمسلم في رواية بهز وزاد

(11/299)


في آخره: "واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل" ومضى لنحو هذا الحديث في كتاب اللباس سبب وهو من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة "عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجر حصيرا بالليل فيصلي عليه ويبسطه في النهار فيجلس عليه، فجعل الناس يصلون عليه بصلاته حتى كثروا، فأقبل عليهم فقال: يا أيها الناس عليكم من الأعمال بما تطيقون" ووقفت له على سبب آخر وهو عند ابن حبان من حديث أبي هريرة قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه وهم يضحكون فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقول لك لا تقنط عبادي، فرجع إليهم فقال: سددوا وقاربوا" ، قال ابن حزم في كلامه على مواضع من البخاري: معنى الأمر بالسداد والمقاربة أنه صلى الله عليه وسلم أشار بذلك إلى أنه بعث ميسرا مسهلا، فأمر أمته بأن يقتصدوا في الأمور لأن ذلك يقتضي الاستدامة عادة. قوله: "وقال مجاهد: سديدا سدادا صدقا" كذا ثبت للأكثر، والذي ثبت عن مجاهد عند الفريابي والطبري وغيرهما من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {قَوْلاً سَدِيداً} قال: سدادا والسداد بفتح أوله العدل المعتدل الكافي وبالكسر ما يسد الخلل. والذي وقع في الرواية بالفتح. وزعم مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن أن الطبري وصل تفسير مجاهد عن موسى بن هارون بن عمرو بن طلحة عن أسباط عن السدي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهذا وهم فاحش، فما للسدي من ابن أبي نجيح رواية، ولا أخرجه الطبري من هذا الوجه، وإنما أخرج من وجه آخر عن السدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: "قولا سديدا" قال: القول السديد أن يقول لمن حضره الموت: قدم لنفسك واترك لولدك. وأخرج أثر مجاهد من رواية ورقاء عن ابن أبي نجيح. وأخرج أيضا من طريق يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال في قوله تعالى: {قَوْلاً سَدِيداً} قال: عدلا يعني في منطقة. وفي عمله. قال والسداد الصدق. وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن البصري في قوله: "قولا سديدا" قال: صدقا. وأخرج الطبري من طريق الكلبي مثله، والذي أظنه أنه سقط من الأصل لفظة والتقدير قال مجاهد: سدادا. وقال غيره صدقا. أو الساقط منه لفظة أي كأن المصنف أراد تفسير ما فسر به مجاهد السديد. قوله: "فليح" هو ابن سليمان، والإسناد كله مدنيون. قوله: "صلى لنا يوما الصلاة" وقع في رواية الزهري عن أنس أنها الظهر. قوله: "ثم رقي" بفتح أوله وكسر القاف من الارتقاء أي صعد وزنا ومعنى. قوله: "من قبل" أي من جهة وزنا ومعنى. قوله: "أريت" بضم الهمزة وكسر الراء وفي بعضها "رأيت" بفتحتين. قوله: "ممثلتين" أي مصورتين وزنا ومعنى، يقال مثله إذا صوره كأنه ينظر إليه. قوله: "في قبل" بضم القاف والموحدة، والمراد بالجدار جدار المسجد. قوله: "فلم أر كاليوم في الخير والشر" وقع هنا مكررا تأكيدا، وقد تقدم شرح هذا اللفظ في "باب وقت الظهر" من أبواب المواقيت، ويأتي شرح الحديث مستوفى في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. وفي الحديث إشارة إلى الحث على مداومة العمل، لأن من مثل الجنة والنار بين عينيه كان ذلك باعثا له على المواظبة على الطاعة والانكفاف عن المعصية. وبهذا التقريب تظهر مناسبة الحديث للترجمة

(11/300)


19 - باب الرَّجَاءِ مَعَ الْخَوْفِ
وَقَالَ سُفْيَانُ مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}

(11/300)


6469- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ"
قوله: "باب الرجاء مع الخوف" أي استحباب ذلك، فلا يقطع النظر في الرجاء عن الخوف ولا في الخوف عن الرجاء لئلا يفضي في الأول إلى المكر وفي الثاني إلى القنوط وكل منهما مذموم، والمقصود من الرجاء أن من وقع منه تقصير فليحسن ظنه بالله ويرجو أن يمحو عنه ذنبه، وكذا من وقع منه طاعة يرجو قبولها، وأما من انهمك على المعصية راجيا عدم المؤاخذة بغير ندم ولا إقلاع فهذا في غرور، وما أحسن قول أبي عثمان الجيزي: من علامة السعادة أن تطيع، وتخاف أن لا تقبل. ومن علامة الشقاء أن تعصى، وترجو أن تنجو. وقد أخرج ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبيه "عن عائشة قلت: يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أهو الذي يسرق ويزني؟ قال: لا، ولكنه الذي يصوم ويتصدق ويصلي ويخاف أن لا يقبله منه" وهذا كله متفق على استحبابه في حالة الصحة، وقيل الأول أن يكون الخوف في الصحة أكثر وفي المرض عكسه، وأما عند الإشراف على الموت فاستحب قوم الاقتصار على الرجاء لما يتضمن من الافتقار إلى الله تعالى، ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذر فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته، ويؤيده حديث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" ، وسيأتي الكلام عليه في كتاب التوحيد. وقال آخرون: لا يهمل جانب الخوف أصلا بحيث يجزم بأنه آمن، ويؤيده ما أخرج الترمذي عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال له: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف" ولعل البخاري أشار إليه في الترجمة، ولما لم يوافق شرطه أورد ما يؤخذ منه، وإن لم يكن مساويا له في التصريح بالمقصود. قوله: "وقال سفيان" هو ابن عيينة "ما في القرآن آية أشد علي" من قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وقد تقدم الكلام على هذا الأثر وبيانه والبحث فيه في تفسير المائدة ومناسبته للترجمة من جهة أن الآية تدل على أن من لم يعمل بما تضمنه الكتاب الذي أنزل عليه لم تحصل له النجاة، لكن يحتمل أن يكون ذلك من الإصر الذي كان كتب على من قبل هذه الأمة، فيحصل الرجاء بهذه الطريق مع الخوف. قوله: "حدثنا قتيبة" هو ابن سعيد، وثبت كذلك لغير أبي ذر، وعمرو هو ابن أبي عمرو مولى المطلب وهو تابعي صغير، وشيخه تابعي وسط، وما مدنيان. قوله: "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة" قال ابن الجوزي: رحمة الله صفة من صفات ذاته، وليس هي بمعنى الرقة التي في صفات الآدميين، بل ضرب ذلك مثلا لما يعقل من ذكر الأجزاء ورحمة المخلوقين والمراد أنه أرحم الراحمين. قلت: المراد بالرحمة هنا ما يقع من صفات الفعل كما سأقرره فلا حاجة للتأويل، وقد تقدم في أوائل الأدب جواب آخر مع مباحث حسنة وهو في "باب جعل الله الرحمة مائة جزء"

(11/301)


(11/302)


20 - باب الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}

(11/302)


باب (ومن يتوكل على اللخ فهو حسبه)
...
21 - باب {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ
6472- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ حُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"
قوله: "باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه" استعمل لفظ الآية ترجمة لتضمنها الترغيب في التوكل، وكأنه أشار إلى تقييد ما أطلق في حديث الباب قبله، وأن كلا من الاستغناء والتصبر والتعفف إذا كان مقرونا بالتوكل على الله فهو الذي ينفع وينجع. وأصل التوكل الوكول، يقال وكلت أمري إلى فلان أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه، ووكل فلان فلانا استكفاه أمره ثقة بكفايته. والمراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وليس المراد به ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين، لأن ذلك قد يجر إلى ضد ما يراه من التوكل. وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال لا أعمل شيئا

(11/305)


حتى يأتيني رزقي فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي" وقال: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق قال: وكان الصحابة يتجرون ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم. انتهى. والحديث الأول سبق الكلام عليه في الجهاد، والثاني أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه. قوله: "وقال الربيع بن خثيم" بمعجمة ومثلثة مصغر. قوله: "من كل ما ضاق على الناس" وصله الطبراني وابن أبي حاتم من طريق الربيع بن منذر الثوري عن أبيه عن الربيع بن خثيم قال في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} الآية قال: من كل شيء ضاق على الناس. والربيع المذكور من كبار التابعين، صحب ابن مسعود، وكان يقول له: لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك. أورد ذلك أحمد في "الزهد" بسند جيد، وحديثه مخرج في الصحيحين وغيرهما، والربيع بن منذر لم يخرجوا عنه، لكن ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات، وأبوه متفق على توثيقه والتخريج عنه. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن منصور كما أوضحته في المقدمة، وغلط من قال إنه ابن إبراهيم وسيأتي شرح الحديث مستوفي في "باب يدخل الجنة سبعون ألفا" بعد ثمانية وعشرين بابا إن شاء الله تعالى

(11/306)


باب ما يكره من قبل وقال
...
22 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ
6473- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُغِيرَةُ وَفُلاَنٌ وَرَجُلٌ ثَالِثٌ أَيْضًا عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ "أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ أَنْ اكْتُبْ إِلَيَّ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ الصَّلاَةِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَمَنْعٍ وَهَاتِ وَعُقُوقِ الأُمَّهَاتِ وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَعَنْ هُشَيْمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ وَرَّادًا يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب ما يكره من قيل وقال" ذكر فيه حديث المغيرة بن شعبة في ذلك، قال أبو عبيد: جعل القال مصدرا كأنه قال نهى عن قيل وقول تقول قلت قولا وقيلا وقالا، والمراد أنه نهى عن الإكثار بما لا فائدة فيه من الكلام، وهذا على أن الرواية فيه بالتنوين. وقال غيره اسمان يقال كثير القيل والقال، وفي حرف ابن مسعود "ذلك عيسى بن مريم قال الحق" بضم اللام. وقال ابن دقيق العيد: الأشهر منه فتح اللام فيهما على سبيل الحكاية وهو الذي يقتضيه المعنى، لأن القيل والقال إذا كانا اسمين كانا بمعنى واحد كالقول فلا يكون في عطف أحدهما على الآخر كبير فائدة، بخلاف ما إذا كانا فعلين. وقال المحب الطبري: إذا كانا اسمين يكون الثاني تأكيدا. والحكمة في النهي عن ذلك أن الكثرة من ذلك لا يؤمن معها وقوع الخطأ، قلت: وفي الترجمة إشارة إلى أن جميع ذلك لا يكره لأن من عمومه ما يكون في الخبر المحض فلا يكره والله أعلم. وذهب بعضهم إلى أن المراد حكاية أقاويل الناس

(11/306)


والبحث عنها كما يقال قال فلان كذا وقيل عنه كذا مما يكره حكايته عنه، وقيل هو أن يذكر للحادثة عن العلماء أقوالا كثيرة ثم يعمل بأحدها بغير مرجح أو يطلقها من غير تثبت ولا احتياط لبيان الراجح، والنهي عن كثرة السؤال يتناول الإلحاف في الطلب والسؤال عما لا يعني السائل. وقيل المراد بالنهي المسائل التي نزل فيها "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" وقيل يتناول الإكثار من تفريع المسائل، ونقل عن مالك أنه قال: والله إني لأخشى أن يكون هذا الذي أنتم فيه من تفريع المسائل. ومن ثم كره جماعة من السلف السؤال عما لم يقع لما يتضمن من التكلف في الدين والتنطع والرجم بالظن من غير ضرورة. وقد تقدم كثير من هذه المباحث عند شرح الحديث في كتاب الصلاة، وأن المراد بالنهي عن كثرة السؤال في المال. ورجحه بعضهم لمناسبته لقوله: "وإضاعة المال" وتقدم شيء من هذا في كتاب الزكاة. وأما من فسره بكثرة سؤال الناس عن أحوالهم وما في أيديهم أو عن أحداث الزمان وما لا يعني السائل فإنه بعيد، لأنه داخل في قوله: "نهى عن قيل وقال" والله أعلم. قوله: "حدثنا علي بن مسلم" كذا للأكثر ووقع للكشميهني وحده "وقال علي بن مسلم" جزم أبو نعيم في "المستخرج" بما عليه الجمهور. قوله:" أنبأنا غير واحد منهم مغيرة" هو ابن مقسم الضبي وفلان ورجل ثالث، المراد بفلان مجالد بن سعيد فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن زياد بن أيوب ويعقوب بن إبراهيم الدورقي قالا "حدثنا هشيم أنبأنا غير واحد منهم مغيرة ومجالد" وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي خثيمة عن هشيم، وكذا أخرجه أحمد عن هشيم، وأخرجه النسائي عن يعقوب الدورقي لكن قال في روايته: "عن غير واحد منهم مغيرة" ولم يسم مجالدا. وأخرجه أيضا عن الحسن بن إسماعيل عن هشيم أنبأنا مغيرة وذكر آخر ولم يسمه وكأنه مجالد، وأخرجه أبو يعلى عن زكريا بن يحيى عن هشيم عن مغيرة عن الشعبي ولم يذكر مع مغيرة أحدا وأما الرجل الثالث فيحتمل أنه داود بن أبي هند، فقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن أبي بكير الكرماني عن هشيم قال أنبأنا داود بن أبي هند وغيره عن الشعبي به، ويحتمل أن يكون زكريا بن أبي زائدة أو إسماعيل بن أبي خالد فقد أخرجه الطبراني من طريق الحسن بن علي بن راشد الواسطي عن هشيم عن مغيرة وزكريا بن أبي زائدة ومجالد وإسماعيل بن أبي خالد كلهم عن الشعبي، والحسن المذكور ثقة من شيوخ أبي داود تكلم فيه عبدان بما لا يقدح فيه. وقال ابن عدي: لم أر حديثا منكرا. قوله: "فكتب إليه المغيرة" ظاهره أن المغيرة باشر الكتابة، وليس كذلك، فقد أخرجه ابن حبان من طريق عاصم الأحول عن الشعبي "إن معاوية كتب إلى المغيرة اكتب إلي بحديث سمعته، فدعا غلامه ورادا فقال: اكتب" فذكره. وقوله لا إله إلا الله - إلى قوله: وهو على كل شيء قدير زاد في نسخة الصغاني هنا "ثلاث مرات" وأخرجه الطبراني من طريق عبد الملك بن عمير عن وراد "كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فكتبت إليه بخطي" ولم أقف على تسمية من كتب لمعاوية صريحا إلا أن المغيرة كان معاوية أمره على الكوفة في سنة إحدى وأربعين إلى أن مات سنة خمسين أو في التي بعدها وكان كاتب معاوية إذ ذاك عبيد بن أوس الغساني. وفي الحديث حجة على من لم يعمل في الرواية بالمكاتبة، واعتل بعضهم بأن العمدة حينئذ على الذي بلغ الكتاب كأن يكون الذي أرسله أمره أن يوصل الكتاب وأن يبلغ ما فيه مشافهة، وتعقب بأن هذا يحتاج إلى نقل، وعلى تقدير وجوده فتكون الرواية عن مجهول ولو فرض أنه ثقة عند من أرسله ومن أرسل إليه، فتجيء فيه مسألة التعديل على الإبهام والمرجح عدم الاعتداد به. قوله:

(11/307)


"وعن هشيم أنبأنا عبد الملك بن عمير" هو موصول بالطريق التي قبله، وقد وصله الإسماعيلي من رواية يعقوب الدورقي وزياد بن أيوب قالا "حدثنا هشيم عن عبد الملك به". قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم" كذا أطلق، وظاهره أن الرواية كالتي قبلها، وهو كذلك عند الإسماعيلي، وأخرجه أبو نعيم من طريق أبي الربيع الزهراني عن هشيم فقال في سياقه "كتب معاوية إلى المغيرة أن اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكره

(11/308)


باب حفظ اللسان ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
...
23 - باب حِفْظِ اللِّسَانِ وَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
6474- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ سَمِعَ أَبَا حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ"
6475- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ"
6475- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ "عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ سَمِعَ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ جَائِزَتُهُ قِيلَ مَا جَائِزَتُهُ قَالَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ"
6477- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ"
[الحديث 6477- طرفه في 6478]
6478- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْني ابْنَ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ"
قوله: "باب حفظ اللسان" أي عن النطق بما لا يسوغ شرعا مما لا حاجة للمتكلم به. وقد أخرج أبو الشيخ

(11/308)


في "كتاب الثواب" والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي جحيفة رفعه: "أحب الأعمال إلى الله حفظ اللسان". قوله: "ومن كان يؤمن بالله إلخ" وقع عند أبي ذر "وقول النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان يؤمن بالله إلخ" وقد أورده موصولا في الباب بلفظه. قوله: "وقول الله تعالى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} كذا لأبي ذر، وللأكثر "وقوله ما يلفظ إلخ" ولابن بطال "وقد أنزل الله تعالى ما يلفظ الآية" وقد تقدم ما يتعلق بتفسيرها في تفسير سورة ق. وقال ابن بطال جاء عن الحسن أنهما يكتبان كل شيء، وعن عكرمة يكتبان الخير والشر فقط، ويقوى الأول تفسير أبي صالح في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قال: تكتب الملائكة كل ما يتلفظ به الإنسان ثم يثبت الله من ذلك ما له وما عليه ويمحو ما عدا ذلك. قلت: هذا لو ثبت كان نصا في ذلك، ولكنه من رواية الكلبي وهو ضعيف جدا، والرقيب هو الحافظ والعتيد هو الحاضر وورد في فضل الصمت عدة أحاديث منها حديث سفيان بن عبد الله الثقفي "قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: هذا، وأخذ بلسانه" أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح، وتقدم في الإيمان حديث: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" ولأحمد وصححه ابن حبان من حديث البراء "وكف لسانك إلا من خير "وعن عقبة بن عامر "قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك" الحديث أخرجه الترمذي وحسنه، وفي حديث معاذ مرفوعا: "ألا أخبرك بملاك الأمر كله، كف هذا، وأشار إلى لسانه. قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه كلهم من طريق أبي وائل عن معاذ مطولا، وأخرجه أحمد أيضا من وجه آخر عن معاذ، وزاد الطبراني في رواية مختصرة "ثم إنك لن تزال سالما ما سكت، فإذا تكلمت كتب عليك أو لك" وفي حديث أبي ذر مرفوعا: "عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان" أخرجه أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم وصححاه، وعن ابن عمر رفعه: "من صمت نجا" أخرجه الترمذي ورواته ثقات، وعن أبي هريرة رفعه: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" أخرجه الترمذي وحسنه. قوله: "حدثني" كذا لأبي ذر وللباقين "حدثنا" وكذا للجميع في هذا السند بعينه في المحاربين، وعمر بن علي المقدمي بفتح القاف وتشديد الدال هو عم محمد بن أبي بكر الراوي عنه، وقد تقدم أن عمر مدلس لكنه صرح هنا بالسماع. قوله: "عن سهل بن سعد" هو الساعدي. قوله: "من يضمن" بفتح أوله وسكون الضاد المعجمة والجزم من الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية فأطلق الضمان وأراد لازمه وهو أداء الحق الذي عليه، فالمعنى من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه أو الصمت عما لا يعنيه وأدى الحق الذي على فرجه من وضعه في الحلال وكفه عن الحرام، وسيأتي في المحاربين عن خليفة بن خياط عن عمر بن علي بلفظ: "من توكل" وأخرجه الترمذي عن محمد بن عبد الأعلى عن عمر بن علي بلفظ: "من تكفل" وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان قال: "حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي وعمر ابن علي هو الفلاس وغيرهما قالوا: حدثنا عمر بن علي" بلفظ: "من حفظ" عند أحمد وأبي يعلى من حديث أبي موسى بسند حسن، وعند الطبراني من حديث أبي رافع بسند جيد لكن قال: "فقميه" بدل "لحييه" وهو بمعناه، والفقم بفتح الفاء وسكون القاف. قوله: "لحييه" بفتح اللام وسكون المهملة والتثنية هما العظمان في جانبي الفم والمراد بما بينهما اللسان وما يتأتى به النطق، وبما بين الرجلين الفرج. وقال الداودي المراد بما بين اللحيين الفم، قال: فيتناول

(11/309)


الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يتأتى بالفم من الفعل، قال: ومن تحفظ من ذلك أمن من الشر كله لأنه لم يبق إلا السمع والبصر، كذا قال وخفي عليه أنه بقي البطش باليدين، وإنما محمل الحديث على أن النطق باللسان أصل في حصول كل مطلوب فإذا لم ينطق به إلا في خير سلم. وقال ابن بطال: دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه، فمن وقى شرهما وقى أعظم الشر. قوله: "أضمن له" بالجزم جواب الشرط. وفي رواية خليفة "توكلت له بالجنة" ووقع في رواية الحسن "تكفلت له" قال الترمذي: حديث سهل بن سعد حسن صحيح، وأشار إلى أن أبا حازم تفرد به عن سهل فأخرجه من طريق محمد بن عجلان عن أبي حازم عن أبي هريرة بلفظ: "من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه دخل الجنة" وحسنه، ونبه على أن أبا حازم الراوي عن سهل غير أبي حازم الراوي عن أبي هريرة. قلت: وهما مدنيان تابعيان، لكن الراوي عن أبي هريرة اسمه سلمان وهو أكبر من الراوي عن سهل واسمه سلمة؛ ولهذا اللفظ شاهد من مرسل عطاء بن يسار في الموطأ. حديث أبي هريرة تقدم شرحه في أوائل كتاب الأدب، وفيه الحث على إكرام الضيف ومنع أذى الجار، وفيه: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" حديث أبي شريح، وقد تقدم شرحه أيضا هناك، وفيه: "فليقل خيرا أو ليسكت" وفيه إكرام الضيف أيضا، وتوقيت الضيافة بثلاثة أيام، وقوله: "الضيافة ثلاثة أيام جائزته، قيل وما جائزته؟ قال: يوم وليلة" وقد تقدم في الأدب بلفظ: "فليكرم ضيفه جائزته، قال: وما جائزته؟ قال: يوم وليلة" وعلى ما هنا فالمعنى أعطوه جائزته، فإن الرواية بالنصب، وإن جاءت بالرفع فالمعنى تتوجه عليكم جائزته، وقد تقدم بيان الاختلاف في توجيهه، ووقع قوله: "يوم وليلة" خبرا عن الجائزة وفيه حذف تقديره زمان جائزته أو تضييف يوم وليلة. حديث أبي هريرة أورده من طريقين. قوله: "حدثنا" كذا لأبي ذر ولغيره: "حدثني" بالإفراد في الموضعين. قوله: "ابن أبي حازم" هو عبد العزيز بن دينار، ووقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق إسماعيل القاضي عن إبراهيم بن حمزة شيخ البخاري فيه: "أن عبد العزيز بن أبي حازم وعبد العزيز بن محمد الدراوردي حدثاه عن يزد" فيحتمل أن يكون إبراهيم لما حدث به البخاري اقتصر على ابن أبي حازم، ويحتمل أن يكون حدث عنهما فحذف البخاري ذكر عبد العزيز الدراوردي، وعلى الأول لا إشكال، وعلى الثاني يتوقف الجواز على أن اللفظ للاثنين سواء وإن المذكور ليس هو لفظ المحذوف، أو أن المعنى عليهما متحد تفريعا على جواز الرواية بالمعنى، ويؤيد الاحتمال الأول أن البخاري أخرج بهذا الإسناد بعينه إلى محمد بن إبراهيم حديثا جمع فيه بين ابن أبي حازم والدراوردي وهو في "باب فضل الصلاة" في أوائل كتاب الصلاة. قوله: "عن يزيد" هو ابن عبد الله المعروف بابن الهاد، ووقع منسوبا في رواية إسماعيل المذكورة، ومحمد بن إبراهيم هو التيمي، ورجال هذا الإسناد كلهم مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق، وعيسى بن طلحة هو ابن عبيد الله التيمي، وثبت كذلك في رواية أبي ذر، وطلحة هو أحد العشرة. قوله: "إن العبد ليتكلم" كذا للأكثر، ولأبي ذر "يتكلم" بحذف اللام. قوله: "بالكلمة" أي الكلام المشتمل على ما يفهم الخير أو الشر سواء طال أم قصر، كما يقال كلمة الشهادة، وكما يقال للقصيدة كلمة فلان. قوله: "ما يتبين فيها" أي لا يتطلب معناها، أي لا يثبتها بفكره ولا يتأملها حتى يتثبت فيها فلا يقولها إلا إن ظهرت المصلحة في القول. وقال بعض الشراح: المعنى أنه لا يبينها بعبارة واضحة، وهذا يلزم منه أن يكون بين وتبين بمعنى واحد. ووقع في رواية الدراوردي عن يزيد بن

(11/310)


الهاد عند مسلم: "ما يتبين ما فيها" وهذه أوضح، و "ما" الأولى نافية و "ما" الثانية موصولة أو موصوفة ووقع في رواية الكشميهني: "ما يتقي بها" ومعناها يؤول لما تقدم. قوله: "يزل بها" بفتح أوله وكسر الزاي بعدها لام أي يسقط. قوله: "أبعد ما بين المشرق" كذا في جميع النسخ التي وقعت لنا في البخاري، وكذا في رواية إسماعيل القاضي عن إبراهيم بن حمزة شيخ البخاري فيه عند أبي نعيم، وأخرجه مسلم والإسماعيلي من رواية بكر بن مضر عن يزيد بن الهاد بلفظ: "أبعد ما بين المشرق والمغرب" وكذا وقع عند ابن بطال وشرحه الكرماني على ما وقع عند البخاري فقال: قوله: "ما بين المشرق" لفظ بين يقتضي دخوله على المتعدد والمشرق متعدد معنى إذ مشرق الصيف غير مشرق الشتاء وبينهما بعد كبير، ويحتمل أن يكون اكتفى بأحد المتقابلين عن الآخر مثل "سرابيل تقيكم الحر" قال: وقد ثبت في بعضها بلفظ: "بين المشرق والمغرب" قال ابن عبد البر: الكلمة التي يهوى صاحبها بسببها في النار هي التي يقولها عند السلطان الجائر، وزاد ابن بطال: بالبغي أو بالسعي على المسلم فتكون سببا لهلاكه وإن لم يرد القائل ذلك لكنها ربما أدت إلى ذلك فيكتب على القائل إثمها، والكلمة التي ترفع بها الدرجات ويكتب بها الرضوان هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة أو يفرج بها عنه كربة أو ينصر بها مظلوما. وقال غيره في الأولى: هي الكلمة عند ذي السلطان يرضيه بها فيما يسخط الله، قال ابن التين: هذا هو الغالب، وربما كانت عند غير ذي السلطان ممن يأتي منه ذلك. ونقل عن ابن وهب أن المراد بها التلفظ بالسوء والفحش ما لم يرد بذلك الجحد لأمر الله في الدين. وقال القاضي عياض: يحتمل أن تكون تلك الكلمة من الخنى والرفث، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتقد ذلك. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: هي الكلمة التي لا يعرف القائل حسنها من قبحها، قال: فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه. قلت: وهذا الذي يجري على قاعدة مقدمة الواجب. وقال النووي: في هذا الحديث حث على حفظ اللسان، فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق، فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم وإلا أمسك. قلت: وهو صريح الحديث الثاني والثالث. "تنبيه": وقع في رواية أبي ذر تأخير طريق عيسى بن طلحة عن الطريق الأخرى، ولغيره بالعكس، وسقط طريق عيسى بن طلحة عند النسفي أصلا. والله أعلم. قوله في الطريق الثانية "سمع أبا النضر" هو هاشم بن القاسم، والتقدير أنه سمع، ويحذف لفظ أنه في الكتابة غالبا. قوله: "عن أبي صالح" هو ذكوان، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق. قوله: "لا يلقي لها بالا" بالقاف في جميع الروايات أي لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر في عاقبتها ولا يظن أنها تؤثر شيئا، وهو من نحو قوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} وقد وقع في حديث بلال بن الحارث المزني الذي أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم بلفظ: "إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة " وقال في السخط مثل ذلك. قوله: "يرفع الله بها درجات" كذا في رواية المستملي والسرخسي، وللنسفي والأكثر يرفع الله له بها درجات" وفي رواية الكشميهني: "يرفعه الله بها درجات". قوله: "يهوى" بفتح أوله وسكون الهاء وكسر الواو، قال عياض: المعنى ينزل فيها ساقطا. وقد جاء بلفظ: "ينزل بها في النار" لأن درجات النار إلى أسفل، فهو نزول سقوط. وقيل أهوى من قريب وهوى

(11/311)


من بعيد. وأخرج الترمذي هذا الحديث من طريق محمد بن إسحاق قال: "حدثني محمد بن إبراهيم التيمي" بلفظ: "لا يرى بها بأسا يهوى بها في النار سبعين خريفا"

(11/312)


24 - باب الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عز وجل
6479-حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى عن عبيد الله قال: حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله في ظله: رجل ذكر الله ففاضت عيناه"
قوله: "باب البكاء من خشية الله عز وجل" ذكر فيه طرفا من حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، ولفظه: "رجل ذكر الله ففاضت عيناه" كذا اقتصر عليه، وتقدم بتمامه في أبواب المساجد مع شرحه وفيه: "ذكر الله خاليا" وورد هنا بدونها، وثبتت في رواية ابن خزيمة عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه أخرجه الإسماعيلي عنه مختصرا كما هنا، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وخبيب بمعجمة وموحدتين مصغر، ووقع هنا "في ظله" وبينت هناك من رواه بلفظ: "في ظل عرشه" وظل كل شيء بحسبه ويطلق أيضا بمعنى النعيم ومنه {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} وبمعنى الجانب ومنه "يسير الراكب في ظلها مائة عام" وبمعنى الستر والكنف والخاصة ومنه: أنا في ظلك، وبمعنى العز ومنه: أسبغ الله ظلك. وقد ورد في البكاء من خشية الله على وفق لفظ الترجمة حديث أبي ريحانة رفعه: "حرمت النار على عين بكت من خشية الله" الحديث أخرجه أحمد والنسائي وصححه الحاكم، والترمذي نحوه عن ابن عباس ولفظه: "لا تمسها النار" وقال حسن غريب، وعن أنس نحوه عن أبي يعلى، وعن أبي هريرة بلفظ: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله" الحديث وصححه الترمذي والحاكم

(11/312)


25 - باب الْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ
6480- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيٍّ "عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ فَقَالَ لِأَهْلِهِ إِذَا أَنَا مُتُّ فَخُذُونِي فَذَرُّونِي فِي الْبَحْرِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَفَعَلُوا بِهِ فَجَمَعَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي صَنَعْتَ قَالَ مَا حَمَلَنِي إِلاَّ مَخَافَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ"
6481- حدثنا موسى حدثنا معتمر سمعت أبي حدثنا قتادة عن عقبة بن عبد الغافر "عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا فيمن كان سلف أو قبلكم آتاه الله مالا وولدا يعني أعطاه قال فلما حضر قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا خير أب قال فإنه لم يبتئر عند الله خيرا فسرها قتادة لم يدخر وإن يقدم على الله يعذبه فانظروا فإذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحما فاسحقوني أو قال فاسهكوني ثم إذا كان ريح عاصف فاذروني فيها فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي

(11/312)


باب الانتهاء من المعاصي
...
26 - باب الِانْتِهَاءِ عَنْ الْمَعَاصِي
6482- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَا النَّجَاءَ فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ فَاجْتَاحَهُمْ"
[الحديث 6482- طرفه في 7283]
6483- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ "سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا"
6484- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ"
قوله: "باب الانتهاء عن المعاصي" أي تركها أصلا ورأسا والإعراض عنها بعد الوقوع فيها. قوله: "بريد" بموحدة وراء مهملة مصغر. قوله: "مثلي" بفتح الميم والمثلثة، والمثل الصفة العجيبة الشأن يوردها البليغ على سبيل التشبيه لإرادة التقريب والتفهيم. قوله: "ما بعثني الله" العائد محذوف والتقدير بعثني الله به إليكم. قوله: "أتى قوما" التنكير فيه للشيوع. قوله: "رأيت الجيش" بالجيم والشين المعجمة واللام فيه للعهد. قوله: "بعيني" بالإفراد، وللكشميهني بالتثنية بفتح النون والتشديد، قيل ذكر العينين إرشادا إلى أنه تحقق عنده جميع ما أخبر عنه تحقق من رأى شيئا بعينه لا يعتريه وهم ولا يخالطه شك. قوله: "وإني أنا النذير العريان" قال ابن بطال النذير العريان رجل من خثعم حمل عليه رجل يوم ذي الخلصة فقطع يده ويد امرأته فانصرف إلى قومه فحذرهم فضرب به المثل في تحقيق الخبر. قلت: وسبق إلى ذلك يعقوب ابن السكيت وغيره، وسمي الذي حمل عليه عوف بن عامر اليشكري، وأن المرأة كانت من بني كنانة. وتعقب باستبعاد تنزيل هذه القصة على لفظ الحديث، لأنه ليس فيها أنه كان عريانا. وزعم ابن الكلبي أن النذير العريان امرأة من بني عامر بن

(11/316)


كعب لما قتل المنذر بن ماء السماء أولاد أبي داود وكان جار المنذر خشيت على قومها فركبت جملا ولحقت بهم وقالت: أنا النذير العريان. ويقال أول من قاله أبرهة الحبشي لما أصابته الرمية بتهامة ورجع إلى اليمن، وقد سقط لحمه وذكر أبو بشر الآمدي أن زنبرا بزاي ونون ساكنة ثم موحدة ابن عمرو الخثعمي كان ناكحا في آل زبيد، فأرادوا أن يغروا قومه وخشوا أن ينذر بهم فحرسه أربعة نفر، فصادف منهم غرة فقذف ثيابه وعدا وكان من أشد الناس عدوا فأنذر قومه. وقال غيره: الأصل فيه أن رجلا لقي جيشا فسلبوه وأسروه فانفلت إلى قومه فقال: إني رأيت الجيش فسلبوني، فرأوه عريانا فتحققوا صدقه، لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا بصدقه لهذه القرائن، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولما جاء به مثلا بذلك لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على القطع بصدقه تقريبا لأفهام المخاطيين بما يألفونه ويعرفونه. قلت: ويؤيده ما أخرجه الرامهرمزي في "الأمثال" وهو عند أحمد أيضا بسند جيد من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فنادى ثلاث مرات: أيها الناس مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا أن يأتيهم فبعثوا رجلا يترايا لهم، فبينما هم كذلك إذ أبصر العدو فأقبل لينذر قومه فخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه أيها الناس أتيتم ثلاث مرات". وأحسن ما فسر به الحديث من الحديث، وهذا كله يدل على أن العريان من التعري وهو المعروف في الرواية، وحكى الخطابي أن محمد بن خالد رواه بالموحدة قال: فإن كان محفوظا فمعناه الفصيح بالإنذار لا يكنى ولا يورى، يقال رجل عريان أي فصيح اللسان. قوله: "فالنجاء النجاء" بالمد فيهما وبمد الأولى وقصر الثانية وبالقصر فيهما تخفيفا. وهو منصوب على الإغراء، أي اطلبوا النجاء بأن تسرعوا الهرب، إشارة إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك الجيش. قال الطيبي: في كلامه أنواع من التأكيدات أحدها "بعيني" ثانيها قوله: "وإني أنا" ثالثها قوله: "العريان" لأنه الغاية في قرب العدو، ولأنه الذي يختص في إنذاره بالصدق. قوله: "فأطاعه طائفة" كذا فيه بالتذكير لأن المراد بعض القوم. قوله: "فأدلجوا" بهمزة قطع ثم سكون أي ساروا أول الليل أو ساروا الليل كله على الاختلاف في مدلول هذه اللفظة، وإما بالوصل والتشديد على أن المراد به سير آخر الليل فلا يناسب هذا المقام. قوله: "على مهلهم" بفتحتين والمراد به الهينة والسكون، وبفتح أوله وسكون ثانيه الإمهال وليس مرادا هنا. وفي رواية مسلم: "على مهلتهم" بزيادة تاء تأنيث، وضبطه النووي بضم الميم وسكون الهاء وفتح اللام. قوله: "وكذبته طائفة" قال الطيبي: عبر في الفرقة الأولى بالطاعة وفي الثانية بالتكذيب ليؤذن بأن الطاعة مسبوقة بالتصديق وبشعر بأن التكذيب مستتبع للعصيان. قوله: "فصبحهم الجيش" أي أتاهم صباحا، هذا أصله ثم كثر استعماله حتى استعمل فيمن طرق بغتة في أي وقت كان. قوله: "فاجتاحهم" بجيم ثم حاء مهملة أي استأصلهم من جحت الشيء أجرحه إذا استأصلته، والاسم الجائحة وهي الهلاك، وأطلقت على الآفة لأنها مهلكة، قال الطيبي: شبه صلى الله عليه وسلم نفسه بالرجل وإنذاره بالعذاب القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه بمن كذب الرجل في إنذاره ومن صدقه. حديث أبي هريرة، جزم المزي في الأطراف، بأن البخاري ذكره في أحاديث الأنبياء ولم يذكر أنه أورده في الرقاق، فوجدته في أحاديث الأنبياء في ترجمة سليمان عليه السلام لكنه لم يذكر إلا طرفا منه ولم أستحضره إذ ذاك في الرقاق فشرحته هناك، ثم ظفرت به هنا فأذكر الآن من شرحه ما لم يتقدم. قوله: "استوقد" بمعنى أوقد وهو أبلغ، والإضاءة

(11/317)


فرط الإنارة. قوله: "فلما أضاءت ما حوله" اختصرها المؤلف هناك ونسبتها أنا لتخريج أحمد ومسلم من طريق همام وهي في رواية شعيب كما ترى، وكأنه تبرك بلفظ الآية. ووقع في رواية مسلم: "ما حولها" والضمير للنار: والأول للذي أوقد النار، وحول الشيء جانبه الذي يمكن أن ينتقل إليه، وسمي بذلك إشارة إلى الدوران، ومنه قيل للعام حول. قوله: "الفراش" جزم المازري بأنها الجنادب، وتعقبه عياض فقال الجندب هو الصرار، قلت والحق أن الفراش اسم لنوع من الطير مستقل له أجنحة أكبر من جثته، وأنواعه مختلفة في الكبر والصغر وكذا أجنحته وعطف الدواب على الفراش يشعر بأنها غير الجنادب والجراد، وأغرب ابن قتيبة فقال: الفراش ما تهافت في النار من البعوض، ومقتضاه أن بعض البعوض هو الذي يقع في النار ويسمى حينئذ الفراش. وقال الخليل الفراش كالبعوض وإنما شبهه به لكونه يلقى نفسه في النار لا أنه يشارك البعوض في القرص. قوله: "وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها" القول فيه كالقول في الذي قبله، اختصره هناك فنسبته لتخريج أبي نعيم وهو في رواية شعيب كما ترى، ويدخل فيما يقع في النار البعوض والبرغش، ووقع في كلام بعض الشراح البق والمراد به البعوض. قوله: "فجعل" في رواية الكشميهني: "وجعل" ومن هذه الكلمة إلى آخر الحديث لم يذكره المصنف هناك. قوله: "فجعل الرجل يزعهن" بفتح التحتانية والزاي وضم العين المهملة أي يدفعهن. وفي رواية ينزعهن بزيادة نون، وعند مسلم من طريق همام عن أبي هريرة "وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها". قوله: "فيقتحمن فيها" أي يدخلن، وأصله القحم وهو الإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت، ويطلق على رمي الشيء بغتة، واقتحم الدار هجم عليها. قوله: "فأنا آخذ" قال النووي: روى باسم الفاعل، ويروي بصيغة المضارعة من المتكلم. قلت: هذا في رواية مسلم، والأول هو الذي وقع في البخاري. وقال الطيبي: الفاء فيه فصيحة، كأنه لما قال: "مثلي ومثل الناس"إلخ أتي بما هو أهم وهو قوله: "فأنا آخذ بحجزكم" ومن هذه الدقيقة التفت من الغيبة في قوله: "مثل الناس" إلى الخطاب في قوله: "بحجزكم" كما أن من أخذ في حديث من له بشأنه عناية وهو مشتغل في شيء يورطه في الهلاك يجد لشدة حرصه على نجاته أنه حاضر عنده، وفيه إشارة إلى أن الإنسان إلى النذير أحوج منه إلى البشير، لأن جبلته مائلة إلى الحظ العاجل دون الحظ الآجل. وفي الحديث ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة والحرص على نجاة الأمة، كما قال تعالى {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . قوله: "بحجزكم" بضم المهملة وفتح الجيم بعدها زاي جمع حجزة وهي معقد الإزار، ومن السراويل موضع التكة، ويجوز ضم الجيم في الجمع. قوله: "عن النار" وضع المسبب موضع السبب لأن المراد أنه يمنعهم من الوقوع في المعاصي التي تكون سببا لولوج النار. قوله: "وأنتم" في رواية الكشميهني: "وهم" وعليها شرح الكرماني فقال: كان القياس أن يقول وأنتم، ولكنه قال وهم وفيه التفات، وفيه إشارة إلى أن من أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجزته لا اقتحام له فيها، قال: وفيه أيضا احتراز عن مواجهتهم بذلك. قلت والرواية بلفظ: "وأنتم" ثابتة تدفع هذا. ووقع في رواية مسلم: "وأنتم تفلتون" بفتح أوله والفاء واللام الثقيلة وأصله تتفلتون، وبضم أوله وسكون الفاء وفتح اللام ضبطوه بالوجهين وكلاهما صحيح، تقول تفلت مني وأفلت مني لمن كان بيدك فعالج الهرب منك حتى هرب، وقد تقدم بيان هذا التمثيل، وحاصله أنه شبه تهافت أصحاب الشهوات في المعاصي التي تكون سببا في الوقوع في النار بتهافت الفراش بالوقوع في النار اتباعا لشهواتها، وشبه ذبه العصاة عن المعاصي بما حذرهم به وأنذرهم بذب صاحب النار الفراش عنها. وقال عياض: شبه

(11/318)


تساقط أهل المعاصي في نار الآخرة بتساقط الفراش في نار الدنيا. قوله: "تقحمون فيها" في رواية همام عند مسلم: "فيغلبوني" النون مثقلة لأن أصله فيغلبونني، والفاء سببية، والتقدير أنا آخذ بحجزكم لأخلصكم من النار فجعلتم الغلبة مسببة عن الأخذ.قوله: "تقحمون" بفتح المثناة والقاف والمهملة المشددة والأصل تتقحمون فحذفت إحدى التاءين، قال الطيبي: تحقيق التشبيه الواقع في هذا الحديث يتوقف على معرفة معنى قوله {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وذلك أن حدود الله محارمه ونواهيه كما في الحديث الصحيح "ألا إن حمى الله محارمه "ورأس المحارم حب الدنيا وزينتها واستيفاء لذتها وشهواتها، فشبه صلى الله عليه وسلم إظهار تلك الحدود ببياناته الشافية الكافية من الكتاب والسنة باستنقاذ الرجال من النار، وشبه فشو ذلك في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد. وشبه الناس وعدم مبالاتهم بذلك البيان والكشف، وتعديهم حدود الله وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات ومنعه إياهم عن ذلك بأخذ حجزهم بالفراش التي تقتحمن في النار وتغلبن المستوقد على دفعهن عن الاقتحام، كما أن المستوقد كان غرضه من فعله انتفاع الخلق به من الاستضاءة والاستدفاء وغير ذلك، والفراش لجهلها جعلته سببا لهلاكها، فكذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة واجتنابها ما هو سبب هلاكهم وهم مع ذلك لجهلهم جعلوها مقتضية لترديهم. وفي قوله: "آخذ بحجزكم" استعارة مثل حالة منعه الأمة عن الهلاك بحالة رجل أخذ بحجزة صاحبه الذي يكاد يهوي في مهواة مهلكة. قوله: "زكريا" هو ابن أبي زائدة وعامر هو الشعبي. قوله: "المسلم" تقدم شرحه في أوائل كتاب الإيمان. قوله: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" قيل خص المهاجر بالذكر تطييبا لقلب من لم يهاجر من المسلمين لفوات ذلك بفتح مكة، فأعلمهم أن من هجر ما نهى الله عنه كان هو المهاجر الكامل، ويحتمل أن يكون ذلك تنبيها للمهاجرين أن لا يتكلوا على الهجرة فيقصروا في العمل. وهذا الحديث من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

(11/319)


27 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"
6485- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"
[الحديث 6485- طرفه في 6637]
6486- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم إلخ" ذكر فيه حديث أبي هريرة بلفظ الترجمة. قوله: "عن سعيد بن المسيب" في رواية حجاج بن محمد عن الليث بسنده "أخبرني سعيد"، والمراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة، ومناسبة كثرة البكاء وقلة الضحك في هذا المقام واضحة، والمراد به التخويف. وقد جاء لهذا الحديث سبب أخرجه سنيد في تفسيره

(11/319)


بسند واهٍ والطبراني عن ابن عمر "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا بقوم يتحدثون ويضحكون، فقال: والذي نفسي بيده" فذكر هذا الحديث. وعن الحسن البصري "من علم أن الموت مورده، والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الله تعالى مشهده، فحقه أن يطول في الدنيا حزنه" قال الكرماني: في هذا الحديث من صناعة البديع مقابلة الضحك بالبكاء والقلة بالكثرة ومطابقة كل منهما

(11/320)


28- باب حُجِبَتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ
6487- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "حُجِبَتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ وَحُجِبَتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ"
قوله: "باب حجبت النار بالشهوات" كذا للجميع، ووقع عند أبي نعيم "حفت" بدل "حجبت" أي غطيت بها فكانت الشهوات سببا للوقوع في النار. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "حدثني مالك" هذا الحديث ليس في الموطأ، وقد ضاق على الإسماعيلي مخرجه فأخرجه عن الهيثم بن خلف عن البخاري، وأخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن إسماعيل، وأخرجه الدار قطني "الغرائب" من رواية إسماعيل، ومن طريق سعيد بن داود وإسحاق بن محمد الفروي أيضا عن مالك، وأخرجه أيضا من رواية عبد الله ابن وهب عن مالك به لكن وقفه. قوله: "عن أبي الزناد" في رواية سعيد بن داود "أخبرنا أبو الزناد". قوله: "عن الأعرج عن أبي هريرة" في رواية سعيد بن داود "أن عبد الرحمن بن هرمز أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول". قوله: "حجبت" كذا للجميع في الموضعين إلا الفروي فقال: "حفت" في الموضعين، وكذا هو عند مسلم من رواية ورقاء بن عمر عن أبي الزناد، وكذا أخرجه مسلم والترمذي من حديث أنس. وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وبديع بلاغته في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس، والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشق عليها. وقد ورد إيضاح ذلك من وجه آخر عن أبي هريرة، فأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: "لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها، قال فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها، فرجع فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد. قال: اذهب إلى النار فانظر إليها، فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات فقال: ارجع إليها، فرجع فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد" فهذا يفسر رواية الأعرج، فإن المراد بالمكاره هنا ما أمر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلا وتركا كالإتيان بالعبادات على وجهها والمحافظة عليها واجتناب المنهيات قولا وفعلا، وأطلق عليها المكاره لمشقتها على العامل وصعوبتها عليه ومن جملتها الصبر على المصيبة والتسليم لأمر الله فيها؛ والمراد بالشهوات ما يستلذ من أمور الدنيا مما منع الشرع من تعاطيه إما بالأصالة وإما لكون فعله يستلزم ترك شيء من المأمورات، ويلتحق بذلك الشبهات والإكثار مما أبيح خشية أن يوقع في المحرم، فكأنه قال: لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المشقات المعبر عنها بالمكروهات، ولا إلى النار إلا بتعاطي الشهوات، وما محجوبتان فمن هتك الحجاب اقتحم. ويحتمل أن يكون هذا الخبر وإن كان بلفظ الخبر فالمراد به النهي. وقوله: "حفت "بالمهملة والفاء من الحفاف وهو ما يحيط بالشيء حتى لا يتوصل إليه إلا

(11/320)


بتخطيه فالجنة لا يتوصل إليها إلا بقطع مفاوز المكاره، والنار لا ينجي منها إلا بترك الشهوات.وقال ابن العربي: معنى الحديث أن الشهوات جعلت على حفافي النار وهي جوانبها، وتوهم بعضهم أنها ضرب بها المثل فجعلها في جوانبها من خارج، ولو كان ذلك كان مثلا صحيحا، وإنما هي من داخل، وهذه صورتها:
المكاره ... الشهوات
فمن اطلع الحجاب فقد واقع ما وراءه؛ وكل من تصورها من خارج فقد ضل عن معنى الحديث. ثم قال: فإن قيل فقد جاء في البخاري "حجبت النار بالشهوات" فالجواب أن المعنى واحد، لأن الأعمى عن التقوى الذي قد أخذت الشهوات سمعه وبصره يراها ولا يرى النار التي هي فيها، وذلك لاستيلاء الجهالة والغفلة على قلبه، فهو كالطائر يرى الحبة في داخل الفخ وهي محجوبة به ولا يرى الفخ لغلبة شهوة الحبة على قلبه وتعلق باله بها. قلت: بالغ كعادته في تضليل من حمل الحديث على ظاهره، وليس ما قاله غيره ببعيد، وأن الشهوات على جانب النار من خارج فمن واقعها وخرق الحجاب دخل النار، كما أن الذي قاله القاضي محتمل والله أعلم. "تنبيه": أدخل ابن بطال في هذا الباب حديثي الباب الذي بعده وحذف الترجمة التي تليه وهي ثابتة في جميع الأصول، وفيها الحديثان وليس في الذي قبلها إلا حديث أبي هريرة.

(11/321)


29 - باب الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ
6488- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ"
6489- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالَهُ الشَّاعِرُ أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ"
قوله: "باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله" هذه الترجمة حذفها ابن بطال، وذكر الحديثين اللذين فيها في الباب الذي قبلها، والمناسبة ظاهرة لكن الذي ثبت في الأصول التفرقة. قوله: "حدثنا موسى بن مسعود" هو أبو حذيفة النهدي وهو بكنيته أشهر، وسفيان شيخه هو الثوري، وعبد الله هو ابن مسعود، والسند كله كوفيون. قوله: "شراك" تقدم ضبطه وبيانه في أواخر كتاب اللباس وأنه السير الذي يدخل فيه إصبع الرجل، ويطلق أيضا على كل سير وقي به القدم. قال ابن بطال: فيه أن الطاعة موصلة إلى الجنة وإن المعصية مقربة إلى النار، وإن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء. وتقدم في هذا المعنى قريبا حديث: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة "الحديث، فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط عليه بها. وقال ابن الجوزي: معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية. حديث أبي هريرة،

(11/321)


هذا الحديث عند مسلم من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد، وكذا ثبت لمالك الذي أخرجه البخاري من طريقه عند الدار قطني من رواية سعيد بن داود عنه بسند صحيح، وزاد مسلم من طريق أبي صالح المذكورة "فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" أي هو حقيق بعدم الازدراء وهو افتعال من زريت عليه وأزريت به إذا تنقصته، وفي معناه ما أخرجه الحاكم من حديث عبد الله ابن الشخير رفعه: "أقلوا الدخول على الأغنياء فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة الله" قال ابن بطال: هذا الحديث جامع لمعاني الخير لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهدا فيها إلا وجد من هو فوقه، فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله فيكون أبدا في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالا منه. فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك من غير أمر أوجبه، فيلزم نفسه الشكر، فيعظم اغتباطه بذلك في معاده. وقال غيره: في هذا الحديث دواء الداء لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه حسدا، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون ذلك داعيا إلى الشكر. وقد وقع في نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه قال: "خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا: من نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به" . وأما من نظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته فإنه لا يكتب شاكرا ولا صابرا.

(11/322)


باب لينظر إلى من هو أسفل منه ولا يظر إلى من هو فوقه
...
31 - باب مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ بِسَيِّئَةٍ
6491- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا جَعْدُ بْنُ دِينَارٍ أَبُو عُثْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً"
قوله: "باب من هم بحسنة أو بسيئة" الهم ترجيح قصد الفعل، تقول هممت بكذا أي قصدته بهمتي، وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب. قوله: "حدثنا أبو معمر" هو عبد الله بن عمرو بن الحجاج المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف، وعبد الوارث هو ابن سعيد، والسند كله بصريون، وجعد بن دينار تابعي صغير وهو الجعد أبو عثمان الراوي عن أنس في أواخر النفقات وفي غيرها. قوله: "عن ابن عباس" في رواية الحسن بن ذكوان عن أبي رجاء "حدثني ابن عباس" أخرجه أحمد. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية مسدد عند الإسماعيلي: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولم أر في شيء من الطرق التصريح بسماع ابن عباس له من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فيما يروى عن ربه" هذا من الأحاديث الإلهية، ثم هو محتمل أن يكون مما تلقاه صلى الله عليه وسلم عن ربه بلا واسطة ويحتمل أن يكون مما تلقاه بواسطة الملك وهو الراجح. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية ويحتمل أن يكون للبيان لما فيه من الإسناد

(11/322)


وقد تقدم في أوائل السيرة النبوية وفي الأدب. قوله: "أصدق بيت" أطلق البيت على بعضه مجازا، فإن الذي ذكره نصفه وهو المصراع الأول المسمى عروض البيت، وأما نصفه الثاني وهو المسمى بالضرب فهو "وكل نعيم لا محالة زائل". ويحتمل أن يكون على سبيل الاكتفاء فأشار بأول البيت إلى بقيته والمراد كله، وعكسه ما مضى في "باب ما يجوز من الشعر" في كتاب الأدب بلفظ: "أصدق كلمة" فإن المراد بها القصيدة وقد أطلقها وأراد البيت، وتقدم شرح هذا الحديث في أيام الجاهلية، وأورده فيها أيضا بلفظ: "أصدق كلمة" وهو المشهور. وذكرت هناك أن في رواية شريك عند مسلم بلفظ: "أشعر كلمة تكلمت بها العرب" وبحث السهيلي في ذلك، وذكرت أيضا ما أورده ابن إسحاق في السيرة فيما جرى لعثمان بن مظعون مع لبيد بن ربيعة ناظم هذا البيت حيث قال له لما أنشد المصراع الأول: صدقت، ولما أنشد المصراع الثاني: كذبت، ثم قال له: نعيم الجنة لا يزول. وذكرت توجيه كل من الأمرين، وأن كل من صدق بأن ما خلا الله باطل فقد صدق ببطلان ما سواه، فيدخل نعيم الجنة، بما حاصله أن المراد بالباطل هنا الهالك، وكل شيء سوى الله جائز عليه الفناء وإن خلق فيه البقاء بعد ذلك كنعيم الجنة، والله أعلم. وقال ابن بطال هنا: قوله: "ما خلا الله باطل "لفظ عام أريد به الخصوص، والمراد أن كل ما قرب من الله فليس بباطل. وأما أمور الدنيا التي لا تئول إلى طاعة الله فهي الباطل انتهى. ولعل الأول أولى. "تنبيه": مناسبة هذا الحديث الثاني للترجمة خفية، وكأن الترجمة لما تضمنت ما في الحديث الأول من التحريض على الطاعة ولو قلت والزجر عن المعصية ولو قلت فيفهم أن من خالف ذلك إنما يخالفه لرغبة في أمر من أمور الدنيا، وكل ما في الدنيا باطل كما صرح به الحديث الثاني، فلا ينبغي للعاقل أن يؤثر الفاني على الباقي.

(11/323)


باب من هم بحسنة أو بسيئة
...
30 - باب لِيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ وَلاَ يَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ
6490- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ ممن فضِّل عليه"
قوله: "باب لينظر إلى من هو أسفل منه، ولا ينظر إلى من هو فوقه" هذا لفظ حديث أخرجه مسلم بنحوه من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم". قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "عن أبي الزناد" في رواية ابن وهب عن مالك "حدثني أبو الزناد" أخرجه الدار قطني في "الغرائب". قوله: "عن الأعرج" في رواية سعيد بن داود عن مالك "حدثني أبو الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز أخبره أنه سمع أبا هريرة" أخرجه الدار قطني أيضا، وضاق مخرجه على أبي نعيم فأخرجه من طريق القاسم بن زكريا عن البخاري، وأخرجه الإسماعيلي من طريق حميد بن قتيبة عن إسماعيل والدار قطني من وجهين عن إسماعيل. قوله: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل" بالفاء والمعجمة على البناء للمجهول. قوله: "في المال والخلق" بفتح الخاء أي الصورة، ويحتمل أن يدخل في ذلك الأولاد والأتباع وكل ما يتعلق بزينة الحياة الدنيا، ورأيته في نسخة معتمدة من "الغرائب" للدار قطني "والخلق" بضم الخاء واللام. قوله: "فلينظر إلى من هو أسفل منه" في رواية عبد العزيز بن يحيى عن مالك "فلينظر إلى من تحته" أخرجه الدار قطني أيضا. ويجوز في أسفل الرفع والنصب والمراد بذلك ما يتعلق بالدنيا. قوله: "ممن فضل عليه" كذا ثبت في آخر

(11/323)


الصريح إلى الله حيث قال: "إن الله كتب" ويحتمل أن يكون لبيان الواقع وليس فيه أن غيره ليس كذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، بل فيه أن غيره كذلك إذ قال: "فيما يرويه" أي في جملة ما يرويه انتهى ملخصا. والثاني لا ينافي الأول وهو المعتمد، فقد أخرجه مسلم من طريق جعفر بن سليمان عن الجعد ولم يسق لفظه، وأخرجه أبو عوانة من طريق عفان، وأبو نعيم من طريق قتيبة كلاهما عن جعفر بلفظ: "فيما يروي عن ربه قال: إن ربكم رحيم، من هم بحسنة" وسيأتي في التوحيد من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل إذا أراد عبدي أن يعمل" وأخرجه مسلم بنحوه من هذا الوجه ومن طرق أخرى منها عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل إذا هم عبدي". قوله: "إن الله عز وجل كتب الحسنات والسيئات" يحتمل أن يكون هذا من قول الله تعالى فيكون التقدير قال الله إن الله كتب، ويحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يحكيه عن فعل الله تعالى وفاعل "ثم بين ذلك" هو الله تعالى، وقوله: "فمن هم" شرح ذلك. قوله: "ثم بين ذلك" أي فصله بقوله: "فمن هم" والمجمل قوله: "كتب الحسنات والسيئات" وقوله كتب قال الطوفي أي أمر الحفظة أن تكتب، أو المراد قدر ذلك في علمه على وفق الواقع منها. وقال غيره المراد قدر ذلك وعرف الكتبة من الملائكة ذلك التقدير، فلا يحتاج إلى الاستفسار في كل وقت عن كيفية الكتابة لكونه أمرا مفروغا منه انتهى. وقد يعكر على ذلك ما أخرجه مسلم من طريق همام عن أبي هريرة رفعه قال: "قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة، وهو أبصر به، فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها" فهذا ظاهره وقوع المراجعة لكن ذلك مخصوص بإرادة عمل السيئة، ويحتمل أن يكون ذلك وقع في ابتداء الأمر فلما حصل الجواب استقر ذلك فلا يحتاج إلى المراجعة بعده. وقد وجدت عن الشافعي ما يوافق ظاهر الخبر، وأن المؤاخذة إنما تقع لمن هم على الشيء فشرع فيه. لا من هم به ولم يتصل به العمل، فقال في صلاة الخوف لما ذكر العمل الذي يبطلها ما حاصله: إن من أحرم بالصلاة وقصد القتال فشرع فيه بطلت صلاته، ومن تحرم وقصد إلى العدو لو دهمه دفعه بالقتال لم تبطل. قوله: "فمن هم" كذا في رواية ابن سيرين عن أبي هريرة عند مسلم. وفي رواية الأعرج في التوحيد "إذا أراد" وأخرجه مسلم من هذا الوجه بلفظ: "إذا هم" كذا عنده من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فهما بمعنى واحد، ووقع لمسلم أيضا من رواية همام عن أبي هريرة بلفظ: "إذا تحدث" وهو محمول على حديث النفس لتوافق الروايات الأخرى، ويحتمل أن يكون على ظاهره ولكن ليس قيدا في كتابة الحسنة بل بمجرد الإرادة تكتب الحسنة، نعم ورد ما يدل على أن مطلق الهم والإرادة لا يكفي، فعند أحمد وصححه ابن حبان والحاكم من حديث خريم بن فاتك رفعه: "ومن هم بحسنة يعلم الله أنه قد أشعر بها قلبه وحرص عليها" وقد تمسك به ابن حبان فقال بعد إيراد حديث الباب في صحيحه: المراد بالهم هنا العزم. ثم قال: ويحتمل أن الله يكتب الحسنة بمجرد الهم بها وإن لم يعزم عليها زيادة في الفضل. قوله: "فلم يعملها" يتناول نفى عمل الجوارح، وأما عمل القلب فيحتمل نفيه أيضا إن كانت الحسنة تكتب بمجرد الهم كما في معظم الأحاديث، لا أن قيدت بالتصميم كما في حديث خريم، ويؤيد الأول حديث أبي ذر عند مسلم أن الكف عن الشر صدقة. قوله: "كتبها الله له" أي للذي هم بالحسنة "عنده" أي عند الله "حسنة كاملة" كذا ثبت في حديث ابن عباس دون حديث أبي هريرة وغيره وصف الحسنة بكونها كاملة، وكذا قوله: "عنده" وفيهما نوعان من التأكيد:

(11/324)


فأما العندية فإشارة إلى الشرف، وأما الكمال فإشارة إلى رفع توهم نقصها لكونها نشأت عن الهم المجرد. فكأنه قيل بل هي كاملة لا نقص فيها. قال النووي: أشار بقوله: "عنده" إلى مزيد الاعتناء به، وبقوله: "كاملة" إلى تعظيم الحسنة وتأكيد أمرها، وعكس ذلك في السيئة فلم يصفها بكاملة بل أكدها بقوله: "واحدة" إشارة إلى تخفيفها مبالغة في الفضل والإحسان. ومعنى قوله: "كتبها الله" أمر الحفظة بكتابتها بدليل حديث أبي هريرة الآتي في التوحيد بلفظ: "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها" وفيه دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي إما بإطلاع الله إياه أو بأن يخلق له علما يدرك به ذلك، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي عمران الجوني قال: "ينادي الملك اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول يا رب إنه لم يعمله، فيقول إنه نواه" وقيل بل يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة وبالحسنة رائحة طيبة. وأخرج ذلك الطبري عن أبي معشر المدني، وجاء مثله عن سفيان بن عيينة ورأيت لا شرح مغلطاي أنه ورد مرفوعا، قال الطوفي إنما كتبت الحسنة بمجرد الإرادة لأن إرادة الخير سبب إلى العمل وإرادة الخير خير لأن إرادة الخير من عمل القلب، واستشكل بأنه إذا كان كذلك فكيف لا تضاعف لعموم قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وأجيب بحمل الآية على عمل الجوارح والحديث على الهم المجرد واستشكل أيضا بأن عمل القلب إذا اعتبر في حصول الحسنة فكيف لم يعتبر في حصول السيئة؟ وأجيب بأن ترك عمل السيئة التي وقع الهم بها يكفرها لأنه قد نسخ قصده السيئة وخالف هواه، ثم إن ظاهر الحديث حصول الحسنة بمجرد الترك سواء كان ذلك لمانع أم لا، ويتجه أن يقال: يتفاوت عظم الحسنة بحسب المانع فإن كان خارجيا مع بقاء قصد الذي هم بفعل الحسنة فهي عظيمة القدر، ولا سيما إن قارنها ندم على تفويتها واستمرت النية على فعلها عند القدرة، وإن كان الترك من الذي هم من قبل نفسه فهي دون ذلك إلا إن قارنها قصد الإعراض عنها جملة والرغبة عن فعلها، ولا سيما إن وقع العمل في عكسها كأن يريد أن يتصدق بدرهم مثلا فصرفه بعينه في معصية، فالذي يظهر في الأخير أن لا تكتب له حسنة أصلا، وأما ما قبله فعلى الاحتمال. واستدل بقوله حسنة كاملة على أنها تكتب حسنة مضاعفة لأن ذلك هو الكمال لكنه مشكل يلزم منه مساواة من نوى الخير بمن فعله في أن كلا منهما يكتب له حسنة.وأجيب بأن التضعيف في الآية يقتضي اختصاصه بالعامل لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} والمجيء بها هو العمل وأما المناوي فإنما ورد أنه يكتب له حسنة ومعناه يكتب له مثل ثواب الحسنة، والتضعيف قدر زائد على أصل الحسنة، والعلم عند الله تعالى. قوله: "فإن هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات" يؤخذ منه رفع توهم أن حسنة الإرادة تضاف إلى عشرة التضعيف فتكون الجملة إحدى عشرة على ما هو ظاهر رواية جعفر بن سليمان عند مسلم ولفظه: "فإن عملها كتبت له عشر أمثالها" وكذا في حديث أبي هريرة وفي بعض طرقه احتمال، ورواية عبد الوارث في الباب ظاهرة فيما قلته وهو المعتمد، قال ابن عبد السلام في أماليه: معنى الحديث إذا هم بحسنة فإن كتبت له حسنة عملها كملت له عشرة لأنا نأخذ بقيد كونها قد هم بها، وكذا السيئة إذا عملها لا تكتب واحدة للهم وأخرى للعمل بل تكتب واحدة فقط. قلت: الثاني صريح في حديث هذا الباب، وهو مقتضى كونها في جميع الطرق لا تكتب بمجرد الهم، وأما حسنة الهم بالحسنة فالاحتمال قائم، وقوله بقيد كونها قد هم بها يعكر عليه من عمل حسنة بغتة من غير أن يسبق له أنه هم بها فإن قضية كلامه أنه يكتب له تسعة وهو خلاف ظاهر الآية {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} فإنه يتناول من هم بها ومن لم يهم،

(11/325)


والتحقيق أن حسنة من هم بها تندرج في العمل في عشرة لعمل لكن تكون حسنة من هم بها أعظم قدرا ممن لم يهم بها، والعلم عند الله تعالى. قوله: "إلى سبعمائة ضعف" الضعف في اللغة المثل، والتحقيق أنه اسم يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر، فإذا قيل ضعف العشرة فهم أن المراد عشرون، ومن ذلك لو أقر بأن له عندي ضعف درهم لزمه درهمان أو ضعفي درهم لزمه ثلاثة. قوله: "إلى أضعاف كثيرة" لم يقع في شيء من طرق حديث أبي هريرة "إلى أضعاف كثيرة" إلا في حديثه الماضي في الصيام فإن في بعض طرقه عند مسلم: "إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله" وله من حديث أبي ذر رفعه: "يقول الله من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد" وهو بفتح الهمزة وكسر الزاي، وهذا يدل على أن تضعيف حسنة العمل إلى عشرة مجزوم به وما زاد عليها جائز وقوعه بحسب الزيادة في الإخلاص وصدق العزم وحضور القلب وتعدي النفع كالصدقة الجارية والعلم النافع والسنة الحسنة وشرف العمل ونحو ذلك، وقد قيل إن العمل الذي يضاعف إلى سبعمائة خاص بالنفقة في سبيل الله، وتمسك قائله بما في حديث خريم بن فاتك المشار إليه قريبا رفعه: "من هم بحسنة فلم يعملها" فذكر الحديث وفيه: "ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل الله كانت له بسبعمائة ضعف" وتعقب بأنه صريح في أن النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة وليس فيه نفي ذلك عن غيرها صريحا، ويدل على التعميم حديث أبي هريرة الماضي في الصيام "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف" الحديث واختلف في قوله تعالى {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} هل المراد المضاعفة إلى سبعمائة فقط أو زيادة على ذلك؟ فالأول هو المحقق من سياق الآية والثاني محتمل، ويؤيد الجواز سعة الفضل.قوله: "ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة" المراد بالكمال عظم القدر كما تقدم لا التضعيف إلى العشرة، ولم يقع التقييد بكاملة في طرق حديث أبي هريرة، وظاهر الإطلاق كتابة الحسنة بمجرد الترك، لكنه قيده في حديث الأعرج عن أبي هريرة كما سيأتي في كتاب التوحيد ولفظه: "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئه فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة" وأخرجه مسلم من هذا الوجه، لكن لم يقع عنده "من أجلي" ووقع عنده من طريق همام عن أبي هريرة "وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جَرَّاي" بفتح الجيم وتشديد الراء بعد الألف ياء المتكلم وهي بمعنى من أجلي، ونقل عياض عن بعض العلماء أنه حمل حديث ابن عباس على عمومه، ثم صوب حمل مطلقه على ما قيد في حديث أبي هريرة. قلت: ويحتمل أن تكون حسنة من ترك بغير استحضار ما قيد به دون حسنة الآخر لما تقدم أن ترك المعصية كف عن الشر والكف عن الشر خير، ويحتمل أيضا أن يكتب لمن هم بالمعصية ثم تركها حسنة مجردة، فإن تركها من مخافة ربه سبحانه كتبت حسنة مضاعفة. وقال الخطابي: محل كتابة الحسنة على الترك أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه، لأن الإنسان لا يسمى تاركا إلا مع القدرة، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع كأن يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلا فيجد الباب مغلقا ويتعسر فتحه، ومثله من تمكن من الزنا مثلا فلم ينتشر أو طرقه ما يخاف من أذاه عاجلا. ووقع في حديث أبي كبشة الأنماري ما قد يعارض ظاهر حديث الباب، وهو ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه بلفظ: "إنما الدنيا لأربعة" فذكر الحديث وفيه: "وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يعمل في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يرى لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل. ورجل لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن

(11/326)


لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهما في الوزر سواء" فقيل الجمع بين الحديثين بالتنزيل على حالتين، فتحمل الحالة الأولى على من هم بالمعصية هما مجردا من غير تصميم، والحالة الثانية على من صمم على ذلك وأصر عليه. وهو موافق لما ذهب إليه الباقلاني وغيره؛ قال المازري: ذهب ابن الباقلاني يعني ومن تبعه إلى أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن عليها نفسه أنه يأثم، وجمل الأحاديث الواردة في العفو عمن هم بسيئة ولم يعملها على الخاطر الذي يمر بالقلب ولا يستقر. قال المازري: وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين ونقل ذلك عن نص الشافعي، ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة فيما أخرجه مسلم من طريق همام عنه بلفظ: "فأنا أغفرها له ما لم يعملها" فإن الظاهر أن المراد بالعمل هنا عمل الجارحة بالمعصية المهموم به. وتعقبه عياض بأن عامة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنهم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها، كمن يأمر بتحصيل معصية ثم لا يفعلها بعد حصولها فإنه يأثم بالأمر المذكور لا بالمعصية ومما يدل على ذلك حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفهما فالمقابل والمقتول في النار، قيل هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه" وسيأتي سياقه وشرحه في كتاب الفتن، والذي يظهر أنه من هذا الجنس وهو أنه يعاقب على عزمه بمقدار ما يستحقه ولا عاقب عقاب من باشر القتل خسا. وهنا قسم آخر وهو من فعل المعصية ولم يتب منها ثم هم أن يعود إليها فإنه يعاقب على الإصرار كما جزم به ابن المبارك وغيره في تفسير قوله تعالى {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} ويؤيده أن الإصرار معصية اتفاقا، فمن عزم على المعصية وصمم عليها كتبت عليه سيئة، فإذا عملها كتبت عليه معصية ثانية. قال النووي: وهذا ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر كقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} الآية، وقوله {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} وغير ذلك وقال ابن الجوزي: إذا حدث نفسه بالمعصية لم يؤاخذ فإن عزم وصمم زاد على حديث النفس وهو من عمل القلب. قال: والدليل على التفريق بين الهم والعزم أن من كان في الصلاة فوقع في خاطره أن يقطعها لم تنقطع، فإن صمم على قطعها بطلت. وأجيب عن القول الأول بأن المؤاخذة على أعمال القلوب المستقلة بالمعصية لا تستلزم المؤاخذة على عمل القلب بقصد معصية الجارحة إذا لم يعمل المقصود، للفرق بين ما هو بالقصد وما هو بالوسيلة. وقسم بعضهم ما يقع في النفس أقساما يظهر منها الجواب عن الثاني، أضعفها أن يخطر له ثم يذهب في الحال، وهذا من الوسوسة وهو معفو عنه وهو دون التردد، وفوقه أن يتردد فيه فيهم به ثم ينفر عنه فيتركه ثم يهم به ثم يترك كذلك ولا يستمر على قصده، وهذا هو التردد فيعفى عنه أيضا، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر عنه لكن لا يصمم على فعله وهذا هو الهم فيعفى عنه أيضا، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر منه بل يصمم على فعله فهذا هو العزم وهو منتهى الهم، وهو على قسمين: القسم الأول أن يكون من أعمال القلوب صرفا كالشك في الوحدانية أو النبوة أو البعث فهذا كفر ويعاقب عليه جزما، ودونه المعصية التي لا تصل إلى الكفر كمن يحب ما يبغض - الله ويبغض ما يحبه الله ويحب للمسلم الأذى بغير موجب لذلك فهذا يأثم، ويلتحق به الكبر والعجب والبغي والمكر والحسد، وفي بعض هذا خلاف. فعن الحسن البصري أن سوء الظن بالمسلم وحسده معفو عنه وحملوه على ما يقع في النفس مما لا يقدر على دفعه. لكن من يقع له ذلك مأمور بمجاهدته النفس على تركه والقسم الثاني أن يكون من أعمال الجوارح كالزنا والسرقة فهو الذي وقع فيه النزاع، فذهبت

(11/327)


طائفة إلى عدم المؤاخذة بذلك أصلا، ونقل عن نص الشافعي، ويؤيده ما وقع في حديث خريم بن فاتك المنبه عليه قبل فإنه حيث ذكر الهم بالحسنة قال: علم الله أنه أشعرها قلبه وحرص عليها، وحيث ذكر الهم بالسيئة لم يقيد بشيء بل قال فيه: ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، والمقام مقام الفضل فلا يليق التحجير فيه. وذهب كثير من العلماء إلى المؤاخذة بالعزم المصمم، وسأل ابن المبارك سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بما يهم به؟ قال: إذا جزم بذلك. واستدل كثير منهم بقوله تعالى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وحملوا حديث أبي هريرة الصحيح المرفوع "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم" على الخطرات كما تقدم. ثم افترق هؤلاء فقالت طائفة: يعاقب عليه صاحبه في الدنيا خاصة بنحو الهم والغم. وقالت طائفة: بل يعاقب عليه يوم القيامة لكن بالعتاب لا بالعذاب، وهذا قول ابن جريج والربيع بن أنس وطائفة ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضا، واستدلوا بحديث النجوى الماضي شرحه في "باب ستر المؤمن على نفسه" من كتاب الأدب، واستثنى جماعة ممن ذهب إلى عدم مؤاخذة من وقع منه الهم بالمعصية ما يقع في الحرم المكي ولو لم يصمم لقوله تعالى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ذكره السدي في تفسيره عن مرة عن ابن مسعود، وأخرجه أحمد من طريقه مرفوعا، ومنهم من رجحه موقوفا، ويؤيد ذلك أن الحرم يجب اعتقاد تعظيمه فمن هم بالمعصية فيه خالف الواجب بانتهاك حرمته، وتعقب هذا البحث بأن تعظيم الله آكد من تعظيم الحرم ومع ذلك فمن هم بمعصيته لا يؤاخذه فكيف يؤاخذا بما دونه؟ ويمكن أن يجاب عن هذا بأن انتهاك حرمة الحرم بالمعصية تستلزم انتهاك حرمة الله لأن تعظيم الحرم من تعظيم الله فصارت المعصية في الحرم أشد من المعصية في غيره وإن اشترك الجميع في ترك تعظيم الله تعالى، نعم من هم بالمعصية قاصدا الاستخفاف بالحرم عصى، ومن هم بمعصية الله قاصدا الاستخفاف بالله كفر، وإنما المعفو عنه من هم بمعصية ذاهلا عن قصد الاستخفاف، وهذا تفصيل جيد ينبغي أن يستحضر عند شرح حديث: "لا يزني الزاني وهو مؤمن" . وقال السبكي الكبير: الهاجس لا يؤاخذ به إجماعا، والخاطر وهو جريان ذلك الهاجس وحديث النفس لا يؤاخذ بهما للحديث المشار إليه، والهم وهو قصد فعل المعصية مع التردد لا يؤاخذ به الحديث الباب، والعزم - وهو قوة ذلك القصد أو الجزم به ورفع التردد - قال المحققون يؤاخذ به. وقال بعضهم لا واحتج بقول أهل اللغة: هم بالشيء عزم عليه، وهذا لا يكفي، قال: ومن أدلة الأول حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما" الحديث، وفيه أنه كان حريصا على قتل صاحبه فعلل بالحرص، واحتج بعضهم بأعمال القلوب ولا حجة معه لأنها على قسمين: أحدهما لا يتعلق بفعل خارجي وليس البحث فيه، والثاني بتعلق بالملتقيين عزم كل منهما على قتل صاحبه واقترن بعزمه فعل بعض ما عزم عليه وهو شهر السلاح وإشارته به إلى الآخر فهذا الفعل يؤاخذ به سواء حصل القتل أم لا. انتهى. ولا يلزم من قوله: "فالقاتل والمقتول في النار" أن يكونا في درجة واحدة من العذاب بالاتفاق. قوله: "فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة" في رواية الأعرج "فاكتبوها له بمثلها" وزاد مسلم في حديث أبي ذر "فجزاؤه بمثلها أو أغفر" وله في آخر حديث ابن عباس أو "يمحوها" والمعنى أن الله يمحوها بالفضل أو بالتوبة أو بالاستغفار أو بعمل الحسنة التي تكفر السيئة، والأول أشبه لظاهر حديث أبي ذر، وفيه رد لقول من ادعى أن الكبائر لا تغفر إلا بالتوبة، ويستفاد من التأكيد بقوله: "واحدة" أن السيئة لا تضاعف كما تضاعف الحسنة، وهو على وفق قوله تعالى {فَلا يُجْزَى إِلَّا

(11/328)


مِثْلَهَا} قال ابن عبد السلام في أماليه: فائدة التأكيد دفع توهم من يظن الله إذا عمل السيئة كتبت عليه سيئة العمل وأضيفت إليها سيئة الهم، وليس كذلك إنما يكتب عليه سيئة واحدة. وقد استثنى بعض العلماء وقوع المعصية في الحرم المكي. قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد هل ورد في شيء من الحديث أن السيئة تكتب بأكثر من واحدة؟ قال: لا، ما سمعت إلا بمكة لتعظيم البلد. والجمهور على التعميم في الأزمنة والأمكنة لكن قد يتفاوت بالعظم، ولا يرد على ذلك قوله تعالى {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} لأن ذلك ورد تعظيما لحق النبي صلى الله عليه وسلم لأن وقوع ذلك من نسائه يقتضي أمرا زائدا على الفاحشة وهو أذى النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد مسلم بعد قوله: "أو يمحوها": "ولا يهلك على الله إلا هالك" أي من أصر على التجري على السيئة عزما وقولا وفعلا وأعرض عن الحسنات هما وقولا وفعلا، قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل الله العظيم على هذه الأمة لأنه لولا ذلك كاد لا يدخل أحد الجنة، لأن عمل العباد للسيئات أكثر من عملهم الحسنات؛ ويؤيد ما دل عليه حديث الباب من الإثابة على الهم بالحسنة وعدم المؤاخذة على الهم بالسيئة قوله تعالى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} إذ ذكر في السوء الافتعال الذي يدل على المعالجة والتكلف فيه بخلاف الحسنة، وفيه ما يترتب للعبد على هجران لذته وترك شهوته من أجل ربه رغبة في ثوابه ورهبة من عقابه، واستدل به على أن الحفظة لا تكتب المباح للتقييد بالحسنات والسيئات، وأجاب بعض الشراح بأن بعض الأئمة عد المباح من الحسن، وتعقب بأن الكلام فيما يترتب على فعله حسنة وليس المباح ولو سمي حسنا كذلك، نعم قد يكتب حسنة بالنية وليس البحث فيه، وقد تقدم في "باب حفظ اللسان "قريبا شيء من ذلك، وفيه أن الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه جعل العدل في السيئة والفضل في الحسنة فضاعف الحسنة ولم يضاعف السيئة بل أضاف فيها إلى العدل الفضل فأدارها بين العقوبة والعفو بقوله: "كتبت له واحدة أو يمحوها" وبقوله: "فجزاؤه بمثلها أو أغفر" وفي هذا الحديث رد على الكعبي في زعمه أن ليس في الشرع مباح بل الفاعل إما عاص وإما مثاب، فمن اشتغل عن المعصية بشيء فهو مثاب، وتعقبوه بما تقدم أن الذي يثاب على ترك المعصية هو الذي يقصد بتركها رضا الله كما تقدمت الإشارة إليه، وحكى ابن التين أنه يلزمه أن الزاني مثلا مثاب لاشتغاله بالزنا عن معصية أخرى ولا يخفى ما فيه.

(11/329)


32 - باب مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ
6492- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ عَنْ غَيْلاَنَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُوبِقَاتِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ"
قوله: "باب ما يتقى من محقرات الذنوب" التعبير بالمحقرات وقع في حديث سهل بن سعد رفعه: "إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه" أخرجه أحمد بسند حسن، ونحوه عند أحمد والطبراني من حديث ابن مسعود، وعند النسائي وابن ماجه عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا " وصححه ابن حبان. قوله: "مهدي" هو ابن ميمون، وغيلان بمعجمة ثم تحتانية وزن عجلان

(11/329)


هو ابن جرير والسند كله بصريون.قوله: "هي أدق" أفعل تفضيل من الدقة بكسر الدال إشارة إلى تحقيرها وتهوينها، وتستعمل في تدقيق النظر في العمل والإمعان فيه أي تعملون أعمالا تحسبونها هينة وهي عظيمة أو تؤول إلى العظم. قوله: "إن كنا لنعدها" كذا للأكثر بلام التأكيد. وفي رواية أبي ذر عن السرخسي والمستملي بحذفها وبحذف الضمير أيضا ولفظهما "إن كنا نعد" وله عن الكشميهني: "إن كنا نعدها" وإن مخففة من الثقيلة وهي للتأكيد. قوله: "من الموبقات" بموحدة وقاف، وسقط لفظ: "من" للسرخسي والمستملي أيضا. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف "يعني بذلك المهلكات" أي الموبقة هي المهلكة، ووقع للإسماعيلي من طريق إبراهيم بن الحجاج عن مهدي "كنا نعدها ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر" وكأنه ذكره بالمعنى. وقال ابن بطال: المحقرات إذا كثرت صارت كبارا مع الإصرار، وقد أخرج أسد بن موسى في الزهد عن أبي أيوب الأنصاري قال: "إن الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها وينسى المحقرات فيلقى الله وقد أحاطت به، وإن الرجل ليعمل السيئة فلا يزال منها مشفقا حتى يلقى الله آمنا" .

(11/330)


33 - باب الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ وَمَا يُخَافُ مِنْهَا
6493- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ الأَلْهَانِيُّ الْحِمْصِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ فَقَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا فَتَبِعَهُ رَجُلٌ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْه,ِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا"
قوله: "باب الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها" ذكر فيه حديث سهل بن سعد في قصة الذي قتل نفسه وفي آخره: "وإنما الأعمال بالخواتيم" وتقدم شرح القصة في غزوة خيبر من كتاب المغازى، ويأتي شرح آخره في كتاب القدر إن شاء الله تعالى حديث سهل بن سعد في قصة الذي قتل نفسه وفي آخره: "وإنما الأعمال بالخواتيم" وتقدم شرح القصة في غزوة خيبر من كتاب المغازى، ويأتي شرح آخره في كتاب القدر إن شاء الله تعالى وقوله: "غناء" بفتح المعجمة بعدها نون ممدود أي كفاية، وأغنى فلان عن فلان ناب عنه وجرى مجراه. وذبابة السيف حده وطرفه. قال ابن بطال: في تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة وتدبير لطيف، لأنه لو علم وكان ناجيا أعجب وكسل وإن كان هالكا ازداد عتوا فحجب عنه ذلك ليكون بين الخوف والرجاء، وقد روى الطبري عن حفص بن حميد قال: قلت لابن المبارك رأيت رجلا قتل رجلا ظلما فقلت في نفسي أنا أفضل من هذا، فقال: أمنك على نفسك أشد من ذنبه. قال الطبري: لأنه لا يدري ما يؤول إليه الأمر لعل القاتل يتوب فتقبل توبته، ولعل الذي أنكر عليه يختم له بخاتمة السوء.

(11/330)


باب العزلة واحة من خلاط السوء
...
34 - باب الْعُزْلَةُ رَاحَةٌ مِنْ خُلاَّطِ السُّوءِ
6494- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَهُ قَالَ

(11/330)


باب رفع الأمانة
باب الرياء والسمعة
...
36 - باب الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ
6499- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ ح و حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ

(11/335)


عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ "قال النبي صلى الله عليه وسلم: وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم غَيْرَهُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ"
[الحديث 6499- طرفه في: 7152]
قوله: "باب الرياء والسمعة" الرياء بكسر الراء وتخفيف التحتانية والمد وهو مشتق من الرؤية والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها، والسمعة بضم المهملة وسكون الميم مشتقة من سمع، والمراد بها نحو ما في الرياء لكنها تتعلق بحاسة السمع والرياء بحاسة البصر. وقال الغزالي: المعنى طلب المنزلة في قلوب الناس بأن يريهم الخصال المحمودة، والمرائي هو العامل. وقال ابن عبد السلام: الرياء أن يعمل لغير الله والسمعة أن يخفى عمله الله ثم يحدث به الناس. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان. وسفيان في الطريقين هو الثوري، والسند الثاني أعلى من الأول، ولم يكتف به مع علوه لأن في الرواية الأولى مزايا وهي جلالة القطان وما وقع في سياقه من تصريح سفيان بالتحديث ونسبة سلمة شيخ الثوري وهو سلمة بن كهيل بالتصغير ابن حصين الحضرمي، والسند الثاني كله كوفيون. قوله: "ولم أسمع أحدا يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم غيره" وثبت كذلك عند مسلم في رواية، وقائل ذلك هو سلمة بن كهيل "ومراده أنه لم يسمع من أحد من الصحابة حديثا مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا من جندب وهو ابن عبد الله البجلي الصحابي المشهور وهو من صغار الصحابة وقال الكرماني: مراده لم يبق من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ غيره في ذلك المكان. قلت: احترز بقوله: "في ذلك المكان" عمن كان من الصحابة موجودا إذ ذاك بغير المكان الذي كان فيه جندب، وليس كذلك فإن جندبا كان بالكوفة إلى أن مات وكان بها في حياة جندب أبو جحيفة السوائي وكانت وفاته بعد جندب بست سنين، وعبد الله بن أبي أوفى وكانت وفاته بعد جندب بعشرين سنة، وقد روى سلمة عن كل منهما فتعين أن يكون مراده أنه لم يسمع منهما ولا من أحدهما ولا من غيرهما ممن كان موجودا من الصحابة بغير الكوفة بعد أن سمع من جندب الحديث المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. قوله: "من سمع" بفتح المهملة والميم الثقيلة والثانية مثلها، وقوله: "ومن يرائي" بضم التحتية والمد وكسر الهمزة والثانية مثلها وقد ثبتت الياء في آخر كل منهما أما الأولى فللإشباع وأما الثانية فكذلك، أو التقدير فإنه يرائي به الله. ووقع في رواية وكيع عن سفيان عند مسلم: "من يسمع يسمع الله به ومن يرائي يرائي الله به" ولابن المبارك في الزهد من حديث ابن مسعود "من سمع سمع الله به، ومن رائى رائى الله به، ومن تطاول تعاظما خفضه الله، ومن تواضع تخشعا رفعه الله" وفي حديث ابن عباس عند1 "من سمع سمع الله به ومن رائى رائى الله به" ووقع عند الطبراني من طريق محمد بن جحادة عن سلمة بن كهيل عن جابر في آخر هذا الحديث: "ومن كان ذا لسانين في الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة" قال الخطابي: معناه من عمل عملا على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه وقيل من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإن الله يجعله حديثا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم ولا ثواب له في الآخرة، ومعنى يرائي يطلعهم على أنه فعل ذلك لهم لا لوجهه، ومنه قوله
ـــــــ
1 بياض بالأصل، وهو عند مسلم في كتاب الزهد والرقاق 53 الحديث 47 ( الرقم العام 2986)

(11/336)


تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا - إلى قوله: مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقيل: المراد من قصد بعمله أن يسمعه الناس ويروه ليعظموه وتعلو منزلته عندهم حصل له ما قصد، وكان ذلك جزاءه على عمله؛ ولا يثاب عليه في الآخرة. وقيل المعنى، من سمع بعيوب الناس وأذاعها أظهر الله عيوبه وسمعه المكروه. وقيل المعنى من نسب إلى نفسه عملا صالحا لم يفعله وادعى خيرا لم يصنعه فإن الله يفضحه ويظهر كذبه، وقيل المعنى من يرائي الناس بعمله أراه الله ثواب ذلك العمل وحرمه إياه. قيل معنى سمع الله به شهره أو ملأ أسماع الناس بسوء الثناء عليه في الدنيا أو في القيامة بما ينطوي عليه من خبث السريرة، قلت: ورد في عدة أحاديث التصريح بوقوع ذلك في الآخرة، فهو المعتمد: فعند أحمد والدارمي من حديث أبي هند الداري رفعه: "من قام مقام رياء وسمعة رائى الله به يوم القيامة وسمع به"، وللطبراني من حديث عوف بن مالك نحوه، وله من حديث معاذ مرفوعا: "ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمع الله به على رءوس الخلائق يوم القيامة" وفي الحديث استحباب إخفاء العمل الصالح، لكن قد يستحب إظهاره ممن يقتدى به على إرادته الاقتداء به، ويقدر ذلك بقدر الحاجة. قال ابن عبد السلام: يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدى به أو لينتفع به ككتابة العلم، ومنه حديث سهل الماضي في الجمعة "لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي" قال الطبري كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم ليقتدى بهم، قال: فمن كان إماما يستن بعمله عالما بما لله عليه قاهرا لشيطانه استوى ما ظهر من عمله وما خفي لصحة قصده، ومن كان بخلاف ذلك فالإخفاء في حقه أفضل، وعلى ذلك جرى عمل السلف. فمن الأول حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ ويرفع صوته بالذكر فقال إنه أواب قال فإذا هو المقداد بن الأسود" أخرجه الطبري. ومن الثاني حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "قام رجل يصلي فجهر بالقراءة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسمعني وأسمع ربك" أخرجه أحمد وابن أبي خيثمة وسنده حسن.

(11/337)


37 - باب مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ
6500- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلاَّ آخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ"
قوله: "باب من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل" يعني بيان فضل من جاهد، والمراد بالمجاهدة كف النفس

(11/337)


عن إرادتها من الشغل بغير العبادة، وبهذا تظهر مناسبة الترجمة لحديث الباب. وقال ابن بطال: جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال الله تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} الآية. ويقع بمنع النفس عن المعاصي، وبمنعها من الشبهات، وبمنعها من الإكثار من الشهوات المباحة لتتوفر لها في الآخرة. قلت: ولئلا يعتاد الإكثار فيألفه فيجره إلى الشبهات فلا يأمن أن يقع في الحرام. ونقل القشيري عن شيخه أبي على الدقاق: من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذا الطريق شمة. وعن أبي عمرو بن بجيد: من كرم عليه دينه هانت عليه نفسه. قال القشيري: أصل مجاهدة النفس فطمها عن المألوفات وحملها على غير هواها. وللنفس صفتان: انهماك في الشهوات، وامتناع عن الطاعات، فالمجاهدة تقع بحسب ذلك. قال بعض الأئمة: جهاد النفس داخل في جهاد العدو، فإن الأعداء ثلاثة: رأسهم الشيطان، ثم النفس لأنها تدعو إلى اللذات المفضية بصاحبها إلى الوقوع في الحرام الذي يسخط الرب، والشيطان هو المعين لها على ذلك ويزينه لها. فمن خالف هوى نفسه قمع شيطانه، فمجاهدته نفسه حملها على اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، وإذا قوى العبد على ذلك سهل عليه جهاد أعداء الدين، فالأول الجهاد الباطن والثاني الجهاد الظاهر. وجهاد النفس أربع مراتب: حملها على تعلم أمور الدين، ثم حملها على العمل بذلك، ثم حملها على تعليم من لا يعلم، ثم الدعاء إلى توحيد الله وقتال من خالف دينه وجحد نعمه. وأقوى المعين على جهاد النفس جهاد الشيطان بدفع ما يلقى إليه من الشبهة والشك، ثم تحسين ما نهى عنه من المحرمات، ثم ما يفضي الإكثار منه إلى الوقوع في الشبهات، وتمام ذلك من المجاهدة أن يكون متيقظا لنفسه في جميع أحواله، فإنه متى غفل عن ذلك استهواه شيطانه ونفسه إلى الوقوع في المنهيات وبالله التوفيق. قوله: "همام" هو ابن يحيى. قوله: "أنس عن معاذ بن جبل" هكذا رواه همام عن قتادة، ومقتضاه التصريح بأنه من مسند معاذ، وخالفه هشام الدستوائي عن قتادة فقال: "عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -ومعاذ رديفه على الرجل- يا معاذ" وقد تقدم في أواخر كتاب العلم ومقتضاه أنه من مسند أنس والمعتمد الأول، ويؤيده أن المصنف أتبع رواية هشام رواية سليمان التيمي عن أنس قال: "ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ" فدل على أن أنسا لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم واحتمل قوله: "ذكر" على البناء للمجهول أن يكون أنس حمله عن معاذ بواسطة أو بغير واسطة، وقد أشرت في شرحه في العلم إلى احتمال أن يكون أنس حمله عن عمرو بن ميمون الأودي عن معاذ، أو من عبد الرحمن بن سمرة عن معاذ، وهذا كله بناء على أنه حديث واحد، وقد رجح لي أنهما حديثان وإن اتحد مخرجهما عن قتادة عن أنس ومتنهما في كون معاذ ردف النبي صلى الله عليه وسلم للاختلاف فيما وردا فيه، وهو أن حديث الباب في حق الله على العباد وحق العباد على الله، والماضي فيمن لقي الله لا يشرك به شيئا، وكذا رواية أبي عثمان النهدي وأبي رزين وأبي العوام كلهم عن معاذ عند أحمد، ورواية عمرو بن ميمون موافقة لرواية حديث الباب، ونحوها رواية عبد الرحمن بن سمرة عن معاذ عند النسائي، والرواية الأخرى موافقة لرواية هشام التي في العلم، وقد أشرت إلى شيء من ذلك في "باب اسم الفرس والحمار" من كتاب الجهاد، وقد جاء عن أنس عن معاذ نحو حديث الباب أخرجه أحمد من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن أنس قال: "أتينا معاذا فقلنا: حدثنا من غرائب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فذكر مثل حديث همام عن قتادة. قوله: "بينا أنا رديف" تقدم بيانه في أواخر كتاب اللباس قبل الأدب ببابين. قوله: "ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل" بفتح الراء وسكون الحاء المهملة هو للبعير كالسرج للفرس،

(11/338)


وآخره بالمد وكسر المعجمة بعدها راء هي العود الذي يجعل خلف الراكب يستند إليه، وفائدة ذكره المبالغة في شدة قربه ليكون أوقع في نفس سامعه أنه ضبط ما رواه. ووقع في رواية مسلم عن هداب بن خالد وهو هدبة شيخ البخاري فيه بسنده هذا "مؤخرة" بدل "آخرة" وهي بضم الميم وسكون الهمزة وفتح الخاء، ووقع في رواية عمرو بن ميمون عن معاذ "كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير" وقد تقدم ضبطه في الجهاد، ووقع عند أحمد من رواية عبد الرحمن بن غنم عن معاذ "أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على حمار يقال له يعفور رسنه من ليف" ويمكن الجمع بأن المراد بآخرة الرحل موضع آخرة الرحل للتصريح هنا بكونه كان على حمار، وإلى ذلك أشار النووي ومشى ابن الصلاح على أنهما قضيتان، وكأن مستنده أنه وقع في رواية أبي العوام عند أحمد "على جمل أحمر" ولكن سنده ضعيف. قوله: "فقال يا معاذ: قلت لبيك" تقدم بيان ذلك في كتاب الحج. قوله: "رسول الله" بالنصب على النداء وحرف النداء محذوف، ووقع في العلم بإثباته. قوله: "ثم سار ساعة" فيه بيان أن الذي وقع في العلم "قال لبيك يا رسول الله وسعديك، قال يا معاذ" لم يقع النداء الثاني على الفور بل بعد ساعة. قوله: "فقال" في رواية الكشميهني: "ثم قال". قوله: "يا معاذ بن جبل" تقدم ضبطه في العلم. قوله: "قال هل تدري" وقع في رواية مسلم المشار إليها بعد قوله: "وسعديك" الثانية "ثم سار ساعة ثم قال هل تدري" وفي رواية موسى بن إسماعيل عن همام الماضية في الاستئذان بعد المرة الأولى "ثم قال مثله ثلاثا" أي النداء والإجابة وقد تقدم نحوه في العلم، وهو لتأكيد الاهتمام بما يخبره به ويبالغ في تفهمه وضبطه. قوله: "هل تدري ما حق الله على عباده" الحق كل موجود متحقق أو ما سيوجد لا محالة، ويقال للكلام الصدق حق لأن وقوعه متحقق لا تردد فيه، وكذا الحق المستحق على الغير إذا كان لا تردد فيه، والمراد هنا ما يستحقه الله على عباده مما جعله محتما عليهم قاله ابن التيمي في التحرير. وقال القرطبي: حق الله على العباد هو ما وعدهم به من الثواب وألزمهم إياه بخطابه. قوله: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" المراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي وعطف عليها عدم الشرك لأنه تمام التوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة أن بعض الكفرة كانوا يدعون أنهم يعبدون الله ولكنهم كانوا يعبدون آلهة أخرى فاشترط نفي ذلك، وتقدم أن الجملة حالية والتقدير يعبدونه في حال عدم الإشراك به. قال ابن حبان: عبادة الله إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، ولهذا قال في الجواب "فما حق العباد إذا فعلوا ذلك" فعبر بالفعل ولم يعبر بالقول. قوله: "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه"؟ الضمير لما تقدم من قوله: "يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" في رواية مسلم: "إذا فعلوا ذلك". قوله: "حق العباد على الله أن لا يعذبهم" في رواية ابن حبان من طريق عمرو بن ميمون "أن يغفر لهم ولا يعذبهم" وفي رواية أبي عثمان "يدخلهم الجنة" وفي رواية أبي العوام مثله وزاد: "ويغفر لهم" وفي رواية عبد الرحمن بن غنم "أن يدخلهم الجنة" قال القرطبي: حق العباد على الله ما وعدهم به من الثواب والجزاء، فحق ذلك ووجب بحكم وعده الصدق، وقوله الحق الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر ولا الخلف في الوعد، فالله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر إذ لا آمر فوقه ولا حكم للعقل لأنه كاشف لا موجب انتهى. وتمسك بعض المعتزلة بظاهره. ولا متمسك لهم فيه مع قيام الاحتمال. وقد تقدم في العلم عدة أجوبة غير هذه، ومنها أن المراد بالحق هنا المتحقق الثابت أو الجدير، لأن إحسان الرب لمن لم يتخذ ربا سواه جدير في الحكمة أن لا يعذبه، أو المراد أنه كالواجب في تحققه وتأكده،

(11/339)


أو ذكر على سبيل المقابلة. قال: وفي الحديث جواز ركوب اثنين على حمار، وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وفضل معاذ وحسن أدبه في القول وفي العلم برده لما لم يحط بحقيقته إلى علم الله ورسوله، وقرب منزلته من النبي صلى الله عليه وسلم وفيه تكرار الكلام لتأكيده وتفهيمه، واستفسار الشيخ تلميذه عن الحكم ليختبر ما عنده ويبين له ما يشكل عليه منه. وقال ابن رجب في شرحه لأوائل البخاري: قال العلماء يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهادا في العمل وخشية لله عز وجل، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يقصر اتكالا على ظاهر هذا الخبر، وقد عارضه ما تواتر من نصوص الكتاب والسنة أن بعض عصاة الموحدين يدخلون النار، فعلى هذا فيحب الجمع بين الأمرين، وقد سلكوا في ذلك مسالك: أحدها قول الزهري إن هذه الرخصة كانت قبل نزول الفرائض والحدود، وسيأتي ذلك عنه في حديث عثمان في الوضوء، واستبعده غيره من أن النسخ لا يدخل الخبر، وبأن سماع معاذ لهذه كان متأخرا عن أكثر نزول الفرائض. وقيل لا نسخ بل هو على عمومه، ولكنه مقيد بشرائط كما ترتب الأحكام على أسبابها المقتضية المتوقفة على انتفاء الموانع، فإذا تكامل ذلك عمل المقتضي عمله، وإلى ذلك أشار وهب بن منبه بقوله المتقدم في كتاب الجنائز في شرح "أن لا إله إلا الله مفتاح الجنة": ليس من مفتاح إلا وله أسنان، وقيل المراد ترك دخول نار الشرك، وقيل ترك تعذيب جميع بدن الموحدين لأن النار لا تحرق مواضع السجود، وقيل ليس ذلك لكل من وحد وعبد بل يختص بمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته فتنبعث الجوارح إلى الطاعة وتنكف عن المعصية. انتهى ملخصا. وفي آخر حديث أنس عن معاذ في نحو هذا الحديث: "فقلت ألا أخبر الناس؟ قال: لا لئلا يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما. وقد تقدم الكلام على ذلك في كتاب العلم. "تنبيه" هذا من الأحاديث التي أخرجها البخاري في ثلاثة مواضع عن شيخ واحد بسند واحد، وهي قليلة في كتابه جدا، ولكنه أضاف إليه في الاستئذان موسى بن إسماعيل، وقد تتبع بعض من لقيناه ما أخرجه في موضعين بسند فبلغ عدتها زيادة على العشرين، وفي بعضها يتصرف في المتن بالاختصار منه.

(11/340)


ماله أو ولده بأنه سلم من انتقام الله، فقد تكون مصيبته في غير ذلك مما هو أشد عليه كالمصيبة في الدين مثلا. قال: ويدخل في قوله: "افترضت عليه" الفرائض الظاهرة فعلا كالصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات، وتركا كالزنا والقتل وغيرهما من المحرمات، والباطنة كالعلم بالله والحب له والتوكل عليه والخوف منه وغير ذلك. وهي تنقسم أيضا إلى أفعال وتروك. قال: وفيه دلالة على جواز اطلاع الولي على المغيبات بإطلاع الله تعالى له، ولا يمنع من ذلك ظاهر قوله تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فإنه لا يمنع دخول بعض أتباعه معه بالتبعية لصدق قولنا ما دخل على الملك اليوم إلا الوزير، ومن المعلوم أنه دخل معه بعض خدمه. قلت الوصف المستثنى للرسول هنا إن كان فيما يتعلق بخصوص كونه رسولا فلا مشاركة لأحد من أتباعه فيه إلا منه، وإلا فيحتمل ما قال، والعلم عند الله تعالى. "تنبيه": أشكل وجه دخول هذا الحديث في باب التواضع حتى قال الداودي: ليس هذا الحديث من التواضع في شيء. وقال بعضهم: المناسب إدخاله في الباب الذي قبله وهو مجاهدة المرء نفسه في طاعة الله تعالى، وبذلك ترجم البيهقي في "الزهد" فقال: فصل في الاجتهاد في الطاعة وملازمة العبودية. والجواب عن البخاري من أوجه: أحدها أن التقرب إلى الله بالنوافل لا يكون إلا بغاية التواضع لله والتوكيل عليه، ذكره الكرماني، ثانيها ذكره أيضا فقال: قيل الترجمة مستفادة مما قال: "كنت سمعه "ومن التردد. قلت: ويخرج منه جواب ثالث، ويظهر لي رابع، وهو أنها تستفاد من لازم قوله: "من عادى لي وليا" لأنه يقتضي الزجر عن معاداة الأولياء المستلزم لموالاتهم، وموالاة جميع الأولياء لا تتأتى إلا بغاية التواضع، إذ منهم الأشعث الأغبر الذي لا يؤبه له وقد ورد في الحث على التواضع عدة أحاديث صحيحة لكن ليس شيء منها على شرطه فاستغنى عنها بحديثي الباب، منها حديث عياض بن حمار رفعه : "إن الله تعالى أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد" أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، ومنها حديث أبي هريرة رفعه: "وما تواضع أحد لله تعالى إلا رفعه" أخرجه مسلم أيضا والترمذي، ومنها حديث أبي سعيد رفعه: "من تواضع لله رفعه الله حتى يجعله في أعلى عليين" الحديث أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان

(11/147)


39 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْن"
{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
6503- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ هَكَذَا وَيُشِيرُ بِإِصْبَعَيْهِ فَيَمُدُّ هِمَا"
6504- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي التَّيَّاحِ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ"
6505- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ يَعْنِي إِصْبَعَيْنِ تَابَعَهُ إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ"

(11/347)


قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين" قال أبو البقاء العكبري في إعراب المسند: الساعة بالنصب والواو فيه بمعنى "مع" قال: ولو قرئ بالرفع لفسد المعنى لأنه لا يقال بعثت الساعة، ولا هو في موضع المرفوع لأنها لم توجد بعد، وأجاز غيره الوجهين، بل جزم عياض بأن الرفع أحسن وهو عطف على ضمير المجهول في بعثت، قال: ويجوز النصب، وذكر نحو توجيه أبي البقاء وزاد: أو على ضمير يدل عليه الحال نحو فانتظروا، كما قدر في نحو جاء البرد والطيالسة فاستعدوا. قلت: والجواب عن الذي اعتل به أبو البقاء أولا أن يضمن بعثت معنى يجمع إرسال الرسول ومجيء الساعة نحو جئت، وعن الثاني بأنها نزلت منزلة الموجود مبالغة في تحقق مجيئها، ويرجح النصب ما وقع في تفسير سورة والنازعات من هذا الصحيح من طريق فضيل بن سليمان عن أبي حازم بلفظ: "بعثت والساعة" فإنه ظاهر في أن الواو للمعية. قوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} الآية" كذا لأبي ذر. وفي رواية الأكثر {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كذا للجميع معطوفا على الحديث بغير فصل، وهو يوهم أن تكون بقيته، وليس كذلك بل التقدير "وقول الله عز وجل" وقد ثبت ذلك في بعض النسخ. ولما أراد البخاري إدخال أشراط الساعة وصفة القيامة في كتاب الرقاق استطرد من حديث الباب الذي قبله المشتمل على ذكر الموت الدال على فناء كل شيء إلى ذكر ما يدل على قرب القيامة، وهو من لطيف ترتيبه. ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث عن سهل وأنس وأبي هريرة بلفظ واحد، وفي حديث سهل وأبي هريرة زيادة الإشارة. قوله: "عن سهل" في رواية سفيان عن أبي حازم سمعت من سهل بن سعد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في كتاب اللعان. قوله: "بعثت أنا والساعة" المراد بالساعة هنا يوم القيامة، والأصل فيها قطعة من الزمان، وفي عرف أهل الميقات جزء من أربعة وعشرين جزءا من اليوم والليلة، وثبت مثله في حديث جابر رفعه: "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة" وقد بينت حاله في كتاب الجمعة، وأطلقت في الحديث على انخرام قرن الصحابة ففي صحيح مسلم عن عائشة "كان الأعراب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال: إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم" وعنده من حديث أنس نحوه، وأطلقت أيضا على موت الإنسان الواحد. قوله: "كهاتين" كذا وقع عند الكشميهني في حديث سهل، ولغيره: "كهاتين هكذا" وكذا وقع في رواية سفيان لكن بلفظ: "كهذه من هذه، أو كهاتين" وفي رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم عند مسلم: "بعثت أنا والساعة هكذا" وفي رواية فضيل بن سليمان "قال بأصبعيه هكذا". قوله: "ويشير بإصبعيه فيمدهما" في رواية سفيان "وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى" وفي رواية فضيل بن سليمان ويعقوب "بالوسطي والتي تلي الإبهام" وللإسماعيلي من رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه "وجمع بين إصبعيه وفرق بينهما شيئا" وفي رواية أبي ضمرة عن أبي حازم عند ابن جرير "وضم بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام وقال: وما مثلي الساعة إلا كفرسي رهان" ونحوه في حديث بريدة بلفظ: "بعثت أنا والساعة، إن كادت لتسبقني" أخرجه أحمد والطبري وسنده حسن، وفي حديث المستورد بن شداد "بعثت في نفس الساعة سبقها كما سبقت هذه لهذه، لإصبعيه السبابة والوسطى" أخرجه الترمذي والطبري. وقوله: "في نفس" بفتح الفاء وهو كناية عن القرب أي بعثت عند تنفسها، ومثله في حديث أبي جبيرة - بفتح الجيم كسر الموحدة: الأنصاري عن أشياخ من الأنصار أخرجه الطبري، وأخرجه أيضا عن أبي جبيرة مرفوعا بغير واسطة بلفظ أخر سأنبه

(11/348)


عليه. قوله في حديث أنس "وأبي التياح" بفتح المثناة وتشديد التحتانية وآخره مهملة اسمه يزيد بن حميد، ووقع عند مسلم في رواية خالد بن الحارث عن شعبة "سمعت قتادة وأبا التياح يحدثان أنهما سمعا أنسا" فذكره وزاد في آخره: "هكذا وقرن شعبة المسبحة والوسطى" وأخرجه من طريق ابن عدي عن شعبة عن حمزة الضبي وأبي التياح مثله، وليس هذا اختلافا على شعبة بل كان سمعه من ثلاثة فكان يحدث به تارة عن الجميع وتارة عن البعض، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن شعبة فجمع الثلاثة، ووقع لمسلم من طريق غندر عن شعبة عن قتادة "حدثنا أنس" كراوية البخاري وزاد: "قال شعبة وسمعت قتادة يقول في قصصه كفضل إحداهما على الأخرى" فلا أدري أذكره عن أنس أو قاله قتادة أي من قبل نفسه، وأخرجه الطبري من هذا الوجه بلفظ: "فلا أدري أذكره عن أنس أو قاله هو" وزاد في رواية عاصم بن على "هكذا وأشار بأصبعيه الوسطى والسبابة قال" وكان يقول يغني قتادة كفضل إحداهما على الأخرى". قلت: ولم أرها في شيء من الطرق عن أنس، وقد أخرجه مسلم من طريق معبد وهو ابن هلال والطبري من طريق إسماعيل بن عبيد الله كلاهما عن أنس وليس ذلك فيه، نعم وجدت هذه الزيادة مرفوعة في حديث أبي جبيرة بن الضحاك عند الطبري. قوله في حديث أبي هريرة "حدثني يحيى بن يوسف" في رواية أبي ذر "حدثنا". قوله: "حدثنا أبو بكر" في رواية غير أبي ذر "أخبرنا أبو بكر وهو ابن عياش". قوله: "عن أبي حصين" في رواية ابن ماجه: "حدثنا أبو حصين" بفتح المهملة أوله، وأبو صالح هو ذكوان، والإسناد كله كوفيون. قوله: "كهاتين يعني أصبعين" كذا في الأصل، ووقع عند ابن ماجه عن هناد بن السري عن أبي بكر بن عياش "وجمع بين أصبعيه" وأخرجه الطبري عن هناد بلفظ: "وأشار بالسبابة والوسطى" بدل قوله: "يعني أصبعين" وقد أخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن هناد "بلفظ كهذه من هذه يعني أصبعيه"، وله من رواية أبي طالب عن الدوري "وأشار أبو بكر بأصبعيه السبابة والتي تليها" وهذا يدل على أن في رواية الطبري إدراجا، وهذه الزيادة ثابتة في المرفوع لكن من حديث أبي هريرة كما تقدم، وقد أخرجه الطبري من حديث جابر ابن سمرة "كأني أنظر إلى أصبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار بالمسبحة والتي تليها وهو يقول: بعثت أنا والساعة كهذه من هذه "وجمع رواية له عنه" وجمع بين أصبعيه السبابة والوسطى، والمراد بالسبابة وهي بفتح المهملة وتشديد الموحدة الأصبع التي بين الإبهام والوسطى وهي المراد بالمسبحة سميت مسبحة لأنها يشار بها عند التسبيح وتحرك في التشهد عند التهليل إشارة إلى التوحيد، وسميت سبابة لأنهم كانوا إذا تسابوا أشاروا بها. قوله: "تابعه إسرائيل" يعني ابن يونس بن أبي إسحاق "عن أبي حصين" يعني بالسند والمتن، وقد وصله الإسماعيلي من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بسنده قال مثل رواية هناد عن أبي بكر بن عياش، قال الإسماعيلي: وقد تابعهما قيس بن الربيع عن أبي حصين، قال عياض وغيره: أشار بهذا الحديث على اختلاف ألفاظه إلى قلة المدة بينه وبين الساعة، والتفاوت إما في المجاورة وإما في قدر ما بينهما، ويعضده قوله: "كفضل أحدهما على الأخرى" وقال بعضهم: هذا الذي يتجه أن يقال، ولو كان المراد الأول لقامت الساعة لاتصال إحدى الأصبعين بالأخرى قال ابن التين: اختلف في معنى قوله: "كهاتين" فقيل كما بين السبابة والوسطى في الطول، وقيل المعنى ليس بينه وبينها نبي. وقال القرطبي في "المفهم" حاصل الحديث تقريب أمر الساعة وسرعة مجيئها، قال وعلى رواية النصب يكون التشبيه وقع بالانضمام، وعلى الرفع وقع بالتفاوت. وقال البيضاوي: معناه أن نسبة تقدم البعثة

(11/349)


النبوية على قيام الساعة كنسبة فضل إحدى الأصبعين على الأخرى، وقيل المراد استمرار دعوته لا تفترق إحداهما عن الأخرى، كما أن الأصبعين لا تفترق إحداهما عن الأخرى. ورجح الطيبي قول البيضاوي بزيادة المستورد فيه. وقال القرطبي في "التذكرة": معنى هذا الحديث تقريب أمر الساعة. ولا منافاة بينه وبين قوله في الحديث الآخر "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" فإن المراد بحديث الباب أنه ليس بينه وبين الساعة نبي كما ليس بين السبابة والوسطى أصبع أخرى، ولا يلزم من ذلك علم وقتها بعينه لكن سياقه يفيد قربها وأن أشراطها متتابعة كما قال تعالى {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} قال الضحاك: أول أشراطها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين وحثهم على التوبة والاستعداد. وقال الكرماني: قيل معناه الإشارة إلى قرب المجاورة، وقيل إلى تفاوت ما بينهما طولا، وعلى هذا فالنظر في القول الأول إلى العرض، وقيل المراد ليس بينهما واسطة، ولا معارضة بين هذا وبين قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ونحو ذلك لأن علم قربها لا يستلزم علم وقت مجيئها معينا، وقيل معنى الحديث أنه ليس بيني وبين القيامة شيء، هي التي تليني كما تلي السبابة الوسطى، وعلى هذا فلا تنافي بين ما دل عليه الحديث وبين قوله تعالى عن الساعة {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} وقال عياض: حاول بعضهم في تأويله أن نسبة ما بين الأصبعين كنسبة ما بقي من الدنيا بالنسبة إلى ما مضى وأن جملتها سبعة آلاف سنة، واستند إلى أخبار لا تصح. وذكر ما أخرجه أبو داود في تأخير هذه الأمة نصف يوم وفسره بخمسمائة سنة، فيؤخذ من ذلك أن الذي يقي نصف سبع وهو قريب مما بين السبابة والوسطى في الطول، قال: وقد ظهر عدم صحة ذلك لوقوع خلافه ومجاوزة هذا المقدار ولو كان ذلك ثابتا لم يقع خلافه. قلت: وقد انضاف إلى ذلك منذ عهد عياض إلى هذا الحين ثلاثمائة سنة. وقال ابن العربي: قيل الوسطى تزيد على السبابة نصف سبعها، وكذلك الباقي الدنيا من البعثة إلى قيام الساعة. قال: وهذا بعيد ولا يعلم مقدار الدنيا فكيف يتحصل لنا نصف سبع أمد مجهول، فالصواب الإعراض عن ذلك قلت: السابق إلى ذلك أبو جعفر بن جرير الطبري فإنه أورد في مقدمة تاريخه عن ابن عباس قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، وقد مضى ستة آلاف ومائة سنة، وأورده من طريق يحيى بن يعقوب عن حماد بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عنه. ويحيى هو أبو طالب القاص الأنصاري، قال البخاري: منكر الحديث، وشيخه هو فقيه الكوفة وفيه مقال. ثم أورد الطبري عن كعب الأحبار قال: الدنيا ستة آلاف سنة. وعن وهب بن منبه مثله وزاد أن الذي مضى منها خمسة آلاف وستمائة سنة، ثم زيفهما ورجح ما جاء عن ابن عباس. ثم أورد حديث ابن عمر الذي في الصحيحين مرفوعا: "ما أجلكم في أجل من كان قبلكم إلا من صلاة العصر إلى مغرب الشمس" ومن طريق مغيرة بن حكيم عن ابن عمر بلفظ: "ما بقي لأمتي من الدنيا إلا كمقدار إذا صليت العصر "ومن طريق مجاهد عن ابن عمر "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان مرتفعة بعد العصر فقال: ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من هذا النهار فيما مضى منه" وهو عند أحمد أيضا بسند حسن. ثم أورد حديث أنس "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وقد كادت الشمس تغيب" فذكر نحو الحديث الأول عن ابن عمر، ومن حديث أبي سعيد بمعناه قال عند غروب الشمس "إن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منها كبقية يومكم هذا فيما مضى منه" وحديث أبي سعيد أخرجه أيضا وفيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وحديث أنس أخرجه أيضا وفيه موسى بن خلف، ثم جمع بينهما بما حاصله أنه حمل قوله: "بعد صلاة العصر" على ما إذا صليت في

(11/350)


وسط من وقتها. قلت: وهو بعيد من لفظ أنس وأبي سعيد، وحديث ابن عمر صحيح متفق عليه فالصواب الاعتماد عليه، وله محملان أحدهما أن المراد بالتشبيه التقريب ولا يراد حقيقة المقدار فيه يجتمع مع حديث أنس وأبي سعيد على تقدير ثبوتهما، والثاني أن يحمل على ظاهره فيقدم حديث ابن عمر لصحته ويكون فيه دلالة على أن مدة هذه الأمة قدر خمس النهار تقريبا. ثم أيد الطبري كلامه بحديث الباب وبحديث أبي ثعلبه الذي أخرجه أبو داود وصححه الحاكم ولفظه: "والله لا تعجز هذه الأمة من نصف يوم" ورواته ثقات ولكن رجح البخاري وقفه، وعند أبي داود أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ: "إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم، قيل لسعد: كم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة" ورواته موثقون إلا أن فيها انقطاعا. قال الطبري: ونصف اليوم خمسمائة سنة أخذا من قوله تعالى {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} فإذا انضم إلى قول ابن عباس إن الدنيا سبعة آلاف سنة توافقت الأخبار، فيكون الماضي إلى وقت الحديث المذكور ستة آلاف سنة وخمسمائة سنة تقريبا. وقد أورد السهيلي كلام الطبري وأيده بما وقع عنده في حديث المستورد، وأكده بحديث زمل رفعه: "الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها". قلت وهذا الحديث إنما هو عن ابن زمل وسنده ضعيف جدا أخرجه ابن السكن في "الصحابة" وقال إسناده مجهول، وليس بمعروف في الصحابة، وابن قتيبة في "غريب الحديث" وذكره في الصحابة أيضا ابن منده وغيره وسماه بعضهم عبد الله وبعضهم الضحاك، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات. وقال ابن الأثير: ألفاظه مصنوعة. ثم بين السهيلي أنه ليس في حديث نصف يوم ما ينفي الزيادة على الخمسمائة، قال: وقد جاء بيان ذلك فيما رواه جعفر بن عبد الواحد بلفظ: "إن أحسنت أمتي فبقاؤها يوم من أيام الآخرة وذلك ألف سنة، وإن أساءت فنصف يوم" قال وليس في قوله: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ما يقطع به على صحة التأويل الماضي، بل قد قيل في تأويله إنه ليس بينه وبين الساعة نبي مع التقريب لمجيئها. ثم جوز أن يكون في عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر ما يوافق حديث ابن زمل، وذكر أن عدتها تسعمائة وثلاثة. قلت: وهو مبني على طريقة المغاربة في عد الحروف، وأما المشارقة فينقص العدد عندهم مائتين وعشرة فإن السين عند المغاربة بثلاثمائة والصاد بستين وأما المشارقة فالسين عندهم ستون والصاد تسعون فيكون المقدار عندهم ستمائة وثلاثة وتسعين، وقد مضت وزيادة عليها مائة وخمس وأربعون سنة، فالحمل على ذلك من هذه الحيثية باطل، وقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عد أبي جاد والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد فإنه لا أصل له في الشريعة. وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي وهو من مشايخ السهيلي في فوائد رحلته ما نصه: ومن الباطل الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصل لي فيها عشرون قولا وأزيد ولا أعرف أحدا يحكم عليها بعلم ولا يصل فيها إلى فهم إلا أني أقول. فذكر ما ملخصه أنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، بل تلا عليهم "ص" وحم وفصلت وغيرهما فلم ينكروا ذلك بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار فيه. قلت: وأما عد الحروف بخصوصه فإنما جاء عن بعض اليهود كما حكاه ابن إسحاق في السيرة النبوية عن أبي ياسر ابن أخطب وغيره أنهم حملوا الحروف التي في أوائل السور على هذا الحساب واستقصروا المدة أول ما نزل الم والر، فلما نزل بعد ذلك المص وطسم وغير ذلك قالوا ألبست علينا الأمر. وعلى تقدير أن يكون

(11/351)


ذلك مرادا فليحمل على جميع الحروف الواردة ولا يحذف المكرر، فإنه ما من حرف منها إلا وله سر يخصه، أو يقتصر على حذف المكرر من أسماء السور ولو تكررت الحروف فيها، فإن السور التي ابتدئت بذلك تسع وعشرون سورة وعدد حروف الجميع ثمانية وسبعون حرفا وهي الم ستة حم ستة الر خمسة طسم ثنتان المص المر كهيعص حمعسق طه طس يس ص ق ن، فإذا حذف ما كرر من السور وهي خمس من ألم وخمس من حم وأربع من الر وواحدة من طسم بقي أربع عشرة سورة عدد حروفها ثمانية وثلاثون حرفا فإذا حسب عددها بالجمل المغربي بلغت ألفين وستمائة وأربعة وعشرين وأما بالجمل المشرقي فتبلغ ألفا وسبعمائة وأربعة وخمسين ولم أذكر ذلك ليعتمد عليه إلا لأبين أن الذي جنح إليه السهيلي لا ينبغي الاعتماد عليه لشدة التخالف فيه، وفي الجملة فأقوى ما يعتمد في ذلك عليه حديث ابن عمر الذي أشرت إليه قبل، وقد أخرج معمر في الجامع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال معمر: وبلغني عن عكرمة في قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: الدنيا من أولها إلى آخرها يوم مقداره خمسون ألف سنة لا يدري كم مضى ولا كم بقي إلا الله تعالى، وقد حمل بعض شراح "المصابيح" حديث: "لن تعجز هذه الأمة أن يؤخرها نصف يوم" على حال يوم القيامة وزيفه الطيبي فأصاب، وأما زيادة جعفر فهي موضوعة لأنها لا تعرف إلا من جهته وهو مشهور بوضع الحديث وقد كذبه الأئمة مع أنه لم يسق سنده بذلك، فالعجب من السهيلي كيف سكت عنه مع معرفته بحاله. والله المستعان.

(11/352)


من مغربها وخروج الدابة والنار التي تحشر الناس وحديث الباب يؤذن بذلك لأنه جعل في طلوعها من المغرب غاية لعدم قيام الساعة فيقتضي أنها إذا طلعت كذلك انتفى عدم القيام فثبت القيام.قوله: "فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون" وقع في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة في التفسير "فإذا رآها الناس آمن من عليها" أي على الأرض من الناس. قوله: "فذاك" في رواية الكشميهني: "فذلك" وكذا هو في رواية أبي زرعة ووقع في رواية همام عن أبي هريرة في التفسير أيضا: "وذلك" بالواو. قوله: "حين لا ينفع نفسا إيمانها الآية" كذا هنا وفي رواية أبي زرعة "إيمانها لم تكن آمنت من قبل" وفي رواية همام "إيمانها ثم قرأ الآية" قال الطبري: معنى الآية لا ينفع كافرا لم يكن آمن قبل الطلوع إيمان بعد الطلوع ولا ينفع مؤمنا لم يكن عمل صالحا قبل الطلوع عمل صالح بعد الطلوع لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة وذلك لا يفيد شيئا كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} وكما ثبت في الحديث الصحيح "تقبل توبة العبد ما لم يبلغ الغرغرة" وقال ابن عطية: في هذا الحديث دليل على أن المراد بالبعض في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} طلوع الشمس من المغرب وإلى ذلك ذهب الجمهور وأسند الطبري عن ابن مسعود أن المراد بالبعض إحدى ثلاث هذه أو خروج الدابة أو الدجال قال: وفيه نظر لأن نزول عيسى بن مريم يعقب خروج الدجال وعيسى لا يقبل إلا الإيمان فانتفى أن يكون بخروج الدجال لا يقبل الإيمان ولا التوبة. قلت: ثبت في صحيح مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة رفعه: "ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض" قيل فلعل حصول ذلك يكون متتابعا بحيث تبقى النسبة إلى الأول منها مجازية وهذا بعيد لأن مدة لبث الدجال إلى أن يقتله عيسى ثم لبس عيسى وخروج يأجوج ومأجوج كل ذلك سابق على طلوع الشمس من المغرب فالذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي وينتهي ذلك بقيام الساعة ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب. وقد أخرج مسلم أيضا من طريق أبي زرعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه: "أول الآيات طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى فأيهما خرجت قبل الأخرى فالأخرى منها قريب" وفي الحديث قصة لمروان بن الحكم وأنه كان يقول: أول الآيات خروج الدجال فأنكر عليه عبد الله بن عمرو. قلت: ولكلام مروان محمل يعرف مما ذكرته. قال الحاكم أبو عبد الله: الذي يظهر أن طلوع الشمس يسبق خروج الدابة ثم تخرج الدابة في ذلك اليوم أو الذي يقرب منه. قلت: والحكمة في ذلك أن عند طلوع الشمس من المغرب يغلق باب التوبة فتخرج الدابة تميز المؤمن من الكافر تكميلا للمقصود من إغلاق باب التوبة وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس كما تقدم في حديث أنس في بدء الخلق في مسائل عبد الله بن سلام ففيه: "وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب" وسيأتي فيه زيادة في "باب كيف الحشر" قال ابن عطية وغيره ما حاصله: معنى الآية أن الكافر لا ينفعه إيمانه بعد طلوع الشمس من المغرب وكذلك العاصي لا تنفعه توبته ومن لم يعمل صالحا من قبل ولو كان مؤمنا لا ينفعه العمل بعد طلوعها من المغرب. وقال القاضي عياض: المعنى لا تنفع توبة بعد ذلك بل يختم على عمل كل أحد بالحالة التي هو عليها

(11/353)


والحكمة في ذلك أن هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلوي فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة وارتفع الإيمان بالغيب فهو كالإيمان عند الغرغرة وهو لا ينفع فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله. وقال القرطبي في "التذكرة" بعد أن ذكر هذا: فعلى هذا فتوبة من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد له مردودة فلو امتدت أيام الدنيا بعد ذلك إلى أن ينسى هذا الأمر أو ينقطع تواتره ويصير الخبر عنه آحادا فمن أسلم حينئذ أو تاب قبل منه. وأيد ذلك بأنه روى أن الشمس والقمر يكسيان الضوء بعد ذلك ويطلعان ويغربان من المشرق كما كانا قبل ذلك. قال وذكر أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن عمران بن حصين قال: إنما لا يقبل الإيمان والتوبة وقت الطلوع لأنه يكون حينئذ صيحة فيهلك بها كثير من الناس فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت لم تقبل توبته ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته. قال وذكر الميانشي عن عبد الله بن عمرو رفعه قال: تبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة. قلت: رفع هذا لا يثبت. وقد أخرجه عبد ابن حميد في تفسيره بسند جيد عن عبد الله بن عمرو موقوفا وقد ورد عنه ما يعارضه فأخرج أحمد ونعيم بن حماد من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو رفعه: الآيات خرزات منظومات في سلك إذا انقطع السلك تبع بعضها بعضا. وأخرج الطبراني من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو رفعه: إذا طلع الشمس من مغربها خر إبليس ساجدا ينادي إلهي مرني أن أسجد لمن شئت الحديث. وأخرج نعيم نحوه عن أبي هريرة والحسن وقتادة بأسانيد مختلفة. وعند ابن عساكر من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رفعه: بين يدي الساعة عشر آيات كالنظم في الخيط إذا سقط منها واحده توالت. وعن أبي العالية بين أول الآيات وآخرها ستة أشهر يتتابعن كتتابع الخرزات في النظام. ويمكن الجواب عن حديث عبد الله بن عمرو بأن المدة ولو كانت كما قال عشرين ومائة سنة لكنها تمر مرورا سريعا كمقدار مرور عشرين ومائة شهر من قبل ذلك أو دون ذلك كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رفعه: "لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر" الحديث وفيه: "واليوم كاحتراق السعفة" وأما حديث عمران فلا أصل له وقد سبقه إلى هذا الاحتمال البيهقي في "البعث والنشور" فقال في "باب خروج يأجوج ومأجوج" فصل ذكر الحليمي أن أول الآيات الدجال ثم نزول عيسى لأن طلوع الشمس من المغرب لو كان قبل نزول عيسى لم ينفع الكفار إيمانهم في زمانه ولكنه ينفعهم إذ لو لم ينفعهم لما صار الدين واحدا بإسلام من أسلم منهم. قال البيهقي: وهو كلام صحيح لو لم يعارض الحديث الصحيح المذكور أن "أول الآيات طلوع الشمس من المغرب" وفي حديث عبد الله بن عمرو طلوع الشمس أو خروج الدابة وفي حديث أبي حازم عن أبي هريرة الجزم بهما وبالدجال في عدم نفع الإيمان. قال البيهقي: إن كان في علم الله أن طلوع الشمس سابق احتمل أن يكون المراد نفي النفع عن أنفس القرن الذين شاهدوا ذلك فإذا انقرضوا وتطاول الزمان وعاد بعضهم إلى الكفر عاد تكليفه الإيمان بالغيب وكذا في قصة الدجال لا ينفع إيمان من آمن بعيسى عند مشاهدة الدجال وينفعه بعد انقراضه. وإن كان في علم الله طلوع الشمس بعد نزول عيسى احتمل أن يكون المراد بالآيات في حديث عبد الله بن عمرو آيات أخرى غير الدجال ونزول عيسى إذ ليس في الخبر نص على أنه يتقدم عيسى. قلت: وهذا الثاني هو المعتمد والأخبار الصحيحة تخالفه ففي صحيح مسلم من رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة رفعه: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه" فمفهومه أن من تاب بعد ذلك لم تقبل. ولأبي داود والنسائي من حديث معاوية رفعه: "لا تزال تقبل التوبة حتى

(11/354)


يطلع الشمس من مغربها" وسنده جيد. وللطبراني عن عبد الله بن سلام نحوه. وأخرج أحمد والطبري والطبراني من طريق مالك بن يخامر بضم التحتانية بعدها خاء معجمة وبكسر الميم وعن معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو رفعوه "لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع الله على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل" وأخرج أحمد والدارمي وعبد بن حميد في تفسيره كلهم من طريق أبي هند عن معاوية رفعه: "لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" وأخرج الطبري بسند جيد من طريق أبي الشعثاء عن ابن مسعود موقوفا "التوبة مفروضة ما لم تطلع الشمس من مغربها" وفي حديث صفوان بن عسال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة مسيرة سبعين سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه" أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان. وفي حديث ابن عباس نحوه عند ابن مردويه وفيه: "فإذا طلعت الشمس من مغربها رد المصراعان فليتئم ما بينهما فإذا أغلق ذلك الباب لم تقبل بعد ذلك توبة ولا تنفع حسنة إلا من كان يعمل الخير قبل ذلك فإنه يجري لهم ما كان قبل ذلك" وفيه: "فقال أبي بن كعب: فكيف بالشمس والناس بعد ذلك؟ قال: تكسي الشمس الضوء وتطلع كما كانت تطلع وتقبل الناس على الدنيا فلو نتج رجل مهرا لم يركبه حتى تقوم الساعة" وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند نعيم ابن حماد في كتاب الفتن وعبد الرزاق في تفسيره عن وهب بن جابر الخيواني بالخاء المعجمة قال: "كنا عند عبد الله بن عمرو فذكر قصة قال ثم أنشأ يحدثنا قال: إن الشمس إذا غربت سلمت وسجدت واستأذنت في الطلوع فيؤذن لها حتى إذا كان ذات ليلة فلا يؤذن لها وتحبس ما شاء الله تعالى ثم يقال لها: اطلعي من حيث غربت قال فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل. وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن عبد الرزاق كذلك ومن طريق أخرى وزاد فيها قصة المتهجدين وأنهم هم الذين يستنكرون بطء طلوع الشمس. وأخرج أيضا من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: "تأتي ليلة قدر ثلاث ليال لا يعرفها إلا المتهجدون يقوم فيقرأ حزبه ثم ينام ثم يقوم فيقرأ ثم ينام ثم يقوم فعندها يموج الناس بعضهم في بعض حتى إذا صلوا الفجر وجلسوا فإذا هم بالشمس قد طلعت من مغربها فيضج الناس ضجة واحدة حتى إذا توسطت السماء رجعت" وعند البيهقي في "البعث والنشور" من حديث ابن مسعود نحوه "فينادي الرجل جاره يا فلان ما شأن الليلة لقد نمت حتى شبعت وصليت حتى أعييت" وعند نعيم بن حماد من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو قال: "لا يلبثون بعد يأجوج ومأجوج إلا قليلا حتى تطلع الشمس من مغربها فيناديهم مناد: يا أيها الذين آمنوا قد قبل منكم ويا أيها الذين كفروا قد أغلق عنكم باب التوبة وجفت الأقلام وطويت الصحف" ومن طريق يزيد بن شريح وكثير بن مرة "إذا طلعت الشمس من المغرب يطبع على القلوب بما فيها وترتفع الحفظة وتؤمر الملائكة أن لا يكتبوا عملا" وأخرج عبد بن حميد والطبري بسند صحيح من طريق عامر الشعبي عن عائشة "إذا خرجت أول الآيات طرحت الأقلام وطويت الصحف وخلصت الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال" وهو وإن كان موقوفا فحكمه الرفع. ومن طريق العوفي عن ابن عباس نحوه ومن طريق ابن مسعود قال: "الآية التي يختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها" فهذه آثار يشد بعضها بعضا متفقة على أن الشمس إذا طلعت من المغرب أغلق باب التوبة ولم يفتح بعد ذلك وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع بل يمتد إلى يوم القيامة ويؤخذ منها أن طلوع الشمس من مغربها أول الإنذار بقيام الساعة وفي ذلك رد ==

  كتاب :37- فتح الباري  أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

---------

 ==على أصحاب الهيئة ومن وافقهم أن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا يختلف مقتضياتها ولا يتطرق إليها تغيير ما هي عليه قال الكرماني: وقواعدهم منقوضة ومقدماتهم ممنوعة وعلى تقدير تسليمها فلا امتناع من انطباق منطقة البروج التي هي معدل النهار بحيث يصير المشرق مغربا وبالعكس. واستدل صاحب "الكشاف" بهذه الآية للمعتزلة فقال: قوله: "لم تكن آمنت من قبل" صفة لقوله: "نفسا" وقوله: "أو كسبت في إيمانها خيرا" عطف على "آمنت" المعنى أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة للإيمان ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان حينئذ من غير مقدمة إيمانها قبل ظهور الآيات أو مقدمة إيمانها من غير تقديم عمل صالح فلم يفرق كما ترى بين النفس. الكافرة وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكتسب خيرا ليعلم أن قوله: "الذين آمنوا عملوا الصالحات" جمع بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى حتى يفوز صاحبها ويسعد وإلا فالشقوة والهلاك. قال الشهاب السمين: قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية أنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفسا كافرة إيمانها الذي أوقعته إذ ذاك ولا ينفع نفسا سبق إيمانها ولم تكسب فيه خيرا فقد علق نفي نفع الإيمان بأحد وصفين: إما نفي سبق الإيمان فقط وإما سبقه مع نفي كسب الخير ومفهومه أنه ينفع الإيمان السابق وحده وكذا السابق ومعه الخير ومفهوم الصفة قوي فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة ويكون فيه قلب دليل المعتزلة دليلا عليهم. وأجاب ابن المنير في "الانتصاف" فقال: هذا الكلام من البلاغة يلقب اللف وأصله يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد ولا نفسا لم تكسب خيرا قبل ما تكتسبه من الخير بعد فلف الكلامين فجعلهما كلاما واحدا إيجازا وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحق فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود فهي بالرد على مذهبه أولى من أن تدل له. وقال ابن الحاجب في أماليه: الإيمان قبل مجيء الآية نافع ولو لم يكن عمل صالح غيره ومعنى الآية لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح لم يكن الإيمان قبل الآية أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها فاختصر للعلم ونقل الطيبي كلام الأئمة في ذلك ثم قال: المعتمد ما قال ابن المنير وابن الحاجب وبسطه أن الله تعالى لما خاطب المعاندين يقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} الآية علل الإنزال بقوله: "أن تقولوا إنما أنزل الكتاب" إلخ إزالة للعذر وإلزاما للحجة وعقبه بقوله: "فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة" تبكيتا لهم وتقريرا لما سبق من طلب الاتباع ثم قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ} الآية. أي أنه أنزل هذا الكتاب المنير كاشفا لكل ريب وهاديا إلى الطريق المستقيم ورحمة من الله للخلق ليجعلوه زادا لمعادهم فيما يقدمونه من الإيمان والعمل الصالح فجعلوا شكر النعمة أن كذبوا بها ومنعوا من الانتفاع بها ثم قال: "هل ينظرون" الآية أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا بنزول الملائكة بالعقاب الذي يستأصل شأفتهم كما جرى لمن مضى من الأمم قبلهم أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة فلا ينفعهم شيء مما كان ينفعهم من قبل من الإيمان وكذا العمل الصالح مع الإيمان فكأنه قيل يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ إذا لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا من قبل ففي الآية لف لكن حذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر ونظيره قوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} قال: فهذا: الذي عناه ابن المنير بقوله إن هذا الكلام في البلاغة يقال له اللف والمعنى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع

(11/356)


نفسا لم تكن مؤمنة من قبل ذلك إيمانها من بعد ذلك ولا ينفع نفسها كانت مؤمنة لكن لم تعمل في إيمانها عملا صالحا قبل ذلك ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك قال: وبهذا التقرير يظهر مذهب أهل السنة فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتساب الخير أي لإغلاق باب التوبة ورفع الصحف والحفظة وإن كان ما سبق قبل ظهور الآية من الإيمان ينفع صاحبه في الجملة. ثم قال الطيبي: وقد ظفرت بفضل الله بعد هدا التقرير على آية أخرى تشبه هذه الآية وتناسب هذا التقرير معنى ولفظا من غير إفراط ولا تفريط وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية فإنهآ يظهر منه أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع الساعة نافع وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع وأما بعد حصولها فلا ينفع شيء أصلا والله أعلم. انتهى ملخصا. قوله: "ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته" بكسر اللام وسكون القاف بعدها مهملة هي ذات الدر من النوق. قوله: "يليط حوضه" بضم أوله ويقال ألاط حوضه إذا مدره أي جمع حجارة فصيرها كالحوض ثم سد ما بينها من الفرج بالمدر ونحوه لينحبس الماء؛ هذا أصله وقد يكون للحوض خروق فيسدها بالمدر قبل أن يملأه وفي كل ذلك إشارة إلى أن القيامة تقوم بغتة كما قال تعالى: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} .

(11/357)


41 - باب مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ
6507- حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ "عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ قَالَ لَيْسَ ذَاكِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ"
اخْتَصَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَعَمْرٌو عَنْ شُعْبَةَ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6508- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ"
6509- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ "أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ

(11/357)


سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى" قُلْتُ إِذًا لاَ يَخْتَارُنَا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ قَالَتْ فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى"
قوله: "باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" هكذا ترجم بالشق الأول من الحديث الأول إشارة إلى بقيته على طريق الاكتفاء قال العلماء: محبة الله لعبده إرادته الخير له وهدايته إليه وإنعامه عليه وكراهته له على الضد من ذلك. قوله: "حدثنا حجاج" هو ابن المنهال البصري وهو من كبار شيوخ البخاري وقد روي عن همام أيضا حجاج بن محمد المصيصي لكن لم يدركه البخاري. قوله: "عن قتادة" لهمام فيه إسناد آخر أخرجه أحمد عن عفان عن همام عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى "حدثني فلان ابن فلان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث بطوله بمعناه وسنده قوي وإبهام الصحابي لا يضر وليس ذلك اختلافا على همام فقد أخرجه أحمد عن عفان عن همام عن قتادة. قوله: "عن أنس" في رواية شعبة عن قتادة "سمعت أنسا" وسيأتي بيانه في الرواية المعلقة. قوله: "عن عبادة بن الصامت" قد رواه حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة أخرجه أحمد والنسائي والبزار من طريقه. وذكر البزار أنه تفرد به فإن أراد مطلقا وردت عليه رواية قتادة وإن أرد بقيد كونه جعله من مسند أنس سلم. قوله: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" قال الكرماني: ليس الشرط سببا للجزاء بل الأمر بالعكس ولكنه على تأويل الخبر أي من أحب لقاء الله أخبره بأن أحب لقاءه وكذا الكراهة وقال غيره فيما نقله ابن عبد البر وغيره: "من" هنا خبرية وليست شرطية فليس معناه أن سبب حب الله لقاء العبد حب العبد لقاءه ولا الكراهة ولكنه صفة حال الطائفتين في أنفسهم عند ربهم والتقدير من أحب لقاء الله فهو الذي أحب الله لقاءه وكذا الكراهة. قلت: ولا حاجة إلى دعوى نفي الشرطية فسيأتي في التوحيد من حديث أبي هريرة رفعه: "قال الله عز وجل إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه" الحديث فيعين أن "من" في حديث الباب شرطية وتأويلها ما سبق وفي قوله: "أحب الله لقاءه" العدول عن الضمير إلى الظاهر تفخيما وتعظيما ودفعا لتوهم عود الضمير على الموصول لئلا يتحد في الصورة المبتدأ والخبر ففيه إصلاح اللفظ لتصحيح المعنى وأيضا فعود الضمير على المصاف إليه قليل. وقرأت بخط ابن الصائغ في "شرح المشارق" يحتمل أن يكون لقاء الله مضافا للمفعول فأقامه مقام الفاعل ولقاءه إما مضاف للمفعول أو للفاعل الضمير أو للموصول لأن الجواب إذا كان شرطا فالأولى أن يكون فيه ضمير نعم هو موجود هنا ولكن تقديرا. قوله: "ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" قال المازري: من قضى الله بموته لا بد أن يموت وإن كان كارها للقاء الله ولو كره الله موته لما مات فيحمل الحديث على كراهته سبحانه وتعالى الغفران له وإرادته لإبعاده من رحمته. قلت: ولا اختصاص لهذا البحث بهذا الشق فإنه يأتي مثله في الشق الأول كأن يقال مثلا من قضى الله بامتداد حياته لا يموت ولو كان محبا للموت إلخ. قوله: "قالت عائشة أو بعض أزواجه" كذا في هذه الرواية بالشك وجزم سعد بن هشام في روايته عن عائشة بأنها هي التي قالت ذلك ولم يتردد وهذه الزيادة في هذا الحديث لا تظهر صريحا هل هي من كلام عبادة والمعنى أنه سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وسمع مراجعة عائشة أو من كلام أنس بأن يكون حضر ذلك فقد وقع في رواية حميد التي أشرت إليها بلفظ: "فقلنا يا رسول الله" فيكون أسند القول إلى جماعة وإن كان المباشر له واحدا وهي عائشة

(11/358)


وكذا وقع في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى التي أشرت إليها وفيها "فأكب القوم يبكون وقالوا: إنا نكره الموت قال: ليس ذلك" ولابن أبي شيبة من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة نحو حديث الباب وفيه: "قيل يا رسول الله ما منا من أحد إلا وهو يكره الموت فقال: إذا كان ذلك كشف له" ويحتمل أيضا أن يكون من كلام قتادة أرسله في رواية همام ووصله في رواية سعيد بن أبي عروبة عنه عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة فيكون في رواية همام إدراج وهذا أرجح في نظري فقد أخرجه مسلم عن هداب بن خالد عن همام مقتصرا على أصل الحديث دون قوله: "فقالت عائشة إلخ" ثم أخرجه من رواية سعيد بن أبي عروبة موصولا تاما وكذا أخرجه هو وأحمد من رواية شعبة والنسائي من رواية سليمان التيمي كلاهما عن قتادة وكذا جاء عن أبي هريرة وغير واحد من الصحابة بدون المراجعة وقد أخرجه الحسن بن سفيان وأبو يعلى جميعا عن هدبة بن خالد عن همام تاما كما أخرجه البخاري عن حجاج عن همام وهدبة هو هداب شيخ مسلم فكأن مسلما حذف الزيادة عمدا لكونها مرسلة من هذا الوجه واكتفى بإيرادها موصولة من طريق سعيد بن أبي عروبة وقد رمز البخاري إلى ذلك حيث علق رواية شعبة بقوله اختصره إلخ وكذا أشار إلى رواية سعيد تعليقا وهذا من العلل الخفية جدا. قوله: "إنا لنكره الموت" في رواية سعد بن هشام "فقالت يا نبي الله أكراهة الموت؟ فكلنا نكره الموت". قوله: "بشر برضوان الله وكرامته" في رواية سعد بن هشام "بشر برحمة الله ورضوانه وجنته" وفي حديث حميد عن أنس "ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله وليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه" وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى "ولكنه إذا حضر فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله والله للقائه أحب". قوله: "فليس شيء أحب إليه مما أمامه" بفتح الهمزة أي ما يستقبله بعد الموت وقد وقعت هذه المراجعة من عائشة لبعض التابعين فأخرج مسلم والنسائي من طريق شريح بن هانئ قال سمعت أبا هريرة فذكر أصل الحديث قال: "فأتيت عائشة فقلت سمعت حديثا إن كان كذلك فقد هلكنا" فذكره قال: "وليس منا أحد إلا وهو يكره الموت فقالت: ليس بالذي تذهب إليه ولكن إذا شخص البصر - بفتح الشين والخاء المعجمتين وآخره مهملة أي فتح المحتضر عينيه إلى فوق فلم يطرف - وحشرج الصدر - بحاء مهملة مفتوحة بعدها معجمة وآخره جيم أي ترددت الروح في الصدر - واقشعر الجلد وتشنجت" بالشين المعجمة والنون الثقيلة والجيم أي تقبضت وهذه الأمور هي حالة المحتضر وكأن عائشة أخذته من معنى الخبر الذي رواه عنها سعد بن هشام مرفوعا وأخرجه مسلم والنسائي أيضا عن شريح بن هانئ عن عائشة مثل روايته عن أبي هريرة وزاد في آخره: "والموت دون لقاء الله" وهذه الزيادة من كلام عائشة فيما يظهر لي ذكرتها استنباطا مما تقدم وعند عبد بن حميد من وجه آخر عن عائشة مرفوعا: "إذا أراد الله بعبد خيرا قيض له قبل موته بعام ملكا يسده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرا قيض له قبل موته بعام شيطانا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه. فإذا حضر ورأى ما أعد له من العذاب جزعت نفسه فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه" قال الخطابي: تضمن حديث الباب من التفسير ما فيه غنية عن غيره واللقاء يقع على أوجه: منها المعاينة ومنها البعث كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} ومنها الموت كقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ

(11/359)


لَآتٍ} وقوله: "قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم" وقال ابن الأثير في النهاية: المراد بلقاء الله هنا المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله لأنه إنما يصل إليه بالموت. وقول عائشة والموت دون لقاء الله يبين أن الموت غير اللقاء ولكنه معترض دون الغرض المطلوب فيجب أن يصبر عليه ويحتمل مشاقه حتى يصل إلى الفوز باللقاء. قال الطيبي: يريد أن قول عائشة إنا لنكره الموت يوهم أن المراد بلقاء الله في الحديث الموت وليس كذلك لأن لقاء الله غير الموت بدليل قوله في الرواية الأخرى "والموت دون لقاء الله" لكن لما كان الموت وسيلة إلى لقاء الله عبر عنه بلقاء الله وقد سبق ابن الأثير إلى تأويل لقاء الله بغير الموت الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام فقال: ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة. قال: ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوما بحب الحياة فقال: "إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها" وقال الخطابي: معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا فلا يحب استمرار الإقامة فيها بل يستعد للارتحال عنها والكراهة بضد ذلك وقال النووي: معنى الحديث أن المحبة والكراهة التي تعتبر شرعا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة حيث يكشف الحال للمحتضر ويظهر له ما هو صائر إليه. قوله: "بشر بعذاب الله وعقوبته" في رواية سعد بن هشام "بشر بعذاب الله وسخطه" وفي رواية حميد عن أنس "وإن الكافر أو الفاجر إذا جاءه ما هو صائر إليه من السوء أو ما يلقى من الشر إلخ" وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى نحو ما مضى. قوله: "اختصره أبو داود وعمرو عن شعبة" يعني عن قتادة عن أنس عن عبادة ومعنى اختصاره أنه اقتصر على أصل الحديث دون قوله: "فقالت عائشة إلخ" فأما رواية أبي داود وهو الطيالسي فوصلها الترمذي عن محمود بن غيلان عن أبي داود وكذا وقع لنا بعلو في مسند أبي داود الطيالسي وأما رواية عمرو وهو ابن مرزوق فوصلها الطبراني في "المعجم الكبير" عن أبي مسلم الكجي ويوسف بن يعقوب القاضي كلاهما عن عمرو بن مرزوق وكذا أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر عن شعبة وهو عند مسلم من رواية محمد بن جعفر وهو غندر. قوله: "وقال سعيد عن قتادة إلخ" وصله مسلم من طريق خالد بن الحارث ومحمد بن بكر كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة كما تقدم بيانه وكذا أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من رواية سعيد بن أبي عروبة ووقع لنا بعلو في "كتاب البعث" لابن أبي داود.وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم البداءة بأهل الخير في الذكر لشرفهم وإن كان هل الشر أكثر وفيه أن المجازاة من جنس العمل فإنه قابل المحبة بالمحبة والكراهة بالكراهة وفيه أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة وفيه نظر فإن اللقاء أعم من الرؤية ويحتمل على بعد أن يكون في قوله: "لقاء الله" حذف تقديره لقاء ثواب الله ونحو ذلك ووجه البعد فيه الإتيان بمقابله لأن أحدا من العقلاء لا يكره لقاء ثواب الله بل كل من يكره الموت إنما يكرهه خشية أن لا يلقى ثواب الله إما لإبطائه عن دخول الجنة بالشغل بالتبعات وإما لعدم دخولها أصلا كالكافر. وفيه أن المحتضر إذا ظهرت عليه علامات السرور كان ذلك دليلا على أنه بشر بالخير وكذا بالعكس. وفيه أن محبة لقاء الله لا تدخل في النهي عن تمني الموت لأنها ممكنة مع عدم تمني الموت كأن تكون المحبة حاصلة لا يفترق حاله فيها بحصول الموت ولا بتأخره وأن النهي عن تمني الموت محمول على حالة الحياة المستمرة

(11/360)


وأما عند الاحتضار والمعاينة فلا تدخل تحت النهي بل هي مستحبة. وفيه أن في كراهة الموت في حال الصحة تفصيلا فمن كرهه إيثارا للحياة على ما بعد الموت من نعيم الآخرة كان مذموما ومن كرهه خشية أن يفضي إلى المؤاخذة كأن يكون مقصرا في العمل لم يستعد له بالأهبة بأن يتخلص من التبعات ويقوم بأمر الله كما يجب فهو معذور لكن ينبغي لمن وجد ذلك أن يبادر إلى أخذ الأهبة حتى إذا حضره الموت لا يكرهه بل يحبه لما يرجو بعده من لقاء الله تعالى. وفيه أن الله تعالى لا يراه في الدنيا أحد من الأحياء وإنما يقع ذلك للمؤمنين بعد الموت أخذا من قوله: "والموت دون لقاء الله" وقد تقدم أن اللقاء أعم من الرؤية فإذا انتفى اللقاء انتفت الرؤية وقد ورد بأصرح من هذا في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة مرفوعا في حديث طويل وفيه: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". حديث أبي موسى مثل حديث عبادة دون قوله: "فقالت عائشة إلخ "وكأنه أورده استظهارا لصحة الحديث وقد أخرجه مسلم أيضا وبريد بموحدة ثم مهملة هو ابن عبد الله بن أبي بردة. قوله: "أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم" كذا في رواية عقيل ومضى في الوفاة النبوية من طريق شعيب عن الزهري "أخبرني عروة" ولم يذكر معه أحدا ومن طريق يونس عن الزهري "أخبرني سعيد بن المسيب في رجال من أهل العلم" ولم يذكر عروة وقد ذكرت في كتاب الدعوات تسمية بعض من أبهم في هذه الرواية من شيوخ الزهري وتقدم شرح الحديث مستوفي في الوفاة النبوية ومناسبته للترجمة من جهة اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للقاء الله بعد أن خير بين الموت والحياة فاختار الموت فينبغي الاستنان به في ذلك. وقد ذكر بعض الشراح أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت لما أتاه ليقبض روحه: هل رأيت خليلا يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه قل له هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله؟ فقال يا ملك الموت الآن فاقبض. ووجدت في "المبتدأ" لأبي حذيفة إسحاق بن بشر البخاري أحد الضعفاء بسند له عن ابن عمر قال: "قال ملك الموت يا رب إن عبدك إبراهيم جزع من الموت فقال: قل له الخليل إذا طال به العهد من خليله اشتاق إليه. فبلغه فقال: نعم يا رب قد اشتقت إلى لقائك فأعطاه ريحانة فشمها فقبض فيها".

(11/361)


42 - باب سَكَرَاتِ الْمَوْتِ
6510- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ يَشُكُّ عُمَرُ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ" ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْعُلْبَةُ مِنْ الْخَشَبِ وَالرَّكْوَةُ مِنْ الأَدَمِ"
6511- حَدَّثَنِي صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الأَعْرَابِ جُفَاةً يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْأَلُونَهُ مَتَى السَّاعَةُ فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَصْغَرِهِمْ فَيَقُولُ إِنْ يَعِشْ هَذَا لاَ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ

(11/361)


حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ قَالَ هِشَامٌ يَعْنِي مَوْتَهُمْ"
6512- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ "عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ"
[الحديث 6512- طرفه في 6513]
6513- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ"
6514- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ"
6515- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ غُدْوَةً وَعَشِيًّا إِمَّا النَّارُ وَإِمَّا الْجَنَّةُ فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ إِلَيْهِ"
6516- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا"
قوله: "باب سكرات الموت" بفتح المهملة والكاف جمع سكرة قال الراغب وغيره: السكر حالة تعرض بين المرء وعقله وأكثر ما تستعمل في الشراب المسكر ويطلق في الغضب والعشق والألم والنعاس والغشي الناشىء عن الألم وهو المراد هنا. قوله: "عن عمر بن سعيد" أي ابن أبي حسين المكي. قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة أو علبة" بضم المهملة وسكون اللام بعدها موحدة. قوله: "شك عمر" هو ابن سعيد بن أبي حسين راويه وتقدم في الوفاة النبوية بلفظ: "يشك عمر" وفي رواية الإسماعيلي: "شك ابن أبي حسين". قوله: "فجعل يدخل يده" عند الكشميهني: "يديه" بالتثنية وكذا تقدم لهم في الوفاة النبوية بهذا الإسناد في أثناء حديث أوله قصة السواك فاختصره المؤلف هنا. قوله: "فيمسح بها" في رواية الكشميهني: "بهما" بالتثنية وكذا لهم في الوفاة. قوله: "إن للموت سكرات" وقع في رواية القاسم عن عائشة عند أصحاب السنن سوى أبي داود بسند حسن بلفظ: "ثم يقول اللهم أعني على سكرات الموت" وقد تقدم شرح الحديث مستوفى

(11/362)


هناك. وتقدم هناك أيضا من رواية القاسم بن محمد عن عائشة "مات النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي. فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم" وأخرجه الترمذي عنها بلفظ: "ما أغبط أحدا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. قوله: "العلبة من الخشب والركوة من الأدم" ثبت هذا في رواية المستملي وحده وهو المشهور في تفسيرهما ووقع في "المحكم": الركوة شبه تور من أدم قال المطرزي: دلو صغير: وقال غيره: كالقصعة تتخذ من جلد ولها طوق خشب. وأما العلبة فقال العسكري: هي قدح الأعراب تتخذ من جلد. وقال ابن فارس: قدح ضخم من خشب وقد يتخذ من جلد وقيل أسفله جلد وأعلاه خشب مدور. وفي الحديث أن شدة الموت لا تدل على نقص في المرتبة بل هي للمؤمن إما زيادة في حسناته وإما تكفير لسيئاته. وبهذا التقرير تظهر مناسبة أحاديث الباب للترجمة. قوله: "صدقة" هو ابن الفضل المروزي وعبدة هو ابن سليمان. وهشام هو ابن عروة. قوله: "كان رجال من الأعراب" لم أقف على أسمائهم. قوله: "جفاة" في رواية الأكثر بالجيم وفي رواية بعضهم بالمهملة وإنما وصفهم بذلك أما على رواية الجيم فلأن سكان البوادي يغلب عليهم الشظف وخشونة العيش فتجفو أخلاقهم غالبا. وأما على رواية الحاء فلقلة اعتنائهم بالملابس. قوله: "متى الساعة"؟ في رواية مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام "كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة؟ وكان ذلك لما طرق أسماعهم من تكرار اقترابها في القرآن فأرادوا أن يعرفوا تعيين وقتها. قوله: "فينظر إلى أصغرهم" في رواية مسلم: "فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال" ورواية عبدة ظاهرها تكرير ذلك ويؤيد سياق مسلم حديث أنس عنده "إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تقوم الساعة" ولم أقف على اسم هذا بعينه لكنه يحتمل أن يفسر بذي الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد وسأل متى تقوم الساعة وقال اللهم ارحمني ومحمدا ولكن جوابه عن السؤال عن الساعة مغاير لجواب هذا. قوله: "إن يعش هذا لا يدركه الهرم" في حديث أنس عند مسلم: "وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد" وله في رواية أخرى "وعنده غلام من أزد شنوءة" بفتح المعجمة وضم النون ومد وبعد الواو همزة ثم هاء تأنيث وفي أخرى له "غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أقراني" ولا مغايرة بينهما وطريق الجمع أنه كان من أزد شنوءة وكان حليفا للأنصار وكان يخدم المغيرة وقول أنس "وكان من أقراني" وفي رواية له "من أترابي" يزيد في السن وكان سن أنس حينئذ نحو سبع عشرة سنة. قوله: "حتى تقوم عليكم ساعتكم" قال هشام هو ابن عروة راويه "يعني موتهم" وهو موصول بالسند المذكور وفي حديث أنس "حتى تقوم الساعة" قال عياض: حديث عائشة هذا يفسر حديث أنس وأن المراد ساعة المخاطبين وهو نظير قوله: "أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها الآن أحد" وقد تقدم بيانه في كتاب العلم وأن المراد انقراض ذلك القرن وأن من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إذا مضت مائة سنة من وقت تلك المقالة لا يبقى منهم أحد ووقع الأمر كذلك فإن آخر من بقي ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبو الطفيل عامر بن واثلة كما جزم به مسلم وغيره وكانت وفاته سنة عشر ومائة من الهجرة وذلك عند رأس مائة سنة من وقت تلك المقالة وقيل كانت وفاته قبل ذلك فإن كان كذلك فيحتمل أن يكون تأخر بعده بعض من أدرك ذلك الزمان وإن لم يثبت أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وبه احتج جماعة من المحققين على كذب من ادعى الصحبة أو الرؤية ممن تأخر عن ذلك الوقت. وقال الراغب: الساعة جزء من الزمان

(11/363)


ويعبر بها عن القيامة تشبيها بذلك لسرعة الحساب قال الله تعالى: {وَهُوَأَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} أو لما نبه عليه بقوله: {أَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وأطلقت الساعة على ثلاثة أشياء: الساعة الكبرى وهي بعث الناس للمحاسبة والوسطى وهي موت أهل القرن الواحد نحو ما روى أنه رأى عبد الله بن أنيس فقال: إن يطل عمر هذا الغلام لم يمت حتى تقوم الساعة فقيل أنه آخر من مات من الصحابة. والصغرى موت الإنسان فساعة كل إنسان موته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم عند هبوب الريح: تخوفت الساعة يعني موته انتهى. وما ذكره عن عبد الله بن أنيس لم أقف عليه ولا هو آخر من مات من الصحابة جزما قال الداودي: هذا الجواب من معاريض الكلام فإنه لو قال لهم لا أدري ابتداء مع ما هم فيه من الجفاء وقبل تمكن الإيمان في قلوبهم لارتابوا فعدل إلى إعلامهم بالوقت الذي ينقرضون هم فيه ولو كان تمكن الإيمان في قلوبهم لأفصح لهم بالمراد. وقال ابن الجوزي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بأشياء على سبيل القياس وهو دليل معمول به فكأنه لما نزلت عليه الآيات في تقريب الساعة كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} حمل ذلك على أنها لا تزيد على مضى قرن واحد ومن ثم قال في الدجال "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه" فجوز خروج الدجال في حياته قال: وفيه وجه آخر فذكر نحو ما تقدم. قلت: والاحتمال الذي أبداه بعيد جدا. والذي قبله هو المعتمد والفرق بين الخبر عن الساعة وعن الدجال تعيين المدة في الساعة دونه والله أعلم. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى حدث بها خواص أصحابه تدل على أن بين يدي الساعة أمورا عظاما كما سيأتي بعضها صريحا وإشارة ومضى بعضها في علامات النبوة. وقال الكرماني: هذا الجواب من الأسلوب الحكيم أي دعوا السؤال عن وقت القيامة الكبرى فإنها لا يعلمها إلا الله واسألوا عن الوقت الذي يقع فيه انقراض عصركم فهو أولى لكم لأن معرفتكم به تبعثكم على ملازمة العمل الصالح قبل فوته لأن أحدكم لا يدري من الذي يسبق الآخر. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس وحلحلة بمهملتين مفتوحتين ولامين الأولى ساكنة والثانية مفتوحة وقد صرح بسماعه من ابن كعب في الرواية الثانية والسند كله مدنيون ولم يختلف الرواة في الموطأ عن مالك فيه. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر" بضم الميم على البناء للمجهول ولم أقف على اسم المار ولا الممرور بجنازته. قوله: "عليه" أي على النبي صلى الله عليه وسلم. ووقع في "الموطآت" للدار قطني من طريق إسحاق بن عيسى عن مالك بلفظ: "مر برسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة" والباء على هذا بمعنى على وذكر الجنازة باعتبار الميت. قوله: "قال مستريح" كذا هنا ووقع في رواية: "فقال" بزيادة الفاء في أوله وكذا في رواية المحابي المذكورة وكذا للنسائي من رواية وهب بن كيسان عن معبد بن مالك وقال في روايته: "كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلعت جنازة" قوله: "مستريح ومستراح منه" الواو فيه بمعنى أو وهي للتقسيم على ما صرح بمقتضاه في جواب سؤالهم. قوله: "قالوا" أي الصحابة ولم أقف على اسم السائل منهم بعينه إلا أن في رواية إبراهيم الحربي عند أبي نعيم "قلنا" فيدخل فيهم أبو قتادة فيحتمل أن يكون هو السائل. قوله: "ما المستريح والمستراح منه" في رواية الدار قطني "وما المستراح منه" بإعادة ما. قوله: "من نصب الدنيا وأذاها" زاد النسائي رواية وهب بن كيسان "من أوصاب الدنيا" والأوصاب جمع وصب بفتح الواو والمهملة ثم موحدة وهو دوام الوجع ويطلق أيضا على فتور البدن والنصب بوزنه لكن أوله نون هو التعب وزنه ومعناه والأذى من عطف العام على الخاص: قال ابن التين

(11/364)


يحتمل أن يريد بالمؤمن التقى خاصة ويحتمل كل مؤمن. والفاجر يحتمل أن يريد به الكافر ويحتمل أن يدخل فيه العاصي. وقال الداودي: أما استراحة العباد فلما يأتي به من المنكر فإن أنكروا عليه آذاهم وإن تركوه أثموا واستراحة البلاد مما يأتي به من المعاصي فإن ذلك مما يحصل به الجدب فيقتضي هلاك الحرث والنسل. وتعقب الباجي أول كلامه بأن من ناله أذاه لا يأثم بتركه لأنه بعد أن ينكر بقلبه أو ينكر بوجه لا يناله به أذى ويحتمل أن يكون المراد براحة العباد منه لما يقع لهم من ظلمه وراحة الأرض منه لما يقع عليها من غصبها ومنعها من حقها وصرفه في غير وجهه وراحة الدواب مما لا يجوز من إتعابها والله أعلم. قوله: "يحيى" هو القطان وعبد ربه بن سعيد كذا وقع هنا لأبي ذر عن شيوخه الثلاثة وكذا في رواية أبي زيد المروزي ووقع عند مسلم عن محمد بن المثنى "عن يحيى عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند" وكذا أخرجه أبو يعلى من طريق يحيى القطان عن عبد الله بن سعيد لكن لم يذكر جده وكذا عنده وعند مسلم من طريق عبد الرزاق وعند الإسماعيلي أيضا من طريق عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال كل منهما "حدثنا عبد الله بن سعيد" وكذا أخرجه ابن السكن من طريق عبد الرزاق عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طرق إبراهيم الحربي عن مسدد شيخ البخاري فيه مثله سواء قال أبو علي الجياني: هذا هو الصواب وكذا رواه ابن السكن عن الفربري فقال في روايته: "عن عبد الله بن سعيد هو ابن أبي هند" والحديث محفوظ له لا لعبد ربه. قلت: وجزم المزي في "الأطراف" أن البخاري أخرجه لعبد الله بن سعيد بن أبي هند بهذا السند وعطف عليه رواية مسلم ولكن التصريح بابن أبي هند لم يقع في شيء من نسخ البخاري. قوله: "مستريح ومستراح منه المؤمن يستريح" كذا أورده بدون السؤال والجواب مقتصرا على بعضه وأورده الإسماعيلي من طريق بندار وأبي موسى عن يحيى القطان ومن طريق عبد الرزاق قال: "حدثنا عبد الله بن سعيد" تاما ولفظه: "مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة" فذكر مثل سياق مالك لكن قال: "فقيل يا رسول الله ما مستريح إلخ". "تنبيه": مناسبة دخول هذا الحديث في الترجمة أن الميت لا يعدو أحد القسمين إما مستريح وإما مستراح منه وكل منهما يجوز أن يشدد النبي عند الموت وأن يخفف والأول هو الذي يحصل له سكرات الموت ولا يتعلق ذلك بتقواه ولا بفجوره بل إن كان من أهل التقوى ازداد ثوابا وإلا فيكفر عنه بقدر ذلك ثم يستريح من أذى الدنيا الذي هذا خاتمته ويؤيد ذلك ما تقدم من كلام عائشة في الحديث الأول وقد قال عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن يهون على سكرات الموت إنه لآخر ما يكفر به عن المؤمن. ومع ذلك فالذي يحصل للمؤمن من البشرى ومسرة الملائكة بلقائه ورفقهم به وفرحه بلقاء ربه يهون عليه كل ما يحصل له من ألم الموت حتى يصير كأنه لا يحس بشيء من ذلك. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة وليس لشيخه عبد الله بن أبي بكر في الصحيح عن أنس إلا هذا الحديث. قوله: "يتبع الميت" كذا للسرخسي والأكثر وفي رواية المستملي: "المرء" وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: "المؤمن" والأول المعتمد فهو المحفوظ من حديث ابن عيينة وهو كذلك عند مسلم. قوله: "يتبعه أهله وماله وعمله" هذا يقع في الأغلب ورب ميت لا يتبعه إلا عمله فقط والمراد من يتبع جنازته من أهله ورفقته ودوابه على ما جرت به عادة العرب وإذا انقضى أمر الحزن عليه رجعوا سواء أقاموا بعد الدفن أم لا ومعنى بقاء عمله أنه يدخل معه القبر وقد وقع في حديث البراء بن عازب الطويل في صفة المسألة في القبر عند أحمد

(11/365)


وغيره ففيه: "ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب حسن الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك فيقول: من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح" وقال في حق الكافر "ويأتيه رجل قبيح الوجه" الحديث وفيه: "بالذي يسوؤك وفيه عملك الخبيث" قال الكرماني: التبعية في حديث أنس بعضها حقيقة وبعضها مجاز فيستفاد منه استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه. قلت: هو في الأصل حقيقة في الحس ويطرقه المجاز في البعض وكذا المال وأما العمل فعلى الحقيقة في الجميع وهو مجاز بالنسبة إلى التبعية في الحس. قوله: "أبو النعمان" هو محمد بن الفضل والسند إلى نافع بصريون. قوله: "إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده" كذا للأكثر. وفي رواية المستملي والسرخسي "على مقعده" وهذا العرض يقع على الروح حقيقة وعلى ما يتصل به من البدن الاتصال الذي يمكن به إدراك التنعيم أو التعذيب على ما تقدم تقريره وأبدى القرطبي في ذلك احتمالين: هل هو على الروح فقط أو عليها وعلى جزء من البدن؟ وحكى ابن بطال عن بعض أهل بلدهم أن المراد بالعرض هنا الإخبار بأن هذا موضع جزائكم على أعمالكم عند الله وأريد بالتكرير تذكارهم بذلك واحتج بأن الأجساد تفنى والعرض لا يقع على شيء فإن قال: فبان أن العرض الذي يدوم إلى يوم القيامة إنما هو على الأرواح خاصة وتعقب بأن حمل العرض على الإخبار عدول عن الظاهر بغير مقتض لذلك ولا يجوز العدول إلا بصارف يصرفه عن الظاهر قلت: ويؤيد الحمل على الظاهر أن الخبر ورد على العموم في المؤمن والكافر فلو اختص بالروح لم يكن للشهيد في ذلك كبير فائدة لأن روحه منعمة جزما كما في الأحاديث الصحيحة وكذا روح الكافر معذبة في النار جزما فإذا حمل على الروح التي لها اتصال بالبدن ظهرت فائدة ذلك في حق الشهيد وفي حق الكافر أيضا. قوله: "غدوة وعشية" أي أول النهار وآخره بالنسبة إلى أهل الدنيا. قوله: "إما النار وإما الجنة" تقدم في الجنائز من رواية مالك بلفظ: "إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة" وتقدم توجيهه في أواخر كتاب الجنائز؛ وتقدم هناك بحث القرطبي في "المفهم". ثم إن هذا العرض للمؤمن المتقي والكافر ظاهر وأما المؤمن المخلط فيحتمل أيضا أن يعرض عليه مقعده من الجنة التي سيصير إليها. قلت: والانفصال عن هذا الإشكال يظهر من الحديث الذي أخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة السؤال في القبر وفيه: "ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له: هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له: هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها لو عصيته فيزداد غبطة وسرورا" الحديث وفيه في حق الكافر "ثم يفتح له باب من أبواب النار" وفيه: "فيزداد حسرة وثبورا" في الموضعين وفيه: "لو أطعته" وأخرج الطبراني عن ابن مسعود "ما من نفس إلا وتنظر في بيت في الجنة وبيت في النار فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة فيقال: لو عملتم ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار فيقال لولا أن من الله عليكم" ولأحمد عن عائشة ما يؤخذ منه أن رؤية ذلك للنجاة أو العذاب في الآخرة فعلى هذا يحتمل في المذنب الذي قدر عليه أن يعذب قبل أن يدخل الجنة أن يقال له مثلا بعد عرض مقعده من الجنة: هذا مقعدك من أول وهلة لو لم تذنب وهذا مقعدك من أول وهلة لعصيانك نسأل الله العفو والعافية من كل بلية في الحياة وبعد الموت إنه ذو الفضل العظيم. قوله: "فيقال هذا مقعدك حتى تبعث إليه" في رواية الكشميهني: "عليه" وفي طريق مالك "حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة" وقد بينت الإشارة إليه بعد خمسة أبواب. حديث عائشة في النهي عن سب الأموات تقدم شرحه

(11/366)


مستوفى في أواخر كتاب الجنائز.

(11/367)


43 - باب نَفْخِ الصُّورِ. قَالَ مُجَاهِدٌ الصُّورُ كَهَيْئَةِ الْبُوقِ زَجْرَةٌ صَيْحَةٌ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ النَّاقُورِ الصُّورِ الرَّاجِفَةُ النَّفْخَةُ الأُولَى وَ الرَّادِفَةُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ
6517- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ "اسْتَبَّ رَجُلاَنِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ قَالَ فَغَضِبَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ فِي أَوَّلِ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ مُوسَى فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ عز وجل"
6518- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَصْعَقُ النَّاسُ حِينَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ قَامَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَمَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب نفخ الصور" تكرر ذكره في القرآن في الأنعام والمؤمنين والنمل والزمر وق وغيرها وهو بضم المهملة وسكون الواو وثبت كذلك في القراءات المشهورة والأحاديث وذكر عن الحسن البصري أنه قرأها بفتح الواو جمع صورة وتأوله على أن المراد النفخ في الأجساد لتعاد إليها الأرواح وقال أبي عبيدة في "المجاز": يقال الصور يعني بسكون الواو جمع صورة كما يقال سور المدينة جمع سورة قال الشاعر "لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة" فيستوي معنى القراءتين. وحكى مثله الطبري عن قوم وزاد: كالصوف جمع صوفة قالوا والمراد النفخ في الصور وهي الأجساد لتعاد فها الأرواح كما قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وتعقب قوله: "جمع" بأن هذه أسماء أجناس لا جموع وبالغ النحاس وغيره في الرد على التأويل وقال الأزهري: إنه خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة. قلت: وقد أخرج أبو الشيخ في "كتاب العظمة" من طريق وهب بن منبه من قوله قال: خلق الله الصور من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة ثم قال للعرش: خذ الصور فتعلق به. ثم قال: كن فكان إسرافيل فأمره أن يأخذ الصور فأخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة. فذكر الحديث وفيه ثم تجمع الأرواح كلها في الصور ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه فتدخل كل روح في جسدها فعلى هذا فالنفخ يقع في الصور أولا ليصل النفخ بالروح إلى الصور وهي الأجساد فإضافة النفخ إلى الصور الذي هو القرن حقيقة وإلى الصور التي هي الأجساد مجاز. قوله: "قال مجاهد الصور كهيئة البوق" وصله

(11/367)


الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} قال كهيئة البوق. وقال صاحب الصحاح. البوق الذي يزمر به وهو معروف ويقال للباطل يعني يطلق ذلك عليه مجازا لكونه من جنس الباطل. تنبيه: لا يلزم من كون الشيء مذموما أن لا يشبه به الممدوح فقد وقع تشبيه صوت الوحي بصلصلة الجرس مع النهي عن استصحاب الجرس كما تقدم تقريره في بدء الوحي والصور إنما هو قرن كما جاء في الأحاديث المرفوعة وقد وقع في قصة بدء الأذان بلفظ البوق والقرن في الآلة التي يستعملها اليهود للأذان ويقال إن الصور اسم القرن بلغة أهل اليمن وشاهده قول الشاعر:
نحن نفخناهم غداة النقعين ... نطحا شديدا لا كنطح الصورين
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصور؟ قال: "قرن ينفخ فيه" والترمذي أيضا وحسنه من حديث أبي سعيد مرفوعا: "كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ" وأخرجه الطبراني من حديث زيد بن أرقم وابن مردويه من حديث أبي هريرة ولأحمد والبيهقي من حديث ابن عباس وفيه: "جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وهو صاحب الصور يعني إسرافيل" وفي أسانيد كل منهما مقال. وللحاكم بسند حسن عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رفعه: "إن طرف صاحب الصور منذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان". قوله: "زجرة: صيحة" هو من تفسير مجاهد أيضا. وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح مجاهد في قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} قال: صيحة. وفي قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} قال: صيحة. قلت: وهي عبارة عن نفخ الصور النفخة الثانية كما عبر بها عن النفخة الأولى في قوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} الآية. قوله: "قال ابن عباس: الناقور الصور" وصله الطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} قال: الصور ومعنى نقر: نفخ قاله في الأساس. وأخرج البيهقي من طريق أخرى عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن" الحديث. "تنبيه" اشتهر أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام ونقل فيه الحليمي الإجماع ووقع التصريح به في حديث وهب بن منبه المذكور وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه وكذا في حديث الصور الطويل الذي أخرجه عبد بن حميد والطبري وأبو يعلى في الكبير والطبراني في الطوالات وعلي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية والبيهقي في البعث من حديث أبي هريرة ومداره على إسماعيل بن رافع واضطرب في سنده مع ضعفه فرواه عن محمد بن كعب القرظي تارة بلا واسطة وتارة بواسطة رجل مبهم ومحمد عن أبي هريرة تارة بلا واسطة وتارة بواسطة رجل من الأنصار مبهم أيضا وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء أيضا في تفسيره عن محمد بن عجلان عن محمد بن كعب القرظي واعترض مغلطاي على عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع وخفي عليه أن الشامي أضعف منه ولعله سرقه منه فألصقه بابن عجلان وقد قال الدار قطني: إنه متروك يضع الحديث وقال الخليلي: شيخ ضعيف شحن

(11/368)


تفسيره بما لا يتابع عليه. وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير في حديث الصور: جمعه إسماعيل ابن رافع من عدة آثار وأصله عنده عن أبي هريرة فساقه كله مساقا واحدا. وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع القاضي أبو بكر بن العربي في سراجه وتبعه القرطبي في التذكرة وقول عبد الحق في تضعيفه أولى وضعفه قبله البيهقي فوقع في هذا الحديث عند علي بن معبد "إن الله خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش" الحديث وقد ذكرت ما جاء عن وهب بن منبه في ذلك فلعله أصله وجاء أن الذي ينفخ في الصور غيره ففي الطبراني الأوسط عن عبد الله بن الحارث "كنا عند عائشة فقالت يا كعب أخبرني عن إسرافيل" فذكر الحديث وفيه: "وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه وقد نصب الأخرى يلتقم الصور محنيا ظهره شاخصا ببصره إلى إسرافيل وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور فقالت عائشة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" ورجاله ثقات إلا على بن زيد بن جدعان ففيه ضعف فإن ثبت حمل على أنهما جميعا ينفخان ويؤيده ما أخرجه هناد بن السري في كتاب الزهد بسند صحيح لكنه موقوف علي عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: "ما من صباح إلا وملكان موكلان بالصور" ومن طريق عبد الله بن ضمرة مثله وزاد: "ينتظران متى ينفخان" ونحوه عند أحمد من طريق سليمان التيمي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب - أو قال بالعكس - ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا" ورجاله ثقات وأخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بغير شك ولابن ماجه والبزار من حديث أبي سعيد رفعه: "إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران" وعلى هذا فقوله في حديث عائشة "إنه إذا رأى إسرافيل ضم جناحيه نفخ أنه ينفخ النفخة الأولى وهي نفخة الصعق ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية وهي نفخة البعث". قوله: "الراجفة النفخة الأولى والرادفة النفخة الثانية" هو من تفسير ابن عباس أيضا وصله الطبري أيضا وابن أبي حاتم بالسند المذكور وقد تقدم بيانه في تفسير سورة والنازعات وبه جزم الفراء وغيره في "معاني القرآن" وعن مجاهد قال: الراجفة الزلزلة والرادفة الدكدكة أخرجه الفريابي والطبري وغيرهما عنه ونحوه في حديث الصور الطويل قال في رواية علي بن معبد: ثم ترتج الأرض وهي الراجفة فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج. ويمكن الجمع بأن الزلزلة تنشأ عن نفخة الصعق. حديث أبي هريرة "إن الناس يصعقون" وقد تقدم شرحه في قصة موسى عليه السلام من أحاديث الأنبياء وذكرت فيه ما نقل عن ابن حزم أن النفخ في الصور يقع أربع مرات وتعقب كلامه في ذلك ثم رأيت في كلام ابن العربي أنها ثلاث: نفخة الفزع كما في النمل. ونفخة الصعق كما في الزمر ونفخة البعث وهي المذكورة في الزمر أيضا. قال القرطبي: والصحيح أنهما نفختان فقط لثبوت الاستثناء بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} في من الآيتين ولا يلزم من مغايرة الصعق للفزع أن لا يحصلا معا من النفخة الأولى ثم وجدت مستند ابن العربي في حديث الصور الطويل فقال فيه: "ثم ينفخ في الصور ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين" أخرجه الطبري هكذا مختصرا وقد ذكرت أن سنده ضعيف ومضطرب وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنهما نفختان ولفظه في أثناء حديث مرفوع "ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا ثم يرسل الله مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" وأخرج البيهقي بسند

(11/369)


قوي عن ابن مسعود موقوفا "ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه والصور قرن فلا يبقى لله خلق في السماوات ولا في الأرض إلا مات إلا من شاء ربك ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون" وفي حديث أوس بن أوس الثقفي رفعه: "إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه الصعقة وفيه النفخة" الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقد تقدم في تفسير سورة الزمر من حديث أبي هريرة "بين النفختين أربعون" وفي كل ذلك دلالة على أنهما نفختان فقط وقد تقدم شرحه هناك وفيه شرح قول أبي هريرة لما قيل له أربعون سنة "أبيت" بالموحدة ومعناه امتنعت من تبيينه لأني لا أعلمه فلا أخوص فيه بالرأي وقال القرطبي في "التذكرة": يحتمل قوله امتنعت أن يكون عنده علم منه ولكنه لم يفسره لأنه لم تدع الحاجة إلى بيانه ويحتمل أن يريد امتنعت أن أسأل عن تفسيره فعلى الثاني لا يكون عنده علم منه قال: وقد جاء أن بين النفختين أربعين عاما قلت: وقع كذلك في طريق ضعيف عن أبي هريرة في تفسير ابن مردويه وأخرج ابن المبارك في "الرقائق" من مرسل الحسن "بين النفختين أربعون سنة: الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيى الله بها كل ميت" ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس وهو ضعيف أيضا وعنده أيضا ما يدل على أن أبا هريرة لم يكن عنده علم بالتعيين فأخرج عنه بسند جيد أنه لما قالوا "أربعون ماذا" قال: "هكذا سمعت" وأخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة فذكر حديث أبي هريرة منقطعا ثم قال: "قال أصحابه: ما سألناه عن ذلك ولا زادنا عليه غير أنهم كانوا يرون من رأيهم أنها أربعون سنة" وفي هذا تعقب على قول الحليمي: اتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعين سنة. قلت وجاء فيما يصنع بالموتى بين النفختين ما وقع في حديث الصور الطويل أن جميع الأحياء إذا ماتوا بعد النفخة الأولى ولم يبق إلا الله قال سبحانه: أنا الجبار لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد فيقول: لله الواحد القهار. وأخرج النحاس من طريق أبي وائل عن عبد الله أن ذلك يقع بعد الحشر ورجحه. ورجح القرطبي الأول. ويمكن الجمع بأن ذلك يقع مرتين وهو أولى. وأخرج البيهقي من طريق أبي الزعراء: كنا عند عبد الله بن مسعود فذكر الدجال إلى أن قال: "ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون فليس في بني آدم خلق إلا في الأرض منه شيء قال فيرسل الله ماء من تحت العرش فتنبت جسمانهم ولحماتهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الري" ورواته ثقات. إلا أنه موقوف." تنبيه": إذا تقرر أن النفخة للخروج من القبور فكيف تسمعها الموتى؟ والجواب: يجوز أن تكون نفخة البعث تطول إلى أن يتكامل إحياؤهم شيئا بعد شيء وتقدم الإلمام في قصة موسى بشيء مما ورد في تعيين من استثنى الله تعالى في قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وحاصل ما جاء في ذلك عشرة أقوال: الأول أنهم الموتى كلهم لكونهم لا إحساس لهم فلا يصعقون وإلى هذا جنح القرطبي في "المفهم" وفيه ما فيه ومستنده أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح وتعقبه صاحبه القرطبي في "التذكرة"1 فقال فد صح فيه حديث أبي هريرة؛ وفي الزهد لهناد بن السري عن سعيد بن جبير موقوفا هم الشهداء وسنده إلى سعيد صحيح. وسأذكر حديث أبي هريرة في الذي بعده وهذا هو قول الثاني. الثالث الأنبياء وإلى ذلك جنح البيهقي في تأويل الحديث في تجويزه أن يكون موسى ممن استثنى الله قال: ووجهه
ـــــــ
1 القرطبي صاحب "التذكرة" تلميذ القرطبي صاحب "المفهم شرح مسلم"

(11/370)


عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا ثم لا يكون ذلك موتا في جميع معانيه إلا في ذهاب الاستشعار. وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون موسى ممن استثنى الله فإن كان منهم فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة بسبب ما وقع له في صعقة الطور. ثم ذكر أثر سعيد بن جبير في الشهداء وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم شهداء الله عز وجل صححه الحاكم ورواته ثقات ورجحه الطبري. الرابع قال يحيى بن سلام في تفسيره: بلغني أن آخر من يبقى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ثم يموت الثلاثة ثم يقول الله لملك الموت مت فيموت. قلت: وجاء نحو هذا مسندا في حديث أنس أخرجه البيهقي وابن مردويه بلفظ: "فكان ممن استثنى الله ثلاثة جبريل وميكائيل وملك الموت" الحديث وسنده ضعيف وله طريق أخرى عن أنس ضعيفة أيضا عند الطبري وابن مردويه وسياقه أتم وأخرج الطبري بسند صحيح عن إسماعيل السدي ووصله إسماعيل بن أبي زياد الشامي في تفسيره عن ابن عباس مثل يحيى بن سلام ونحوه عن سعيد بن المسيب أخرجه الطبري وزاد: "ليس فيهم حملة العرش لأنهم فوق السماوات" الخامس يمكن أن يأخذ مما في الرابع. السادس الأربعة المذكورون وحملة العرش وقع ذلك في حديث أبي هريرة الطويل المعروف بحديث الصور وقد تقدمت الإشارة إليه وأن سنده ضعيف مضطرب وعن كعب الأحبار نحوه وقال: هم اثنا عشر أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه البيهقي من طريق زيد بن أسلم مقطوعا ورجاله ثقات. وجمع في حديث الصور بين هذا القول وبين القول أنهم الشهداء ففيه: "فقال أبو هريرة يا رسول الله فمن استثنى حين الفزع؟ قال: الشهداء" ثم ذكر نفخة الصعق على ما تقدم. السابع موسى وحده أخرجه الطبري بسند ضعيف عن أنس وعن قتادة وذكره الثعلبي عن جابر. الثامن الولدان الذين في الجنة والحور العين. التاسع هم وخزان الجنة والنار وما فيها من الحيات والعقارب حكاهما الثعلبي عن الضحاك بن مزاحم. العاشر الملائكة كلهم جزم به أبو محمد بن حزم في "الملل والنحل" فقال: الملائكة أرواح لا أرواح فيها فلا يموتون أصلا. وأما ما وقع عند الطبري بسند صحيح عن قتادة قال قال الحسن يستثنى الله وما يدع أحدا إلا أذاقه الموت فيمكن أن يعد قولا آخر. قال البيهقي استضعف بعض أهل النظر أكثر هذه الأقوال لأن الاستثناء وقع من سكان السماوات والأرض وهؤلاء ليسوا من سكانها لأن العرش فوق السماوات فحملته ليسوا من سكانها وجبريل وميكائيل من الصافين حول العرش ولأن الجنة فوق السماوات والجنة والنار عالمان بانفرادهما خلقتا للبقاء ويدل على أن المستثنى غير الملائكة ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وصححه الحاكم من حديث لقيط ابن عامر مطولا وفيه: "يلبثون ما لبثهم ثم تبعث الصائحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من أحد إلا مات حتى الملائكة الذين مع ربك" . قوله في رواية أبي الزناد عن الأعرج "فما أدري أكان فيمن صعق" كذا أورده مختصرا وبقيته "أم لا" أورده الإسماعيلي من طريق محمد بن يحيى عن شيخ البخاري فيه. قوله: "رواه أبو سعيد" يعني الخدري "عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني أصل الحديث وقد تقدم موصولا في كتاب الأشخاص وفي قصة موسى من أحاديث الأنبياء وذكرت شرحه في قصة موسى أيضا.

(11/371)


44 - باب يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(11/371)


6519- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ"
6520- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَلاَ أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ بَلَى قَالَ تَكُونُ الأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً كَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ أَلاَ أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ قَالَ إِدَامُهُمْ بَالاَمٌ وَنُونٌ قَالُوا وَمَا هَذَا قَالَ ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا"
6521- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ"
قوله: "باب يقبض الله الأرض يوم القيامة" لما ذكر ترجمة نفخ الصور أشار إلى ما وقع في سورة الزمر قبل آية النفخ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية وفي قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} ما قد يتمسك به أن قبض السماوات والأرض يقع بعد النفخ في الصور أو معه وسيأتي. قوله: "رواه نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم" سقط هذا التعليق هنا في رواية بعض شيوخ أبي ذر وقد وصله في كتاب التوحيد ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد. قوله: "عن أبي سلمة" كذا قال يونس وخالفه عبد الرحمن بن خالد فقال: "عن الزهري عن سعيد بن المسيب" كما تقدم في تفسير سورة الزمر وهذا الاختلاف لم يتعرض له الدار قطني في "العلل". وقد أخرج ابن خزيمة في كتاب التوحيد الطريقين وقال: هما محفوظان عن الزهري وسأشبع القول فيه إن شاء الله تعالى في كتاب التوحيد مع شرح الحديث إن شاء الله تعالى وأقتصر هنا على ما يتعلق بتبديل الأرض لمناسبة الحال. قوله: "يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه" زاد في رواية ابن وهب عن يونس "يوم القيامة" قال عياض: هذا الحديث جاء في الصحيح على ثلاثة ألفاظ. القبض والطي والأخذ. وكلها بمعنى الجمع فإن السماوات مبسوطة والأرض مدحوة ممدودة ثم رجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة والتبديل فعاد ذلك إلى ضم بعضها إلى بعض وإبادتها فهو تمثيل لصفة قبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وتفرقها دلالة على المقبوض

(11/372)


والمبسوط لا على البسط والقبض قد يحتمل أن يكون إشارة إلى الاستيعاب انتهى. وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. وقد اختلف في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} هل المراد ذات الأرض وصفتها أو تبديل صفتها فقط وسيأتي بيانه في شرح ثالث أحاديث هذا الباب إن شاء الله تعالى. قوله: "عن خالد" هو ابن يزيد وفي رواية شعيب بن الليث عن أبيه "حدثني خالد بن يزيد" والسند كله بصريون إلى سعيد ومنه إلى منتهاه مدنيون. قوله: "تكون الأرض يوم القيامة" يعني أرض الدنيا "خبزة" بضم الحاء المعجمة وسكون الموحدة وفتح الزاي قال الخطابي: الخبزة الطلمة بضم المهملة وسكون اللام وهو عجين يوضع في الحفرة بعد إيقاد النار فيها قال والناس يسمونها الملة بفتح الميم وتشديد اللام وإنما الملة الحفرة نفسها. قوله: "يتكفؤها الجبار" بفتح المثناة والكاف وتشديد الفاء المفتوحة بعدها همزة أي يميلها من كفأت الإناء إذا قلبته وفي رواية مسلم: "يكفؤها" بسكون الكاف. قوله: "كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر" قال الخطابي: يعني خبز الملة الذي يصنعه المسافر فإنها لا تدحى كما تدحى الرقاقة وإنما تقلب على الأيدي حتى تستوي وهذا على أن السفر بفتح المهملة والفاء ورواه بعضهم بضم أوله جمع سفرة وهو الطعام الذي يتخذ للمسافر ومنه سميت السفرة. قوله: "نزلا لأهل الجنة" النزل بضم النون وبالزاي وقد تسكن. ما يقدم للضيف وللعسكر يطلق على الرزق وعلى الفضل ويقال أصلح للقوم نزلهم أي ما يصلح أن ينزلوا عليه من الغذاء وعلى ما يعجل للضيف قبل الطعام وهو اللائق هنا قال الداودي: المراد الله أنه يأكل منها من سيصير إلى الجنة من أهل المحشر لا أنهم لا يأكلونها حتى يدخلوا الجنة. قلت: وظاهر الخبر يخالفه وكأنه بنى على ما أخرجه الطبري عن سعيد بن جبير قال: تكون الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه. ومن طريق أبي معشر عن محمد بن كعب أو محمد ابن قيس نحوه وللبيهقي بسند ضعيف عن عكرمة تبدل الأرض مثل الخبزة يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغوا من الحساب. وعن أبي جعفر الباقر نحوه. وسأذكر بقية ما يتعلق بذلك في الحديث الذي بعده. ونقل الطيبي عن البيضاوي أن هذا الحديث مشكل جدا لا من جهة إنكار صنع الله وقدرته على ما يشاء بل لعدم التوقيف على قلب جرم الأرض من الطبع الذي عليه إلى طبع المطعوم والمأكول مع ما ثبت في الآثار أن هذه الأرض تصير يوم القيامة نارا وتنضم إلى جهنم فلعل الوجه فيه أن معنى قوله خبزة واحدة أي كخبزة واحدة من نعتها كذا وكذا وهو نظير ما في حديث سهل يعني المذكور بعده كقرصة النقى فضرب المثل بها لاستدارتها وبياضها فضرب المثل في هذا الحديث بخبزة تشبه الأرض في معنيين: أحدهما بيان الهيئة التي تكون الأرض عليها يومئذ والآخر بيان الخبزة التي يهيئها الله تعالى نزلا لأهل الجنة وبيان عظم مقدارها ابتداعا واختراعا. قال الطيبي: وإنما دخل عليه الإشكال لأنه رأى الحديثين في باب الحشر فظن أنهما لشيء واحد. وليس كذلك وإنما هذا الحديث من باب وحديث سهل من باب وأيضا فالتشبيه لا يستلزم المشاركة بين المشبه والمشبه به في جميع الأوصاف بل يكفي حصوله في البعض وتقريره أنه شبه أرض الحشر بالخبزة في الاستواء والبياض وشبه أرض الجنة في كونها نزلا لأهلها ومهيأة لهم تكرمة بعجالة الراكب زاده يقنع به في سفره. قلت: آخر كلامه يقرر ما قال القاضي أن كون أرض الدنيا تصير نارا محمول على حقيقته وأن كونها تصير خبزة يأكل منها أهل الموقف محمول على المجاز والآثار التي أوردتها عن سعيد بن جبير وغيره ترد عليه والأولى الحمل على الحقيقة مهما أمكن

(11/373)


وقدرة الله تعالى صالحة لذلك بل اعتقاد كونه حقيقة أبلغ وكون أهل الدنيا1 ويستفاد منه أن المؤمنين لا يعاقبون بالجوع في طول زمان الموقف بل يقلب الله لهم بقدرته طبع الأرض حتى يأكلوا منها من تحت أقدامهم ما شاء الله بغير علاج ولا كلفة ويكون معنى قوله: "نزلا لأهل الجنة" أي الذين يصيرون إلى الجنة أعم من كون ذلك يقع بعد الدخول إليها أو قبله والله أعلم. قوله: "فأتى رجل" في رواية الكشميهني: "فأتاه". قوله: "من اليهود" لم أقف على اسمه. قوله: "فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك" يريد أنه أعجبه إخبار اليهودي عن كتابهم بنظير ما أخبر به من جهة الوحي وكان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فكيف بموافقتهم فيما أنزل عليه. قوله: "حتى بدت نواجذه" بالنون والجيم والذال المعجمة جمع ناجذ وهو آخر الأضراس ولكل إنسان أربع نواجذ. وتطلق النواجذ أيضا على الأنياب والأضراس. قوله: "ثم قال" في رواية الكشميهني: "فقال". قوله: "ألا أخبرك" في رواية مسلم: "ألا أخبركم". قوله: "بإدامهم" أي ما يؤكل به الخبز. قوله: "بالام" بفتح الموحدة بغير همز و قوله: "ونون" أي بلفظ أول السورة. قوله: "قالوا" أي الصحابة وفي رواية مسلم: "فقالوا" قوله: "ما هذا" في رواية الكشميهني: "وما هذا" بزيادة واو. قوله: "قال ثور ونون" قال الخطابي هكذا رووه لنا وتأملت النسخ المسموعة من البخاري من طريق حماد ابن شاكر وإبراهيم بن معقل والفربري فإذا كلها على نحو واحد. قلت: وكذا عند مسلم وكذا أخرجه الإسماعيلي وغيره قال الخطابي: فأما نون فهو الحوت على ما فسر في الحديث وأما بالام فدل التفسير من اليهودي على أنه اسم للثور وهو لفظ مبهم لم ينتظم ولا يصح أن يكون على التفرقة اسما لشيء فيشبه أن يكون اليهودي أراد أن يعمى الاسم فقطع الهجاء وقدم أحد الحرفين وإنما هو في حق الهجاء لام ياء هجاء لأي بوزن لعى وهو الثور الوحشي وجمعه آلاء بثلاث همزات وزن أحبال فصحفوه فقالوا بالام بالموحدة وإنما هو بالياء آخر الحروف وكتبوه بالهجاء فأشكل الأمر. هذا أقرب ما يقع لي فيه إلا أن يكون إنما عبر عنه بلسانه ويكون ذلك بلسانهم وأكثر العبرانية فيما يقوله أهل المعرفة مقلوب على لسان العرب بتقديم في الحروف وتأخير والله أعلم بصحته. وقال عياض: أورد الحميدي في اختصاره يعني الجمع بين الصحيحين هذا الحديث بلفظ باللأي بكسر الموحدة وألف وصل ولام ثقيلة بعدها همزة مفتوحة خفيفة بوزن الرحى واللأي الثور الوحشي قال: ولم أر أحدا رواه كذلك فلعله من إصلاحه وإذا كان هكذا بقيت الميم زائدة إلا أن يدعي أنها حرفت عن الياء المقصورة قال: وكل هذا غير مسلم لما فيه من التكلف والتعسف قال: وأولى ما يقال في هذا أن تبقى الكلمة على ما وقع لي الرواية ويحمل على أنها عبرانية ولذلك سأل الصحابة اليهودي عن تفسيرها ولو كان اللأي لعرفوها لأنها من لسانهم. وجزم النووي بهذا فقال: هي لفظة عبرانية معناها ثور. قوله: "يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا" قال عياض زيادة الكبد وزائدتها هي القطعة المنفردة المتعلقة بها وهي أطيبه ولهذا خص بأكلها السبعون ألفا ولعلهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب فضلوا بأطيب النزل ويحتمل أن يكون عبر بالسبعين عن العدد الكثير ولم يرد الحصر فيها وقد تقدم في أبواب الهجرة قبيل المغازي في مسائل عبد الله بن سلام أن أول طعام يأكله أهل الجنة له زيادة كبد الحوت وأن عند مسلم في حديث ثوبان "تحفة أهل الجنة زيادة
ـــــــ
1 بياض بالأصل.

(11/374)


كبد النون" وفيه: "غذاؤهم على أثرها أن ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" وفيه: "وشرابهم عليه من عين تسمى سلسبيلا" وأخرج ابن المبارك في "الزهد" بسند حسن عن كعب الأحبار: أن الله تعالى يقول لأهل الجنة إذا دخلوها: إن لكل ضيف جزورا وإني أجزركم اليوم حوتا وثورا فيجزر لأهل الجنة". قوله: "محمد بن جعفر" أي ابن أبي كثير وأبو حازم هو سلمة بن دينار. قوله: "يحشر الناس" بضم أوله. فوله "أرض عفراء" قال الخطابي العفر بياض ليس بالناصع وقال عياض: العفر بياض يضرب إلى حمرة قليلا ومنه سمي عفر الأرض وهو وجهها. وقال ابن فارس: معنى عفراء خالصة البياض. وقال الداودي: شديدة البياض. كذا قال والأول هو المعتمد. قوله: "كقرصة النقي" بفتح النون كسر القاف أي الدقيق النقي من الغش والنخال قاله الخطابي. قوله: "قال سهل أو غيره ليس فيها معلم لأحد" هو موصول بالسند المذكور وسهل هو راوي الخبر وأو للشك والغير المبهم لم أقف على تسميته. ووقع هذا الكلام الأخير لمسلم من طريق خالد بن مخلد عن محمد ابن جعفر مدرجا بالحديث ولفظه: "ليس فيها علم لأحد" ومثله لسعيد بن منصور عن ابن أبي حازم عن أبيه والعلم والمعلم بمعنى واحد قال الخطابي: يريد أنها مستوية. والمعلم بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة هو الشيء الذي يستدل به على الطريق. وقال عياض: المراد أنها ليس فيها علامة سكنى ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتدي بها في الطرقات كالجبل والصخرة البارزة. وفيه تعريض بأرض الدنيا وأنها ذهبت وانقطعت العلاقة منها. وقال الداودي: المراد أنه لا يحوز أحد منها شيئا إلا ما أدرك منها. وقال أبو محمد بن أبي جمرة: فيه دليل على عظيم القدرة والإعلام بجزئيات يوم القيامة ليكون السامع على بصيرة فيخلص نفسه من ذلك الهول لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضة النفس وحملها على ما فيه خلاصها بخلاف مجيء الأمر بغتة وفيه إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جدا والحكمة في الصفة المذكورة أن ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرا عن عمل المعصية والظلم وليكون تجليه سبحانه على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته ولأن الحكم فيه إنما يكون لله وحده فناسب أن يكون المحل خالصا له وحده. انتهى ملخصا. وفيه إشارة إلى أن أرض الدنيا اضمحلت وأعدمت وأن أرض الموقف تجددت. وقد وقع للسلف في ذلك خلاف في المراد بقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} هل معنى تبديلها تغيير ذاتها وصفاتها أو تغيير صفاتها فقط وحديث الباب يؤيد الأول. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والطبري في تفاسيرهم والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} الآية قال: تبدل الأرض أرضا كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة ورجاله رجال الصحيح وهو موقوف؛ وأخرجه البيهقي من وجه آخر مرفوعا وقال: الموقوف أصح وأخرجه الطبري والحاكم من طريق عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود بلفظ: أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة ورجاله موثقون أيضا ولأحمد من حديث أبي أيوب: أرض كالفضة البيضاء قيل فأين الخلق يومئذ؟ قال: هم أضياف الله لن يعجزهم ما لديه. وللطبري من طريق سنان بن سعد عن أنس مرفوعا: يبدلها الله بأرض من فضة لم يعمل عليها الخطايا. وعن علي موقوفا نحوه. ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد: أرض كأنها فضة والسماوات كذلك. وعن علي والسماوات من ذهب. وعند عبد من طريق الحكم بن أبان عن

(11/375)


عكرمة قال: بلغنا أن هذه الأرض يعني أرض الدنيا تطوى وإلى جنبها أخرى يحشر الناس منها إليها. وفي حديث الصور الطويل: تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فيبسطها ويسطحها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه الأرض المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى ما كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان عليها انتهى. وهذا يؤخذ منه أن ذلك يقع عقب نفخة الصعق بعد الحشر الأول ويؤيده قوله تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} . وأما من ذهب إلى أن التغيير إنما يقع في صفات الأرض دون ذاتها فمستنده ما أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عمرو قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الخلائق. ومن حديث جابر رفعه تمد الأرض مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه ورجاله ثقات إلا أنه اختلف على الزهري في صحابيه. ووقع في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} قال: يزاد فيها وينقص منها ويذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وتمد مد الأديم العكاظي وعزاه الثعلبي في تفسيره لرواية أبي هريرة وحكاه البيهقي عن أبي منصور الأزهري وهذا وإن كان ظاهره يخالف القول الأول فيمكن الجمع بأن ذلك كله يقع لأرض الدنيا لكن أرض الموقف غيرها ويؤيده ما وقع في الحديث الذي قبله أن أرض الدنيا تصير خبزة والحكمة في ذلك ما تقدم أنها تعد لأكل المؤمنين منها في زمان الموقف ثم تصير نزلا لأهل الجنة وأما ما أخرجه الطبري من طريق المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود قال: الأرض كلها تأتي يوم القيامة فالذي قبله عن ابن مسعود أصح سندا ولعل المراد بالأرض في هذه الرواية أرض البحر فقد أخرج الطبري أيضا من طريق كعب الأحبار قال: يصير مكان البحر نارا وفي تفسير للربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب: تصير السماوات جفانا ويصير مكان البحر نارا وأخرج البيهقي في "البعث" من هذا الوجه في قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} قال: يصيران غبرة في وجوه الكفار. قلت: ويمكن الجمع بأن بعضها يصير نارا وبعضها غبارا وبعضها يصير خبزة وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة أنها "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} أين يكون الناس حينئذ؟ قال: "على الصراط" وفي رواية الترمذي "على جسر جهنم" ولأحمد من طريق ابن عباس عن عائشة "على متن جهنم" وأخرج مسلم أيضا من حديث ثوبان مرفوعا: "يكونون في الظلمة دون الجسر" فقد جمع بينها البيهقي بأن المراد بالجسر الصراط كما سيأتي بيانه في ترجمة مستقلة وأن في قوله على الصراط مجازا لكونهم يجاوزونه لأن في حديث ثوبان زيادة يتعين المصير إليها لثبوتها وكان ذلك عند الزجرة التي تقع عند نقلهم من أرض الدنيا إلى أرض الموقف ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} واختلف في السماوات أيضا فتقدم قول من قال إنها تصير جفانا وقيل إنها إذا طويت تكور شمسها وقمرها وسائر نجومها وتصير تارة كالمهل وتارة كالدهان وأخرج البيهقي في "البعث" من طريق السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: السماء تكون ألوانا كالمهل وكالدهان وواهية وتشقق فتكون حالا بعد حال وجمع بعضهم بأنها تنشق أولا فتصير كالوردة وكالدهان وواهية وكالمهل وتكور الشمس والقمر وسائر النجوم ثم تطوى السماوات وتضاف إلى الجنان ونقل القرطبي في "التذكرة" عن أبي الحسن بن حيدرة صاحب "الإفصاح" أنه جمع بين هذه الأخبار بأن تبديل السماوات والأرض يقع مرتين إحداهما تبدل

(11/376)


صفاتهما فقط وذلك عند النفخة الأولى فتنثر الكواكب وتخسف الشمس والقمر وتصير السماء كالمهمل وتكشط عن الرءوس وتسير الجبال وتموج الأرض وتنشق إلى أن تصير الهيئة غير الهيئة ثم بين النفختين تطوى السماء والأرض وتبدل السماء والأرض إلى آخر كلامه في ذلك والعلم عند الله تعالى.

(11/377)


باب الحشر
...
بعض "وللنسائي والحاكم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة "قلت: يا رسول الله فكيف بالعورات؟ قال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وللترمذي والحاكم من طريق عثمان بن عبد الرحمن القرظي "قرأت عائشة {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فقالت: واسوأتاه الرجال والنساء يحشرون جميعا ينطر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال: لكل امرئ الآية وزاد: لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض" ولابن أبي الدنيا من حديث أنس قال: "سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم كيف يحشر الناس؟ قال: "حفاة عراة" . قالت: واسوأتاه قال قد نزلت على آية لا يضرك كان عليك ثياب أو لا: لكل امرئ الآية" وفي حديث سودة عند البيهقي والطبراني نحوه أخرجاه من طريق أبي أويس عن محمد بن أبي عياش عن عطاه بن يسار عنها وأخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني في الأوسط من رواية عبد الجبار بن سليمان عن محمد بهذا الإسناد فقال: "عن أم سلمة" بدل سودة. قوله: "حدثنا غندر" هو محمد بن جعفر وقع كذلك في رواية مسلم عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار شيخ البخاري فيه كلاهما عنه. قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "عن عمرو بن ميمون" صرح يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق بسماعه من عمرو بن ميمون وسيأتي في الأيمان والنذور. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود ووقع في رواية يوسف المذكورة "حدثني عبد الله بن مسعود". قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم" زاد مسلم عن محمد بن المثنى "نحوا من أربعين رجلا" وفي رواية يوسف المذكورة "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مضيف ظهره إلى قبة من آدم يماني" ولمسلم من رواية مالك ابن مغول عن أبي إسحاق "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ظهره إلى قبة من أدم" وللإسماعيلي من رواية إسرائيل عن أبي إسحاق "أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بمنى إلى قبة من أدم". قوله: "أترضون" في رواية يوسف "إذ قال لأصحابه ألا ترضون" وفي رواية إسرائيل "أليس ترضون" وفي رواية مالك بن مغول "أتحبون" قال ابن التين: ذكره بلفظ الاستفهام لإرادة تقرير البشارة بذلك وذكره بالتدريج ليكون أعظم لسرورهم. قوله: "قلنا نعم" في رواية يوسف "قالوا بلى" ولمسلم من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق "فكبرنا في الموضعين" ومثله في حديث أبي سعيد الآتي في الباب الذي يليه وزاد: "فحمدنا" وفي حديث ابن عباس "ففرحوا" وفي ذلك كله دلالة على أنهم استبشروا بما بشرهم به فحمدوا الله على نعمته العظمى وكبروه استعظاما لنعمته بعد استعظامهم لنقمته. قوله: "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" في رواية أبي الأحوص وإسرائيل "فقال والذي نفس محمد بيده" وقال: "نصف" بدل "شطر" وفي حديث أبي سعيد "إني لأطمع" بدل "لأرجو" ووقع لهذا الحديث سبب يأتي التنبيه عليه عند شرح حديث أبي سعيد وزاد الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في نحو حديث أبي سعيد "وإني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة بل أرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة" ولا تصح هذه الزيادة لأن الكلبي واه ولكن أخرج أحمد وابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة قال: "لما نزلت {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} شق ذلك على الصحابة فنزلت {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني" وأخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: "أنتم ربع أهل الجنة أنتم ثلث أهل الجنة أنتم نصف أهل الجنة أنتم ثلثا أهل الجنة" وأخرج الخطيب في "المبهمات" من مرسل مجاهد نحو حديث الكلبي وفيه مع إرساله أبو حذيفة إسحاق بن بشر أحد

(11/287)


باب قوله عزوجل { إن زلزلة الساعة شيء عظيم }
...
46 - باب قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} أَزِفَتْ الْآزِفَةُ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ
6530- حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ يَا آدَمُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ قَالَ يَقُولُ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ قَالَ وَمَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ قَالَ أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا وَمِنْكُمْ رَجُلٌ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لاَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لاَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ أَوْ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ"
قوله: "باب إن زلزلة الساعة شيء عظيم" أشار بهذه الترجمة إلى ما وقع في بعض طرق الحديث الأول أنه صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية عند ذكر الحديث والزلزلة الاضطراب وأصله من الزلل وفي تكرير الزاي فيه تنبيه على ذلك.

(11/388)


والساعة في الأصل جزء من الزمان واستعيرت ليوم القيامة كما تقدم في "باب سكرات الموت" وقال الزجاج: معنى الساعة الوقت الذي تقوم فيه القيامة إشارة إلى أنها ساعة خفيفة يقع فيها أمر عظيم وقيل سميت ساعة لوقوعها بغتة أو لطولها أو لسرعة الحساب فيها أو لأنها عند الله خفيفة مع طولها على الناس. قوله: "أزفت الآزفة: اقتربت الساعة" هو من الأزف بفتح الزاي وهو القرب يقال أزف كذا أي قرب وسميت الساعة آزفة لقربها أو لضيق وقتها واتفق المفسرون على أن معنى أزفت اقتربت أو دنت. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد. قوله: "عن الأعمش عن أبي صالح" في رواية أبي أسامة في بدء الخلق وحفص بن غياث في تفسير سورة الحج كلاهما "عن الأعمش حدثنا أبو صالح" وهو ذكوان وأبو سعيد هو الخدري. قوله: "يقول الله" كذا وقع للأكثر غير مرفوع وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج" وفي رواية كريمه بإثبات قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكذا وقع لمسلم عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير بسند البخاري فيه ونحوه في رواية أبي أسامة وحفص وقد ظهر من حديث أبي هريرة الذي قبله أن خطاب آدم بذلك أول شيء يقع يوم القيامة ولفظه: "أول من يدعي يوم القيامة آدم عليه السلام فتراءى ذريته" بمثناة واحدة ومد ثم همزة مفتوحة ممالة وأصله فتتراءى فحذفت إحدى التاءين وتراءى الشخصان تقابلا بحيث صار كل منهما يتمكن من رؤية الآخر ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق الدراوردي عن ثور "فتتراءى له ذريته" على الأصل وفي حديث أبي هريرة "فيقال هذا أبوكم" وفي رواية الدراوردي "فيقولون هذا أبوكم". قوله: "فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك" في الاقتصار على الخير نوع تعطيف ورعاية للأدب وإلا فالشر أيضا بتقدير الله كالخير. قوله: "أخرج بعث النار" في حديث أبي هريرة "بعث جهنم من ذريتك" وفي رواية أحمد "نصيب" بدل "بعث" والبعث بمعنى المبعوث وأصلها في السرايا التي يبعثها الأمير إلى جهة من الجهات للحرب وغيرها ومعناها هنا ميز أهل النار من غيرهم وإنما خص بذلك آدم لكونه والد الجميع ولكونه كان قد عرف أهل السعادة من أهل الشقاء فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وعن يمينه أسودة وعن شماله أسودة الحديث كما تقدم في حديث الإسراء وقد أخرج ابن أبي الدنيا من مرسل الحسن قال: "يقول الله لآدم: يا آدم أنت اليوم عدل بيني وبين ذريتك قم فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم". قوله: "قال وما بعث النار" الواو عاطفة على شيء محذوف تقديره سمعت وأطعت وما بعث النار أي وما مقدار مبعوث النار وفي حديث أبي هريرة "فيقول يا رب كم أخرج". قوله: "من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين" في حديث أبي هريرة "من كل مائة تسعة وتسعين" قال الإسماعيلي: في حديث أبي سعيد "من كل ألف واحد" وكذا في حديث غيره ويشبه أن يكون حديث ثور يعني راويه عن أبي الغيث عن أبي هريرة وهما. قلت: ولعله يريد بقوله غيره ما أخرجه الترمذي من وجهين عن الحسن البصري عن عمران بن حصين نحوه وفي أوله زيادة قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فرفع صوته بهاتين الآيتين: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم - إلى شديد فحث أصحابه المطي فقال: هل تدرون أي يوم ذاك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " ذاك يوم ينادي الله آدم" فذكر نحو حديث أبي سعيد وصححه وكذا الحاكم وهذا سياق قتادة عن الحسن من رواية هشام الدستوائي عنه ورواه معمر عن قتادة فقال عن أنس أخرجه الحاكم أيضا ونقل عن الذهلي أن الرواية الأولى هي المحفوظة وأخرجه البزار والحاكم أيضا من طريق هلال بن خباب بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة عن عكرمة

(11/389)


عن ابن عباس قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ثم قال: هل تدرون" فذكر نحوه وكذا وقع في حديث عبد الله بن عمر وعند مسلم رفعه: "يخرج الدجال - إلى أن قال - ثم ينفخ في الصور أخرى فإذا هم قيام ينظرون ثم يقال: أخرجوا بعث النار" وفيه: " فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون. فذاك يوم يجعل الولدان شيبا" وكذا رأيت هذا الحديث في مسند أبي الدرداء بمثل العدد المذكور رويناه في "فوائد طلحة بن الصقر" وأخرجه ابن مردويه من حديث أبي موسى نحوه فاتفق هؤلاء على هذا العدد ولم يستحضر الإسماعيلي لحديث أبي هريرة متابعا وقد ظفرت به في مسند أحمد فإنه أخرج من طريق أبي إسحاق الهجري وفيه مقال عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود نحوه. وأجاب الكرماني بأن مفهوم العدد لا اعتبار له فالتخصيص بعدد لا يدل على نفي الزائد والمقصود من العددين واحد وهو تقليل عدد المؤمنين وتكثير عدد الكافرين. قلت: ومقتضى كلامه الأول تقديم حديث أبي هريرة على حديث أبي سعيد فإنه يشتمل على زيادة فإن حديث أبي سعيد يدل على أن نصيب أهل الجنة من كل ألف واحد وحديث أبي هريرة يدل على عشرة فالحكم للزائد ومقتضى كلامه الأخير أن لا ينظر إلى العدد أصلا بل القدر المشترك بينهما ما ذكره من تقليل العدد وقد فتح الله تعالى في ذلك بأجوبة أخر وهو حمل حديث أبي سعيد ومن وافقه على جميع ذرية آدم فيكون من كل ألف واحد حمل حديث أبي هريرة ومن وافقه على من عدا يأجوج ومأجوج فيكون من كل ألف عشرة ويقرب ذلك أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة ويحتمل أن يكون الأول يتعلق بالخلق أجمعين والثاني بخصوص هذه الأمة ويقربه قوله في حديث أبي هريرة "إذا أخذ منا" لكن في حديث ابن عباس "وإنما أمتي جزء من ألف جزء" ويحتمل أن تقع القسمة مرتين مرة من جميع الأمم قبل هذه الأمة فيكون من كل ألف واحد ومرة من هذه الأمة فقط فيكون من كل ألف عشرة ويحتمل أن يكون المراد ببعث النار الكفار ومن يدخلها من العصاة فيكون من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كافرا ومن كل مائة تسعة وتسعون عاصيا والعلم عند الله تعالى. قوله: "فذاك حين يشيب الصغير وتضع وساق إلى قوله شديد" ظاهره أن ذلك يقع في الموقف وقد استشكل بأن ذلك الوقت لا حمل فيه ولا وضع ولا شيب ومن ثم قال بعض المفسرين إن ذلك قبل يوم القيامة لكن الحديث يرد عليه وأجاب الكرماني بأن ذلك وقع على سبيل التمثيل والتهويل وسبق إلى ذلك النووي فقال: فيه وجهان للعلماء فذكرهما وقال: التقدير أن الحال ينتهي أنه لو كانت النساء حينئذ حوامل لوضعت كما تقول العرب "أصابنا أمر يشيب منه الوليد" وأقول يحتمل أن يحمل على حقيقته فإن كل أحد يبعث على ما مات عليه فنبعث الحامل حاملا والمرضع مرضعة والطفل طفلا فإذا وقعت زلزلة الساعة وقيل ذلك لآدم ورأى الناس آدم وسمعوا ما قيل له وقع بهم من الوجل ما يسقط معه الحمل ويشيب له الطفل وتذهل به المرضعة ويحتمل أن يكون ذلك بعد النفخة الأولى وقبل النفخة الثانية ويكون خاصا بالموجودين حينئذ وتكون الإشارة بقوله: "فذاك" إلى يوم القيامة وهو صريح في الآية ولا يمنع من هذا الحمل ما يتخيل من طول المسافة بين قيام الساعة واستقرار الناس في الموقف ونداء آدم لتمييز أهل الموقف لأنه قد ثبت أن ذلك يقع متقاربا كما قال الله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} يعني أرض الموقف وقال تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} والحاصل أن يوم القيامة يطلق على ما بعد نفخة البعث من أهوال وزلزلة وغير ذلك إلى آخر الاستقرار في الجنة أو النار وقريب

(11/390)


منه ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في أشراط الساعة إلى أن ذكر النفخ في الصور إلى أن قال: "ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال أخرجوا بعث النار" فذكره قال: "فذاك يوم يجعل الولدان شيبا" ووقع في حديث الصور الطويل عند علي بن معبد وغيره ما يؤيد الاحتمال الثاني وقد تقدم بيانه في "باب النفخ في الصور" وفيه بعد قوله وتضع الحوامل ما في بطونها وتشيب الولدان وتتطاير الشياطين "فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض فيأخذهم لذلك الكرب والهول. ثم تلا الآيتين من أول الحج" الحديث. قال القرطبي في "التذكرة": هذا الحديث صححه ابن العربي فقال: يوم الزلزلة يكون عند النفخة الأولى وفيه ما يكون فيه من الأهوال العظيمة ومن جملتها ما يقال لآدم ولا يلزم من ذلك أن يكون ذلك متصلا بالنفخة الأول بل له محملان. أحدهما أن يكون آخر الكلام منوطا بأوله والتقدير يقال لآدم ذلك في أثناء اليوم الذي يشيب فيه الولدان وغير ذلك وثانيهما أن يكون شيب الولدان عند النفخة الأولى حقيقة والقول لآدم يكون وصفه بذلك إخبارا عن شدته وإن لم يوجد عين ذلك الشيء. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون المعنى أن ذلك حين يقع لا يهم كل أحد إلا نفسه حتى إن الحامل تسقط من مثله والمرضعة إلخ. ونقل عن الحسن البصري في هذه الآية: المعنى أن لو كان هناك مرضعة لذهلت. وذكر الحليمي واستحسنه القرطبي أنه يحتمل أن يحيى الله حينئذ حمل كان قد تم خلقه ونفخت فيه الروح فتذهل الأم حينئذ عنه لأنها لا تقدر على إرضاعه إذ لا غذاء هنا ولا لبن، وأما الحمل الذي لم ينفخ فيه الروح فإنه إذا سقط لم يحيى لأن ذلك يوم الإعادة، فمن لم يمت في الدنيا لم يحيى في الآخرة. قوله: "فاشتد ذلك عليهم" في حديث ابن عباس "فشق ذلك على القوم ووقعت عليهم الكآبة والحزن" وفي حديث عمران عند الترمذي من رواية ابن جدعان عن الحسن "فأنشأ المؤمنون يبكون" ومن رواية قتادة عن الحسن "فنبس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة" ونبس بضم النون وكسر الموحدة بعدها مهملة معناه تكلم فأسرع، وأكثر ما يستعمل في النفي. وفي رواية شيبان عن قتادة عند ابن مردويه" أبلسوا" وكذا له نحوه من رواية ثابت عن الحسن. قوله:" وأينا ذلك الرجل" قال الطيبي: يحتمل أن يكون الاستفهام على حقيقته، فكان حق الجواب أن ذلك الواحد فلان أو من يتصف بالصفة الفلانية، ويحتمل أن يكون استعظاما لذلك الأمر واستشعارا للخوف منه، فلذلك وقع الجواب بقوله: "أبشروا" ووقع في حديث أبي هريرة "فقالوا يا رسول الله إذا أخذ منا من كل مائة تسعة وتسعون فماذا يبقى" وفي حديث أبي الدرداء "فبكى أصحابه". قوله: "فقال أبشروا" في حديث ابن عباس اعملوا وأبشروا، وفي حديث عمران مثله، وللترمذي من طريق ابن جدعان "قاربوا وسددوا" ونحوه في حديث أنس. قوله: "فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل" ظاهره زيادة واحد عما ذكر من تفصيل الألف فيحتمل أن يكون من جبر الكسر، والمراد أن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين أو ألفا إلا واحدا، وأما قوله: "ومنكم رجل" تقديره والمخرج منكم أو ومنكم رجل مخرج، ووقع في بعض الشروح أن لبعض الرواة "فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا" بالنصب فيهما على المفعول بإخراج المذكور في أول الحديث، أي فإنه يخرج كذا، وروى بالرفع على خبر إن واسمها مضمر قبل المجرور، أي فإن المخرج منكم رجل، قلت: والنصب أيضا على اسم إن صريحا في الأول وبتقدير في الثاني، وهو أولى من الذي قاله فإن فيه تكلفا، ووقع في رواية الأصيلي بالرف في ألف وحده وبالنصب في رجلا ولأبي ذر بالعكس. وفي رواية مسلم بالرفع فيهما، قال النووي: هكذا

(11/391)


في جميع الروايات والتقدير فإنه فحذف الهاء وهي ضمير الشأن وذلك مستعمل كثيرا، ووقع في حديث ابن عباس "وإنما أمتي جزء من ألف جزء" قال الطيبي: فيه إشارة إلى أن يأجوج ومأجوج داخلون في العدد المذكور والوعيد كما يدل قوله: "ربع أهل الجنة" على أن في غير هذه الأمة أيضا من أهل الجنة. وقال القرطبي: قوله: "من يأجوج ومأجوج ألف" أي منهم وممن كان على الشرك مثلهم، وقوله: "ومنكم رجل" يعني من أصحابه ومن كان مؤمنا مثلهم. قلت: وحاصله أن الإشارة بقوله: "منكم" إلى المسلمين من جميع الأمم، وقد أشار إلى ذلك في حديث ابن مسعود بقوله: "إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة". قوله: "ثم قال والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة" تقدم في الباب قبله من حديث ابن مسعود "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة" وكذا في حديث ابن عباس، وهو محمول على تعدد القصة، فقد تقدم أن القصة التي في حديث ابن مسعود وقعت وهو صلى الله عليه وسلم في قبته بمنى، والقصة التي في حديث أبي سعيد وقعت وهو صلى الله عليه وسلم سائر على راحلته، ووقع في رواية ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في غزوة بني المصطلق" ومثله في مرسل مجاهد عند الخطيب في "المبهمات" كما سيأتي التنبيه عليه في "باب من يدخل الجنة بغير حساب". ثم ظهر لي أن القصة واحدة وأن بعض الرواة حفظ فيه ما لم يحفظ الآخر، إلا أن قول من قال كان ذلك في غزوة بني المصطلق واه والصحيح ما في حديث ابن مسعود وأن ذلك كان بمنى، وأما ما وقع في حديثه أنه قال ذلك وهو في قبته فيجمع بينه وبين حديث عمران بأن تلاوته الآية وجوابه عنها اتفق أنه كان وهو سائر، ثم قوله: "إني لأطمع إلخ" وقع بعد أن نزل وقعد بالقبة، وأما زيادة الربع قبل الثلث فحفظها أبو سعيد وبعضهم لم يحفظ الربع، وقد تقدمت سائر مباحثه في الحديث الخامس من الباب الذي قبله.

(11/392)


47 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ} قَالَ الْوُصُلاَتُ فِي الدُّنْيَا
6531- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ "يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ"
6532- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ"
قوله: "باب قول الله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين" كأنه أشار بهذه الآية إلى ما أخرجه هناد بن السري في الزهد من طريق عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عمرو قال: "قال له رجل: إن أهل المدينة ليوفون الكيل، فقال: وما يمنعهم وقد قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} إلى قوله: يوم

(11/392)


يقوم الناس لرب العالمين، قال: إن العرق ليبلغ أنصاف آذانهم من هول يوم القيامة" وهذا لما لم يكن على شرطه أشار إليه، وأورد حديث ابن عمر المرفوع في معناه، وأصل البعث إثارة الشيء عن جفاء وتحريكه عن سكون، والمراد به هنا إحياء الأموات وخروجهم من قبورهم ونحوها إلى حكم يوم القيامة.قوله: "قال ابن عباس: وتقطعت بهم الأسباب قال: الوصلات في الدنيا" بضم الواو والصاد المهملة. وقال ابن التين: ضبطناه يفتح الصاد وبضمها وبسكونها. وقال أبو عبيدة: الأسباب هي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا واحدتها وصلة، وهذا الأثر لم أظفر به عن ابن عباس بهذا اللفظ، وقد وصله عبد بن حميد والطبري وابن أبي حاتم بسند ضعيف عن ابن عباس قال: المودة، وهو بالمعنى. وكذا أخرجه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وللطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: تقطعت بهم المنازل، ومن طريق الربيع بن أنس مثله، وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن الربيع عن أبي العالية قال يعني أسباب الندامة، وللطبري من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: الأسباب الأرحام، وهذا منقطع. ولابن أبي حاتم من طريق الضحاك قال: تقطعت بهم الأرحام وتفرقت بهم المنازل في النار. وورد بلفظ التواصل والمواصلة أخرجه الثلاثة المذكرون أيضا من طريق عبيد المكتب عن مجاهد قال: تواصلهم في الدنيا. وللطبري من طريق جريج عن مجاهد قال: تواصل كان بينهم بالمودة في الدنيا. وله من طريق سعيد ولعبد من طريق شيبان كلاهما عن قتادة قال: الأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها ويتحابون فصارت عداوة يوم القيامة. وللطبري من طريق معمر عن قتادة قال: هو الوصل الذي كان بينهم في الدنيا. ولعبد من طريق السدي عن أبي صالح قال: الأعمال. وهو عند الطبري عن السدي من قوله، قال الطبري: الأسباب جمع سبب وهو كل ما يتسبب به إلى طلبة وحاجة، فيقال للحبل سبب لأنه يتوصل به إلى الحاجة التي يتعلق به إليها، وللطريق سبب للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه، وللمصاهرة سبب للحرمة وللوسيلة سبب للوصول بها إلى الحاجة. وقال الراغب: السبب: الحبل، وسمي كل ما يتوصل به إلى شيء سببا، ومنه {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي أصل إلى الأسباب الحادثة في السماء فأتوصل بها إلى معرفة ما يدعيه موسى، ويسمى العمامة والخمار والثوب الطويل سببا تشبيها بالحبل وكذا منهج الطريق لشبهه بالحبل، وبالثوب الممدود أيضا. حديث ابن عمر "عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم يقوم الناس لرب العالمين قال: يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه" في رواية صالح بن كيسان عن نافع عند مسلم حتى يغيب أحدهم، وكذا تقدم في تفسير {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} من طريق مالك عن نافع، والرشح بفتح الراء وسكون الشين المعجمة بعدهما مهملة هو العرق شبه برشح الإناء لكونه يخرج من البدن شيئا فشيئا، وهذا ظاهر في أن العرق يحصل لكل شخص من نفسه، وفيه تعقب على من جوز أن يكون من عرقه فقط أو من عرقه وعرق غيره. وقال عياض: يحتمل أن يريد عرق الإنسان نفسه بقدر خوفه مما يشاهده من الأهوال، ويحتمل أن يريد عرقه وعرق غيره فيشدد على بعض ويخفف على بعض وهذا كله بتزاحم الناس وانضمام بعضهم إلى بعض حتى صار العرق يجري سائحا في وجه الأرض كالماء في الوادي بعد أن شربت منه الأرض وغاص فيها سبعين ذراعا. قلت: واستشكل بأن الجماعة إذا وقفوا في الماء الذي على أرض معتدلة كانت تغطية الماء لهم على السواء، لكنهم إذا اختلفوا في الطول والقصر تفاوتوا فكيف يكون الكل إلى الأذن؟ والجواب أن ذلك من الخوارق الواقعة يوم القيامة، والأولى أن تكون

(11/393)


الإشارة بمن يصل الماء إلى أذنيه إلى غاية ما يصل الماء، ولا ينفي أن يصل الماء لبعضهم إلى دون ذلك، فقد أخرج الحاكم من حديث عقبة بن عامر رفعه: "تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ عرقه عقبه ومنهم من يبلغ نصف ساقه ومنهم من يبلغ ركبته ومنهم من يبلغ فخذه ومنهم من يبلغ خاصرته ومنهم من يبلغ منكبه ومنهم من يبلغ فاه وأشار بيده فألجمها فاه ومنهم من يغطيه عرقه وضرب بيده على رأسه" وله شاهد عند مسلم من حديث المقداد بن الأسود وليس بتمامه وفيه: "تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فتكون الناس على مقدار أعمالهم في العرق" الحديث فإنه ظاهر في أنهم يستوون في وصول العرق إليهم ويتفاوتون في حصوله فيهم. وأخرج أبو يعلى وصححه ابن حبان عن أبي هرة رضي الله عنه "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوم يقوم الناس لرب العالمين قال: مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس إلى أن تغرب" وأخرجه أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبي سعيد والبيهقي في البعث من طريق عبد الله بن الحارث عن أبي هريرة "يحشر الناس قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء فيلجمهم العرق من شدة الكرب". قوله: "حدثني سليمان" هو ابن بلال والسند كل مدنيون. قوله: "يعرق الناس" بفتح الراء وهي مكسورة في الماضي. قوله: "يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم العرق حتى يبلغ آذانهم" في رواية الإسماعيلي من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلان "سبعين باعا" وفي رواية مسلم من طريق الدراوردي عن ثور "وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم شك ثور" وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الذي يلجمه العرق الكافر أخرجه البيهقي في البعث بسند حسن عنه قال: "يشتد كرب ذلك اليوم حتى يلجم الكافر العرق، قيل له: فأين المؤمنون؟ قال علي الكراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام" وبسند قوي عن أبي موسى قال: "الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة وأعمالهم تظلهم" وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة في المصنف واللفظ له بسند جيد عن سلمان قال: "تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة ثم ترتفع حتى يغرغر الرجل" زاد ابن المبارك في روايته: "ولا يضر حرها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة" قال القرطبي: المراد من يكون كامل الإيمان لما يدل عليه حديث المقداد وغيره أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم، وفي حديث ابن مسعود عند الطبراني والبيهقي "إن الرجل ليفيض عرقا حتى يسيح في الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه" وفي رواية عنه عند أبي يعلى وصححها ابن حبان: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب أرحني ولو إلى النار" وللحاكم والبزار من حديث جابر نحوه، وهو كالصريح في إن ذلك كله في الموقف، وقد ورد أن التفصيل الذي في حديث عقبة والمقداد يقع مثله لمن يدخل النار، فأخرج مسلم أيضا من حديث سمرة رفعه: "أن منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته وفي رواية إلى حقويه ومنهم من تأخذه إلى عنقه" وهذا يحتمل أن يكون النار فيه مجازا عن شدة الكرب الناشئ عن العرق فيتحد الموردان، ويمكن أن يكون ورد في حق من يدخل النار من الموحدين. فإن أحوالهم في التعذيب تختلف بحسب أعمالهم، وأما الكفار فإنهم في الغمرات. قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: ظاهر الحديث تعميم الناس بذلك، ولكن دلت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم في العرق الكفار ثم أصحاب الكبائر ثم من بعدهم والمسلمون منهم قليل

(11/394)


بالنسبة إلى الكفار كما تقدم تقريره في حديث بعث النار، قال: والظاهر أن المراد بالذراع في الحديث المتعارف، وقيل هو الذراع الملكي، ومن تأمل الحالة المذكورة عرف عظم الهول فيها، وذلك أن النار تحف بأرض الموقف وتدنى الشمس من الرءوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض وماذا يرويها من العرق حتى يبلغ منها سبعين ذراعا مع أن كل واحد لا يجد إلا قدر موضع قدمه، فكيف تكون حالة هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فبه، إن هذا لمما يبهر العقول ويدل على عظيم القدوة ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة أن ليس للعقل فيها مجال، ولا يعترض عليها بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول ويدخل تحت الإيمان بالغيب، ومن توقف في ذلك دل على خسرانه وحرمانه. وفائدة الإخبار بذلك أن يتنبه السامع فيأخذ في الأسباب التي تخلصه من تلك الأهوال، ويبادر إلى التوبة من التبعات، ويلجأ إلى الكريم الوهاب في عونه على أسباب السلامة، ويتضرع إليه في سلامته من دار الهوان، وإدخاله دار الكرامة بمنه وكرمه.

(11/395)


48 - باب الْقِصَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ الْحَاقَّةُ لِأَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ وَحَوَاقَّ الأُمُورِ الْحَقَّةُ وَ الْحَاقَّةُ وَاحِدٌ وَ الْقَارِعَةُ وَالْغَاشِيَةُ وَ الصَّاخَّةُ وَالتَّغَابُنُ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ
6533- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ "سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ"
[الحديث 6533- طرفه في: 6864]
6534- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ"
6535- حَدَّثَنِي الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ "أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا"
قوله: "باب القصاص يوم القيامة" القصاص بكسر القاف وبمهملتين مأخوذ من القص وهو القطع، أو من اقتصاص الأثر وهو تتبعه، لأن المقتص يتتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها، يقال اقتص من غريمه واقتص الحاكم لفلان من فلان. قوله: "وهي الحاقة" الضمير للقيامة. قوله: "لأن فيها الثواب؛ وحواق الأمور الحقة والحاقة واحد" هذا أخذه من كلام الفراء، قال في "معاني القرآن". الحاقة القيامة، سميت بذلك لأن فيها

(11/395)


الثواب وحواق الأمور، ثم قال: والحقة والحاقة كلاهما بمعنى واحد، قال الطبري: سميت الحاقة لأن الأمور تحق فيها، وهو كقولهم ليل قائم. وقال غيره: سميت الحاقة لأنها أحقت لقوم الجنة ولقوم النار، وقيل لأنها تحاقق الكفار الذين خالفوا الأنبياء، يقال حاققته فحققته أي خاصمته فخصمته، وقيل لأنها حق لا شك فيه. قوله: "والقارعة" هو معطوف على الحاقة، والمراد أنها من أسماء يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها. قوله: "والغاشية" سميت بذلك لأنها تغشى الناس بأفزاعها أي تعمهم بذلك. قوله: "والصاخة" قال الطبري: أظنه من صخ فلان فلانا إذا أصمه، وسميت بذلك لأن صيحة القيامة مسمعة لأمور الآخرة ومصمة عن أمور الدنيا، وتطلق الصاخة أيضا على الداهية. قوله: "التغابن غبن أهل الجنة أهل النار" غبن بفتح المعجمة والموحدة بعدها نون، والسبب في ذلك أن أهل الجنة ينزلون منازل الأشقياء التي كانت أعدت لهم لو كانوا سعداء، فعلى هذا فالتغابن من طرف واحد، ولكنه ذكر بهذه الصيغة للمبالغة، وقد اقتصر المصنف من أسماء يوم القيامة على هذا القدر، وجمعها الغزالي ثم القرطبي فبلغت نحو الثمانين اسما، فمنها يوم الجمع ويوم الفزع الأكبر ويوم التناد ويوم الوعيد ويوم الحسرة ويوم التلاق ويوم المآب ويوم الفصل ويوم العرض على الله ويوم الخروج ويوم الخلود، ومنها يوم عظيم ويوم عسير ويوم مشهود ويوم عبوس قمطرير، ومنها يوم تبلى السرائر، ومنها يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ويوم يدعون إلى نار جهنم ويوم تشخص فيه الأبصار ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ويوم لا ينطقون ويوم لا ينفع مال ولا بنون ويوم لا يكتمون الله حديثا ويوم لا مرد له من الله ويوم لا بيع فيه ولا خلال ويوم لا ريب فيه، فإذا ضمت هذه إلى ما ذكر في الأصل كانت أكثر من ثلاثين اسما معظمها ورد في القرآن بلفظه، وسائر الأسماء المشار إليها أخذت بطريق الاشتقاق بما ورد منصوصا كيوم الصدر من قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} ويوم الجدال من قوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} ولو تتبع مثل هذا من القرآن زاد على ما ذكر والله أعلم. وذكر في الباب ثلاثة أحاديث. حديث ابن مسعود والسند إليه كوفيون، وشقيق هو ابن سلمة أبو وائل مشهور بكنيته أكثر من اسمه. قوله: "أول ما يقضى بين الناس بالدماء" في رواية الكشميهني:" الدماء" وسيأتي كالأول في الديات من وجه آخر عن الأعمش، ولمسلم والإسماعيلي من طريق أخرى عن الأعمش "بين الناس يوم القيامة في الدماء" أي التي وقعت بين الناس في الدنيا، والمعنى أول القضايا القضاء في الدماء، ويحتمل أن يكون التقدير أول ما يقضى فيه الأمر الكائن في الدماء، ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة رفعه: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته" الحديث أخرجه أصحاب السنن لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق والثاني فيما يتعلق بعبادة الخالق، وقد جمع النسائي في روايته في حديث ابن مسعود بين الخبرين ولفظه: "أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء" وتقدم في تفسير سورة الحج ذكر هذه الأولية بأخص مما في حديث الباب وهو عن على قال: "أنا أول من يحثو للخصومة يوم القيامة" يعني هو ورفيقاه حمزة وعبيدة وخصومهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة الذين بارزوا يوم بدر، قال أبو ذر: فهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الآية وتقدم شرحه هناك، وفي حديث الصور الطويل عن أبي هريرة رفعه: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء، ويأتي كل قتيل قد حمل رأسه فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني" الحديث، وفي حديث نافع بن جبير عن ابن عباس رفعه: "يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى

(11/396)


يديه ملببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يقفا بين يدي الله" الحديث، ونحوه عند ابن المبارك عن عبد الله بن مسعود موقوفا. وأما كيفية القصاص فيما عدا ذلك فيعلم من الحديث الثاني. وأخرج ابن ماجه عن ابن عباس رفعه: "نحن آخر الأمم وأول من يحاسب يوم القيامة" وفي الحديث عظم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك. وقد ورد في التغليظ في أمر القتل آيات كثيرة وآثار شهيرة يأتي بعضها في أول الديات. قوله: "مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري" في رواية ابن وهب عن مالك "حدثني سعيد بن أبي سعيد". قوله: "من كانت عنده مظلمة لأخيه" في رواية الكشميهني: "من أخيه". قوله: "ليس ثم دينار ولا درهم" في حدث ابن عمر رفعه: "من مات وعليه دينار أو درهم قضى من حسناته" أخرجه ابن ماجه، وقد مضى شرحه في كتاب المظالم، والمراد بالحسنات الثواب عليها وبالسيئات العقاب عليها، وقد استشكل إعطاء الثواب وهو لا يتناهى في مقابلة العقاب وهو متناه، وأجيب بأنه محمول على أن الذي يعطاه صاحب الحق من أصل الثواب ما يوازي العقوبة عن السيئة وأما ما زاد على ذلك بفضل الله فإنه يبقى لصاحبه، قال البيهقي سيئات المؤمن على أصول أهل السنة متناهية الجزاء وحسناته غير متناهية الجزاء لأن من ثوابها الخلود في الجنة، فوجه الحديث عندي والله أعلم أنه يعطى خصماء المؤمن المسيء من أجر حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته فإن فنيت حسناته أخذ من خطايا خصومه فطرحت عليه ثم يعذب إن لم يعف عنه، فإذا انتهت عقوبة تلك الخطايا أدخل الجنة بما كتب له من الخلود فيها بإيمانه ولا يعطى خصماؤه ما زاد من أجر حسناته على ما قابل عقوبة سيئاته يعني من المضاعفة، لأن ذلك من فضل الله يختص به من وافى يوم القيامة مؤمنا والله أعلم. قال الحميدي في "كتاب الموازنة: الناس ثلاثة" من رجحت حسناته على سيئاته أو بالعكس أو من تساوت حسناته وسيئاته، فالأول فائز بنص القرآن والثاني يقتضى منه بما فضل من معاصيه على حسناته من النفخة إلى آخر من يخرج من النار بمقدار قلة شره وكثرته والقسم الثالث أصحاب الأعراف، وتعقبه أبو طالب عقيل بن عطية في كتابه الذي رد عليه فيه بأن حق العبارة فيه أن يقيد بمن شاء الله أن يعذبه منهم وإلا فالمكلف في المشيئة وصوب الثالث على أحد الأقوال أهل الأعراف قال: وهو أرجح الأقوال فيهم. قلت: قد قال الحميدي أيضا: والحق أن من رجحت سيئاته على حسناته على قسمين من يعذب ثم يخرج من النار بالشفاعة ومن يعفى عنه فلا يعذب أصلا. وعند أبي نعيم من حديث ابن مسعود يؤخذ بيد العبد فينصب على رءوس الناس وينادي مناد: هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت، فيأتون فيقول الرب: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم، فيقول للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته، فإن كان ناجيا وفضل من حسناته مثقال حبة من خردل ضاعفها الله حتى يدخله بها الجنة. وعند ابن أبي الدنيا عن حذيفة قال: صاحب الميزان يوم القيامة جبريل، يرد بعضهم على بعض، ولا ذهب يومئذ ولا فضة، فيؤخذ من حسنات الظالم فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فردت على الظالم. أخرج أحمد والحاكم من حديث جابر عن عبد الله بن أنيس رفعه: "لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده مظلمة حتى أقصه منه، حتى اللطمة. قلنا يا رسول الله كيف وإنما نحشر حفاة عراة؟ قال: بالسيئات والحسنات" وعلق البخاري طرفا منه التوحيد كما سيأتي، وفي حديث أبي أمامة في نحو حديث

(11/397)


أبي سعيد "إن الله يقول لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم" وفيه دلالة على موازنة الأعمال يوم القيامة. وقد صنف فيه الحميدي صاحب "الجمع" كتابا لطيفا وتعقب أبو طالب عقيل بن عطية أكثره في كتاب سماه "تحرير المقال في موازنة الأعمال" وفي حديث الباب وما بعده دلالة على ضعف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية غيلان بن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه رفعه: "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى" فقد ضعفه البيهقي وقال: تفرد به شداد أبو طلحة، والكافر لا يعاقب بذنب غيره لقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقد أخرج أصل الحديث مسلم من وجه آخر عن أبي بردة بلفظ: "إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول: هذا فداؤك من النار" قال البيهقي: ومع ذلك فضعفه البخاري وقال: الحديث في الشفاعة أصح. قال البيهقي: ويحتمل أن يكون الفداء في قوم كانت ذنوبهم كفرت عنهم في حياتهم، وحديث الشفاعة في قوم لم تكفر ذنوبهم، ويحتمل أن يكون هذا القول لهم في الفداء بعد خروجهم من النار بالشفاعة. وقال غيره: يحتمل أن يكون الفداء مجازا عما يدل عليه حديث أبي هريرة الآتي في أواخر "باب صفة الجنة والنار" قريبا بلفظ: "لا يدخل الجنة أحد إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا" الحديث وفيه في مقابله "ليكون عليه حسرة" فيكون المراد بالفداء إنزال المؤمن في مقعد الكافر من الجنة الذي كان أعد له وإنزال الكافر في مقعد المؤمن الذي كان أعد له، وقد يلاحظ في ذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} وبذلك أجاب النووي تبعا لغيره. وأما رواية غيلان بن جرير فأولها النووي أيضا تبعا لغيره بأن الله يغفر تلك الذنوب للمسلمين، فإذا سقطت عنهم وضعت على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم فيعاقبون بذنوبهم لا بذنوب المسلمين ويكون قوله: "ويضعها" أي يضع مثلها لأنه لما أسقط عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم انفردوا بحمل الإثم الباقي وهو إثمهم، ويحتمل أن يكون المراد آثاما كانت الكفار سببا فيها بأن سنوها فلما غفرت سيئات المؤمنين بقيت سيئات الذي سن تلك السنة السيئة باقية لكون الكافر لا يغفر له، فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لحق الكافر بما سنه من عمله السيئ، ووضعه عن المؤمن الذي فعله بما من الله به عليه من العفو والشفاعة سواء كان ذلك قبل دخول النار أو بعد دخولها والخروج منها بالشفاعة وهذا الثاني أقوى والله أعلم. قوله: "حدثنا الصلت بن محمد" بفتح الصاد المهملة وسكون اللام بعدها تاء مثناة من فوق وهو الخاركي بخاء معجمة وكاف. قوله:" حدثنا بن زريع" {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قال حدثنا سعيد" أي قرأ يزيد هذه الآية وفسرها بالحديث المذكور، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع بهذا السند إلى أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} قال: "يخلص المؤمنون" الحديث وظاهره أن تلاوة الآية مرفوع فإن كان محفوظا احتمل أن يكون كل من رواته تلا الآية عند إيراد الحديث فاختصر ذلك في رواية الصلت ممن فوق يزيد بن زريع، وقد أخرجه الطبري من رواية عفان عن يزيد بن زريع حدثنا سعيد بن أبي عروبة في هذه الآية فذكرها قال حدثنا قتادة فذكره، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم من طريق شعيب بن إسحاق عن سعيد، ورواه عبد الوهاب بن عطاء وروح بن عبادة عن سعيد فلم يذكر الآية أخرجه ابن مردويه، وأبو المتوكل الناجي بالنون اسمه علي بن داود، ورجال السند كلهم بصريون،

(11/398)


وصرح قتادة بالتحديث في هذا الحديث في رواية مضت في المظالم، وكذا الرواية المعلقة ليونس بن محمد عن شيبان عن قتادة ووصلها ابن منده، وكذا أخرجها عبد بن حميد في تفسيره عن يونس بن محمد، وكذا في رواية شعيب بن إسحاق عن سعيد ورواية بشر بن خالد وعفان عن يزيد بن زريع. قوله: "إذا خلص المؤمنون من النار" أي نجوا من السقوط فيها بعدما جازوا على الصراط، ووقع في رواية هشام عن قتادة عند المصنف في المظالم "إذا خلص المؤمنون من جسر جهنم" وسيأتي في حديث الشفاعة كيفية مرورهم على الصراط، قال القرطبي: هؤلاء المؤمنون هم الذين علم الله أن القصاص لا يستنفد حسناتهم. قلت: ولعل أصحاب الأعراف منهم على القول المرجح آنفا، وخرج من هذا صنفان من المؤمنين: من دخل الجنة بغير حساب؛ ومن أوبقه عمله. قوله: "فيحبسون على قنطرة الجنة والنار" سيأتي أن الصراط جسر موضوع على متن جهنم وأن الجنة وراء ذلك فيمر عليه الناس بحسب أعمالهم، فمنهم الناجي وهو من زادت حسناته على سيئاته أو استويا أو تجاوز الله عنه، ومنهم الساقط وهو من رجحت سيئاته على حسناته إلا من تجاوز الله عنه، فالساقط من الموحدين يعذب ما شاء الله ثم يخرج بالشفاعة وغيرها، والناجي قد يكون عليه تبعات وله حسنات توازيها أو تزيد عليها فيؤخذ من حسناته ما يعدل تبعاته فيخلص منها. واختلف في القنطرة المذكورة فقيل هي من تتمة الصراط وهي طرفه الذي يلي الجنة، وقيل إنهما صراطان، وبهذا الثاني جزم القرطبي، وسيأتي صفة الصراط في الكلام على الحديث الذي في "باب الصراط حسر جهنم" في أواخر كتاب الرقاق. قوله: "فيقتص لبعضهم من بعض" بضم أوله على البناء للمجهول للأكثر. وفي رواية الكشميهني بفتح أوله فتكون اللام على هذه الرواية زائدة، أو الفاعل محذوف وهو الله أو من أقامه في ذلك. وفي رواية شيبان "فيقتص بعضهم من بعض". قوله: "حتى إذا هذبوا ونقوا" بضم الهاء وبضم النون وهما بمعنى التمييز والتخليص من التبعات. قوله: "أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده" هذا ظاهره أنه مرفوع كله وكذا في سائر الروايات إلا في رواية عفان عند الطبري أبي فإنه جعل هذا من كلام قتادة فقال بعد قوله: "في دخول الجنة" قال: وقال قتادة "والذي نفسي بيده لأحدهم أهدي إلخ" وفي رواية شعيب بن إسحاق بعد قوله: "في دخول الجنة" قال: فوالذي نفسي بيده إلخ فأبهم القائل، فعلى رواية عفان يكون هو قتادة وعلى رواية غيره يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد محمد بن المنهال عند الإسماعيلي. قال قتادة: كان يقال ما يشبه بهم إلا أهل الجمعة إذا انصرفوا من جمعتهم. وهكذا عند عبد الوهاب وروح وفي رواية بشر بن خالد وعفان جميعا عند الطبري قال: "وقال بعضهم" فذكره وكذا في رواية شعيب بن إسحاق ويونس بن محمد، والقائل "وقال بعضهم" هو قتادة ولم أقف على تسمية القائل. قوله: "لأحدهم أهدي بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا" قال الطيبي "أهدي" لا يتعدى بالباء بل باللام أو إلى، فكأنه ضمن معنى اللصوق بمنزله هاديا إليه، ونحوه قوله تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} الآية فإن المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم إلى طريق الجنة، فأقام {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} إلى آخرها بيانا وتفسيرا، لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. قلت: ولأصل الحديث شاهد من مرسل الحسن أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عنه قال: "بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل" قال القرطبي: وقع في حديث عبد الله بن سلام أن الملائكة تدلهم على طريق الجنة يمينا وشمالا، وهو محمول على من لم يحبس

(11/399)


بالقنطرة أو على الجميع، والمراد أن الملائكة تقول ذلك لهم قبل دخول الجنة، فمن دخل كانت معرفته بمنزله فيها كمعرفته بمنزله في الدنيا. قلت: ويحتمل أن يكون القول بعد الدخول مبالغة في التبشير والتكريم، وحديث عبد الله بن سلام المذكور أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد وصححه الحاكم.

(11/400)


49 - باب مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ
6536- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ" قَالَتْ قُلْتُ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قَالَ ذَلِكِ الْعَرْضُ. حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ.."
وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ وَأَيُّوبُ وَصَالِحُ بْنُ رُسْتُمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6537- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ "حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هَلَكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ عُذِّبَ"
6538- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ"
6539- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي خَيْثَمَةُ "عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"
6540- قَالَ الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي عَمْرٌو عَنْ خَيْثَمَةَ "عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا النَّارَ" ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثُمَّ قَالَ "اتَّقُوا النَّارَ" ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلاَثًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"

(11/400)


قوله: "باب من نوقش الحساب عذب" هو من النقش وهو استخراج الشوكة وتقدم بيانه في الجهاد؛ والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة، يقال انتقشت منه حقي أي استقصيته. قوله: "عن ابن أبي مليكة عن عائشة" قال الدار قطني: رواه حاتم بن أبي صغيرة عن عبد الله ابن أبي مليكة فقال: "حدثني القاسم بن محمد حدثتني عائشة" وقوله أصح لأنه زاد، وهو حافظ متقن. وتعقبه النووي وغيره بأنه محمول على أنه سمع من عائشة وسمعه من القاسم عن عائشة فحدث به على الوجهين. قلت: وهذا مجرد احتمال، وقد وقع التصريح بسماع ابن أبي مليكة له عن عائشة في بعض طرقه كما في السند الثاني من هذا الباب فانتفى التعليل بإسقاط رجل من السند، وتعين الحمل على أنه سمع من القاسم عن عائشة ثم سمعه من عائشة بغير واسطة أو بالعكس، والسر فيه أن في روايته بالواسطة ما ليس في روايته بغير واسطة وإن كان مؤداهما واحدا، وهذا هو المعتمد بحمد الله. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية عبد بن حميد عن عبد الله بن موسى شيخ البخاري فيه: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "قالت قلت أليس يقول الله تعالى فسوف يحاسب" في رواية عبد "قلت يا رسول الله إن الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ - إلى قوله: حِسَاباً يَسِيراً} " ولأحمد من وجه آخر عن عائشة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: اللهم حاسبني حسابا يسيرا، فلما انصرف قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه؛ إن من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك" قوله في السند الثاني "مثله" تقدم في تفسير سورة انشقت بهذا السند ولم يسق لفظه أيضا، وأورده الإسماعيلي من رواية أبكر بن خلاد عن يحيى بن سعيد فقال مثل حديث عبيد الله بن موسى سواء. قوله: "تابعه ابن جريح ومحمد بن سليم وأيوب وصالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة" قلت متابعة ابن جريح ومحمد بن سليم وصلهما أبو عوانة في صحيحه من طريق أبي عاصم عن ابن جريج وعثمان بن الأسود ومحمد بن سليم كلهم عن ابن أبي مليكة عن عائشة به. "تنبيهان": أحدهما اختلف على ابن جريح في سند هذا الحديث، فأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة مختصرا ولفظه: "من حوسب يوم القيامة عذب". ثانيهما محمد بن سليم هذا جزم أبو علي الجياني بأنه أبو عثمان المكي وقال: استشهد به البخاري في الرقاق، وفرق بينه وبين محمد بن سليم البصري وهو أبو هلال الراسبي استشهد به البخاري في التعبير، وأما المزي فلم يذكر أبا عثمان في التهذيب بل اقتصر على ذكر أبي هلال وعلم علامة التعليق على اسمه في ترجمة ابن أبي مليكة وهو الذي هنا وعلى محمد بن سيرين وهو الذي في التعبير، والذي يظهر تصويب أبي علي. ومحمد بن سليم أبو عثمان المذكور ذكره البخاري في التاريخ فقال: يروى عن ابن أبي مليكة وروى عنه وكيع. وقال ابن أبي حاتم روى عنه أبو عاصم ونقل عن إسحاق ابن منصور عن يحيى بن معين قال هو ثقة. وقال أبو حاتم صالح، وذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة من الثقات. وأما متابعة أيوب فوصلها المؤلف في التفسير من رواية حماد بن زيد عن أيوب ولم يسق لفظه، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه عن إسماعيل القاضي عن سليمان شيخ البخاري فيه ولفظه: "من حوسب عذب. قالت عائشة: فقلت يا رسول الله فأين قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} قال: ذاك العرض، ولكنه من نوقش الحساب عذب" وأخرجه من طريق همام عن أيوب بلفظ: "من نوقش عذب فقالت كأنها تخاصمه فذكر نحوه وزاد في آخره: قالها ثلاث مرات" وأخرجه ابن

(11/401)


مردويه من وجه آخر عن حماد بلفظ: "ذاكم العرض" بزيادة ميم الجماعة. وأما متابعة صالح بن رستم بضم الراء وسكون المهملة وضم المثناة وهو أبو عامر الحزاز بمعجمات مشهور بكنيته أكثر من اسمه فوصلها إسحاق بن راهويه في مسنده، عن النضر بن شميل عن أبي عامر الخزاز، ووقعت لنا بعلو في "المحامليات" وفي لفظه زيادة "قال عن عائشة قالت قلت إني لأعلم أي آية في القرآن أشد، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: وما هي؟ قلت من يعمل سوءا يجز به" فقال: إن المؤمن يجازى بأسوأ عمله في الدنيا يصيبه المرض حتى النكبة، ولكن من نوقش الحساب يعذبه. قالت قلت: أليس قال الله تعالى "فذكر مثل حديث إسماعيل بن إسحاق. وأخرجه الطبري وأبو عوانة وابن مردويه من عدة طرق عن أبي عامر الخزاز نحوه. قوله: "حاتم بن أبي صغيرة" بفتح المهملة كسر الغين المعجمة وكنية حاتم أبو يونس واسم أبي صغيرة مسلم وقد قيل إنه زوج أم أبي يونس وقيل جده لأمه. قوله: "ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، ثم قال أخيرا: وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب" وكلاهما يرجعان إلى معنى واحد لأن المراد بالمحاسبة تحرير الحساب فيستلزم المناقشة ومن عذب فقد هلك. وقال القرطبي في "المفهم" قوله: "حوسب" أي حساب استقصاء وقوله: "عذب" أي في النار جزاء على السيئات التي أظهرها حسابه، وقوله: "هلك" أي بالعذاب في النار. قال: وتمسكت عائشة بظاهر لفظ الحساب لأنه يتناول القليل والكثير. قوله: "يناقش الحساب" بالنصب على نزع الخافض والتقدير يناقش في الحساب. قوله: "أليس قد قال الله تعالى" تقدم في تفسير سورة انشقت من رواية يحيى القطان عن أبي يونس بلفظ: "فقلت يا رسول الله جعلني الله فداءك أليس يقول الله تعالى". قوله: "إنما ذلك العرض" في رواية القطان "قال ذاك العرض تعرضون ومن نوقش الحساب هلك" وأخرج الترمذي لهذا الحديث شاهدا من رواية همام عن قتادة عن أنس رفعه: "من حوسب عذب" وقاله غريب. قلت: والراوي له عن همام على بن أبي بكر صدوق وربما أخطأ، قال القرطبي: معنى قوله: "إنما ذلك العرض" أن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منة الله عليه في سترها عليه في الدنيا وفي عفوه عنها في الآخرة كما في حديث ابن عمر في النجوى، قال عياض: قوله: "عذب" له معنيان أحدهما أن نفس مناقشه الحساب وعرض الذنوب والتوقيف على قبيح ما سلف والتوبيخ تعذيب، والثاني أنه يفضي إلى استحقاق العذاب إذ لا حسنة للعبد إلا من عند الله لإقداره عليها وتفضيله عليه بها وهدايته لها ولأن الخالص لوجهه قليل، ويؤيد هذا الثاني قوله في الرواية الأخرى "هلك" وقال النووي: التأويل الثاني هو الصحيح لأن التقصير غالب على الناس، فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك. وقال غيره: وجه المعارضة أن لفظ الحديث عام في تعذيب كل من حوسب ولفظ الآية دال على أن بعضهم لا يعذب؛ وطريق الجمع أن المراد بالحساب في الآية العرض وهو إبراز الأعمال وإظهارها فيعرف صاحبها بذنوبه ثم يتجاوز عنه، ويؤيده ما وقع عند البزار والطبري من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير "سمعت عائشة تقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحساب اليسير قال: "الرجل تعرض عليه ذنوبه ثم يتجاوز له عنها" وفي حديث أبي ذر عند مسلم: "يؤتي بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه" الحديث وفي حديث جابر عند ابن أبي حاتم والحاكم "من زادت حسناته على سيئاته فذاك الذي يدخل الجنة بغير حساب. ومن استوت حسناته وسيئاته فذاك الذي يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته فذاك الذي أوبق نفسه وإنما الشفاعة في مثله" ويدخل في هذا حديث ابن عمر في النجوى وقد أخرجه المصنف في كتاب المظالم وفي تفسير سورة

(11/402)


هود وفي التوحيد وفيه: "ويدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم فيقرره. ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" وجاء في كيفية العرض ما أخرجه الترمذي من رواية على بن على الرفاعي عن الحسن عن أبي هريرة رفعه: "تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير وعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله" قال الترمذي: لا يصح لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن على بن على الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى انتهى، وهو عند ابن ماجه وأحمد من هذا الوجه مرفوعا، وأخرجه البيهقي في البعث بسند حسن عن عبد الله بن مسعود موقوفا، قال الترمذي الحكيم: الجدال للكفار يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوا نجوا، والمعاذير اعتذار الله لآدم وأنبيائه بإقامته الحجة على أعدائه، والثالثة للمؤمنين وهو العرض الأكبر. "تنبيه": وقع في رواية لابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا: "لا يحاسب رجل يوم القيامة إلا دخل الجنة" وظاهره يعارض حديثها المذكور في الباب، وطريق الجمع بينهما أن الحديثين معا في حق المؤمن، ولا منافاة بين التعذيب ودخول الجنة لأن الموحد وإن قضى عليه بالتعذيب فإنه لا بد أن يخرج من النار بالشفاعة أو بعموم الرحمة. حديث أنس "يجاء بالكافر" ذكره من رواية هشام الدستوائي ومن رواية سعيد وهو ابن أبي عروبة كلاهما عن قتادة وساقه بلفظ سعيد، وأما لفظ هشام فأخرجه مسلم والإسماعيلي من طرق عن معاذ بن هشام عن أبيه بلفظ: "يقال للكافر" والباقي مثله وهو بضم أول يجاء ويقال، وسيأتي بعد باب في "باب صفة الجنة والنار" من رواية أبي عمران الجوني عن أنس التصريح بأن الله سبحانه هو الذي يقول له ذلك ولفظه: "يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدى به؟ فيقول نعم" ورواه مسلم والنسائي من طريق ثابت عن أنس، وظاهر سياقه أن ذلك يقع للكافر بعد أن يدخل النار ولفظه: "يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع، فيقال له: هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا؟ فيقول نعم يا رب، فيقال له كذبت" ويحتمل أن يراد بالمضجع هنا مضجعه في القبر فيلتئم مع الروايات الأخرى. قوله: "فيقال له" زاد مسلم في رواية سعيد كذبت. قوله: "قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك" في رواية أبي عمران فيقول: "أردت منك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك شيئا، فأبيت إلا أن تشرك بي" وفي رواية ثابت "قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار" قال عياض: يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية فهذا الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا فهو مؤمن، ومن لم يوف به فهو الكافر، فمراد الحديث أردت منك حين أخذت الميثاق فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك، ويحتمل أن يكون المراد بالإرادة هنا الطلب والمعنى أمرتك فلم تفعل، لأنه سبحانه وتعالى لا يكون في ملكه إلا ما يريد. واعترض بعض المعتزلة بأنه كيف يصح أن يأمر بما لا يريد؟ والجواب أن ذلك ليس بممتنع ولا مستحيل. وقال المازري: مذهب أهل السنة أن الله تعالى أراد إيمان المؤمن وكفر الكافر، ولو أراد من الكافر الإيمان لآمن، يعني لو قدره عليه لوقع. وقال أهل الاعتزال: بل أراد من الجميع الإيمان فأجاب المؤمن وامتنع الكافر، فحملوا الغائب على الشاهد لأنهم رأوا أن مريد الشر شرير والكفر شر فلا يصح أن يريده الباري. وأجاب أهل السنة عن ذلك بأن الشر شر في حق المخلوقين، وأما في حق الخالق فإنه

(11/403)


يفعل ما يشاء، وإنما كانت إرادة الشر شرا لنهي الله عنه، والباري سبحانه ليس فوقه أحد يأمره فلا يصح أن تقاس إرادته على إرادة المخلوقين، وأيضا فالمريد لفعل ما إذا لم يحصل ما أراده آذن ذلك بعجزه وضعفه والباري تعالى لا يوصف بالعجز والضعف فلو أراد الإيمان من الكافر ولم يؤمن لآذن ذلك بعجز وضعف، تعالى الله عن ذلك. وقد تمسك بعضهم بهذا الحديث المتفق على صحته، والجواب عنه ما تقدم، واحتجوا أيضا بقوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وأجيبوا بأنه من العام المخصوص بمن قضى الله له الإيمان، فعباده على هذا الملائكة ومؤمنو الإنس والجن وقال آخرون: الإرادة معنى الرضا، ومعنى قوله: "ولا يرضى" أي لا يشكره لهم ولا يثيبهم عليه، فعلى هذا فهي صفة فعل. وقيل معنى الرضا أنه لا يرضاه دينا مشروعا لهم، وقيل الرضا صفة وراء الإرادة، وقيل الإرادة تطلق بإزاء شيئين إرادة تقدير وإرادة رضا، والثانية أخص من الأولى والله أعلم. وقيل: الرضا من الله إرادة الخير كما أن السخط إرادة الشر. وقال النووي: قوله: "فيقال له كذبت" معناه لو رددناك إلى الدنيا لما افتديت لأنك سئلت أيسر من ذلك فأبيت، ويكون من معنى قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وبهذا يجتمع معنى هذا الحديث مع قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ}. قال: وفي الحديث من الفوائد جواز قول الإنسان يقول الله خلافا لمن كره ذلك. وقال: إنما يجوز قال الله تعالى وهو قول شاذ مخالف لأقوال العلماء من السلف والخلف، وقد تظاهرت به الأحاديث. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}. قوله: "حدثني خيثمة" بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها مثلثة هو ابن عبد الرحمن الجعفي. قوله: "عن عدي بن حاتم" هو الطائي. قوله: "ما منكم من أحد" ظاهر الخطاب للصحابة، ويلتحق بهم المؤمنون كلهم سابقهم ومقصرهم أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. قوله: "إلا سيكلمه الله" في رواية وكيع عن الأعمش عنه ابن ماجه: "سيكلمه ربه". قوله: "ليس بينه وبينه ترجمان" لم يذكر في هذه الرواية ما يقول وبينه في رواية محل بن خليفة عن عدي بن حاتم في الزكاة بلفظ: "ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له. ثم ليقولن له: ألم أوتك مالا؟ فيقول: بلى" الحديث والترجمان تقدم ضبطه في بدء الوحي في شرح قصه هرقل. قوله: "ثم ينظر فلا يرى قدامه" بضم القاف وتشديد الدال أي أمامه ووقع في رواية عيسى بن يونس عن الأعمش في التوحيد وعند مسلم بلفظ: "فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدمه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم" وأخرجه الترمذي من رواية أبي معاوية بلفظ: "فلا يرى شيئا إلا شيئا قدمه" وفي رواية محل بن خليفة "فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، وينظر عن شماله فلا يرى إلا النار" وهذه الرواية مختصرة ورواية خيثمة مفسرة فهي المعتمدة في ذلك، وقوله أيمن وأشأم بالنصب فيهما على الظرفية والمراد بهما اليمين والشمال، قال ابن هبيرة: نظر اليمين والشمال هنا كالمثل لأن الإنسان من شأنه إذا دهمه أمر أن يلتفت يمينا وشمالا يطلب الغوث. قلت: ويحتمل أن يكون سبب الالتفات أنه يترجى أن يجد طريقا يذهب فيها ليحصل له النجاة من النار فلا يرى إلا ما يفضي به إلى النار كما وقع في رواية محل بن خليفة. قوله: "ثم ينظر بين يديه فتسقبله النار" في رواية عيسى "وينظر بين يده فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه" وفي رواية أبي معاوية "ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار" قال ابن هبيرة: والسبب في ذلك أن النار تكون في ممره فلا يمكنه أن يجيد عنها إذ لا بد له من المرور على الصراط. قوله: "فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق

(11/404)


تمرة" زاد وكيع في روايته: "فليفعل" وفي رواية أبي معاوية "أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل" وفي رواية عيسى "فاتقوا النار ولو بشق تمرة" أي اجعلوا بينكم وبينها وقاية من الصدقة وعمل البر ولو بشيء يسير. قوله: "قال الأعمش" هو موصول بالسند المذكور، وقد أخرجه مسلم من رواية معاوية عن الأعمش كذلك، وبين عيسى بن يونس في روايته أن القدر الذي زاده عمرو بن مرة للأعمش في حديثه عن خيثمة قوله في آخره: "فمن لم يجد فبكلمة طيبة" وقد مضى الحديث بأتم سياقا من هذا في رواية محل بن خليفة في الزكاة. قوله: "حدثني عمرو" هو ابن مرة وصرح به رواية عيسى بن يونس. قوله: "اتقوا النار ثم أعرض وأشاح" بشين معجمة وحاء مهملة أي أظهر الحذر منها، وقال الخليلي: أشاح بوجهه عن الشيء نحاه عنه. وقال الفراء المشيح الحذر والجاد في الأمر والمقبل في خطابه، فيصح أحد هذه المعاني أو كلها أي حذر النار كأنه ينظر إليها أو جد على الوصية باتقائها أو أقبل على أصحابه في خطابه بعد أن أعرض عن النار لما ذكرها، وحكى ابن التين أن معنى أشاح صد وانكمش، وقيل صرف وجهه كالخائف أن تناله. قلت: والأول أوجه لأنه قد حصل من قوله أعرض، ووقع في رواية أبي معاوية في أوله "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار فأعرض وأشاح ثم قال اتقوا النار". قوله: "ثلاثا" في رواية أبي معاوية "ثم قال اتقوا النار، وأعرض وأشاح حتى ظننا أنه كان ينظر إليها" وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية جرير عن الأعمش، قال ابن هبيرة وابن أبي جمرة في حديث إن الله يكلم عباده المؤمنين في الدار الآخرة بغير واسطة: وفيه الحث على الصدقة. قال ابن أبي جمرة: وفيه دليل على قبول الصدقة ولو قلت، وقد قيدت في الحديث بالكسب الطيب. وفيه إشارة إلى ترك احتقار القليل من الصدقة وغيرها. وفيه حجة لأهل الزهد حيث قالوا الملتفت هالك يؤخذ من أن نظر المذكور عن يمينه وعن شماله فيه صورة الالتفات فلذا لما نظر أمامه استقبلته النار، وفيه دليل على قرب النار من أهل الموقف، وقد أخرج البيهقي في البعث من مرسل عبد الله بن باباه بسند رجاله ثقات رفعه: "كأني أراكم بالكوم جثى من دون جهنم" وقوله: "جثى" بضم الجيم بعدها مثلثة مقصور جمع جاث، والكوم بفتح الكاف الواو الساكنة المكان العالي الذي تكون عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث كعب بن مالك عند مسلم أنهم يكونون يوم القيامة على تل عال، وفيه أن احتجاب الله عن عباده ليس بحائل حسي بل بأمر معنوي يتعلق بقدرته، يؤخذ من قوله ثم ينظر فلا يرى قدامه شيئا. وقال ابن هبيرة المراد بالكلمة الطيبة هنا يدل على هدى أو يرد عن ردى أو يصلح بين اثنين أو يفصل بين متنازعين أول يحل مشكلا أو يكشف غامضا أو يدفع ثائرا أو يسكن غضبا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(11/405)


50 - باب يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ
6541- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ ح قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ و حَدَّثَنِي أَسِيدُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ "حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَأَخَذَ النَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشَرَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ هَؤُلاَءِ أُمَّتِي قَالَ لاَ وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا

(11/405)


سَوَادٌ كَثِيرٌ قَالَ هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ وَهَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلاَ عَذَابَ قُلْتُ وَلِمَ قَالَ كَانُوا لاَ يَكْتَوُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ قَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ"
6542- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ" وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ"
6543- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ سَبْعُ مِائَةِ أَلْفٍ شَكَّ فِي أَحَدِهِمَا مُتَمَاسِكِينَ آخِذٌ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ الْجَنَّةَ وَوُجُوهُهُمْ عَلَى ضَوْءِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ"
6544- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنَا نَافِعٌ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ يَا أَهْلَ النَّارِ لاَ مَوْتَ وَيَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لاَ مَوْتَ خُلُودٌ"
[الحديث 6544- طرفه في: 6548]
6545- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ "يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ وَلِأَهْلِ النَّارِ يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ"
قوله: "باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب" فيه إشارة إلى أن وراء التقسيم الذي تضمنته الآية المشار إليها في الباب الذي قبله أمرا آخر، وأن من المكلفين من لا يحاسب أصلا، ومنهم من يحاسب حسابا يسيرا، ومنهم من ناقش الحساب. قوله: "حدثنا ابن الفضيل" هو محمد، وحصين هو ابن عبد الرحمن الواسطي. قوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. قوله: "وحدثني أسيد" بفتح الهمزة كسر المهملة هو ابن زيد الجمال بالجيم كوفي حدث ببغداد، قال أبو حاتم: كانوا يتكلمون فيه وضعفه جماعة، وأفحش ابن معين فيه القول. وليس له عند البخاري سوى هذا الموضع وقد قرنه فيه يغيره، ولعله كان عنده ثقة قاله أبو مسعود، ويحتمل أن لا يكون خبر أمره كما ينبغي وإنما سمع منه هذا الحديث الواحد، وقد

(11/406)


وافقه عليه جماعة منهم شريح بن النعمان عند أحمد وسعيد بن منصور عند مسلم وغيرهما، وإنما احتاج إليه فرارا من تكرير الإسناد بعينه فإنه أخرج السند الأول في الطب في "باب من اكتوى" ثم أعاده هنا فأضاف إليه طريق هشيم، وتقدم له في الطب أيضا في باب من لم يرق من طريق حصين بن بهز عن حصين بن عبد الرحمن، وتقدم باختصار قريبا من طريق شعبة عن حصين بن عبد الرحمن. قوله: "كنت عند سعيد بن جبير فقال حدثني ابن عباس" زاد ابن فضيل في رواية عن حصين عن عامر وهو الشعبي عن عمران بن حصين "لا رقية إلا من عين" الحديث، وقد بينت الاختلاف في رفع حديث عمران هذا والاختلاف في سنده أيضا في كتاب الطب، وأن في رواية هشم زيادة قصة وقعت لحصين بن عبد الرحمن مع سعيد بن جبير فيما يتعلق بالرقية وذكره حكم الرقية هناك. قوله: "عرضت" بضم أوله على البناء للمجهول. قوله: "علي" بالتشديد "الأمم" بالرفع، وقد بين عبثر بن القاسم بموحدة ثم مثلثة وزن جعفر في روايته عن حصين بن عبد الرحمن عند الترمذي والنسائي أن ذلك كان ليلة الإسراء ولفظه: "لما أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي ومعه الواحد" الحديث فإن كان ذلك محفوظا كانت فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء وأنه وقع بالمدينة أيضا غير الذي وقع بمكة، فقد وقع عند أحمد والبزار بسند صحيح قال: "أكربنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عدنا إليه فقال: عرضت على الأنبياء الليلة بأممها، فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة والنبي يمر ومعه العصابة" فذكر الحديث. وفي حديث جابر عند البزار "أبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العشاء حتى نام بعض من كان في المسجد" الحديث والذي يتحرر من هذه المسألة أن الإسراء الذي وقع بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة من استفتاح أبواب السماوات بابا بابا ولا من التقاء الأنبياء كل واحد في سماء ولا المراجعة معهم ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلوات ولا في طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها النبي صلى الله عليه وسلم، فمنها بمكة البعض ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض ومعظمها في المنام، والله أعلم. قوله: "فأجد" بكسر الجيم بلفظ المتكلم بالفعل المضارع، وفيه مبالغة لتحقق صورة الحال. وفي رواية الكشميهني: "فأخذ" بفتح الخاء والذال المعجمتين بلفظ الفعل الماضي. قوله: "النبي" بالنصب وفي رواية الكشميهني بالرفع على أنه الفاعل. قوله: "يمر معه الأمة" أي العدد الكثير. قوله: "والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشر" بفتح المهملة وسكون المعجمة وفي رواية المستملى بكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم راء، ووقع في رواية ابن فضيل "فجعل النبي والنبيان يمرون ومعهم الرهط" زاد عبثر في روايته: "والشيء" وفي رواية حصين بن نمير نحوه لكن بتقديم وتأخير. وفي رواية سعيد بن منصور التي أشرت إليها آنفا "فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد والنبي معه الخمسة" والرهط تقدم بيانه في شرح حديث أبي سفيان في قصة هرقل أول الكتاب، وفي حديث ابن مسعود "فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة، والنبي يمر ومعه العصابة، والنبي يمر وليس معه أحد". والحاصل من هذه الروايات أن الأنبياء يتفاوتون في عدد أتباعهم. قوله: "فنظرت فإذا سواد كثير" في رواية حصين بن نمير فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، والسواد ضد البياض هو الشخص الذي يرى من بعيد، وصفه بالكثير إشارة إلى أن المراد بلفظ الجنس لا الواحد، ووقع في رواية ابن فضيل "ملأ الأفق" الأفق الناحية، والمراد به هنا ناحية السماء. قوله: "قلت يا جبريل هؤلاء أمتي؟ قال: لا" في رواية حصين بن نمير "فرجوت أن تكون أمتي فقيل هذا موسى في قومه". وفي حديث ابن مسعود عند أحمد "حتى

(11/407)


مر على موسى في كبكبة من بني إسرائيل فأعجبني، فقلت من هؤلاء؟ فقيل: هذا أخوك موسى معه بنو وإسرائيل" والكبكبة بفتح الكاف ويجوز ضمها بعدها موحدة هي الجماعة من الناس إذا انضم بعضهم إلى بعض. قوله: "ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير" في رواية سعيد بن منصور "عظيم" وزاد: "فقيل لي انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر" مثله. وفي رواية ابن فضيل "فإذا سواد قد ملأ الأفق، فقيل لي: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء" وفي حديث ابن مسعود "فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال" وفي لفظ لأحمد "فرأيت أمتي قد ملؤوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل أرضيت يا محمد؟ قلت: نعم أي رب" وقد استشكل الإسماعيلي كونه صلى الله عليه وسلم لم يعرف أمته حتى ظن أنهم أمة موسى، وقد ثبت من حديث أبي هريرة كما تقدم في الطهارة "كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ فقال: إنهم غر محجلون من أثر الوضوء" وفي لفظ: "سيما ليست لأحد غيرهم" وأجاب بأن الأشخاص التي رآها في الأفق لا يدرك منها إلا الكثرة من غير تمييز لأعيانهم، وأما ما في حديث أبي هريرة فمحمول على ما إذا قربوا منه، وهذا كما يرى الشخص شخصا على بعد فيكلمه ولا يعرف أنه أخوه، فإذا صار بحيث يتميز عن غيره عرفه. ويؤيده أن ذلك يقع عند ورودهم عليه الحوض. قوله: "هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب" في رواية سعيد بن منصور "معهم" بدل قدامهم وفي رواية حصين بن نمير "ومع هؤلاء" وكذا في حديث ابن مسعود، والمراد بالمعية المعنوية فإن السبعين ألفا المذكورين من جملة أمته، لكن لم يكونوا في الذين عرضوا إذ ذاك فأريد الزيادة في تكثير أمته بإضافة السبعين ألفا إليهم، وقد وقع في رواية ابن فضيل "ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب" وفي رواية عبثر بن القاسم "هؤلاء أمتك، ومن هؤلاء من أمتك سبعون ألفا" والإشارة بهؤلاء إلى الأمة لا إلى خصوص من عرض، ويحتمل أن تكون مع بمعنى من فتأتلف الروايات. قوله: "قلت ولم" بكسر اللام وفتح الميم ويجوز إسكانها، يستفهم بها عن السبب، وقع في رواية سعيد بن منصور وشريح عن هشيم "ثم نهض - أي النبي صلى الله عليه وسلم - فدخل منزله، فحاص الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: هم الذين" وفي رواية عبثر "فدخل ولم يسألوه ولم يفسر لهم" والباقي نحوه. وفي رواية ابن فضيل "فأفاض القوم فقالوا: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا الرسول، فنحن هم، أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام فإنا ولدنا في الجاهلية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فقال" وفي رواية حصين بن نمير "فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله وبرسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا" وفي حديث جابر "وقال بعضنا: هم الشهداء" وفي رواية له "من رق قلبه للإسلام". قوله: "كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" اتفق على ذكر هذه الأربع معظم الروايات في حديث ابن عباس وإن كان عند البعض تقدم وتأخير، وكذا في حديث عمران بن حصين عند مسلم، وفي لفظ له سقط "ولا يتطيرون" هكذا في حديث ابن مسعود وفي حديث جابر اللذين أشرت إليهما بنحو الأربع، ووقع في رواية سعيد بن منصور عند مسلم: "ولا يرقون" بدل "ولا يكتوون" وقد أنكر الشيخ تقي الدين بن تيمية هذه الرواية وزعم أنها غلط من راويها، واعتل بأن الراقي يحسن إلى الذي يرقينه فكيف يكون ذلك مطلوب الترك؟ وأيضا فقد رقي جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ورقي النبي أصحابه وأذن لهم في الرقي وقال:

(11/408)


"من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل" والنفع مطلوب. قال: وأما المسترقي فإنه يسأل غيره ويرجو نفعه، وتمام التوكل ينافي ذلك. قال: وإنما المراد وصف السبعين بتمام التوكيل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون من شيء. وأجاب غيره بأن الزيادة من الثقة مقبولة وسعيد بن منصور حافظ وقد اعتمده البخاري ومسلم واعتمد مسلم على روايته هذه وبأن تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار إليه. والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المسترقي لأنه اعتل بأن الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكيل فكذا يقال له والذي يفعل غيره به ذلك ينبغي أن لا يمكنه منه لأجل تمام التوكيل، وليس في وقوع ذلك من جبريل دلالة على المدعي ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له أيضا دلالة لأنه في مقام التشريع وتبين الأحكام، ويمكن أن يقال إنما ترك المذكورون الرقي والاسترقاء حسما للمادة لأن فاعل ذلك لا يأمن أن يكل نفسه إليه وإلا فالرقية في ذاتها ليست ممنوعة وإنما منع منها ما كان شركا أو احتمله ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اعرضوا علي رقاكم، ولا بأس بالرقي ما لم يكن شرك" ففيه إشارة إلى علة النهي كما تقدم تقرير ذلك واضحا في كتاب الطب، وقد نقل القرطبي عن غيره أن استعمال الرقي والكي قادح في التوكيل بخلاف سائر أنواع الطب، وفرق بين القسمين بأن البرء فيهما أمر موهوم وما عداهما محقق عادة كالأكل والشرب فلا يقدح، قال القرطبي وهذا فاسد من وجهين: أحدهما أن أكثر أبواب الطب موهوم، والثاني أن الرقي بأسماء الله تعالى تقتضي التوكل عليه والالتجاء إليه والرغبة فيما عنده والتبرك بأسمائه، فلو كان ذلك قادحا في التوكل لقدح الدعاء إذ لا فرق بين الذكر والدعاء، وقد رقي النبي صلى الله عليه وسلم ورقي وفعله السلف والخلف، فلو كان مانعا من اللحاق بالسبعين أو قادحا في التوكل لم يقع من هؤلاء وفيهم من هو أعلم وأفضل ممن عداهم. وتعقب بأنه بني كلامه على أن السبعين المذكورين أرفع رتبة من غيرهم مطلقا، وليس كذلك لما سأبينه، وجوز أبو طالب بن عطية في "موازنة الأعمال" أن السبعين المذكورين هم المراد بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} فإن أراد أنهم من جملة السابقين فمسلم وإلا فلا، وقد أخرج أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث رفاعة الجهني قال: "أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا وفيه: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب، وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوؤوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة" فهذا يدل على أن مزية السبعين بالدخول بغير حساب لا يستلزم أنهم أفضل من غيرهم، بل فيمن يحاسب في الجملة من يكون أفضل منهم وفيمن يتأخر عن الدخول ممن تحققت نجاته وعرف مقامه من الجنة يشفع في غيره من هو أفضل منهم، وسأذكر بعد قليل من حديث أم قيس بنت محصن أن السبعين ألفا ممن يحشر من مقبرة البقيع بالمدينة وهي خصوصية أخرى. قوله: "ولا يتطيرون" تقدم بيان الطيرة في كتاب الطب، والمراد أنهم لا يتشاءمون كما كانوا يفعلون في الجاهلية. قوله: "وعلى ربهم يتوكلون" يحتمل أن تكون هذه الجملة مفسرة لما تقدم من ترك الاسترقاء والاكتواء والطيرة، ويحتمل أن تكون من العام بعد الخاص لأن صفة واحدة منها صفة خاصة من التوكل وهو أعم من ذلك، وقد مضى القول في التوكيل في "باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه" قريبا. وقال القرطبي وغيره: قالت طائفة من الصوفية لا يستحق، اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى، حتى لو هجم عليه الأسد لا ينزعج، وحتى لا يسعى في طلب الرزق لكون الله ضمنه له. وأبي هذا الجمهور وقالوا: يحصل التوكل بأن يثق بوعد الله ويوقن بأن قضاءه واقع، ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بد

(11/409)


له منه من مطعم ومشرب وتحرز من عدو بإعداد السلاح وإغلاق الباب ونحو ذلك، ومع ذلك فلا يطمئن إلى الأسباب بقلبه بل يعتقد أنها لا تجلب بذاتها نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل بمشيئته، فإذا وقع من المرء ركون إلى السبب قدح في توكله، وهم مع ذلك فيه على قسمين: واصل وسالك، فالأول صفة الواصل وهو الذي لا يلتفت إلى الأسباب ولو تعاطاها، وأما السالك فيقع له الالتفات إلى السبب أحيانا إلا أنه قد يدفع ذلك عن نفسه بالطرق العلمية والأذواق الحالية إلى أن يرتقي إلى مقام الواصل. وقال أبو القاسم القشيري: التوكل محله القلب، وأما الحركة الظاهرة فلا تنافيه إذا تحقق العبد أن الكل من قبل الله، فإن تيسر شيء فبتيسره وإن تعسر فبتقديره. ومن الأدلة على مشروعية الاكتساب ما تقدم في البيوع من حديث أبي هريرة رفعه: "أفضل ما أكل الرجل من كسبه، وكان داود يأكل من كسبه" فقد قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} وقال تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}. وأما قول القائل كيف تطلب ما لا تعرف مكانه فجوابه أنه يفعل السبب المأمور به ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته فيشق الأرض مثلا ويلقي الحب وتوكل على الله في إنباته وإنزال الغيث له، ويحصل السلعة مثلا ونقلها ويتوكل على الله في إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها منه، بل ربما كان التكسب واجبا كقادر على الكسب يحتاج عياله للنفقة فمتى ترك ذلك كان عاصيا. وسلك الكرماني في الصفات المذكورة مسلك التأويل فقال: قوله: "لا يكتوون" معناه إلا عند الضرورة مع اعتقاد أن الشفاء من الله لا من مجرد الكي، وقوله: "ويسترقون" معناه بالرقي التي ليست في القرآن والحديث الصحيح كرقي الجاهلية وما لا يؤمن أن يكون فيه شرك، وقوله: "ولا يتطيرون" أي لا يتشاءمون بشيء فكأن المراد أنهم الذين يتركون أعمال الجاهلية في عقائدهم. قال: فإن قيل إن المتصف بهذا أكثر من العدد المذكور فما وجه الحصر فيه؟ وأجاب باحتمال أن يكون المراد به التكثير لا خصوص العدد. قلت: الظاهر أن العدد المذكور على ظاهره، فقد وقع في حديث أبي هريرة ثاني أحاديث الباب وصفهم بأنهم "تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر" ومضى في بدء الخلق من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة رفعه: "أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب درى في السماء إضاءة" وأخرجه مسلم من طرق عن أبي هريرة: منها رواية أبي يونس وهمام عن أبي هريرة "على صورة القمر" وله من حديث جابر "فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون" وقد وقع في أحاديث أخرى أن مع السبعين ألفا زيادة عليهم، ففي حدث أبي هريرة عند أحمد والبيهقي في البعث من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي" فذكر الحديث نحو سياق حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ثاني أحاديث الباب وزاد: "فاستزدت فزادني مع كل ألف سبعين ألفا" وسنده جيد، وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني وعن حذيفة عند أحمد وعن أنس عند البزار وعن ثوبان عند ابن أبي عاصم، فهذه طرق يقوي بعضها بعضا وجاء في أحاديث أخرى من ذلك: فأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة رفعه: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي" وفي صحيح ابن حبان أيضا والطبراني بسند جيد من حديث عتبة بن عبد نحوه بلفظ: "ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفا، ثم يحثى ربي ثلاث حثيات بكفيه" وفيه:

(11/410)


"فكبر عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن السبعين ألفا يشفعهم الله في آبائهم وأمهاتهم وعشائرهم وإني لأرجو أن يكون أدنى أمتي الحثيات" وأخرجه الحافظ الضياء وقال: لا أعلم له علة. قلت: علته الاختلاف في سنده، فإن الطبراني أخرجه من رواية أبي سلام حدثني عامر بن زيد أنه سمع عتبة، ثم أخرجه من طريق أبي سلام أيضا فقال: "حدثني عبد الله بن عامر أن قيس بن الحارث حدثه أن أبا سعيد الأنماري حدثه" فذكره وزاد: "قال قيس فقلت لأبي سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: وقال رسول صلى الله عليه وسلم: وذلك يستوعب مهاجري أمتي ويوفي الله بقيتهم من أعرابنا" وفي رواية لابن أبي عاصم قال أبو سعيد "فحسبنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ أربعة آلاف ألف وتسعمائة ألف" يعني من عدا الحثيات وقد وقع عند أحمد والطبراني من حديث أبي أيوب نحو حديث عتبة بن عبد وزاد: "والخبيئة - بمعجمة ثم موحدة وهمزة وزن عظيمة - عند ربي" وورد من وجه آخر ما يزيد على العدد الذي حسبه أبو سعيد الأنماري، فعند أحمد وأبي يعلى من حديث أبي بكر الصديق نحوه بلفظ: "أعطاني مع كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا" وفي سنده راويان أحدهما ضعيف الحفظ والآخر لم يسم. وأخرج البيهقي في البعث من حديث عمرو بن حزم مثله وفيه راو ضعيف أيضا، واختلف في سنده وفي سياق متنه. وعند البزار من حديث أنس بسند ضعيف نحوه، وعند الكلاباذي في "معاني الأخبار" بسند واه من حديث عائشة "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته فإذا هو في مشربة يصلي، فرأيت على رأسه ثلاثة أنوار، فلما قضى صلاته قال: رأيت الأنوار؟ قلت: نعم. قال: إن آتيا أتاني من ربي فبشرني أن الله يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني فبشرني أن الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني فبشرني أن الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا المضاعفة سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب، فقلت يا رب لا يبلغ هذا أمتي قال أكملهم لك من الأعراب ممن لا يصوم ولا يصلي" قال الكلاباذي: المراد بالأمة أولا أمة الإجابة، وبقوله آخرا أمتي أمة الاتباع، فإن أمته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: أحدها أخص من الآخر أمة الاتباع ثم أمة الإجابة ثم أمة الدعوة، فالأولى أهل العمل الصالح والثانية مطلق المسلمين والثالثة من عداهم ممن بعث إليهم، ويمكن الجمع بأن القدر الزائد على الذي قبله هو مقدار الحثيات، فقد وقع عند أحمد من رواية قتادة عن النضر بن أنس أو غيره عن أنس رفعه: "إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف، فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله، فقال: هكذا وجمع كفيه، فقال: زدنا. فقال وهكذا. فقال عمر حسبك أن الله إن شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق عمر" وسنده جيد لكن اختلف على قتادة في سنده اختلافا كثيرا. قوله: "فقام إليه عكاشة" بضم المهملة وتشديد الكاف ويجوز تخفيفها يقال عكش الشعر ويعكش إذا التوى حكاه القرطبي، وحكى السهيلي أنه من عكش القوم إذا حمل عليهم وقيل العكاشة بالتخفيف العنكبوت، ويقال أيضا لبيت النمل. ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ثم نون آخره هو ابن حرثان بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة من بني أسد بن خزيمة ومن حلفاء بني أمية. كان عكاشة من السابقين إلى الإسلام وكان من أجمل الرجال وكنيته أبو محصن وهاجر وشهد بدرا وقاتل فيها، قال ابن إسحاق بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير فارس في العرب عكاشة" وقال أيضا: قاتل يوم بدر قتالا شديدا حتى انقطع سيفه في يده فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جزلا من حطب فقال "قاتل بهذا" فقاتل به فصار في يده سيفا طويلا شديد المتن أبيض فقاتل به حتى فتح الله

(11/411)


فكان ذلك السيف عنده حتى استشهد في قتال الردة مع خالد ابن الوليد سنة اثنتي عشرة. قوله: "فقال ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "اللهم اجعله منهم" في حديث أبي هريرة ثاني أحاديث الباب مثله، وعند البيهقي من طريق محمد بن زياد عنه - وساق مسلم سنده - قال: "فدعا" ووقع في رواية حصين ابن نمير ومحمد بن فضيل "قال: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال له نعم" ويجمع بأنه سأل الدعاء أولا فدعا له ثم استفهم قيل أجبت. قوله: "ثم قام إليه رجل آخر" وقع فيه من الاختلاف هل قال: "ادع لي" أو قال: "أمنهم أنا" كما وقع في الذي قبله. ووقع في حديث أبي هريرة الذي بعده "رجل من الأنصار" وجاء من طريق واهية أنه سعد بن عبادة أخرجه الخطيب في "المبهمات" من طريق أبي حذيفة إسحاق بن بشر البخاري أحد الضعفاء من طريقين له عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من غزاة بني المصطلق، فساق قصة طويلة وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أهل الجنة عشرون ومائة صف؛ ثمانون صفا منها أمتي وأربعون صفا سائر الأمم، ولي مع هؤلاء سبعون ألفا مدخلون الجنة بغير حساب، قيل من هم" فذكر الحديث، وفيه: "فقال: "اللهم اجعل عكاشة" منهم، قال فاستشهد بعد ذلك. ثم قام سعد بن عبادة الأنصاري فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم" الحديث، وهذا مع ضعفه وإرساله يستبعد من جهة جلالة سعد بن عبادة، فإن كان محفوظا فلعله آخر باسم سيد الخزرج واسم أبيه ونسبته، فإن في الصحابة كذلك آخر له في مسند بقي بن مخل حديث، وفي الصحابة سعد بن عمارة الأنصاري فلعل اسم أبيه تحرف. قوله: "سبقك بها عكاشة" اتفق جمهور الرواة على ذلك إلا ما وقع عند ابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى من حديث أبي سعيد فزاد: فقام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم وقال في آخره: سبقك بها عكاشة وصاحبه، أما لو قلتم لقلت ولو قلت لوجبت" وفي سنده عطية وهو ضعيف. وقد اختلقت أجوبة العلماء في الحكمة قوله: "سبقك بها عكاشة" فأخرج ابن الجوزي في "كشف المشكل" من طريق أبي عمر الزاهد أنه سأل أبا العباس أحمد بن يحيى المعروف بالثعالبي عن ذلك فقال: كان منافقا، وكذا نقله الدار قطني عن القاضي أبي العباس البرتي بكسر الموحدة وسكون الراء بعدها مثناة فقال: كان الثاني منافقا، وكان صلى الله عليه وسلم لا يسأل في شيء إلا أعطاه، فأجابه بذلك. ونقل ابن عبد البر عن بعض أهل العلم نحو قول ثعلب. وقال ابن ناصر قول ثعلب أولى من رواية مجاهد لأن سندها واه واستبعد السهيلي قول ثعلب بما وقع في مسند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة "فقام رجل من خيار المهاجرين" وسنده ضعيف جدا مع كونه مخالفا لرواية الصحيح أنه من الأنصار. وقال ابن بطال: معنى قوله: "سبقك" أي إلى إحراز هذه الصفات وهي التوكل وعدم التطير وما ذكر معه، وعدل عن قوله: "لست منهم أو لست على أخلاقهم" تلطفا بأصحابه صلى الله عليه وسلم وحسن أدبه معهم. وقال ابن الجوزي "يظهر لي أن الأول سأل عن صدق قلب فأجيب، وأما الثاني فيحتمل أن يكون أريد به حسم المادة، فلو قال للثاني نعم لأوشك أن يقوم ثالث ورابع إلى ما لا نهاية له وليس كل الناس يصلح لذلك" وقال القرطبي: لم يكن عند الثاني من تلك الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجب إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرا فيتسلسل، فسد الباب بقوله ذلك، وهذا أولى من قول من قال كان منافقا لوجهين: أحدهما أن الأصل في الصحابة عدم النفاق فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح، والثاني أنه قل أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح ويقين بتصديق الرسول، كيف صدر ذلك من منافق؟ وإلى هذا جنح ابن تيمية. وصحح النووي أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بالوحي أنه يجاب في عكاشة ولم يقع ذلك في حق الآخر. وقال السهيلي: الذي عندي في هذا أنها

(11/412)


كانت ساعة إجابة علمها صلى الله عليه وسلم واتفق أن الرجل قال بعدما انقضت، ويبينه ما وقع في حديث أبي سعيد "ثم جلسوا ساعة يتحدثون" وفي رواية ابن إسحاق بعد قوله سبقك بها عكاشة "وبردت الدعوة" أي انقضى وقتها. قلت: فتحصل لنا من كلام هؤلاء الأئمة على خمسة أجوبة والعلم عند الله تعالى. ثم وجدت لقول ثعلب ومن وافقه مستندا وهو ما أخرجه الطبراني ومحمد بن سنجر في مسنده وعمر بن شيبة في "أخبار المدينة" من طريق نافع مولى حمنة عن أم قيس بنت محصن وهي أخت عكاشة أنها "خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فقال: يحشر من هذه المقبرة سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب كأن وجوههم القمر ليلة البدر، فقام رجل فقال: يا رسول الله، وأنا؟ قال وأنت. مقام آخر فقال أنا؟ قال: سبقك بها عكاشة قال قلت لها: لم لم يقل للآخر؟ فقالت: أراه كان منافقا" فإن كان هذا أصل ما جزم به من قال كان منافقا فلا يدفع تأويل غيره إذ ليس فيه إلا الظن. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد الأيلي، وقد أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن وهب عن يونس، لكن معاذ بن أسد شيخ البخاري فيه معروف بالرواية عن ابن المبارك لا عن ابن وهب، وقد أخرجه مسلم من وجهين آخرين عن أبي هريرة. قوله: "يدخل الجنة من أمتي زمرة" بضم الزاي وسكون الميم هي الجماعة إذ كان بعضهم إثر بعض. قوله: "سبعون ألفا" تقدم شرحه مستوفى في الذي قبله، وعرف من مجموع الطرق التي ذكرتها أن أول من يدخل الجنة من هذه الأمة هؤلاء السبعون الذي بالصفة المذكورة، ومعنى المعية في قوله في الروايات الماضية "مع كل ألف سبعون ألفا أو مع واحد منهم سبعون ألفا" ويحتمل أن يدخلوا بدخولهم تبعا لهم وإن لم يكن لهم مثل أعمالهم كما مضى حديث: "المرء مع من أحب" ويحتمل أن يراد بالمعية مجرد دخولهم الجنة بغير حساب وإن دخلوها في الزمرة الثانية أو ما بعدها، وهذه أولى. وقد أخرج الحاكم والبيهقي في "البعث" من طريق جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جابر رفعه: "من زادت حسناته على سيئاته فذاك الذي يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فذاك الذي يحاسب حسابا يسيرا، ومن أوبق نفسه فهو الذي يشفع فيه بعد أن يعذب" وفي التقصيد بقوله: "أمتي" إخراج غير الأمة المحمدية من العدد المذكور، وليس فيه نفي دخول أحد من غير هذه الأمة على الصفة المذكورة -من شبه القمر ومن الأولية وغير ذلك- لأنبياء ومن شاء الله من الشهداء والصديقين والصالحين، وإن ثبت حديث أم قيس ففيه تخصيص آخر بمن يدفن في البقيع من هذه الأمة وهي مزية عظيمة لأهل المدينة. والله أعلم. قوله: "تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر" في رواية لمسلم: "على صورة القمر" قال القرطبي: المراد بالصورة الصفة يعني أنهم في إشراق وجوههم على صفة القمر ليلة تمامه وهي ليلة أربعة عشر، ويؤخذ منه أن أنوار أهل الجنة تتفاوت بحسب درجاتهم. قلت: وكذا صفاتهم في الجمال ونحوه. قوله: "يرفع نمرة عليه" بفتح النون وكسر الميم هي كساء من صوف كالشملة مخططة بسواد وبياض يلبسها الأعراب. قوله: "أبو غسان" بغين معجمة ثم مهملة ثقيلة، أبو حازم هو سلمة بن دينار. قوله: "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف شك في أحدهما" في رواية مسلم من طريق عبد العزيز بن محمد عن أبي حازم "لا يدري أبو حازم أيهما قال". قوله: "متماسكين" بالنصب على الحال. وفي رواية مسلم متماسكون بالرفع على الصفة، قال النووي: كذا في معظم النسخ وفي بعضها بالنصب وكلاهما صحيح. قوله: "آخذ بعضهم ببعض" في رواية مسلم: "بعضهم بعضا". قوله: "حتى يدخل أولهم وآخرهم" هو غاية للتماسك المذكور والأخذ بالأيدي

(11/413)


وفي رواية فضيل بن سليمان الماضية في بدء الخلق "لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم" وهذا ظاهره يستلزم الدور، وليس كذلك، بل المراد أنهم يدخلون صفا واحدا فيدخل الجميع دفعة واحدة، ووصفهم بالأولية والآخرية باعتبار الصفة التي جازوا فيها على الصراط وفي ذلك إشارة إلى سعة الباب الذي يدخلون منه الجنة، قال عياض: يحتمل أن يكون معنى كونهم متماسكين أنهم على صفة الوقار فلا يسابق بعضهم بعضا بل كون دخولهم جميعا. وقال النووي: معناه أنهم يدخلون معترضين صفا واحدا بعضهم بجنب بعض. "تنبيه": هذه الأحاديث تخص عموم الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي برزة الأسلمي رفعه: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه فيما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه" وله شاهد عن ابن مسعود عند الترمذي، وعن معاذ بن جبل عند الطبراني. قال القرطبي: عموم الحديث واضح، لأنه نكرة في سياق النفي، لكنه مخصوص بمن يدخل الجنة بغير حساب، وبمن يدخل النار من أول وهلة على ما دل عليه قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} الآية. قلت: وفي سياق حديث أبي برزة إشارة إلى الخصوص، وذلك أنه ليس أحد عنده علم يسأل عنه، وكذا المال فهو مخصوص بمن له علم وبمن له مال دون من لا مال له ومن لا علم له، وأما السؤال عن الجسد والعمر فعام ويخص من المسئولين من ذكر، والله أعلم. قوله: "يعقوب بن إبراهيم" أي ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان. قوله: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار" في رواية محمد بن زيد عن ابن عمر في الباب الذي بعده "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار النار أتى بالموت" ووقع مثله في طريق أخرى عن أبي هريرة ولفظه عند الترمذي من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بعد ذكر الجواز على الصراط "فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتى بالموت ملبيا" وهو بموحدتين. قوله: "ثم يقوم مؤذن بينهم" في رواية محمد بن زيد قيل هذا قصة ذبح الموت ولفظه: "ثم جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح. ثم ينادي مناد" لم أقف على اسم هذا المنادي. قوله: "يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت خلود" أما قوله: "لا موت" فهو بفتح المثناة فيهما، وأما قوله في آخره: "خلود" فهكذا وقع في رواية على بن عبد الله عن يعقوب، وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب وغير واحد عن يعقوب بتقديم نداء أهل الجنة ولم يقل "لا موت" فيهما بل قال: "كل خالد فيما هو فيه" وكذا هو عند الإسماعيلي من طريق إسحاق بن منصور عن يعقوب، وضبط "خلود" في البخاري بالرفع والتنوين أي هذا الحال مستمر، ويحتمل أن يكون جمع خالد أي أنتم خالدون في الجنة. قوله: "يقال لأهل الجنة يا أهل الجنة" سقط لغير الكشميهني قوله: "يا أهل الجنة" وثبت للجميع في مقابله "يا أهل النار". قوله: "لا موت" زاد الإسماعيلي في روايته: "لا موت فيه" وسيأتي في ثالث أحاديث الباب الذي يليه أن ذلك يقال للفريقين عند ذبح الموت، وثبت ذلك عند الترمذي من وجه آخر عن أبي هريرة. "تنبيه": مناسبة هذا الحديث والذي قبله لترجمة دخول الجنة بغير حساب الإشارة إلى أن كل من يدخل الجنة يخلد فيها فيكون للسابق إلى الدخول مزية على غيره، والله أعلم.

(11/414)


51 - باب صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ

(11/414)


وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ
عَدْنٌ خُلْدٌ عَدَنْتُ بِأَرْضٍ أَقَمْتُ وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} فِي مَنْبِتِ صِدْقٍ
6546- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ "عَنْ عِمْرَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ"
6547- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينَ وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ"
6548- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لاَ مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لاَ مَوْتَ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ"
6549- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا"
[الحديث 6549- طرفه في: 7518]
6550- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ أُصِيبَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ غُلاَمٌ فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي فَإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ "وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ لَفِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ"
6551- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْ الْكَافِرِ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ للرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ "
6552- وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا"

(11/415)


6553- قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ "حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا"
6554- حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز عن أبي حازم "عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف لا يدري أبو حازم أيهما قال متماسكون آخذ بعضهم بعضا لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم وجوههم على صورة القمر ليلة البدر"
6555- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ سَهْلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الْغُرَفَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ فِي السَّمَاءِ"
6556- قَالَ أَبِي فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يُحَدِّثُ وَيَزِيدُ فِيهِ كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَارِبَ فِي الأُفُقِ الشَّرْقِيِّ وَالْغَرْبِيِّ"
6557- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لاَ تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تُشْرِكَ بِي"
6558- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو "عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ كَأَنَّهُمْ الثَّعَارِيرُ قُلْتُ مَا الثَّعَارِيرُ قَالَ الضَّغَابِيسُ وَكَانَ قَدْ سَقَطَ فَمُهُ فَقُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَبَا مُحَمَّدٍ سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ مِنْ النَّارِ قَالَ نَعَمْ"
6559- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بَعْدَ مَا مَسَّهُمْ مِنْهَا سَفْعٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَهَنَّمِيِّينَ"
6560- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللَّهُ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيَخْرُجُونَ قَدْ امْتُحِشُوا وَعَادُوا حُمَمًا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا

(11/416)


تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ أَوْ قَالَ حَمِيَّةِ السَّيْلِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّهَا تَنْبُتُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً"
6561- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ "سَمِعْتُ النُّعْمَانَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ"
[الحديث 6561- طرفه في: 6562]
6562- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ"
6563- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ خَيْثَمَةَ "عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"
6564- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ"
6565- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ وَيَقُولُ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ائْتُوا عِيسَى فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ لِي ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِي ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ

(11/417)


ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا مِثْلَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ حَتَّى مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ عِنْدَ هَذَا أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ"
6566- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ "حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ"
6567- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ "عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ هَلَكَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ غَرْبُ سَهْمٍ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ قَلْبِي فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ وَإِلاَ سَوْفَ تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ لَهَا "هَبِلْتِ أَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ فِي الْفِرْدَوْسِ الأَعْلَى"
6568- "وَقَالَ: " غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ لاَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلاَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا يَعْنِي الْخِمَارَ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"
6569- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلاَّ أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلاَّ أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً"
6570- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ "لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ"
6571- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لاَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ كَبْوًا فَيَقُولُ اللَّهُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا

(11/418)


مَلْأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى فَيَقُولُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ تَسْخَرُ مِنِّي أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي وَأَنْتَ الْمَلِكُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَكَانَ يَقُولُ ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً"
[الحديث 6571- طرفه في: 7511]
6572- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ "عَنْ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ"
قوله: "باب صفة الجنة والنار" تقدم هذا في بدء الخلق في ترجمتين. ووقع في كل منهما "وأنها مخلوقة" وأورد فيهما أحاديث في تثبيت كونهما موجودتين وأحاديث في صفتهما أعاد بعضها في هذا الباب كما سأنبه عليه. قوله: "وقال أبو سعيد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد حوت" في رواية أبي ذر "كبد الحوت" وقد تقدم هذا الحديث مطولا في "باب يقبض الله الأرض يوم القيامة" وهو مذكور هنا بالمعنى، وتقدم بلفظه في بدء الخلق لكن من حديث أنس في سؤال عبد الله بن سلام. قوله: "عدن: خلد، عدنت بأرض أقمت" تقدم هذا في تفسير براءة وأنه من كلام أبي عبيدة. وقال الراغب: معنى قوله: "جنات عدن" أي الاستقرار، وعدن بمكان كذا إذا استقر به، ومنه المعدن لكونه مستقر الجواهر. قوله: "في مقعد صدق: في منبت صدق" كذا لأبي ذر، ولغيره: "في معدن" بدل "مقعد" وهو الصواب، وكأن سبب الوهم أنه لما رأى أن الكلام في صفة الجنة وأن من أوصافها مقعد صدق كما في آخر سورة القمر ظنه هنا كذلك، وقد ذكره أبو عبيدة بلفظ: "معدن صدق" وأنشد للأعشى قوله: فإن يستضيفوا إلى حلمه يضافوا إلى راجح قد عدن أي أقام واستقر، نعم قوله: "مقعد صدق" معناه مكان القعود وهو يرجع إلى معنى المعدن، ولمح المصنف هنا بأسماء الجنة وهي عشرة أو تزيد: الفردوس وهو أعلاها ودار السلام ودار الخلد ودار المقامة وجنة المأوى والنعيم والمقام الأمين وعدن ومقعد صدق والحسنى، وكلها في القرآن. وقال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} فعد بعضهم في أسماء الجنة دار الحيوان وفيه نظر. قوله: "عن أبي رجاء" هو العطاردي وعمران هو ابن حصين، والسند كله بصريون، وقد تقدم الحديث بهذا السند في آخر "باب كفران العشير" وفي أواخر كتاب النكاح وتقدم في "باب فضل الفقر" بيان الاختلاف على أيوب عن أبي رجاء في صحابيه، وتقدم بحث ابن بطال فيما يتعلق به من فضل الفقر، وقوله اطلعت بتشديد الطاء أي أشرفت، وفي حديث أسامة بن زيد الذي بعده "قمت على باب الجنة" وظاهره أنه رأى ذلك ليلة الإسراء أو مناما، وهو غير رؤيته النار وهو في صلاة الكسوف، ووهم من وحدهما. وقال الداودي: رأى ذلك ليلة الإسراء أو حين خسفت الشمس، كذا قال. قوله: "فرأيت أكثر أهلها الفقراء" في حديث أسامة "فإذا

(11/419)


عامة من دخلها المساكين" وكل منهما يطلق على الآخر وقوله: "فإذا أكثر" في حديث أسامة "فإذا عامة من دخلها". قوله: "بكفرهن" أي بسبب كفرهن تقدم شرحه مستوفى في "باب كفران العشير" قال القرطبي إنما كان النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى، والميل إلى عاجل زينة الدنيا، والإعراض عن الآخرة لنقص عقلهن وسرعة انخداعهن. قوله: "إسماعيل" هو المعروف بابن علية، وأبو عثمان هو النهدي، وأسامة هو ابن زيد بن حارثة الصحابي ابن الصحابي. قوله: "أصحاب الجد" بفتح الجيم أي الغنى. قوله: "محبوسون" أي ممنوعون من دخول الجنة مع الفقراء من أجل المحاسبة على المال، وكأن ذلك عند القنطرة التي يتقاصون فيها بعد الجواز على الصراط. "تنبيه": سقط هذا الحديث والذي قبله من كثير من النسخ ومن مستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم، ولا ذكر المزي في "الأطراف" طريق عثمان بن الهيثم ولا طريق مسدد في كتاب الرقاق وهما ثابتان في رواية أبي ذر عن شيوخه الثلاثة. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك وعمر بن محمد بن زيد أي ابن عبد الله بن عمر، قوله: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار" في رواية ابن وهب عن عمران بن محمد عند مسلم: "وصار أهل النار إلى النار". قوله: "جيء بالموت" تقدم في تفسير سورة مريم من حديث أبي سعيد "يؤتي بالموت كهيئة كبش أملح" وذكر مقاتل والكلبي في تفسيرهما في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قال: خلق الموت في صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيى. قال القرطبي: الحكمة في الإتيان بالموت هكذا الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء له كما فدى ولد إبراهيم بالكبش، وفي الأملح إشارة إلى صفتي أهل الجنة والنار لأن الأملح ما فيه بياض وسواد. قوله: "حتى يجعل بين الجنة والنار" وقع للترمذي من حديث أبي هريرة "فيوقف على السور الذي بين الجنة والنار". قوله: "ثم يذبح" لم يسم من ذبحه، ونقل القرطبي عن بعض الصوفية أن الذي يذبحه يحيى بن زكريا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى دوام الحياة، وعن بعض التصانيف أنه جبريل. قلت: هو في تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في آخر حديث الصور الطويل فقال فيه: "فيحيى الله تعالى ملك الموت وجبريل وميكائيل وإسرافيل ويجعل الموت في صورة كبش أملح فيذبح جبريل الكبش وهو الموت". قوله: "ثم ينادي مناد" لم أقف على تسميته، وتقدم في الباب الذي قبله من وجه آخر عن ابن عمر بلفظ: "ثم يقوم مؤذن بينهم" وفي حديث أبي سعيد بعد قوله أملح "فينادي مناد" وظاهره أن الذبح يقع بعد النداء، والذي هنا يقتضي أن النداء بعد الذبح، ولا منافاة بينهما فإن النداء الذي قبل الذبح للتنبيه على رؤية الكبش والذي بعد الذبح للتنبيه على إعدامه وأنه لا يعود. قوله: "يا أهل الجنة لا موت" زاد في الباب الماضي "خلود" وقع في حديث أبي سعيد "فينادي مناد يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرقون هذا؟ فيقولون: نعم، وكلهم قد رآه وعرفه" وذكر في أهل النار مثله، قال: "فيذبح ثم يقول - أي المنادي - يا أهل الجنة خلود فلا موت" الحديث، وفي آخره: "ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} إلى آخر الآية "وعند الترمذي في آخر حديث أبي سعيد" فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة، ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار" وقوله: "فيشرئبون" بفتح أوله وسكون المعجمة وفتح الراء بعدها تحتانية مهموزة ثم موحدة ثقيلة أي يمدون أعناقهم ويرفعون رءوسهم للنظر. ووقع عند ابن ماجه وفي صحيح ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة "فيوقف على الصراط فيقال

(11/420)


يا أهل الجنة فيطلعون خائفين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، ثم يقال: يا أهل النار، فيطلعون فرحين مستبشرين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه" وفي آخره: "ثم يقال للفريقين كلاهما خلود فيما تجدون لا موت فيه أبدا" وفي رواية الترمذي "فيقال لأهل الجنة وأهل النار هل تعرفون هذا؟ فيقولون: قد عرفناه هو الموت الذي وكل بنا، فيضجع فيذبح ذبحا على السور" قال القاضي أبو بكر بن العربي: استشكل هذا الحديث لكونه يخالف صريح العقل لأن الموت عرض والعرض لا ينقلب جسما فكيف يذبح؟ فأنكرت طائفة صحة هذا الحديث ودفعته، وتأولته طائفة فقالوا: هذا تمثيل ولا ذبح هناك حقيقة. وقالت طائفة: بل الذبح على حقيقته والمذبوح متولي الموت وكلهم يعرفه لأنه الذي تولى قبض أرواحهم. قلت: وارتضى هذا بعض المتأخرين وحمل قوله: "هو الموت الذي وكل بنا" على أن المراد به ملك الموت لأنه هو الذي وكل بهم في الدنيا كما قال تعالى في سورة ألم السجدة واستشهد له من حيث المعنى بأن ملك الموت لو استمر حيا لنغص عيش أهل الجنة. وأيده بقوله في حديث الباب: "فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم" وتعقب بأن الجنة لا حزن فيها البتة، وما وقع في رواية ابن حبان أنهم يطلعون خائفين إنما هو توهم لا يستقر، ولا يلزم من زيادة الفرح ثبوت الحزن، بل التعبير بالزيادة إشارة إلى أن الفرح لم يزل، كما أن أهل النار يزداد حزنهم ولم يكن عندهم فرح إلا مجرد التوهم الذي لم يستقر، وقد تقدم في "باب نفخ الصور" عند نقل الخلاف في المراد بالمستثنى في قوله تعالى: {صَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} قول من زعم أن ملك الموت منهم. ووقع عند علي بن معبد من حديث أنس "ثم يأتي ملك الموت فيقول: رب بقيت أنت الحي القيوم الذي لا يموت وبقيت أنا، فيقول أنت خلق من خلقي فمت ثم لا تحيا، فيموت" وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق محمد بن كعب القرظي قال: بلغني أن آخر من يموت من الخلائق ملك الموت، فيقال له: يا ملك الموت مت موتا لا تحيا بعده أبدا. فهذا لو كان ثابتا لكان حجة في الرد على من زعم أنه الذي يذبح لكونه مات قبل ذلك موتا لا حياة بعده، لكنه لم يثبت. وقال المازري: الموت عندنا عرض من الأعراض، وعند المعتزلة ليس بمعنى، وعلى المذهبين لا يصح أن يكون كبشا ولا جسما، وأن المراد بهذا التمثيل والتشبيه. ثم قال: وقد يخلق الله تعالى هذا الجسم ثم يذبح ثم يجعل مثالا لأن الموت لا يطرأ على أهل الجنة. وقال القرطبي في التذكرة: الموت معنى والمعاني لا تنقلب جوهرا، وإنما يخلق الله أشخاصا من ثواب الأعمال، وكذا الموت يخلق الله كبشا يسميه الموت ويلقى في قلوب الفريقين أن هذا الموت يكون ذبحه دليلا على الخلود في الدارين. وقال غيره: لا مانع أن ينشئ الله من الأعراض أجسادا يجعلها مادة لها كما ثبت في صحيح مسلم في حديث: "إن البقرة وآل عمران يجيئان كأنهما غمامتان" ونحو ذلك من الأحاديث. قال القرطبي: وفي هذه الأحاديث التصريح بأن خلود أهل النار فيها لا إلى غاية أمد، وإقامتهم فيها على الدوام بلا موت ولا حياة نافعة ولا راحة، كما قال تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وقال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} قال فمن زعم أنهم يخرجون منها وأنها تبقى خالية أو أنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول وأجمع عليه أهل السنة. قلت: جمع بعض المتأخرين هذه المسألة سبعة أقوال: أحدها هذا الذي نقل فيه الإجماع، والثاني يعذبون فيها إلى أن تنقلب طبيعتهم فتصير نارية حتى يتلذذوا بها لموافقة طبعهم وهذا قول بعض من ينسب إلى التصوف من الزنادقة، والثالث يدخلها قوم ويخلفهم

(11/421)


آخرون كما ثبت في الصحيح عن اليهود وقد أكذبهم الله تعالى بقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} والرابع يخرجون منها وتستمر هي على حالها، الخامس تفنى لأنها حادثة وكل حادث يفنى وهو قول الجهمية، والسادس تفنى حركاتهم البتة وهو قول أبي الهذيل العلاف من المعتزلة، والسابع يزول عذابها ويخرج أهلها منها جاء ذلك عن بعض الصحابة أخرجه عبد بن حميد في تفسيره من رواية الحسن عن عمر قوله وهو منقطع ولفظه: "لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه" وعن ابن مسعود "ليأتين عليها زمان ليس فيها أحد" قال عبيد الله بن معاذ راويه: كان أصحابنا يقولون: يعني به الموحدين. قلت: وهذا الأثر عن عمر لو ثبت حمل على الموحدين، وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "عن زيد بن أسلم" كذا في جميع الروايات عن مالك بالعنعنة. قوله:" إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة" في رواية الحبيبي عن مالك عن الإسماعيلي: "يطلع الله على أهل الجنة فيقول". قوله: "فيقولون" في رواية أبي ذر عن المستملى "يقولون" بحذف الفاء. قوله: "وسعديك" زاد سعيد بن داود وعبد العزيز بن يحيى كلاهما عن مالك عند الدار قطني في الغرائب "والخير في يديك". قوله: "فيقول هل رضيتم" في حديث جابر عند البزار وصححه ابن حبان:" هل تشتهون شيئا". قوله: "وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا" في حديث جابر "وهل شيء أفضل مما أعطيتنا". قوله: "أنا أعطيكم أفضل من ذلك" في رواية ابن وهب عن مالك كما سيأتي في التوحيد "ألا أعطيكم". قوله: "أحل" بضم أوله وكسر المهملة أي أنزل. قوله: "رضواني" بكسر أوله وضمه، وفي حديث جابر قال: "رضواني أكبر" وفيه تلميح بقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة، وكل من علم أن سيده راض عنه كان أقر لعينه وأطيب لقلبه من كل نعيم لما في ذلك من التعظيم والتكريم. وفي هذا الحديث أن النعيم الذي حصل لأهل الجنة لا مزيد عليه. "تنبيهان": "الأول" حديث أبي سعيد هذا كأنه مختصر من الحديث الطويل الماضي في تفسير سورة النساء من طريق حفص بن ميسرة والآتي في التوحيد من طريق سعيد بن أبي هلال كلاهما عن زيد بن أسلم بهذا السند في صفة الجواز على الصراط، وفيه قصة الذين يخرجون من النار، وفي آخره أنه يقال لهم نحو هذا الكلام، لكن إذا ثبت أن ذلك يقال لهؤلاء لكونهم من أهل الجنة فهو للسابقين بطريق الأولى. "الثاني" هذا الخطاب غير الخطاب الذي لأهل الجنة كلهم، وهو فيما أخرجه مسلم وأحمد من حديث صهيب رفعه: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم موعدا عند الله يريد أن ينجزكموه" الحديث، وفيه: "فيكشف الحجاب فينظرون إليه" وفيه: "فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه" وله شاهد عند ابن المبارك في الزهد من حديث أبي موسى من قوله، وأخرجه ابن أبي حاتم من حديثه مرفوعا باختصار. قوله: "عبد الله بن محمد" هو الجعفي، ومعاوية بن عمرو هو الأزدي يعرف بابن الكرماني وهو من شيوخ البخاري، وقد أخرج عنه بغير واسطة كما في كتاب الجمعة وبواسطة كالذي هنا، وقد تقدم بسنده ومتنه في "باب فضل من شهد بدرا" من كتاب المغازي. قوله: "أصيب حارثة" بمهملة ومثلثة هو ابن سراقة بن الحارث الأنصاري له ولأبويه صحبة، وأمه هي الربيع بالتشديد بنت النضر عمة أنس، وقد ذكرت الاختلاف في اسمها في "باب من أتاه سهم غرب "من كتاب الجهاد، وذكرت شرح

(11/422)


الحديث في غزوة بدر، وقولها هنا "وإن تكن الأخرى تر ما أصنع" كذا للكشميهني بالجزم جواب الشرط، ولغيره: "ترى" بالإشباع أو بحذف شيء بتقديره سوف كما في الرواية الآتية في آخر هذا الباب: "وإلا سوف ترى" والمعنى وإن لم يكن في الجنة صنعت شيئا من صنيع أهل الحزن مشهورا يراه كل أحد. قوله: "وإنه لفي جنة الفردوس" كذا للأكثر وحذف الكشميهني في روايته اللام، ووقع في الرواية الآتية "الفردوس الأعلى" قال أبو إسحاق الزجاج: الفردوس من الأودية ما ينبت ضروبا من النبات. وقال ابن الأنباري وغيره: بستان فيه كروم وثمرة وغيرها ويذكر ويؤنث. وقال الفراء: هو عربي مشتق من الفردسة وهي السعة، وقيل رومي نقلته العرب. وقال غيره سرياني، والمراد به هنا مكان من الجنة من أفضلها. قوله: "الفضل بن موسى" هو السيناني بكسر المهملة وسكون التحتانية ونونين المروزي. قوله: "أخبرنا الفضيل" بالتصغير كذا للأكثر غير منسوب، ونسبه ابن السكن في روايته فقال الفضيل بن غزوان وهو المعتمد، ونسبه أبو الحسن القابسي في روايته عن أبي زيد المروزي فقال: الفضيل بن عياض، ورده أبو علي الجياني فقال: لا رواية للفضيل بن عياض في البخاري إلا في موضعين من كتاب التوحيد. ولا رواية له عن أبي حازم راوي هذا الحديث ولا أدركه، وهو كما قال. وقد أخرج مسلم هذا الحديث من رواية محمد بن فضيل بن غزوان عن أبيه بسنده ولكن لم يرفعه، وهو عند الإسماعيلي من هذا الوجه وقال رفعه، وهو يؤيد مقالة أبي على الجياني. قوله: "منكبي الكافر" كسر الكاف تثنية منكب وهو مجتمع العضد والكتف. قوله: "مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع" في رواية يوسف بن عيسى عن الفضل بن موسى بسند البخاري فيه: "خمسة أيام" أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عنه، وفي حديث ابن عمر عند أحمد من رواية مجاهد عنه مرفوعا: "يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" وللبيهقي في البعث من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس "مسيرة سبعين خريفا" ولابن المبارك في الزهد عن أبي هريرة قال: "ضرس الكافر يوم القيامة أعظم من أحد، يعظمون لتمتلئ منهم وليذوقوا العذاب" وسنده صحيح، ولم يصرح برفعه لكن له حكم الرفع لأنه لا مجال للرأي فيه، وقد أخرج أوله مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا وزاد: "وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام" وأخرجه البزار من وجه ثالث عن أبي هريرة بسند صحيح بلفظ: "غلظ جلد الكافر وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار" وأخرجه البيهقي وقال: "أراد بذلك التهويل يعني بلفظ الجبار، قال: ويحتمل أن يريد جبارا من الجبابرة إشارة إلى عزم الذراع" وجزم ابن حبان لما أخرجه في صحيحه بأن الجبار ملك كان باليمين وفي مرسل عبيد بن عمير عند ابن المبارك في الزهد بسند صحيح "وكثافة جلده سبعون ذراعا" وهذا يؤيد الاحتمال الأول لأن السبعين تطلق للمبالغة. وللبيهقي من طريق عطاء بن يسار عن أبي هريرة "وفخذه مثل ورقان ومقعده مثل ما بين المدينة والربذة" وأخرجه الترمذي ولفظه: "بين مكة والمدينة" وورقان بفتح الواو وسكون الراء بعدها قاف جبل معروف بالحجاز، والربذة تقدم ضبطها قريبا في حديث أبي ذر وكأن اختلاف هذه المقادير محمول على اختلاف تعذيب الكفار في النار وقال القرطبي في "المفهم": إنما عظم خلقا الكافر في النار ليعظم عذابه ويضاعف ألمه ثم قال وهذا إنما هو في حق البعض بدليل الحديث الآخر "إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس" قال ولا شك في أن الكفار متفاوتون في العذاب كما علم من الكتاب والسنة

(11/423)


ولأنا نعلم على القطع أن عذاب من قتل الأنبياء وفتك في المسلمين وأفسد في الأرض ليس مساويا لعذاب من كفر فقط وأحسن معاملة المسلمين مثلا قلت: أما الحديث المذكور فأخرجه الترمذي والنسائي بسند جيد عن عمرو بن شعيب على أبيه عن جده، ولا حجة فيه لمدعاه لأن ذلك إنما هو في أول الأمر عند الحشر، وأما الأحاديث الأخرى فمحمولة على ما بعد الاستقرار في النار وأما ما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر رفعه: "إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس" فسنده ضعيف وأما تفاوت الكفار في العذاب فلا شك فيه ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وتقدم قريبا الحديث في أهون أهل النار عذابا. قوله: "وقال إسحاق بن إبراهيم" هو المعروف بابن راهويه كذا في جميع النسخ وأطلق المزي تبعا لأبي مسعود أن البخاري ومسلما أخرجاه جميعا عن إسحاق بن راهويه مع أن لفظ مسلم: "حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي" وهو ابن راهويه وليس من رأي المزي التسوية بين "حدثنا" و "قال:" بل ولا "قال لي وقال لنا" بل يعلم على مثل ذلك كله علامة التعليق بخلاف "حدثنا". قوله: "أنبأنا المغيرة بن سلمة" في رواية مسلم: "أنبأنا المخزومي" قلت: وهو المغيرة المذكور وكنيته أبو هشام وهو مشهور بكنيته وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن بشار وقال: حدثنا أبو هشام المغيرة بن سلمة المخزومي. قوله: "عن أبي حازم" هو سلمة بن دينار، بخلاف المذكور في الحديث الذي قبله فهو سلمان الأشجعي وهما مدنيان تابعيان ثقتان لكن سلمة أصغر من سلمان. قوله: "لا يقطعها" أي لا ينتهي إلى آخر ما يميل من أغصانها. قوله: "قال أبو حازم" هو موصول بالسند المذكور، والنعمان بن أبي عياش بتحتانية ثم معجمة هو الزرقي، ووقع منسوبا في رواية مسلم، وهو أيضا مدني تابعي ثقة يكنى أبا سلمة وهو أكبر من الراوي عنه. قوله: "أخبرني أبو سعيد" في رواية مسلم: "حدثني". قوله: "الجواد" بفتح الجيم وتخفيف الواو هو الفرس، يقال حاد الفرس إذا صار فائقا والجمع جياد وأجواد، وسيجيء في صفة المرور على الصراط "أجاويد الخيل وهو جمع الجمع". قوله: "أو المضمر" بفتح الضاد المعجمة وتشديد الميم تقدم تفسد في كتاب الجهاد، وقوله: "السريع" أي في جريه، وقع في رواية ابن وهب من وجه آخر عند الإسماعيلي: "الجواد السريع" ولم يشك وفي رواية مسلم: "الجواد المضمر السريع" بحذف أو، والجواد في روايتنا بالرفع وكذا ما بعده على أن الثلاثة ضفة للراكب، وضبط في صحيح مسلم بنصب الثلاثة على المفعولية، وقد تقدم هذا المتن في بدء الخلق من حديث أبي هريرة ومن حديث أنس بلفظ: "يسير الراكب" وزاد في آخر حديث أبي هريرة "واقرؤوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} " والمراد بالظل الراحة والنعيم والجهة يقال عز ظليل وأنا في ظلك أي كنفك. وقال الراغب: الظل أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ولكل موضع لا تصل إليه الشمس، ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه الشمس، قال ويعبر بالظل عن العز والمنعة والرفاهية والحراسة، ويقال عن غضارة العيش ظل ظليل. قلت: وقع التعبير في هذا الحديث بلفظ: "الفيء" في حديث أسماء بنت يزيد عند الترمذي ولفظها "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وذكر سدرة المنتهى: يسير الراكب في ظل الفيء منها مائة سنة أو يستظل بظلها الراكب مائة سنة" ويستفاد منه تعيين الشجرة المذكورة في حديث الباب. وأخرج أحمد وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه: "شجرة طوبي مائة سنة" وفي حديث عقبة بن عبد السلمي في عظم أصل شجرة طوبي "لو ارتحلت جذعة ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما" أخرجه ابن حبان في صحيحه، والترقوة بفتح المثناة

(11/424)


وسكون الراء بعدها قاف مضمومة وواو مفتوحة هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق والجمع تراق، ولكل شخص ترقوتان، وقد تقدم بعض هذا في صفة الجنة من بدء الخلق. قوله: "عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي، وعبد العزيز هو ابن أبي حازم المذكور قبل، وسهل هو ابن سعد. قوله: "عبد العزيز" هو ابن أبي حازم. وقوله عن أبي حازم هو أبوه واسمه سلمة بن دينار المذكور قبل، ووقع في رواية أني نعيم في المستخرج من طريق محمد بن أبي يعقوب "حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه" وتقدم شرح المتن مستوفى في الباب الذي قبله. قوله: "الغرف" بضم المعجمة وفتح الراء جمع غرفة بضم أوله وبفتحه، جاء في صفتها من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا: "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها" أخرجه الترمذي وابن حبان، وللطبراني وصححه الحاكم من حديث ابن عمر نحوه، وتقدم في صفة الجنة من بدء الخلق الإشارة إلى مثله من حديث علي، وعند البيهقي نحوه من حديث جابر وزاد: "من أصناف الجوهر كله". قوله: "الكوكب" زاد في رواية الإسماعيلي: "الدري". قوله: "قال أبي" القائل هو عبد العزيز. قوله: "أشهد لسمعت" اللام جواب قسم محذوف، وأبو سعيد هو الخدري. قوله: "يحدث" في رواية الكشميهني: "يحدثه" أي يحدث الحديث، يقال حدثت كذا وحدثت بكذا. قوله: "الغارب" في رواية الكشميهني الغابر بتقديم الموحدة على الراء، وضبطه بعضهم بتحتانية مهموزة قبل الراء قال الطيبي شبه رؤية الرائي في الجنة صاحب الغرفة برؤية الرائي الكوكب المضيء النائي في جانب المشرق والمغرب في الاستضاءة مع البعد، ومن رواه الغائر من الغور لم يصح لأن الإشراق يفوت إلا إن قدر المشرف على الغور، والمعنى إذا كان طالعا في الأفق من المشرق وغائرا في المغرب. وفائدة ذكر المشرق والمغرب بيان الرفعة وشدة البعد، وقد تقدم حديث الباب بأتم من هذا السياق في بدء الخلق من حديث أبي سعيد، وتقدم شرحه هناك. ووقع في رواية أيوب بن سويد عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد فيه شيء مدرج بينته هناك، وحكم الدار قطني عليه بالوهم، وأما ابن حبان فاغتر بثقة أيوب عنده فأخرجه في صحيحه، وهو معلول بما نبه عليه الدار قطني واستدل به على تفاوت درجات أهل الجنة. وقد قسموا في سورة الواقعة إلى السابقين وأصحاب اليمين: فالقسم الأول هم من ذكر في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية، ومن عداهم أصحاب اليمين، وكل من الصنفين متفاوتون في الدرجات، وفيه تعقب على من خص المقربين بالأنبياء والشهداء لقوله في آخر الحديث: "رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين". حديث أنس "يقال لأهل النار" الحديث الماضي في "باب من نوقش الحساب" وقد تقدم مشروحا. قوله: "أبو النعمان" هو محمد بن الفضل، وحماد هو ابن زيد، وعمرو هو ابن دينار، وجابر هو ابن عبد الله الأنصاري. قوله: "يخرج من النار بالشفاعة" كذا للأكثر من رواية البخاري بحذف الفاعل، وثبت في رواية أبي ذر عن السرخسي عن الفربري "يخرج قوم" وكذا للبيهقي في البعث من طريق يعقوب بن سفيان عن أبي النعمان شيخ البخاري فيه، وكذا لمسلم عن أبي الربيع الزهراني عن حماد بن زيد ولفظه: "إن الله يخرج قوما من النار بالشفاعة" وله من رواية سفيان بن عيينة عن عمرو سمع جابر مثله لكن قال: "ناس من النار فيدخلهم الجنة" وعند سعيد بن منصور وابن أبي عمر عن سفيان عن عمرو فيه سند آخر أخرجاه من رواية عمرو عن عبيد بن عمير فذكره مرسلا وزاد: "فقال له رجل - يعني لعبيد بن عمير - وكان الرجل يتهم برأي الخوارج ويقال له هارون أبو موسى: يا أبا عاصم ما هذا الذي تحدثه به؟ فقال:

(11/425)


إليك عني، لو لم أسمعه من ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم أحدث به": قلت: وقد جاء بيان هذه القصة من وجه آخر أخرجه مسلم من طريق يزيد الفقير بفاء ثم قاف وزن عظيم ولقب بذلك لأنه كان يشكو فقار ظهره لا أنه ضد الغنى قال: "خرجنا في عصابة نريد أن نحج ثم نخرج على الناس، فمررنا بالمدينة فإذا رجل يحدث وإذا هو قد ذكر الجهنميين. فقلت له: ما هذا الذي تحدثون به، والله يقول {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} و {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} قال. أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: أسمعت بمقام محمد الذي يبعثه الله؟ قلت: نعم. قال: فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار بعد أن يكونوا فيها. ثم نعت وضع الصراط ومد الناس عليه، قال: فرجعنا وقلنا: أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما خرج منا غير رجل واحد" وحاصله أن الخوارج الطائفة المشهورة المبتدعة كانوا ينكرون الشفاعة، وكان الصحابة ينكرون إنكارهم ويحدثون بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأخرج البيهقي في البعث من طريق شبيب بن أبي فضالة: ذكروا عند عمران بن حصين الشفاعة فقال رجل: إنكم لتحدثوننا بأحاديث لا نجد لها في القرآن أصلا، فغضب وذكر له ما معناه: أن الحديث يفسر القرآن. وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن أنس قال: من كذب بالشفاعة فلا نصيب له فيها. وأخرج البيهقي في البعث من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس: خطب عمر فقال: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار. ومن طريق أبي هلال عن قتادة قال قال أنس: يخرج قوم من النار، ولا نكذب بها كما يكذب بها أهل حروراء. يعني الخوارج. قال ابن بطال: أنكرت المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين وتمسكوا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}. وغير ذلك من الآيات. وأجاب أهل السنة بأنها في الكفار، وجاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة ودل عليها قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} والجمهور على أن المراد به الشفاعة، وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع، ولكنه أشار إلى ما جاء عن مجاهد وزيفه. وقال الطبري: قال أكثر أهل التأويل المقام المحمود هو الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم ليريحهم من كرب الموقف، ثم أخرج عدة أحاديث بعضها التصريح بذلك وفي بعضها مطلق الشفاعة، فمنها حديث سلمان قال: "فيشفعه الله في أمته فهو المقام المحمود" ومن طريق رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس "المقام المحمود الشفاعة" ومن طريق داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبي هريرة في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قال: "سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هي الشفاعة" ومن حديث كعب بن مالك رفعه: "أكون أنا وأمتي على تل، فيكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول: فذلك المقام المحمود" ومن طريق يزيد بن زريع قتادة "ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أول شافع، وكان أهل العلم يقولون إنه المقام المحمود" ومن حديث أبي مسعود رفعه:" إني لأقوم يوم القيامة المقام المحمود إذا جيء بكم حفاة عراة" وفيه: "ثم يكسوني ربي حلة فألبسها فأقوم عن يمين العرش مقاما لا يقومه أحد يغبطني به الأولون والآخرون" ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد: المقام المحمود الشفاعة. ومن طريق الحسن البصري مثله، قال الطبري: وقال ليث عن مجاهد في قوله تعالى: {مَقَاماً مَحْمُوداً} يجلسه معه على عرشه. ثم أسنده وقال: الأول أولى، على أن الثاني ليس بمدفوع لا من جهة النقل ولا من جهة النظر. وقال ابن عطية: هو كذلك إذا حمل على ما يليق به. وبالغ الواحدي

(11/426)


في رد هذا القول، وأما النقاش فنقل عن أبي داود صاحب السنن أنه قال: من أنكر هذا فهو متهم. وقد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبي وعن ابن عباس عند أبي الشيخ وعن عبد الله بن سلام قال: إن محمدا يوم القيامة على كرسي الرب بين يدي الرب أخرجه الطبري. قلت: فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف، وعلى ذلك على ما جاء عن مجاهد وغيره، والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، لكن الشفاعة التي وردت في الأحاديث المذكورة في المقام المحمود نوعان: الأول العامة في فصل القضاء، والثاني الشفاعة في إخراج المذنبين من النار وحديث سلمان الذي ذكره الطبري أخرجه ابن أبي شيبة أيضا، وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد والترمذي، وحديث كعب أخرجه ابن حبان والحاكم وأصله في مسلم، وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وجاء فيه أيضا عن أنس سيأتي في التوحيد، وعن ابن عمر كما مضى في الزكاة عن جابر عند الحاكم من رواية الزهري عن علي بن الحسين عنه، واختلف فيه على الزهري، فالمشهور عنه أنه مرسل علي بن الحسين، كذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر. وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري عن علي عن رجال من أهل العلم أخرجه ابن أبي حاتم، وحديث جابر في ذلك عند مسلم من وجه آخر عنه، وفيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ابن مردويه؛ وعنده أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص ولفظه: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة" وعن أبي سعيد عند الترمذي وابن ماجه. وقال الماوردي في تفسيره: اختلف في المقام المحمود على ثلاثة أقوال، فذكر القولين: الشفاعة والإجلاس، والثالث إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة. قال القرطبي: هذا لا يغاير القول الأول، وأثبت غيره رابعا وهو ما أخرجه بن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن أبي هلال أحد صغار التابعين أنه بلغه أن المقام المحمود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون يوم القيامة بين الجبار وبين جبريل، فيغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع. قلت: وخامسا هو ما اقتضاه حديث حذيفة وهو ثناؤه على ربه، وسيأتي سياقه في شرح الحديث السابع عشر، ولكنه لا يغاير الأول أيضا. وحكى القرطبي سادسا وهو ما اقتضاه حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد والنسائي والحاكم قال: "يشفع نبيكم رابع أربعة جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم لا يشفع أحد في أكثر مما يشفع فيه" الحديث، وهذا الحديث لم يصرح برفعه، وقد ضعفه البخاري وقال: المشهور قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع". قلت: وعلى تقدير ثبوته فليس في شيء من طرقه التصريح بأنه المقام لمحمود، مع أنه لا يغاير حديث الشفاعة في المذنبين، وجوز المحب الطبري سابعا وهو ما اقتضاه حديث كعب بن مالك الماضي ذكره فقال بعد أن أورده: هذا يشعر بأن المقام المحمود غير الشفاعة، ثم قال: ويجوز أن تكون الإشارة بقوله: "فأقول" إلى المراجعة في الشفاعة. قلت: وهذا هو الذي يتجه، ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة العامة، فإن إعطاءه لواء الحمد وثناءه على ربه وكلامه بين يديه وجلوسه على كرسيه وقيامه أقرب من جبريل كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق، وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك، واختلف في فاعل الحمد من قوله: "مقاما محمودا" فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف، وقيل النبي صلى الله عليه وسلم أي أنه هو يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجده في الليل، والأول أرجح لما ثبت من حديث ابن عمر الماضي في الزكاة بلفظ: "مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم" ويجوز أن يحمل على أعم من ذلك أي مقاما يحمده القائم فيه وكل من عرفه، وهو مطلق في كل ما يجلب المد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا أبو حيان وأيده بأنه نكرة فدل على أنه ليس المراد مقاما

(11/427)


مخصوصا، قال ابن بطال: سلم بعض المعتزلة وقوع الشفاعة لكن خصها بصاحب الكبيرة الذي تاب منها ويصاحب الصغيرة الذي مات مصرا عليها، وتعقب بأن من قاعدتهم أن التائب من الذنب لا يعذب، وأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر، فيلزم قائله أن يخالف أصله. وأجيب بأنه لا مغايرة بين القولين، إذ لا مانع من أن حصول ذلك للفريقين إنما حصل بالشفاعة، لكن يحتاج من قصرها على ذلك إلى دليل التخصيص، وقد تقدم في أول الدعوات الإشارة إلى حديث: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" ولم يخص بذلك من تاب. وقال عياض: أثبتت المعتزلة الشفاعة العامة في الإراحة من كرب الموقف وهي الخاصة بنبينا والشفاعة في رفع الدرجات وأنكرت ما عداهما. قلت: وفي تسليم المعتزلة الثانية نظر. قال النووي تبعا لعياض: الشفاعة خمس في الإراحة من هول الموقف وفي إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفي إدخال قوم حوسبوا فاستحقوا العذاب أن لا يعذبوا، وفي إخراج من أدخل النار من العصاة. وفي رفع الدرجات. ودليل الأولى سيأتي التنبيه عليه في شرح الحديث السابع عشر. ودليل الثانية قوله تعالى في جواب قوله صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمتي" : أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم" كذا قيل، ويظهر لي أن دليله سؤاله صلى الله عليه وسلم الزيادة على السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فأجيب، وقد قدمت بيانه في شرح الحديث المذكور في الباب الذي قبله. ودليل الثالثة قوله في حديث حذيفة عند مسلم: "ونبيكم على الصراط يقول: رب سلم" وله شواهد سأذكرها في شرح الحديث السابع عشر. ودليل الرابعة ذكرته فيه أيضا مبسوطا. ودليل الخامسة قوله في حديث أنس عند مسلم: "أنا أول شفيع في الجنة" كذا قاله بعض من لقيناه وقال: وجه الدلالة منه أنه جعل الجنة ظرفا لشفاعته. قلت: وفيه نظر، لأني سأبين أنها ظرف في شفاعته الأولى المختصة به، والذي يطلب هنا أن يشفع لمن لم يبلغ عمله درجة عالية أن يبلغها بشفاعته. وأشار النووي في "الروضة" إلى أن هذه الشفاعة من خصائصه مع أنه لم يذكر مستندها، وأشار عياض إلى استدراك شفاعة سادسة وهي التخفيف عن أبي طالب في العذاب كما سيأتي بيانه في شرح الحديث الرابع عشر، وزاد بعضهم شفاعة سابعة وهي الشفاعة لأهل المدينة لحديث سعد رفعه: "لا يثبت على ولأوائها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا" أخرجه مسلم، ولحديث أبي هريرة رفعه: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها" أخرجه الترمذي قلت: وهذه غير واردة لأن متعلقها لا يخرج عن واحدة من الخمس الأول، ولو عد مثل ذلك لعد حديث عبد الملك بن عباد "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أول من أشفع له أهل المدينة ثم أهل مكة ثم أهل الطائف" أخرجه البزار والطبراني. وأخرج الطبراني من حديث ابن عمر رفعه: "أول من أشفع له أهل بيتي ثم الأقرب فالأقرب ثم سائر العرب ثم الأعاجم" وذكر القزويني في العروة الوثقى شفاعته لجماعة من الصلحاء في التجاوز عن تقصيرهم ولم يذكر مستندها، ويظهر لي أنها تندرج في الخامسة، وزاد القرطبي أنه أول شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، وهذه أفردها النقاش بالذكر وهي واردة ودليلها يأتي في حديث الشفاعة الطويل، وزاد النقاش أيضا شفاعته في أهل الكبائر من أمته وليست واردة لأنها تدخل في الثالثة أو الرابعة، وظهر لي بالتتبع شفاعة أخرى وهي الشفاعة فيمن استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، ومستندها ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يرحمه الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلونها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم قريبا أن أرجح الأقوال في أصحاب الأعراف أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وشفاعة أخرى وهي شفاعته

(11/428)


فيمن قال لا إله إلا الله ولم يعمل خيرا قط، ومستندها رواية الحسن عن أنس كما سيأتي بيانه في شرح الباب الذي يليه، ولا يمنع من عدها قول الله تعالى له "ليس ذلك إليك" لأن النفي يتعلق بمباشرة الإخراج، وإلا فنفس الشفاعة منه قد صدرت وقبولها قد وقع وترتب عليها أثرها، فالوارد على الخمسة أربعة وما عداها لا يرد كما ترد الشفاعة في التخفيف عن صاحبي القبرين وغير ذلك لكونه من جملة أحوال الدنيا. قوله: "كأنهم الثعارير" بمثلثة مفتوحة ثم مهملة واحدها ثعرور كعصفور. قوله: "قلت وما الثعارير" سقطت الواو لغير الكشميهني. قوله: "قال الضغابيس" بمعجمتين ثم موحدة بعدها مهملة. أما الثعارير فقال ابن الأعرابي: هي قثاء صغار. وقال أبو عبيدة مثله وزاد ويقال بالشين المعجمة بدل المثلثة، وكأن هذا هو السبب في قول الراوي: وكان عمرو ذهب فمه -أي سقطت أسنانه- فنطق بها ثاء مثلثة وهي شين معجمة. وقيل هو نبت في أصول الثمام كالقطن ينبت في الرمل ينبسط عليه ولا يطول. ووقع تشبيههم بالطراثيث في حديث حذيفة، وهي بالمهملة ثم المثلثة هي الثمام بضم المثلثة وتخفيف الميم، وقيل الثعرور الأقط الرطب. وأغرب القابسي فقال: هو الصدف الذي يخرج من البحر فيه الجوهر. وكأنه أخذه من قوله في الرواية الأخرى "كأنهم اللؤلؤ" ولا حجة فيه لأن ألفاظ التشبيه تختلف، والمقصود الوصف بالبياض والدقة. وأما الضغابيس فقال الأصمعي: شيء ينبت في أصول التمام يشبه الهليون يسلق ثم يؤكل بالزيت والخل. وقيل ينبت في أصول الشجر وفي الأذحر يخرج قدر شبر في دقة الأصابع لا ورق له وفيه حموضة. وفي غريب الحديث للحربي: الضغبوس شجرة على طول الإصبع، وشبه به الرجل الضعيف. وأغرب الداودي فقال: هي طيور صغار فوق الذباب. ولا مستند له فيما قال: "تنبيه": هذا التشبيه لصفتهم بعد أن ينبتوا، وأما في أول خروجهم من النار فإنهم يكونون كالفحم كما سيأتي في الحديث الذي بعده. ووقع في حديث يزيد الفقير عن جابر عند مسلم: "فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، فيدخلون نهرا فيغتسلون فيخرجون كأنهم القراطيس البيض" والمراد بعيدان السماسم ما ينبت فيه السمسم، فإنه إذا جمع ورميت العيدان تصير سودا دقاقا. وزعم بعضهم أن اللفظة محرفة وأن الصواب الساسم بميم واحدة، وهو خشب أسود والثابت في جميع طرق الحديث بإثبات الميمين وتوجيه واضح. قوله: "فقلت لعمرو" القائل حماد. قوله: "أبا محمد" بحذف أداة النداء وثبت بلفظ: "يا أبا محمد" في رواية الكشميهني وعمرو هو ابن دينار، وأراد الاستثبات في سماعه له من جابر وسماع جابر له، ولعل سبب ذلك رواية عمرو له عن عبيد بن عمير مرسلا، وقد حدث سفيان بن عيينة بالطريقين كما نبهت عليه. قوله: "عن أنس" سيأتي في التوحيد نحو هذا في الحديث الطويل في الشفاعة بلفظ: "حدثنا أنس" وقوله: "سفع" بفتح المهملة وسكون الفاء ثم عين مهملة أي سواد فيه زرقة أو صفرة، يقال سفعته النار إذا لفحته فغيرت لون بشرته وقد وقع حديث أبي سعيد في الباب الذي يليه بلفظ: "قد امتحشوا" ويأتي ضبطه، وفي حديثه عند مسلم: "إنهم يصيرون فحما" وفي حديث جابر "حمما" ومعانيها متقاربة. قوله: "فيسميهم أهل الجنة الجهنميين" سيأتي في الثامن عشر من هذا الباب من حديث عمران بن حصين بلفظ: "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين"، وثبتت هذه الزيادة في رواية حميد عن أنس عند المصنف في التوحيد، وزاد جابر في حديثه "فيكتب في رقابهم: عتقاء الله، فيسمون فيها الجهنميين" أخرجه ابن حبان والبيهقي وأصله في مسلم. والنسائي من رواية عمرو بن عمرو عن أنس "فيقول لهم أهل الجنة: هؤلاء الجهنميون، فيقول الله هؤلاء

(11/429)


عتقاء الله" وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي سعيد وزاد: "فيدعون الله فيذهب عنهم هذا الاسم" وفي حديث حذيفة عند البيهقي في "البعث" من رواية حماد بن أبي سليمان عن ربعي عنه "قال لهم الجهنميون، فذكر لي أنهم استعفوا الله من ذلك الاسم فأعفاهم. وزعم بعض الشراح أن هذه التسمية ليست تنقيصا لهم بل للاستذكار لنعمة الله ليزدادوا بذلك شكرا، كذا قال، وسؤالهم إذهاب ذلك الاسم عنهم يخدش في ذلك. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل، ووهيب هو ابن خالد، وعمرو هو ابن يحيى المازني، وأبوه يحيى هو ابن عمارة بن أبي حسن المازني. قوله: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يقول الله تعالى: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه" هكذا روى يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري آخر الحديث ولم يذكر أوله، ورواه عطاء ابن يسار عن أبي سعيد مطولا وأوله الرؤية وكشف الساق والعرض ونصب الصراط والمرور عليه وسقوط من يسقط وشفاعة المؤمنين في إخوانهم وقول الله أخرجوا من عرفتم صورته، وفيه من في قلبه مثقال دينار وغير ذلك، وفيه قول الله تعالى شفعت الملائكة والنبيون والمؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد صاروا حمما، وقد ساق المصنف أكثر في تفسير سورة النساء، وساقه بتمامه في كتاب التوحيد، وسأذكر فوائده في شرح حدث الباب الذي يلي هذا مع الإشارة إلى ما تضمنته هذه الطريق إن شاء الله تعالى. وتقدمت لهذه الرواية طريق أخرى في كتاب الإيمان في "باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال" وتقدم ما يتعلق بذلك هناك. واستدل الغزالي بقوله: "من كان في قلبه" على نجاة من أيقن بذلك وحال بينه وبين النطق به الموت. وقال في حق من قدر على ذلك فأخر فمات: يحتمل أن كون امتناعه عن النطق بمنزلة امتناعه عن الصلاة فيكون غير مخلد في النار، ويحتمل غير ذلك. ورجح غيره الثاني فيحتاج إلى تأويل قوله: "في قلبه" فيقدر فيه محذوف تقديره منضما إلى النطق به مع القدرة عليه. حديث النعمان بن بشير أورده من وجهين أحدهما أعلى من الآخر، لكن في العالي عنعنة أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، وفي النازل تصريحه بالسماع فانجبر ما فاته من العلو الحسي بالعلو المعنوي، وإسرائيل في الطريق هو ابن يونس بن أبي إسحاق المذكور، والنعمان هو ابن بشير بن سعد الأنصاري، ووقع مصرحا به في رواية مسلم عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار جميعا عن غندر، ووقع في رواية يحيى بن آدم عن إسرائيل عن أبي إسحاق "سمعت النعمان بن بشير الأنصاري يقول" فذكر الحديث. قوله: "أهون أهل النار عذابا" قال ابن التين يحتمل أن يراد به أبو طالب. قلت: وقد بينت في قصة أبي طالب من المبعث النبوي أنه وقع في حديث ابن عباس عند مسلم التصريح بذلك ولفظه: "أهون أهل النار عذابا أبو طالب". قوله: "أخمص" بخاء معجمة وصاد مهملة وزن أحمر: ما لا يصل إلى الأرض من باطن القدم عند المشي. قوله: "جمرة" في رواية مسلم: "جمرتان" وكذا في رواية إسرائيل "على أخمص قدمه جمرتان" قال ابن التين: يحتمل أن يكون الاقتصار على الجمرة للدلالة على الأخرى لعلم السامع بأن لكل أحد قدمين، ووقع في رواية الأعمش عن أبي إسحاق عند مسلم بلفظ: "من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه" وفي حديث أبي سعيد عنده نحوه وقال: "يغلي دماغه من حرارة نعله". قوله: "منها دماغه" في رواية إسرائيل "منهما" بالتثنية، وكذا في حديث ابن عباس. قوله: "كما يغلي المرجل بالقمقم" زاد في رواية الأعمش "لا يرى أن أحدا أشد عذابا منه وأنه لأهونهم عذابا" والمرجل بكسر الميم ويسكون الراء وفتح

(11/430)


الجيم بعدها لام قدر من نحاس، ويقال أيضا لكل إناء يغلي فيه الماء من أي صنف كان، والقمقم معروف من آنية العطار، ويقال هو إناء ضيق الرأس يسخن فيه الماء يكون من نحاس وغيره فارسي ويقال رومي وهو معرب وقد يؤنث فيقال قمقمة، قال ابن التين: في هذا التركيب نظر. وقال عياض: الصواب "كما يغلي المرجل والقمقم" بواو العطف لا بالباء، وجوز غيره أن تكون الباء بمعنى مع، ووقع في رواية الإسماعيلي: "كما يغلي المرجل أو القمقم" بالشك، تقدم شيء من هذا في قصة أبي طالب. حديث عدي بن حاتم، تقدم شرحه قريبا في آخر "باب من نوقش الحساب". حديث أبي سعيد في ذكر أبي طالب، تقدم في قصة أبي طالب من طريق الليث حدثني ابن الهاد وعطف عليه السند المذكور هنا واختصر المتن، ويزيد المذكور هنا هو ابن الهاد المذكور هناك، واسم كل من ابن أبي حازم والدراوردي عبد العزيز، وهما مدنيان مشهوران وكذا سائر رواة هذا السند. قوله: "لعله تنفعه شفاعتي" ظهر من حديث العباس وقوع هذا الترجي، واستشكل قوله صلى الله عليه وسلم تنفعه شفاعتي بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وأجيب بأنه خص ولذلك عدوه في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل معنى المنفعة في الآية يخالف معنى المنفعة في الحديث، والمراد بها في الآية الإخراج من النار وفي الحديث المنفعة بالتخفيف، وبهذا الجواب جزم القرطبي. وقال البيهقي في البعث: صحة الرواية في شأن أبي طالب فلا معنى للإنكار من حيث صحة الرواية، ووجهه عندي أن الشفاعة في الكفار إنما امتنعت لوجود الخبر الصادق في أنه لا يشفع فيهم أحد، وهو عام في حق كل كافر، فيجوز أن يخص منه من ثبت الخبر بتخصيصه، قال: وحمله بعض أهل النظر على أن جزاء الكافر من العذاب يقع على كفره وعلى معاصيه، فيجوز أن الله يضع عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيه تطييبا لقلب الشافع لا ثوابا للكافر لأن حسناته صارت بموته على الكفر هباء. وأخرج مسلم عن أنس "وأما الكافر فيعطى حسناته في الدنيا حتى إذا أقصى إلى الآخرة لم تكن له حسنة" وقال القرطبي في "المفهم": اختلف في هذه الشفاعة هل هي بلسان قولي أو بلسان حالي؟ والأول يشكل بالآية، وجوابه جواز التخصيص؛ والثاني يكون معناه أن أبا طالب لما بالغ في إكرام النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه جوزي على ذلك بالتخفيف فأطلق على ذلك شفاعة لكونها بسببه. قال: ويجاب عنه أيضا أن المخفف عنه لما لم يجد أثر التخفيف فكأنه لم ينتفع بذلك، ويؤيد ذلك ما تقدم أنه يعتقد أن ليس في النار أشد عذابا منه، وذلك أن القليل من عذاب جهنم لا تطيقه الجبال فالمعذب لاشتغاله بما هو فيه يصدق عليه أنه لم يحصل له انتفاع بالتخفيف. قلت: وقد يساعد ما سبق ما تقدم في النكاح من حديث أم حبيبة في قصة بنت أم سلمة "أرضعتني وإياها ثويبة" قال عروة "إن أبا لهب رؤى في المنام فقال: لم أر بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة" وقد تقدم الكلام عليه هناك، وجوز القرطبي في "التذكرة" أن الكافر إذا عرض على الميزان ورجحت كفة سيئاته بالكفر اضمحلت حسناته فدخل النار، لكنهم يتفاوتون في ذلك: فمن كانت له منهم حسنات من عتق ومواساة مسلم ليس كمن ليس له شيء من ذلك، فيحتمل أن يجازي بتخفيف العذاب عنه بمقدار ما عمل، لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} قلت: لكن هذا البحث النظري معارض بقوله تعالى: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وحديث أنس الذي أشرت إليه، وأما ما أخرجه ابن مردويه والبيهقي من حديث ابن مسعود رفعه: "ما أحسن محسن من

(11/431)


مسلم ولا كافر إلا أثابه الله قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال: المال والولد والصحة أشباه ذلك. قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذابا دون العذاب. ثم قرأ: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب". فالجواب عنه أن سنده ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فيحتمل أن يكون التخفيف فيما يتعلق بعذاب معاصيه، بخلاف عذاب الكفر. حديث أنس الطويل في الشفاعة، أورده هنا من طريق أبي عوانة، ومضى في تفسير البقرة من رواية هشام الدستوائي ومن رواية سعيد بن أبي عروبة، ويأتي في التوحيد من طريق همام أربعتهم عن قتادة وأخرجه أيضا أحمد من رواية شيبان عن قتادة ويأتي في التوحيد من طريق معبد بن هلال عن أنس وفيه زيادة للحسن عن أنس، ومن طريق حميد عن أنس باختصار، وأخرجه أحمد من طريق النضر بن أنس عن أنس، وأخرجه أيضا من حديث ابن عباس، وأخرجه ابن خزيمة من طريق معتمر عن حميد عن أنس، وعند الحاكم من حدث ابن مسعود والطبراني من حديث عبادة بن الصامت، ولابن أبي شيبة من حديث سلمان الفارسي وجاء من حديث أبي هريرة كما مضى في التفسير من رواية أبي زرعة عنه، وأخرجه الترمذي من رواية العلاء بن يعقوب عنه، من حدث أبي سعيد كما سيأتي في التوحيد، وله طرق عن أبي سعيد مختصرة، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وحذيفة معا، وأبو عوانة من رواية حذيفة عن أبي بكر الصديق، ومضى في الزكاة في تفسير سبحان من حديث ابن عمر باختصار، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وسأذكر ما عند كل منهم من فائدة مستوعبا إن شاء الله تعالى. قوله: "يجمع الله الناس يوم القيامة" في رواية المستملى "جمع" بصيغة الفعل الماضي والأول المعتمد ووقع في رواية معبد بن هلال "إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض" وأول حديث أبي هريرة "أنا سيد الناس يوم القيامة، يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون" وزاد في رواية إسحاق بن راهويه عن جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعه فيه: "وتدنو الشمس من رءوسهم فيشتد عليهم حرها ويشق عليهم دنوها فينطلقون من الضجر والجزع مما هم فيه" وهذه الطريق عند مسلم عن أبي خيثمة عن جرير، لكن لم يسق لفظها، وأول حديث أبي بكر "عرض علي ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيفظع الناس لذلك والعرق كاد يلجمهم" وفي رواية معتمر "يلبثون ما شاء الله من الحبس" وقد تقدم في "باب ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون" ما أخرجه مسلم من حديث المقداد أن الشمس تدنو حتى تصير من الناس قدر ميل وسائر ما ورد في ذلك وبيان تفاوتهم في العرق بقدر أعمالهم، وفي حديث سلمان "تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الناس فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع الرجل حتى يقول عق عق" وفي رواية النضر بن أنس "لغم ما هم فيه والخلق ملجمون بالعرق، فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة، وأما الكافر فيغشاه الموت" وفي حديث عبادة بن الصامت رفعه: "إني لسيد الناس يوم القيامة بغير فخر، وما من الناس إلا من هو تحت لوائي ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد" ووقع في رواية هشام وسعيد وهمام "يجتمع المؤمنون فيقولون" وتبين من رواية النضر بن أنس أن التعبير بالناس، أرجح لكن الذي يطلب الشفاعة هم المؤمنون. قوله: "فيقولون لو استشفعنا" في رواية مسلم: "فيلهمون ذلك" وفي لفظ: "فيهتمون بذلك". وفي رواية همام "حتى يهتموا بذلك". قوله: "على ربنا" في رواية هشام وسعيد "إلى ربنا" وتوجه بأنه ضمن معنى استشفعنا سعي لأن

(11/432)


الاستشفاع طلب الشفاعة وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه. وفي حديث حذيفة وأبي هريرة معا "يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقوم المؤمنون حي تنزلف لهم الجنة فيأتون آدم" و "حتى" غاية لقيامهم المذكور. ويؤخذ منه أن طلبهم الشفاعة يقع حين تزلف لهم الجنة. ووقع في أول حديث أبي نضرة عن أبي سعيد في مسلم رفعه: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" الحديث وفيه: "فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم" الحديث قال القرطبي "كأن ذلك يقع إذا جيء بجهنم، فإذا زفرت فزع الناس حينئذ وجثوا على ركبهم". قوله: "حتى يريحنا" في رواية مسلم: "فيريحنا" وفي حديث ابن مسعود عند ابن حبان: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب أرحني ولو إلى النار" وفي رواية ثابت عن أنس "يطول يوم القيامة على الناس، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فليشفع لنا إلى ربنا فليقض بيننا" وفي حديث سلمان "فإذا رأوا ما هم فيه قال بعضهم لبعض: ائتوا أباكم آدم". قوله: "حتى يريحنا من مكاننا هذا" في رواية ثابت "فليقض بيننا" وفي رواية حذيفة وأبي هريرة فيقولون "يا أبانا استفتح لنا الجنة". قوله: "فيأتون آدم" في رواية شيبان "فينطلقون حتى يأتوا آدم فيقولون أنت الذي" في رواية مسلم: "يا آدم أنت أبو البشر" وفي رواية همام وشيبان "أنت أبو البشر" وفي حديث أبي هريرة نحو رواية مسلم. وفي حديث حذيفة "فيقولون يا أبانا". قوله: "خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه" زاد في رواية همام "وأسكنك جنته وعلمك أسماء كل شيء" وفي حديث أبي هريرة "وأمر الملائكة فسجدوا لك" وفي حديث أبي بكر "أنت أبو البشر وأنت اصطفاك الله". قوله: "فاشفع لنا عند ربنا" في رواية مسلم: "عند ربك" وكذا لشيبان في حديث أبي بكر وأبي هريرة اشفع لنا إلى ربك، وزاد أبو هريرة "ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغنا". قوله: "لست هناكم" قال عياض: قوله لست هناكم كناية عن أن منزلته دون المنزلة المطلوبة قاله تواضعا وإكبارا لما يسألونه، قال: وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس لي بل لغيري. قلت: وقد وقع في رواية معبد بن هلال "فيقول لست لها" وكذا في بقية المواضع. وفي رواية حذيفة "لست بصاحب ذاك" وهو يؤيد الإشارة المذكورة. قوله: "ويذكر خطيئته" زاد مسلم التي أصاب، والراجع إلى الموصول محذوف تقديره أصابها، زاد همام في روايته: "أكله من الشجرة. وقد نهي عنها" وهو بنصب أكله بدل من قوله خطيئته وفي رواية هشام "فيذكر ذنبه فيستحي" وفي رواية ابن عباس "إني قد أخرجت بخطيئتي من الجنة" وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد "وإني أذنبت ذنبا فأهبطت به إلى الأرض" وفي رواية حذيفة وأبي هريرة معا "هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم" وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور "إني أخطأت وأنا في الفردوس فإن يغفر لي اليوم حسبي" وفي حديث أبي هريرة "إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري". قوله: "ائتوا نوحا فيأتونه" في رواية مسلم: "ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون نوحا" وفي رواية هشام "فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض" وفي حديث أبي بكر "انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم، إلى نوح، ائتوا عبدا شاكرا" وفي حديث أبي هريرة "اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا" وفي حديث أبي بكر "فينطلقون إلى نوح فيقولون: يا نوح اشفع لنا إلى ربك، فإن الله اصطفاك واستجاب لك في دعائك ولم يدع على الأرض من الكافرين ديارا" ويجمع بينهما بأن آدم

(11/433)


سبق إلى وصفه بأنه أول رسول فخاطبه أهل الموقف بذلك، وقد استشكلت هذه الأولية بأن آدم نبي مرسل وكذا شيث وإدريس وهم قبل نوح، وقد تقدم الجواب عن ذلك في شرح حديث جابر "أعطيت خمسا" في كتاب التيمم وفيه: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة" الحديث: ومحصل الأجوبة عن الإشكال المذكور أن الأولية مقيدة بقوله: "أهل الأرض" لأن آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، ويشكل عليه حديث جابر، ويجاب بأن بعثته إلى أهل الأرض باعتبار الواقع لصدق أنهم قومه بخلاف عموم بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقومه ولغير قومه، أو الأولية مقيدة بكونه أهلك قومه، أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلا، وإلى هذا جنح ابن بطال في حق آدم، وتعقبه عياض بما صححه ابن حبان من حديث أبي ذر فإنه كالصريح في أنه كان مرسلا، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث وهو من علامات الإرسال، وأما إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان في بني إسرائيل وهو إلياس، وقد ذكر ذلك في أحاديث الأنبياء. ومن الأجوبة أن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهم موحدون ليعلمهم شريعته، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد. قوله: "فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها" في رواية هشام "ويذكر سؤال ربه ما ليس له به علم" وفي رواية شيبان "سؤال الله" وفي رواية معبد بن هلال مثل جواب آدم لكن قال: "وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي" وفي حديث ابن عباس "فيقول ليس ذاكم عندي" وفي حديث أبي هريرة "إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض" ويجمع بينه وبين الأول بأنه اعتذر بأمرين: أحدهما نهي الله تعالى له أن يسأل ما ليس له به علم فخشي أن تكون شفاعته لأهل الموقف من ذلك، ثانيهما أن له دعوة واحدة محققة الإجابة وقد استوفاها بدعائه على أهل الأرض فخشي أن يطلب فلا يجاب. وقال بعض الشراح: كان الله وعد نوحا أن ينجيه وأهله، فلما غرق ابنه ذكر لربه ما وعده فقيل له: المراد من أهلك من آمن وعمل صالحا فخرج ابنك منهم، فلا تسأل ما ليس لك به علم. "تنبيهان": "الأول" سقط من حديث أبي حذيفة المقرون بأبي هريرة ذكر نوح، فقال في قصة آدم: اذهبوا إلى ابني إبراهيم. وكذا سقط من حديث ابن عمر، والعمدة على من حفظ. "الثاني" ذكر أبو حامد الغزالي في كشف علوم الآخرة أن بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحا ألف سنة، وكذا بين كل نبي ونبي إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ولم أقف لذلك على أصل، ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها فلا يغتر بشيء منها.قوله: "ائتوا إبراهيم" في رواية مسلم: "ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا" وفي رواية معبد بن هلال "ولكن عليكم بإبراهيم فهو خليل الله". قوله: "فيأتونه" في رواية مسلم: "فيأتون إبراهيم" زاد أبو هريرة في حديثه فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، قم اشفع لنا إلى ربك" وذكر مثل ما لآدم قولا وجوابا إلا أنه قال: "قد كنت كذبت ثلاث كذبات" وذكرهن. قوله: "فيقول لست هناكم، ويذكر خطيئته" زاد مسلم: "التي أصاب فيستحيي ربه منها" وفي حديث أبي بكر "ليس ذاكم عندي" وفي رواية همام "إني كنت كذبت ثلاث كذبات" زاد شيبان في روايته: "قوله إني سقيم" وقوله فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته أخبريه أني أخوك" وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد "فيقول إني كذبت ثلاث كذبات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله" وما حل بمهملة بمعنى جادل وزنه ومعناه. ووقع في رواية حذيفة المقرونة "لست بصاحب ذاك، إنما كنت خليلا من وراء وراء" وضبط بفتح الهمزة وبضمها، واختلف الترجيح فيهما.

(11/434)


قال النووي: أشهرهما الفتح بلا تنوين ويجوز بناؤها على الضم، وصوبه أبو البقاء والكندي، وصوب ابن دحية الفتح على أن الكلمة مركبة مثل شذر مذر، وإن ورد منصوبا منونا جاز، ومعناه لم أكن في التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب. قال صاحب التحرير: كلمة تقال على سبيل التواضع، أي لست في تلك الدرجة. قال: وقد وقع لي فيه معنى مليح وهو أن الفضل الذي أعطيته كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله بلا واسطة، وكرر وراء إشارة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال أنا من وراء موسى الذي هو من وراء محمد، قال البيضاوي: الحق أن الكلمات الثلاث إنما كانت من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استصغارا لنفسه عن الشفاعة مع وقوعها، لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة كان أعظم خوفا. قوله: "ائتوا موسى الذي كلمه الله" في رواية مسلم: "ولكن ائتوا موسى" وزاد: "وأعطاه التوراة" وكذا في رواية هشام وغيره. وفي رواية معبد بن هلال "ولكن عليكم بموسى فهو كليم الله" وفي رواية الإسماعيلي: "عبدا أعطاه الله التوراة وكلمه تكليما" زاد همام في روايته: "وقربه نجيا" وفي رواية حذيفة المقرونة "اعمدوا إلى موسى". قوله: "فيأتونه" في رواية مسلم: "فيأتون موسى فيقول" وفي حديث أبي هريرة "فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وكلامه على الناس، اشفع لنا" فذكر مثل آدم قولا وجوابا لكنه قال: "إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها". قوله: "فيقول لست هناكم" زاد مسلم: "فيذكر خطيئته التي أصاب قتل النفس" وللإسماعيلي: "فيستحيي ربه منها" وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور إني قتلت نفسا بغير نفس، وإن يغفر لي اليوم حسبي" وفي حديث أبي هريرة "إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها" وذكر مثل ما في آدم. قوله: "ائتوا عيسى" زاد مسلم: "روح الله وكلمته" وفي رواية هشام "عبد الله ورسوله وكلمته وروحه" وفي حديث أبي بكر "فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى". قوله: "فيأتونه" في رواية مسلم: "فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم" وفي حديث أبي هريرة "فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ مثل آدم قولا وجوابا لكن قال: ولم يذكر ذنبا" لكن وقع في رواية الترمذي من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد "إني عبدت من دون الله" وفي رواية أحمد والنسائي من حديث ابن عباس "إني اتخذت إلها من دون الله" وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور نحوه وزاد: "وإن يغفر لي اليوم حسبي". قوله: "ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" في رواية مسلم: "عبد غفر له إلخ" زاد ثابت "من ذنبه" وفي رواية هشام "غفر الله له" وفي رواية معتمر "انطلقوا إلى من جاء اليوم مغفورا له ليس عليه ذنب" وفي رواية ثابت أيضا: "خاتم النبيين قد حضر اليوم، أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه أكان يقدر على ما في الوعاء حتى يفض الخاتم" وعند سعيد بن منصور من هذا الوجه "فيرجعون إلى آدم فيقول أرأيتم إلخ" وفي حديث أبي بكر "ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض" قال عياض: اختلفوا في تأويل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقيل: المتقدم ما قبل النبوة والمتأخر العصمة. وقيل: ما وقع عن سهو أو تأويل. وقيل: المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته، وقيل: المعنى أنه مغفور له غير مؤاخذ لو وقع، وقيل غير ذلك. قلت: واللائق بهذا المقام القول الرابع، وأما الثالث فلا يتأتى هنا، ويستفاد من قول عيسى في حق نبينا هذا ومن قول موسى

(11/435)


فيما تقدم "إني قتلت نفسا بغير نفس وإن يغفر لي اليوم حسبي" مع أن الله قد غفر له بنص القرآن، التفرقة بين من وقع منه شيء ومن لم يقع شيء أصلا، فإن موسى عليه السلام مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك ورأى في نفسه تقصيرا عن مقام الشفاعة مع وجود ما صدر منه، بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك كله، ومن ثم احتج عيسى بأنه صاحب الشفاعة لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بمعنى أن الله أخبر أنه لا يؤاخذه بذنب لو وقع منه، وهذا من النفائس التي فتح الله بها في فتح الباري فله الحمد. قوله: "فيأتوني" في رواية النضر بن أنس عن أبيه "حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط إذ جاء عيسى فقال: يا محمد هذه الأنبياء قد جاءتك يسألون لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء لغم ما هم فيه" فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وأن هذا الذي وصف من كلام أهل الموقف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار في النار كما سيأتي بيانه قريبا، وأن عيسى عليه السلام هو الذي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأنبياء جميعا يسألونه في ذلك. وقد أخرج الترمذي وغيره من حديث أبي بن كعب في نزول القرآن على سبعة أحرف وفيه: "وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام" ووقع في رواية معبد بن هلال "فيأتوني فأقول: أنا لها أنا لها" زاد عقبة بن عامر عند ابن المبارك في الزهد "فيأذن الله لي فأقوم، فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد" وفي حديث سلمان بن أبي بكر بن أبي شيبة: "يأتون محمدا فيقولون: يا نبي الله أنت الذي فتح الله بك وختم، وغفر لك ما تقدم وما تأخر، وجئت في هذا اليوم آمنا وترى ما نحن فيه، فقم فاشفع لنا إلى ربنا. فيقول: أنا صاحبكم، فيجوش الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة" وفي رواية معتمر "فيقول: أنا صاحبها". قوله: "فأستأذن" في رواية هشام "فأنطلق حتى أستأذن". قوله: "على ربي" زاد همام "في داره فيؤذن لي" قال عياض: أي في الشفاعة. وتعقب بأن ظاهر ما تقدم أن استئذانه الأول والإذن له إنما هو في دخول الدار وهي الجنة، وأضيفت إلى الله تعالى إضافة تشريف، ومنه "والله يدعو إلى دار السلام" على القول بأن المراد بالسلام هنا الاسم العظيم وهو من أسماء الله تعالى، قيل الحكمة في انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من مكانه إلى دار السلام أن أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب كانت مكان مخافة وإشفاق، ومقام الشافع يناسب أن يكون في مكان إكرام، ومن ثم يستحب أن يتحرى للدعاء المكان الشريف لأن الدعاء فيه أقرب للإجابة. قلت: وتقدم في بعض طرقه أن من جملة سؤال أهل الموقف استفتاح باب الجنة. وقد ثبت في صحيح مسلم أنه أول من يستفتح باب الجنة. وفي رواية علي بن زيد عن أنس عند الترمذي "فآخذ حلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيفتحون لي ويرحبون، فأخر ساجدا" وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك" وله من رواية المختار بن فلفل عن أنس رفعه: "أنا أول من يقرع باب الجنة" وفي رواية قتادة عن أنس "آتي باب الجنة فأستفتح فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيقال: مرحبا بمحمد" وفي حديث سلمان "فيأخذ بحلقة الباب وهي من ذهب فيقرع الباب فيقال: من هذا؟ فيقول: محمد، فيفتح له حتى يقوم بين يدي الله فيستأذن في السجود فيؤذن له" وفي حديث أبي بكر الصديق "فيأتي جبريل ربه فيقول ائذن له". قوله: "فإذا رأيته وقعت له ساجدا" في رواية أبي بكر "فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي" وفي رواية لابن حبان من طريق ثوبان عن أنس "فيتجلى له الرب ولا يتجلى لشيء قبله" وفي حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى

(11/436)


رفعه: "يعرفني الله نفسه، فأسجد له سجدة يرضى بها عني، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني". قوله: "فيدعني ما شاء الله" زاد مسلم: "أن يدعني" وكذا في رواية هشام، وفي حديث عبادة بن الصامت "فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا شاكرا له" وفي رواية معبد بن هلال "فأقوم بين يديه فيلهمني محامد لا أقدر عليها الآن فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا" وفي حديث أبي بكر الصديق "فينطلق إليه جبريل فيخر ساجدا قدر جمعة". قوله: "ثم يقال لي ارفع رأسك" في رواية مسلم: "فيقال يا محمد" وكذا في أكثر الروايات. وفي رواية النضر ابن أنس "فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد فقل له ارفع رأسك" فعلى هذا فالمعنى يقول لي على لسان جبريل. قوله: "وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع" في رواية مسلم بغير واو، وسقط من أكثر الروايات "وقل يسمع" ووقع في حديث أبي بكر "فيرفع رأسه فإذا نظر إلى ربه خر ساجدا قدر جمعة" وفي حديث سلمان "فينادى يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع وادع تجب". قوله: "فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني" وفي رواية هشام "يعلمنيه" وفي رواية ثابت "بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي، ولا يحمده بها أحد بعدي" وفي حديث سلمان "فيفتح الله له من الثناء والتحميد والتمجيد ما لم يفتح لأحد من الخلائق" وكأنه صلى الله عليه وسلم يلهم التحميد قبل سجوده وبعده، وفيه: "ويكون في كل مكان ما يليق به" وقد ورد ما لعله يفسر به بعض ذلك لا جميعه، ففي النسائي ومصنف عبد الرزاق ومعجم الطبراني من حديث حذيفة رفعه قال: "يجمع الناس في صعيد واحد فيقال: يا محمد، فأقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك تباركت وتعاليت سبحانك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك" زاد عبد الرزاق "سبحانك رب البيت" فذلك قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قال ابن منده في كتاب الإيمان: هذا حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رواته. قوله: "ثم أشفع" في رواية معبد بن هلال "فأقول رب أمتي أمتي أمتي" وفي حديث أبي هريرة نحوه. قوله: "فيحد لي حدا" يبين لي في كل طور من أطوار الشفاعة حدا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول شفعتك فيمن أخل بالجماعة ثم فيمن أخل بالصلاة ثم فيمن شرب الخمر ثم فيمن زنى وعلى هذا الأسلوب، كذا حكاه الطيبي، والذي يدل عليه سياق الأخبار أن المراد به تفضيل مراتب المخرجين في الأعمال الصالحة كما وقع عند أحمد عن يحيى القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في هذا الحديث بعينه وسأنبه عليه في آخره، وكما تقدم في رواية هشام عن قتادة عن أنس في كتاب الإيمان بلفظ: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة" وفي رواية ثابت عند أحمد "فأقول: "أي رب أمتي أمتي، فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة" ثم ذكر نحو ما تقدم وقال: "مثقال ذرة" ثم قال: "مثقال حبة من خردل" ولم يذكر بقية الحديث. ووقع في طريق النضر بن أنس قال: "فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا، فما زلت أتردد على ربي لا أقوم منه مقاما إلا شفعت" وفي حديث سلمان "فيشفع في كل من كان في قلبه مثقال حبة من حنطة ثم شعيرة ثم حبة من خردل فذلك المقام المحمود" وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من هذا في شرح الحديث الثالث عشر، ويأتي مبسوطا في شرح حديث الباب الذي يليه. قوله: "ثم أخرجهم من النار" قال الداودي: كأن راوي هذا الحديث ركب شيئا على غير أصله وذلك أن في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار، ثم

(11/437)


يقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج. وهو إشكال قوي، وقد أجاب عنه عياض وتبعه النووي وغيره بأنه قد وقع في حديث حذيفة المقرون بحديث أبي هريرة بعد قوله: "فيأتون محمدا فيقوم ويؤذن له" أي في الشفاعة "وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق" الحديث. قال عياض: فبهذا يتصل الكلام، لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي الإراحة من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج، وقد وقع في حديث أبي هريرة -يعني الآتي في الباب الذي يليه بعد ذكر الجمع في الموقف- الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكان الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء والإراحة من كرب الموقف، قال: وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتب معانيها. قلت: فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وسيأتي بقيته في شرح حديث الباب الذي يليه وفيه: "حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا وفي جانبي الصراط كلاليب مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج ومكدوش في النار" فظهر منه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع ليقضي بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك، وقد وقع ذلك صريحا في حديث ابن عمر اختصر في سياقه الحديث الذي ساقه أنس وأبو هريرة مطولا. وقد تقدم في كتاب الزكاة من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ: "إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم" ووقع في حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى "ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط وهو منصوب بين ظهراني جهنم فيمرون" وفي حديث ابن عباس من رواية عبد الله بن الحارث عنه عند أحمد "فيقول عز وجل: يا محمد ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: "يا رب عجل حسابهم" وفي رواية عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى "فأقول أنا لها، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه نادى مناد: أين محمد وأمته" الحديث وسيأتي بيان ما يقع في الموقف قبل نصب الصراط في شرح حديث الباب الذي يليه. وتعرض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر فقال: يجوز أن يراد بالنار الحبس والكرب والشدة التي كان أهل الموقف فيها من دنو الشمس إلى رءوسهم وكربهم بحرها وسفعها حتى ألجمهم العرق، وأن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها. قلت: وهو احتمال بعيد، إلا أن يقال إنه يقع إخراجان وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه والمراد به الخلاص من كرب الموقف، والثاني في حديث الباب الذي يليه ويكون قوله فيه: "فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه" بعد تمام الخلاص من الموقف ونصب الصراط والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور فيتحدا، وقد أشرت إلى الاحتمال المذكور في شرح حديث العرق في "باب قوله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون" والعلم عند الله تعالى. وأجاب القرطبي عن أصل الإشكال بأن في قوله آخر حديث أبي زرعة عن أبي هريرة بعد قوله صلى الله عليه وسلم فأقول "يا رب أمتي أمتي "فيقال أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب" قال: في هذا ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيما طلب من تعجيل الحساب، فإنه لما أذن له في إدخال من لا حساب عليه دل على تأخير من عليه حساب

(11/438)


ليحاسب، ووقع في حديث الصور الطويل عند أبي يعلى "فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله: وقد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة" قلت: وفيه إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادي المنادي: ليتبع كل أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجا عند القنطرة للمقاصصة بينهم ثم يدخلون الجنة، وسيأتي تفصيل ذلك واضحا في شرح حديث الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. ثم وقفت في تفسير يحيى بن سلام البصري نزيل مصر ثم إفريقية - وهو في طبقة يزيد بن هارون، وقد ضعفه الدار قطني. وقال أبو حاتم الرازي صدوق. وقال أبو زرعة ربما وهم. وقال ابن عدي يكتب حديثه مع ضعفه - فنقل فيه عن الكلبي قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقيت زمرة من آخر زمر الجنة إذا خرج المؤمنون من الصراط بأعمالهم فيقول آخر زمرة من زمر النار لهم وقد بلغت النار منهم كل مبلغ: أما نحن فقد أخذنا بما في قلوبنا من الشك والتكذيب، فما نفعكم أنتم توحيدكم؟ قال فيصرخون عند ذلك يدعون ربهم، فيسمعهم أهل الجنة فيأتون آدم، فذكر الحديث في إتيانهم الأنبياء المذكورين قبل واحدا واحدا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فينطلق فيأتي رب العزة فيسجد له حتى يأمره أن يرفع رأسه ثم يسأله ما تريد؟ وهو أعلم به، فيقول: رب أناس من عبادك أصحاب ذنوب لم يشركوا بك وأنت أعلم بهم، فعيرهم أهل الشرك بعبادتهم إياك، فيقول وعزتي لأخرجنهم فيخرجهم قد احترقوا، فينضح عليهم من الماء حتى ينبتوا ثم يدخلون الجنة فيسمون الجهنميين، فيغبطه عند ذلك الأولون والآخرون، فذلك قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قلت: فهذا لو ثبت لرفع الإشكال لكن الكلبي ضعيف، ومع ذلك لم يسنده، ثم هو مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة أن سؤال المؤمنين الأنبياء واحدا بعد واحد إنما يقع في الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة والله أعلم. وقد تمسك بعض المبتدعة من المرجئة بالاحتمال المذكور في دعواه أن أحدا من الموحدين لا يدخل النار أصلا، وإنما المراد بما جاء من أن النار تسفعهم أو تلفحهم، وما جاء في الإخراج من النار جميعه محمول على ما يقع لهم من الكرب في الموقف، وهو تمسك باطل، وأقوى ما يرد به عليه ما تقدم في الزكاة من حديث أبي هريرة في قصة مانع الزكاة واللفظ لمسلم: "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها منها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" الحديث بطوله وفيه ذكر الذهب والفضة والبقر والغنم، وهو دال على تعذيب من شاء الله من العصاة بالنار حقيقة زيادة على كرب الموقف. وورد في سبب إخراج بقية الموحدين من النار ما تقدم أن الكفار يقولون لهم: ما أغنى عنكم قول لا إله إلا الله وأنتم معنا، فيغضب الله لهم فيخرجهم. وهو مما يرد به على المبتدعة المذكورين. وسأذكره في شرح حديث الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. قوله: "ثم أعود فأقع ساجدا مثله في الثالثة أو الرابعة" في رواية هشام "فأحد لهم حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع ثانيا فأستأذن" إلى أن قال: "ثم أحد لهم حدا ثالثا فأدخلهم الجنة ثم أرجع" هكذا في أكثر الروايات. ووقع عند أحمد من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة "ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن" ولم

(11/439)


يشك بل جزم بأن هذا القول يقع في الرابعة. ووقع في رواية معبد بن هلال عن أنس أن الحسن حدث معبدا بعد ذلك بقوله: "فأقوم الرابعة" وفيه قول الله له "ليس ذلك لك" وأن الله يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيرا قط. فعلى هذا فقوله: "حبسه القرآن" يتناول الكفار وبعض العصاة ممن ورد في القرآن في حقه التخليد، ثم يخرج العصاة في القبضة وتبقى الكفار، ويكون المراد بالتخليد في حق العصاة المذكورين البقاء في النار بعد إخراج من تقدمهم. قوله: "حتى ما يبقى" في رواية الكشميهني: "ما بقي" وفي رواية هشام بعد الثالثة "حتى أرجع فأقول". قوله: "إلا من حبسه القرآن، وكان قتادة يقول عند هذا: أي وجب عليه الخلود" في رواية همام "إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود" كذا أبهم قائل "أي وجب" وتبين من رواية أبي عوانة أنه قتادة أحد رواته. ووقع في رواية هشام وسعيد "فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" وسقط من رواية سعيد عند مسلم: "ووجب عليه الخلود" وعنده من رواية هشام مثل ما ذكرت من رواية همام، فتعين أن قوله: "ووجب عليه الخلود" في رواية هشام مدرج في المرفوع لما تبين من رواية أبي عوانة أنها من قول قتادة فسر به قوله: "من حبسه القرآن" أي من أخبر القرآن بأنه يخلد في النار. ووقع في رواية همام بعد قوله أي وجب عليه الخلود "وهو المقام المحمود الذي وعده الله" وفي رواية شيبان" إلا من حبسه القرآن، يقول: وجب عليه الخلود. وقال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} وفي رواية سعيد عند أحمد بعد قوله إلا من حبسه القرآن "قال فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة" الحدث وهو الذي فصله هشام من الحديث وسبق سياقه في كتاب الإيمان مفردا، ووقع في رواية معبد بن هلال بعد روايته عن أنس من روايته عن الحسن البصري عن أنس قال: "ثم أقوم الرابعة فأقول أي رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول لي ليس ذلك لك" فذكر بقية الحديث في إخراجهم، وقد تمسك به بعض المبتدعة في دعواهم أن من دخل النار من العصاة لا يخرج منها لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} وأجاب أهل السنة بأنها نزلت في الكفار، وعلى تسليم أنها في أعم من ذلك فقد ثبت تخصيص الموحدين بالإخراج، ولعل التأييد في حق من يتأخر بعد شفاعة الشافعين حتى يخرجوا بقبضة أرحم الراحمين كما سيأتي بيانه في شرح حديث الباب الذي يليه، فيكون التأييد مؤقتا. وقال عياض: استدل بهذا الحديث من جوز الخطايا على الأنبياء كقول كل من ذكر فيه ما ذكر، وأجاب عن أصل المسألة بأنه لا خلاف في عصمتهم من الكفر بعد النبوة وكذا قبلها على الصحيح، وكذا القول في الكبيرة على التفصيل المذكور، ويلتحق بها ما يزري بفاعله من الصغائر، وكذا القول في كل ما يقدح في الإبلاغ من جهة القول، واختلفوا في الفعل فمنعه بعضهم حتى في النسيان، وأجاز الجمهور السهو لكن لا يحصل التمادي، واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقا، وأولوا الأحاديث والآيات الواردة في ذلك بضروب من التأويل، ومن جملة ذلك أن الصادر عنهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم أو بسهو أو بإذن، لكن خشوا أن لا يكون ذلك موافقا لمقامهم فأشفقوا من المؤاخذة أو المعاتبة، قال: وهذا أرجح المقالات، وليس هو مذهب المعتزلة وإن قالوا بعصمتهم مطلقا لأن منزعهم في ذلك التكفير بالذنوب مطلقا ولا يجوز على النبي الكفر، ومنزعنا أن أمة النبي مأمورة بالاقتداء به في أفعاله فلو جاز منه وقوع المعصية للزم الأمر بالشيء

(11/440)


الواحد والنهي عنه في حالة واحدة وهو باطل. ثم قال عياض: وجميع ما ذكر في حديث الباب لا يخرج عما قلناه لأن أكل آدم من الشجرة كان عن سهو، وطلب نوح نجاة ولده كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كانت معاريض وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافرا كما تقدم بسط ذلك والله أعلم. وفيه جواز إطلاق الغضب على الله والمراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه، وما يشاهده أهل الموقف من الأهوال التي لم يكن مثالها ولا يكون، كذا قرره النووي. وقال غيره المراد بالغضب لازمه وهو إرادة إيصال السوء للبعض، وقول آدم ومن بعده "نفسي نفسي نفسي" أي نفسي هي التي تستحق أن يشفع لها، لأن المبتدأ والخبر إذا كانا متحدين فالمراد به بعض اللوازم، ويحتمل أن يكون أحدهما محذوفا. وفيه تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق لأن الرسل والأنبياء والملائكة أفضل ممن سواهم، وقد ظهر فضله في هذا المقام عليهم، قال القرطبي: ولو لم يكن في ذلك إلا الفرق بين من يقول نفسي نفسي وبين من يقول أمتي أمتي لكان كافيا، وفيه تفضيل الأنبياء المذكورين فيه على من لم يذكر فيه لتأهلهم لذلك المقام العظيم دون من سواهم، وقد قيل إنما اختص المذكورون بذلك لمزايا أخرى لا تتعلق بالتفضيل، فآدم لكونه والد الجميع، ونوح لكونه الأب الثاني، وإبراهيم للأمر باتباع ملته، وموسى لأنه أكثر الأنبياء تبعا وعيسى لأنه أولى الناس بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح. ويحتمل أن يكونوا اختصوا بذلك لأنهم أصحاب شرائع عمل بها من بين من ذكر أولا ومن بعده. وفي الحديث من الفوائد غير ما ذكر أن من طلب من كبير أمرا مهما أن يقدم بين يدي سؤاله وصف المسئول بأحسن صفاته وأشرف مزاياه ليكون ذلك أدعى لإجابته لسؤاله، وفيه أن المسئول إذا لم يقدر على تحصيل ما سئل يعتذر بما يقبل منه ويدل على من يظن أنه يكمل في القيام بذلك فالدال على الخير كفاعله، وأنه يثنى على المدلول عليه بأوصافه المقتضية لأهليته ويكون أدعى لقبول عذره في الامتناع، وفيه استعمال ظرف المكان في الزمان لقوله لست هناكم لأن هنا ظرف مكان فاستعملت في ظرف الزمان لأن المعنى لست في ذلك المقام، كذا قاله بعض الأئمة وفيه نظر، وإنما هو ظرف مكان على بابه لكنه المعنوي لا الحسي، مع أنه يمكن حمله على الحسي لما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم يباشر السؤال بعد أن يستأذن في دخول الجنة، وعلى قول من يفسر المقام المحمود بالقعود على العرش يتحقق ذلك أيضا. وفيه العمل بالعام قبل البحث عن المخصص أخذا من قصة نوح في طلبه نجاة ابنه، وقد يتمسك به من يرى بعكسه. وفيه أن الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى الله تعالى في حوائجهم بأنبيائهم، والباعث على ذلك الإلهام كما تقدم في صدر الحديث. وفيه أنهم يستشير بعضهم بعضا ويجمعون على الشيء المطلوب وأنهم يغطى عنهم بعض ما علموه في الدنيا لأن في السائلين من سمع هذا الحديث ومع ذلك فلا يستحضر أحد منهم أن ذلك المقام يختص به نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ لو استحضروا ذلك لسألوه من أول وهلة ولما احتاجوا إلى التردد من نبي إلى نبي، ولعل الله تعالى أنساهم ذلك للحكمة التي تترب عليه من إظهار فضل نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان والحسن بن ذكوان هو أبو سلمة البصري تكلم فيه أحمد وابن معين وغيرهما لكنه ليس له في البخاري سوى هذا الحديث من رواية يحيى القطان عنه مع تعنته في الرجال، ومع ذلك فهو متابعة، وفي طبقته الحسين بن ذكوان وهو بضم الحاء وفتح السين وآخره نون بصري أيضا يعرف بالمعلم وبالمكتب وهو أوثق من أبي سلمة، وتقدم شرح حديث الباب في الحادي عشر. الحديث

(11/441)


التاسع عشر حديث أنس في قصة أم حارثة، تقدم في الخامس من وجه آخر عن حميد عنه. فيه: "ولقاب قوس أحدكم" تقدم شرحه وفيه: "ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض". قوله: "لأضاءت ما بينهما" وقع في حديث سعيد بن عامر الجمحي عند البراز بلفظ: "تشرف على الأرض لذهب ضوء الشمس والقمر". قوله: "ولملأت ما بينهما ريحا" أي طيبة، وفي حديث سعيد بن عامر المذكور "لملأت الأرض ريح مسك" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد وصححه ابن حبان: "وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب". قوله: "ولنصيفها" بفتح النون وكسر الصاد المهملة بعدها تحتانية ثم فاء، فسر في الحديث بالخمار بكسر المعجمة وتخفيف الميم، وهذا التفسير من قتيبة فقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن إسماعيل بن جعفر بدونه. وقال الأزهري: النصيف الخمار، ويقال أيضا للخادم. قلت: والمراد هنا الأول جزما. وقد وقع في رواية الطبراني "ولتاجها على رأسها" وحكى أبو عبيد الهروي أن النصيف المعجر بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم وهو ما تلويه المرأة على رأسها. وقال الأزهري: هو كالعصابة تلفها المرأة على استدارة رأسها، واعتجر الرجل بعمامته لفها على رأسه ورد طرفها على وجهه وشيئا منها تحت ذقنه، وقيل المعجر ثوب تلبسه المرأة أصغر من الرداء، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن أبي الدنيا "ولو أخرجت نصيفها لكانت الشمس عند حسنها مثل الفتيلة من الشمس لا ضوء لها، ولو أطلعت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء والأرض، ولو أخرجت كفها لافتتن الخلائق بحسنها". حديث أبي هريرة من طريق الأعرج عنه. قوله: "لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار" وقع عند ابن ماجه بسند صحيح من طريق آخر عن أبي هريرة أن ذلك يقع عند المسألة في القبر وفيه: "فيفرج له فرجه قبل النار فينظر إليها فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله" وفي حديث أنس الماضي في أواخر الجنائز "فيقال انظر إلى مقعدك من النار" زاد أبو داود في روايته: "هذا بيتك كان في النار، ولكن الله عصمك ورحمك" وفي حديث أبي سعيد "كان هذا منزلك لو كفرت بربك". قوله: "لو أساء ليزداد شكرا" أي لو كان عمل عملا سيئا وهو الكفر فصار من أهل النار، وقوله: "ليزداد شكرا" أي فرحا ورضا، فعبر عنه بلازمه، لأن الراضي بالشيء يشكر من فعل له ذلك. قوله: "ولا يدخل النار أحد" قدم في رواية الكشميهني الفاعل على المفعول، وقوله: "إلا أري" بضم الهمزة وكسر الراء. قوله: "لو أحسن" أي لو عمل عملا حسنا وهو الإسلام. قوله: "ليكون عليه حسرة" أي للزيادة في تعذيبه، ووقع عند ابن ماجه أيضا وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة بلفظ: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار. فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله" وذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} وقال جمهور المفسرين في قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي} صدقنا وعده وأورثنا الأرض" الآية: المراد أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة، وهو موافق لهذا الحديث، وقيل المراد أرض الدنيا لأنها صارت خبزة فأكلوها كما تقدم. وقال القرطبي: يحتمل أن يسمى الحصول في الجنة وراثة من حيث اختصاصهم بذلك دون غيرهم، فهو إرث بطريق الاستعارة والله أعلم. قوله: "عن عمرو" هو ابن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، وقد وقع لنا هذا الحديث في نسخة إسماعيل بن جعفر حدثنا عمرو بن أبي عمرو، وأخرجه أبو نعيم من طريق علي ابن حجر عن إسماعيل، وكذا تقدم في العلم من رواية سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو، وقد تقدم أن اسم أبي عمرو والد عمرو

(11/442)


ميسرة. قوله: "من أسعد الناس بشفاعتك" لعل أبا هريرة سأل عن ذلك عند تحديثه صلى الله عليه وسلم بقوله: "وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" وقد تقدم سياقه وبيان ألفاظه في أول كتاب الدعوات، ومن طرقه: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وتقدم شرح حديث الباب في "باب الحرص على الحديث" من كتاب العلم. وقوله: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه" بكسر القاف وفتح الموحدة أي قال ذلك باختياره، ووقع في رواية أحمد وصححه ابن حبان من طريق أخرى عن أبي هريرة نحو هذا الحديث وفيه: "لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه" والمراد بهذه الشفاعة المسئول عنها هنا بعض أنواع الشفاعة وهي التي يقول صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمتي، فيقال له: أخرج من النار من في قلبه وزن كذا من الإيمان" فأسعد الناس بهذه الشفاعة من يكون إيمانه أكمل ممن دونه، وأما الشفاعة العظمي في الإراحة من كرب الموقف فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة، وهم الذين يدخلونها بغير حساب، ثم الذين يلونهم وهو من يدخلها بغير عذاب بعد أن يحاسب ويستحق العذاب، ثم من يصيبه لفح من النار ولا يسقط. والحاصل أن في قوله: "أسعد" إشارة إلى اختلاف مراتبهم في السبق إلى الدخول باختلاف مراتبهم في الإخلاص، ولذلك أكده بقوله: "من قلبه" مع أن الإخلاص محله القلب، لكن إسناد الفعل إلى الجارحة أبلغ في التأكيد، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: "أسعد" وأنها على بابها من التفضيل، ولا حاجة إلى قول بعض الشراح الأسعد عنا بمعنى السعيد لكون الكل يشتركون في شرطية الإخلاص، لأنا نقول يشتركون فيه لكن مراتبهم فيه متفاوتة. وقال البيضاوي: يحتمل أن يكون المراد من ليس له عمل يستحق به الرحمة والخلاص، لأن احتياجه إلى الشفاعة أكثر وانتفاعه بها أوفى والله أعلم. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو، وهذا السند كله كوفيون. قوله: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا فيها" قال عياض: جاء نحو هذا في آخر من يجوز على الصراط يعني كما يأتي في آخر الباب الذي يليه قال: فيحتمل أنهما اثنان إما شخصان وإما نوعان أو جنسان، وعبر فيه بالواحد عن الجماعة لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك، ويحتمل أن يكون الخروج هنا بمعنى الورود وهو الجواز على الصراط فيتحد المعنى إما في شخص واحد أو أكثر. قلت: وقع عند مسلم من رواية أنس عن ابن مسعود ما يقوي الاحتمال الثاني ولفظه: "آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك" وعند الحاكم من طريق مسروق عن ابن مسعود ما يقتضي الجمع. قوله: "حبوا" بمهملة وموحدة أي زحفا وزنه ومعناه. ووقع بلفظ: "زحفا" في رواية الأعمش عن إبراهيم عند مسلم. قوله: "فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا" وفي رواية الأعمش "فيقال له أتذكر الزمان الذي كنت فيه - أي الدنيا - فيقول: نعم، فيقال له: تمن، فيتمنى". قوله: "أتسخر مني أو تضحك مني" وفي رواية الأعمش "أتسخر بي" ولم يشك، وكذا لمسلم من رواية منصور، وله من رواية أنس عن ابن مسعود "أتستهزئ بي وأنت رب العالمين" وقال المازري: هذا مشكل، وتفسير الضحك بالرضا لا يتأتى هنا، ولكن لما كانت عادة المستهزئ أن يضحك من الذي استهزأ به ذكر معه، وأما نسبة السخرية إلى الله تعالى فهي على سبيل المقابلة وإن لم يذكره في الجانب الآخر لفظا لكنه لما ذكر أنه عاهد مرارا وغدر حل فعله

(11/443)


محل المستهزئ وظن أن في قول الله له "ادخل الجنة" وتردده إليها وظنه أنها ملأي نوعا من السخرية به جزاء على فعله فسمي الجزاء على السخرية سخرية، ونقل عياض عن بعضهم أن ألف أتسخر مني ألف النفي كهي في قوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} على أحد الأقوال، قال: وهو كلام متدلل علم مكانه من ربه وبسطه له بالإعطاء. وجوز عياض أن الرجل قال ذلك وهو غير ضابط لما قال إذ وله عقله من السرور بما لم يخطر بباله، ويؤيده أنه قال في بعض طرقه عند مسلم لما خلص من النار "لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين" وقال القرطبي في "المفهم" أكثروا في تأويله، وأشبه ما قيل فيه أنه استخفه الفرح وأدهشه فقال ذلك، وقيل قال ذلك لكونه خاف أن يجازى على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات وارتكاب المعاصي كفعل الساخرين، فكأنه قال: أتجازيني على ما كان مني؟ فهو كقوله سخر الله منهم وقوله الله يستهزئ بهم أي ينزل بهم جزاء سخريتهم واستهزائهم وسيأتي بيان الاختلاف في اسم هذا الرجل في آخر شرح حديث الباب الذي يليه. قوله: "ضحك حتى بدت نواجذه" بنون وجيم وذال معجمة جمع ناجذ، تقدم ضبطه في كتاب الصيام. وفي رواية ابن مسعود "فضحك ابن مسعود فقالوا: مم تضحك؟ فقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك رب العالمين حين قال الرجل: أتستهزئ مني؟ قال: لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر" قال البيضاوي: نسبة الضحك إلى الله تعالى مجاز بمعنى الرضا، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته، وضحك ابن مسعود على سبيل التأسي. قوله: "وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة" قال الكرماني: ليس هذا من تتمة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام الراوي نقلا عن الصحابة أو عن غيرهم من أهل العلم. قلت: قائل" وكان يقال: "هو الراوي كما أشار إليه، وأما قائل المقالة المذكورة فهو النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك في أول حديث أبي سعيد عند مسلم ولفظه: "أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار" وساق القصة. وفي رواية له من حديث المغيرة أن موسى عليه السلام سأل ربه عن ذلك، ولمسلم أيضا من طريق همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقال له تمن فيتمنى ويتمنى فيقال إن لك ما تمنيت ومثله معه". قوله: "عبد الملك" هو ابن عمير، ونوفل جد عبد الله بن الحارث هو ابن الحارث بن عبد المطلب، والعباس هو ابن عبد المطلب وهو عم جد عبد الله بن الحارث الراوي عنه وللحارث بن نوفل ولأبيه صحبة، ويقال إن لعبد الله رؤية، وهو الذي كان يلقب ببة بموحدتين مفتوحتين الثانية ثقيلة ثم هاء تأنيث. قوله: "هل نفعت أبا طالب بشيء"؟ هكذا ثبت في جميع النسخ بحذف الجواب، وهو اختصار من المصنف، وقد رواه مسدد في مسنده بتمامه، وقد تقدم في كتاب الأدب عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة بالسند المذكور هنا بلفظ: "فإنه كان يحوطك ويغضب لك، قال: نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" ووقع في رواية المقدمي عن أبي عوانة عند الإسماعيلي: "الدركة" بزيادة هاء، وقد تقدم شرح ما يتعلق بذلك في شرح الحديث الرابع عشر، ومضى أيضا في قصة أبي طالب في المبعث النبوي لمسدد فيه سند آخر إلى عبد الملك بن عمير المذكور والله أعلم.

(11/444)


52 - باب الصِّرَاطُ جَسْرُ جَهَنَّمَ
6573- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ

(11/444)


أَخْبَرهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أُنَاسٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ "هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا أَتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَبِهِ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ أَمَا رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهَا لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ مِنْهُمْ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلاَمَةِ آثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدْ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا فَاصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ فَيَقُولُ لَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ يَا رَبِّ قَرِّبْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ وَيْلَكَ ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو فَيَقُولُ لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ تَسْأَلُنِي غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ فَيُعْطِي اللَّهَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ ثُمَّ يَقُولُ أَوَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا قِيلَ لَهُ تَمَنَّ مِنْ كَذَا فَيَتَمَنَّى ثُمَّ يُقَالُ لَهُ تَمَنَّ مِنْ كَذَا فَيَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الأَمَانِيُّ فَيَقُولُ لَهُ هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا"

(11/445)


6574- قَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ جَالِسٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لاَ يُغَيِّرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ "هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ" قَالَ أَبُو سَعِيدٍ "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَفِظْتُ مِثْلُهُ مَعَهُ"
قوله: "باب الصراط جسر جهنم" أي الجسر المنصوب على جهنم لعبور المسلمين عليه إلى الجنة، وهو بفتح الجيم ويجوز كسرها، وقد وقع في حديث الباب لفظ الجسر وفي رواية شعيب الماضية في "باب فضل السجود" بلفظ: "ثم يضرب الصراط" فكأنه أشار في الترجمة إلى ذلك. قوله: "عن الزهري قال سعيد وعطاء بن يزيد أن أبا هريرة أخبرهما" في رواية شعيب عن الزهري "أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي". قوله: "وحدثني محمود" هو ابن غيلان، وساقه هنا على لفظ معمر، وليس في سنده ذكر سعيد، وكذا يأتي في التوحيد من رواية إبراهيم بن سعيد عن الزهري ليس فيه ذكر سعيد، ووقع في تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} عن عطاء بن يزيد فذكر الحديث. قولة "قال أناس يا رسول الله" في رواية شعيب "إن الناس قالوا" ويأتي في التوحيد بلفظ: "قلنا". قوله: "هل نرى ربنا يوم القيامة" في التقييد بيوم القيامة إشارة إلى أن السؤال لم يقع عن الرؤية في الدنيا. وقد أخرج مسلم من حديث أبي أمامة "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" وسيأتي الكلام على الرؤية في كتاب التوحيد لأنه محل البحث فيه، وقد وقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن عند الترمذي أن هذا السؤال وقع على سبب. وذلك أنه ذكر الحشر والقول "لتتبع كل أمة ما كانت تعبد" وقول المسلمين "هذا مكاننا حتى نرى ربنا. قالوا وهل نراه" فذكره، ومضى في الصلاة وغيرها ويأتي في التوحيد من رواية جرير قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر" الحديث مختصر، ويحتمل أن يكون الكلام وقع عند سؤالهم المذكور. قوله: "هل تضارون" بضم أوله وبالضاد المعجمة وتشديد الراء بصيغة المفاعلة من الضرر وأصله تضاررون بكسر الراء وبفتحها أي لا تضرون أحدا ولا يضركم بمنازعة ولا مجادلة ولا مضايقة، وجاء بتخفيف الراء من الضير وهو لغة في الضر أي لا يخالف بعض بعضا فيكذبه وينازعه فيضيره بذلك، يقال ضاره يضيره، وقيل المعنى لا تضايقون أي لا تزاحمون كما جاء في الرواية الأخرى "لا تضامون" بتشديد الميم مع فتح أوله، وقيل المعنى لا يحجب بعضكم بعضا عن الرؤية فيضر به، وحكى الجوهري ضرني فلان إذا دنا مني دنوا شديدا، قال ابن الأثير: فالمراد المضارة بازدحام. وقال النووي: أوله مضموم مثقلا ومخففا قال: وروى "تضامون" بالتشديد مع فتح أوله وهو بحذف إحدى التاءين وهو من الضم، وبالتخفيف مع ضم أوله من الضيم والمراد المشقة والتعب، قال وقال عياض: قال بعضهم في الذي بالراء وبالميم بفتح أوله والتشديد وأشار بذلك إلى أن الرواية بضم أوله مخففا ومثقلا وكله صحيح ظاهر المعنى، ووقع في رواية البخاري "لا تضامون أو تضاهون" بالشك كما مضى في فضل صلاة الفجر، ومعنى الذي بالهاء لا يشتبه عليكم ولا ترتابون فيه فيعارض بعضكم بعضا، ومعنى الضيم الغلبة على الحق والاستبداد به أي لا يظلم بعضكم بعضا، وتقدم في "باب فضل السجود" من رواية شعيب "هل تمارون" بضم أوله وتخفيف الراء أي تجادلون في ذلك أو يدخلكم فيه شك من المرية وهو الشك، وجاء بفتح أوله وفتح الراء على حذف إحدى التاءين. وفي رواية للبيهقي "تتمارون"

(11/446)


بإثباتهما. قوله: "ترونه كذلك" المراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح وزوال الشك ورفع المشقة والاختلاف وقال البيهقي سمعت الشيخ أبا الطيب الصعلوكي يقول: "تضامون" بضم أوله وتشديد الميم يريد لا تجتمعون لرؤيته في جهة ولا ينضم بعضكم إلى بعض فإنه لا يرى في جهة، ومعناه بفتح أوله لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة، وهو بغير تشديد من الضيم معناه لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض فإنكم ترونه في جهاتكم كلها وهو متعال عن الجهة، قال: والتشبيه برؤية القمر لتعيين الرؤية دون تشبيه المرئي سبحانه وتعالى. وقال الزين بن المنير: إنما خص الشمس والقمر بالذكر مع أن رؤية السماء بغير سحاب أكبر آية وأعظم خلقا من مجرد الشمس والقمر لما خصا به من عظيم النور والضياء بحيث صار التشبيه بهما فيمن يوصف بالجمال والكمال سائغا شائعا في الاستعمال. وقال ابن الأثير: قد يتخيل بعض الناس أن الكاف كاف التشبيه للمرئي وهو غلط، وإنما هي كاف التشبيه للرؤية وهو فعل الرائي ومعناه أنه رؤية مزاح عنها الشك مثل رؤيتكم القمر. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: في الابتداء بذكر القمر قبل الشمس متابعة للخليل، فكما أمر باتباعه في الملة اتبعه في الدليل، فاستدل به الخليل على إثبات الوحدانية واستدل به الحبيب على إثبات الرؤية، فاستدل كل منهما بمقتضى حاله لأن الخلة تصح بمجرد الوجود والمحبة لا تقع غالبا إلا بالرؤية، وفي عطف الشمس على القمر مع أن تحصيل الرؤية بذكره كاف لأن القمر لا يدرك وصفه الأعمى حسا بل تقليدا، والشمس يدركها الأعمى حسا بوجود حرها إذا قابلها وقت الظهيرة مثلا فحسن التأكيد بها، قال: والتمثيل واقع في تحقيق الرؤية لا في الكيفية، لأن الشمس والقمر متحيزان والحق سبحانه منزه عن ذلك. قلت: وليس في عطف الشمس على القمر إبطال لقول من قال في شرح حديث جرير: الحكمة في التمثيل بالقمر أنه تتيسر رؤيته للرائي بغير تكلف ولا تحديق يضر بالبصر، بخلاف الشمس، فإنها حكمة الاقتصار عليه، ولا يمنع ذلك ورود ذكر الشمس بعده في وقت آخر، فإن ثبت أن المجلس واحد خدش في ذلك، ووقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن "لا تمارون في رؤيته تلك الساعة ثم يتوارى" قال النووي: مذهب أهل السنة أن رؤية المؤمنين ربهم ممكنة ونفتها المبتدعة من المعتزلة والخوارج، وهو جهل منهم، فقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة على إثباتها في الآخرة للمؤمنين، وأجاب الأئمة عن اعتراضات المبتدعة بأجوبة مشهورة، ولا يشترط في الرؤية تقابل الأشعة ولا مقابلة المرئي وإن جرت العادة بذلك فيما بين المخلوقين والله أعلم. واعترض ابن العربي على رواية العلاء وأنكر هذه الزيادة وزعم أن المراجعة الواقعة في حديث الباب تكون بين الناس وبين الواسطة لأنه لا يكلم الكفار ولا يرونه البتة، وأما المؤمنون فلا يرونه إلا بعد دخول الجنة بالإجماع. قوله: "يجمع الله الناس" في رواية شعيب "يحشر" وهو بمعنى الجمع، وقوله في رواية شعيب "في مكان" زاد في رواية العلاء "في صعيد واحد" ومثله في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة بلفظ: "يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر" وقد تقدمت الإشارة إليه في شرح الحديث الطويل في الباب قبله، قال النووي: الصعيد الأرض الواسعة المستوية، وينفذهم بفتح أوله وسكون النون وضم الفاء بعدها ذال معجمة أي يخرقهم بمعجمة وقاف حتى يجوزهم، وقيل بالدال المهملة أي يستوعبهم، قال أبو عبيدة: معناه ينفذهم بصر الرحمن حتى يأتي عليهم كلهم. وقال غيره: المراد بصر الناظرين وهو أولى. وقال القرطبي المعنى أنهم يجمعون في مكان واحد بحيث لا يخفى منهم أحد بحيث لا يخفى منهم أحد لو دعاهم داع لسمعوه ولو نظر إليهم ناظر لأدركهم،

(11/447)


قال: ويحتمل أن يكون المراد بالداعي هنا من يدعوهم إلى العرض والحساب لقوله: "يوم يدع الداع" وقد تقدم بيان حال الموقف في "باب الحشر" وزاد العلاء بن عبد الرحمن في روايته: "فيطلع عليهم رب العالمين" قال ابن العربي: لم يزل الله مطلعا على خلقه، وإنما المراد إعلامه باطلاعه عليهم حينئذ، ووقع في حديث ابن مسعود عند البيهقي في البعث وأصله في النسائي: "إذا حشر الناس قاموا أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء لا يكلمهم والشمس على رءوسهم حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر"، ووقع في حديث أبي سعيد عند أحمد أنه "يخفف الوقوف عن المؤمن حتى يكون كصلاة مكتوبة" وسنده حسن، ولأبي يعلى عن أبي هريرة "كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب" وللطبراني من حديث عبد الله بن عمر "ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمن من ساعة من نهار". قوله: "فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر" قال ابن أبي جمرة: في التنصيص على ذكر الشمس والقمر مع دخولهما فيمن عبد دون الله التنويه بذكرهما لعظم خلقهما، وقع في حديث ابن مسعود "ثم ينادي مناد من السماء: أيها الناس أليس عدل من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد منكم ما كان تولى؟ قال فيقولون: بلى. ثم يقول: لتنطلق كل أمة إلى من كانت تعبد" وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن "ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد" ووقع في رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة في مسند الحميدي وصحيح ابن خزيمة وأصله مسلم بعد قوله إلا كما تضارون في رؤيته "فيلقي العبد فيقول ألم أكرمك وأزوجك وأسخر لك؟ فيقول: بلى فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول. إني أنساك كما نسيتني" الحديث وفيه: "ويلقى الثالث فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت، فيقول: ألا نبعث عليك شاهدا؟ فيختم على فيه وتنطق جوارحه وذلك المنافق. ثم ينادي مناد: ألا لتتبع كل أمة ما كانت تعبد"، قوله: "ومن كان يعبد الطواغيت" الطواغيت جمع طاغوت وهو الشيطان والصنم ويكون جمعا ومفردا ومذكرا ومؤنثا، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في تفسير سورة النساء. وقال الطبري: الصواب عندي أنه كل طاغ طغى على الله يعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبد وإما بطاعة ممن عبد إنسانا كان أو شيطانا أو حيوانا أو جمادا، قال فاتباعهم لهم حينئذ باستمرارهم على الاعتقاد فيهم، ويحتمل أن يتبعوهم بأن يساقوا إلى النار قهرا. ووقع في حديث أبي سعيد الآتي في التوحيد "فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب كل الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم" وفيه إشارة إلى أن كل من كان يعبد الشيطان ونحوه ممن يرضى بذلك أو الجماد والحيوان دالون في ذلك، وأما من كان يعبد من لا يرضى بذلك كالملائكة والمسيح فلا، لكن وقع في حديث ابن مسعود "فيتمثل لهم ما كانوا يعبدون فينطلقون" وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن "فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره" فأفادت هذه الزيادة تعميم من كان يعبد غير الله إلا من سيذكر من اليهود والنصارى فإنه يخص من عموم ذلك بدليله الآتي ذكره. وأما التعبير بالتمثيل فقال ابن العربي: يحتمل أن يكون التمثيل تلبيسا عليهم، ويحتمل أن يكون التمثيل لمن لا يستحق التعذيب، وأما من سواهم فيحضرون حقيقة لقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} . قوله: "وتبقى هذه الأمة" قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يحمل على أعم من ذلك فيدخل فيه جميع أهل التوحيد حتى من الجن، ويدل عليه ما في بقية الحديث أنه يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر. قلت: ويؤخذ أيضا

(11/448)


من قوله في بقية الحديث: "فأكون أول من يجيز" فإن فيه إشارة إلى أن الأنبياء بعده يجيزون أممهم. قوله: "فيها منافقوها" كذا للأكثر. وفي رواية إبراهيم بن سعد "فيها شافعوها أو منافقوها شك إبراهيم" والأول المعتمد، وزاد في حديث أبي سعيد "حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر". وغبرات أهل الكتاب بضم الغين المعجمة وتشديد الموحدة. وفي رواية مسلم: "وغبر" وكلاهما جمع غابر، أو الغبرات جمع وغبر جمع غابر، ويجمع أيضا على أغبار، وغبر الشيء بقيته، وجاء بسكون الموحدة والمراد هنا من كان يوحد الله منهم. وصحفه بعضهم في مسلم بالتحتانية بلفظ التي بالاستثناء، وجزم عياض وغيره بأنه وهم، قال ابن أبي جمرة: لم يذكر في الخبر مآل المذكورين، لكن لما كان من المعلوم أن استقرار الطواغيت في النار علم بذلك أنهم معهم في النار كما قال تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}. قلت: وقد وقع في رواية سهيل التي أشرت إليها قريبا "فتتبع الشياطين والصليب أولياؤهم إلى جهنم" ووقع في حديث أبي سعيد من الزيادة "ثم يؤتى بجهنم كأنها سراب - بمهملة ثم موحدة - فيقال اليهود ما كنتم تعبدون" الحديث وفيه ذكر النصارى، وفيه: "فيتساقطون في جهنم حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر" وفي رواية هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عند ابن خزيمة وابن منده وأصله في مسلم: "فلا يبقى أحد كان يعبد صنما ولا وثنا ولا صورة إلا ذهبوا حتى يتساقطوا في النار". وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن "فيطرح منهم فيها فوج ويقال: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد" الحديث، وكان اليهود وكذا النصارى ممن كان لا يعبد الصلبان لما كانوا يدعون أنهم يعبدون الله تعالى تأخروا مع المسلمين، فلما حققوا على عبادة من ذكر من الأنبياء ألحقوا بأصحاب الأوثان. ويؤيده قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} الآية. فأما من كان متمسكا بدينه الأصلي فخرج بمفهوم قوله: "الذين كفروا" وعلى ما ذكر من حديث أبي سعيد يبقى أيضا من كان يظهر الإيمان من مخلص ومنافق. قوله: "فتدعى اليهود" قدموا بسبب تقدم ملتهم على ملة النصارى. قوله: "فيقال لهم" لم أقف على تسمية قائل ذلك لهم، والظاهر أنه الملك الموكل بذلك. قوله: "كنا نعبد عزيرا ابن الله" هذا فيه إشكال لأن المتصف بذلك بعض اليهود وأكثرهم ينكرون ذلك، ويمكن أن يجاب بأن خصوص هذا الخطاب لمن كان متصفا بذلك ومن عداهم يكون جوابهم ذكر من كفروا به كما وقع في النصارى فإن منهم من أجاب بالمسيح ابن الله مع أن فيهم من كان بزعمه يعبد الله وحده وهم الاتحادية الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم. قوله: "فيقال لهم كذبتم" قال الكرماني: التصديق والتكذيب لا يرجعان إلى الحكم الذي أشار إليه، فإذا قيل جاء زيد بن عمرو بكذا فمن كذبه أنكر مجيئه بذلك الشيء لا أنه ابن عمرو، وهنا لم ينكر عليهم أنهم عبدوا وإنما أنكر عليهم أن المسيح ابن الله، قال: والجواب عن هذا أن فيه نفي اللازم وهو كونه ابن الله ليلزم نفي الملزوم وهو عبادة ابن الله. قال ويجوز أن يكون الأول بحسب الظاهر وتحصل قرينة بحسب المقام تقتضي الرجوع إليهما جميعا أو إلى المشار إليه فقط، قال ابن بطال: في هذا الحديث أن المنافقين يتأخرون مع المؤمنين رجاء أن ينفعهم ذلك بناء على ما كانوا يظهرونه في الدنيا، فظنوا أن ذلك يستمر لهم، فميز الله تعالى المؤمنين بالغرة والتحجيل إذ لا غرة للمنافق ولا تحجيل. قلت: قد ثبت أن الغرة والتحجيل خاص بالأمة المحمدية، فالتحقيق أنهم في هذا المقام يتميزون بعدم السجود وبإطفاء نورهم بعد أن حصل لهم، ويحتمل أن يحصل لهم الغرة والتحجيل ثم يسلبان عند إطفاء النور. وقال القرطبي: ظن المنافقون أن تسترهم بالمؤمنين

(11/449)


ينفعهم في الآخرة كما كان ينفعهم في الدنيا جهلا منهم، ويحتمل أن يكونوا حشروا معهم لما كانوا يظهرونه من الإسلام فاستمر ذلك حتى ميزهم الله تعالى منهم، قال: ويحتمل أنهم لما سمعوا "لتتبع كل أمة من كانت تعبد" والمنافق لم يكن يعبد شيئا بقي حائرا حتى ميز. قلت: هذا ضعيف لأنه يقتضي تخصيص ذلك بمنافق كان لا يعبد شيئا، وأكثر المنافقين كانوا يعبدون غير الله من وثن وغيره. قوله: "فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون" في حديث أبي سعيد الآتي في التوحيد "في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة" وفي رواية هشام بن سعد "ثم يتبدى لنا الله في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أول مرة" ويأتي في حديث أبي سعيد من الزيادة "فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم ما كانوا يعبدون وإننا ننتظر ربنا" ووقع في رواية مسلم هنا "فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم" ورجح عياض رواية البخاري. وقال غيره: الضمير لله والمعنى فارقنا الناس في معبوداتهم ولم نصاحبهم ونحن اليوم أحوج لربنا، أي إنا محتاجون إليه. وقال عياض: بل أحوج على بابها لأنهم كانوا محتاجين إليه في الدنيا فهم في الآخرة أحوج إليه. وقال النووي: إنكاره لرواية مسلم معترض، بل معناه التضرع إلى الله في كشف الشدة عنهم بأنهم لزموا طاعته وفارقوا في الدنيا من زاغ عن طاعته من أقاربهم مع حاجتهم إليهم في معاشهم ومصالح دنياهم، كما جرى لمؤمني الصحابة حين قاطعوا من أقاربهم من حاد الله ورسوله مع حاجتهم إليهم والارتفاق بهم، وهذا ظاهر في معنى الحديث لا شك في حسنه، وأما نسبة الإتيان إلى الله تعالى فقيل هو عبارة عن رؤيتهم إياه لأن العادة أن كل من غاب عن غيره لا يمكن رؤيته إلا بالمجيء إليه فعبر عن الرؤية بالإتيان مجازا، وقيل الإتيان فعل من أفعال الله تعالى يجب الإيمان به مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن سمات الحدوث. وقيل فيه حذف تقديره يأتيهم بعض ملائكة الله، ورجحه عياض قال: ولعل هذا الملك جاءهم في صورة أنكروها لما رأوا فيها من سمة الحدوث الظاهرة على الملك لأنه مخلوق، قال: ويحتمل وجها رابعا وهو أن المعنى يأتيهم الله بصورة -أي بصفة- تظهر لهم من الصور المخلوقة التي لا تشبه صفة الإله ليختبرهم بذلك، فإذا قال لهم هذا الملك أنا ربكم ورأوا عليه من علامة المخلوقين ما يعلمون به أنه ليس ربهم استعاذوا منه لذلك. انتهى. وقد وقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن المشار إليها "فيطلع عليهم رب العالمين" وهو يقوي الاحتمال الأول، قال: وأما قوله بعد ذلك "فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها" فالمراد بذلك الصفة، والمعنى فيتجلى الله لهم بالصفة التي يعلمونه بها، وإنما عرفوه بالصفة وإن لم تكن تقدمت لهم رؤيته لأنهم يرون حينئذ شيئا لا يشبه المخلوقين، وقد علموا أنه لا يشبه شيئا من مخلوقاته فيعلمون أنه ربهم فيقولون: أنت ربنا، وعبر عن الصفة بالصورة لمجانسة الكلام لتقدم ذكر الصورة. قال: وأما قوله: "نعوذ بالله منك" فقال الخطابي: يحتمل أن يكون هذا الكلام صدر من المنافقين، قال القاضي عياض: وهذا لا يصح ولا يستقيم الكلام به. وقال النووي: الذي قاله القاضي صحيح، ولفظ الحديث مصرح به أو ظاهر فيه. انتهى. ورجحه القرطبي في "التذكرة" وقال: إنه من الامتحان الثاني يتحقق ذلك، فقد جاء في حديث أبي سعيد "حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب" وقال ابن العربي: إنما استعاذوا منه أولا لأنهم اعتقدوا أن ذلك الكلام استدراج، لأن الله لا يأمر بالفحشاء، ومن الفحشاء اتباع الباطل وأهله، ولهذا وقع في الصحيح "فيأتيهم الله في صورة - أي بصورة - لا يعرفونها" وهي الأمر باتباع أهل الباطل، فلذلك يقولون

(11/450)


"إذا جاء ربنا عرفناه" أي إذا جاءنا بما عهدناه منه من قول الحق. وقال ابن الجوزي: معنى الخبر يأتيهم الله بأهوال يوم القيامة ومن صور الملائكة بما لم يعهدوا مثله في الدنيا فيستعيذون من تلك الحال ويقولون: إذا جاء ربنا عرفناه، أي إذا أتانا بما نعرفه من لطفه، وهي الصورة التي عبر عنها بقوله: "يكشف عن ساق" أي عن شدة. وقال القرطبي: هو مقام هائل يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب، وذلك أنه لما بقي المنافقون مختلطين بالمؤمنين زاعمين أنهم منهم ظانين أن ذلك يجوز في ذلك الوقت كما جاز في الدنيا امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة هائلة قالت للجميع أنا ربكم، فأجابه المؤمنون بإنكار ذلك لما سبق لهم من معرفته سبحانه وأنه منزه عن صفات هذه الصورة، فلهذا قالوا نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا، حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب أي يزل فيوافق المنافقين. قال: وهؤلاء طائفة لم يكن لهم رسوخ بين العلماء ولعلهم الذين اعتقدوا الحق وحوموا عليه من غير بصيرة، قال: ثم يقال بعد ذلك للمؤمنين هل بينكم وبينه علامة؟ قلت: وهذه الزيادة أيضا من حديث أبي سعيد ولفظه: "آية تعرفونها فيقولون الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيصير ظهره طبقا واحدا" أي يستوي فقار ظهره فلا ينثني للسجود، وفي لفظ لمسلم: "فلا يبقى من كان يسجد من تلقاء نفسه إلا أذن له في السجود" أي سهل له وهون عليه "ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقا واحدا كلما أراد أن يسجد خر لقفاه" وفي حديث ابن مسعود نحوه لكن قال: "فيقولون إن اعترف لنا عرفناه، قال فيكشف عن ساق فيقعون سجودا، وتبقى أصلاب المنافقين كأنها صياصي البقر" وفي رواية أبي الزعراء عنه عند الحاكم "وتبقى ظهور المنافقين طبقا واحدا كأنما فيها السفافيد" وهي بمهملة وفاءين جمع سفود بتشديد الفاء وهو الذي يدخل في الشاة إذا أريد أن تشوى. ووقع في رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عند ابن منده "فيوضع الصراط ويتمثل لهم ربهم" فذكر نحو ما تقدم وفيه: "إذا تعرف لنا عرفناه" وفي رواية العلاء ابن عبد الرحمن "ثم يطلع عز وجل عليهم فيعرفهم نفسه ثم يقول: أنا ربكم فاتبعوني، فيتبعه المسلمون" وقوله في هذه الرواية: "فيعرفهم نفسه" أي يلقي في قلوبهم علما قطعيا يعرفون به أنه ربهم سبحانه وتعالى. وقال الكلاباذي في "معاني الأخبار" عرفوه بأن أحدث فيهم لطائف عرفهم بها نفسه، ومعنى كشف الساق زوال الخوف والهول الذي غيرهم حتى غابوا عن رؤية عوراتهم. ووقع في رواية هشام بن سعد "ثم نرفع رءوسنا وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فنقول: نعم، أنت ربنا" وهذا فيه إشعار بأنهم رأوه في أول ما حشروا والعلم عند الله. وقال الخطابي: هذه الرؤية غير التي تقع في الجنة إكراما لهم، فإن هذه للامتحان وتلك لزيادة الإكرام كما فسرت به {الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: ولا إشكال في حصول الامتحان في الموقف لأن آثار التكاليف لا تنقطع إلا بعد الاستقرار في الجنة أو النار. قال: ويشبه أن يقال إنما حجب عنهم تحقق رؤيته أولا لما كان معهم من المنافقين الذين لا يستحقون رؤيته، فلما تميزوا رفع الحجاب فقال المؤمنون حينئذ: أنت ربنا. قلت: وإذا لوحظ ما تقدم من قوله: "إذا تعرف لنا عرفناه" وما ذكرت من تأويله ارتفع الإشكال. وقال الطيبي: لا يلزم من أن الدنيا دار بلاء والآخرة دار جزاء أن لا يقع في واحدة منهما ما يخص بالأخرى، فإن القبر أول منازل الآخرة، وفيه الابتلاء والفتنة بالسؤال وغيره، والتحقيق أن التكليف خاص بالدنيا وما يقع في القبر وفي الموقف هي آثار ذلك. ووقع في حديث ابن مسعود من الزيادة "ثم يقال للمسلمين

(11/451)


ارفعوا رءوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم" وفي لفظ: "فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل ودون ذلك ومثل النخلة ودون ذلك حتى يكون آخرهم من يعطى نوره على إبهام قدمه" ووقع في رواية مسلم عن جابر "ويعطى كل إنسان منهم نورا -إلى أن قال- ثم يطفئ نور المنافقين" وفي حديث ابن عباس عند ابن مردويه "فيعطى كل إنسان منهم نورا، ثم يوجهون إلى الصراط فما كان من منافق طفئ نوره" وفي لفظ: "فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين فقالوا للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية. وفي حديث أبي أمامة عند ابن أبي حاتم "وإنكم يوم القيامة في مواطن حتى يغشى الناس أمر من أمر الله فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم ينتقلون إلى منزل آخر فتغشى الناس الظلمة، فيقسم النور فيختص بذلك المؤمن ولا يعطى الكافر ولا المنافق منه شيئا، فيقول المنافقون للذين آمنوا {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا، فيضرب بينهم بسور". قوله: "فيتبعونه" قال عياض أي فيتبعون أمره أو ملائكته الذين وكلوا بذلك. قوله: "ويضرب جسر جهنم" في رواية شعيب بعد قوله أنت ربنا "فيدعوهم فيضرب جسر جهنم". "تنبيه": حذف من هذا السياق ما تقدم من حديث أنس في ذكر الشفاعة لفصل القضاء، كما حذف من حديث أنس ما ثبت هنا من الأمور التي تقع في الموقف، فينتظم من الحديثين أنهم إذا حشروا وقع ما في حديث الباب من تساقط الكفار في النار ويبقى من عداهم في كرب الموقف فيستشفعون، فيقع الإذن بنصب الصراط فيقع الامتحان بالسجود ليتميز المنافق من المؤمن ثم يجوزون على الصراط. ووقع في حديث أبي سعيد هنا "ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون: اللهم سلم سلم". قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأكون أنا وأمتي أول من يجيز" في رواية شعيب "يجوز بأمته" وفي رواية إبراهيم بن سعد "يجيزها" والضمير لجهنم. قال الأصمعي: جاز الوادي مشى فيه، وأجازه قطعه. وقال غيره: جاز وأجاز بمعنى واحد. وقال النووي: المعنى أكون أنا وأمتي أول من يمضي على الصراط ويقطعه، يقول جاز الوادي وأجازه إذا قطعه وخلفه. وقال القرطبي: يحتمل أن تكون الهمزة هنا للتعدية لأنه لما كان هو وأمته أول من يجوز على الصراط لزم تأخير غيرهم عنهم حتى يجوز، فإذا جاز هو وأمته فكأنه أجاز بقية الناس. انتهى. ووقع في حديث عبد الله بن سلام عند الحاكم "ثم ينادي مناد أين محمد وأمته؟ فيقوم فتتبعه أمته برها وفاجرها، فيأخذون الجسر فيطمس الله أبصار أعدائه فيتهافتون من يمين وشمال، وينجو النبي والصالحون" وفي حديث ابن عباس يرفعه: "نحن آخر الأمم وأول من يحاسب" وفيه: "فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمر غرا محجلين من آثار الطهور، فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن يكونوا أنبياء". قوله: "ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم" في رواية شعيب "ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل" وفي رواية إبراهيم بن سعد "ولا يكلمه إلا الأنبياء، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم" ووقع في رواية العلاء "وقولهم اللهم سلم سلم" وللترمذي من حديث المغيرة "شعار المؤمنين على الصراط: رب سلم سلم" والضمير في الأول للرسل، ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين أن ينطقوا به بل تنطق به الرسل يدعون للمؤمنين بالسلامة فسمي ذلك شعارا لهم، فبهذا تجتمع الأخبار، ويؤيده قوله في رواية سهيل "فعند ذلك حلت الشفاعة اللهم سلم سلم" وفي حديث أبي سعيد من الزيادة "فيمر المؤمن كطرف العين وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب" وفي حديث حذيفة وأبي هريرة معا "فيمر أولهم كمر البرق ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرحال

(11/452)


تجري بهم أعمالهم" وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن "ويوضع الصراط فيمر عليه مثل جياد الخيل والركاب" وفي حديث ابن مسعود "ثم يقال لهم انجوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كطرف العين ثم كالبرق ثم كالسحاب ثم كانقضاض الكوكب ثم كالريح ثم كشد الفرس ثم كشد الرحل حتى يمر الرجل الذي أعطى نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه يجر بيد ويعلق يد ويجر برجل ويعلق رجل وتضرب جوانبه النار حتى يخلص" وعند ابن أبي حاتم في التفسير من طريق أبي الزعراء عن ابن مسعود "كمر البرق ثم الريح ثم الطير ثم أجود الخيل ثم أجود الإبل ثم كعدو الرجل، حتى إن آخرهم رجل نوره على موضع إبهامي قدميه ثم يتكفأ به الصراط" وعند هناد بن السري عن ابن مسعود بعد الريح "ثم كأسرع البهائم حتى يمر الرجل سعيا ثم مشيا ثم آخرهم يتلبط على بطنه فيقول: يا رب لم أبطأت بي؟ فيقول: أبطأ بك عملك" ولابن المبارك من مرسل عبد الله بن شقيق "فيجوز الرجل كالطرف وكالسهم وكالطائر السريع وكالفرس الجواد المضمر، ويجوز الرجل يعدو عدوا ويمشي مشيا حتى يكون آخر من ينجو يحبو". قوله: "وبه كلاليب" الضمير للصراط. وفي رواية شعيب "وفي جهنم كلاليب" وفي رواية حذيفة وأبي هريرة معا "وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به" وفي رواية سهيل "وعليه كلاليب النار" وكلاليب جمع كلوب بالتشديد، وتقدم ضبطه وبيانه في أواخر كتاب الجنائز. قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه الكلاليب هي الشهوات المشار إليها في الحديث الماضي "حفت النار بالشهوات" قال: فالشهوات موضوعة على جوانبها فمن اقتحم الشهوة سقط في النار لأنها خطاطيفها: وفي حديث حذيفة "وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا" أي يقفان في ناحيتي الصراط، وهي بفتح الجيم والنون بعدها موحدة ويجوز سكون النون، والمعنى أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يوقفان هناك للأمين والخائن والمواصل والقاطع فيحاجان عن المحق ويشهدان على المبطل. قال الطيبي ويمكن أن يكون المراد بالأمانة ما في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الرحم ما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} فيدخل فيه معنى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، فكأنهما اكتنفتا جنبتي الإسلام الذي هو الصراط المستقيم وفطرتي الإيمان والدين القويم. قوله: "مثل شوك السعدان" بالسين والعين المهملتين بلفظ التثنية، والسعدان جمع سعدانة وهو نبات ذو شوك يضرب به المثل في طيب مرعاه قالوا: مرعى ولا كالسعدان. قوله: "أما رأيتم شوك السعدان" هو استفهام تقرير لاستحضار الصورة المذكورة. قوله: "غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله" أي الشوكة، والهاء ضمير الشأن، ووقع في رواية الكشميهني: "غير أنه" وقع في رواية مسلم: "لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله" قال القرطبي: قيدناه -أي لفظ قدر- عن بعض مشايخنا بضم الراء على أنه يكون استفهاما وقدر مبتدأ، وبنصبها على أن تكون ما زائدة وقدر مفعول يعلم. قوله: "فتخطف الناس بأعمالهم" بكسر الطاء وبفتحها قال ثعلب في الفصيح: خطف بالكسر في الماضي وبالفتح في المضارع. وحكى القزاز عكسه، والكسر في المضارع أفصح. قال الزين بن المنير: تشبيه الكلاليب بشوك السعدان خاص بسرعة اختطافها وكثرة الانتشاب فيها مع التحرز والتصون تمثيلا لهم بما عرفوه في الدنيا وألفوه بالمباشرة، ثم استثني إشارة إلى أن التشبيه لم يقع في مقدارهما. وفي رواية السدي "وبحافتيه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس" ووقع في حديث أبي سعيد "قلنا وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة" أي

(11/453)


زلق تزلق فيه الأقدام، ويأتي ضبط ذلك في كتاب التوحيد. ووقع عند مسلم: "قال أبو سعيد: بلغني أن الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة"، ووقع في رواية ابن منده من هذا الوجه "قال سعيد بن أبي هلال: بلغني" ووصله البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مجزوما به، وفي سنده لين. ولابن المبارك عن مرسل عبيد ابن عمير "إن الصراط مثل السيف وبجنبتيه كلاليب، إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر" وأخرجه ابن أبي الدنيا من هذا الوجه وفيه: "والملائكة على جنبتيه يقولون: رب سلم سلم" وجاء عن الفضيل بن عياض قال: "بلغنا أن الصراط مسيرة خمسة عشر ألف سنة، خمسه آلاف صعود وخمسة آلاف هبوط وخمسة آلاف مستوى أدق من الشعرة وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية الله" أخرجه ابن عساكر في ترجمته، وهذا معضل لا يثبت، وعن سعيد بن أبي هلال قال: "بلغنا أن الصراط أدق من الشعر على بعض الناس، ولبعض الناس مثل الوادي الواسع" أخرجه ابن المبارك وابن أبي الدنيا وهو مرسل أو معضل. وأخرج الطبري من طريق غنيم بن قيس أحد التابعين قال: "تمثل النار للناس، ثم يناديها مناد: أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فتخسف بكل ولي لها فهي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم" ورجاله ثقات مع كونه مقطوعا. قوله: "منهم الموبق بعمله" في رواية شعيب "من يوبق" وهما بالموحدة بمعنى الهلاك، ولبعض رواة مسلم: "الموثق" بالمثلثة من الوثائق، ووقع عند أبي ذر رواية إبراهيم بن سعد الآتية في التوحيد بالشك. وفي رواية الأصيلي: "ومنهم المؤمن -بكسر الميم بعدها نون- بقي بعمله" بالتحتانية وكسر القاف من الوقاية أي يستره عمله، وفي لفظ بعض رواة مسلم: "يعني" بعين مهملة ساكنة ثم نون مكسورة بدل بقي وهو تصحيف. قوله: "ومنهم المخردل" بالخاء المعجمة، في رواية شعيب "ومنهم من يخردل" ووقع في رواية الأصيلي هنا بالجيم وكذا لأبي أحمد الجرجاني في رواية شعيب ووهاه عياض والدال مهملة للجميع، وحكى أبو عبيد فيه إعجام الذال ورجح ابن قرقول الخاء المعجمة والدال المهملة. وقال الهروي المعنى أن كلاليب النار تقطعه فيهوي في النار، قال كعب بن زهير في بانت سعاد قصيدته المشهورة:
يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما ... لحم من القوم معفور خراديل
فقوله: "معفور" بالعين المهملة والفاء أي واقع في التراب و "خراديل" أي هو قطع، ويحتمل أن يكون من الخردل أي جعلت أعضاؤه كالخردل، وقيل معناه أنها تقطعهم عن لحوقهم بمن نجا، وقيل المخردل المصروع ورجحه ابن التين فقال هو أنسب لسياق الخبر، ووقع في رواية إبراهيم بن سعد عند أبي ذر "فمنهم المخردل أو المجازي أو نحوه" ولمسلم عنه "المجازي" بغير شك وهو بضم الميم وتخفيف الجيم من الجزاء. قوله: "ثم ينجو" في رواية إبراهيم بن سعد "ثم ينجلي" بالجيم أي يتبين، ويحتمل أن يكون بالخاء المعجمة أي يخلى عنه فيرجع إلى معنى ينجو، وفي حديث أبي سعيد "فناج مسلم ومخدوش ومكدوس في جهنم حتى يمر أحدهم فيسحب سحبا" قال ابن أبي جمرة: يؤخذ منه أن المارين على الصراط ثلاثة أصناف: ناج بلا خدوش، وهالك من أول وهلة، ومتوسط بينهما يصاب ثم ينجو. وكل قسم منها ينقسم أقساما تعرف بقوله: "بقدر أعمالهم" واختلف في ضبط مكدوس فوقع في رواية مسلم بالمهملة ورواه بعضهم بالمعجمة ومعناه السوق الشديد ومعنى الذي بالمهملة الراكب بعضه على بعض، وقيل مكردس والمكردس فقار الظهر وكردس الرجل خيله جعلها كراديس أي فرقها، والمراد

(11/454)


أنه ينكفأ في قعرها. وعند ابن ماجه من وجه آخر عن أبي سعيد رفعه: "يوضع الصراط بين ظهراني جهنم على حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس فناج مسلم ومخدوش به ثم ناج ومحتبس به ومنكوس فيها". قوله: "حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده" كذا لمعمر هنا، ووقع لغيره: "بعد هذا" وقال في رواية شعيب "حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار" قال الزين بن المنير: الفراغ إذا أضيف إلى الله معناه القضاء وحلوله بالمقضي عليه، والمراد إخراج الموحدين وإدخالهم الجنة واستقرار أهل النار في النار، وحاصله أن المعنى يفرغ الله أي من القضاء بعذاب من يفرغ عذابه ومن لا يفرغ فيكون إطلاق الفراغ بطريق المقابلة وإن لم يذكر لفظها. وقال ابن أبي جمرة: معناه وصل الوقت الذي سبق في علم الله أنه يرحمهم، وقد سبق في حديث عمران بن حصين الماضي في أواخر الباب الذي قبله أن الإخراج يقع بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. وعند أبي عوانة والبيهقي وابن حبان في حديث حذيفة "يقول إبراهيم يا رباه حرقت بني فيقول أخرجوا" وفي حديث عبد الله بن سلام عند الحاكم أن قائل ذلك آدم، وفي حديث أبي سعيد "فما أنتم بأشد مناشدة في الحق، قد يتبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم المؤمنين يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا" الحديث هكذا في رواية الليث الآتية في التوحيد، ووقع فيه عند مسلم من رواية حفص بن ميسرة اختلاف في سياقه سأبينه هناك إن شاء الله تعالى، ويحمل على أن الجميع شفعوا، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم قبلهم في ذلك، ووقع في حديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني بسند حسن رفعه: "يدخل من أهل القبلة النار من لا يحصى عددهم إلا الله بما عصوا الله واجترؤوا على معصيته وخالفوا طاعته، فيؤذن لي في الشفاعة فأثني على الله ساجدا كما أثني عليه قائما، فيقال لي: ارفع رأسك" الحديث. ويؤيده أن في حديث أبي سعيد تشفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون، ووقع في رواية عمرو بن أبي عمرو عن أنس عند النسائي ذكر سبب آخر لإخراج الموحدين من النار ولفظه: "وفرغ من حساب الناس وأدخل من بقي من أمتي النار مع أهل النار، فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله لا تشركون به شيئا، فيقول الجبار: فبعزتي لأعتقنهم من النار، فيرسل إليهم فيخرجون" وفي حديث أبي موسى عند ابن أبي عاصم والبزار رفعه: "وإذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة يقول لهم الكفار: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ فقالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فيأمر الله من كان من أهل القبلة فأخرجوا. فقال الكفار: يا ليتنا كنا مسلمين" وفي الباب عن جابر وقد تقدم في الباب الذي قبله. وعن أبي سعيد الخدري عند ابن مردويه. ووقع في حديث أبي بكر الصديق "ثم يقال: ادعوا الأنبياء فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون" وفي حديث أبي بكرة عند ابن أبي عاصم والبيهقي مرفوعا: "يحمل الناس على الصراط فينجي الله من شاء برحمته، ثم يؤذن في الشفاعة للملائكة والنبيين والشهداء والصديقين فيشفعون ويخرجون". قوله: "ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله" قال القرطبي: لم يذكر الرسالة إما لأنهما لما تلازما في النطق غالبا وشرطا اكتفي بذكر الأولى أو لأن الكلام في حق جميع المؤمنين هذه الأمة وغيرها، ولو ذكرت الرسالة لكثر تعداد الرسل. قلت: الأول أولى، ويعكر على الثاني أنه يكتفى بلفظ جامع كأن يقول مثلا: ونؤمن برسله، وقد تمسك بظاهره بعض المبتدعة ممن زعم أن من وحد الله من أهل الكتاب يخرج من النار ولو لم يؤمن بغير من أرسل إليه، وهو قول باطل، فإن من جحد الرسالة

(11/455)


كذب الله ومن كذب الله لم يوحده. قوله: "أمر الملائكة أن يخرجوهم" في حديث أبي سعيد "اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار فأخرجوه" وتقدم في حديث أنس في الشفاعة في الباب قبله "فيحد لي حدا فأخرجهم" ويجمع بأن الملائكة يؤمرون على ألسنة الرسل بذلك، فالذين يباشرون الإخراج هم الملائكة. ووقع في الحديث الثالث عشر من الباب الذي قبله تفصيل ذلك. ووقع في حديث أبي سعيد أيضا بعد قوله ذرة "فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرا" وفيه: "فيقول الله شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط" وفي حديث معبد عن الحسن البصري عن أنس "فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله" وسيأتي بطوله في التوحيد. وفي حديث جابر عند مسلم: "ثم يقول الله: أنا أخرج بعلمي وبرحمتي" وفي حديث أبي بكر "أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئا" قال الطيبي هذا يؤذن بأن كل ما قدر قبل ذلك بمقدار شعيرة ثم حبة ثم خردلة ثم ذرة غير الإيمان الذي يعبر به عن التصديق والإقرار، بل هو ما يوجد في قلوب المؤمنين من ثمرة الإيمان، وهو على وجهين: أحدهما ازدياد اليقين وطمأنينة النفس، لأن تضافر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لعدمه، والثاني أن يراد العمل وأن الإيمان يزيد وينقص بالعمل، وينصر هذا الوجه قوله في حديث أبي سعيد "لم يعملوا خيرا قط" قال البيضاوي: وقوله ليس ذلك لك أي أنا أفعل ذلك تعظيما لاسمي وإجلالا لتوحيدي، وهو مخصص لعموم حديث أبي هريرة الآتي "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله مخلصا" قال: ويحتمل أن يجري على عمومه ويحمل على حال ومقام آخر، قال الطيبي: إذا فسرنا ما يختص بالله بالتصديق المجرد عن الثمرة وما يختص برسوله هو الإيمان مع الثمرة من ازدياد اليقين أو العمل الصالح حصل الجمع. قلت: ويحتمل وجها آخر وهو أن المراد بقوله ليس ذلك لك مباشرة الإخراج لا أصل الشفاعة، وتكون هذه الشفاعة الأخيرة وقعت في إخراج المذكورين فأجيب إلى أصل الإخراج ومنع من مباشرته فنسبت إلى شفاعته في حديث أسعد الناس لكونه ابتداء بطلب ذلك، والعلم عند الله تعالى. وقد مضى شرح حديث أسعد الناس بشفاعتي في أواخر الباب الذي قبله مستوفى. قوله: "فيعرفونهم بعلامة آثار السجود" في رواية إبراهيم بن سعد "فيعرفونهم في النار بأثر السجود" قال الزين بن المنير: تعرف صفة هذا الأثر مما ورد في قوله سبحانه وتعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} لأن وجوههم لا تؤثر فيها النار فتبقى صفتها باقية. وقال غيره: بل يعرفونهم بالغرة، وفيه نظر لأنها مختصة بهذه الأمة والذين يخرجون أعم من ذلك. قوله: "وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود" هو جواب عن سؤال مقدر تقديره كيف يعرفون أثر السجود مع قوله في حديث أبي سعيد عند مسلم: "فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن الله بالشفاعة" فإذا صاروا فحما كيف يتميز محل السجود من غيره حتى يعرف أثره. وحاصل الجواب تخصيص أعضاء السجود من عموم الأعضاء التي دل علها من هذا الخبر، وأن الله منع النار أن تحرق أثر السجود من المؤمن، وهل المراد بأثر السجود نفس العضو الذي يسجد أو المراد من سجد؟ فيه نظر، والثاني أظهر. قال القاضي عياض: فيه دليل على أن عذاب المؤمنين المذنبين مخالف لعذاب الكفار، وأنها لا تأتي على جميع أعضائهم إما إكراما لموضع السجود وعظم مكانهم من الخضوع لله تعالى أو لكرامة تلك الصورة التي خلق آدم والبشر عليها وفضلوا بها على سائر الخلق.

(11/456)


قلت: الأول منصوص والثاني محتمل، لكن يشكل عليه أن الصورة لا تختص بالمؤمنين، فلو كان الإكرام لأجلها لشاركهم الكفار وليس كذلك. قال النووي: وظاهر الحديث أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة وهي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان، وبهذا جزم بعض العلماء. وقال عياض: ذكر الصورة ودارات الوجوه يدل على أن المراد بأثر السجود الوجه خاصة خلافا لمن قال يشمل الأعضاء السبعة، ويؤيد اختصاص الوجه أن في بقية الحديث: "أن منهم من غاب في النار إلى نصف ساقيه" وفي حديث سمرة عند مسلم: "وإلى ركبتيه" وفي رواية هشام بن سعد في حديث أبي سعيد "وإلى حقوه" قال النووي: وما أنكره هو المختار، ولا يمنع من ذلك قوله في الحديث الآخر في مسلم: "إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم" فإنه يحمل على أن هؤلاء قوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار، فيكون الحديث خاصا بهم وغيره عاما فيحمل على عمومه إلا ما خص منه. قلت: إن أراد أن هؤلاء يخصون بأن النار لا تأكل وجوههم كلها وأن غيرهم لا تأكل منهم محل السجود خاصة وهو الجبهة سلم من الاعتراض، وإلا يلزمه تسليم ما قال القاضي في حق الجميع إلا هؤلاء، وإن كانت علامتهم الغرة كما تقدم النقل عمن قاله. وما تعقبه بأنها خاصة بهذه الأمة فيضاف إليها التحجيل وهو في اليدين والقدمين مما يصل إليه الوضوء فيكون أشمل مما قاله النووي من جهة دخول جميع اليدين والرجلين لا تخصيص الكفين والقدمين ولكن ينقص منه الركبتان، وما استدل به القاضي من بقية الحديث لا يمنع سلامة هذه الأعضاء مع الانغمار، لأن تلك الأحوال الأخروية خارجة على قياس أحوال أهل الدنيا، ودل التنصيص على دارات الوجوه أن الوجه كله لا تؤثر فيه النار إكراما لمحل السجود، ويحمل الاقتصار عليها على التنويه بها لشرفها. وقد استنبط ابن أبي جمرة من هذا أن من كان مسلما ولكنه كان لا يصلي لا يخرج إذ لا علامة له، لكن يحمل على أنه يخرج في القبضة لعموم قوله لم يعملوا خيرا قط، وهو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي في التوحيد، وهل المراد بمن يسلم من الإحراق من كان يسجد أو أعم من أن يكون بالفعل أو القوة؟ الثاني أظهر ليدخل فيه من أسلم مثلا وأخلص فبغته الموت قبل أن يسجد ووجدت بخط أبي رحمه الله تعالى ولم أسمعه منه من نظمه ما يوافق مختار النووي وهو قوله:
يا رب أعضاء السجود عتقتها ... من عبدك الجاني وأنت الواقي
والعتق يسري بالغنى يا ذا الغنى ... فامنن على الفاني بعتق الباقي
قوله: "فيخرجونهم قد امتحشوا" هكذا وقع هنا، وكذا وقع في حديث أبي سعيد في التوحيد عن يحيى بن بكير عن الليث بسنده، ووقع عند أبي نعيم من رواية أحمد بن إبراهيم بن ملحان عن يحيى بن بكير "فيخرجون من عرفوا" ليس فيه: "قد امتحشوا" وإنما ذكرها بعد قوله فيقبض قبضة، وكذا أخرجه البيهقي وابن منده من رواية روح بن الفرج ويحيى بن أبي أيوب العلاف كلاهما عن يحيى بن بكير به، قال عياض: ولا يبعد أن الامتحاش يختص بأهل القبضة والتحريم على النار أن تأكل صورة الخارجين أولا قبلهم ممن عمل الخير على التفصيل السابق والعلم عند الله تعالى. وتقدم ضبط "امتحشوا" وأنه بفتح المثناة والمهملة وضم المعجمة أي احترقوا وزنه ومعناه، والمحش احتراق الجلد وظهور العظم. قال عياض: ضبطناه عن متقني شيوخنا وهو وجه الكلام، وعند بعضهم بضم المثناة وكسر الحاء، ولا يعرف في اللغة امتشحه متعديا وإنما سمع لازما مطاوع محشته يقال محشته، وأمحشته، وأنكر يعقوب بن السكيت الثلاثي. وقال غيره: أمحشته فامتحش وأمحشه الحر أحرقه والنار أحرقته

(11/457)


وامتحش هو غضبا.وقال أبو نصر الفارابي: والامتحاش الاحتراق. قوله: "فيصب عليهم ماء يقال له ماء الحياة" في حديث أبي سعيد "فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة" والأفواه جمع فوهة على غير قياس والمراد بها الأوائل، وتقدم في الإيمان من طريق يحيى بن عمران عن أبي سعيد "في نهر الحياة أو الحياء" بالشك. وفي رواية أبي نضرة عند مسلم: "على نهر يقال له الحيوان أو الحياة" وفي أخرى له "فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة" وفي تسمية ذلك النهر به إشارة إلى أنهم لا يحصل لهم الفناء بعد ذلك. قوله: "فينبتون نبات الحبة" بكسر المهملة وتشديد الموحدة، تقدم في كتاب الإيمان أنها بزور الصحراء والجمع حبب بكسر المهملة وفتح الموحدة بعدها مثلها، وأما الحبة بفتح أوله وهو ما يزرعه الناس فجمعها حبوب بضمتين، ووقع في حديث أبي سعيد "فينبتون في حافتيه" وفي رواية لمسلم: "كما تنبت الغثاءة" بضم الغين المعجمة بعدها مثلثة مفتوحة وبعد الألف همزة ثم هاء تأنيث هو في الأصل كل ما حمله السيل من عيدان وورق وبزور وغيرها، والمراد به هنا ما حمله من البزور خاصة. قوله: "في حميل السيل" بالحاء المهملة المفتوحة والميم المكسورة أي ما يحمله السيل. وفي رواية يحيى بن عمارة المشار إليها إلى جانب السيل، والمراد أن الغثاء الذي يجيء به السيل يكون فيه الحبة فيقع في جانب الوادي فتصبح من يومها نابتة، ووقع في رواية لمسلم: "في حمئة السيل" بعد الميم همزة ثم هاء، وقد تشبع الميم فيصير بوزن عظيمة، وهو ما تغير لونه من الطين، وخص بالذكر لأنه يقع فيه النبت غالبا. قال ابن أبي جمرة فيه إشارة إلى سرعة نباتهم، لأن الحبة أسرع في النبات من غيرها، وفي السيل أسرع لما يجتمع فيه من الطين الرخو الحادث مع الماء مع ما خالطه من حرارة الزبل المجذوب معه، قال: ويستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان عارفا بجميع أمور الدنيا بتعليم الله تعالى له وإن لم يباشر ذلك. وقال القرطبي: اقتصر المازري على أن موقع التشبيه السرعة، وبقي عليه نوع آخر دل عليه قوله في الطريق الأخرى "ألا ترونها تكون إلى الحجر ما يكون منها إلى الشمس أصفر وأخضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض" وفيه تنبيه على أن ما يكون إلى الجهة التي تلي الجنة يسبق إليه البياض المستحسن، وما يكون منهم إلى جهة النار يتأخر النصوع عنه فيبقى أصيفر وأخيضر إلى أن يتلاحق البياض ويستوي الحسن والنور ونضارة النعمة عليهم. قال: ويحتمل أن يشير بذلك إلى أن الذي يباشر الماء يعني الذي يرش عليهم يسرع نصوعه وإن غيره يتأخر عنه النصوع لكنه يسرع إليه، والله أعلم. قوله: "ويبقى رجل" زاد في رواية الكشميهني: "منهم مقبل بوجهه على النار هو آخر أهل النار دخولا الجنة" تقدم القول في آخر أهل النار خروجا منها في شرح الحديث الثاني والعشرين من الباب الذي قبله، ووقع في وصف هذا الرجل أنه كان نباشا وذلك في حديث حذيفة كما تقدم في أخبار بني إسرائيل "أن رجلا كان يسيء الظن بعمله، فقال لأهله أحرقوني" الحديث وفي آخره: "كان نباشا" ووقع في حديث حذيفة عن أبي بكر الصديق عند أحمد وأبي عوانة وغيرهما وفيه: "ثم يقول الله: انظروا هل بقي في النار أحد عمل خيرا قط؟ فيجدون رجلا فيقال له: هل عملت خيرا قط؟ فيقول: لا، غير أني كنت أسامح الناس في البيع" الحديث وفيه: "ثم يخرجون من النار رجلا آخر فيقال له: هل عملت خيرا قط؟ فيقول: لا، غير أني أمرت ولدي إذا مت فأحرقوني" الحديث. وجاء من وجه آخر أنه "كان يسأله الله أن يجيره من النار ولا يقول أدخلني

(11/458)


الجنة" أخرجه الحسين المروزي في زيادات الزهد لابن المبارك من حديث عوف الأشجعي رفعه: "قد علمت آخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل كان يسأل الله أن يجيره من النار ولا يقول أدخلني الجنة، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقي بين ذلك فيقول: يا رب قربني من باب الجنة أنظر إليها وأجد من ريحها، فيقربه، فيرى شجرة" الحديث، وهو عند ابن أبي شيبة أيضا. وهذا يقوي التعدد، لكن الإسناد ضعيف. وقد ذكرت عن عياض في شرح الحديث السابع عشر أن آخر من يخرج من النار هل هو آخر من يبقى على الصراط أو هو غيره وإن اشترك كل منهما في أنه آخر من يدخل الجنة، ووقع في نوادر الأصول للترمذي الحكيم من حديث أبي هريرة أن أطول أهل النار فيها مكثا من يمكث سبعة آلاف سنة وسند هذا الحديث واه والله أعلم. وأشار ابن أبي جمرة إلى المغايرة بين آخر من يخرج من النار وهو المذكور في الباب الماضي وأنه يخرج منها بعد أن يدخلها حقيقة وبين آخر من يخرج ممن يبقى مارا على الصراط فيكون التعبير بأنه خرج من النار بطريق المجاز لأنه أصابه من حرها وكربها ما يشارك به بعض من دخلها. وقد وقع في "غرائب مالك للدار قطني" من طريق عبد الملك بن الحكم وهو واه عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه: "إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة، فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين" وحكى السهيلي أنه جاء أن اسمه هناد، وجوز غيره أن يكون أحد الاسمين لأحد المذكورين والآخر للآخر. قوله: "فيقول يا رب" في رواية إبراهيم بن سعد في التوحيد "أي رب". قوله: "قد قشبني ريحها" بقاف وشين معجمة مفتوحتين مخففا -وحكى التشديد- ثم موحدة، قال الخطابي: قشبه الدخان إذا ملأ خياشيمه وأخذ يكظمه، وأصل القشب خلط السم بالطعام يقال قشبه إذا سمه، ثم استعمل فيما إذا بلغ الدخان والرائحة الطيبة منه غايته. وقال النووي: معنى قشبني سمني وآذاني وأهلكني، هكذا قاله جماهير أهل اللغة. وقال الداودي: معناه غير جلدي وصورتي. قلت: ولا يخفى حسن قول الخطابي، وأما الداودي فكثيرا ما يفسر الألفاظ الغريبة بلوازمها ولا يحافظ على أصول معانيها. وقال ابن أبي جمرة: إذا فسرنا القشب بالنتن والمستقذر كانت فيه إشارة إلى طيب ريح الجنة وهو من أعظم نعيمها، وعكسها النار في جميع ذلك. وقال ابن القطاع: قشب الشيء خلطه بما يفسده من سم أو غيره، وقشب الإنسان لطخه بسوء كاغتابه وعابه، وأصله السم فاستعمل بمعنى أصابه المكروه إذا أهلكه أو أفسده أو غيره أو أزال عقله أو تقذره هو، والله أعلم. قوله: "وأحرقني ذكاؤها" كذا للأصيلي وكريمة هنا بالمد وكذا في رواية إبراهيم بن سعد. وفي رواية أبي ذر وغيره ذكاها بالقصر وهو الأشهر في اللغة. وقال ابن القطاع: يقال ذكت النار تذكو ذكا بالقصر وذكوا بالضم وتشديد الواو أي كثر لهبها واشتد اشتعالها ووهجها، وأما ذكا الغلام ذكاء بالمد فمعناه أسرعت فطنته. قال النووي: المد والقصر لغتان ذكره جماعه فيها، وتعقبه مغلطاي بأنه لم يوجد عن أحد من المصنفين في اللغة ولا في الشارحين لدواوين العرب حكاية المد إلا عن أبي حنيفة الدينوري في "كتاب النبات" في مواضع منها ضرب العرب المثل بجمر الغضا لذكائه، قال: وتعقبه علي بن حمزة الأصبهاني فقال: ذكا النار مقصور ويكتب بالألف لأنه واوي يقال ذكت النار تذكو ذكوا وذكاء النار وذكو النار بمعنى وهو التهابها والمصدر ذكاء وذكو وذكو، بالتخفيف والتثقيل، فأما الذكاء بالمد فلم يأت عنهم في النار وإنما جاء في الفهم. وقال ابن قرقول في "المطالع" وعليه يعتمد الشيخ، وقع في مسلم فقد أحرقني ذكاؤها بالمد والمعروف في شدة حر النار القصر إلا أن الدينوري ذكر فيه المد وخطأه علي بن حمزة فقال: ذكت النار ذكا وذكوا ومنه طيب ذكي منتشر الريح، وأما الذكاء بالمد فمعناه تمام الشيء ومنه ذكاء القلب. وقال صاحب الأفعال: ذكا الغلام والعقل أسرع في الفطنة،

(11/459)


وذكا الرجل ذكاء من حدة فكره، وذكت النار ذكا بالقصر توقدت. قوله: "فاصرف وجهي عن النار" قد استشكل كون وجهه إلى جهة النار والحال أنه ممن يمر على الصراط طالبا إلى الجنة فوجهه إلى الجنة، لكن وقع في حديث أبي أمامة المشار إليه قبل أنه ينقلب على الصراط ظهرا لبطن فكأنه في تلك الحالة انتهى إلى آخره فصادف أن وجهه كان من قبل النار، ولم يقدر على صرفه عنها باختياره فسأل ربه في ذلك. قوله: "فيصرف وجهه عن النار" بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية شعيب "فيصرف الله" ووقع في رواية أنس عن ابن مسعود عند مسلم وفي حديث أبي سعيد عند أحمد والبزار نحوه أنه "يرفع له شجرة فيقول: رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله: لعلي إن أعطيتك تسألني غيرها، فيقول: لا يا رب ويعاهده أن لا يسأل غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه" وفيه أنه "يدنو منها وأنه يرفع له شجرة أخرى أحسن من الأولى عند باب الجنة ويقول في الثالثة ائذن لي في دخول الجنة" وكذا وقع في حديث أنس الآتي في التوحيد من طريق حميد عنه رفعه: "آخر من يخرج من النار ترفع له شجرة" ونحوه لمسلم من طريق النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد بلفظ: "إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة ومثلت له شجرة" ويجمع بأنه سقط من حديث أبي هريرة هنا ذكر الشجرات كما سقط من حديث ابن مسعود ما ثبت في حديث الباب من طلب القرب من باب الجنة. قوله: "ثم يقول بعد ذلك: يا رب قربني إلى باب الجنة" في رواية شعيب "قال يا رب قدمني". قوله: "فيقول: أليس قد زعمت" في رواية شعيب "فيقول الله: أليس قد أعطيت العهد والميثاق". قوله: "لعلي إن أعطيتك ذلك" في رواية التوحيد "فهل عسيت إن فعلت بك ذلك أن تسألني غيره" أما "عسيت" ففي سينها الوجهان الفتح والكسر، وجملة "أن تسألني" هي خبر عسى، والمعنى هل يتوقع منك سؤال شيء غير ذلك وهو استفهام تقرير لأن ذلك عادة بني آدم، والترجي راجع إلى المخاطب لا إلى الرب، وهو من باب إرخاء العنان إلى الخصم ليبعثه ذلك على التفكر في أمره والإنصاف من نفسه. قوله: "فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق" يحتمل أن يكون فاعل "شاء" الرجل المذكور أو الله، قال ابن أبي جمرة: إنما بادر للحلف من غير استخلاف لما وقع له من قوة الفرح بقضاء حاجته فوطن نفسه على أن لا يطلب مزيدا وأكده بالحلف. قوله: "فإذا رأى ما فيها سكت" في رواية شعيب "فإذا بلغ بابها ورأى زهرتها وما فيها من النضرة" وفي رواية إبراهيم بن سعد "من الحبرة" بفتح المهملة وسكون الموحدة، ولمسلم: "الخير" بمعجمة وتحتانية بلا هاء، والمراد أنه يرى ما فيها من خارجها إما لأن جدارها شفاف فيرى باطنها من ظاهرها كما جاء في وصف الغرف، وإما أن المراد بالرؤية العلم الذي يحصل له من سطوع رائحتها الطيبة وأنوارها المضيئة كما كان يحصل له أذى لفح النار وهو خارجها. قوله: "ثم قال" في رواية إبراهيم بن سعد "ثم يقول". قوله: "ويلك" في رواية شعيب "ويحك". قوله: "يا رب لا تجعلني أشقى خلقك" المراد بالخلق هنا من دخل الجنة، فهو لفظ عام أريد به خاص، ومراده أنه يصير إذا استمر خارجا عن الجنة أشقاهم، وكونه أشقاهم ظاهر لو استمر خارج الجنة وهم من داخلها، قال الطيبي: معناه يا رب قد أعطيت العهد والميثاق ولكن تفكرت في كرمك ورحمتك فسألت وقع في الرواية التي في كتاب الصلاة "لا أكون أشقى خلقك" وللقابسي "لأكونن" قال ابن التين المعنى لئن أبقيتني على هذه الحالة ولم تدخلني الجنة لأكونن، والألف في الرواية الأولى زائدة. وقال الكرماني: معناه لا أكون كافرا. قلت: هذا أقرب

(11/460)


مما قال ابن التين ولو استحضر هذه الرواية التي هنا ما احتاج إلى التكلف الذي أبداه، فإن قوله: "لا أكون" لفظه لفظ الخبر ومعناه الطلب، ودل عليه قوله: "لا تجعلني" ووجه كونه أشقى أن الذي يشاهد ما يشاهده ولا يصل إليه يصير أشد حسرة ممن لا يشاهد، وقوله: "خلقك" مخصوص بمن ليس من أهل النار. قوله: "فإذا ضحك منه" تقدم معنى الضحك في شرح الحديث الماضي قريبا. قوله: "ثم يقال له تمن من كذا فيتمنى" في رواية أبي سعيد عند أحمد "فيسأل ويتمنى مقدار ثلاثة أيام من أيام الدنيا" وفي رواية التوحيد "حتى إن الله ليذكره من كذا" وفي حديث أبي سعيد "ويلقنه الله ما لا علم له به". قوله: "قال أبو هريرة" هو موصول السند المذكور. قوله: "وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا" سقط هذا من رواية شعيب. وثبت في رواية إبراهيم بن سعد هنا، ووقع ذلك في رواية مسلم مرتين إحداهما هنا والأخرى في أوله عند قوله: "ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار".قوله: "قال عطاء وأبو سعيد" أي الخدري، والقائل هو عطاء بن يزيد بينه إبراهيم بن سعد في روايته عن الزهري قال: قال عطاء بن يزيد وأبو سعيد الخدري. قوله: "لا يغير عليه شيئا" في رواية إبراهيم بن سعد لا يرد عليه. قوله: "هذا لك ومثله معه، قال أبو سعيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في رواية إبراهيم بن سعد "قال أبو سعيد وعشرة أمثاله يا أبا هريرة فقال" فذكره، وفيه: "قال أبو سعيد الخدري: أشهد أني حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في حديث أنس عند ابن مسعود "يرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها" ووقع في حديث حذيفة عن أبي بكر "انظر إلى ملك أعظم ملك فإن لك مثله وعشرة أمثاله، فيقول أتسخر بي وأنت الملك" ووقع عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا في هذا الحديث: "فقال أبو سعيد ومثله معه، فقال أبو هريرة وعشرة أمثاله، فقال أحدهما لصاحبه حدث بما سمعت وأحدث بما سمعت" وهذا مقلوب فإن الذي في الصحيح هو المعتمد وقد وقع عند البزار من الوجه الذي أخرجه منه أحمد على وفق ما في الصحيح. نعم وقع في حديث أبي سعيد الطويل المذكور في التوحيد من طريق أخرى عنه بعد ذكر من يخرج من عصاة الموحدين فقال في آخره: "فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه" فهذا موافق لحديث أبي هريرة في الاقتصار على المثل ويمكن أن يجمع أن يكون عشرة الأمثال إنما سمعه أبو سعيد في حق آخر أهل الجنة دخولا والمذكور هنا في حق جميع من يخرج بالقبضة، وجمع عياص بين حديثي أبي سعيد وأبي هريرة باحتمال أن يكون أبو هريرة سمع أولا قوله: "ومثله معه" فحدت به ثم حدث النبي صلى الله عليه وسلم بالزيادة فسمعه أبو سعيد، وعلى هذا فيقال سمعه أبو سعيد وأبو هريرة معا أولا ثم سمع أبو سعيد الزيادة بعد، وقد وقع في حديث أبي سعيد أشياء كثيرة زائدة على حديث أبي هريرة نبهت على أكثرها فيما تقدم قريبا، وظاهر قوله: "هذا لك وعشرة أمثاله" أن العشرة زائدة على الأصل. ووقع في رواية أنس عن ابن مسعود "لك الذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا" وحمل على أنه تمنى أن يكون له مثل الدنيا فيطابق حديث أبي سعيد. ووقع في رواية لمسلم عن ابن مسعود "لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها" والله أعلم. وقال الكلاباذي إمساكه أولا عن السؤال حياء من ربه والله يحب أن يسئل لأنه يحب صوت عبده المؤمن فيباسطه بقوله أولا "لعلك إن أعطيت هذا تسأل غيره" وهذه حالة المقصر فكيف حالة المطيع، وليس نقض هذا العبد عهده وتركه ما أقسم عليه جهلا منه ولا قلة مبالاة بل علما منه بأن نقض هذا العهد أولى من الوفاء به، لأن سؤاله ربه أولى من ترك السؤال مراعاة للقسم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر على يمينه وليأت الذي

(11/461)


هو خير" فعمل هذا العبد على وفق هذا الخبر، والتكفير قد ارتفع عنه في الآخرة. قال ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى: في هذا الحديث من الفوائد جواز مخاطبة الشخص بما لا تدرك حقيقته، وجواز التعبير عن ذلك بما يفهمه، وأن الأمور التي في الآخرة لا تشبه بما في الدنيا إلا في الأسماء والأصل مع المبالغة في تفاوت الصفة والاستدلال على العلم الضروري بالنظري، وأن الكلام إذا كان محتملا لأمرين يأتي المتكلم بشيء يتخصص به مراده عند السامع، وأن التكليف لا ينقطع إلا بالاستقرار في الجنة أو النار، وأن امتثال الأمر في الموقف يقع بالاضطرار. وفيه فضيلة الإيمان لأنه لما تلبس به المنافق ظاهرا بقيت عليه حرمته إلى أن وقع التمييز بإطفاء النور وغير ذلك، وأن الصراط مع دقته وحدته يسع جميع المخلوقين منذ آدم إلى قيام الساعة. وفيه أن النار مع عظمها وشدتها لا تتجاوز الحد الذي أمرت بإحراقه، والآدمي مع حقارة جرمه يقدم على المخالفة ففيه معنى شديد من التوبيخ وهو كقوله تعالى في وصف الملائكة {غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وفيه إشارة إلى توبيخ الطغاة والعصاة، وفيه فضل الدعاء وقوة الرجاء في إجابة الدعوة ولو لم يكن الداعي أهلا لذلك في ظاهر الحكم لكن فضل الكريم واسع. وفي قوله في آخره في بعض طرقه: "ما أغدرك" إشارة إلى أن الشخص لا يوصف بالفعل الذميم إلا بعد أن يتكرر ذلك منه. وفيه إطلاق اليوم على جزء منه لأن يوم القيامة في الأصل يوم واحد وقد أطلق اسم اليوم على كثير من أجزائه. وفيه جواز سؤال الشفاعة خلافا لمن منع محتجا بأنها لا تكون إلا لمذنب. قال عياض: وفات هذا القائل أنها قد تقع في دخول الجنة بغير حساب وغير ذلك كما تقدم بيانه، مع أن كل عاقل معترف بالتقصير فيحتاج إلى طلب العفو عن تقصيره، وكذا كل عامل يخشى أن لا يقبل عمله فيحتاج إلى الشفاعة في قبوله. قال: ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة ولا بالرحمة وهو خلاف ما درج عليه السلف في أدعيتهم. وفي الحديث أيضا تكليف ما لا يطاق لأن المنافقين يؤمرون بالسجود وقد منعوا منه، كذا قيل وفيه نظر لأن الأمر حينئذ للتعجيز والتبكيت. وفيه إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، قال الطيبي: وقول من أثبت الرؤية ووكل علم حقيقتها إلى الله فهو الحق، وكذا قول من فسر الإتيان بالتجلي هو الحق لأن ذلك قد تقدمه قوله: "هل تضارون في رؤية الشمس والقمر" وزيد في تقرير ذلك وتأكيده وكل ذلك يدفع المجاز عنه والله أعلم. واستدل به بعض السالمية ونحوهم على أن المنافقين وبعض أهل الكتاب يرون الله مع المؤمنين، وهو غلط لأن في سياق حديث أبي سعيد أن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى بعد رفع رءوسهم من السجود وحينئذ يقولون أنت ربنا، ولا يقع ذلك للمنافقين ومن ذكر معهم، وأما الرؤية التي اشترك فيها الجميع قبل فقد تقدم أنه صورة الملك وغيره. قلت: ولا مدخل أيضا لبعض أهل الكتاب في ذلك لأن في بقية الحديث أنهم يخرجون من المؤمنين ومن معهم ممن يظهر الإيمان ويقال لهم ما كنتم تعبدون؟ وأنهم يتساقطون في النار، وكل ذلك قبل الأمر بالسجود. وفيه أن جماعة من مذنبي هذه الأمة يعذبون بالنار ثم يخرجون بالشفاعة والرحمة خلافا لمن نفى ذلك عن هذه الأمة وتأول ما ورد بضروب متكلفة، والنصوص الصريحة متضافرة متظاهرة بثبوت ذلك، وأن تعذيب الموحدين بخلاف تعذيب الكفار لاختلاف مراتبهم من أخذ النار بعضهم إلى ساقه وأنها لا تأكل أثر السجود، وأنهم يموتون فيكون عذابهم إحراقهم وحبسهم عن دخول الجنة سريعا كالمسجونين، بخلاف الكفار الذين لا يموتون أصلا ليذوقوا العذاب ولا يحيون حياة يستريحون بها، على أن بعض أهل العلم أول ما وقع في حديث أبي سعيد من قوله

(11/462)


يموتون فيها إماتة بأنه ليس المراد أن يحصل لهم الموت حقيقة وإنما هو كناية عن غيبة إحساسهم، وذلك للرفق بهم، أو كني عن النوم بالموت وقد سمى الله النوم وفاة، ووقع في حديث أبي هريرة أنهم إذا دخلوا النار ماتوا فإذا أراد الله إخراجهم أمسهم ألم العذاب تلك الساعة، قال وفيه ما طبع عليه الآدمي من قوة الطمع وجودة الحيلة في تحصيل المطلوب، فطلب أولا أن يبعد من النار ليحصل له نسبة لطيفة بأهل الجنة، ثم طلب الدنو منهم وقد وقع في بعض طرقه طلب الدنو من شجرة بعد شجرة إلى أن طلب الدخول، ويؤخذ منه أن صفات الآدمي التي شرف بها على الحيوان تعود له كلها بعد بعثته كالفكر والعقل وغيرهما، انتهى ملخصا مع زيادات في غضون كلامه والله المستعان.

(11/463)


53 - باب فِي الْحَوْضِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ"
7575- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ شَقِيقٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ"
[الحديث 6575- طرفاه في 6576، 7049]
6576- و حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ وَلَيُرْفَعَنَّ مَعِي رِجَالٌ مِنْكُمْ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ"
تَابَعَهُ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَقَالَ حُصَيْنٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6577- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَمَامَكُمْ حَوْضٌ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ"
6578- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ قَالَ أَبُو بِشْرٍ قُلْتُ لِسَعِيدٍ إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ سَعِيدٌ النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ"
6579- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا"
6580- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ "حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ

(11/463)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنْ الْيَمَنِ وَإِنَّ فِيهِ مِنْ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ"
6581- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ قُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ فَإِذَا طِينُهُ أَوْ طِيبُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ شَكَّ هُدْبَةُ"
6582- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ "عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ حَتَّى عَرَفْتُهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ أَصْحَابِي فَيَقُولُ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ"
6583- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ"
[الحديث 6583- طرفه في: 7050]
6584- قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهْلٍ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَزِيدُ فِيهَا فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّي فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ "سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي"
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سُحْقًا بُعْدًا يُقَالُ سَحِيقٌ بَعِيدٌ سَحَقَهُ وَأَسْحَقَهُ أَبْعَدَهُ
[الحديث 6584- طرفه في: 7051]
6585- وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَبَطِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُحَلَّئُونَ عَنْ الْحَوْضِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لاَ عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى"
[الحديث 6585 طرفه: 6586]
6586- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ

(11/464)


أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ "عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُحَلَّئُونَ عَنْهُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لاَ عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى"
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُجْلَوْنَ وَقَالَ عُقَيْلٌ فَيُحَلَّئُونَ.
وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
6587- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ فَقُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ قُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ مَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى فَلاَ أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ"
6588- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي"
6589- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ "سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ"
6590- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ "عَنْ عُقْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ "إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا"
6591- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الْحَوْضَ فَقَالَ "كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ"
6592- وَزَادَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ "عَنْ حَارِثَةَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرِدُ أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ الأَوَانِي قَالَ لاَ قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ تُرَى فِيهِ الْآنِيَةُ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ"

(11/465)


6593- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ تَرْجِعُونَ عَلَى الْعَقِبِ"
[الحديث 6593- طرفه في: 7048]
قوله: "باب في الحوض" أي حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع الحوض حياض وأحواض وهو مجمع الماء، وإيراد البخاري لأحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة وبعد نصب الصراط إشارة منه إلى أن الورود على الحوض يكون بعد نصب الصراط والمرور عليه، وقد أخرج أحمد والترمذي من حديث النضر بن أنس عن أنس قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي، فقال: أنا فاعل، فقلت: أين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط. قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان. قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الحوض" وقد استشكل كون الحوض بعد الصراط بما سيأتي في بعض أحاديث هذا الباب أن جماعة يدفعون عن الحوض بعد أن يكادوا يردون ويذهب بهم إلى النار، ووجه الإشكال أن الذي يمر على الصراط إلى أن يصل إلى الحوض يكون قد نجا من النار فكيف يرد إليها؟ ويمكن أن يحمل على أنهم يقربون من الحوض بحيث يرونه ويرون النار فيدفعون إلى النار قبل أن يخلصوا من بقية الصراط. وقال أبو عبد الله القرطبي في "التذكرة": ذهب صاحب "القوت" وغيره إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، والصحيح، أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين أحدهما في الموقف قبل الصراط والآخر داخل الجنة وكل منهما يسمى كوثرا. قلت: وفيه نظر لأن الكوثر نهر داخل الجنة كما تقدم ويأتي، وماؤه يصب في الحوض، ويطلق على الحوض كوثر لكونه يمد منه، فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبي أن الحوض يكون قبل الصراط، فإن الناس يردون الموقف عطاشى فيرد المؤمنون الحوض وتتساقط الكفار في النار بعد أن يقولوا ربنا عطشنا، فترفع لهم جهنم كأنها سراب فيقال: ألا تردون؟ فيظنونها ماء فيتساقطون فيها. وقد أخرج مسلم من حديث أبي ذر أن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة، وله شاهد من حديث ثوبان، وهو حجة على القرطبي لا له، لأنه قد تقدم أن الصراط جسر جهنم وأنه بين الموقف والجنة وأن المؤمنين يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر في الحوض، وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد "ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض" وقد قال القاضي عياض: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحوض "من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا" يدل على أن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار، لأن ظاهر حال من لا يظمأ أن لا يعذب بالنار، ولكن يحتمل أن من قدر عليه التعذيب منهم أن لا يعذب فيها بالظمأ بل بغيره. قلت: ويدفع هذا الاحتمال أنه وقع في حديث أبي بن كعب عند ابن أبي عاصم في ذكر الحوض "ومن لم يشرب منه لم يرو أبدا" وعند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند في الحديث الطويل عن لقيط بن عامر أنه "وفد على رسول

(11/466)


الله صلى الله عليه وسلم هو ونهيك بن عاصم، قال: فقدمنا المدينة عند انسلاخ رجب فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من صلاة الغداة" الحديث بطوله في صفة الجنة والبعث وفيه: "تعرضون عليه بادية له صفا حكم لا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ غرفة من ماء فينضح بها قبلكم فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم قطرة، فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر فتخطمه مثل الخطام الأسود، ثم ينصرف نبيكم وينصرف على أثره الصالحون فيسلكون جسرا من النار، يطأ أحدكم الجمرة فيقول: حس، فيقول ربك أوانه إلا، فيطلعون على حوض الرسول على أظماء والله ناهلة رأيتها أبدا1 ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع على قدح" الحديث. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة والطبراني والحاكم، وهو صريح في أن الحوض قبل الصراط. قوله: "وقول الله تعالى إنا أعطيناك الكوثر" أشار إلى أن المراد بالكوثر النهر الذي يصب في الحوض فهو مادة الحوض كما جاء صريحا في سابع أحاديث الباب، ومضى في تفسير سورة الكوثر من حديث عائشة نحوه مع زيادة بيان فيه، وتقدم الكلام على حديث ابن عباس أن الكوثر هو الخير الكثير، وجاء إطلاق الكوثر على الحوض في حديث المختار بن فلفل عن أنس في ذكر الكوثر "هو حوض ترد عليه أمتي" وقد اشتهر اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بالحوض، لكن أخرج الترمذي من حديث سمرة رفعه: "إن لكل نبي حوضا" وأشار إلى أنه اختلف في وصله وإرساله وأن المرسل أصح. قلت: والمرسل أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضا وهو قائم على حوضه بيده عصا يدعو من عرف من أمته، إلا أنهم يتباهون أيهم أكثر تبعا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا" ، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن سمرة موصولا مرفوعا مثله وفي سنده لين. وأخرج ابن أبي الدنيا أيضا من حديث أبي سعيد رفعه: "وكل نبي يدعو أمته ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام ومنهم من يأتيه العصبة ومنهم من يأتيه الواحد ومنهم من يأتيه الاثنان ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة" وفي إسناده لين، وإن ثبت فالمختص بنبينا صلى الله عليه وسلم الكوثر الذي يصب من مائه في حوضه فإنه لم ينقل نظيره لغيره ووقع الامتنان عليه به في السورة المذكورة قال القرطبي في "المفهم" تبعا للقاضي عياض في غالبه: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، إذ روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة نيف على الثلاثين، منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين وفي غيرهما بقية ذلك مما صح نقله واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم ومن بعدهم أضعاف أضعافهم وهلم جرا، وأجمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة وأحالوه على ظاهره وغلوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويله، فخرق من حرفه إجماع السلف وفارق مذهب أئمة الخلف. قلت: أنكره الخوارج وبعض المعتزلة، وممن كان ينكره عبيد الله بن زياد أحد أمراء العراق لمعاوية وولده، فعند أبي داود من طريق عبد السلام بن أبي حازم قال: شهدت أبا برزة الأسلمي دخل على عبيد الله بن زياد فحدثني فلان وكان في السماط فذكر قصة فيها أن ابن زياد ذكر الحوض فقال هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئا؟ فقال أبو برزة: نعم لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا ولا أربعا ولا خمسا فمن كذب به فلا سقاه الله منه. وأخرج البيهقي في البعث
ـــــــ
1 كذا الأصل, ولعل في بعض الكلمات تصحيفا.
غ

(11/467)


من طريق أبي حمزة عن أبي برزة نحوه، ومن طريق يزيد بن حبان التيمي: شهدت زيد بن أرقم وبعث إليه ابن زياد فقال: ما أحاديث تبلغني أنك تزعم أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضا في الجنة؟ قال: حدثنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند أحمد من طريق عبد الله بن بريدة عن أبي سبرة بفتح المهملة وسكون الموحدة الهذلي قال: قال عبيد الله بن زياد: ما أصدق بالحوض، وذلك بعد أن حدثه أبو برزة والبراء وعائذ بن عمرو، فقال له أبو سبرة بعثني أبوك في مال إلى معاوية فلقيني عبد الله بن عمرو فحدثني وكتبته بيدي من فيه أنه "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "موعدكم حوضي" الحديث فقال ابن زياد حينئذ: أشهد أن الحوض حق وعند أبي يعلى من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس "دخلت على ابن زياد وهم يذكرون الحوض فقال هذا أنس، فقلت: لقد كانت عجائز بالمدينة كثيرا ما يسألن ربهن أن يسقيهن من حوض نبيهن" وسنده صحيح. وروينا في فوائد العيسوي وهو في البعث للبيهقي من طريقه بسند صحيح عن حميد عن أنس نحوه وفيه: "ما حسبت أن أعيش حتى أرى مثلكم ينكر الحوض" وأخرج البيهقي أيضا من طريق يزيد الرقاشي عن أنس في صفة الحوض" وسيأتيه قوم ذابلة شفاههم لا يطعمون منه قطرة، من كذب به اليوم لم يصب الشرب منه يومئذ" ويزيد ضعيف لكن يقويه ما مضى، ويشبه أن يكون الكلام الأخير من قول أنس. قال عياض: أخرج مسلم أحاديث الحوض عن ابن عمر وأبي سعيد وسهل بن سعد وجندب وعبد الله بن عمرو وعائشة وأم سلمة وعقبة بن عامر وابن مسعود وحذيفة وحارثة بن وهب والمستورد وأبي ذر وثوبان وأنس وجابر بن سمرة، قال: ورواه غير مسلم عن أبي بكر الصديق وزيد بن أرقم وأبي أمامة وأسماء بنت أبي بكر وخولة بنت قيس وعبد الله بن زيد وسويد بن جبلة وعبد الله الصنابحي والبراء بن عازب. وقال النووي بعد حكاية كلامه مستدركا عليه: رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة ورواه غيرهما من رواية عمر وعائذ بن عمرو وآخرين، وجمع ذلك كله البيهقي في البعث بأسانيده وطرقه المتكاثرة. قلت: أخرجه البخاري في هذا الباب عن الصحابة الذين نصب عياض لمسلم تخريجه عنهم إلا أم سلمة وثوبان وجابر بن سمرة وأبا ذر، وأخرجه أيضا عن عبد الله بن زيد وأسماء بنت أبي بكر وأخرجه مسلم عنهما أيضا وأغفلهما عياض، وأخرجاه أيضا عن أسيد بن حضير، وأغفل عياض أيضا نسبة الأحاديث، وحديث أبي بكر عند أحمد وأبي عوانة وغيرهما، وحديث زيد بن أرقم عند البيهقي وغيره، وحديث خولة بنت قيس عند الطبراني، وحديث أبي أمامة عند ابن حبان وغيره، وأما حديث سويد بن جبلة فأخرجه أبو زرعة الدمشقي في مسند الشاميين وكذا ذكر ابن منده في الصحابة وجزم ابن أبي حاتم بأن حديثه مرسل، وأما حديث عبد الله الصنابحي فغلط عياض في اسمه وإنما هو الصنابح بن الأعسر وحديثه عند أحمد وابن ماجه بسند صحيح ولفظه: "إني فرطكم على الحوض، وإني مكاثر بكم" الحديث فإن كان كما ظننت وكان ضبط اسم الصحابي وأنه عبد الله فتزيد العدة واحدا لكن ما عرفت من خرجه من حديث عبد الله الصنابحي وهو صحابي آخر غير عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي التابعي المشهور وقول النووي إن البيهقي استوعب طرقه يوهم أنه أخرج زيادة على الأسماء التي ذكرها حيث قال وآخرين، وليس كذلك فإنه لم يخرج حديث أبي بكر الصديق ولا سويد ولا الصنابحي ولا خولة ولا البراء، وإنما ذكره عن عمر وعن عائذ بن عمرو وعن أبي برزة ولم أر عنده زيادة إلا من مرسل يزيد بن رومان في نزول قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} وقد جاء فيه عمن لم يذكروه جميعا من حديث ابن عباس كما تقدم في تفسير سورة الكوثر، ومن حديث

(11/468)


كعب بن عجرة عند الترمذي والنسائي وصححه الحاكم، ومن حديث جابر بن عبد الله عند أحمد والبزار بسند صحيح وعن بريدة عند أبي يعلى، ومن حديث أخي زيد بن أرقم ويقال إن اسمه ثابت عند أحمد، ومن حديث أبي الدرداء عند ابن أبي عاصم في السنة وعند البيهقي في الدلائل، ومن حديث أبي بن كعب وأسامة بن زيد وحذيفة بن أسيد وحمزة بن عبد المطلب ولقيط بن عامر وزيد بن ثابت والحسن بن علي وحديثه عند أبي يعلى أيضا وأبي بكرة وخولة بنت حكيم كلها عند ابن أبي عاصم، ومن حديث العرباض بن سارية عند ابن حبان في صحيحه، وعن أبي مسعود البدري وسلمان الفارسي وسمرة بن جندب وعقبة ابن عبد وزيد بن أوفى وكلها في الطبراني، ومن حديث خباب بن الأرت عند الحاكم، ومن حديث النواس بن سمعان عند ابن أبي الدنيا ومن حديث ميمونة أم المؤمنين في الأوسط للطبراني ولفظه: "يرد علي الحوض أطولكن يدا" الحديث، ومن حديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد بن منيع في مسنده، وذكره ابن منده في مستخرجه عن عبد الرحمن بن عوف، وذكره ابن كثير في نهايته عن عثمان بن مظعون، وذكره ابن القيم في الحاوي عن معاذ ابن جبل ولقيط بن صبرة وأظنه عن لقيط بن عامر الذي تقدم ذكره، فجميع من ذكرهم عياض خمسة وعشرون نفسا، وزاد عليه النووي ثلاثة، وزدت عليهم أجمعين قدر ما ذكروه سواء فزادت العدة على الخمسين، ولكثير من هؤلاء الصحابة في ذلك زيادة على الحديث الواحد كأبي هريرة وأنس وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن عمرو وأحاديثهم بعضها في مطلق ذكر الحوض وفي صفته بعضها وفيمن يرد عليه بعضها وفيمن يدفع عنه بعضها، وكذلك في الأحاديث التي أوردها المصنف في هذا الباب، وجملة طرقها تسعة عشر طوقا، وبلغني أن بعض المتأخرين وصلها إلى رواية ثمانين صحابيا. قوله: "وقال عبد الله بن زيد" هو ابن عاصم المازني. قوله: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" هو طرف من حديث طويل وصله المؤلف في غزوة حنين، وفيه كلام الأنصار لما قسمت غنائم حنين في غيرهم وفيه: "إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش، وشقيق هو أبو وائل المذكور في الطريق الثانية ووقع صريحا عند الإسماعيلي فيهما وعند مسلم في الأول، وعبد الله هو ابن مسعود. الحديث عن ابن مسعود موصولا وعن حذيفة معلقا. والمغيرة هو ابن مقسم الضبي الكوفي. قوله: "وليرفعن" بضم أوله وفتح الفاء والعين أي يظهرهم الله لي حتى أراهم. قوله: "ثم ليختلجن" بفتح اللام وضم التحتانية وسكون الخاء المعجمة وفتح المثناة واللام وضم الجيم بعدها نون ثقيلة أي ينزعون أو يجذبون مني، يقال اختلجه منه إذا نزعه منه أو جذبه بغير إرادته، وسيأتي زيادة في إيضاحه في شرح حديث أنس من رواية عبد العزيز وما بعده وحديث أسماء بنت أبي بكر. قوله: "تابعه عاصم" هو ابن أبي النجود قارئ الكوفة، والضمير للأعمش أي أن عاصما رواه كما رواه الأعمش عن أبي وائل فقال عن عبد الله بن مسعود، قد وصلها الحارث بن أبي أسامة في مسنده من طريق سفيان الثوري عن عاصم. قوله: "وقال حصين" أي ابن عبد الرحمن الواسطي. قوله: "عن أبي وائل عن حذيفة" أي أنه خالف الأعمش وعاصما فقال عن أبي وائل عن حذيفة، وهذه المتابعة وصلها مسلم من طريق حصين، وصنيعه يقتضي أنه عند أبي وائل عن ابن مسعود وعن حذيفة معا، وصنيع البخاري يقتضي ترجيح قول من قال عن أبي وائل عن عبد الله لكونه ساقها موصولة وعلق الأخرى. قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري. قوله: "أمامكم" بفتح الهمزة أي

(11/469)


قدامكم "حوض" في رواية السرخسي "حوضي" بزيادة ياء الإضافة، والأول هو الذي عند كل من أخرج الحدث كمسلم. قوله: "كما بين جرباء وأذرح" أما جرباء فهي بفتح الجيم وسكون الراء بعدها موحدة بلفظ تأنيث أجرب، قال عياض: جاءت في البخاري ممدودة. وقال النووي في شرح مسلم الصواب أنها مقصورة وكذا ذكرها الحازمي والجمهور، قال والمد خطأ، وأثبت صاحب التحرير المد وجوز القصر، ويؤيد المد قول أبي عبيد البكري هي تأنيث أجرب. وأما أذرح فبفتح الهمزة وسكون المعجمة وضم الراء بعدها مهملة، قال عياض كذا للجمهور، ووقع في رواية العذري في مسلم بالجيم وهو وهم. قلت: وسأذكر الخلاف في تعيين مكاني هذين الموضعين في آخر الكلام على حديث عبد الله بن عمرو الآتي شرحه إن شاء الله تعالى. حديث ابن عباس، تقدم شرحه في تفسير سورة الكوثر وقوله هنا "هشيم أخبرنا أبو بشر" هو جعفر بن أبي وحشية بفتح الواو وسكون المهملة بعدها معجمة مكسورة ثم تحتانية ثقيلة ثم هاء تأنيث، واسم أبي وحشية إياس. قوله: "وعطاء بن السائب" هو المحدث المشهور كوفي من صغار التابعين صدوق اختلط في آخر عمره، وسماع هشيم منه بعد اختلاطه، ولذلك أخرج له البخاري مقرونا بأبي بشر، وما له عنده إلا هذا الموضع، وقد مضى في تفسير الكوثر من جهة هشيم عن أبي بشر وحده، ولعطاء بن السائب في ذكر الكوثر سند آخر عن شيخ آخر أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه بسند صحيح من طريق محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار عن ابن عمر فذكر الحديث المشار إليه في تفسير الكوثر، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي عوانة عن عطاء قال: قل لي محارب بن دثار ما كان سعيد بن جبير يقول في الكوثر؟ قلت: كان يحدث عن ابن عباس قال: هو الخير الكثير، فقال محارب: حدثنا ابن عمر فذكر الحديث. وأخرجه البيهقي في البعث من طريق حماد بن زيد عن عطاء بن السائب وزاد: فقال محارب سبحان الله ما أقل ما يسقط لابن عباس، فذكر حدث ابن عباس ثم قال: هذا والله هو الخير الكثير. قوله: "نافع" هو ابن عمر الجمحي المكي. قوله: "قال عبد الله بن عمرو" في رواية مسلم من وجه آخر عن نافع بن عمر بسنده عن عبد الله بن عمرو، وقد خالف نافع بن عمر في صحابيه عبد الله بن عثمان بن خثيم فقال: عن ابن أبي مليكة عن عائشة أخرجه أحمد والطبراني، ونافع بن عمر أحفظ من ابن خثيم. قوله: "حوضي مسيرة شهر" زاد مسلم والإسماعيلي وابن حبان في روايتهم من هذا الوجه "وزواياه سواء" وهذه الزيادة تدفع تأويل من جمع بين مختلف الأحاديث في تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطول، وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا فوقع في حديث أنس الذي بعده "كما بين أيلة وصنعاء من اليمن" وأيلة مدينة كانت عامرة وهي بطرف بحر القلزم من طرف الشام وهي الآن خراب يمر بها الحاج من مصر فتكون شماليهم ويمر بها الحاج من غرة وغيرها فتكون أمامهم، ويجلبون إليها الميرة من الكرك والشوبك وغيرهما يتلقون بها الحاج ذهابا وإيابا، وإليها تنسب العقبة المشهورة عند المصريين، وبينها وبين المدينة النبوية نحو الشهر بسير الأثقال إن اقتصروا كل يوم على مرحلة وإلا فدون ذلك، وهي من مصر على أكثر من النصف من ذلك، ولم يصب من قال من المتقدمين إنها على النصف مما بين مصر ومكة بل هي دون الثلث فإنها أقرب إلى مصر. ونقل عياض عن بعض أهل العلم أن أيلة شعب من جبل رضوى الذي في ينبع، وتعقب بأنه اسم وافق اسما، والمراد بأيلة في الخبر هي المدينة الموصوفة آنفا، وقد ثبت ذكرها في صحيح مسلم في قصة غزوة تبوك وفيه: "أن صاحب أيلة جاء إلى رسول الله

(11/470)


صلى الله عليه وسلم وصالحه" وتقدم لها ذكر أيضا في كتاب الجمعة. وأما صنعاء فإنما قيدت في هذه الرواية باليمن احترازا من صنعاء التي بالشام، والأصل فيها صنعاء اليمن لما هاجر أهل اليمن في زمن عمر عند فتوح الشام نزل أهل صنعاء في مكان من دمشق فسمي باسم بلدهم، فعلى هذا فمن في قوله في هذه الرواية من اليمن" إن كانت ابتدائية فيكون هذا اللفظ مرفوعا وإن كانت بيانية فيكون مدرجا من قول بعض الرواة والظاهر أنه الزهري. ووقع في حديث جابر بن سمرة أيضا: "كما بين صنعاء وأيلة" وفي حديث حذيفة مثله لكن قال: "عدن" بدل صنعاء، وفي حديث أبي هريرة "أبعد من أيلة إلى عدن" وعدن بفتحتين بلد مشهور على ساحل البحر في أواخر سواحل اليمن وأوائل سواحل الهند وهي تسامت صنعاء وصنعاء في جهة الجبال، وفي حديث أبي ذر "ما بين عمان إلى أيلة" وعمان بضم المهملة وتخفيف النون بلد على ساحل البحر من جهة البحرين، وفي حديث أبي بردة عند ابن حبان: "ما بين ناحيتي حوضي كما بين أيلة وصنعاء مسيرة شهر" وهذه الروايات متقاربة لأنها كلها نحو شهر أو تزيد أو تنقص. ووقع في روايات أخرى التحديد بما هو دون ذلك: فوقع في حديث عقبة ابن عامر عند أحمد "كما بين أيلة إلى الجحفة" وفي حديث جابر "كما بين صنعاء إلى المدينة" وفي حديث ثوبان "ما بين عدن وعمان البلقاء" ونحوه لابن حبان عن أبي أمامة. وعمان هذه بفتح المهملة وتشديد الميم للأكثر وحكي تخفيفها، وتنسب إلى البلقاء لقربها منها. والبلقاء بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها قاف وبالمد بلدة معروفة من فلسطين، وعند عبد الرزاق في حديث ثوبان "ما بين بصرى إلى صنعاء أو ما بين أيلة إلى مكة" وبصرى بضم الموحدة وسكون المهملة بلد معروف بطرف الشام من جهة الحجاز تقدم ضبطها في بدء الوحي، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد "بعد ما بين مكة وأيلة" وفي لفظ: "ما بين مكة وعمان" وفي حديث حذيفة بن أسيد "ما بين صنعاء إلى بصرى" ومثله لابن حبان في حديث عتبة بن عبد. وفي رواية الحسن عن أنس عند أحمد "كما بين مكة إلى أيلة أو بين صنعاء ومكة" وفي حديث أبي سعيد عند ابن أبي شيبة وابن ماجه: "ما بين الكعبة إلى بيت المقدس" وفي حديث عتبة بن عبد عند الطبراني "كما بين البيضاء إلى بصرى" والبيضاء بالقرب من الربذة البلد المعروف بين مكة والمدينة، وهذه المسافات متقاربة وكلها ترجع إلى نحو نصف شهر أو تزيد على ذلك قليلا أو تنقص، وأقل ما ورد في ذلك ما وقع في رواية لمسلم في حديث ابن عمر من طريق محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر بسنده كما تقدم وزاد قال: قال عبيد الله فسألته قال قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام، ونحوه له في رواية عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر لكن قال: "ثلاث ليال" وقد جمع العلماء بين هذا الاختلاف فقال عياض: هذا من اختلاف التقدير لأن ذلك لم يقع في حديث واحد فيعد اضطرابا من الرواة وإنما جاء في أحاديث مختلفة عن غير واحد من الصحابة سمعوه في مواطن مختلفة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في كل منهما مثلا لبعد أقطار الحوض وسعته بما يسنح له من العبارة وبقرب ذلك للعلم ببعد بين البلاد النائية بعضها من بعض لا على إرادة المسافة المحققة، قال فبهذا يجمع بين الألفاظ المختلفة من جهة المعنى انتهى ملخصا، وفيه نظر من جهة أن ضرب المثل والتقدير إنما يكون فيما يتقارب، وأما هذا الاختلاف المتباعد الذي يزيد تارة على ثلاثين يوما وينقص إلى ثلاثة أيام فلا، قال القرطبي: ظن بعض القاصرين أن الاختلاف في قدر الحوض اضطراب وليس كذلك، ثم نقل كلام عياض وزاد: وليس اختلافا بل كلها تفيد أنه كبير متسع متباعد الجوانب، ثم قال: ولعل ذكره للجهات المختلفة بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهة فيخاطب كل قوم بالجهة

(11/471)


التي يعرفونها، وأجاب النووي بأنه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح فلا معارضة. وحاصله أنه يشير إلى أنه أخبر أولا بالمسافة اليسيرة ثم أعلم بالمسافة الطويلة فأخبره بها كأن الله تفضل عليه باتساعه شيئا بعد شيء فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة. وتقدم قول من جمع الاختلاف بتفاوت الطول والعرض ورده بما في حديث عبد الله بن عمرو "زواياه سواء". ووقع أيضا في حديث النواس بن سمعان وجابر وأبي برزة وأبي ذر "طوله وعرضه سواء" وجمع غيره بين الاختلافين الأولين باختلاف السير البطيء وهو سير الأثقال والسير السريع وهو سير الراكب المخف ويحمل رواية أقلها وهو الثلاث على سير البريد فقد عهد منهم من قطع مسافة الشهر في ثلاثة أيام ولو كان نادرا جدا، وفي هذا الجواب عن المسافة الأخيرة نظر وهو فيما قبله مسلم وهو أولى ما يجمع به، وأما مسافة الثلاث فإن الحافظ ضياء الدين المقدسي ذكر في الجزء الذي جمعه في الحوض أن في سياق لفظها غلطا وذلك الاختصار وقع في سياقه من بعض رواته، ثم ساقه من حديث أبي هريرة وأخرجه من "فوائده عبد الكريم بن الهيثم الديرعاقولي" بسند حسن إلى أبي هريرة مرفوعا في ذكر الحوض فقال فيه: "عرضه مثل ما بينكم وبين جرباء وأذرح" قال الضياء: فظهر بهذا أنه وقع في حديث ابن عمر حذف تقديره كما بين مقامي وبين جرباء وأذرح، فسقط مقامي وبين. وقال الحافظ صلاح الدين العلائي بعد أن حكى قول ابن الأثير في النهاية هما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام ثم غلطه في ذلك وقال: ليس كما قال بل بينهما غلوة سهم وهما معروفتان بين القدس والكرك، قال: وقد ثبت القدر المحذوف عند الدار قطني وغيره بلفظ: "ما بين المدينة وجرباء وأذرح". قلت: وهذا يوافق رواية أبي سعيد عند ابن ماجه:" كما بين الكعبة وبيت المقدس "وقد وقع ذكر جرباء وأذرح في حديث آخر عند مسلم وفيه: "وافى أهل جرباء وأذرح بحرسهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" ذكره في غزوة تبوك، وهو يؤيد قول العلائي أنهما متقاربتان. وإذا تقرر ذلك رجع جميع المختلف إلى أنه لاختلاف السير البطيء والسير السريع، وسأحكي كلام ابن التين في تقدير المسافة بين جرباء وأذرح في شرح الحديث السادس عشر والله أعلم. قوله: "ماؤه أبيض من اللبن" قال المازري: مقتضى كلام النحاة أن يقال أشد بياضا ولا يقال أبيض من كذا، ومنهم من أجازه في الشعر، ومنهم من أجازه بقلة ويشهد له هذا الحديث وغيره. قلت: ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة، فقد وقع في رواية أبي ذر عند مسلم بلفظ أشد بياضا من اللبن، وكذا لابن مسعود عند أحمد، وكذا لأبي أمامة عند ابن أبي عاصم. قوله: "وريحه أطيب من المسك" في حديث ابن عمر عند الترمذي "أطيب ريحا من المسك" ومثله في حديث أبي أمامة عند ابن حبان رائحة وزاد ابن أبي عاصم وابن أبي الدنيا في حديث بريدة "وألين من الزبد" وزاد مسلم من حديث أبي ذر وثوبان "وأحلى من العسل" ومثله لأحمد عن أبي بن كعب، وله عن أبي أمامة "وأحلى مذاقا من العسل" وزاد أحمد في حديث ابن عمرو من حديث ابن مسعود "وأبرد من الثلج" وكذا في حديث أبي برزة، وعند البزار من رواية عدي بن ثابت عن أنس، ولأبي يعلى من وجه آخر عن أنس وعند الترمذي في حديث ابن عمر "وماؤه أشد بردا من الثلج". قوله: "وكيزانه كنجوم السماء" في حديث أنس الذي بعده "وفيه من الأباريق كعدة نجوم السماء" ولأحمد من رواية الحسن عن أنس "أكثر من عدد نجوم السماء" وفي حديث المستورد في أواخر الباب: "فيه الآنية مثل الكواكب" ولمسلم من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن

(11/472)


ابن عمر "فيه أباريق كنجوم السماء". قوله: "من شرب منها" أي من الكيزان. وفي رواية الكشميهني: "من شرب منه" أي من الحوض "فلا يظمأ أبدا" في حديث سهل بن سعد الآتي قريبا "من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا" وفي رواية موسى ابن عقبة "من ورده فشرب لم يظمأ بعدها أبدا" وهذا يفسر المراد بقوله: "من مر به شرب" أي من مر به فمكن من شربه فشرب لا يظمأ أو من مكن من المرور به شرب، وفي حديث أبي أمامة "ولم يسود وجه أبدا" وزاد ابن أبي عاصم في حديث أبي بن كعب "من صرف عنه لم يرو أبدا" ووقع في حديث النواس بن سمعان عند ابن أبي الدنيا "أول من يرد عليه من يسقي كل عطشان". قوله: "يونس" هو ابن يزيد. قوله: "حدثني أنس" هذا يدفع تعليل من أعله بأن ابن شهاب لم يسمعه من أنس لأن أبا أويس رواه عن ابن شهاب عن أخيه عبد الله بن مسلم عن أنس أخرجه ابن أبي عاصم، وأخرجه الترمذي من طريق محمد بن عبد الله بن مسلم ابن أخي الزهري عن أبيه به، والذي يظهر أنه كان عند ابن شهاب عن أخيه عن أنس ثم سمعه عن أنس فإن بين السياقين اختلافا؛ وقد ذكر ابن أبي عاصم أسماء من رواه عن ابن شهاب عن أنس بلا واسطة فزادوا على عشرة. حديث أنس من رواية قتادة عنه، قوله: "بينا أنا أسير في الجنة" تقدم تفسير سورة الكوثر أن ذلك كان ليلة أسري به وفي أواخر الكلام على حديث الإسراء في أوائل الترجمة النبوية، وظن الداودي أن المراد أن ذلك يكون يوم القيامة فقال: إن كان هذا محفوظا دل على أن الحوض الذي يدفع عنه أقوام غير النهر الذي في الجنة أو يكون يراهم وهو داخل الجنة وهم من خارجها فيناديهم فيصرفون عنه. وهو تكلف عجيب يغني عنه أن الحوض الذي هو خارج الجنة يمد من النهر الذي هو داخل الجنة فلا إشكال أصلا، وقوله في آخره: "طيبه أو طينه" شك هدبة هل هو بموحدة من الطيب أو بنون من الطين وأراد بذلك أن أبا الوليد لم يشك في روايته أنه بالنون وهو المعتمد، وتقدم في تفسير سورة الكوثر من طريق شيبان عن قتادة "فأهوى الملك بيده فاستخرج من طينه مسكا أذفر" وأخرج البيهقي في البعث من طريق عبد الله بن مسلم عن أنس بلفظ: "ترابه مسك". حديث أنس أيضا من رواية عبد العزيز وهو ابن صهيب عنه، قوله: "أصيحابي" بالتصغير. وفي رواية الكشميهني: "أصحابي" بغير تصغير. قوله: "فيقول" في رواية الكشميهني: "فيقال" وقد ذكر شرح ما تضمنه في شرح حديث ابن عباس. حديث سهل بن سعد وأبي سعيد الخدري من رواية أبي حازم عن سهل وعن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد. قوله: "فأقول سحقا سحقا" بسكون الحاء المهملة فيهما ويجوز ضمها ومعناه بعدا بعدا، ونصب بتقدير ألزمهم الله ذلك. قوله: "وقال ابن عباس سحقا بعدا" وصله ابن أبي حاتم من رواية علي بن أبي طلحة عنه بلفظه. قوله: "يقال سحيق بعيد" هو كلام أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} السحيق البعيد والنخلة السحوق الطويلة. قوله: "سحقه وأسحقه أبعده" ثبت هذا في رواية الكشميهني وهو من كلام أبي عبيدة أيضا قال: يقال سحقه الله وأسحقه أي أبعده، ويقال بعد وسحق إذا دعوا عليه، وسحقته الريح أي طردته. وقال الإسماعيلي: يقال سحقه إذا اعتمده عليه بشيء ففتنه وأسحقه أبعده، وقد تقدم شرح حديث ابن عباس في هذا في "باب كيف الحشر". قوله: "وقال أحمد بن شبيب إلخ" وصله أبو عوانة عن أبي زرعة الرازي وأبي الحسن الميموني قالا "حدثنا أحمد بن شبيب به" ويونس هو ابن يزيد نسبه أبو عوانة في روايته هذه، وكذا

(11/473)


أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طرق عن أحمد بن شبيب. قوله: "فيجلون" بضم أوله وسكون الجيم وفتح اللام أي يصرفون. وفي رواية الكشميهني بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام بعدها همزة مضمومة قبل الواو وكذا للأكثر ومعناه يطردون، وحكى ابن التين أن بعضهم ذكره بغير همزة قال: وهو في الأصل مهموز فكأنه سهل الهمزة. قوله: "إنهم ارتدوا" هذا يوافق تفسير قبيصة الماضي في "باب كيف الحشر". قوله: "على أعقابهم" في رواية الإسماعيلي: "على أدبارهم". قوله: "وقال شعيب" هو ابن أبي حمزة عن الزهري يعني بسنده وصله الذهلي في "الزهريات" وهو بسكون الجيم أيضا، وقيل بالخاء المعجمة المفتوحة بعدها لأم ثقيلة وواو ساكنة وهو تصحيف. قوله: "وقال عقيل" هو ابن خالد يعني عن ابن شهاب بسنده يحلؤن يعني بالحاء المهملة والهمزة قوله: "وقال الزبيدي" هو محمد بن الوليد، ومحمد بن علي شيخ الزهري فيه هو أبو جعفر الباقر، وشيخه عبيد الله هو ابن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الجياني أنه وقع في رواية القابسي والأصيلي عن المروزي عبد الله بن أبي رافع بسكون الموحدة وهو خطأ، وفي السند ثلاثة من التابعين مدنيون في نسق، فالزهري والباقر قرينان وعبيد الله أكبر منهما، وطريق الزبيدي المشار إليها وصلها الدار قطني في الأفراد من رواية عبد الله بن سالم عنه كذلك، ثم ساق المصنف الحديث من طريق ابن وهب عن يونس مثل رواية شبيب عن يونس لكن لم يسم أبا هريرة بل قال: "عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحاصل الاختلاف أن ابن وهب وشبيب بن سعيد اتفقا في روايتهما عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، ثم اختلفا فقال ابن سعيد "عن أبي هريرة" وقال ابن وهب عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر لأن في رواية ابن وهب زيادة على ما تقتضيه رواية ابن سعيد، وأما رواية عقيل وشعيب فإنما تخالفتا في بعض اللفظ، وخالف الجميع الزبيدي في السند، فيحمل على أنه كان عند الزهري بسندين فإنه حافظ وصاحب حديث، ودلت رواية الزبيدي على أن شبيب بن سعيد حفظ فيه أبا هريرة. وقد أعرض مسلم عن هذه الطرق كلها وأخرج من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة رفعه: "إني لأذود عن حوضي رجالا كما تذاد الغريبة عن الإبل" وأخرجه من وجه آخر عن أبي هريرة في أثناء حديث، وهذا المعنى لم يخرجه البخاري مع كثرة ما أخرج من الأحاديث في ذكر الحوض، والحكمة في الذود المذكور أنه صلى الله عليه وسلم يريد أنه يرشد كل أحد إلى حوض نبيه على ما تقدم أن لكل نبي حوضا وأنهم يتباهون بكثرة من يتبعهم فيكون ذلك من جملة إنصافه ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلا عليهم بالماء، ويحتمل أنه يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض والعلم عند الله تعالى. حديث أبي هريرة أخرجه من رواية فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء ابن يسار عنه ورجال سنده كلهم مدنيون، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي وأبي نعيم وسائر من استخرج على الصحيح فأخرجوه من عدة طرق عن البخاري عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن أبيه. قوله: "بينا أنا نائم" كذا بالنون للأكثر وللكشميهني: "قائم" بالقاف وهو أوجه، والمراد به قيامه على الحوض يوم القيامة، وتوجه الأولى بأنه رأى في المنام في الدنيا ما سيقع له في الآخرة. قوله: "ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم" المراد بالرجل الملك الموكل بذلك، ولم أقف على اسمه. قوله: "إنهم ارتدوا القهقرى" أي رجعوا إلى خلف، ومعنى قولهم رجع القهقرى رجع الرجوع المسمى بهذا الاسم وهو رجوع مخصوص وقيل معناه العدو الشديد. قوله: "فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم" يعني من هؤلاء الذين دنوا من الحوض

(11/474)


وكادوا يردونه فصدوا عنه، والهمل بفتحتين الإبل بلا راع. وقال الخطابي: الهمل ما لا يرعى ولا يستعمل ويطلق على الضوال، والمعنى أنه لا يرده منهم إلا القليل، لأن الهمل في الإبل قليل بالنسبة لغيره. حديث أبي هريرة "ما بين بيتي ومنبري" وفيه: "ومنبري على حوضي" تقدم شرحه في أواخر الحج والمراد بتسمية ذلك الموضع روضة أن تلك البقعة تنقل إلى الجنة فتكون روضة من رياضها، أو أنه على المجاز لكون العبادة فيه تئول إلى دخول العابد روضة الجنة وهذا فيه نظر إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة، والخبر مسوق لمزيد شرف تلك البقعة على غيرها، وقيل فيه تشبيه محذوف الأداة أي هو كروضة لأن من يقعد فيها من الملائكة ومؤمني الإنس والجن يكثرون الذكر وسائر أنواع العبادة. وقال الخطابي المراد من هذا الحديث الترغيب في سكنى المدينة وأن من لازم ذكر الله في مسجدها آل به إلى روضة الجنة وسقي يوم القيامة من الحوض. حديث جندب، وعبد الملك راويه عنه هو ابن عمير الكوفي، والفرط بفتح الفاء والراء السابق. قوله: "يزيد" هو ابن أبي حبيب، وأبو الخير هو مرثد بن عبد الله اليزني، وعقبة ابن عامر هو الجهني، وقد مر شرحه في كتاب الجنائز فيما يتعلق بالصلاة على الشهداء، وفي علامات النبوة فيما يتعلق بذلك، وقد تقدم الكلام على المنافسة في شرح حديث أبي سعيد في أوائل كتاب الرقاق هذا. قوله: "والله إني لأنظر إلى حوضي الآن" يحتمل أنه كشف له عنه لما خطب وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يريد رؤية القلب. وقال ابن التين: النكتة في ذكره عقب التحذير الذي قبله أنه يشير إلى تحذيرهم من فعل ما يقتضي إبعادهم عن الحوض، وفي الحديث عدة أعلام من أعلام النبوة كما سبق. قوله: "معبد بن خالد" هو الجدلي بفتح الجيم والمهملة من ثقات الكوفيين، ولهم معبد بن خالد اثنان غيره أحدهما أكبر منه وهو صحابي جهني والآخر أصغر منه وهو أنصاري مجهول. قوله: "حارثة بن وهب" هو الخزاعي، صحابي نزل الكوفة له أحاديث، وكان أخا عبيد الله بالتصغير ابن عمر بن الخطاب لأمه. قوله: "كما بين المدينة وصنعاء" قال ابن التين: يرد صنعاء الشام. قلت: ولا بعد في حمله على المتبادر هو صنعاء اليمن لما تقدم توجيهه، وقد تقدم في الحديث الخامس التقييد بصنعاء اليمن فليحمل المطلق عليه، ثم قال يحتمل أن يكون ما بين المدينة وصنعاء الشام قدر ما بينها وصنعاء اليمن وقدر ما بينها وبين أيلة وقدر ما بين جرباء وأذرح انتهى. وهو احتمال مردود فإنها متفاوتة إلا ما بين المدينة وصنعاء وبينها وصنعاء الأخرى والله أعلم. قوله: "وزاد ابن أبي عدي" هو محمد بن إبراهيم، وأبو عدي جده لا يعرف اسمه، ويقال بل هي كنية أبيه إبراهيم، وهو بصري ثقة كثير الحديث، وقد وصله مسلم والإسماعيلي من طريقه. قوله: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال حوضه" كذا لهم وفيه التفات. ووقع في رواية مسلم: "حوضي". قوله: "فقال له المستورد" بضم الميم وسكون المهملة وفتح المثناة بعدها واو ساكنة ثم راء مكسورة ثم مهملة هو ابن شداد بن عمرو بن حسل بكسر أوله وسكون ثانيه وإهمالهما ثم لام القرشي الفهري، صحابي بن صحابي، شهد فتح مصر وسكن الكوفة، ويقال مات سنة خمس وأربعين، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع، وحديثه مرفوع وإن لم يصرح به، وقد تقدم البحث فيما زاده من ذكر الأواني. قوله: "عن أسماء بنت أبي بكر" جمع مسلم بين حديث ابن أبي مليكة عن عبد الله ابن عمرو وحديثه عن أسماء، فقدم ذكر حديث عبد الله بن عمرو في صفة الحوض ثم قال بعد قوله لم يظمأ بعدها أبدا" قال وقالت أسماء بنت

(11/475)


أبي بكر" فذكره. قوله: "وسيؤخذ ناس دوني" هو مبين لقوله في حديث ابن مسعود في أوائل الباب ثم ليختلجن دوني وأن المراد طائفة منهم. قوله: "فأقول: يا رب مني ومن أمتي" فيه دفع لقول من حملهم على غير هذه الأمة. قوله: "هل شعرت ما عملوا بعدك" فيه إشارة إلى أنه لم يعرف أشخاصهم بأعيانها وإن كان قد عرف أنهم من هذه الأمة بالعلامة. قوله: "ما برحوا يرجعون على أعقابهم" أي يرتدون كما في حديث الآخرين. قوله: "قال ابن أبي مليكة" هو موصول بالسند المذكور، فقد أخرجه مسلم بلفظ: "قال فكان ابن أبي مليكة يقول". قوله: "أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا" أشار بذلك إلى أن الرجوع على العقب كناية عن مخالفة الأمر الذي تكون الفتنة سببه فاستعاذ منهما جميعا. قوله: "على أعقابكم تنكصون ترجعون على العقب" هو تفسير أبي عبيدة للآية وزاد: نكص رجع على عقبيه. "تنبيه": أخرج مسلم والإسماعيلي هذا الحديث عقب حديث عبد الله بن عمرو وهو الخامس، وكأن البخاري أخر حديث أسماء إلى آخر الباب لما في آخره من الإشارة الأخرية الدالة على الفراغ كما جرى بالاستقراء من عادته أنه يختم كل كتاب بالحديث الذي تكون فيه الإشارة إلى ذلك بأي لفظ اتفق.والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الرقاق من الأحاديث المرفوعة على مائة وثلاثة وتسعين حديثا، المعلق منها ثلاثة وثلاثون طريقا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى مائة وأربعة وثلاثون والخالص تسعة وخمسون وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر "كن في الدنيا كأنك غريب "وحديث ابن مسعود في الخالط وكذا حديث أنس فيه وحديث أبي بن كعب في نزول {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وحديث ابن مسعود "أيكم مال وارثه أحب إليه" وحديث أبي هريرة "أعذر الله إلى امرئ" وحديثه "الجنة أقرب إلى أحدكم" وحديثه "ما لعبدي المؤمن إذا قبضت صفيه" وحديث عبد الله بن الزبير "لو كان لابن آدم واد من ذهب" وحديث سهل بن سعد "من يضمن لي" وحديث أنس "إنكم لتعملون أعمالا" وحديث أبي هريرة "من عادى لي وليا" وحديثه "بعثت أنا والساعة كهاتين" وحديث في بعث النار، وحديث عمران في الجهنميين، وحديث أبي هريرة "لا يدخل أحد الجنة إلا أرى مقعده" وحديث عطاء بن يسار عن أبي هريرة فيمن يدفع عن الحوض فإن فيه زيادات ليست عند مسلم. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة عشر أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(11/476)


كتاب القدر
باب
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
82 – كِتَاب الْقَدَرِ
1 - بَاب فِي الْقَدَرِ
6594- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنِي سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا قَالَ آدَمُ إِلاَّ ذِرَاعٌ"
6595- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الأَجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ"
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم كتاب القدر" زاد أبو ذر عن المستملي باب في القدر وكذا للأكثر دون قوله: "كتاب القدر". والقدر بفتح القاف والمهملة قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال الراغب: القدر بوضعه يدل على القدرة وعلى المقدور الكائن بالعلم، ويتضمن الإرادة عقلا والقول نقلا، وحاصله وجود شيء في وقت وعلى حال بوفق العلم والإرادة والقول، وقدر الله الشيء بالتشديد قضاه ويجوز بالتخفيف. وقال ابن القطاع قدر الله الشيء جعله بقدر والرزق صنعه وعلى الشيء ملكه. ومضى في "باب التعوذ من جهد البلاء" في كتاب الدعوات ما قال ابن بطال في التفرقة بين القضاء والقدر. وقال الكرماني: المراد بالقدر حكم الله. وقالوا -أي العلماء- القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله. وقال أبو المظفر بن السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاره في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء العين ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سر من أسرار الله تعالى اختص العليم الخبير به وضرب دونه الأستار وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، وقيل إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف لهم قبل دخولها. انتهى وقد أخرج الطبراني بسند حسن من حديث ابن مسعود رفعه: "إذا ذكر القدر فأمسكوا" وأخرج مسلم من طريق طاووس: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر، وسمعت عبد الله بن عمر يقول:

(11/477)


"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس". قلت: والكيس بفتح الكاف ضد العجز ومعناه الحذق في الأمور، ويتناول أمور الدنيا والآخرة، ومعناه أن كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله ومشيئته، وإنما جعلهما في الحديث غاية لذلك للإشارة إلى أن أفعالنا وإن كانت معلومة لنا ومرادة منا فلا تقع مع ذلك منا إلا بمشيئة الله، وهذا الذي ذكره طاوس مرفوعا وموقوفا مطابق لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فإن هذه الآية نص في أن الله خالق كل شيء ومقدره وهو أنص من قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} واشتهر على ألسنة السلف والخلف أن هذه الآية نزلت في القدرية. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة "جاء مشركو قريش يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت". وقد تقدم في الكلام على سؤال جبريل في كتاب الإيمان شيء من هذا وأن الإيمان بالقدر من أركان الأيمان، وذكر هناك بيان مقالة القدرية بما أغنى عن إعادته. ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} . قوله: "أبو الوليد" هو الطيالسي. قوله: "أنبأني سليمان الأعمش" سيأتي في التوحيد من رواية آدم عن شعبة بلفظ: "حدثنا الأعمش" ويؤخذ منه أن التحديث والإنباء عند شعبة بمعنى واحد، ويظهر به غلط من نقل عن شعبة أنه يستعمل الإنباء في الإجازة لكونه صرح بالتحديث، ولثبوت النقل عنه أنه لا يعتبر الإجازة ولا يروى بها. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود، ووقع في رواية آدم "سمعت عبد الله بن مسعود". قوله: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق" قال الطيبي: يحتمل أن تكون الجملة حالية ويحتمل أن تكون اعتراضية وهو أولى لتعم الأحوال كلها وأن ذلك من دأبه وعادته، والصادق معناه المخبر بالقول الحق، ويطلق على الفعل يقال صدق القتال وهو صادق فيه، والمصدوق معناه الذي يصدق له في القول يقال: صدقته الحديث إذا أخبرته به إخبارا جازما، أو معناه الذي صدقه الله تعالى وعده. وقال الكرماني: لما كان مضمون الخبر أمرا مخالفا لما عليه الأطباء أشار بذلك إلى بطلان ما ادعوه، ويحتمل أنه قال ذلك تلذذا به وتبركا وافتخارا، ويؤيده وقوع هذا اللفظ بعينه في حديث أنس ليس فيه إشارة إلى بطلان شيء يخالف ما ذكر، وهو ما أخرجه أبو داود من حديث المغيرة بن شعبة "سمعت الصادق المصدوق يقول: لا تنزع الرحمة إلا من شقي" ومضى في علامات النبوة من حديث أبي هريرة "سمعت الصادق المصدوق يقول هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش" وهذا الحديث اشتهر عن الأعمش بالسند المذكور هنا، قال علي بن المديني في "كتاب العلل": كنا نظن أن الأعمش تفرد به حتى وجدناه من رواية سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب. قلت: وروايته عند أحمد والنسائي، ورواه حبيب بن حسان عن زيد بن وهب أيضا وقع لنا في "الحلية"، ولم ينفرد به زيد عن ابن مسعود بل رواه عنه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عند أحمد، وعلقمة عند أبي يعلى، وأبو وائل في فوائد تمام، ومخارق بن سليم وأبو عبد الرحمن السلمي كلاهما عند الفريابي في كتاب القدر، وأخرجه أيضا من رواية طارق ومن رواية أبي الأحوص الجشمي كلاهما عن عبد الله مختصرا، وكذا لأبي الطفيل عند مسلم، وناجية بن كعب في "فوائد العيسوي" وخيثمة بن عبد الرحمن عند الخطابي وابن أبي حاتم، ولم يرفعه بعض هؤلاء عن ابن مسعود؛ ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن مسعود جماعة من الصحابة مطولا ومختصرا، منهم أنس وقد ذكر عقب هذا، وحذيفة بن أسيد عند مسلم، وعبد الله بن عمر في القدر لابن

(11/478)


وهب، وفي أفراد الدار قطني، وفي مسند البزار من وجه آخر ضعيف، والفريابي بسند قوي، وسهل بن سعد وسيأتي في هذا الكتاب، وأبو هريرة عند مسلم، وعائشة عند أحمد بسند صحيح، وأبو ذر عند الفريابي، ومالك بن الحويرث عند أبي نعيم في الطب والطبراني، ورباح اللخمي عند ابن مردويه في التفسير، وابن عباس في فوائد المخلص من وجه ضعيف، وعلى في الأوسط للطبراني من وجه ضعيف، وعبد الله بن عمرو في الكبير بسند حسن، والعرس بن عميرة عند البزار بسند جيد، وأكثم بن أبي الجون عند الطبراني، وابن منده بسند حسن، وجابر عند الفريابي، وقد أشار الترمذي في الترجمة إلى أبي هريرة وأنس فقط، وقد أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن بضع وعشرين نفسا من أصحاب الأعمش منهم من أقرانه سليمان التيمي وجرير بن حازم وخالد الحداء، ومن طبقة شعبة الثوري وزائدة وعمار بن زريق وأبو خيثمة، ومما لم يقع لأبي عوانة رواية شريك عن الأعمش وقد أخرجها النسائي في التفسير، ورواية ورقاء بن عمر ويزيد بن عطاء وداود بن عيسى أخرجها تمام، وكنت خرجته في جزء من طرق نحو الأربعين نفسا عن الأعمش فغاب عني الآن، ولو أمعنت التتبع لزادوا على ذلك. قوله: "إن أحدكم" قال أبو البقاء في إعراب المسند: لا يجوز في أن إلا الفتح لأنه مفعول حدثنا فلو كسر لكان منقطعا عن قوله حدثنا، وجزم النووي في شرح مسلم بأنه بالكسر على الحكاية وجوز الفتح، وحجة أبي البقاء أن الكسر على خلاف الظاهر ولا يجوز العدول عنه إلا لمانع، ولو جاز من غير أن يثبت به النقل لجاز في مثل قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} وقد اتفق القراء على أنها بالفتح. وتعقبه الخوبي بأن الرواية جاءت بالفتح وبالكسر فلا معنى للرد. قلت: وقد جزم ابن الجوزي بأنه في الرواية بالكسر فقط، قال الخوبي: ولو لم تجيء به الرواية لما امتنع جوازا على طريق الرواية بالمعنى، وأجاب عن الآية بأن الوعد مضمون الجملة وليس بخصوص لفظها فلذلك اتفقوا على الفتح، فأما هنا فالتحديث يجوز أن يكون بلفظه وبمعناه. قوله: "يجمع في بطن أمه" كذا لأبي ذر عن شيخيه، وله عن الكشميهني: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه" وهي روية آدم في التوحيد وكذا للأكثر عن الأعمش. وفي رواية أبي الأحوص عنه "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه" وكذا لأبي معاوية ووكيع وابن نمير. وفي رواية ابن فضيل ومحمد بن عبيد عند ابن ماجه: "إنه يجمع خلق أحدكم في بطن أمه" وفي رواية شريك مثل آدم لكن قال: "ابن آدم" يدل "أحدكم" والمراد بالجمع ضم بعضه إلى بعض بعد الانتشار. وفي قوله: "خلق" تعبير بالمصدر عن الجثة وحمل على أنه بمعنى المفعول كقولهم: هذا درهم ضرب الأمير أي مضروبه، أو على حذف مضاف أي ما يقوم به خلق أحدكم، أو أطلق مبالغة كقوله: "وإنما هي إقبال وإدبار" جعلها نفس الإقبال والإدبار لكثرة وقوع ذلك منها، قال القرطبي في "المفهم": المراد أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثا متفرقا فيجمعه الله في محل الولادة من الرحم. قوله: "أربعين يوما" زاد في رواية آدم "أو أربعين ليله" وكذا لأكثر الرواة عن شعبة بالشك. وفي رواية يحيى القطان ووكيع وجرير وعيسى بن يونس "أربعين يوما" بغير شك. وفي رواية سلمة بن كهيل "أربعين ليلة" بغير شك، ويجمع بأن المراد يوم بليلته أو ليلة بيومها، ووقع عند أبي عوانة من رواية وهب بن جرير عن شعبة مثل رواية آدم لكن زاد: "نطفة" بين قوله: "أحدكم" وبين قوله: "أربعين" فبين أن الذي يجمع هو النطفة، والمراد بالنطفة المني وأصله الماء الصافي القليل، والأصل في ذلك أن ماء الرجل إذا لاقى ماء المرأة بالجماع وأراد الله أن

(11/479)


يخلق من ذلك جنينا هيأ أسباب ذلك، لأن في رحم المرأة قوتين: قوة انبساط عند ورود مني الرجل حتى ينتشر في جسد المرأة، وقوة انقباض بحيث لا يسيل من فرجها مع كونه منكوسا ومع كون المني ثقيلا بطبعه، وفي مني الرجل قوة الفعل وفي مني المرأة قوة الانفعال، فعند الامتزاج يصير مني الرجل كالأنفحة للبن، وقيل في كل منهما قوة فعل وانفعال لكن الأول في الرجل أكثر وبالعكس في المرأة، وزعم كثير من أهل التشريح أن مني الرجل لا أثر له في الولد إلا في عقده وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تبطل ذلك، وما ذكر أولا أقرب إلى موافقة الحديث والله أعلم. قال ابن الأثير في النهاية: يجوز أن يريد بالجمع مكث النطفة في الرحم، أي تمكس النطفة أربعين يوما تخمر فيه حتى تتهيأ للتصوير ثم تخلق بعد ذلك، وقيل إن ابن مسعود فسره بأن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشرا طارت في جسد المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تنزل دما في الرحم فذلك جمعها. قلت: هذا التفسير ذكره الخطابي، وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير من رواية الأعمش أيضا عن خيثمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، وقوله: "فذلك جمعها" كلام الخطابي أو تفسير بعض رواة حديث الباب وأظنه الأعمش، فظن ابن الأثير أن تتمة كلام ابن مسعود فأدرجه فيه، ولم يتقدم عن ابن مسعود في رواية خيثمة ذكر الجمع حتى يفسره، وقد رجح الطيبي هذا التفسير فقال: الصحابي أعلم بتفسير ما سمع وأحق بتأويله وأولى بقبول ما يتحدث به وأكثر احتياطا في ذلك من غيره فليس لمن بعده أن يتعقب كلامه. قلت: وقد وقع في حديث مالك بن الحويرث رفعه ما ظاهره يخالف التفسير المذكور ولفظه: "إذا أراد الله خلق عبد فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في عرق وعضو منها، فإذا كان يوم السابع جمعه الله ثم أحضره كل عرق له دون آدم {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وفي لفظ: "ثم تلا: {أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وله شاهد من حديث رباح اللخمي لكن ليس فيه ذكر يوم السابع. وحاصله أن في هذا زيادة تدل على أن الشبه يحصل في اليوم السابع، وأن فيه ابتداء جمع المني، وظاهر الروايات الأخرى أن ابتداء جمعه من ابتداء الأربعين. وقد وقع في رواية عبد الله بن ربيعة عن ابن مسعود أن النطفة التي تقضي منها النفس إذا وقعت في الرحم كانت في الجسد أربعين يوما ثم تحادرت دما فكانت علقة. وفي حديث جابر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أربعين يوما أو ليلة أذن الله في خلقها. ونحوه في حديث عبد الله بن عمرو، وفي حديث حذيفة بن أسيد من رواية عكرمة بن خالد عن أبي الطفيل عنه أن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك. وكذا في رواية يوسف المكي عن أبي الطفيل عند الفريابي. وعنده وعند مسلم من رواية عمرو بن الحارث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل "إذا مر بالنطفة ثلاث وأربعون" وفي نسخة "ثنتان وأربعون ليلة" وفي رواية ابن جريج عن أبي الزبير عند أبي عوانة "ثنتان وأربعون" وهي عند مسلم لكن لم يسق لفظها قال مثل عمرو بن الحارث. وفي رواية ربيعة بن كلثوم عن أبي الطفيل عند مسلم أيضا: "إذا أراد الله أن يخلق شيئا يأذن له لبضع وأربعين ليلة". وفي رواية عمرو بن دينار عن أبي الطفيل "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين" وهكذا رواه ابن عيينة عن عمرو عند مسلم، ورواه الفريابي من طريق محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو فقال: "خمسة وأربعين ليلة فجزم بذلك" فحاصل الاختلاف أن حديث ابن مسعود لم يختلف في ذكر الأربعين، وكذا في كثير من الأحاديث وغالبها كحديث أنس ثاني حديثي الباب لا تحديد فيه، وحديث حذيفة بن أسيد اختلفت ألفاظ نقلته: فبعضهم

(11/480)


جزم بالأربعين كما في حديث ابن مسعود، وبعضهم زاد ثنتين أو ثلاثا أو خمسا أو بضعا، ثم منهم من جزم ومنهم من تردد، وقد جمع بينها القاضي عياض بأنه ليس في رواية ابن مسعود بأن ذلك يقع عند انتهاء الأربعين الأولى وابتداء الأربعين الثانية بل أطلق الأربعين، فاحتمل أن يرد أن ذلك يقع في أوائل الأربعين الثانية، ويحتمل أن يجمع الاختلاف في العدد الزائد على أنه بحسب اختلاف الأجنة، وهو جيد لو كانت مخارج الحديث مختلفة، لكنها متحدة وراجعة إلى أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد، فدل على أنه لم يضبط القدر الزائد على الأربعين والخطب فيه سهل، وكل ذلك لا يدفع الزيادة التي في حديث مالك بن الحويرث في إحضار الشبه في اليوم السابع، وأن فيه يبتدئ الجمع بعد الانتشار، وقد قال ابن منده إنه حديث متصل على شرط الترمذي والنسائي، واختلاف الألفاظ بكونه في البطن وبكونه في الرحم لا تأثير له لأنه في الرحم حقيقة والرحم في البطن، وقد فسروا قوله تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} بأن المراد ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة البطن، فالمشيمة في الرحم والرحم في البطن. قوله: "ثم علقة مثل ذلك" في رواية آدم "ثم تكون علقة مثل ذلك" وفي رواية مسلم: "ثم تكون في ذلك علقة" مثل ذلك و"تكون" هنا بمعنى "تصير" ومعناه أنها تكون بتلك الصفة مدة الأربعين ثم تنقلب إلى الصفة التي تليها، ويحتمل أن يكون المراد تصيرها شيئا فشيئا، فيخالط الدم النطفة في الأربعين الأولى بعد انعقادها وامتدادها، وتجري في أجزائها شيئا فشيئا حتى تتكامل علقة في أثناء الأربعين، ثم يخالطها اللحم شيئا فشيئا إلى أن تشتد فتصير مضغة ولا تسمى علقة قبل ذلك ما دامت نطفة، وكذا ما بعد ذلك من زمان العلقة والمضغة. وأما ما أخرجه أحمد من طريق أبي عبيده قال قال عبد الله رفعه: "إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما على حالها لا تتغير" ففي سنده ضعف وانقطاع، فإن كان ثابتا حمل نفي التغير على تمامه، أي لا تنتقل إلى وصف العلقة إلا بعد تمام الأربعين، ولا ينفي أن المني يستحيل في الأربعين الأولى دما إلى أن يصير علقة انتهى. وقد نقل الفاضل على بن المهذب الحموي الطبيب اتفاق الأطباء على أن خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين، وفيها تتميز أعضاء الذكر دون الأنثى لحرارة مزاجه وقواه وأعبد إلى قوام المني الذي تتكون أعضاؤه منه ونضجه فيكون أقبل للشكل والتصوير، ثم يكون علقة مثل ذلك، والعلقة قطعة دم جامد، قالوا: وتكون حركة الجنين في ضعف المدة التي يخلق فيها، ثم يكون مضغة مثل ذلك أي لحمة صغيرة وهي الأربعون الثالثة فتتحرك، قال: واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. وذكر الشيخ شمس الدين ابن القيم أن داخل الرحم خشن كالسفنج، وجعل فيه قبولا للمني كطلب الأرض العطشى للماء فجعله طالبا مشتاقا إليه بالطبع، فلذلك يمسكه ويشتمل عليه ولا يزلقه بل ينضم عليه لئلا يفسده الهواء، فيأذن الله لملك الرحم في عقده وطبخه أربعين يوما وفي تلك الأربعين يجمع خلقه. قالوا: إن المني إذا اشتمل عليه الرحم ولم يقذفه استدار على نفسه واشتد إلى تمام ستة أيام فينقط فيه ثلاث نقط في مواضع القلب والدماغ والكبد، ثم يظهر فيما بين تلك النقط خطوط خمسة إلى تمام ثلاثة أيام، ثم تنفذ الدموية فيه إلى تمام خمسة عشر فتتميز الأعضاء الثلاثة، ثم تمتد رطوبة النخاع إلى تمام اثني عشر يوما ثم ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع والبطن عن الجنين في تسعة أيام، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس في أربعة أيام فيكمل أربعين يوما، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "يجمع خلقه في أربعين يوما" وفيه تفصيل ما أجمل فيه، ولا ينافي ذلك قوله: "ثم تكون علقة مثل ذلك" فإن العلقة وإن كانت قطعة دم لكنها في هذه

(11/481)


الأربعين الثانية تنتقل عن صورة المني ويظهر التخطيط فيها ظهورا خفيا على التدريج، ثم يتصلب في الأربعين يوما بتزايد ذلك التخليق شيئا فشيئا حتى يصير مضغة مخلقة ويظهر للحس ظهورا لا خفاء به. وعند تمام الأربعين الثالثة والطعن في الأربعين الرابعة ينفخ فيه الروح كما وقع في هذا الحديث الصحيح، وهو ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، حتى قال كثير من فضلاء الأطباء وحذاق الفلاسفة إنما يعرف ذلك بالتوهم والظن البعيد، واختلفوا في النقطة الأولى أيها أسبق والأكثر نقط القلب. وقال قوم: أول ما يخلق منه السرة لأن حاجته من الغذاء أشد من حاجته إلى آلات قواه، فإن من السرة ينبعث الغذاء، والحجب التي على الجنين في السرة كأنها مربوط بعضها ببعض والسرة في وسطها ومنها يتنفس الجنين ويتربى وينجذب غذاؤه منها. قوله: "ثم يكون مضغة مثل ذلك" في رواية آدم "مثله" وفي رواية مسلم كما قال في العلقة، والمراد مثل مدة الزمان المذكور في الاستحالة، والعلقة الدم الجامد الغليظ سمى بذلك للرطوبة التي فيه وتعلقه بما مر به، والمضغة قطعة اللحم سميت بذلك لأنها قدر ما يمضغ الماضغ. قوله: "ثم يبعث الله ملكا" في رواية الكشميهني: "ثم يبعث إليه ملك" وفي رواية آدم كالكشميهني لكن قال: "الملك" ومثله لمسلم بلفظ: "ثم يرسل الله" واللام فيه للعهد، والمراد به عهد مخصوص وهو جنس الملائكة الموكلين بالأرحام، كما ثبت في رواية حذيفة بن أسيد من رواية ربيعة بن كلثوم "أن ملكا موكلا بالرحم" ومن رواية عكرمة بن خالد "ثم يتسور عليها الملك الذي يخلقها"، وهو بتشديد اللام. وفي رواية أبي الزبير عند الفريابي "أتى ملك الأرحام" وأصله عند مسلم لكن بلفظ: "بعث الله ملكا" وفي حديث ابن عمر "إذا أراد الله أن يخلق النطفة قال ملك الأرحام" وفي ثاني حديثي الباب عن أنس "وكل الله بالرحم ملكا" وقال الكرماني: إذا ثبت أن المراد بالملك من جعل إليه أمر تلك الرحم فكيف يبعث أو يرسل؟ وأجاب بأن المراد أن الذي يبعث بالكلمات غير الملك الموكل بالرحم الذي يقول يا رب نطفة إلخ، ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد بالبعث أنه يؤمر بذلك. قلت: وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، وبه جزم القاضي عياض وغيره. وقد وقع في رواية يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة عن الأعمش "إذا استقرت النطفة في الرحم أخذها الملك بكفه فقال: أي رب أذكر أو أنثى"؟ الحديث وفيه: "فيقال انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد ذلك" فينبغي أن يفسر الإرسال المذكور بذلك. واختلف في أول ما يتشكل من أعضاء الجنين فقيل قلبه لأنه الأساس وهو معدن الحركة الغريزية، وقيل الدماغ لأنه مجمع الحواس ومنه ينبعث، وقيل الكبد لأن فيه النمو والاغتذاء الذي هو قوام البدن، ورجحه بعضهم بأنه مقتضى النظام الطبيعي، لأن النمو هو المطلوب أولا ولا حاجة له حينئذ إلى حس ولا حركة إرادية لأنه حينئذ بمنزلة النبات، وإنما يكون له قوة الحس والإرادة عند تعلق النفس به فيقدم الكبد ثم القلب ثم الدماغ. قوله: "فيؤمر بأربعة" في رواية الكشميهني: "بأربع" والمعدود إنما أبهم جاز تذكيره وتأنيثه، والمعنى أنه يؤمر بكتب أربعة أشياء من أحوال الجنين. وفي رواية آدم "فيؤمر بأربع كلمات" وكذا للأكثر، والمراد بالكلمات القضايا المقدرة، وكل قضية تسمى كلمة. قوله: "برزقه وأجله وشقي أو سعيد" كذا وقع في هذه الرواية ونقص منها ذكر العمل وبه تتم الأربع، وثبت قوله: "وعمله" في رواية آدم. وفي رواية أبي الأحوص عن الأعمش "فيؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب" فذكر الأربع، وكذا لمسلم والأكثر. وفي رواية لمسلم أيضا: "فيؤمر بأربع كلمات ويقال رزقه إلخ" وضبط بكتب بوجهين أحدهما بموحدة مكسورة وكاف مفتوحة

(11/482)


ومثناة ساكنة ثم موحدة على البدل، والآخر بتحتانية مفتوحة بصيغة الفعل المضارع، وهو أوجه لأنه وقع في رواية آدم "فيؤذن بأربع كلمات فيكتب" وكذا في رواية أبي داود وغيره، وقوله: "سقي أو سعيد" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، وتكلف الخوبي في قوله إنه يؤمر بأربع كلمات فيكتب منها ثلاثا والحق أن ذلك من تصرف الرواة، والمراد أنه يكتب لكل أحد إما السعادة وإما الشقاء، ولا يكتبهما لواحد معا، وإن أمكن وجودهما منه لأن الحكم إذا اجتمعا للأغلب وإذا ترتبا فللخاتمة فلذلك اقتصر على أربع وإلا لقال خمس، والمراد من كتابة الرزق تقديره قليلا أو كثيرا وصفته حراما أو حلالا، وبالأجل هل هو طويل أو قصير، وبالعمل هو صالح أو فاسد. ووقع لأبي داود من رواية شعبة والثوري جميعا عن الأعمش "ثم يكتب شقيا أو سعيدا" ومعنى قوله شقي أو سعيد أن الملك يكتب إحدى الكلمتين كأن يكتب مثلا أجل هذا الجنين كذا ورزقه كذا وعمله كذا وهو شقي باعتبار ما يختم له وسعيد باعتبار ما يختم له كما دل عليه بقية الخبر، وكان ظاهر السياق أن يقول ويكتب شقاوته وسعادته لكن عدل عن ذلك لأن الكلام مسوق إليهما والتفصيل وارد عليهما، أشار إلى ذلك الطيبي. ووقع في حديث أنس ثاني حديثي الباب: "إن الله وكل بالرحم ملكا فيقول: أي رب أذكر أو أنثى" وفي حديث عبد الله بن عمرو "إذا مكثت النطفة في الرحم أربعين ليلة جاءها ملك فقال: اخلق يا أحسن الخالقين، فيقضي الله ما شاء ثم يدفع إلى الملك فيقول: يا رب أسقط أم تام؟ فيبين له، ثم يقول: أواحد أم توأم؟ فيبين له، فيقول أذكر أم أنثى؟ فيبين له، ثم يقول: أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له، ثم يقول: أشقى أم سعيد؟ فيبين له. ثم يقطع له رزقه مع خلقه فيهبط بهما، ووقع في غير هذه الرواية أيضا زيادة على الأربع، ففي رواية عبد الله بن ربيعة عن ابن مسعود "فيقول اكتب رزقه وأثره وخلقه وشقي أو سعيد" وفي رواية خصيف عن أبي الزبير عن جابر من الزيادة "أي رب مصيبته، فيقول كذا وكذا" وفي حديث أبي الدرداء عند أحمد والفريابي "فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من عمله وأجله ورزقه وأثره ومضجعه" وأما صفة الكتابة فظاهر الحديث أنها الكتابة المعهودة في صحيفته، ووقع ذلك صريحا في رواية لمسلم في حديث حذيفة بن أسيد "ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص" وفي رواية الفريابي "ثم تطوى تلك الصحيفة إلى يوم القيامة" ووقع في حديث أبي ذر "فيقضي الله ما هو قاض فيكتب ما هو لاق بين عينيه. وتلا أبو ذر خمس آيات من فاتحة سورة التغابن" ونحوه في حديث ابن عمر في صحيح ابن حبان دون تلاوة الآية وزاد: "حتى النكبة ينكبها" وأخرجه أبو داود في "كتاب القدر المفرد" قال ابن أبي جمرة في الحديث في رواية أبي الأحوص: يحتمل أن يكون المأمور بكتابته الأربع المأمور بها ويحتمل غيرها، والأول أظهر لما بينته بقية الروايات، وحديث ابن مسعود بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوما في ثلاثة أطوار كل طور منها في أربعين ثم بعد تكملتها ينفخ فيه الروح، وقد ذكر الله تعالى هذه الأطوار الثلاثة من غير تقييد بمدة في عدة سور، منها في الحج وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في كتاب الحيض في "باب مخلقة وغير مخلقة" ودلت الآية المذكور على أن التخليق يكون للمضغة، وبين الحديث أن ذلك يكون فيها إذا تكاملت الأربعين وهي المدة التي إذا انتهت سميت مضغه، وذكر الله النطفة ثم العلقة ثم المضغة في سور أخرى وزاد في سورة قد أفلح بعد المضغة "فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما" الآية، ويؤخذ منها ومن حديث الباب أن تصير المضغة عظاما بعد نفخ الروح، ووقع في آخر رواية أبي عبيدة المتقدم ذكرها قريبا بعد

(11/483)


ذكر المضغة "ثم تكون عظاما أربعين ليلة ثم يكسوا الله العظام لحما" وقد رتب الأطوار في الآية بالفاء لأن المراد أنه لا يتخلل بين الطورين طور آخر، ورتبها في الحديث بثم إشارة إلى المدة التي تتخلل بين الطورين ليتكامل فيها الطور، وإنما أتى بثم بين النطفة والعلقة لان النطفة قد لا تتكون إنسانا، وأتى بثم في آخر الآية عند قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} ليدل على ما يتجدد له بعد الخروج من بطن أمه. وأما الإتيان بثم في أول القصة بين السلالة والنطفة فللإشارة إلى ما تخلل بين خلق آدم وخلق ولده، ووقع له حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم ما ظاهره يخالف حديث ابن مسعود ولفظه: "إذا مر بالنطفة ثلاث وأربعون -وفي نسخة ثنتان وأربعون- ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال: أي رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله" الحديث. هذه رواية عمرو بن الحارث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد في مسلم، ونسبها عياض في ثلاثة مواضع من شرح هذا الحديث إلى رواية ابن مسعود وهو وهم، وإنما لابن مسعود في أول الرواية ذكر في قوله: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره" فقط وبقية الحديث إنما هو لحذيفة بن أسيد، وقد أخرجه جعفر الفريابي من طريق يوسف المكي عن أبي الطفيل عنه بلفظ: "إذا وقعت النطفة في الرحم ثم استقرت أربعين ليلة قال فيجيء ملك الرحم فيدخل فيصور له عظمه ولحمه وشعره وبشره وسمعه وبصره ثم يقول: أي رب أذكر أو أنثى" الحديث. قال القاضي عياض: وحمل هذا على ظاهره لا يصح لأن التصوير بأثر النطفة وأول العلقة في أول الأربعين الثانية غير موجود ولا معهود، وإنما يقع التصوير في آخر الأربعين الثالثة كما قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} الآية قال: فيكون معنى قوله: "فصورها إلخ "أي كتب ذلك ثم يفعله بعد ذلك بدليل قوله بعد "أذكر أو أنثى" قال: وخلقه جميع الأعضاء والذكورية والأنوثية يقع في وقت متفق وهو مشاهد فيما يوجد من أجنة الحيوان وهو الذي تقتضيه الخلقة واستواء الصورة، ثم يكون للملك فيه تصور آخر وهو وقت نفخ الروح فيه حين يكمل له أربعة أشهر، كما اتفق عليه العلماء أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. انتهى ملخصا. وقد بسطه ابن الصلاح في فتاويه فقال ما ملخصه: أعرض البخاري عن حديث حذيفة بن أسيد إما لكونه من رواية أبي الطفيل عنه وإما لكونه لم يره ملتئما مع حديث ابن مسعود وحديث ابن مسعود لا شك في صحته، وأما مسلم فأخرجهما معا فاحتجنا إلى وجه الجمع بينهما بأن يحمل إرسال الملك على التعدد، فمرة في ابتداء الأربعين الثانية وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح، وأما قوله في حديث حذيفة في ابتداء الأربعين الثانية "فصورها" فإن ظاهر حديث ابن مسعود أن التصوير إنما يقع بعد أن تصير مضغة فيحمل الأول على أن المراد أنه يصورها لفظا وكتبا لا فعلا، أي يذكر كيفية تصويرها ويكتبها، بدليل أن جعلها ذكرا أو أنثى إنما يكون عند المضغة. قلت: وقد نوزع في أن التصوير حقيقة إنما يقع في الأربعين الثالثة بأنه شوهد في كثير من الأجنة التصوير في الأربعين الثانية وتمييز الذكر على الأنثى، فعلى هذا فيحتمل أن يقال أول ما يبتدئ به الملك تصوير ذلك لفظا وكتبا ثم يشرع فيه فعلا عند استكمال العلقة، ففي بعض الأجنة يتقدم ذلك وفي بعضها يتأخر، ولكن بقي في حديث حذيفة بن أسيد أنه ذكر العظم واللحم وذلك لا يكون إلا بعد أربعين العلقة فيقوى ما قال عياض ومن تبعه. قلت: وقال بعضهم يحتمل أن يكون الملك عند انتهاء الأربعين الأولى يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى

(11/484)


أجزاء بحسب الأعضاء أو يقسم بعضها إلى جلد وبعضها إلى لحم وبعضها إلى عظم فيقدر ذلك كله قبل وجوده ثم يتهيأ ذلك في آخر الأربعين الثانية ويتكامل في الأربعين الثالثة. وقال بعضهم معنى حديث ابن مسعود أن النطفة يغلب عليها وصف المنى في الأربعين الأولى ووصف العلقة في الأربعين الثانية ووصف المضغة في الأربعين الثالثة ولا ينافي ذلك أن يتقدم تصويره. والراجح أن التصوير إنما يقع في الأربعين الثالثة. وقد أخرج الطبري من طريق السدي في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} قال عن مرة الهمداني عن ابن مسعود -وذكر أسانيد أخرى- قالوا: إذا وقعت النطفة في الرحم طارت في الجسد أربعين يوما ثم تكون علقة أربعين يوما ثم تكون مضغة أربعين يوما، فإذا أراد الله أن يخلقها بعث ملكا فصورها كما يؤمر، ويؤيده حديث أنس ثاني حديثي الباب حيث قال بعد ذكر النطفة ثم العلقة ثم المضغة "فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب أذكر أم أنثى" الحديث. ومال بعض الشراح المتأخرون إلى الأخذ بما دل عليه حديث حذيفة بن أسيد من أن التصوير والتخليق يقع في أواخر الأربعين الثانية حقيقة. قال: وليس في حديث ابن مسعود ما يدفعه. واستند إلى قول بعض الأطباء أن المني إذا حصل في الرحم حصل له زبدية ورغوة في ستة أيام أو سبعة من غير استمداد من الرحم ثم يستمد من الرحم ويبتدئ فيه الخطوط بعد ثلاثة أيام أو نحوها ثم في الخامس عشر ينفذ الدم إلى الجميع فيصير علقة ثم تتميز الأعضاء وتمتد رطوبة النخاع وينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الأصابع تمييزا يظهر في بعض ويخفى في بعض وينتهي ذلك إلى ثلاثين يوما في الأقل وخمسة وأربعين في الأكثر لكن لا يوجد سقط ذكر قبل ثلاثين ولا أنثى قبل خمسة وأربعين، قال: فيكون قوله: "فيكتب" معطوفا على قوله: "يجمع" وأما قوله: "ثم يكون علقة مثل ذلك" فهو من تمام الكلام الأول وليس المراد أن الكتابة لا تقع إلا عند انتهاء الأطوار الثلاثة، فيحمل على أنه من ترتيب الأخبار لا من ترتيب المخبر به، ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة برواياتهم بالمعنى في الذي يفهمونه. كذا قال، والحمل على ظاهر الأخبار أولى، وغالب ما نقل عن هؤلاء دعاوي لا دلالة عليها. قال ابن العربي: الحكمة في كون الملك يكتب ذلك كونه قابلا للنسخ والمحو والإثبات، بخلاف ما كتبه الله تعالى فإنه لا يتغير. قوله: "ثم ينفخ فيه الروح" كذا ثبت في رواية آدم عن شعبة في التوحيد؛ وسقط في هذه الرواية، ووقع في رواية مسلم من طريق أبي معاوية وغيره: "ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات" وظاهره قبل الكتابة، ويجمع بأن رواية آدم صريحة في تأخير النفخ للتعبير بقوله ثم، والرواية الأخرى محتملة فترد إلى الصريحة لأن الواو لا ترتب فيجوز أن تكون معطوفة على الجملة التي تليها وأن تكون معطوفة على جملة الكلام المتقدم، أي يجمع خلقه في هذه الأطوار ويؤمر الملك بالكتب، وتوسط قوله: "ينفخ فيه الروح" بين الجمل فيكون من ترتيب الخبر على الخبر لا من ترتيب الأفعال المخبر عنها. ونقل ابن الزملكاني عن ابن الحاجب في الجواب عن ذلك أن العرب إذا عبرت عن أمر بعده أمور متعددة ولبعضها تعلق بالأول حسن تقديمه لفظا على البقية وإن كان بعضها متقدما عليه وجودا، وحسن هنا لأن القصد ترتيب الخلق الذي سبق الكلام لأجله. وقال عياض: اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم يختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوما وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وغير ذلك بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل إنه الحكمة في عدة المرأة من

(11/485)


الوفاة بأربعة أشهر وعشر وهو الدخول في الخامس، وزيادة حذيفة بن أسيد مشعرة بأن الملك لا يأتي لرأس الأربعين بل بعدها فيكون مجموع ذلك أربعة أشهر وعشرا، وهو مصرح به في حديث ابن عباس "إذا وقعت النطفة في الرحم مكثت أربعة أشهر وعشرا، ثم ينفخ فيها الروح" وما أشار إليه من عدة الوفاة جاء صريحا عن سعيد بن المسيب: فأخرج الطبري عنه أنه سئل عن عدة الوفاة فقيل له: ما بال العشرة بعد الأربعة أشهر؟ فقال: ينفخ فيها الروح. وقد تمسك به من قال كالأوزاعي وإسحاق.إن عدة أم الولد مثل عدة الحرة، وهو قوى لأن الغرس استبراء الرحم فلا فرق فيه بين الحرة والأمة، فيكون معنى قوله: "ثم يرسل إليه الملك" أي لتصويره وتخليقه وكتابة ما يتعلق به، فينفخ فيه الروح إثر ذلك كما دلت عليه رواية البخاري وغيره. ووقع في حديث علي بن عبد الله عند ابن أبي حاتم" إذا تمت للنطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكا فينفخ فيها الروح فذلك قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} وسنده منقطع، وهذا لا ينافي التقييد بالعشرة الزائدة. ومعنى في إسناد النفخ للملك أنه يفعله بأمر الله، والنفخ في الأصل إخراج ريح من جوف النافخ ليدخل في المنفوخ فيه، والمراد بإسناده إلى الله تعالى أن يقول له كن فيكون. وجمع بعضهم بأن الكتابة تقع مرتين: فالكتابة الأولى في السماء والثانية في بطن المرأة، ويحتمل أن تكون إحداهما في صحيفة والأخرى على جبين المولود، وقيل يختلف باختلاف الأجنة فبعضها كذا وبعضها كذا والأول أولى. قوله: "فوالله إن أحدكم" في رواية آدم "فإن أحدكم" ومثله لأبي داود عن شعبة وسفيان جميعا. وفي رواية أبي الأحوص "فإن الرجل منكم ليعمل" ومثله في رواية حفص دون قوله: "منكم" وفي رواية ابن ماجه: "فوالذي نفسي بيده" وفي رواية مسلم والترمذي وغيرهما: "فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل" لكن وقع عند أبي عوانة وأبي نعيم في مستخرجيهما من طريق يحيى القطان عن الأعمش قال: "فوالذي لا إله غيره" وهذه محتملة لأن يكون القائل النبي صلى الله عليه وسلم فيكون الخبر كله مرفوعا، ويحتمل أن يكون بعض رواته، ووقع في رواية وهب بن جرير عن شعبة بلفظ: "حتى إن أحدكم ليعمل" ووقع في رواية زيد بن وهب ما يقتضي أنه مدرج في الخبر من كلام ابن مسعود، لكن الإدراج لا يثبت بالاحتمال، أكثر الروايات يقتضي الرفع إلا رواية وهب بن جرير فبعيدة من الإدراج، فأخرج أحمد والنسائي من طريق سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب عن ابن مسعود نحو حديث الباب وقال بعد قوله واكتبه شقيا أو سعيدا "ثم قال: والذي نفس عبد الله بيده إن الرجل ليعمل" كذا وقع مفصلا في رواية جماعة عن الأعمش منهم المسعودي وزائدة وزهير بن معاوية وعبد الله بن إدريس وآخرون فيما ذكره الخطيب. وقد روى أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أصل الحديث بدون هذه الزيادة، وكذا أبو وائل وعلقمة وغيرهما عن ابن مسعود، وكذا اقتصر حبيب بن حسان عن زيد بن وهب، وكذا وقع في معظم الأحاديث الواردة عن الصحابة كأنس في ثاني حديثي الباب وحذيفة بن أسيد وابن عمر، وكذا اقتصر عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي عن الأعمش على هذا القدر. نعم وقعت هذه الزيادة مرفوعة في حديث سهل بن سعد الآتي بعد أبواب وفي حديث أبي هريرة عند مسلم وفي حديث عائشة عند أحمد وفي حديث ابن عمر والعرس ابن عميرة في البزار وفي حديث عمرو بن العاص وأكثم بن أبي الجون في الطبراني، لكن وقعت في حديث أنس من وجه آخر قوى مفردة من رواية حميد عن الحسن البصري عنه، ومن الرواة من حذف الحسن بين حميد وأنس، فكأنه كان تاما عند أنس فحدث به مفرقا فحفظ بعض أصحابه ما لم يحفظ الآخر عنه، فيقوى على

(11/486)


هذا أن الجميع مرفوع وبذلك جزم المحب الطبري، وحينئذ تحمل رواية سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب على أن عبد الله ابن مسعود لتحقق الخبر في نفسه أقسم عليه ويكون الإدراج في القسم لا في المقسم عليه، وهذا غاية التحقيق في هذا الموضع. ويؤيد الرفع أيضا أنه مما لا مجال للرأي فيه فيكون له حكم الرفع. وقد اشتملت هذه الجملة على أنواع من التأكيد بالقسم ووصف المقسم به وبأن وباللام، والأصل في التأكيد أنه يكون لمخاطبة المنكر أو المستبعد أو من يتوهم فيه شيء من ذلك؛ وهنا لما كان الحكم مستبعدا وهو دخول من عمل الطاعة طول عمره النار وبالعكس حسن المبالغة في تأكيد الخبر بذلك والله أعلم. قوله: "أحدكم أو الرجل ليعمل" وقع في رواية آدم "فإن أحدكم" بغير شك وقدم ذكر الجنة على النار، وكذا وقع للأكثر وهو كذا عند مسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه. وفي رواية حفص "فإن الرجل" وأخر ذكر النار، وعكس أبو الأحوص ولفظه: "فإن الرجل منكم". قوله: "بعمل أهل النار" الباء زائدة والأصل يعمل عمل أهل النار لأن قوله عمل إما مفعول مطلق وإما مفعول به وكلاهما مستغن عن الحرف فكان زيادة الباء للتأكيد أو ضمن "يعمل" معنى يتلبس في عمله بعمل أهل النار، وظاهره أنه يعمل بذلك حقيقة ويختم له بعكسه، وسيأتي في حديث سهل بلفظ: "ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس" وهو محمول على المنافق والمرائي بخلاف حديث الباب فإنه يتعلق بسوء الخاتمة. قوله: "غير ذراع أو باع" في رواية الكشميهني: "غير باع أو ذراع" وفي رواية أبي الأحوص "إلا ذراع" ولم يشك وقد علقها المصنف لآدم في آخر هذا الحديث ووصل الحديث كله في التوحيد عنه، ومثله في رواية أبي الأحوص والتعبير بالذراع تمثيل بقرب حاله من الموت فيحال من بينه وبين المكان المقصود بمقدار ذراع أو باع من المسافة، وضابط ذلك الحسي الغرغرة التي جعلت علامة لعدم قبول التوبة. وقد ذكر في هذا الحديث أهل الخير صرفا وأهل الشر صرفا إلى الموت ولا ذكر للذين خلطوا وماتوا على الإسلام لأنه لم يقصد في الحديث تعميم أحوال المكلفين وإنما سيق لبيان أن الاعتبار بالخاتمة، قوله: "بعمل أهل الجنة" يعني من الطاعات الاعتقادية والقولية والفعلية، ثم يحتمل أن الحفظة تكتب ذلك ويقبل بعضها ويرد بعضها، ويحتمل أن تقع الكتابة ثم تمحي وأما القبول فيتوقف على الخاتمة. قوله: "حتى ما يكون" قال الطيبي "حتى" هنا الناصبة و "ما" نافية ولم تكف يكون عن العمل فهي منصوبة بحتى، وأجاز غيره أن تكون "حتى" ابتدائية فتكون على هذا بالرفع وهو مستقيم أيضا. قوله: "فيسبق عليه الكتاب" في رواية أبي الأحوص "كتابة" والفاء في قوله: "فيسبق" إشارة إلى تعقيب ذلك بلا مهلة، وضمن يسبق معنى يغلب قاله الطيبي، وقوله: "عليه" في موضع نصب على الحال أي يسبق المكتوب واقعا عليه. وفي رواية سلمة بن كهيل "ثم يدركه الشقاء" وقال: "ثم تدركه السعادة" والمراد يسبق الكتاب سبق ما تضمنه على حذف مضاف أو المراد المكتوب والمعنى في أنه يتعارض عمله في اقتضاء السعادة والمكتوب في اقتضاء الشقاوة فيتحقق مقتضى المكتوب، فعبر عن ذلك بالسبق لأن السابق يحصل مراده دون المسبوق ولأنه لو تمثل العمل والكتاب شخصين ساعيين لظفر شخص الكتاب وغلب شخص العمل، ووقع في حديث أبي هريرة عند مسلم: "وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة" زاد أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة "سبعين سنة" وفي حديث أنس عند أحمد وصححه ابن حبان: "لا عليكم أن لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زمانا من عمره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملا

(11/487)


سيئا" الحديث، وفي حديث عائشة عند أحمد مرفوعا: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وهو مكتوب في الكتاب الأول من أهل النار، فإذا كان قبل موته تحول فعمل عمل أهل النار فمات فدخلها" الحديث، ولأحمد والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان" الحديث وفيه: "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم" ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا. "فقال أصحابه: ففيم العمل؟ فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل" الحديث، وفي حديث على عند الطبراني نحوه وزاد: "صاحب الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل" وقد يسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاوة حتى قال: "ما أشبههم بهم بل هم منهم، وتدركهم السعادة فتستنقذهم" الحديث، ونحوه للبزار من حديث ابن عمر، وسيأتي حديث سهل بن سعد بعد أبواب وفي آخره: "إنما الأعمال بالخواتيم" ومثله في حديث عائشة عند ابن حبان ومن حديث معاوية نحوه وفي آخر حديث على المشار إليه قبل "الأعمال بخواتيمها". وفي الحديث أن خلق السمع والبصر يقع والجنين داخل بطن أمه، وقد زعم بعضهم أنه يعطى ذلك بعد خروجه من بطن أمه لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} وتعقب بأن الواو لا ترتب، والتحقيق أن خلق السمع والبصر وهو في بطن أمه محمول جزما على الأعضاء ثم القوة الباصرة والسامعة لأنها مودعة فيها، وأما الإدراك بالفعل فهو موضع النزاع، والذي يترجح أنه يتوقف على زوال الحجاب المانع. وفيه أن الأعمال حسنه وسيئها أمارات وليست بموجبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء وجرى به القدر في الابتداء قاله الخطابي. وفيه القسم على الخبر الصدق تأكيدا في نفس السامع، وفيه إشارة إلى علم المبدأ والمعاد وما يتعلق ببدن الإنسان وحاله في الشقاء والسعادة. وفيه عدة أحكام تتعلق بالأصول والفروع والحكمة وغير ذلك. وفيه أن السعيد قد يشقى وأن الشقي قد يسعد لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغير. وفيه أن الاعتبار بالخاتمة. قال ابن أبي جمرة نفع الله به: هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ما هم فيه من حسن الحال لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم. وفيه أن عموم مثل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} الآية مخصوص بمن مات على ذلك وأن من عمل السعادة وختم له بالشقاء فهو في طول عمره عند الله شقي وبالعكس وما ورد مما يخالفه يؤول إلى أن يؤول إلى هذا، وقد اشتهر الخلاف في ذلك بين الأشعرية والحنفية وتمسك الأشاعرة بمثل هذا الحديث وتمسك الحنفية بمثل قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وأكثر كل من الفريقين الاحتجاج لقوله، والحق أن النزاع لفظي، وأن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله. وفيه التنبيه على صدق البعث بعد الموت لأن من قدر على خلق الشخص من ماء مهين ثم نقله إلى العلقة ثم إلى المضغة ثم ينفخ الروح فيه قادر على نفخ الروح بعد أن يصير ترابا ويجمع أجزاءه بعد أن يفرقها، ولقد كان قادرا على أن يخلقه دفعة واحدة ولكن اقتضت الحكمة بنقله في الأطوار رفقا بالأم لأنها لم تكن معتادة فكانت المشقة تعظم عليها فهيأه في بطنها بالتدريج إلى أن تكامل، ومن تأمل أصل خلقه من نطفة وتنقله في

(11/488)


تلك الأطوار إلى أن صار إنسانا جميل الصورة مفضلا بالعقل والفهم والنطق كان حقا عليه أن يشكر من أنشأه وهيأه ويعبده حق عبادته ويطيعه ولا يعصيه. وفيه أن في تقدير الأعمال ما هو سابق ولاحق، فالسابق ما في علم الله تعالى واللاحق ما يقدر على الجنين في بطن أمه كما وقع في الحديث، وهذا هو الذي يقبل النسخ، وأما ما وقع في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" فهو محمول على كتابة ذلك في اللوح المحفوظ على وفق ما في علم الله سبحانه وتعالى، واستدل به على أن السقط بعد الأربعة أشهر يصلي عليه لأنه وقت نفخ الروح فيه، وهو منقول عن القديم للشافعي والمشهور عن أحمد وإسحاق، وعن أحمد إذا بلغ أربعة أشهر وعشرا ففي تلك العشر ينفخ فيه الروح ويصلي عليه، والراجح عند الشافعية أنه لا بد من وجود الروح وهو الجديد، وقد قالوا فإذا بكي أو اختلج أو تنفس ثم بطل ذلك صلى عليه وإلا فلا، والأصل في ذلك من أخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم عن جابر رفعه: "إذا استهل الصبي ورث وصلى عليه" وقد ضعفه النووي في شرح المهذب والصواب أنه صحيح الإسناد لكن المرجح عند الحفاظ وقفه، وعلى طريق الفقهاء لا أثر للتعليل بذلك لأن الحكم للرفع لزيادته، قالوا وإذا بلغ مائة وعشرين يوما غسل كفن ودفن بغير صلاة وما قبل ذلك لا يشرع له غسل ولا غيره، واستدل به على أن التخليق لا يكون إلا في الأربعين الثالثة فأقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يوما وهي ابتداء الأربعين الثالثة وقد لا يتبين إلا في آخرها، ويترتب على ذلك أنه لا تنقضي العدة، بالوضع إلا ببلوغها وفيه خلاف، ولا يثبت للأمة أمية الولد إلا بعد دخول الأربعين الثالثة وهذا قول الشافعية والحنابلة وتوسع المالكية في ذلك فأداروا الحكم في ذلك على كل سقط ومنهم من قيده بالتخطيط ولو كان خفيا وفي ذلك رواية عن أحمد وحجتهم ما تقدم في بعض طرقه أن النطفة إذا لم يقدر تخليقها لا تصير علقة وإذا قدر أنها تتخلق تصير علقة ثم مضغة إلخ فمتى وضعت علقة عرف أن النطفة خرجت عن كونها نطفة واستحالت إلى أول أحوال الولد. وفيه أن كلا من السعادة والشقاء قد يقع بلا عمل ولا عمر وعليه ينطبق قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" وسيأتي الإلمام بشيء من ذلك بعد أبواب. وفيه الحث القوي على القناعة، والزجر الشديد عن الحرص، لأن الرزق إذا كان قد سبق تقديره لم يغن التعني في طلبه وإنما شرع الاكتساب لأنه من جملة الأسباب التي اقتضتها الحكمة في دار الدنيا. وفيه أن الأعمال سبب دخول الجنة أو النار ولا يعارض ذلك حديث: "لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله" لما تقدم من الجمع بينهما في شرحه في "باب القصد والمداومة على العمل" من كتاب الرقاق. وفيه أن من كتب شقيا لا يعلم حاله في الدنيا وكذا عكسه، واحتج من أثبت ذلك بما سيأتي قريبا من حديث على "أما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل أهل السعادة" الحديث، والتحقيق أن يقال إن أريد أنه لا يعلم أصلا ورأسا فمردود وإن أريد أنه يعلم بطريق العلامة المثبتة للظن الغالب فنعم، ويقوى ذلك في حق من اشتهر له لسان صدق بالخير والصلاح ومات على ذلك لقوله في الحديث الصحيح الماضي في الجنائز "أنتم شهداء الله في الأرض" وإن أريد أنه يعلم قطعا لمن شاء الله أن يطلعه على ذلك فهو من جملة الغيب الذي استأثر الله بعلمه وأطلع من شاء ممن ارتضى من رسله عليه. وفيه الحث على الاستعاذة بالله تعالى من سوء الخاتمة، وقد عمل به جمع جم من السلف وأئمة الخلف، وأما ما قال عبد الحق في "كتاب العاقبة" أن سوء الخاتمة لا يقع لمن استقام باطنه وصلح ظاهره وإنما يقع لمن في طويته فساد أو ارتياب ويكثر وقوعه للمصر على الكبائر والمجترئ على العظائم فيهجم عليه الموت بغتة فيصطلمه

(11/489)


الشيطان عند تلك الصدمة، فقد يكون ذلك سببا لسوء الخاتمة نسأل الله السلامة، فهو محمول على الأكثر الأغلب. وفيه أن قدرة الله تعالى لا يوجبها شيء من الأسباب إلا بمشيئته، فإنه لم يجعل الجماع علة للولد لأن الجماع قد يحصل ولا يكون الولد حتى يشاء الله ذلك. وفيه أن الشيء الكثيف يحتاج إلى طول الزمان بخلاف اللطيف، ولذلك طالت المدة في أطوار الجنين حتى حصل تخليقه بخلاف نفخ الروح، ولذلك لما خلق الله الأرض أولا عمد إلى السماء فسواها وترك الأرض لكثافتها بغير فتق ثم فتقتا معا، ولما خلق آدم فصوره من الماء والطين تركه مدة ثم نفخ فيه الروح. واستدل الداودي بقوله: "فتدخل النار" على أن الخبر خاص بالكفار، واحتج بأن الإيمان لا يحبطه إلا الكفر، وتعقب بأنه ليس في الحديث تعرض للإحباط وحمله على المعنى الأعم أولى فيتناول المؤمن حتى يختم له بعمل الكافر مثلا فيرتد فيموت على ذلك فتستعيذ بالله من ذلك، ويتناول المطيع حتى يختم له بعمل العاصي فيموت على ذلك، ولا يلزم من إطلاق دخول النار أنه يخلد فيها أبدا بل مجرد الدخول صادق على الطائفتين، واستدل له على أنه لا يجب على الله رعاية الأصلح خلاقا لمن قال به من المعتزلة لأن فيه أن بعض الناس يذهب جميع عمره في طاعة الله ثم يختم له بالكفر والعياذ بالله فيموت على ذلك فيدخل النار، فلو كان يجب عليه رعاية الأصلح لم يحبط جميع عمله الصالح بكلمة الكفر التي مات عليها ولا سيما إن طال عمره وقرب موته من كفره. واستدل به بعض المعتزلة على أن من عمل عمل أهل النار وجب أن يدخلها لترتب دخولها في الخبر على العمل، وترتب الحكم على الشيء يشعر بعليته، وأجيب بأنه علامة لا علة والعلامة قد تتخلف، سلمنا أنه علة لكنه في حق الكفار وأما العصاة فخرجوا بدليل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فمن لم يشرك فهو داخل في المشيئة. واستدل به الأشعري في تجويزه تكليف ما لا يطاق لأنه دل على أن الله كلف العباد كلهم بالإيمان مع أنه قدر على بعضهم أنه يموت على الكفر، وقد قيل إن هذه المسألة لم يثبت وقوعها إلا في الإيمان خاصة وما عداه لا توجد دلالة قطعية على وقوعه وأما مطلق، الجواز فحاصل. وفيه أن الله يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات لتصريح الخبر بأنه يأمر بكتابة أحوال الشخص مفصلة، وفيه أنه سبحانه مريد لجميع الكائنات بمعنى أنه خالقها ومقدرها لا أنه يحبها ويرضاها. وفيه أن جميع الخير والشر بتقدير الله تعالى وإيجاده، وخالف في ذلك القدرية والجبرية فذهبت القدرية إلى أن فعل العبد من قبل نفسه، ومنهم من فرق بين الخير والشر فنسب إلى الله الخير ونفي عنه خلق الشر، وقيل إنه لا يعرف قائله وإن كان قد اشتهر ذلك وإنما هذا رأي المجوس، وذهبت الجبرية إلى أن الكل فعل الله وليس للمخلوق فيه تأثير أصلا، وتوسط أهل السنة فمنهم من قال أصل الفعل خلقه الله وللعبد قدرة غير مؤثرة في المقدور، وأثبت بعضهم أن لها تأثيرا لكنه يسمى كسبا وبسط أدلتهم يطول، وقد أخرج أحمد وأبو يعلى من طريق أيوب بن زياد عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض فقلت أوصني؟ فقال: إنك لن تطعم طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره وهو أن تعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك الحديث وفيه: "وإن مت ولست على ذلك دخلت النار". وأخرجه الطبراني من وجه آخر بسند حسن عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء مرفوعا مقتصرا على قوله. إن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ وسيأتي الإلمام بشيء منه في كتاب التوحيد في الكلام على خلق أفعال العباد إن شاء الله تعالى. وفي الحديث أن

(11/490)


الأقدار غالبة والعاقبة غائبة فلا ينبغي لأحد أن يغتر بظاهر الحال، ومن ثم شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة، وسيأتي في حديث على الآتي بعد بابين سؤال الصحابة عن فائدة العمل مع تقدم التقدير والجواب عنه "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وظاهره قد يعارض حديث ابن مسعود المذكور في هذا الباب، والجمع بينهما حمل حديث علي على الأكثر الأغلب وحمل حديث الباب على الأقل، ولكنه لما كان جائزا تعين طلب الثبات. وحكى ابن التين أن عمر بن عبد العزيز لما سمع هذا الحديث أنكره وقال: كيف يصح أن يعمل العبد عمره الطاعة ثم لا يدخل الجنة انتهى. وتوقف شيخنا ابن الملقن في صحة ذلك عن عمر، وظهر لي أنه إن ثبت عنه حمل على أن راويه حذف منه قوله في آخره: "فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" أو أكمل الراوي لكن استبعد عمر وقوعه وإن كان جائزا ويكون إيراده على سبيل التخويف من سوء الخاتمة. حديث أنس، قوله: "حماد" هو ابن زيد، وعبيد الله بن أبي بكر أي ابن أنس بن مالك. قوله: "وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة إلخ" أي يقول كل كلمة من ذلك في الوقت الذي تصير فيه كذلك كما تقدم بيانه في الحديث الذي قبله وقد مضى شرحه مستوفي فيه، وتقدم شيء منه في كتاب الحيض، ويجوز في قوله نطفة النصب على إضمار فعل والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وفائدة ذلك أنه يستفهم هل يتكون منها أو لا؟ وقوله: "أن يقضي خلقها" أي بإذن فيه.

(11/491)


2 - باب جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ "قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاَقٍ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَهَا سَابِقُونَ سَبَقَتْ لَهُمْ السَّعَادَةُ
6596- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرِّشْكُ قَالَ سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ "عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَالَ "نَعَمْ" قَالَ فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ قَالَ "كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَوْ لِمَا يُسِّرَ لَهُ"
[الحديث 6596- طرفه في 7551]
قوله: "باب" بالتنوين "جف القلم" أي فرعت الكتابة إشارة إلى أن الذي كتب في اللوح المحفوظ لا يتغير حكمه، فهو كناية عن الفراغ من الكتابة لأن الصحيفة حال كتابتها تكون رطبة أو بعضها وكذلك القلم فإذا انتهت الكتابة جفت الكتابة والقلم. وقال الطيبي هو من إطلاق اللازم على الملزوم، لأن الفراغ من الكتابة يستلزم جفاف القلم عند مداده. قلت: وفيه إشارة إلى أن كتابة ذلك انقضت من أمد بعيد. وقال عياض: معنى جف القلم أي لم يكتب بعد ذلك شيئا. وكتاب الله ولوحه وقلمه من غيبه ومن علمه الذي يلزمنا الإيمان به، ولا يلزمنا معرفة صفته، وإنما خوطبنا بما عهدنا فيما فرغنا من كتابته أن القلم يصير جافا للاستغناء عنه. قوله: "على علم الله" أي على حكمه لأن معلومه لا بد أن يقع، فعلمه بمعلوم يستلزم الحكم بوقوعه، وهذا لفظ حديث أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من طريق عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل، فلذلك

(11/491)


أقول جف القلم على علم الله"، وأخرجه أحمد وابن حبان من طريق أخرى عن أبي الديلمي نحوه وفي آخره أن القائل "فلذلك أقول"، هو عبد الله بن عمرو ولفظه: "قلت لعبد الله بن عمرو: بلغني أنك تقول إن القلم قد جف -فذكر الحديث وقال في آخره- فلذلك أقول جف القلم بما هو كائن". ويقال إن عبد الله بن طاهر أمير خراسان للمأمون سأل الحسين بن الفضل عن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} مع هذا الحديث، فأجاب: هي شئون يبديها لا شئون يبتديها؛ فقام إليه وقبل رأسه. قوله: "وقال أبو هريرة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: جف القلم بما أنت لاق" هو طرف من حديث ذكر أصله المصنف من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "قلت يا رسول الله إني رجل شاب وإني أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء، فسكت عني" الحديث وفيه: "يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو ذر" أخرجه في أوائل النكاح فقال: قال أصبغ -يعني ابن الفرج- أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب، ووصله الإسماعيلي والجوزقي والفريابي في كتاب القدر كلهم من طريق أصبغ به وقالوا كلهم بعد قوله العنت "فأذن لي أن أختصي" ووقع لفظ: "جف القلم" أيضا في حديث جابر عند مسلم: "قال سراقة يا رسول الله فيم العمل أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" الحديث، وفي آخر حديث ابن عباس الذي فيه: "احفظ الله يحفظك" ففي بعض طرقه: "جفت الأقلام وطويت الصحف" وفي حديث عبد الله بن جعفر عند الطبراني في حديث: "واعلم أن القلم قد جف بما هو كائن" وفي حديث الحسن بن على عند الفريابي "رفع الكتاب وجف القلم". قوله: "وقال ابن عباس لها سابقون: سبقت لهم السعادة" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} قال: سبقت لهم السعادة، والمعنى أنهم سارعوا إلى الخيرات بما سبق لهم من السعادة بتقدير الله، ونقل عن الحسن أن اللام في "لها" بمعنى الباء فقال: معناه سابقون بها، فقال الطبراني: وتأولها بعضهم -أي اللام- بأنها بمعنى "إلى" وبعضهم أن المعنى: وهم من أجلها، ونقل عبد الرحمن بن زيد أن الضمير للخيرات، وأجاز غيره أن للسعادة، والذي يجمع بين تفسير ابن عباس وظاهر الآية أن السعادة سابقة وأن أهلها سبقوا إليها لا أنهم سبقوها. قوله: "حدثنا يزيد الرشك" بكسر الراء وسكون المعجمة بعدها كاف كنيته أبو الأزهر، وحكى الكلاباذي أن اسم والده سنان بكسر المهملة ونونين، وهو بصري تابعي ثقة، قيل كان كبير اللحية فلقب الرشك وهو بالفارسية كما زعم أبو على الغساني وجزم به ابن الجوزي الكبير اللحية. وقال أبو حاتم الرازي: كان غيورا فقيل له إرشك بالفارسية فمضى عليه الرشك. وقال الكرماني بل الرشك بالفارسية القمل الصغير الملتصق، بأصول شعر اللحية، وذكر الكلاباذي أن الرشك القسام. قلت: بل كان يزيد يتعانى مساحة الأرض فقيل له القسام وكان يلقب الرشك لا أن مدلول الرشك القسام بل هما لقب ونسبة إلى صنعة، والمعتمد في أمره ما قال أبو حاتم، وما ليزيد في البخاري إلا هذا الحديث أورده هنا وفي كتاب الاعتصام. قوله: "قال رجل" هو عمران بن حصين راوي الخبر، بينه عبد الوارث بن سعيد عن يزيد الرشك عن عمران بن حصين قال: "قلت يا رسول الله" فذكره، وسيأتي موصولا في أواخر كتاب التوحيد، وسأل عن ذلك آخرون، وسيأتي مزيد بسط فيه في شرح حديث علي قريبا. قوله: "أيعرف أهل الجنة من أهل النار" في رواية حماد بن زيد عن يزيد عند مسلم بلفظ: "أعلم" بضم العين، والمراد بالسؤال معرفة الملائكة أو من أطلعه الله على ذلك؛ وأما معرفة العامل

(11/492)


أو من شاهده فإنما يعرف بالعمل. قوله: "فلم يعمل العاملون" في روايات حماد "ففيم"؟ وهو استفهام والمعنى إذا سبق القلم بذلك فلا يحتاج العامل إلى العمل لأنه سيصير إلى ما قدر له. قوله: "قال: كل يعمل لما خلق له أو لما ييسر له" وفي رواية الكشميهني: "يسر" بضم أوله وكسر المهملة الثقيلة. وفي رواية حماد المشار إليها "قال كل ميسر لما خلق له" وقد جاء هذا الكلام الأخير عن جماعة من الصحابة بهذا اللفظ يزيدون على العشرة سأشير إليها في آخر الباب الذي يلي الذي يليه، منها حديث أبي الدرداء عند أحمد بسند حسن بلفظ: "كل امرئ مهيأ لما خلق له" وفي الحديث إشارة إلى أن المآل محجوب عن المكلف فعليه أن يجتهد في عمل ما أمر به فإن عمله أمارة إلى ما يؤول إليه أمره غالبا وإن كان بعضهم قد يختم له بغير ذلك كما ثبت في حديث ابن مسعود وغيره لكن لا اطلاع له على ذلك فعليه أن يبذل جهده ويجاهد نفسه في عمل الطاعة لا يترك وكولا إلى ما يؤول إليه أمره فيلام على ترك المأمور ويستحق العقوبة، وقد ترجم ابن حبان بحديث الباب: "ما يجب على المرء من التشمير في الطاعات وإن جرى قبلها ما يكره الله من المحظورات" ولمسلم من طريق أبي الأسود عن عمران أنه قال له: أرأيت ما يعمل الناس اليوم أشيء قضي عليهم ومضي فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا بل شيء قضى عليهم ومضى فهيم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وفيه قصة لأبي الأسود الدؤلي مع عمران وفيه قوله له: أيكون ذلك ظلما؟ فقال: لا كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل. قال عياض: أورد عمران على أبي الأسود شبهة القدرية من تحكمهم على الله ودخولهم بآرائهم في حكمه، فلما أجابه بما دل على ثباته في الدين قواه بذكر الآية وهي حد لأهل السنة، وقوله كل خلق الله وملكه يشير إلى أن المالك الأعلى الخالق الآمر لا يعترض عليه إذا تصرف في ملكه بما يشاء، وإنما يعترض على المخلوق المأمور.

(11/493)


3 - باب اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
6597- حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير "عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
6598- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ "سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"
6599- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا"
6600- "قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ قَالَ "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"
قوله: "باب الله أعلم بما كانوا عاملين" الضمير لأولاد المشركين كما صرح به في السؤال، وذكره من حديث

(11/493)


ابن عباس مختصرا ومن حديث أبي هريرة كذلك، وتقدم في أواخر الجنائز "باب ما قيل في أولاد المسلمين" وبعده "باب ما قيل في أولاد المشركين" وذكر في الثاني الحديثين المذكورين هنا من مخرجيهما وذكر الثالث أيضا من وجه آخر عن أبي هريرة، وقد تقدم شرح ذلك مستوفي في الباب المذكور. قوله في الرواية الثانية عن ابن شهاب "قال وأخبرني عطاء بن يزيد" الواو عاطفة على شيء محذوف، كأنه حدث قبل ذلك بشيء ثم حديث بحديث عطاء، ووقع في رواية مسلم من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد وعند أبي عوانة في صحيحه من طريق شعيب عن الزهري "حدثني عطاء بن يزيد الليثي". قوله: "أخبرنا إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه كما بينته في المقدمة

(11/494)


4 - باب وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا
6601- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا"
6602- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ وَعِنْدَهُ سَعْدٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذٌ أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا "لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى كُلٌّ بِأَجَلٍ فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ"
6603- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ الجُمَحِيُّ "أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا وَنُحِبُّ الْمَالَ كَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلاَّ هِيَ كَائِنَةٌ"
6604- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَقَدْ خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلاَّ ذَكَرَهُ عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ إِنْ كُنْتُ لاَرَى الشَّيْءَ قَدْ نَسِيتُ فَأَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ"
6605- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ "عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ وَقَالَ "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَلاَ نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لاَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ"

(11/494)


قوله: "باب "وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً" أي حكما مقطوعا بوقوعه، والمراد بالأمر واحد الأمور المقدرة ويحتمل أن يكون واحد الأوامر، لأن كل موجود بكن. حديث أبي هريرة "لا تسأل المرأة طلاق أختها -إلى قوله في آخره- فإن لها ما قدر لها" وقد مضى شرحه في "باب الشروط التي لا تحل في النكاح" من كتاب النكاح قال ابن العربي: في هذا الحديث من أصول الدين السلوك في مجاري القدر، وذلك لا يناقض العمل في الطاعات ولا يمنع التحرف في الاكتساب والنظر لقوت غد وإن كان لا يتحقق أنه يبلغه. وقال ابن عبد البر: هذا الحديث من أحسن أحاديث القدر عند أهل العلم لما دل عليه من أن الزوج لو أجابها وطلق من تظن أنها تزاحمها في رزقها فإنه لا يحصل لها من ذلك إلا ما كتب الله لها سواء أجابها أو لم يجبها، وهو كقول الله تعالى في الآية الأخرى {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} حديث أسامة وهو ابن زيد، قوله: "عاصم" هو الأحول، وأبو عثمان هو النهدي. قوله: "وعنده سعد" هو ابن عبادة، ومعاذ هو ابن جبل، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الجنائز وما قيل في تسمية الابن المذكور وبيان الجمع بين هذه الرواية والرواية التي فيها "أن ابنتها". حديث أبي سعيد، قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. قوله: "جاء رجل من الأنصار" تقدم في غزوة المريسيع وفي عشرة النساء من كتاب النكاح عن أبي سعيد قال: "سألنا" وأخرجه النسائي من طريق ابن محيريز أن أبا سعيد وأبا صرمة أخبراه أنهم أصابوا سبايا، قال: "فتراجعنا في العزل، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم" فلعل أبا سعيد باشر السؤال وإن كان الذين تراجعوا في ذلك جماعة، وقد وقع عند البخاري في تاريخه وابن السكن وغيره في الصحابة من حديث مجدي الضمري قال: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة المريسيع فأصبنا سبيا، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل" الحديث، وأبو صرمة مختلف في صحبته، وقد وقع في صحيح مسلم من طريق ابن محيريز "دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد فقال: يا أبا سعيد هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في العزل" الحديث، والثابت أن أبا صرمة وهو بكسر المهملة وسكون الراء إنما سأل أبا سعيد، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي في النكاح، والغرض منه هنا قوله في آخره: "وليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة" . قوله: "حدثنا موسى بن مسعود" هو أبو حذيفة النهدي، وسفيان هو الثوري، قوله: "لقد خطبنا" في رواية جرير عن الأعمش عند مسلم: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما". قوله: "إلا ذكره" في رواية جرير "إلا حدث به". قوله: "علمه من علمه وجهله من جهله" في رواية جرير "حفظه من حفظه ونسيه من نسيه" وزاد: "قد علمه أصحابي هؤلاء" أي علموا وقوع ذلك المقام وما وقع فيه من الكلام، وقد سميت في أول بدء الخلق من روى نحو حديث حذيفة هذا من الصحابة كعمر وأبي زيد بن أخطب وأبي سعيد قال وغيرهم فلعل حذيفة أشار إليهم أو إلى بعضهم، وقد أخرج مسلم من طريق أبي إدريس الخولاني عن حذيفة "والله إني لأعلم كل فتنة كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى شيئا لم يكن يحدث به غيري" وقال في آخره: "فذهب أولئك الرهط غيري" وهذا لا يناقض الأول بل يجمع بأن يحمل على مجلسين، أو المراد بالأول أعم من المراد بالثاني. قوله: "إن كنت لأرى الشيء قد نسيت" كذا للأكثر بحذف المفعول. وفي رواية الكشميهني بإثباته ولفظه: "نسيته". قوله: "فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه" في رواية محمد بن يوسف عن سفيان عند الإسماعيلي: "كما يعرف الرجل" بحذف المفعول. وفي رواية الكشميهني:

(11/495)


"الرجل وجه الرجل غاب عنه ثم رآه فعرفه" قال عياض: في هذا الكلام تلفيق، وكذا في رواية جرير "وأنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه" قال والصواب كما ينسي الرجل وجه الرجل -أو كما لا يذكر الرجل وجه الرجل- إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه. قلت: والذي يظهر لي أن الرواية في الأصلين مستقيمة، وتقدير ما في حديث سفيان أنه يرى الشيء الذي كان نسيه فإذا رآه عرفه وقوله: "كما يعرف الرجل الرجل غاب عنه" أي الذي كان غاب عنه فنسى صورته ثم إذا رآه عرفه، وأخرجه الإسماعيلي من رواية ابن المبارك عن سفيان بلفظ: "إني لأرى الشيء نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل إلخ". "تنبيه": أخرج هذا الحديث القاضي عياض في "الشفاء" من طريق أبي داود بسنده إلى قوله: "ثم إذا رآه عرفه" ثم قال حذيفة "ما أدري أنسى أصحابي أم تناسوه" والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة إلا قد سماه لنا" قلت: ولم أر هذه الزيادة في كتاب أبي داود، وإنما أخرجه أبو داود بسند آخر مستقل من وجه آخر عن حذيفة. حديث على، قوله: "عن أبي حمزة" بمهملة وزاي هو محمد بن ميمون السكري. قوله: "عن سعد بن عبيدة" بضم العين هو السلمي الكوفي يكني أبا حمزة وكان صهر أبي عبد الرحمن شيخه في هذا الحديث، ووقع في تفسير {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} من طريق شعبة عن الأعمش "سمعت سعد بن عبيدة" وأبو عبد الرحمن السلمي اسمه عبد الله بن حبيب وهو من كبار التابعين، ووقع مسمى في رواية معتمر ابن سليمان عن منصور عن سعد بن عبيدة عند الفريابي. قوله: "عن علي" في رواية مسلم البطين عن أبي عبد الرحمن السلمي" أخذ بيدي علي فانطلقنا نمشي حتى جلسنا على شاطئ الفرات، فقال على: قال رسول صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث مختصرا. قوله: "كنا جلوسا" في رواية عبد الواحد عن الأعمش "كنا قعودا" وزاد في رواية سفيان الثوري عن الأعمش "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد -بفتح الغين المعجمة والقاف بينهما راء ساكنة- في جنازة" فظاهره أنهم كانوا جميعا شهدوا الجنازة، لكن أخرجه في الجنائز من طريق منصور عن سعد بن عبيدة فبين أنهم سبقوا بالجنازة وأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ولفظه: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله". قوله: "ومعه عود ينكت به في الأرض" في رواية شعبة "وبيده عود فجعل ينكت به في الأرض" وفي رواية منصور "ومعه مخصرة" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الصاد المهملة هي عصا أو قضيب يمسكه الرئيس ليتوكأ عليه ويدفع به عنه ويشير به لما يريد، وسميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالبا للاتكاء عليها، وفي اللغة اختصر الرجل إذا أمسك المخصرة. قوله: "فنكس" بتشديد الكاف أي أطرق. قوله: "فقال ما منكم من أحد" زاد في رواية منصور "ما من نفس منفوسة" أي مصنوعة مخلوقة، واقتصر في رواية أبي حمزة والثوري على الأول. قوله: "إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة" أو للتنويع، ووقع في رواية سفيان ما قد يشعر بأنها بمعنى في الواو ولفظه: "إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" وكأنه يشير إلى ما تقدم من حديث ابن عمر الدال على أن لكل أحد مقعدين. وفي رواية منصور "إلا كتب مكانها من الجنة والنار" وزاد فيها "وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة" وإعادة "إلا" يحتمل أن يكون "ما من نفس" بدل "ما منكم" "وإلا" الثانية بدلا من الأولى وأن يكون من باب اللف والنشر فيكون فيه تعميم بعد تخصيص والثاني في كل منهما أعم من الأول أشار إليه الكرماني. قوله: "فقال رجل من القوم" في رواية سفيان وشعبة "فقالوا

(11/496)


يا رسول الله" وهذا الرجل وقع في حديث جابر عند مسلم أنه سراقة بن مالك بن جعشم ولفظه: "جاء سراقة فقال يا رسول الله أنعمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أو فيما يستقبل؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. فقال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وأخرجه الطبراني وابن مردويه نحوه وزاد: وقرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى -إلى قوله- العسرى} وأخرجه ابن ماجه من حديث سراقة نفسه لكن دون تلاوة الآية. ووقع هذا السؤال وجوابه سوى تلاوة الآية لشريح بن عامر الكلابي أخرجه أحمد والطبراني ولفظه: "قال: ففيم العمل إذا؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر قال: "قال عمر: يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو أمر قد فرغ منه؟ قال: فيما قد فرغ منه" فذكر نحوه. وأخرج البزار والفريابي من حديث أبي هريرة "إن عمر قال: يا رسول الله" فذكره. وأخرجه أحمد والبزار والطبراني من حديث أبي بكر الصديق "قلت يا رسول الله نعمل على ما فرغ منه" الحديث نحوه، ووقع في حديث سعد بن أبي وقاص "فقال رجل من الأنصار" والجمع بينها تعدد السائلين عن ذلك، فقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو أن السائل عن ذلك جماعة ولفظه: "فقال أصحابه: ففيم العمل إن كان قد فرغ منه؟ فقال: سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل" الحديث أخرجه الفريابي. قوله: "ألا نتكل يا رسول الله" في رواية سفيان "أفلا" والفاء معقبة لشيء محذوف تقديره أفإذا كان كذلك أفلا نتكل، وزاد في رواية منصور وكذا في رواية شعبة "أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل" أي نعتمد على ما قدر علينا، وزاد في رواية منصور "فمن كان منا من أهل السعادة فيصير إلى عمل السعادة ومن كان منا من أهل الشقاوة" مثله. قوله: "اعملوا فكل ميسر" زاد شعبة "لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل السعادة" الحديث. وفي رواية منصور قال: "أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة" الحديث. وحاصل السؤال: ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلى ما قدر علينا، وحاصل الجواب: لا مشقة لأن كل أحد ميسر لما خلق له، وهو يسير على من يسره الله. قال الطيبي: الجواب من الأسلوب الحكيم، منعهم عن ترك العمل وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة فلا يجعلوا العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار بل هي علامات فقط. قوله: "ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية" وساق في رواية سفيان ووكيع الآيات إلى قوله: {لِلْعُسْرَى} ووقع في حديث ابن عباس عند الطبراني نحو حديث عمر وفي آخره: "قال اعمل فكل ميسر" وفي آخره عند البزار "فقال القوم بعضهم لبعض: فالجد إذا" وأخرجه الطبراني في آخر حديث سراقة ولفظه: "فقال يا رسول الله ففيم العمل؟ قال كل ميسر لعمله، قال: الآن الجد الآن الجد" وفي آخر حديث عمر عند الفريابي "فقال عمر ففيم العمل إذا؟ قال: كل لا ينال إلا بالعمل، قال عمر: إذا نجتهد" وأخرج الفريابي بسند صحيح إلى بشير بن كعب أحد كبار التابعين قال: "سأل غلامان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيم العمل: فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم شيء نستأنفه؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام، قالا: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما هو عامل، قالا: فالجد الآن" وفي الحديث جواز القعود عند القبور والتحدث عندها بالعلم والموعظة. وقال المهلب: نكته الأرض بالمخصرة أصل في تحريك الأصبع في التشهد نقله ابن بطال، وهو بعيد، وإنما هي عادة لمن يتفكر في شيء يستحضر معانيه، فيحتمل أن يكون ذلك تفكرا منه صلى الله عليه وسلم في أمر الآخرة بقرينة حضور الجنازة، ويحتمل أن يكون فيما

(11/497)


أبداه بعد ذلك لأصحابه من الحكم المذكورة، ومناسبته للقصة أن فيه إشارة إلى التسلية عن الميت بأنه مات بفراغ أجله. وهذا الحديث أصل لأهل السنة في أن السعادة والشقاء بتقدير الله القديم، وفيه رد على الجبرية لأن التيسير ضد الجبر لأن الجبر لا يكون إلا عن كره ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له. واستدل به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا كمن اشتهر له لسان صدق وعكسه لأن العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر، ورد بما تقدم في حديث ابن مسعود، وأن هذا العمل الظاهر قد ينقلب لعكسه على وفق ما قدر، والحق أن العمل علامة وأمارة، فيحكم بظاهر الأمر وأمر الباطن إلى الله تعالى. قال الخطابي: لما أخبر صلى الله عليه وسلم عن سبق الكائنات رام من تمسك بالقدر أن يتخذه حجة في ترك العمل فأعلمهم أن هنا أمرين لا يبطل أحدهما بالآخر: باطن وهو العلة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر وهو العلامة اللازمة في حق العبودية، وإنما هي أمارة مخيلة في مطالعة علم العواقب غير مفيدة حقيقة، فبين لهم أن كلا ميسر لما خلق له، وأن عمله في العاجل دليل على مصيره في الآجل، ولذلك مثل بالآيات. ونظير ذلك الرزق مع الأمر بالكسب، والأجل مع الإذن في المعالجة. وقال في موضع آخر: هذا الحديث إذا تأملته وجدت فيه الشفاء مما يتخالج في الضمير من أمر القدر، وذلك أن القائل "أفلا نتكل وندع العمل" لم يدع شيئا مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة إلا وقد طالب به وسأل عنه، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروك والمطالبة ساقطة، وأنه لا يشبه الأمور التي عقلت معانيها وجرت معاملة البشر فيما بينهم عليها، بل طوى الله علم الغيب عن خلقه وحجبهم عن دركه كما أخفى عنهم أمر الساعة فلا يعلم أحد متى حين قيامها انتهى. وقد تقدم كلام ابن السمعاني في نحو ذلك في أول كتاب القدر. وقال غيره: وجه الانفصال عن شبهة القدرية أن الله أمرنا بالعمل فوجب علينا الامتثال، وغيب عنا المقادير لقيام الحجة، ونصب الأعمال علامة على ما سبق مشيئته. فمن عدل عنه ضل وتاه لأن القدر سر من أسرار الله لا يطلع عليه إلا هو، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة كشف لهم عنه حينئذ. وفي أحاديث هذا الباب أن أفعال العباد وإن صدرت عنهم لكنها قد سبق علم الله بوقوعها بتقديره، ففيها بطلان قول القدرية صريحا، والله أعلم.

(11/498)


5 - باب الْعَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ
6606- حدثنا حبان بن موسى أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام ثم هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال وكثرت به الجراح فأثبتته فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الذي تحدثت أنه من أهل النار قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به الجراح فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما إنه من أهل النار فكاد بعض المسلمين يرتاب فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهما فانتحر بها فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله صدق الله حديثك قد

(11/498)


انتحر فلان فقتل نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بلال قم فأذن لا يدخل الجنة إلا مؤمن وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"
6607- حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو غسان حدثني أبو حازم "عن سهل بن سعد أن رجلا من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين في غزوة غزاها مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فقال من أحب أن ينظر إلى الرجل من أهل النار فلينظر إلى هذا فأتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشد الناس على المشركين حتى جرح فاستعجل الموت فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه فأقبل الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا فقال أشهد أنك رسول الله فقال وما ذاك قال قلت لفلان من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين فعرفت أنه لا يموت على ذلك فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار, وإنما الأعمال بالخواتيم"
قوله: "باب العمل بالخواتيم" لما كان ظاهر حديث على يقتضي اعتبار العمل الظاهر أردفه بهذه الترجمة الدالة على أن الاعتبار بالخاتمة، وذكر فيه قصة الذي نحر نفسه في القتال من حديث أبي هريرة ومن حديث سهل ابن سعد، وقد تقدم شرحهما في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وذكرت هناك الاختلاف في اسم المذكور، وهل القصتان متغايرتان في موطنين لرجلين أو هما قصة واحدة، وقوله في آخر حديث أبي هريرة "وإنما الأعمال بالخواتيم" وقع في حديث أنس عند الترمذي وصححه "إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله، قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه" وأخرجه أحمد من هذا الوجه مطولا وأوله "لا تعجبوا لعمل عامل حتى تنظروا بم يختم له" فذكر نحو حديث ابن مسعود وأخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مختصرا. وأخرج البزار من حديث ابن عمر حديثا فيه ذكر الكتابين وفي آخره: "العمل بخواتيمه العمل بخواتيمه".

(11/499)


باب القاء العهد النذر إلى القدر
...
6 - باب إِلْقَاءِ الْعَبْدَ النَّذْر إِلَى الْقَدَرِ
6234- حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن منصور عن عبد الله بن مرة "عن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر قال إنه "لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من البخيل"
[الحديث 6608- طرفاه في: 6692، 6693]
6235- حدثنا بشر بن محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن همام بن منبه "عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يأتي بن آدم النذر بشيء لم يكن قد قدرته ولكن يلقيه القدر وقد قدرته له أستخرج به من البخيل"
[الحديث 6609- طرفه في: 6694]

(11/499)


قوله: "باب إلقاء العبد النذر إلى القدر" في رواية الكشميهني: "إلقاء النذر العبد" وفي الأول النذر بالرفع وهو الفاعل والإلقاء مضاف إلى المفعول وهو العبد وفي الثانية العبد بالنصب وهو المفعول والإلقاء مضاف إلى الفاعل وهو النذر، وسيأتي في "باب الوفاء بالنذر" من وجه آخر عن أبي هريرة على وفق رواية الكشميهني وذكر فيه حديث ابن عمر وأبي هريرة في ذلك وسيأتيان في "باب الوفاء بالنذر" من كتاب الأيمان والنذور مع شرحهما، فأما حديث أبي هريرة فهو صريح في الترجمة لكن لفظه: "ولكن يلقيه القدر" كذا للأكثر وللكشميهني: "يلقيه النذر" بنون ثم ذال معجمة. وقد اعترض بعض شيوخنا على البخاري فقال: ليس في واحد من اللفظين المرويين عنه في الترجمة مطابقة للحديث، والمطابق، أن يقول إلقاء القدر العبد إلى النذر بتقديم القدر بالقاف على النذر بالنون، لأن لفظ الخبر "يلقيه القدر" بالقاف، كذا قال، وكأنه لم يشعر برواية الكشميهني في متن الحديث، ثم ادعى أن الترجمة مع عدم مطابقتها للخبر ليس المعنى فيها صحيحا انتهى. وما نفاه مردود، بل المعنى بين لمن له أدنى تأمل، وكأنه استبعد نسبة الإلقاء إلى النذر، وجوابه أن النسبة مجازية، وسوغ ذلك كونه سببا إلى الإلقاء فنسب الإلقاء إليه، وأيضا فهما متلازمان. قال الكرماني الظاهر أن الترجمة مقلوبة إذ القدر هو الذي يلقى إلى النذر لقوله في الخبر "يلقيه القدر" والجواب أنهما صادقان إذ الذي يلقى في الحقيقة هو القدر وهو الموصل وبالظاهر هو النذر، قال وكان الأولى أن يقول: يلقيه القدر إلى النذر ليطابق الحديث، إلا أن يقال إنهما متلازمان، وكأنه أيضا ما نظر إلى رواية الكشميهني، وأيضا فقد جرت عادة البخاري أنه يترجم بما ورد في بعض طرق الحديث وإن لم يسق ذلك اللفظ بعينه ليبعث ذلك الناظر في كتابه على تتبع الطرق وليقدح الفكر في التطبيق ولغير ذلك من المقاصد التي فاق بها غيره من المصنفين كما تقرر غير مرة. وأما حديث ابن عمر فهو بلفظ: "أنه -أي النذر- لا يرد شيئا" وهو يعطي معنى الرواية الأخرى، وقوله هنا "منصور" هو ابن المعتمر عن عبد الله بن مرة يأتي في الباب المذكور بلفظ: "أخبرنا عبد الله بن مرة" وهو الهمداني بسكون الميم الخارفي بمعجمة وراء مكسورة ثم فاء تابعي كبير، ولهم كوفي شيخ آخر في طبقته يقال له عبد الله بن مرة الزوفي بزاي وواو ساكنة ثم فاء مصري، ويقال له عبد الله بن أبي مرة وهو بها أشهر.

(11/500)


باب لاحول ولا قوة إلا بالله
...
7 - باب لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ
6610- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ "عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَجَعَلْنَا لاَ نَصْعَدُ شَرَفًا وَلاَ نَعْلُو شَرَفًا وَلاَ نَهْبِطُ فِي وَادٍ إِلاَّ رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ قَالَ فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا ثُمَّ قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ"
قوله: "باب" بالتنوين "لا حول ولا قوة إلا بالله" ترجم في أواخر الدعوات "باب قول لا حول" بالإضافة واقتصر هنا على لفظ الخبر واستغنى به لظهوره في أبواب القدر، لأن معنى لا حول لا تحويل للعبد عن معصية الله

(11/500)


إلا بعصمة الله ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله، وقيل معنى لا حول لا حيلة. وقال النووي: هي كلمة استسلام وتفويض وأن العبد لا يملك من أمره شيئا وليس له حيلة في دفع شر ولا قوة في جلب خير إلا بإرادة الله تعالى. حديث أبي موسى وقد تقدم في الدعوات بهذا الإسناد بعينه لكن فيه سليمان التيمي بدل خالد الحذاء المذكور هنا، وهو محمول على أن لعبد الله وهو ابن المبارك فيه شيخين، وقد أخرجه النسائي من رواية سويد ابن نصر عن ابن المبارك عن خالد الحذاء. قوله: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة" تقدم في غزوة خيبر من كتاب المغازي بيان أنها غزوة خيبر. قوله: "إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير" في رواية سليمان التيمي المذكورة "فلما علا عليها رجل نادى فرفع صوته لا إله إلا الله والله أكبر" لم أقف على اسم هذا الرجل، ويجمع بأن الكل كبروا وزاد هذا عليهم بالتهليل، وتقدم في رواية عبد الواحد ما يدل على أن المراد بالتكبير قول لا إله إلا الله والله أكبر. قوله: "اربعوا" بفتح الموحدة أي ارفقوا، وقد تقدم بيانه في أوائل الدعاء، قال يعقوب بن السكيت: ربع الرجل يربع إذا رفق وكف، وكذا بقية ألفاظه. قال ابن بطال: كان عليه السلام معلما لأمته فلا يراهم على حالة من الخير إلا أحب لهم الزيادة، فأحب للذين رفعوا أصواتهم بكلمة الإخلاص والتكبير أن يضيفوا إليها التبري من الحول والقوة فيجمعوا بين التوحيد والإيمان بالقدر، وقد جاء في الحديث: "إذا قال العبد لا حول ولا قوة إلا بالله قال الله أسلم عبدي واستسلم". قلت: أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة بسند قوى. وفي رواية له "قال لي يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: تقول لا حول ولا قوة إلا بالله. فيقول الله أسلم عبدي واستسلم" وزاد في رواية له "ولا منجا ولا ملجأ من الله إلا إليه" قوله: "من كنوز الجنة" تقدم القول فيه، وحاصله أن المراد أنها من ذخائر الجنة أو محصلات نفائس الجنة، قال النووي: المعنى أن قولها يحصل ثوابا نفيسا يدخر لصاحبه في الجنة. وأخرج أحمد والترمذي وصححه ابن حبان عن أيوب "أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به مر على إبراهيم على نبينا و عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد مر أمتك أن يكثروا من غراس الجنة، قال: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله". قوله: "لا تدعون" كذا أطلق على التكبير ونحوه دعاء من جهة أنه بمعنى النداء لكون الذاكر يريد إسماع من ذكره والشهادة له.

(11/501)


8 - باب الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ عَاصِمٌ مَانِعٌ
قَالَ مُجَاهِدٌ سَدًّا عَنْ الْحَقِّ يَتَرَدَّدُونَ فِي الضَّلاَلَةِ دَسَّاهَا أَغْوَاهَا
6611- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ"
[الحديث 6611- طرفه في: 7198]
قوله: "باب" بالتنوين "المعصوم من عصم الله" أي من عصمه الله بأن حماه من الوقوع في الهلاك أو ما يجر إليه يقال عصمه الله من المكروه وقاه وحفظه واعتصمت بالله لجأت إليه وعصمة الأنبياء على نبينا وعليهم

(11/501)


الصلاة والسلام حفظهم من النقائص وتخصيصهم بالكمالات النفيسة والنصرة والثبات في الأمور وإنزال السكينة، والفرق بينهم وبين غيرهم أن العصمة في حقهم بطريق الوجوب وفي حق غيرهم بطريق الجواز. قوله: "عاصم مانع" يريد تفسير قوله تعالى في قصة نوح وابنه {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} وبذلك فسره عكرمة فيما أخرجه الطبري من طريق الحكم بن أبان عنه. وقال الراغب المعنى بقوله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ} أي لا شيء يعصم منه، وفسره بعضهم بمعصوم، ولم يرد أن العاصم بمعنى المعصوم وإنما نبه على أنهما متلازمان فأيهما حصل حصل الآخر.قوله: "قال مجاهد سدا عن الحق يترددون في الضلالة" كذا للأكثر سدا بتشديد الدال بعدها ألف، وصله ابن أبي حاتم من طريق ورقاء عن ابن نجيح عنه في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} قال عن الحق، ووصله عبد بن حميد من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {سَدّاً} قال: عن الحق وقد يترددون، ورأيته في بعض نسخ البخاري "سدى" بتخفيف الدال مقصورة وعليها شرح الكرماني فزعم أنه وقع هنا {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي مهملا مترددا في الضلالة، ولم أر في شيء من نسخ البخاري إلا اللفظ الذي أوردته "قال مجاهد {سَدّاً} إلخ" ولم أر في شيء من التفاسير التي تساق بالأسانيد لمجاهد في قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} كلاما، ولم أر قوله: {فِي الضَّلالَةِ} في شيء من النقول بالسند عن مجاهد، ووقع في رواية النسفي لضلالة بدل قوله في الضلالة. قوله: {دَسَّاهَا بِطَغْوَاهَا} قال الفريابي: حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} قال: من أغواها. وأخرج الطبري بسند صحيح عن حبيب بن أبي ثابت عن مجاهد وسعيد بن جبير في قوله: " {دَسَّاهَا} قال: قال أحدهما أغواها وقال الآخر أضلها. وقال أبو عبيدة دساها أصله دسست، لكن العرب تقلب الحرف المضاعف إلى الياء مثل تظننت من الظن فتقول تظنيت بالتحتانية بعد النون. ومناسبة هذا التفسير للترجمة تؤخذ من المراد بفاعل دساها فقال قوم: هو الله أي قد أفلح صاحب النفس التي زكاها الله وخاب صاحب النفس التي أغواها الله. وقال آخرون: هو صاحب النفس إذا فعل الطاعات فقد زكاها وإذا فعل المعاصي فقد أغواها، والأول هو المناسب للترجمة. وقال الكرماني: مناسبة التفسيرين للترجمة أن من لم يعصمه الله كان سدي وكان مغوي. حديث أبي سعيد الخدري "ما استخلف من خليفة إلا وله بطانتان" الحديث وفيه: "والمعصوم من عصم الله" وسيأتي شرحه في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. والبطانة بكسر الموحدة اسم جنس يشمل الواحد والجماعة، والمراد من يطلع على باطن حال الكبير من أتباعه.

(11/502)


باب { وحرم على قرية أهلكناها أنهم لايرجعون أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا }
...
9 - باب {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}
{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} {وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا}
وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحِرْمٌ بِالْحَبَشِيَّةِ وَجَبَ
6612- حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ

(11/502)


مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ" وَقَالَ شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب وحِرْم على قرية أهلكناها" كذا لأبي ذر وفي رواية غيره "وحرام" بفتح أوله وزيادة الألف وزادوا بقية الآية والقراءتان مشهورتان: قرأ أهل الكوفة بكسر أوله وسكون ثانيه وقرأ أهل الحجاز والبصرة والشام بفتحتين وألف وهما بمعنى كالحلال والحل، وجاء في الشواذ عن ابن عباس قراءات أخرى بفتح أوله وتثليث الراء وبالضم أشهر وبضم أوله وتشديد الراء المكسورة، قال الراغب: في قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} هو تحريم تسخير، وحمل بعضهم عليه قوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ}. قوله: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} كذا جمع بين بعض كل من الآيتين وهما من سورتين إشارة إلى ما ورد في تفسير ذلك، وقد أخرج الطبري من طريق يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ما قال نوح {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً -إلى قوله: كَفَّارًا} إلا بعد أن نزل عليه {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} . قلت: ودخول ذلك في أبواب القدر ظاهر، فإنه يقتضي سبق علم الله بما يقع من عبيده. قوله: "وقال منصور بن النعمان" هو اليشكري بفتح التحتانية وسكون المعجمة وضم الكاف بصري سكن مرو ثم بخاري، وما له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد زعم بعض المتأخرين أن الصواب منصور بن المعتمر والعلم عند الله. قوله: "عن عكرمة عن ابن عباس: وحرم بالحبشية وجب" لم أقف على هذا التعليق موصولا، وقرأت بخط مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن وغيره فقالوا: أخرجه أبو جعفر عن ابن قهزاد عن أبي عوانة عنه. قلت: ولم أقف على ذلك في تفسير أبي جعفر الطبري وإنما فيه وفي تفسير عبد بن حميد وابن أبي حاتم جميعا من طريق داود ابن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} قال: وجب، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: حرم عزم، ومن طريق عطاء عن عكرمة: وحرم وجب بالحبشية، وبالسند الأول قال: وقوله: {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يتوب منهم تائب، قال الطبري معناه أنهم أهلكوا بالطبع على قلوبهم فهم لا يرجعون عن الكفر، وقيل معناه يمتنع على الكفرة الهالكين أنهم لا يرجعون إلى عذاب الله، وقيل فيه أقوال أخر ليس هذا موضع استيعابها، والأول أقوى وهو مراد المصنف بالترجمة والمطابق لما ذكر معه من الآثار والحديث. قوله: "معمر عن ابن طاوس" هو عبد الله. قوله: "عن ابن عباس: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة" فذكر الحديث ثم قال: وقال شبابة "حدثنا ورقاء هو ابن عمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" فكأن طاوسا سمع القصة من ابن عباس عن أبي هريرة وكان سمع الحديث المرفوع من أبي هريرة أو سمعه من أبي هريرة بعد أن سمعه من ابن عباس، وقد أشرت إلى ذلك في أوائل كتاب الاستئذان وبينت الاختلاف في رفع الحديث ووقفه، ولم أقف على رواية شبابة هذه موصولة، وكنت قرأت بخط مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن أن الطبراني وصلها في المعجم الأوسط عن عمرو بن عثمان عن ابن المنادي عنه وقلدتهما في ذلك في تعليق التعليق ثم راجعت المعجم الأوسط فلم أجدها. قوله: "باللمم" بفتح اللام والميم هو ما يلم به الشخص من شهوات النفس، وقيل هو مقارفة الذنوب الصغار. وقال الراغب:

(11/503)


اللمم مقارفة المعصية ويعبر به عن الصغيرة، ومحصل كلام ابن عباس تخصيصه ببعضها، ويحتمل أن يكون أراد أن ذلك من جملة اللمم أو في حكم اللمم. قوله: "إن الله كتب على ابن آدم" أي قدر ذلك عليه أو أمر الملك بكتابته كما تقدم بيانه في شرح حديث ابن مسعود الماضي قريبا. قوله: "أدرك ذلك لا محالة" بفتح الميم أي لا بد له من عمل ما قدر عليه أنه يعمله، وبهذا تظهر مطابقة الحديث للترجمة. قال ابن بطال كل ما كتبه الله على الآدمي فهو قد سبق في علم الله وإلا فلا بد أن يدركه المكتوب عليه، وإن الإنسان لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه إلا أنه يلام إذا واقع ما نهى عنه بحجب ذلك عنه وتمكينه من التمسك بالطاعة، فبذلك يندفع قول القدرية والمجبرة. ويؤيده قوله: "والنفس تمني وتشتهي" لأن المشتهي بخلاف الملجأ. قوله: "حظه من الزنا" إطلاق الزنا على اللمس والنظر وغيرهما بطريق المجاز لأن كل ذلك من مقدماته. قوله: "فزنا العين النظر" أي إلى ما لا يحل للناظر "وزنا اللسان المنطق" في رواية الكشميهني: "النطق" بضم النون بغير ميم في أوله. قوله: "والنفس تمنى" بفتح أوله على حذف إحدى التاءين والأصل تتمنى. قوله: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" يشير إلى أن التصديق هو الحكم بمطابقة الخبر للواقع والتكذيب عكسه، فكان الفرج هو الموقع أو الواقع فيكون تشبيها، ويحتمل أن يريد أن الإيقاع يستلزم الحكم بها عادة فيكون كناية. قال الخطابي: المراد باللمم ما ذكره الله في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وهو المعفو عنه. وقال في الآية الأخرى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فيؤخذ من الآيتين أن اللمم من الصغائر وأنه يكفر باجتناب الكبائر، وقد تقدم بيان ذلك في الكلام على حديث: "من هم بحسنة ومن هم بسيئة" في وسط كتاب الرقاق. وقال ابن بطال: تفضل الله على عباده بغفران اللمم إذا لم يكن للفرج تصديق بها فإذا صدقها الفرج كان ذلك كبيرة. ونقل الفراء أن بعضهم زعم أن "إلا" في قوله: "إلا اللمم" بمعنى الواو، وأنكره وقال: إلا صغائر الذنوب فإنها تكفر باجتناب كبارها، إنما أطلق عليها زنا لأنها من دواعيه، فهو من إطلاق اسم المسبب على السبب مجازا. وفي قوله: "والنفس تشتهي والفرج يصدق أو يكذب" ما يستدل به على أن العبد لا يخلق فعل نفسه لأنه قد يريد الزنا مثلا ويشتهيه فلا يطاوعه العضو الذي يريد أن يزني به ويعجزه الحيلة فيه ولا يدري لذلك سببا، ولو كان خالقا لفعله لما عجز عن فعل ما يريده مع وجود الطواعية واستحكام الشهوة فدل على أن ذلك فعل مقدر يقدرها إذا شاء ويعطلها إذا شاء.

(11/504)


باب { وماجعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس }
...
10 - باب وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ
6613- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ قَالَ هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ"
قوله: "باب وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس" ذكر فيه حديث ابن عباس حديث ابن عباس قد تقدم في تفسير سورة سبحان مستوفي، ووجه دخوله في أبواب القدر من ذكر الفتنة، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي جعلها وقد قال موسى عليه السلام {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} وأصل الفتنة الاختيار،

(11/504)


ثم استعملت فيما أخرجه الاختيار إلى المكروه، ثم استعملت في المكروه: فتارة في الكفر كقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} وتارة في الإثم كقوله: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} وتارة في الإحراق كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} وتارة في الإزالة عن الشيء كقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} وتارة في غير ذلك، والمراد بها في هذا الموضع الاختبار على بابها الأصلي والله أعلم. قال ابن التين: وجه دخول هذا الحديث في كتاب القدر الإشارة إلى أن الله قدر على المشركين التكذيب لرؤيا نبيه الصادق فكان ذلك زيادة في طغيانهم حيث قالوا: كيف يسير إلى بيت المقدس في ليلة واحدة ثم يرجع فيها؟ وكذلك جعل الشجرة الملعونة زيادة في طغيانهم حيث قالوا كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؟ وفيه خلق الله الكفر ودواعي الكفر من الفتنة، وسيأتي زيادة في تقرير ذلك في الكلام على خلق أفعال العباد في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. والجواب عن شبهتهم أن الله خلق الشجرة المذكورة من جوهر لا تأكله النار ومنها سلاسل أهل النار، وأغلالهم وخزنة النار من الملائكة وحياتها وعقاربها، وليس ذلك من جنس ما في الدنيا، وأكثر ما وقع الغلط لمن قاس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، والله تعالى الموفق. قال سفيان: حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

(11/505)


11- باب تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ
6614- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ "سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ لَهُ آدَمُ يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلاَمِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلاَثًا"
قَالَ سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. مِثْلَهُ
قوله: "باب تحاج آدم وموسى عند الله" أما "تحاج" فهو بفتح أوله وتشديد آخره وأصله تحاجج بجيمين، لفظ قوله: "عند الله" فزعم ببعض شيوخنا أنه أراد أن ذلك يقع منهما يوم القيامة، ثم رده بما وقع في بعض طرقه وذلك فيما أخرجه أبو داود من حديث عمر قال: "قال موسى يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم فقال: أنت أبونا" الحديث، قال: وهذا ظاهره أنه وقع في الدنيا، انتهى. وفيه نظر فليس قول البخاري "عند الله" صريحا في أن ذلك يقع يوم القيامة فإن العندية عندية اختصاص وتشريف لا عندية مكان، فيحتمل وقوع ذلك في كل من الدارين، وقد وردت العندية في القيامة بقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} وفي الدنيا بقوله صلى الله عليه وسلم: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" وقد بينت في كتاب الصيام أنه بهذا اللفظ في مسند أحمد بسند في صحيح مسلم لكن لم يسق لفظ المتن. والذي ظهر لي أن البخاري لمح في الترجمة بما وقع في بعض طرق الحديث وهو ما أخرجه أحمد من طريق يزيد بن هرمز عن أبي هريرة بلفظ: "احتج آدم وموسى عند ربهما" قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "حفظناه من عمرو" يعني ابن دينار، ووقع في مسند

(11/505)


الحميدي عن سفيان "حدثنا عمرو بن دينار" وأخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق الحميدي. قوله: "عن طاوس" في رواية أحمد عن سفيان عن عمرو سمع طاوسا، وعند الإسماعيلي من طريق محمد بن منصور الخراز عن سفيان عن عمرو بن دينار "سمعت طاوسا" قوله في آخره "وقال سفيان حدثنا أبو الزناد" هو موصول عطفا على قوله: "حفظناه من عمرو" ووقع في رواية الحميدي "قال وحدثنا أبو الزناد" بإثبات الواو وهي أظهر في المراد، وأخطأ من زعم أن هذه الطريق معلقة، وقد أخرجها الإسماعيلي منفردة بعد أن ساق طريق طاوس عن جماعة عن سفيان فقال: "أخبرنيه القاسم -يعني ابن زكريا- حدثنا إسحاق بن حاتم العلاف حدثنا سفيان عن عمرو مثله سواء وزاد: قال وحدثني سفيان عن أبي الزناد به" قال ابن عبد البر: هذا الحديث ثابت بالاتفاق رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى من رواية الأئمة الثقات الإثبات. قلت: وقع لنا من طريق عشرة عن أبي هريرة: منهم طاوس في الصحيحين والأعرج كما ذكرته وهو عند مسلم من رواية الحارث بن أبي الذباب وعند النسائي عن عمرو بن أبي عمرو كلاهما عن الأعرج وأبو صالح السمان عند الترمذي والنسائي وابن خزيمة كلهم من طريق الأعمش عنه والنسائي أيضا من طريق القعقاع بن حكيم عنه، ومنهم أبو سلمة بن عبد الرحمن عند أحمد وأبي عوانة من رواية الزهري عنه وقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب وقيل عنه عن حميد بن عبد الرحمن ومن رواية أيوب بن النجار عن أبي سلمة في الصحيحين أيضا وقد تقدم في تفسير سورة طه ومن رواية محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عند ابن خزيمة وأبي عوانة وجعفر الفريابي في القدر ومن رواية يحيى بن أبي كثير عنه عند أبي عوانة، ومنهم حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة كما تقدم في قصة موسى من أحاديث الأنبياء ويأتي في التوحيد وأخرجه مسلم، ومنهم محمد بن سيرين كما مضى في تفسير طه وأخرجه مسلم، ومنهم الشعبي أخرجه أبو عوانة والنسائي، ومنهم همام بن منبه أخرجه مسلم، ومنهم عمار بن أبي عمار أخرجه أحمد، ومن رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عمر عند أبي داود وأبي عوانة وجندب بن عبد الله عند النسائي وأبو سعيد عند البزار وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والحارث من وجه آخر عنه، وقد أشار إلى هذه الثلاثة الترمذي. قوله: "احتج آدم وموسى" في رواية همام ومالك "تحاج" كما في الترجمة وهي أوضح. وفي رواية أيوب ابن النجار ويحيى بن كثير "حج آدم وموسى" وعليها شرح الطيبي فقال: معنى قوله حج آدم وموسى غلبه بالحجة وقوله بعد ذلك "قال موسى أنت آدم إلخ" توضيح لذلك وتفسير لما أجمل، وقوله في آخره: "فحج آدم موسى" تقرير لما سبق وتأكيد له. وفي رواية يزيد بن هرمز كما تقدمت الإشارة إليه "عند ربهما" وفي رواية محمد بن سيرين "التقى آدم وموسى" وفي رواية عمار والشعبي "لقي آدم موسى" وفي حديث عمر "لقي موسى آدم" كذا عند أبي عوانة، وأما أبو داود فلفظه كما تقدم "قال موسى يا رب أرني آدم" وقد اختلف العلماء في وقت هذا اللفظ فقيل يحتمل أنه في زمان موسى فأحيا الله له آدم معجزة له فكلمه أو كشف له عن قبره فتحدثا أو أراه الله روحه كما أرى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج أرواح الأنبياء أو أراه الله له في المنام ورؤيا الأنبياء وحي ولو كان يقع في بعضها ما يقبل التعبير كما في قصة الذبيح، أو كان ذلك بعد وفاة موسى فالتقيا في البرزخ أول ما مات موسى فالتقت أرواحهما في السماء، وبذلك جزم ابن عبد البر والقابسي، وقد وقع في حديث عمر لما قال موسى أنت آدم قال له من أنت قال أنا موسى وأن ذلك لم يقع بعد وإنما يقع في الآخرة: والتعبير عنه في الحديث بلفظ الماضي لتحقق

(11/506)


وقوعه. وذكر ابن الجوزي احتمال التقائهما في البرزخ واحتمال أن يكون ذلك ضرب مثل والمعنى لو اجتمعا لقالا ذلك، وخص موسى بالذكر لكونه أول نبي بعث بالتكاليف الشديدة، قال: وهذا وإن احتمل لكن الأول أولى، قال: وهذا مما يجب الإيمان به لثبوته عن خبر الصادق وإن لم يطلع على كيفية الحال، وليس هو بأول ما يجب علينا الإيمان به وإن لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر ونعيمه، ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات لم يبق إلا التسليم. وقال ابن عبد البر مثل هذا عندي يجب فيه التسليم ولا يوقف فيه على التحقيق لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلا. قوله: "أنت أبونا" في رواية يحيى بن أبي كثير "أنت الناس" وكذا في حديث عمر. وفي رواية الشعبي "أنت آدم أبو البشر" قوله: "خيبتنا وأخرجتنا من الجنة" في رواية حميد بن عبد الرحمن "أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة" هكذا في أحاديث الأنبياء عنه، وفي التوحيد "أخرجت ذريتك" وفي رواية مالك "أنت الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة" ومثله في رواية همام وكذا في رواية أبي صالح. وفي رواية محمد بن سيرين "أشقيت" بدل "أغويت" ومعنى أغويت كنت سببا لغواية من غوى منهم، وهو سبب بعيد إذ لو لم يقع الأكل من الشجرة لم يقع الإخراج من الجنة ولو لم يقع الإخراج ما تسلط عليهم الشهوات والشيطان المسبب عنهما الإغواء، والغي ضد الرشد وهو الانهماك في غير الطاعة، يطلق أيضا على مجرد الخطأ يقال غوى أي أخطا صواب ما أمر به. وفي تفسير طه من رواية أبي سلمة "أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك" وعند أحمد من طريقه "أنت الذي أدخلت ذريتك النار" والقول فيه كالقول في أغويت، وزاد همام "إلى الأرض" وكذا في رواية يزيد بن هرمز "فأهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض" وأوله عنده "أنت الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته" ومثله في رواية أبي صالح لكن قال: "ونفخ فيك من روحه" ولم يقل "وأسجد لك ملائكته" ومثله في رواية محمد بن عمرو وزاد: "وأسكنك جنته" ومثله في رواية محمد بن سيرين وزاد: "ثم صنعت ما صنعت" وفي رواية عمرو بن أبي عمرو عن الأعرج "يا آدم خلقك الله بيده ثم نفخ فيك من روحه ثم قال لك كن فكنت ثم أمر الملائكة فسجدوا لك ثم قال لك {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فنهاك عن شجرة واحدة فعصيت" وزاد الفريابي "وأكلت منها" وفي رواية عكرمة بن عمار عن أبي سلمة "أنت آدم الذي خلقك الله بيده" فأعاد الضمير في قوله خلقك إلى قوله أنت والأكثر عوده إلى الموصول، فكأنه يقول خلقه الله، ونحو ذلك ما وقع في رواية الأكثر "أنت الذي أخرجتك خطيئتك" وفي حديث عمر بعد قوله أنت آدم "قال نعم، قال أنت الذي نفخ الله فيك من روحه وعلمك الأسماء كلها، أمر الملائكة فسجدوا لك، قال نعم، قال فلم أخرجتنا ونفسك من الجنة" وفي لفظ لأبي عوانة "فوالله لو لا ما فعلت ما دخل أحد من ذريتك النار" ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن أبي شيبة: "فأهلكتنا وأغويتنا" وذكر ما شاء الله أن يذكر، من هذا وهذا يشعر بأن جميع ما ذكر في هذه الروايات محفوظ وأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وقوله: "أنت آدم" استفهام تقرير، وإضافة الله خلق آدم إلى يده في الآية إضافة تشريف وكذا إضافة روحه إلى الله، ومن في قوله من روحه زائدة على رأي، والنفخ بمعنى الخلق أي خلق فيك الروح، ومعنى قوله أخرجتنا كنت سببا لإخراجنا كما تقدم تقريره، وقوله أغويتنا وأهلكتنا من إطلاق الكل على البعض بخلاف أخرجتنا فهو على عمومه، ومعنى قوله أخطأت وعصيت ونحوهما

(11/507)


فعلت خلاف ما أمرت به، وأما قوله خيبتنا بالخاء المعجمة ثم الموحدة من الخيبة فالمراد به الحرمان، وقيل هي كأغويتنا من إطلاق الكل على البعض، والمراد من يجوز منه وقوع المعصية، ولا مانع من حمله على عمومه والمعنى أنه لو استمر على ترك الأكل من الشجرة لم يخرج منها ولو استمر فيها لولد له فيها وكان ولده سكان الجنة على الدوام، فلما وقع الإخراج فات أهل الطاعة من ولده استمرار الدوام في الجنة وإن كانوا إليها ينتقلون، وفات أهل المعصية تأخر الكون في الجنة مدة الدنيا وما شاء الله من مدة العذاب في الآخرة إما مؤقتا في حق الموحدين وإما مستمرا في حق الكفار فهو حرمان نسبي. قوله: "فقال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده" في رواية الأعرج "أنت موسى الذي أعطاك الله علم كل شيء واصطفاك على الناس برسالته" وفي رواية همام نحوه لكن بلفظ:" اصطفاك وأعطاه" وزاد في رواية يزيد بن هرمز "وقربك نجيا وأعطاك الألواح فيها بيان كل شيء" وفي رواية ابن سيرين "اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة" وفي رواية أبي سلمة "اصطفاك الله برسالته وكلامه" ووقع في رواية الشعبي "فقال نعم" وفي حديث عمر "قال أنا موسى، قال نبي بني إسرائيل؟ قال نعم، قال أنت الذي كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟ قال نعم". قوله: "أتلومني على أمر قدر الله علي" كذا للسرخسي والمستملي بحذف المفعول وللباقين "قدره الله على". قوله: "قبل أن يخلقني بأربعين سنة" في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة "فكيف تلومني على أمر كتبه الله أو قدره الله على" ولم يذكر المدة وثبت ذكرها في رواية طاوس. وفي رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة ولفظه: "فكم تجد في التوراة أنه كتب على العمل الذي عملته قبل أن أخلق؟ قال: بأربعين سنة. قال: فكيف تلومني عليه" وفي رواية يزيد بن هرمز نحوه وزاد: "فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى؟ قال نعم" وكلام ابن عبد البر قد يوهم تفرد ابن عيينة عن أبي الزناد بزيادتها لكنه بالنسبة لأبي الزناد وإلا فقد ذكر التقييد بالأربعين غير ابن عيينة كما ترى. وفي رواية الزهري عن أبي سلمة عند أحمد "فهل وجدت فيها -يعني الألواح أو التوراة- أني أهبط" وفي رواية الشعبي أفليس تجد فيما أنزل الله عليك أنه سيخرجني منها قبل أن يدخلنيها؟ قال بلى" وفي رواية عمار ابن أبي عمار "أنا أقدم أم الذكر؟ قال بل الذكر" وفي رواية عمرو بن أبي عمرو عن الأعرج "ألم تعلم أن الله قدر هذا على قبل أن يخلقني" وفي رواية ابن سيرين "فوجدته كتب على قبل أن يخلقني؟ قال نعم" وفي رواية أبي صالح "فتلومني في شيء كتبه الله على قبل خلقي" وفي حديث عمر قال: "فلم تلومني على شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء" ووقع في حديث أبي سعيد الخدري "أتلومني على أمر قدره على قبل أن يخلق السماوات والأرض" والجمع بينه وبين الرواية المقيدة بأربعين سنة حملها على ما يتعلق بالكتابة وحمل الأخرى على ما يتعلق بالعلم. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون المراد بالأربعين سنة ما بين قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} إلى نفخ الروح في آدم، وأجاب غيره أن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح وآخرها ابتداء خلق آدم. وقال ابن الجوزي: المعلومات كلها قد أحاط بها علم الله القديم قبل وجود المخلوقات كلها، ولكن كتابتها وقعت في أوقات متفاوتة، وقد ثبت في الصحيح يعني صحيح مسلم: "أن الله قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" فيجوز أن تكون قصة آدم بخصوصها كتبت قبل خلقه بأربعين سنة، ويجوز أن يكون ذلك القدر مدة لبثه طينا إلى أن نفخت فيه الروح، فقد ثبت في صحيح مسلم أن بين تصويره طينا ونفخ الروح فيه كان مدة أربعين سنة، ولا يخالف ذلك كتابة المقادير

(11/508)


عموما قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وقال المازري: الأظهر أن المراد أنه كتبه قبل خلق آدم بأربعين عاما، ويحتمل أن يكون المراد أظهره للملائكة أو فعل فعلا ما أضاف إليه هذا التاريخ وإلا فمشيئة الله وتقديره قديم، والأشبه أنه أراد بقوله: "قدره الله على قبل أن أخلق" أي كتبه في التوراة لقوله في الرواية المشار إليها قبل "فكم وجدته كتب في التوراة قبل أن أخلق" وقال النووي: المراد بتقديرها كتبه في اللوح المحفوظ أو في التوراة أو في الألواح، ولا يجوز أن يراد أصل القدر لأنه أزلي ولم يزل الله سبحانه تعالى مريدا لما يقع من خلقه. وكان بعض شيوخنا يزعم أن المراد إظهار ذلك عند تصوير آدم طينا فإن آدم أقام في طينته أربعين سنة، والمراد على هذا بخلقه نفخ الروح فيه. قلت: وقد يعكر على هذا رواية الأعمش عن أبي صالح "كتبه الله على قبل أن يخلق السماوات والأرض" لكنه يحمل قوله فيه: "كتبه الله على" قدره أو على تعدد الكتابة لتعدد المكتوب، والعلم عند الله تعالى. قوله: "فحج آدم موسى، فحج آدم موسى ثلاثا" كذا في هذه الطرق ولم يكرر في أكثر الطرق عن أبي هريرة، ففي رواية أيوب بن النجار كالذي هنا لكن بدون قوله: "ثلاثا" وكذا لمسلم من رواية ابن سيرين، كذا في حديث جندب عند أبي عوانة، وثبت في حديث عمر بلفظ: "فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، قالها ثلاث مرات" وفي رواية عمرو بن أبي عمرو عن الأعرج "لقد حج آدم موسى، لقد حج آدم موسى، لقد حج آدم موسى" وفي حديث أبي سعيد عند الحارث "فحج آدم موسى ثلاثا" وفي رواية الشعبي عند النسائي: "فخصم آدم موسى، فخصم آدم موسى واتفق الرواة والنقلة والشراح على أن آدم بالرفع وهو الفاعل، وشذ بعض الناس فقرأه بالنصب على أنه المفعول وموسى في محل الرفع على أنه الفاعل نقله الحافظ أبو بكر بن الخاصية عن مسعود ابن ناصر السجزي الحافظ قال: سمعته يقرأ: "فحج آدم" بالنصب، قال وكان قدريا. قلت: هو محجوج بالاتفاق قبله على أن آدم بالرفع على أنه الفاعل، وقد أخرجه أحمد من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "فحجه آدم" وهذا يرفع الإشكال فإن رواته أئمة حفاظ، والزهري من كبار الفقهاء الحفاظ فروايته هي المعتمدة في ذلك، ومعني حجه غلبه بالحجة، يقال حاججت فلانا فحججته مثل خاصمته فخصمته، قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل جسيم لأهل الحق في إثبات القدر وأن الله قضى أعمال العباد فكل أحد يصير لما قدر له بما سبق في علم الله، قال: وليس فيه حجة للجبرية وإن كان في بادئ الرأي يساعدهم. وقال الخطابي في "معالم السنن": يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر يستلزم الجبر وقهر العبد ويتوهم أن غلبة آدم كانت من هذا الوجه، وليس كذلك وإنما معناه الأخبار عن إثبات علم الله بما يكون من أفعال العباد وصدورها عن تقدير سابق منه، فإن القدر اسم لما صدر عن فعل القادر، وإذا كان كذلك فقد نفي عنهم من وراء علم الله أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور عن قصد وتعمد واختيار، فالحجة إنما نلزمهم بها واللائمة إنما تتوجه عليها، وجماع القول في ذلك أنهما أمران لا يبدل أحدهما عن الآخر: أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء ونقضه وإنما جهة حجه آدم أن الله علم منهم أنه يتناول من الشجرة فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه، وإنما خلق للأرض وأنه لا يترك في الجنة بل ينقل منها إلى الأرض فكان تناوله من الشجرة سببا لإهباطه واستخلافه في الأرض كما قال تعالى قبل خلقه {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} قال فلما لامه موسى عن نفسه قال له: أتلومني على أمر قدره الله على؟ فاللوم عليه من قبلك ساقط عني إذ ليس لأحد أن يعير أحدا بذنب كان منه، لأنه الخلق كلهم تحت العبودية

(11/509)


سواء، وإنما يتجه اللوم من قبل الله سبحانه وتعالى إذ كان نهاه فباشر ما نهاه عنه، قال: وقول موسى وإن كان في النفس منه شبهة وفي ظاهره تعلق لاحتجاجه بالسب لكن تعلق آدم بالقدر أرجح فلهذا غلبه. والغلبة تقع مع المعارضة كما تقع مع البرهان انتهى ملخصا. وقال في أعلام الحديث نحوه ملخصا وزاد: ومعنى قوله: "فحج آدم موسى" دفع حجته التي ألزمه اللوم بها. قال: ولم يقع من آدم إنكار لما صدر منه بل عارضه بأمر دفع به عنه اللوم. قلت: ولم يتلخص من كلامه مع تطويله في الموضعين دفع للشبهة إلا في دعواه أنه ليس للآدمي أن يلوم آخر مثله على فعل ما قدره الله عليه، وإنما يكون ذلك لله تعالى لأنه هو الذي أمره ونهاه. وللمعترض أن يقول: وما المانع إذا كان ذلك لله أن يباشره من تلقى عن الله من رسوله ومن تلقى عن رسله ممن أمر بالتبليغ عنهم؟ وقال القرطبي: إنما غلبه بالحجة لأنه علم من التوراة أن الله تاب عليه فكان لومه له على ذلك نوع جفاء كما يقال ذكر الجفاء بعث حصول الصفاء جفاء، ولأن أثر المخالفة بعد الصفح ينمحي حتى كأنه لم يكن فلا يصادف اللوم من اللائم حينئذ محلا انتهى. وهو محصل ما أجاب به المازري وغيره من المحققين، وهو المعتمد. وقد أنكر القدرية هذا الحديث لأنه صريح في إثبات القدر السابق وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لآدم على الاحتجاج به وشهادته بأنه غلب موسى فقالوا: لا يصح لأن موسى لا يلوم على أمر قد تاب منه صاحبه، وقد قتل هو نفسا لم يؤمر بقتلها، ثم قال: رب اغفر لي، فغفر له، فكيف يلوم آدم على أمر قد غفر له؟ ثانيها لو ساغ اللوم على الذنب بالقدر الذي فرغ من كتابته على العبد لا يصح هذا لكان من عوتب على معصية قد ارتكبها فيحتج بالقدر السابق ولو ساغ ذلك لانسد باب القصاص والحدود ولاحتج به كل أحد على ما يرتكبه من الفواحش، وهذا يفضي إلى لوازم قطعية، فدل ذلك على أن هذا الحديث لا أصل له. والجواب من أوجه: أحدها أن آدم إنما احتج بالقدر على المعصية لا المخالفة، فإن محصل لوم موسى إنما هو على الإخراج فكأنه قال أنا لم أخرجكم وإنما أخرجكم الذي رتب الإخراج على الأكل من الشجر والذي رتب ذلك قدره قبل أن أخلق فكيف تلومني على أمر ليس لي فيه نسبة إلا الأكل من الشجرة والإخراج المرتب عليها ليس من فعلي. قلت: وهذا الجواب لا يدفع شبهة الجبرية. ثانيها إنما حكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم بالحجة في معنى خاص وذلك لأنه لو كانت في المعنى العام لما تقدم من الله تعالى لومه بقوله: "ألم أنهكما عن تلكما الشجرة" ولا أخذه بذلك حتى أخرجه من الجنة وأهبطه إلى الأرض، ولكن لما أخذ موسى في لومه وقدم قوله له أنت الذي خلقك الله بيده وأنت وأنت لم فعلت كذا؟ عارضه آدم بقوله أنت الذي اصطفاك الله وأنت وأنت. وحاصل جوابه إذا كنت بهذه المنزلة كيف يخفى عليك أنه لا محيد من القدر، وإنما وقعت الغلبة لآدم من وجهين: أحدهما أنه ليس لمخلوق أن يلوم مخلوقا في وقوع ما قدر عليه إلا بإذن من الله تعالى فيكون الشارع هو اللائم، فلما أخذ موسى في لومه من غير أن يؤذن له في ذلك عارضه بالقدر فأسكته. والثاني أن الذي فعله آدم اجتمع فيه القدر والكسب، والتوبة تمحو أثر الكسب، وقد كان الله تاب عليه فلم يبق إلا القدر، والقدر لا يتوجه عليه لوم لأنه فعل الله ولا يسأل عما يفعل. ثالثها قال ابن عبد البر: هذا عندي مخصوص بآدم لأن المناظرة بينهما وقعت بعد أن تاب الله على آدم قطعا كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} فحسن منه أن ينكر على موسى لومه على الأكل من الشجرة لأنه كان قد تيب عليه من ذلك وإلا فلا يجوز لأحد أن يقول لمن لامه على ارتكاب معصية كما لو قتل أو زنا أو سرق: هذا سبق في علم الله وقدره علي قبل أن يخلقني فليس لك أن تلومني عليه، فإن

(11/510)


الأمة أجمعت على جواز لوم من وقع منه ذلك بل على استحباب ذلك كما أجمعوا على استحباب محمدة من واظب على الطاعة. قال: وقد حكى ابن وهب في كتاب القدر عن مالك عن يحيى بن سعيد أن ذلك كان من آدم بعد أن تيب عليه. رابعها إنما توجهت الحجة لآدم لأن موسى لامه بعد أن مات واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف، فإن الأحكام حينئذ جارية عليهم، فيلام العاصي ويقام عليه الحد والقصاص وغير ذلك، وأما بعد أن يموت فقد ثبت النهي عن سب الأموات "ولا تذكروا موتاكم إلا بخير" لأن مرجع أمرهم إلى الله، وقد ثبت أنه لا يثني العقوبة على من أقيم عليه الحد، بل ورد النهي عن التثريب على الأمة إذا زنت وأقيم عليها الحد، وإذا كان كذلك فلوم موسى لآدم إنما وقع بعد انتقاله عن دار التكليف، وثبت أن الله تاب عليه فسقط عنه اللوم، فلذلك عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه غلب موسى بالحجة. قال المازري: لما تاب الله على آدم صار ذكر ما صدر منه إنما هو كالبحث عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، فأخبر هو أن الأصل في ذلك القضاء السابق فلذلك غلب بالحجة. قال الداودي فيما نقله ابن التين: إنما قامت حجة آدم لأن الله خلقه ليجعله في الأرض خليفة، فلم يحتج آدم في أكله من الشجرة بسابق العلم لأنه كان عن اختيار منه، وإنما احتج بالقدر لخروجه لأنه لم يكن بد من ذلك. وقيل إن آدم أب وموسى ابن وليس للابن أن يلوم أباه، حكاه القرطبي وغيره، ومنهم من عبر عنه بأن آدم أكبر منه، وتعقبه بأنه بعيد من معنى الحديث، ثم هو ليس على عمومه بل يجوز للابن أن يلوم أباه في عدة مواطن، وقيل إنما غلبه لأنهما شريعتين متغايرتين، وتعقب بأنها دعوى لا دليل عليها، ومن أين يعلم أنه كان في شريعة آدم أن المخالف يحتج بسابق القدر وفي شريعة موسى أنه لا يحتج أو أنه يتوجه له اللوم على المخالف، وفي الجملة فأصح الأجوبة الثاني والثالث، ولا تنافي بينهما فيمكن أن يمتزج منهما جواب واحد وهو أن التائب لا يلام على ما يتب عليه منه ولا سيما إذا انتقل عن دار التكليف. وقد سلك النووي هذا المسلك فقال: معنى كلام آدم أنك يا موسى تعلم أن هذا كتب على قبل أن أخلق فلا بد من وقوعه، ولو حرصت أنا والخلق أجمعون على رد مثقال ذر منه لم نقدر فلا تلمني فإن اللوم على المخالفة شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله علي وغفر لي زال اللوم فمن لامني كان محجوجا بالشرع. فإن قيل فالعاصي اليوم لو قال هذه المعصية قدرت على فينبغي أن يسقط عني اللوم قلنا الفرق أن هذا العاصي باق في دار التكليف جارية عليه الأحكام من العقوبة واللوم وفي ذلك له ولغيره زجر وعظة، فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف مستغن عن الزجر فلم يكن للومه فائدة بل فيه إيذاء وتخجيل فلذلك كان الغلبة له. وقال التوربشتي: ليس معنى قوله كتبه الله علي ألزمني به وإنما معناه أثبته في أم الكتاب قبل أن يخلق آدم وحكم أن ذلك كائن. ثم إن هذه المحاججة إنما وقعت في العالم العلوي عند ملتقى الأرواح ولم تقع في عالم الأسباب، والفرق بينهما أن عالم الأسباب لا يجوز قطع النظر فيه عن الوسائط والاكتساب، بخلاف العالم العلوي بعد انقطاع موجب الكسب وارتفاع الأحكام التكليفية، فلذلك احتج آدم بالقدر السابق. قلت: وهو محصل بعض الأجوبة المتقدم ذكرها، وفيه استعمال التعريض بصيغة المدح يؤخذ ذلك من قول آدم لموسى "أنت الذي اصطفاك الله برسالته" إلى آخر ما خاطبه به، وذلك أنه أشار بذلك إلى أنه اطلع على عذره وعرفه بالوحي فلو استحضر ذلك ما لامه مع وضوح عذره، وأيضا ففيه إشارة إلى شيء آخر أعم من ذلك وإن كان لموسى فيه اختصاص فكأنه قال: لو لم يقع إخراجي الذي رتب على أكلي من الشجرة ما حصلت لك هذه المناقب لأني لو بقيت في الجنة واستمر نسلي فيها

(11/511)


ما وجد من تجاهر بالكفر الشنيع بما جاهر به فرعون حتى أرسلت أنت إليه وأعطيت ما أعطيت، فإذا كنت أنا السبب في حصول هذه الفضائل لك فكيف يسوغ لك أن تلومني. قال الطيبي مذهب الجبرية إثبات القدرة لله ونفيها عن العبد أصلا، ومذهب المعتزلة بخلافه، وكلاهما من الإفراط والتفريط على شفا جرف هار، والطريق المستقيم القصد، فلما كان سياق كلام موسى يؤول إلى الثاني بأن صدر الجملة بحرف الإنكار والتعجب وصرح باسم آدم ووصفه بالصفات التي كل واحدة منها مستقلة في علية عدم ارتكابه المخالفة ثم أسند الإهباط إليه ونفس الإهباط منزلة دون فكأنه قال: ما أبعد هذا الانحطاط من تلك المناصب العالية، فأجاب آدم بما يقابلها بل أبلغ فصدر الجملة بهمزة الإنكار أيضا وصرح باسم موسى ووصفه بصفات كل واحدة مستقلة في علية عدم الإنكار عليه، ثم رتب العلم الأزلي على ذلك، ثم أتى بهمزة الإنكار بدل كلمة الاستبعاد فكأنه قال: تجد في التوراة هذا ثم تلومني قال: وفي هذا التقرير تنبيه على تحري قصد الأمور. قال وختم النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بقوله: "فحج آدم موسى" تنبيها على أن بعض أمته كالمعتزلة ينكرون القدر فاهتم لذلك وبالغ في الإرشاد. قلت: ويقرب من هذا ما تقدم في كتاب الإيمان في الرد على المرجئة بحديث ابن مسعود رفعه: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" فلما كان المقام مقام الرد على المرجئة اكتفى به معرضا عما يقتضيه ظاهره من تقوية مذهب الخوارج المكفرين بالذنب اعتمادا على ما تقرر من دفعه في مكانه، فكذلك هنا لما كان المراد به الرد على القدرية الذين ينكرون سبق القدر اكتفى به معرضا عما يوهمه ظاهر من تقوية مذهب الجبرية لما تقرر من دفعه في مكانه والله أعلم. وفي هذا الحديث عدة من الفوائد غير ما تقدم: قال القاضي عياض ففيه حجة لأهل السنة في أن الجنة التي أخرج منها آدم هي جنة الخلد التي وعد المتقون ويدخلونها في الآخرة، خلافا لمن قال من المعتزلة وغيرهم إنها جنة أخرى، ومنهم من زاد على ذلك فزعم أنها كانت في الأرض، وقد سبق الكلام على ذلك في أواخر كتاب الرقاق. وفيه إطلاق العموم وإرادة الخصوص في قوله: "أعطاك علم كل شيء" والمراد به كتابه المنزل عليه وكل شيء يتعلق به؛ وليس المراد عمومه لأنه قد أقر الخضر على قوله: "وإني على علم من علم الله لا تعلمه أنت" وقد مضى واضحا في تفسير سورة الكهف. وفيه مشروعية الحجج في المناظرة لإظهار طلب الحق وإباحة التوبيخ والتعريض في أثناء الحجاج ليتوصل إلى ظهور الحجة وأن اللوم على من أيقن وعلم اشد من اللوم على من لم يحصل له ذلك. وفيه مناظرة العالم من هو أكبر منه والابن أباه ومحل مشروعية ذلك إذا كان لإظهار الحق أو الازدياد من العلم والوقوف على حقائق الأمور. وفيه حجة لأهل السنة في إثبات القدر وخلق أفعال العباد. وفيه أنه يغتفر للشخص في بعض الأحوال ما لا يغتفر في بعض كحالة الغضب والأسف وخصوصا ممن طبع على حدة الخلق وشدة الغضب، فإن موسى عليه السلام لما غلبت عليه حالة الإنكار في المناظرة خاطب آدم مع كونه والده باسمه مجردا وخاطبه بأشياء لم يكن ليخاطب بها في غير تلك الحالة، ومع ذلك فأقره على ذلك وعدل إلى معارضته فيما أبداه من الحجة في دفع شبهته.

(11/512)


باب لامانع لما أعطى
...
12 - باب لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ "كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خَلْفَ الصَّلاَةِ فَأَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ قَالَ:

(11/512)


سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خَلْفَ الصَّلاَةِ "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَد ّ"ُ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ أَنَّ وَرَّادًا أَخْبَرَهُ بِهَذَا ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ"
قوله: "باب لا مانع لما أعطى الله" هذا اللفظ منتزع من معنى الحديث الذي أورده. وأما لفظه فهو طرف من حديث معاوية أخرجه مالك. ولمح المصنف بذلك إلى أنه بعض حديث الباب كما قدمته عند شرحه في آخر صفة الصلاة، وأن معاوية استثبت المغيرة في ذلك، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي هناك. وقوله: "ولا معطي لما منعت" زاد فيه مسعر عن عبد الملك بن عمير عن وراد "ولا راد لما قضيت" أخرجه الطبراني بسند صحيح عنه، وذكرت لهذه الزيادة طريقا أخرى هناك، وكذا رويناها في "فوائد أبي سعد الكنجرودي". قوله: "وقال ابن جريج" وصله أحمد ومسلم من طريق ابن جريج، والغرض التصريح بأن ورادا أخبر به عبدة لأنه وقع في الرواية الأولى بالعنعنة.

(11/513)


13 - باب مَنْ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}
6616- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ"
قوله: "باب من تعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء" تقدم شرح ذلك في أوائل الدعوات. قوله: "وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} يشير بذكر الآية إلى الرد على من زعم أن العبد يخلق فعل نفسه، لأنه لو كان السوء المأمور بالاستعاذة بالله منه مخترعا لفاعله لما كان للاستعاذة بالله منه معنى، لأنه لا يصح التعوذ إلا بمن قدر على إزالة ما استعيذ به منه. حديث أبي هريرة وهو يتضمن أن الله تعالى فاعل جميع ما ذكر، والمراد بسوء القضاء سوء المقضي كما تقدم تقريره مع شرح الحديث مستوفي في أوائل الدعوات.

(11/513)


14 - باب يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
قوله: "باب يحول بين المرء وقلبه" كأنه أشار إلى تفسير الحيلولة التي في الآية بالتقلب الذي في الخبر أشار إلى ذلك الراغب وقال: المراد أنه يلقي في قلب الإنسان ما يصرفه عن مراده لحكمة تقتضي ذلك، وورد في تفسير الآية ما أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا: "يحول بين المؤمن وبين الكفر ويحول بين الكافر وبين الهدي"
6617- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَثِيرًا مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ " لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ"
[الحديث 6617- طرفاه في: 6628، 7391]
6618- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ وَبِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالاَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لِابْنِ صَيَّادٍ "خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئَا قَالَ الدُّخُّ قَالَ اخْسَأْ

(11/513)


باب { قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا }
...
15 - باب {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} قَضَى
قَالَ مُجَاهِدٌ بِفَاتِنِينَ بِمُضِلِّينَ إِلاَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ
{قَدَّرَ فَهَدَى} قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ وَهَدَى الأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا
6619- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ فَقَالَ "كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِيهِ وَيَمْكُثُ فِيهِ لاَ يَخْرُجُ مِنْ الْبَلَدِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ"
قوله: "باب قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، قضى" فسر كتب بقضى وهو أحد معانيها، وبه جزم الطبري في تفسيرها. وقال الراغب: ويعبر بالكتابة عن القضاء الممضى كقوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} أي فيما قدره، ومنه {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} يعني ما قدره وقضاه،

(11/514)


قال: وعبر بقوله لنا ولم يعبر بقوله علينا تنبيها على أن الذي يصيبنا نعده نعمة لا نقمة، قلت: ويؤيد هذا الآية التي تليها حيث قال: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} وقد تقدم في تفسيره أن المراد الفتح أو الشهادة وكل منهما نعمة. قال ابن بطال: وقد قيل إن هذه الآية وردت فيما أصاب العباد من أفعال الله التي اختص بها دون خلقه ولم يقدرهم على كسبها دون ما أصابوه مكتسبين له مختارين. قلت: والصواب التعميم وأن ما يصيبهم باكتسابهم واختيارهم هو مقدور لله تعالى وعن إرادته وقع، والله أعلم. قوله: "قال مجاهد {بفاتنين} بمضلين، إلا من كتب الله أنه يصلى الجحيم" وصله عبد بن حميد بمعناه من طريق إسرائيل عن منصور في قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} قال لا يفتنون إلا من كتب عليه الضلالة، ووصله أيضا من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظه، وأخرجه الطبري من تفسير ابن عبا من رواية علي بن أبي طلحة عنه بلفظ: "لا تضلون أنتم ولا أضل منكم إلا من قضيت عليه أنه صال الجحيم" ومن طريق حميد "سألت الحسن فقال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من كان في علم الله أنه سيصلى الجحيم" ومن طريق عمر بن عبد العزيز قال في تفسير هذه الآية "إنكم والآلهة التي تعبدونها لستم بالذي تفتنون عليها إلا من قضيت أنه من سيصلى الجحيم". قوله: "قدر فهدى قدر الشقاء والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} قدر للإنسان الشقوة والسعادة وهدى الأنعام لمراتعها، وتفسير مجاهد هذا للمعنى لا للفظ وهو كقوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قال الراغب: هداية الله للخلق على أربعة أضرب: الأول العامة لكل أحد بحسب احتماله وإليها أشار بقوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} والثاني الدعاء على ألسنة الأنبياء وإليها أشار بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} والثالث التوفيق الذي يختص به من اهتدى وإليها أشار بقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} وقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} والرابع الهدايات في الآخرة إلى الجنة وإليها أشار بقوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} قال: وهذه الهدايات الأربع مرتبة فإنه من لا يحصل له الأولى لا تحصل له الثانية ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة ولا تحصل الرابعة إلا لمن حصلت له الثالثة ولا تحصل الثالثة إلا لمن حصلت له اللتان قبلها، وقد تحصل الأولى دون الثانية والثانية دون الثالثة، والإنسان لا يهدي أحدا إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون بقية الأنواع المذكورة، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وإلى بقية الهدايات أشار بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} . حديث عائشة في الطاعون وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الطب، والغرض من قوله فيه: يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له. "تنبيه": سند حديث عائشة هذا من ابتدائه إلى يحيى بن يعمر مراوزة، وقد سكن يحيى المذكور مرو مدة فلم يبق من رجال السند من ليس مروزيا إلا طرفاه البخاري وعائشة.

(11/515)


باب { وماكنا لنهتدي لولا أن هدنا الله - لو أن الله هاني لكنت من المتقين }
...
16 - باب {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ}
6620- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ وَهُوَ يَقُولُ

(11/515)


وَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ صُمْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا ... فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبِّتْ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا ... وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
قوله: "باب {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} كذا ذكر بعض كل من الآيتين، والهداية المذكورة أولا هي الرابعة على ما ذكر الراغب، والمذكورة ثانيا هي الثالثة. حديث البراء في قوله: "والله لولا الله ما اهتدينا" الأبيات وقد تقدم شرحها في غزوه الخندق، وقوله هنا "ولا صمنا ولا صلينا" كذا وقع مزحوفا، وتقدم هناك من طريق شعبة عن أبي إسحاق بلفظ: "ولا تصدقنا" بدل "ولا صمنا" وبه يحصل الوزن وهو المحفوظ، والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب القدر من الأحاديث المرفوعة على تسعة وعشرين حديثا، المعلق منها ثلاثة والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنان وعشرون والخالص سبعة وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي سعيد "ما استخلف من خليفة" وحديث ابن عمر "لا ومقلب القلوب". وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين خمسة آثار. والله أعلم.

(11/516)


كتاب الأيمان والنذور
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
83 - كِتَاب الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ
قوله: "كتاب الأيمان والنذور" الأيمان بفتح الهمزة جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة اليد وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه، وقيل لأن اليد اليمنى من شأنها حفظ الشيء فسمى الحلف بذلك لحفظ المحلوف عليه، وسمى المحلوف عليه يمينا لتلبسه بها. ويجمع اليمين أيضا على أيمن كرغيف وأرغف. وعرفت شرعا بأنها توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله وهذا أخصر التعاريف وأقربها. والنذور جمع نذر وأصله الإنذار بمعنى التخويف. وعرفه الراغب بأنه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر.

(11/516)


باب قول الله تعالى { لايؤخذكم الله بالغو في أيمانكم ...} الخ .
...
1 - باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لايُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
6621- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ قَطُّ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَقَالَ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتُ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي"
6622- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ

(11/516)


2 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَايْمُ اللَّهِ"
6627- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "إِنْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم وايم الله" بكسر الهمزة وبفتحها والميم مضمومة، وحكى الأخفش كسرها مع كسر الهمزة، وهو اسم عند الجمهور وحرف عند الزجاج وهمزته همزة وصل عند الأكثر وهمزة قطع عند الكوفيين ومن وافقهم لأنه عندهم جمع يمين، وعند سيبويه ومن وافقه أنه اسم مفرد، واحتجوا بجواز كسر همزته وفتح ميمه.
قال ابن مالك: فلو كان جمعا لم تحذف همزته، واحتج بقول عروة بن الزبير لما أصيب بولده ورجله "ليمنك لئن ابتليت لقد عافيت" قال: فلو كان جمعا لم يتصرف فيه بحذف بعضه، قال: وفيه اثنتا عشرة لغة جمعتها في بيتين وهما:
همز ايم وايمن فافتح واكسر أو أم قل ... أو قل م أو من بالتثليث قد شكلا
وايمن اختم به والله كلا أضف ... إليه في قسم تستوف ما نقلا
قال ابن أبي الفتح تلميذ ابن مالك: فإنه أم بفتح الهمزة وهيم بالهاء بدل الهمزة وقد حكاها القاسم بن أحمد المعلم

(11/521)


الأندلسي في "شرح المفصل" وقد قدمت في أوائل هذا الشرح في آخر التيمم لغات في هذا فبلغت عشرين، وإذا حصر ما ذكر هنا زادت على ذلك. وقال غيره: أصله يمين الله ويجمع أيمنا فيقال وأيمن الله حكاه أبو عبيدة وأنشد لزهير بن أبي سلمى:
فتجمع أيمن منا ومنكم ... بمقسمة تمور بها الدماء
وقالوا عند القسم: وأيمن الله، ثم كثر فحذفوا النون كما حذفوها من لم يكن فقالوا لم يك، ثم حذفوا الياء فقالوا أم الله ثم حذفوا الألف فاقتصروا على الميم مفتوحة ومضمومة ومكسورة. وقالوا أيضا من الله بكسر الميم وضمها، وأجازوا في أيمن فتح الميم وضمها وكذا في أيم، ومنهم من وصل الألف وجعل الهمزة زائدة أو مسهلة وعلى هذا تبلغ لغاتها عشرين. وقال الجوهري: قالوا: أيم الله وربما حذفوا الياء فقالوا أم الله وربما أبقوا الميم وحدها مضمومة فقالوا م الله وربما كسروها لأنها صارت حرفا واحدا فشبهوها بالباء قالوا وألفها ألف وصل عند أكثر النحويين ولم يجيء ألف وصل مفتوحة غيرها، وقد تدخل اللام للتأكيد فيقال ليمن الله قال الشاعر:
فقال فريق القوم لما نشدتهم ... نعم وفريق ليمن الله ما ندري
وذهب ابن كيسان وابن درستويه إلى أن ألفها ألف قطع وإنما خففت همزتها وطرحت في الوصل لكثرة الاستعمال، وحكى ابن التين عن الداودي قال: ايم الله معناه اسم الله أبدل السين ياء، وهو غلط فاحش لأن السين لا تبدل ياء، وذهب المبرد إلى أنها عوض من واو القسم وأن معنى قوله وايم الله والله لأفعلن. ونقل عن ابن عباس أن يمين الله من أسماء الله ومنه قول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ومن ثم قال المالكية والحنفية إنه يمين، وعند الشافعية إن نوى اليمين انعقدت وإن نوى غير اليمين لم ينعقد يمينا وإن أطلق فوجهان أصحهما لا ينعقد إلا إن نوى، وعن أحمد روايتان أصحهما الانعقاد، وحكى الغزالي في معناه وجهين أحدهما أنه كقوله تالله والثاني كقوله أحلف بالله وهو الراجح، ومنهم من سوى بينه وبين لعمر الله، وفرق الماوردي بأن لعمر الله شاع في استعمالهم عرفا بخلاف ايم الله، واحتج بعض من قال منهم بالانعقاد مطلقا بأن معناه يمين الله ويمين الله من صفاته وصفاته قديمة، وجزم النووي في التهذيب أن قول وايم الله كقوله وحق الله وقال إنه تنعقد به اليمين عند الإطلاق وقد استغربوه. ووقع في الباب الذي بعده ما يقويه، وهو قوله في حديث أبي هريرة في قصة سليمان بن داود عليهما السلام "وايم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا" والله أعلم. واستدل من قال بالانعقاد مطلقا بهذا الحديث ولا حجة فيه إلا على التقدير المتقدم وأن معناه وحق الله. حديث ابن عمر في بعث أسامة وقد تقدم شرحه مستوفي في آخر المغازي وفي المناقب، وضبط قوله فيه وايم الله بالهمز وتركه، والله أعلم.

(11/522)


3 - باب كَيْفَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ سَعْدٌ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ"
وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لاَهَا اللَّهِ إِذًا يُقَالُ وَاللَّهِ وَبِاللَّهِ وَتَاللَّهِ

(11/522)


6628- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ"
6629- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ "عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
6630- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
6631- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا"
6632- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ" فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لاَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي" فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْآنَ يَا عُمَرُ"
6633-6634- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ تَكَلَّمْ قَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالْعَسِيفُ الأَجِيرُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ لِي ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا وَأُمِرَ أُنَيْسٌ الأَسْلَمِيُّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الْآخَرِ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا"

(11/523)


6635- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ تَمِيمٍ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَغَطَفَانَ وَأَسَدٍ خَابُوا وَخَسِرُوا قَالُوا نَعَمْ فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ"
6636- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَالَ لَهُ "أَفَلاَ قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لاَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ فَقَدْ بَلَّغْتُ فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ وَقَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مَعِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلُوهُ"
6637- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا"
6638- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ "عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ يَقُولُ "هُمْ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ" قُلْتُ مَا شَأْنِي أَيُرَى فِيَّ شَيْءٌ مَا شَأْنِي فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَسْكُتَ وَتَغَشَّانِي مَا شَاءَ اللَّهُ فَقُلْتُ مَنْ هُمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "الأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا"
6639- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ سُلَيْمَانُ لاَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ"
6640- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ أُهْدِيَ إِلَى

(11/524)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ وَيَعْجَبُونَ مِنْ حُسْنِهَا وَلِينِهَا
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَتَعْجَبُونَ مِنْهَا" قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا" لَمْ يَقُلْ شُعْبَةُ وَإِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ"
6641- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ إِنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ مِمَّا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ أَوْ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ أَوْ خِبَائِكَ شَكَّ يَحْيَى ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَهْلُ أَخْبَاءٍ أَوْ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ أَوْ خِبَائِكَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ قَالَ " لاَ إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ"
6642- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ قَالَ "حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضِيفٌ ظَهْرَهُ إِلَى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ يَمَانٍ إِذْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا بَلَى قَالَ أَفَلَمْ تَرْضَوْا أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا بَلَى قَالَ " فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لاَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ"
6643- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"
6644- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لاَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إِذَا مَا رَكَعْتُمْ وَإِذَا مَا سَجَدْتُمْ"
6645- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا أَوْلاَدٌ لَهَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لاَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ"

(11/525)


قوله: "باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم" أي التي كان يواظب على القسم بها أو يكثر، وجملة ما ذكر في الباب أربعة ألفاظ: أحدها والذي نفسي بيده وكذا نفس محمد بيده، فبعضها مصدر بلفظ لا وبعضها بلفظ أما وبعضها بلفظ أيم، ثانيها لا ومقلب القلوب. ثالثها والله رابعها ورب الكعبة، وأما قوله: "لاها الله إذا" فيؤخر منه مشروعيته من تقريره لا من لفظه والأول أكثرها ورودا، وفي سياق الثاني إشعار بكثرته أيضا، وقد وقع في حديث رفاعة بن عرابة عند ابن ماجه والطبراني "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حلف قال: والذي نفسي بيده" ولابن أبي شيبة من طريق عاصم بن شميخ عن أبي سعيد "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في اليمين قال: "لا والذي نفس أبي القاسم بيده" ولابن ماجه من وجه آخر في هذا الحديث: "كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يحلف بها أشهد عند الله، والذي نفسي بيده" ودل ما سوى الثالث من الأربعة على أن النهي عن الحلف بغير الله لا يراد به اختصاص لفظ الجلالة بذلك بل يتناول كل اسم وصفة تختص به سبحانه وتعالى، وقد جزم ابن حزم وهو ظاهر كلام المالكية والحنفية بأن جميع الأسماء الواردة في القرآن والسنة الصحيحة وكذا الصفات صريح في اليمين تنعقد به وتجب لمخالفته الكفارة، وهو وجه غريب عند الشافعية، وعندهم وجه أغرب منه أنه ليس في شيء من ذلك صريح إلا لفظ الجلالة وأحاديث الباب ترده. والمشهور عندهم وعند الحنابلة أنها ثلاثة أقسام. أحدها ما يختص به كالرحمن ورب العالمين وخالق الخلق فهو صريح تنعقد به اليمين سواء قصد الله أو أطلق. ثانيها ما يطلق عليه وقد يقال لغيره لكن بقيد كالرب والحق فتنعقد به اليمين إلا إن قصد به غير الله. ثالثها ما يطلق على السواء كالحي والموجود والمؤمن فإن نوى غير الله أو أطلق فليس بيمين وإن نوى به الله انعقد على الصحيح. وإذا تقرر هذا فمثل "والذي نفسي بيده" ينصرف عند الإطلاق لله جزما فإن نوى به غيره كملك الموت مثلا لم يخرج عن الصراحة على الصحيح، وفيه وجه عن بعض الشافعية وغيرهم، ويلتحق به "والذي فلق الحبة، ومقلب القلوب" وأما مثل "والذي أعبده، أو أسجد له، أو أصلي له" فصريح جزما، وجملة الأحاديث المذكورة في هذا الباب عشرون حديثا: قوله: "وقال سعد" هو ابن أبي وقاص، وقد مضى الحديث المشار إليه في مناقب عمر في حديث أوله "استأذن عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة" الحديث وفيه: "أيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك" وقد مضى شرحه مستوفي هناك. قوله: "وقال أبو قتادة قال أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم: لاها الله إذا" وهو طرف من حديث موصول في غزوة حنين، وقد بسطت الكلام على هذه الكلمة هناك. قوله: "يقال والله وبالله وتالله" يعني أن هذه الثلاثة حروف القسم، ففي القرآن القسم بالواو وبالموحدة في عدة أشياء وبالمثناة في قوله: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} وغير ذلك وهذا قول الجمهور وهو المشهور عن الشافعي، ونقل قول عن الشافعي أن القسم بالمثناة ليس صريحا لأن أكثر الناس لا يعرفون معناها، والأيمان مختصة بالعرف، وتأول ذلك أصحابه وأجابوا عنه بأجوبة. نعم تفترق الثلاثة بأن الأولين يدخلان على اسم الله وغيره من أسمائه ولا تدخل المثناة إلا على الله وحده، وكأن المصنف أشار بإيراد هذا الكلام هنا عقب حديث أبي قتادة إلى أن أصل "لاها الله لا والله" فالهاء عوض عن الواو، وقد صرح بذلك جمع من أهل اللغة. وقيل الهاء نفسها أيضا حرف قسم بالأصالة. ونقل الماوردي أن أصل أحرف القسم الواو ثم الموحدة ثم المثناة. ونقل ابن الصباغ عن أهل اللغة أن الموحدة هي الأصل وأن الواو بدل منها وأن المثناة بدل

(11/526)


من الواو، وقواه ابن الرفعة واستدل بأن الباء تعمل في الضمير بخلاف الواو. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي وسفيان هو الثوري، وقد أخرج البخاري عن محمد بن يوسف وهو البيكندي عن سفيان وهو ابن عيينة وليس هو المراد هنا. وقد أخرج أبو نعيم في المستخرج هذا الحديث من طريق محمد بن يوسف الفريابي حدثنا سفيان وهو الثوري، وأخرجه الإسماعيلي وابن ماجه من رواية وكيع والنسائي من رواية محمد بن بشر كلاهما عن سفيان الثوري أيضا. قوله: "كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم" زاد الإسماعيلي من رواية وكيع "التي يحلف عليها" وفي أخرى له "يحلف بها". قوله: "لا ومقلب القلوب" تقدم في أواخر كتاب القدر من رواية ابن المبارك عن موسى بن عقبة بلفظ: "كثيرا ما كان" ويأتي في التوحيد من طريقه بلفظ: "أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف" فذكره. وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر عن الزهري بلفظ كان أكثر أيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ومصرف القلوب" وقوله: "لا" نفي للكلام السابق "ومقلب القلوب" هو المقسم به، والمراد بتقليب القلوب تقليب أعراضها وأحوالها لا تقليب ذات القلب. وفي الحديث دلالة على أن أعمال القلب من الإرادات والدواعي وسائر الأعراض بخلق الله تعالى، وفيه جواز تسمية الله تعالى بما ثبت من صفاته على الوجه الذي يليق به. وفي هذا الحديث حجة لمن أوجب الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله فحنث، ولا نزاع في أصل ذلك وإنما الخلاف في أي صفة تنعقد بها اليمين، والتحقيق أنها مختصة بالتي لا يشاركه فيها غيره كمقلب القلوب، قال القاضي أبو بكر بن العربي: في الحديث جواز الحلف بأفعال الله إذا وصف بها ولم يذكر اسمه، قال وفرق الحنفية بين القدرة والعلم فقالوا: إن حلف بقدرة الله انعقدت يمينه وإن حلف بعلم الله لم تنعقد لأن العلم يعبر به عن المعلوم كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}. والجواب أنه هنا مجاز إن سلم أن المراد به المعلوم، والكلام إنما هو في الحقيقة. قال الراغب: تقليب الله القلوب والأبصار صرفها عن رأي إلى رأي، والتقلب التصرف، قال تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} قال: وسمي قلب الإنسان لكثرة تقلبه. ويعبر بالقلب عن المعاني التي يختص بها من الروح والعلم والشجاعة، ومن قوله: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي الأرواح، وقوله: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي علم وفهم، وقوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} أي نثبت به شجاعتكم. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: القلب جزء من البدن خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة، وحصل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية، ووكل بها ملكا يأمر بالخير وشيطانا يأمر بالشر، فالعقل بنوره يهديه والهوى بظلمته يغويه والقضاء والقدر مسيطر على الكل والقلب ينقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة واللمة من الملك تارة ومن الشيطان أخرى والمحفوظ من حفظه الله تعالى. حديث جابر بن سمرة "إذا هلك كسرى" وقد تقدم شرحه في أواخر علامات النبوة والغرض منه قوله: "والذي نفسي بيده". حديث أبي هريرة "إذا هلك كسرى" وقد تقدم شرحه في أواخر علامات النبوة والغرض منه قوله: "والذي نفسي بيده". حديث عائشة، وهو طرف من حديث طويل تقدم في صلاة الكسوف، واقتصر هنا على آخره لقوله: "والله لو تعلمون" ومحمد في أول هذا السند هو ابن سلام، وعبدة هو ابن سليمان. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" دلالة على اختصاصه بمعارف بصرية وقلبية، وقد يطلع الله عليها غيره من المخلصين من أمته لكن بطريق الإجمال، وأما تفاصيلها فاختص بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جمع الله له بين علم اليقين وعين اليقين مع الخشية القلبية واستحضار العظمة الإلهية على وجه لم يجتمع لغيره، ويشير إلى ذلك قوله في الحديث الماضي في

(11/527)


كتاب الإيمان من حديث عائشة "إن أتقاكم وأعلمكم بالله لأنا". حديث عبد الله بن هشام أي ابن زهرة بن عثمان التيمي من رهط الصديق. قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب" تقدم هذا القدر من هذا الحديث بهذا السند في آخر مناقب عمر، فذكرت هناك نسب عبد الله بن هشام وبعض حاله، ويقدم له ذكر في الشركة والدعوات. قوله: "فقال له عمر يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي" اللام لتأكيد القسم المقدر كأنه قال: والله لأنت إلخ. قوله: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" أي لا يكفي ذلك لبلوغ الرتبة العليا حتى يضاف إليه ما ذكر. وعن بعض الزهاد: تقدير الكلام لا تصدق في حبي حتى تؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه الهلاك. وقد قدمت تقرير هذا في أوائل كتاب الأيمان. قوله: "فقال له عمر فإنه الآن يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر" قال الداودي: وقوف عمر أول مرة واستثناؤه نفسه إنما اتفق حتى لا يبلغ ذلك منه فيحلف بالله كاذبا، فلما قال له ما قال تقرر في نفسه أنه أحب إليه من نفسه فحلف، كذا قال. وقال الخطابي: حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حب الاختيار إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه. قلت: فعلى هذا فجواب عمر أولا كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى فأخبر بما اقتضاه الاختيار، ولذلك حصل الجواب بقوله: "الآن يا عمر" أي الآن عرفت فنطقت بما يجب. وأما تقرير بعض الشراح الآن صار إيمانك معتدا به، إذ المرء لا يعتد بإيمانه حتى يقتضي عقله ترجيح جانب الرسول. ففيه سوء أدب في العبارة، وما أكثر ما يقع مثل هذا في كلام الكبار عند عدم التأمل والتحرز لاستغراق الفكر في المعنى الأصلي، فلا ينبغي التشديد في الإنكار على من وقع ذلك منه بل يكتفي بالإشارة إلى الرد والتحذير من الاغترار به لئلا يقع المنكر في نحو مما أنكره. حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف وسيأتي شرحه مستوفى في الحدود، والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده لأقضين" وسقطت "أما" وهي بتخفيف الميم للافتتاح من بعض الروايات. قوله: "عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وفي شيوخ البخاري عبد الله بن محمد وهو أبو بكر بن أبي شيبة لكنه لم يسم أباه في شيء من الأحاديث التي أخرجها إما يكنيه ويكنى أباه أو يسميه ويكنى أباه، بخلاف الجعفي فإنه ينسبه تارة وأخرى لا ينسبه كهذا الموضع، ووهب هو ابن جرير بن حازم، ومحمد بن أبي يعقوب نسبه إلى جده وهو محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب الضبي، وأبو بكرة هو الثقفي، والإسناد من وهب فصاعدا بصريون. قوله: "أرأيتم إن كان أسلم" أي أخبروني، والمراد بأسلم ومن ذكر معها قبائل مشهورة، وقد تقدم شرح الحديث المذكور في أوائل المبعث النبوي والمراد منه قوله فيه: "فقال: والذي نفسي بيده أنتم خير منهم" والمراد خيرية المجموع على المجموع وإن جاز أن يكون في المفضولين فرد أفضل من فرد من الأفضلين. قوله: "استعمل عاملا" هو ابن اللتبية بضم اللام وسكون المثناة وكسر الموحدة ثم ياء النسب واسمه عبد الله كما تقدمت الإشارة إليه في كتاب الزكاة وشيء من شرحه في الهبة، ويأتي شرحه مستوفي في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله في آخره "قال أبو حميد: وقد سمع معي زيد بن ثابت من النبي صلى الله عليه وسلم فسلوه" قد فتشت مسند زيد ثابت فلم أجد لهذه القصة فيه ذكرا. حديث أبي هريرة "لو تعلمون ما أعلم" الحديث مختصرا

(11/528)


وقد تقدمت الإشارة إليه في أحاديث الباب. حديث أبي ذر أورده مختصرا. وقد تقدم شرحه مستوفي في الرقاق، وساق بهذا السند في كتاب الزكاة المتن بتمامه. قوله: "قال سليمان" أي ابن داود نبي الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم منسوبا في أوائل الجهاد، وتقدم شرحه مستوفى في ترجمة سليمان من أحاديث الأنبياء، ويأتي ما يتعلق بقوله: "إن الله تعالى" في باب الاستثناء في الأيمان من كتاب كفارة الأيمان، وأورده هنا لقوله فيه: "وايم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله" الحديث هكذا وقع في هذه الرواية وفي سائر الطرق كما تقدم في ترجمة سليمان بغير يمين، واستدل بما وقع في هذا الموضع على جواز إضافة "ايم" إلى غير لفظ الجلالة وأجيب بأنه نادر ومنه قول عروة بن الزبير في قصته المتقدمة "ليمنك لئن ابتليت فقد عافيت" فأضافها إلى الضمير. حديث البراء بن عازب في ذكر مناديل سعد تقدم شرحه في المناقب وفي اللباس، قوله في آخره: "لم يقل شعبة وإسرائيل عن أبي إسحاق والذي نفسي بيده" يعني أنهما روياه عن أبي إسحاق عن البراء كما رواه أبو الأحوص وأن أبا الأحوص انفرد عنهما بهذه الزيادة، وقد تقدم حديث شعبة في المناقب وحديث إسرائيل في اللباس موصولا، قال الإسماعيلي وكذا رواه الحسين بن واقد عن أبي إسحاق، كذا قال أبو عاصم أحمد ابن جواس -بفتح الجيم وتشديد الواو ثم المهملة- عن أبي الأحوص أخرجه الإسماعيلي من طريقه وقال: هو من المتخصصين بأبي الأحوص. قلت: وشيخ البخاري الذي زادها عن أبي الأحوص هو محمد بن سلام، وقد وافقه هناد ابن السري عن أبي الأحوص أخرجه ابن ماجه. قوله: "يونس" هو ابن يزيد. قوله: "ما كان مما على ظهر الأرض أهل أخباء أو خباء" كذا فيه بالشك هل هو بصيغة الجمع أو الإفراد، وبين أن الشك من يحيى وهو ابن عبد الله بن بكير شيخ البخاري فيه، وقد تقدم في النفقات من رواية ابن المبارك عن يونس بن يزيد بلفظ: "أهل خباء" بالإفراد ولم يشك، وكذا للإسماعيلي من طريق عنبسة عن يونس، وتقدم شرح الحديث في أواخر المناقب. وقوله إن أبا سفيان هو ابن حرب والد معاوية، وقوله رجل مسيك بكسر الميم، وتشديد السين وبفتح الميم وتخفيف السين وتقدم ذلك واضحا في كتاب النفقات، وقوله: "لا بالمعروف" الباء متعلقة بالإنفاق لا بالنفي، وقد مضى في المناقب بلفظ: "فقال لا إلا بالمعروف" وهي أوضح والله أعلم. قوله: "حدثنا أحمد بن عثمان" هو الأودي وشريح بالشين المعجمة والحاء المهملة، وإبراهيم بن يوسف أي ابن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي فأبو إسحاق جد يوسف والسند كله كوفيون، ومضى شرح الحديث مستوفي في كتاب الرقاق. حديث أبي سعيد في قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن تقدم مشروحا في فضائل القرآن. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه وحبان بفتح أوله ثم الموحدة وتقدم شرح الحديث المذكور في صفة الصلاة.قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه أيضا. قوله: "أن امرأة من الأنصار" لم أقف على اسمها ولا على أسماء أولادها. قوله: "معها أولادها" في رواية الكشميهني أولاد لها. قوله: "إنكم لأحب الناس إلي" تقدم الكلام عليه في مناقب الأنصار، وفي هذه الأحاديث جواز الحلف بالله تعالى. وقال قوم: يكره لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} ولأنه ربما عجز عن الوفاء بها، ويحمل ما ورد من ذلك على ما إذا كان في طاعة أو دعت إليها حاجة كتأكيد أمر أو تعظيم من يستحق التعظيم أو كان في دعوى عند الحاكم وكان صادقا.

(11/529)


4 - باب لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ
6646- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ "أَلاَ إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ"
6647- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ سَالِمٌ "قَالَ ابْنُ عُمَرَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ" قَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكِرًا وَلاَ آثِرًا قَالَ مُجَاهِدٌ أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ يَأْثُرُ عِلْمًا تَابَعَهُ عُقَيْلٌ وَالزُّبَيْدِيُّ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ"
6648- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عبد الله بن دينار "قال سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تحلفوا بآبائكم"
6649- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ "كَانَ بَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ وَبَيْنَ الأَشْعَرِيِّينَ وُدٌّ وَإِخَاءٌ فَكُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مِنْ الْمَوَالِي فَدَعَاهُ إِلَى الطَّعَامِ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ أَنْ لاَ آكُلَهُ فَقَالَ قُمْ فَلاَحَدِّثَنَّكَ عَنْ ذَاكَ إِنِّي أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ "وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ" فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْبِ إِبِلٍ فَسَأَلَ عَنَّا فَقَالَ "أَيْنَ النَّفَرُ الأَشْعَرِيُّونَ" فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا مَا صَنَعْنَا حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَحْمِلُنَا وَمَا عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا ثُمَّ حَمَلَنَا تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ وَاللَّهِ لاَ نُفْلِحُ أَبَدًا فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا لَهُ إِنَّا أَتَيْنَاكَ لِتَحْمِلَنَا فَحَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا وَمَا عِنْدَكَ مَا تَحْمِلُنَا فَقَالَ "إِنِّي لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ وَاللَّهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا"
قوله: "باب" بالتنوين "لا تحلفوا بآبائكم" هذه الترجمة لفظ رواية ابن دينار عن ابن عمر في الباب لكنها مختصرة على ما سأبينه، وقد أخرج النسائي وأبو داود في رواية ابن داسة عنه من حديث أبي هريرة مثله بزيادة ولفظه: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله" الحديث. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(11/530)


أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير" هذا السياق يقتضي أن الخبر من مسند ابن عمر وكذا وقع في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر، ولم أر عن نافع في ذلك اختلافا إلا ما حكى يعقوب بن شيبة أن عبد الله بن عمر العمري الضعيف المكبر رواه عن نافع فقال: "عن ابن عمر عن عمر" قال ورواه عبيد الله بن عمر العمرى المصغر الثقة عن نافع فلم يقل فيه: "عن عمر" وهكذا رواه الثقات عن نافع، لكن وقع في رواية أيوب عن نافع أن عمر لم يقل فيه عن ابن عمر. قلت: قد أخرجه مسلم من طريق أيوب فذكره، وأخرجه أيضا عن جماعة من أصحاب نافع بموافقة مالك، ووقع للمزي في "الأطراف" أنه وقع في رواية عبد الكريم "عن نافع عن ابن عمر" في مسند عمر، وهو معترض فإن مسلما ساق أسانيده فيه إلى سبعة أنفس من أصحاب نافع منهم عبد الكريم ثم قال سبعتهم "عن نافع عن ابن عمر" بمثل هذه القصة، وقد أورد المزي طرق الستة الآخرين في مسند ابن عمر على الصواب ووقع الاختلاف في رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه كما أشار المصنف إليه كما سأذكره. قوله: "في ركب" في مسند يعقوب بن شيبة من طريق ابن عباس عن عمر "بينا أنا راكب أسير في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "يحلف بأبيه" في رواية سفيان بن عيينة عن ابن شهاب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه وهو يقول وأبي وأبي" وفي رواية إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر من الزيادة "وكانت قريش تحلف بآبائها". قوله: "فقال ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" في رواية الليث عن نافع "فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووقع في مصنف ابن أبي شيبه من طريق عكرمة قال: "قال عمر: حدثت قوما حديثا فقلت: لا وأبي، فقال رجل من خلفي. لا تحلفوا بآبائكم، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم" وهذا مرسل يتقوى بشواهده. وقد أخرج الترمذي من وجه آخر "عن ابن عمر أنه سمع رجلا يقول لا والكعبة، فقال: لا تحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك" قال الترمذي حسن وصححه الحاكم، والتعبير بقوله فقد كفر أو أشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك، وقد تمسك به من قال بتحريم ذلك. قوله: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، وظاهر الحديث تخصيص الحلف بالله خاصة، لكن قد اتفق الفقهاء على أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية، واختلفوا في انعقادها ببعض الصفات كما سبق، وكأن المراد بقوله: "بالله" الذات لا خصوص لفظ الله، وأما اليمين بغير ذلك فقد ثبت المنع فيها، وهل المنع للتحريم؟ قولان عند المالكية، كذا قال ابن دقيق العيد، والمشهور عندهم الكراهة، والخلاف أيضا عند الحنابلة لكن المشهور عندهم التحريم، وبه جزم الظاهرية. وقال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع، ومراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه، فإنه قال في موضع آخر: أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها، والخلاف موجود عند الشافعية من أجل قول الشافعي: أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية، فأشعر بالتردد، وجمهور أصحابه على أنه للتنزيه. وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بالكراهة، وجزم غيره بالتفصيل، فإن اعتقد في المحلوف فيه من التعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به وكان بذلك الاعتقاد كافرا، وعليه يتنزل الحديث المذكور، وأما إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا يكفر بذلك ولا تنعقد يمينه

(11/531)


قال الماوردي: لا يجوز لأحد أن يحلف أحدا بغير الله لا بطلاق ولا عتاق ولا نذر، وإذا حلف الحاكم أحدا بشيء من ذلك وجب عزله لجهله. قوله: "عن يونس" هو ابن يزيد الأيلي، في رواية مسلم عن حرملة عن ابن وهب "أخبرني يونس". قوله: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ينهاكم" في رواية معمر عن ابن شهاب بهذا السند "عن عمر سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحلف بأبي فقال: إن الله" فذكر الحديث أخرجه أحمد عنه هكذا. قوله: "فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم" زاد مسلم في روايته: "ينهى عنها". قوله: "ذاكرا" أي عامدا. قوله: "ولا آثرا" بالمد وكسر المثلثة أي حاكيا عن الغير، أي ما حلفت بها ولا حكيت ذلك عن غيري، ويدل عليه ما وقع في رواية عقيل عن ابن شهاب عند مسلم: "ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ولا تكلمت بها" وقد استشكل هذا التفسير لتصدير الكلام بحلفت والحاكي عن غيره لا يسمى حالفا، وأجيب باحتمال أن يكون العامل فيه محذوفا أي ولا ذكرتها آثرا عن غيري، أو يكون ضمن حلفت معني تكلمت ويقويه رواية عقيل. وجوز شيخنا في شرح الترمذي لقوله آثرا معنى آخر أي مختارا، يقال آثر الشيء إذا اختاره، فكأنه قال ولا حلفت بها مؤثرا لها على غيرها، قال شيخنا: ويحتمل أن يرجع قوله آثرا إلى معنى التفاخر بالآباء في الإكرام لهم، ومنه قولهم مأثرة ومآثر وهو ما يروى من المفاخر فكأنه قال: ما حلفت بآبائي ذاكرا لمآثرهم. وجوز في قوله: "ذاكرا" أن يكون من الذكر بضم المعجمة كأنه احترز عن أن يكون ينطق بها ناسيا، وهو يناسب تفسير آثرا بالاختيار كأنه قال لا عامدا ولا مختارا. وجزم ابن التين في شرحه بأنه من الذكر بالكسر لا بالضم، قال: وإنما هو لم أقله من قبل نفسي ولا حدثت به عن غيري أنه حلف به، قال وقال الداودي: يريد ما حلفت بها ولا ذكرت حلف غيري بها كقوله إن فلانا قال وحق أبي مثلا. واستشكل أيضا أن كلام عمر المذكور يقتضي أنه تورع عن النطق بذلك مطلقا فكيف نطق به في هذه القصة؟ وأجيب بأنه اغتفر ذلك لضرورة التبليغ. قوله: "قال مجاهد أو أثارة من علم يأثر علما" كذا في جميع النسخ يأثر بضم المثلثة، وهذا الأثر وصله الفريابي في تفسيره عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قال: أحد يأثر علما، فكأنه سقط أحد من أصل البخاري، وقد تقدم في تفسير الأحقاف النقل عن أبي عبيدة وغيره في بيان هذه اللفظة والاختلاف في قراءتها ومعناها، وذكر الصغاني وغيره أنه قرئ أيضا إثارة بكسر أوله وأثرة بفتحتين وسكون ثانيه مع فتح أوله ومع كسره، وحديث ابن عباس المذكور هناك أخرجه أحمد وشك في رفعه، وأخرجه الحاكم موقوفا وهو الراجح. وفي رواية جودة الخط. وقال الراغب في قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} : وقرئ "أو أثرة" يعني بفتحتين وهو ما يروى أي يكتب فيبقى له أثر، تقول أثرت العلم رويته آثره أثرا وأثارة وأثرة، والأصل في أثر الشيء حصول ما يدل على وجوده، ومحصل ما ذكروه ثلاثة أقوال: أحدها البقية وأصله أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار، الثاني من الأثر وهو الرواية، الثالث من الأثر وهو العلامة. قوله: "تابعه عقيل والزبيدي وإسحاق في الكلبي عن الزهري" أما متابعة عقيل فوصلها مسلم من طريق الليث بن سعد عنه وقد بينت ما فيها، ولليث فيه سند آخر رواه عن نافع عن ابن عمر فجعله من مسنده وقد مضى في الأدب. وأما متابعة الزبيدي فوصلها النسائي مختصرة من طريق محمد بن حرب عن محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري عن سالم عن أبيه أنه أخبره "عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ينهاكم أن ==بعده

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............