السبت، 7 مايو 2022

كتاب :34. و35 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 34 و35.

   كتاب :34. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)=

101 - باب إِرْدَافِ الرَّجُلِ خَلْفَ الرَّجُلِ
5967- حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل فقال: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك قال: هل تدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق  الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك فقال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق العباد على الله أن لا يعذبهم" .
قوله: "باب إرداف الرجل خلف الرجل" ذكر فيه حديث معاذ بن جبل وقد تقدم في الجهاد، وأحيل بشرحه على هذا المكان واللائق به كتاب الرقاق فقد ذكره فيه بهذا السند والمتن تاما فليشرح هناك، والمقصود منه هنا من الإرداف واضح. ووقع في شرح ابن بطال "باب" بلا ترجمة. وقال: كان ينبغي له أن يورده مع حديث أسامة في "باب الارتداف" وقد عرف جوابه، وقوله: "كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم: "الردف والرديف الراكب خلف الراكب بإذنه، وردف كل شيء هو مؤخره، وأصله من الركوب على الردف وهو العجز، ولهذا قيل للراكب الأصلي ركب صدر الدابة، وردفت الرجل إذا ركبت وراءه وأردفته إذا أركبته وراءك. وقد أفرد ابن منده أسماء من أردفه النبي صلى الله عليه وسلم خلفه فبلغوا ثلاثين نفسا.

3 - باب إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ خَلْفَ الرَّجُلِ
5968- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ وَإِنِّي لَرَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ يَسِيرُ وَبَعْضُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَثَرَتْ النَّاقَةُ فَقُلْتُ الْمَرْأَةَ فَنَزَلْتُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا أُمُّكُمْ" فَشَدَدْتُ الرَّحْلَ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا دَنَا أَوْ رَأَى الْمَدِينَةَ قَالَ: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ" .
قوله: "باب إرداف المرأة خلف الرجل ذا محرم" كذا للأكثر، والنصب على الحال ولبعضهم ذي محرم على الصفة. واقتصر النسفي على "خلف الرجل" فلم يذكر ما بعده. قوله: "أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وإني لرديف أبي طلحة وهو يسير وبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عثرت الناقة فقلت المرأة فنزلت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها أمكم، فشددت الرحل" كذا في هذه الرواية وظاهره أن الذي قال ذلك وفعله هو أنس، وقد تقدم في أواخر الجهاد من وجه آخر عن يحيي بن أبي إسحاق وفيه أن الذي فعل ذلك أبو طلحة وأن الذي قال: "المرأة" رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظه أنه "أقبل هو وأبو طلحة ومع النبي صلى الله عليه وسلم صفية يردفها على راحلته، فلما كان ببعض الطريق عثرت الدابة فصرع النبي صلى الله عليه وسلم والمرأة، وأن أبا طلحة أحسبه قال اقتحم عن بعيره فقال: " يا نبي الله هل أصابك من شيء؟ قال: لا، ولكن عليك المرأة" . فألقى أبو طلحة ثوبه على وجهه فقصد قصدها فألقى ثوبه عليها، فقامت المرأة فشد لهما على راحلتهما فركبا" الحديث. وفي أخرى عن يحيى بن أبي إسحاق أيضا: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وقد أردف صفية بنت حيي، فعثرت ناقته" فساقه نحوه. فيستفاد من هاتين الطريقتين تسمية المرأة، وأن الذي تولى شد الرحل وغير ذلك مما ذكر هو أبو طلحة لا أنس، والاختلاف فيه على يحيى بن  أبي إسحاق رواية عن أنس، فقال شعبة عنه ما في هذا الباب. وقال عبد الوارث وبشر بن المفضل كلاهما عنه ما أشرت إليه في الجهاد، وهو المعتمد فإن القصة واحدة ومخرج الحديث واحد واتفاق اثنين أولى من انفراد واحد، ولا سيما أن أنسا كان إذا ذاك يصغر عن تعاطي ذلك الأمر، وإن كان لا يمتنع أن يساعد عمه أبا طلحة على شيء من ذلك، والله أعلم. فقد يرتفع الإشكال بهذا. وفي الحديث أنه لا بأس للرجل أن يتدارك المرأة الأجنبية إذا سقطت أو كادت تسقط فيعينها على التخلص مما يخشى عليها.

(10/399)


103 - باب الإسْتِلْقَاءِ وَوَضْعِ الرِّجْلِ عَلَى الأُخْرَى
5969- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ "أَنَّهُ أَبْصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْطَجِعُ فِي الْمَسْجِدِ رَافِعاً إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى".
قوله: "باب الاستلقاء ووضع الرجل على الأخرى" وجه دخول هذه الترجمة في كتاب اللباس من جهة أن الذي يفعل ذلك لا يأمن من الانكشاف، ولا سيما الاستلقاء يستدعي النوم، والنائم لا يتحفظ، فكأنه أشار إلى أن من فعل ذلك ينبغي له أن يتحفظ لئلا ينكشف. حديث عباد بن تميم عن عمه وهو عبد الله بن زيد، وفيه ثبوت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وزاد عند الإسماعيلي في روايته في آخر الحديث: "وإن أبا بكر كان يفعل ذلك وعمر وعثمان" وكأنه لم يثبت عنده النهي عن ذلك، وهو فيما أخرجه مسلم من حديث جابر رفعه: " لا يستلقين أحدكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى " أو ثبت لكنه رآه منسوخا، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى.
" خاتمة ": اشتمل كتاب اللباس من الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث واثنين وعشرين حديثا، المعلق منها وما أشبهه ستة وأربعون حديثا، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى مائة واثنان وثمانون حديثا، والخالص أربعون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة " ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار" وحديث الزبير في لبس الحرير، وحديث أم سلمة في شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أنس "كان لا يرد الطيب"، وحديث أبي هريرة في لعن الواصلة، وحديثه "لا تشمن"، وحديث عائشة في نقض الصور، وحديث ابن عمر في وعد جبريل ومنه "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" وقد أخرجه مسلم من حديث عائشة، وحديث: "صاحب الدابة أحق بصدرها " على أنه لم يصرح برفعه وهو مرفوع على ما بينته. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم تسعة عشر أثرا والله أعلم.

(10/399)


كتاب الأدب
باب البر والصلة، وقول الله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا}
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 - كِتَاب الأَدَبِ
1 – باب البرِّ والصِّلةِ، وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً}
5970- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَيْزَارٍ أَخْبَرَنِي قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي".
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الأدب". حذف بعضهم لفظ البر والصلة وبعضهم البسملة، واقتصر النسفي على قوله كتاب البر والصلة الخ. ووقع في أول "الأدب المفرد للبخاري" باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} وكتاب الأدب المفرد يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح وفيه قليل من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة(1). والأدب استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك. وقيل: إنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي بذلك لأنه يدعى إليه. قوله: "باب البر والصلة، وقول الله سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} كذا للأكثر، وحذف بعضهم لفظ البر والصلة وبعضهم البسملة، واقتصر النسفي على قوله كتاب البر والصلة الخ. ووقع في أول "الأدب المفرد للبخاري" باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} وكتاب الأدب المفرد يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح وفيه قليل من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة. والأدب استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك. وقيل: إنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي بذلك لأنه يدعى إليه؛ وهذه الآية وقعت بهذا اللفظ في العنكبوت وفي الأحقاف لكن المراد هنا التي في العنكبوت. وقال ابن بطال: ذكر أهل التفسير أن هذه الآية التي في لقمان نزلت في سند بن أبي وقاص، كذا قال إنها التي في لقمان وليس كذلك، وقد أخرج مسلم من طريق مصعب بن سعد عن أبيه قال حلفت أم سعد لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه. قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، فأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، فنزلت: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} . وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا" كذا وقع عنده، وفيه انتقال من آية إلى آية، فإن في آية العنكبوت {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا - إلى – مَرْجِعُكُمْ} والمذكور عنده بعد قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى} الخ إنما هو في لقمان. وقد وقع عند الترمذي إلى قوله: {حُسْناً} الآية، فقط، ومثله عند أحمد لكن لم يقل "الآية"، ووقع في أخرى لأحمد {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ - وقرأ حتى بلغ - ِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وهذا القدر الأخير إنما هو في آية العنكبوت وأوله من آية لقمان، ويظهر لي أن الآيتين مما كانتا في الأصل ثابتتين فسقط بعضهما على بعض الرواة، والله أعلم. واسم أم سعد بن أبي وقاص حمنة - بفتح المهملة وسكون الميم بعدها نون - بنت سفيان بن أمية، وهي ابنة عم أبي سفيان بن حرب بن أمية، ولم أر في شيء من
ـــــــ
(1) وقد نشرته المطبعة السلفية بعناية وتخريج. ونشرت شرحا له مفيدا في مجلدين.

(10/400)


الأخبار أنها أسلمت. واقتضت الآية الوصية بالوالدين والأمر بطاعتهما ولو كانا كافرين، إلا إذا أمرا بالشرك فتجب معصيتهما في ذلك، ففيها بيان ما أجمل في غيرها، وكذا في حديث الباب، من الأمر ببرهما. قوله: "قال الوليد بن عيزار أخبرني" هو من تقديم اسم الراوي على الصيغة وهو جائز، وكان شعبة يستعمله كثيرا، ووقع لبعضهم "العيزار" بزيادة ألف ولام في أوله، وكذا تقدم في أوائل الصلاة مع كثير من فوائد الحديث ولله الحمد. وقال ابن التين: تقديم البر على الجهاد يحتمل وجهين: أحدهما: التعدية إلى نفع الغير، والثاني: أن الذي يفعله يرى أنه مكافأة على فعلهما، فكأنه يرى أن غيره أفضل منه، فنبهه على إثبات الفضيلة فيه. قلت: والأول ليس بواضح، ويحتمل أنه قدم لتوقف الجهاد عليه، إذ من بر الوالدين استئذانهما في الجهاد لثبوت النهي عن الجهاد بغير إذنهما كما يأتي قريبا.

(10/401)


2 - باب مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ
5971- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ" .
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ... مِثْلَهُ.
قوله: "باب من أحق الناس بحسن الصحبة" الصحبة والصحابة مصدران بمعنى، وهو المصاحبة أيضا. قوله: "حدثنا جرير" هو ابن عبد الحميد. قوله: "عمارة بن القعقاع بن شبرمة" بضم المعجمة والراء بينهما موحدة كذا للأكثر ووقع عند النسفي وكذا لأبي ذر عن الحموي والمستملي: "عن عمارة بن القعقاع وابن شبرمة" بزيادة واو والصواب حذفها فإن رواية ابن شبرمة قد علقها المصنف عقب رواية عمارة وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق زهير بن حرب عن جرير عن عمارة حسب. قوله: "جاء رجل" يحتمل أنه معاوية بن حيدة بفتح المهملة وسكون التحتانية، وهو جد بهز بن حكيم، فقد أخرج المصنف في "الأدب المفرد" من حديثه "قال قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك" الحديث. وأخرجه أبو داود والترمذي. قوله: "فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟" في رواية محمد بن فضيل عن عمارة عند مسلم: "بحسن الصحبة" وعنده في رواية شريك عن عمارة وابن شبرمة جميعا عن أبي زرعة قال مثل رواية جرير، وزاد: "فقال نعم وأبيك لتنبأن" وقد أخرجه ابن ماجه من هذا الوجه مطولا وزاد فيه حديث: "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح" وأخرجه أحمد من طريق شريك فقال في أوله: "يا رسول الله نبئني بأحق الناس مني صحبة" ووجدته في النسخة بلفظ: "فقال نعم والله" بدل "وأبيك" فلعلها تصحفت، وقوله: "وأبيك" لم يقصد به القسم وإنما هي كلمة تجري لإرادة تثبيت الكلام، ويحتمل أن يكون ذلك وقع قبل النهي عن الحلف بالآباء. قوله: "قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك" كذا للجميع بالرفع ووقع عند مسلم من هذا الوجه وعند المصنف في "الأدب المفرد" من وجه آخر بالنصب، وفي آخر "ثم أباك" والأول ظاهر ويخرج الثاني على

(10/401)


إضمار فعل. ووقع صريحا عند المصنف في "الأدب المفرد" كما سأنبه عليه، وهكذا وقع تكرار الأم ثلاثا وذكر الأب في الرابعة، وصرح بذلك في الرواية يحيى بن أيوب ولفظه: "ثم عاد الرابعة فقال: بر أباك" وكذا وقع في رواية بهز بن حكيم وزاد في آخره ثم "الأقرب فالأقرب" وله شاهد من حديث خداش أبي سلامة رفعه: "أوصي امرءا بأمه، أوصى امرءا بأمه، أوصي امرءا بأمه، أوصي امرءا بأبيه، أوصي امرءا بمولاه الذي يليه، وإن كان عليه فيه أذى يؤذيه" أخرجه ابن ماجه والحاكم، قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فسوى بينهما في الوصاية، وخص الأم بالأمور الثلاثة. قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة. وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك والصواب الأول. قلت: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحا في ذلك فقد ذكره ابن بطال قال: سئل مالك طلبني أبي فمنعتني أمي، قال: أطع أباك ولا تعص أمك قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برهما سواء، كذا قال وليست الدلالة على ذلك بواضحة، قال: وسئل الليث يعني عن المسألة بعينها فقال: أطع أمك فإن لها ثلثي البر، وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر ذكر الأم فيه إلا مرتين. وقد وقع كذلك في رواية محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عند مسلم في الباب، ووقع كذلك في حديث المقدام بن معدي كرب فيما أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" وأحمد وابن ماجه وصححه الحاكم ولفظه: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب" وكذا وقع في حديث بهز بن حكيم كما تقدم، وكذا في آخر رواية محمد بن فضيل المذكورة عند مسلم بلفظ: "ثم أدناك فأدناك" وفي حديث أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة "انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: أمك وأباك، ثم أختك وأخاك، ثم أدناك أدناك" أخرجه الحاكم هكذا، وأصله عند أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وابن حبان، والمراد بالدنو القرب إلى البار. قال عياض: تردد بعض العلماء في الجد والأخ، والأكثر على تقديم الجد. قلت: وبه جزم الشافعية، قالوا: يقدم الجد ثم الأخ، ثم يقدم من أدلى بأبوين على من أدلى بواحد، ثم تقدم القرابة من ذوي الرحم، ويقدم منهم المحارم على من ليس بمحرم، ثم سائر العصبات، ثم المصاهرة ثم الولاء، ثم الجار. وسيأتي الكلام على حكمه بعد. وأشار ابن بطال إلى أن الترتيب حيث لا يمكن إيصال البر دفعة واحدة وهو واضح، وجاء ما يدل على تقديم الأم في البر مطلقا، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث عائشة "سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها. قلت: فعلى الرجل؟ قال: أمه" ومؤيد تقديم الأم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي " كذا أخرجه الحاكم وأبو داود. فتوصلت لاختصاصها به وباختصاصه بها في الأمور الثلاثة. قوله: "وقال ابن شبرمة ويحيى بن أيوب حدثنا أبو زرعة مثله" أما ابن شبرمة فهو عبد الله الفقيه المشهور

(10/402)


الكوفي، وهو ابن عم عمارة بن القعقاع المذكور قبل، وطريقه هذه وصلها المؤلف في "الأدب المفرد" قال: "حدثنا سليمان بن حرب حدثنا وهيب بن خالد عن ابن شبرمة سمعت أبا زرعة" فذكر بلفظ: "قيل: يا رسول الله من أبر" والباقي مثل رواية جرير سواء لكن على سياق مسلم، وأما يحيى بن أيوب فهو حفيد أبي زرعة بن عمرو بن جرير شيخه في هذا الحديث ولهذا يقال له الجريري، وطريقه هذه وصلها المؤلف أيضا في "الأدب المفرد" وأحمد كلاهما من طريق عبد الله هو ابن المبارك "أنبأنا يحيى بن أيوب حدثنا أبو زرعة" فذكره بلفظ: "أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تأمرني؟ فقال: بر أمك ثم عاد" الحديث وكذا هو في "كتاب البر والصلة لابن المبارك" ونقل المحاسبي الإجماع على أن الأم مقدمة في البر على الأب.

(10/403)


3 - باب لاَ يُجَاهِدُ إِلاَّ بِإِذْنِ الأَبَوَيْنِ
5972- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ قَالاَ حَدَّثَنَا حَبِيبٌ قَالَ ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُجَاهِدُ. قَالَ: لَكَ أَبَوَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ" .
قوله: "باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين" ذكر فيه حديث عبد الله بن عمرو وقد تقدم شرحه في كتاب الجهاد. حبيب المذكور في السند هو حبيب بن أبي ثابت، وسفيان في الطريقين هو الثوري، وترجم له هناك في الجهاد بإذن الأبوين، ووقع عند أحمد من حديث أبي سعيد "هاجر رجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل باليمن أبواك؟ قال: نعم قال: أذنا لك؟ قال: لا قال: ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك وإلا فبرهما" وقوله: "ففيهما فجاهد" أي إن كان لك أبوان فابلغ جهدك في برهما والإحسان إليهما، فإن ذلك يقوم لك مقام قتال العدو.

(10/403)


4 - باب لاَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ
5973- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فيسب أمّه" .
قوله: "باب لا يسب الرجل والديه" أي ولا أحدهما، أي لا يتسبب إلى ذلك. قوله: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" سيأتي بعد باب عد العقوق في أكبر الكبائر، والمذكور هنا فرد من أفراد العقوق، وإن كان التسبب إلى لعن الوالد من أكبر الكبائر فالتصريح بلعنه أشد، وترجم بلفظ السب وساقه بلفظ اللعن إشارة إلى ما وقع في بقية الحديث، وقد وقع أيضا في بعض طرقه وهو في "الأدب المفرد" من طريق عروة بن عياض سمع عبد الله بن عمرو يقول: "من الكبائر عند الله أن يسب الرجل والده" وقد أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" من طريق سفيان الثوري ومسلم من طريق يزيد بن الهاد كلاهما عن سعد بن إبراهيم بلفظ: "من الكبائر شتم الرجل" وفي رواية المصنف "أن يشتم الرجل والديه". قوله: "قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟" هو استبعاد من السائل، لأن الطبع المستقيم يأبى ذلك، فبين في الجواب أنه وإن لم يتعاط السب بنفسه في الأغلب

(10/403)


5 - باب إِجَابَةِ دُعَاءِ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ
5974- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا فَقَالَ أَحَدُهُمْ اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالْحِلاَبِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفَرَجَ اللَّهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ وَقَالَ الثَّانِي اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَلَقِيتُهَا بِهَا فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفْتَحْ الْخَاتَمَ فَقُمْتُ عَنْهَا اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً وَقَالَ الْآخَرُ اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيراً بِفَرَقِ أَرُزٍّ فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ أَعْطِنِي حَقِّي فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَراً وَرَاعِيَهَا فَجَاءَنِي فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي فَقُلْتُ اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَهْزَأْ بِي فَقُلْتُ إِنِّي لاَ أَهْزَأُ بِكَ فَخُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرَاعِيَهَا فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ" .

(10/404)


قوله: "باب إجابة دعاء من بر والديه" ذكر فيه قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم فم الغار حتى ذكروا أعمالهم الصالحة ففرج عنهم، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإجارة. وقوله في هذه الرواية: "على فم غارهم" في رواية الكشميهني: "باب" بدل "فم" وقوله: "فأطبقت" تقدم توجيهه في أواخر أحاديث الأنبياء. ووقع هنا في رواية الكشميهني: "فتطابقت". وقوله: "نأى" أي بعد، والشجر بمعجمة وجيم للأكثر وفي رواية الكشميهني بالمهملتين، والأول أولى فإن في الخبر أنه رجع بعد أن ناما ينتظر استيقاظهما إلى الصباح حتى انتبها من قبل أنفسهما، وإنما قال: "بعد بي الشجر" أي لطلب المرعى. وقوله: "فرجة يرون منها السماء" في رواية: "حتى رأوا" ووقع هنا للحموي: وقص الحديث بطوله، وساقه الباقون. وقوله: يحب الرجال النساء، في رواية الكشميهني: "الرجل" بالإفراد. وقوله: "تلك البقر" في رواية الكشميهني: "ذلك البقر" في الموضعين، والإشارة فيه إلى الجنس.

(10/405)


6 - باب عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ. قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5975- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْمُسَيَّبِ عَنْ وَرَّادٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ وَمَنْعاً وَهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ
5976- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لاَ يَسْكُتُ" .
5977- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَبَائِرَ أَوْ سُئِلَ عَنْ الْكَبَائِرِ فَقَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالَ قَوْلُ الزُّورِ أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ قَالَ شُعْبَةُ وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ" .
قوله: "باب" بالتنوين. قوله: "عقوق الوالدين من الكبائر، قاله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم" كذا في رواية أبي ذر "عمر" بضم العين، وللأصيلي عمرو بفتحها، وكذا هو في بعض النسخ عن أبي ذر وهو المحفوظ، وسيأتي في كتاب الأيمان والنذور موصولا من رواية الشعبي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس" ولابن عمر حديث في العاق أخرجه النسائي والبزار وصححه ابن حبان والحاكم بلفظ: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان" وأخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أيضا نحو حديث ابن عمر هذا لكن

(10/405)


قال: "الديوث" بدل "المنان" والديوث بمهملة ثم تحتانية وآخره مثلثة بوزن فروج وقع تفسيره في نفس الخبر أنه الذي يقر الخبث في أهله، والعقوق بضم العين المهملة مشتق من العق وهو القطع، والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد، وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلا وتركا واستحبابها في المندوبات، وفروض الكفاية كذلك، ومنه تقديمهما عبد تعارض الأمرين وهو كمن دعته أمه ليمرضها مثلا بحيث يفوت عليه فعل واجب إن استمر عندها ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها وغير ذلك لو تركها وفعله وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة كالصلاة أول الوقت أو في الجماعة. حديث المغيرة بن شعبة. قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر، والمسيب هو ابن رافع، ووراد هو كاتب المغيرة بن شعبة، والسند كله كوفيون. ووقع التصريح بسماع منصور له من المسيب في الدعوات، وقد تقدم في الاستقراض من رواية عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور كالذي هنا، وذكر المزي في "الأطراف" أن في رواية منصور عن المسيب عند البخاري ذكر عقوق الأمهات فقط، وليس كما قال بل هو بتمامه في الموضعين، لكنه في الأصل طرف من حديث مطول سيأتي في القدر من طريق عبد الملك بن عمير. وفي الرقاق من طريق الشعبي كلاهما عن وراد أن معاوية كتب إلى المغيرة أن اكتب إلي بحديث سمعته، فذكر الحديث في التهليل عقب الصلوات، قال: وكان ينهى، فذكر ما هنا، وسيأتي في الدعوات أوله فقط من رواية قتيبة عن جرير دون ما في آخره. والحاصل أنه فرقه من حديث جرير عن منصور في موضعين، ويحتمل أنه كان عند شيخه هكذا، وتقدم في الزكاة من طريق أخرى عن الشعبي مقتصرا على الذي هنا أيضا. قوله: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات" تقدم في الاستقراض الإشارة إلى حكمة اختصاص الأم بالذكر، وهو من تخصيص الشيء بالذكر إظهارا لعظم موقعه. والأمهات جمع أمهة وهي لمن يعقل، بخلاف لفظ الأم فإنه أعم. قوله: "ومنعا وهات" وقع في رواية غير أبي ذر وفي الاستقراض "ومنع" بغير تنوين، وهي في الموضعين بسكون النون مصدر منع يمنع، وسيأتي ما يتعلق به في الكلام على "قيل وقال" وأما هات فبكسر المثناة فعل أمر من الإيتاء قال الخليل: أصل هات آت فقلبت الألف هاء. والحاصل من النهي منع ما أمر بإعطائه وطلب ما لا يستحق أخذه، ويحتمل أن يكون النهي عن السؤال مطلقا كما سيأتي بسط القول فيه قريبا، ويكون ذكره هنا مع ضده ثم أعيد تأكيدا للنهي عنه، ثم هو محتمل أن يدخل في النهي ما يكون خطابا لاثنين كما ينهى الطالب عن طلب ما لا يستحقه وينهى المطلوب منه عن إعطاء ما لا يستحقه الطالب لئلا يعينه على الإثم. قوله: "ووأد البنات" بسكون الهمزة هو دفن البنات بالحياة، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهة فيهن، ويقال إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي، وكان بعض أعدائه أغار عليه فأسر بنته فاتخذها لنفسه ثم حصل بينهم صلح فخير ابنته فاختارت زوجها. فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب في ذلك، وكان من العرب فريق ثان يقتلون أولادهم مطلقا، إما نفاسة منه على ما ينقصه من ماله، وإما من عدم ما ينفقه عليه، وقد ذكر الله أمرهم في القرآن في عدة آيات، وكان صعصعة بن ناجية التميمي أيضا وهو جد الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة أول من فدى الموءودة، وذلك أنه كان يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك فيفدي الولد منه بمال يتفقان عليه، وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله:

(10/406)


وجدي الذي منع الوائدا ... ت وأحيا الوئيد فلم يوأد
وهذا محمول على الفريق الثاني، وقد بقي كل من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام ولهما صحبة، وإنما خص البنات بالذكر لأنه كان الغالب من فعلهم، لأن الذكور مظنة القدرة على الاكتساب. وكانوا في صفة الوأد على طريقين: أحدهما أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تطلق بجانب حفيرة، فإذا وضعت ذكرا أبقته وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة، وهذا أليق بالفريق الأول. ومنهم من كان إذا صارت البنت سداسية قال لأمها: طيبيها وزينيها لأزور بها أقاربها، ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر فيقول لها انظري فيها ويدفعها من خلفها ويطمها، وهذا اللائق بالفريق الثاني، والله أعلم. قوله: " وكره لكم قيل وقال " في رواية الشعبي "وكان ينهى عن قيل وقال" كذا للأكثر في جميع المواضع بغير تنوين، ووقع في رواية الكشميهني هنا "قيلا وقالا" والأول أشهر، وفيه تعقب على من زعم أنه جائز ولم تقع به الرواية، قال الجوهري: قيل وقال اسمان، يقال كثير القيل والقال، كذا جزم بأنهما اسمان، وأشار إلى الدليل على ذلك بدخول الألف واللام عليهما. وقال ابن دقيق العيد: لو كانا اسمين بمعنى واحد كالقول لم يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة، فأشار إلى ترجيح الأول. وقال المحب الطبري في قيل وقال ثلاثة أوجه: أحدها: أنهما مصدران للقول، تقول قلت قولا وقيلا وقالا والمراد في الأحاديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام لأنها تؤول إلى الخطأ، قال: وإنما كرره للمبالغة في الزجر عنه، ثانيها: إرادة حكاية أقاويل الناس والبحث عنها ليخبر عنها فيقول: قال فلان كذا وقيل كذا، والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه، وإما لشيء مخصوص منه وهو ما يكرهه المحكي عنه. ثالثها: أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين كقوله: قال فلان كذا وقال فلان كذا، ومحل كراهة ذلك أن يكثر من ذلك بحيث لا يؤمن مع الإكثار من الزلل، وهو مخصوص بمن ينقل ذلك من غير تثبت، ولكن يقلد من سمعه ولا يحتاط له. قلت: ويؤيد ذلك الحديث الصحيح "كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع" أخرجه مسلم، وفي "شرح المشكاة" قوله: قيل وقال من قولهم قيل كذا وقال كذا، وبناؤهما على كونهما فعلين محكيين متضمنين للضمير والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خلوهن من الضمير، ومنه قوله: "إنما الدنيا قيل وقال" وإدخال حرف التعريف عليهما في قوله: ما يعرف القال القيل لذلك. قوله: "وكثرة السؤال " تقدم في كتاب الزكاة بيان الاختلاف في المراد منه وهل هو سؤال المال، أو السؤال عن المشكلات والمعضلات، أو أعم من ذلك؟ وأن الأولى حمله على العموم. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان، أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله، فإن ذلك مما يكره المسئول غالبا. وقد ثبت النهي عن الأغلوطات أخرجه أبو داود من حديث معاوية. وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر جدا، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ وأما ما تقدم في اللعان فكره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وكذا في التفسير في قوله تعالى: { لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فذلك خاص بزمان نزول الوحي، ويشير إليه حديث: "أعظم الناس جرما عند الله من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" وثبت أيضا ذم السؤال للمال ومدح من لا يحلف فيه كقوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وتقدم في الزكاة حديث: "لا تزال المسألة بالعبد حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم" وفي صحيح مسلم: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي

(10/407)


فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو جائحة" وفي السنن قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله" وفي سنن أبي داود "إن كنت لا بد سائلا فاسأل الصالحين" وقد اختلف العلماء في ذلك، والمعروف عند الشافعية أنه جائز لأنه طلب مباح فأشبه العارية، وحملوا الأحاديث الواردة على من سأل من الزكاة الواجبة ممن ليس من أهلها، لكن قال النووي في "شرح مسلم": اتفق العلماء على النهي عن السؤال من غير ضرورة. قال: واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين أصحهما التحريم لظاهر الأحاديث. والثاني: يجوز مع الكراهة بشروط ثلاثة: أن لا يلح ولا يذل نفسه زيادة على ذل نفس السؤال، ولا يؤذي المسئول. فإن فقد شرط من ذلك حرم. وقال الفكهاني: يتعجب ممن قال بكراهة السؤال مطلقا مع وجود السؤال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ثم السلف الصالح من غير نكير، فالشارع لا يقر على مكروه. قلت: لعل من كره مطلقا أراد أنه خلاف الأولى، ولا يلزم من وقوعه أن تتغير صفته ولا من تقريره أيضا، وينبغي حمل حال أولئك على السداد؛ وأن السائل منهم غالبا ما كان يسأل إلا عند الحاجة الشديدة. وفي قوله: "من غير نكير" نظر ففي الأحاديث الكثيرة الواردة في ذم السؤال كفاية في إنكار ذلك.
" تنبيه ": جميع ما تقدم فيما سأل لنفسه، وأما إذا سأل لغيره فالذي يظهر أيضا أنه يختلف باختلاف الأحوال.
قوله: "وإضاعة المال" تقدم في الاستقراض أن الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعا سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه، لأن الله تعالى جعل المال قياما لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح، إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقا أخرويا أهم منه. والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه: الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعا فلا شك في منعه، والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعا فلا شك في كونه مطلوبا بالشرط المذكور، والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذ النفس، فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف. والثاني: ما لا يليق به عرفا، وهو ينقسم أيضا إلى قسمين: أحدهما: ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف قال: لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له. قال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال اهـ. وقد صرح بالمنع القاضي حسين فقال في كتاب قسم الصدقات: هو حرام، وتبعه الغزالي، وجزم به الرافعي في الكلام على المغارم، وصحح في باب الحجر من الشرح وفي المحرر أنه ليس بتبذير، وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموما لذاته، لكنه يفضي غالبا إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس، وما أدى إلى المحذور فهو محذور. وقد تقدم في كتاب الزكاة البحث في جواز التصدق بجميع المال وأن ذلك يجوز لمن عرف من نفسه الصبر على المضايقة، وجزم الباجي من المالكية بمنع استيعاب جميع المال بالصدقة قال: ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا، ولا بأس به إذا وقع نادرا لحادث يحدث كضيف أو عيد أو وليمة. ومما لا خلاف في كراهته مجاوزة الحد في الإنفاق على البناء زيادة على قدر الحاجة، ولا سيما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة ومنه احتمال الغبن الفاحش في البياعات بغير سبب. وأما إضاعة المال في المعصية فلا يختص بارتكاب الفواحش، بل يدخل فيها سوء القيام على الرقيق والبهائم حتى يهلكوا، ودفع مال من لم يؤنس منه الرشد إليه، وقسمه مالا

(10/408)


ينتفع بجزئه كالجوهرة النفيسة. وقال السبكي الكبير في "الحلبيات": الضابط في إضاعة المال أن لا يكون لغرض ديني ولا دنيوي، فإن انتفيا حرم قطعا، وإن وجد أحدهما وجودا له بال وكان الإنفاق لائقا بالحال ولا معصية فيه جاز قطعا. وبين الرتبتين وسائط كثيرة لا تدخل تحت ضابط. فعلى المفتي أن يرى فيما تيسر منها رأيه، وأما ما لا يتيسر فقد تعرض له؛ فالإنفاق في المعصية حرام كله، ولا نظر إلى ما يحصل في مطلوبه من قضاء شهوة ولذة حسنة. وأما إنفاقه في الملاذ المباحة فهو موضع الاختلاف، فظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} أن الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف. ثم قال: ومن بذل مالا كثيرا في غرض يسير تافه عده العقلاء مضيعا، بخلاف عكسه، والله أعلم. قال الطيبي: هذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق، وهو تتبع جميع الأخلاق الحميدة والخلال الجميلة. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن شاهين الواسطي، وخالد هو ابن عبد الله الطحان، والجريري بضم الجيم هو سعيد بن إياس، وهو ممن اختلط ولم أر من صرح بأن سماع خالد منه قبل الاختلاط ولا بعده، لكن تقدم في الشهادات من طريق بشر بن المفضل ويأتي في استتابة المرتدين من رواية إسماعيل بن علية كلاهما عن الجريري، وإسماعيل ممن سمع من الجريري قبل اختلاطه، وبين في الشهادات تصريح الجريري في رواية إسماعيل عنه بتحديث عبد الرحمن بن أبي بكرة له به. قوله: "ألا أنبئكم" في رواية بشر بن المفضل عن الجريري في الاستئذان " ألا أخبركم". قوله: "بأكبر الكبائر ثلاثا" أي قالها ثلاث مرات على عادته في تكرير الشيء ثلاث مرات تأكيدا لينبه السامع على إحضار قلبه وفهمه للخبر الذي يذكره وفهم بعضهم منه أن المراد بقوله: "ثلاثا" عدد الكبائر وهو بعيد، ويؤيد الأول أن أول رواية إسماعيل بن علية في استتابة المرتدين "أكبر الكبائر الإشراك، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور ثلاثا" وقد اختلف السلف فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر، ومنها صغائر، وشذت طائفة منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني فقال: ليس في الذنوب صغيرة بل كل ما نهى الله عنه كبيرة، ونقل ذلك عن ابن عباس، وحكاه القاضي عياض عن المحققين، واحتجوا بأن كل مخالفة لله فهي بالنسبة إلى جلاله كبيرة اهـ. ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية فقال: انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال القبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا وكلها كبائر، قالوا: ولا ذنب عندنا يغفر واجبا باجتناب ذنب آخر بل كل ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . وأجابوا عن الآية التي احتج أهل القول الأول بها وهي قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} أن المراد الشرك. وقد قال الفراء: من قرأ: {كَبَائِرَ} فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} ولم يرسل إليهم غير نوح، قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة اهـ. قال النووي: قد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة إلى القول الأول. وقال الغزالي في "البسيط" إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه. قلت: قد حقق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة واختاره وبين أنه لا يخالف ما قاله الجمهور. فقال في "الإرشاد": المرضي عندنا أن كل ذنب يعصى الله به كبيرة، فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران ولو كان في حق الملك لكان كبيرة، والرب أعظم من عصي، فكل ذنب

(10/409)


بالإضافة إلى مخالفته عظيم، ولكن الذنوب وإن عظمت فهي متفاوتة في رتبها. وظن بعض الناس أن الخلاف لفظي فقال: التحقيق أن للكبيرة اعتبارين: فبالنسبة إلى مقايسة بعضها لبعض فهي تختلف قطعا، وبالنسبة إلى الآمر الناهي فكلها كبائر اهـ. والتحقيق أن الخلاف معنوي، وإنما جرى إليه الأخذ بظاهر الآية، والحديث الدال على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر كما تقدم، والله أعلم. وقال القرطبي: ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله عز وجل عنه كبيرة لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فجعل في المنهيات صغائر وكبائر، وفرق بينهما في الحكم إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطا باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن؟ قلت: ويؤيده ما سيأتي عن ابن عباس في تفسير اللمم، لكن النقل المذكور عنه أخرجه إسماعيل القاضي والطبري بسند صحيح على شرط الشيخين إلى ابن عباس فالأولى أن يكون المراد بقوله: "نهى الله عنه" محمولا على نهي خاص وهو الذي قرن به وعيد كما قيد في الرواية الأخرى عن ابن عباس فيحمل مطلقه على مقيده جمعا بين كلاميه. وقال الطيبي: الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان، فلا بد من أمر يضافان إليه وهو أحد ثلاثة أشياء: الطاعة أو المعصية أو الثواب. فأما الطاعة فكل ما تكفره الصلاة مثلا هو من الصغائر، وكل ما يكفره الإسلام أو الهجرة فهو من الكبائر. وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا أو عقابا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة وأما الثواب ففاعل المعصية إذا كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة، فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية اهـ. وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب يخصص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها. لكن يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلا ليس كبيرة، كأنه وإن ورد الوعيد فيه أو العقاب لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل ولده أشد، فالصواب ما قاله الجمهور وأن المثال المذكور وما أشبهه ينقسم إلى كبيرة وأكبر، والله أعلم. قال النووي: واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا، فروي عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، قال: وجاء نحو هذا عن الحسن البصري. وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار في الآخرة أو أوجب فيه حدا في الدنيا. قلت: وممن نص على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى، ومن الشافعية الماوردي ولفظه: الكبيرة ما وجبت فيه الحدود، أو توجه إليها الوعيد. والمنقول عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به، إلا أن فيه انقطاعا. وأخرج من وجه آخر متصل لا بأس برجاله أيضا عن ابن عباس قال: كل ما توعد الله عليه بالنار كبيرة.
وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخرى، منها قول إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكثراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة. وقول الحليمي: كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه. وقال الرافعي: هي ما أوجب الحد. وقيل: ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة. هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر اهـ كلامه. وقد استشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص بكونه كبيرة لا حد فيه كالعقوق، وأجاب بعض الأئمة بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة. وقال ابن: عبد السلام في "القواعد": لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من

(10/410)


الاعتراض، والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها. قلت: وهو ضابط جيد. وقال القرطبي في "المفهم": الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة، وكلام ابن الصلاح يوافق ما نقل أولا عن ابن عباس، وزاد إيجاب الحد، وعلى هذا يكثر عدد الكبائر. فأما ما ورد النص الصريح بكونه كبيرة فسيأتي القول فيه في الكلام على حديث أبي هريرة " اجتنبوا السبع الموبقات" في كتاب استتابة المرتدين، ونذكر هناك ما ورد في الأحاديث زيادة على السبع المذكورات مما نص على كونها كبيرة أو موبقة. وقد ذهب آخرون إلى أن الذنوب التي لم ينص على كونها كبيرة مع كونها كبيرة لا ضابط لها، فقال الواحدي: ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة، كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم، والله أعلم.
" فصل " قوله: "أكبر الكبائر" ليس على ظاهره من الحصر بل "من" فيه مقدرة، فقد ثبت في أشياء أخر أنها من أكبر الكبائر، منها حديث أنس في قتل النفس وسيأتي بيانه في الذي بعده، وحديث ابن مسعود "أي الذنب أعظم" فذكر فيه الزنا بحليلة الجار وسيأتي بعد أبواب، وحديث عبد الله بن أنيس الجهني مرفوعا قال: "من أكبر الكبائر - فذكر منها - اليمين الغموس" أخرجه الترمذي بسند حسن، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد، وحديث أبي هريرة رفعه: "إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم " أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن، وحديث بريدة رفعه: "من أكبر الكبائر - فذكر منها - منع فضل الماء ومنع الفحل" أخرجه البزار بسند ضعيف، وحديث ابن عمر رفعه: "أكبر الكبائر سوء الظن بالله" أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف، ويقرب منه حديث أبي هريرة مرفوعا: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي" الحديث وقد تقدم قريبا في كتاب اللباس، وحديث عائشة "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" أخرجه الشيخان، وتقدم قريبا حديث عبد الله بن عمرو "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل أباه" ولكنه من جملة العقوق، قال ابن دقيق العيد: يستفاد من قوله: "أكبر الكبائر" انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويستنبط منه أن في الذنوب صغائر، لكن فيه نظر، لأن من قال كل ذنب كبيرة فالكبائر والذنوب عنده متواردان على شيء واحد، فكأنه قيل: ألا أنبئكم بأكبر الذنوب؟ قال ولا يلزم من كون الذي ذكر أنه أكبر الكبائر استواؤها فإن الشرك بالله أعظم من جميع ما ذكر معه. قوله: "الإشراك بالله" قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يراد به مطلق الكفر، ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، لا سيما في بلاد العرب، فذكر تنبيها على غيره من أصناف الكفر. ويحتمل أن يراد به خصوصه إلا أنه يرد على هذا الاحتمال أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم من الشرك وهو التعطيل فيترجح الاحتمال الأول على هذا. قوله: "وعقوق الوالدين" تقدم الكلام عليه قريبا، وذكر قبله في حديث أنس الآتي بعده قتل النفس والمراد قتلها بغير حق. قوله: "وكان متكئا فجلس" في رواية بشر بن المفضل عن الجريري في الشهادات "وجلس وكان متكئا" وأما في الاستئذان فكالأول. قوله: " فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت" هكذا في هذه الطريق، ووقع في رواية بشر بن المفضل " فقال ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت" أي تمنيناه يسكت إشفاقا عليه لما رأوا من انزعاجه في ذلك. وقال ابن دقيق العيد: اهتمامه صلى الله عليه وسلم بشهادة الزور يحتمل أن يكون لأنها أسهل وقوعا على الناس، والتهاون

(10/411)


بها أكثر، ومفسدتها أيسر وقوعا، لأن الشرك ينبو عنه المسلم، والعقوق ينبو عنه الطبع، وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة فحسن الاهتمام بها، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها. قال: وأما عطف الشهادة على القول فينبغي أن يكون تأكيدا للشهادة لأنا لو حملناه على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة وليس كذلك، وإذا كان بعض الكذب منصوصا على عظمه كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} . وفي الجملة فمراتب الكذب متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده، قال: وقد نص الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة، والغيبة تختلف بحسب القول المغتاب به، فالغيبة بالقذف كبيرة ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة أو الهيئة مثلا، والله أعلم. وقال غيره: يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام، لأن كل شهادة زور قول زور بغير عكس، ويحتمل قول الزور على نوع خاص منه. قلت: والأولى ما قاله الشيخ، ويؤيده وقوع الشك في ذلك في حديث أنس الذي بعده، فدل على أن المراد شيء واحد. وقال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررا منها ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله. وزعم بعضهم أن المراد بشهادة الزور في هذا الحديث الكفر. فإن الكافر شاهد بالزور وهو ضعيف، وقيل: المراد من يستحل شهادة الزور وهو بعيد، والله أعلم. قوله: "عبيد الله بن أبي بكر" أي ابن أنس بن مالك، ووقع كذلك في الشهادات من رواية وهب بن جرير وعبد الملك بن إبراهيم عن شعبة. قوله: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر" كذا في هذه الرواية بالشك، وجزم في الرواية التي في الشهادات بالثاني قال: سئل الخ. ووقع في الديات عن عمر وهو ابن مرزوق عن شعبة عن ابن أبي بكر "سمع أنسا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله " الحديث وكذا رويناه في "كتاب الإيمان لابن منده" وفي "كتاب القضاة للنقاش" من طريق أبي عامر العقدي عن شعبة وقد علق البخاري في الشهادات طريق أبي عامر ولم يسق لفظه، وهذا موافق لحديث أبي بكرة في أن المذكورات من أكبر الكبائر لا من الكبائر المطلقة. قوله: "فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور الخ" هذا ظاهره أنه خص أكبر الكبائر بقول الزور، ولكن الرواية التي أشرت إليها قبل تؤذن بأن الأربعة المذكورات مشتركات في ذلك. قوله: "أو قال شهادة الزور، قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور" قلت: ووقع الجزم بذلك في رواية وهب بن جرير وعبد الملك بن إبراهيم في الشهادات، قال قتيبة "وشهادة الزور" ولم يشك. ولمسلم من رواية خالد بن الحارث عن شعبة "وقول الزور" ولم يشك أيضا. وفي هذا الحديث والذي قبله استحباب إعادة الموعظة ثلاثا لتفهم، وانزعاج الواعظ في وعظه ليكون أبلغ في الوعي عنه والزجر عن فعل ما ينهى عنه، وفيه غلظ أمر شهادة الزور لما يترتب عليها من المفاسد وإن كانت مراتبها متفاوتة، وقد تقدم بيان شيء من أحكامها في كتاب الشهادات، وضابط الزور وصف الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل؛ وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها، وقد يضاف إلى الفعل ومنه "لابس ثوبي زور" ومنه تسمية الشعر الموصول زورا كما تقدم في اللباس، وتقدم بيان الاختلاف في المراد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} وأن الراجح أن المراد به في الآية الباطل والمراد لا يحضرونه، وفيه التحريض على مجانبة كبائر الذنوب ليحصل تكفير الصغائر بذلك كما وعد الله عز وجل، وفيه إشفاق التلميذ على شيخه إذا رآه منزعجا وتمني عدم غضبه لما

(10/412)


يترتب على الغضب من تغير مزاجه، والله أعلم.

(10/413)


7 - باب صِلَةِ الْوَالِدِ الْمُشْرِكِ
5978- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي أَخْبَرَتْنِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: " أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آصِلُهَا قَالَ نَعَمْ" قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا {لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} .
قوله: "باب صلة الوالد المشرك" ذكر فيه حديث أسماء بنت أبي بكر "أتتني أمي وهي راغبة" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الهبة. حديث أسماء بنت أبي بكر "أتتني أمي وهي راغبة" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الهبة، وتقدم بيان الاختلاف في قوله: "راغبة" هل هو بالميم أو الموحدة، قال الطيبي: الذي تحرر أن قولها: "راغبة" إن كان بلا قيد فالمراد راغبة في الإسلام لا غير، وإذا قرنت بقوله مشركة أو في عهد قريش فالمراد راغبة في صلتي، وإن كانت الرواية: "راغمة" بالميم فمعناه كارهة للإسلام. قلت: أما التي بالموحدة فيتعين حمل المطلق فيه على المقيد فإنه حديث واحد في قصة واحدة، ويتعين القيد من جهة أخرى، وهي أنها لو جاءت راغبة في الإسلام لم تحتج أسماء أن تستأذن في صلتها لشيوع التألف على الإسلام من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره فلا يحتاج إلى استئذانه في ذلك.

(10/413)


8 - باب صِلَةِ الْمَرْأَةِ أُمَّهَا وَلَهَا زَوْجٌ
5979- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَ: "قَدِمَتْ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ابْنِهَا فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا قَالَ نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ".
5980- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ".
قوله: "باب صلة المرأة أمها ولها زوج" ذكر فيه حديثين: أحدهما: حديث أبي سفيان في قصة هرقل، أورد منها طرفا وهو قول أبي سفيان "يأمرنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة" وقد تقدم شرحه مستوفى في أول الصحيح، وذكرت كثيرا من فوائده أيضا في تفسير آل عمران، والمراد منه هنا ذكر الصلة فيؤخذ حكم الترجمة من عمومها. الثاني: حديث أسماء بنت أبي بكر المشار إليه في الباب قبله أورده معلقا فقال: "وقال الليث حدثني هشام" وهو ابن عروة، وقد وقع لنا موصولا في "مستخرج أبي نعيم" إلى الليث، ووقع لنا بعلو في "جزء أبي الجهم العلاء بن موسى" عن الليث. قال ابن بطال: فقه الترجمة من حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لأسماء أن تصل أمها ولم يشترط في ذلك مشاورة زوجها، قال: وفيه حجة لمن أجاز للمرأة أن تتصرف في مالها بدون إذن زوجها

(10/413)


9 - باب صِلَةِ الأَخِ الْمُشْرِكِ
5981- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: "سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ رَأَى عُمَرُ حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ وَالْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِذَا جَاءَكَ الْوُفُودُ قَالَ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا بِحُلَلٍ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ فَقَالَ كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ قَالَ إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا وَلَكِنْ تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ".
قوله: "باب صلة الأخ المشرك" ذكر فيه حديث ابن عمر "رأى عمر حلة سيراء تباع" الحديث، وقد تقدم شرحه في كتاب اللباس. وقوله فيه: "ولكن تبيعها" وقع في رواية الكشميهني: "لتبيعها".

(10/414)


10 - باب فَضْلِ صِلَةِ الرَّحِمِ
5982- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ عُثْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ". ح
5983- وحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ الْقَوْمُ مَا لَهُ مَا لَهُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرَبٌ مَا لَهُ" . فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ ذَرْهَا قَالَ كَأَنَّهُ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ" .
قوله: "باب فضل صلة الرحم" بفتح الراء وكسر الحاء المهملة، يطلق على الأقارب وهم من بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا، سواء كان ذا محرم أم لا. وقيل: هم المحارم فقط، والأول هو المرجح لأن الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام وليس كذلك. حديث أبي أيوب الأنصاري "قال قيل: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة" أورده من وجهين، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "أرب ماله" وفيه: "تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم " وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الزكاة.

(10/414)


11 - باب إِثْمِ الْقَاطِعِ
5984- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: "إِنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ" .
قوله: "باب إثم القاطع" أي قاطع الرحم. قوله: "لا يدخل الجنة قاطع" كذا أورده من طريق عقيل: وكذا عند مسلم من رواية مالك ومعمر كلهم عن الزهري؛ وقد أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن صالح عن الليث وقال فيه: "قاطع رحم" وأخرجه مسلم والترمذي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري كرواية مالك، قال سفيان: يعني قاطع رحم. وذكر ابن بطال أن بعض أصحاب سفيان رواه عنه كرواية عبد الله بن صالح فأدرج التفسير، وقد ورد بهذا اللفظ من طريق الأعمش عن عطية عن أبي سعيد أخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام" ومن طريق أبي حريز بمهملة وراء ثم زاي بوزن عظيم واسمه عبد الله بن الحسين قاضي سجستان عن أبي بردة عن أبي موسى رفعه: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مصدق بسحر، ولا قاطع رحم" أخرجه ابن حبان والحاكم. ولأبي داود من حديث أبي بكرة رفعه: " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" وللمصنف في "الأدب المفرد" من حديث أبي هريرة رفعه: "إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة جمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم " وللطبراني من حديث ابن مسعود "إن أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم" وللمصنف في "الأدب المفرد" من حديث ابن أبي أوفى رفعه: "إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع الرحم" وذكر الطيبي أنه يحتمل أن يراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم ولا ينكرون عليه، ويحتمل أن يراد بالرحمة المطر وأنه يحبس عن الناس عموما بشؤم التقاطع.

(10/415)


12 - باب مَنْ بُسِطَ لَهُ فِي الرِّزْقِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ
5985- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" .
5986- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في رجاء فليصل رحمه".
قوله: "باب من بسط له في الرزق لصلة الرحم" أي لأجل صلة رحمه. قوله: "محمد بن معن" أي ابن محمد بن معن بن نضلة بنون مفتوحة ومعجمة ساكنة ابن عمرو، ولنضلة جده الأعلى صحبة، وهو قليل الحديث موثق ليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وكذا أبوه لكن له موضع آخر أو موضعان. قوله: "سعيد هو ابن أبي سعيد" المقبري. قوله: "من سره أن يبسط له في رزقه" في حديث أنس "من أحب" وللترمذي وحسنه من وجه آخر عن أبي هريرة "إن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر" وعند أحمد بسند رجاله ثقات عن عائشة مرفوعا: "صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الإعمار" وأخرج

(10/415)


عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" والبزار وصححه الحاكم من حديث علي نحو حديثي الباب قال: "ويدفع عنه ميتة السوء" ولأبي يعلى من حديث أنس رفعه: "إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر، ويدفع بهما ميتة السوء" فجمع الأمرين، لكن سنده ضعيف. وأخرج المؤلف في "الأدب المفرد" من حديث ابن عمر بلفظ: "من اتقى ربه ووصل رحمه نسئ له في عمره، وثري ماله، وأحبه أهله". قوله: "وينسأ" بضم أوله وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة أي يؤخر. قوله: "في أثره" أي في أجله، وسمي الأجل أثرا لأنه يتبع العمر، قال زهير:
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أثر مشيه في الأرض، فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر، قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} والجمع بينهما من وجهين: أحدهما: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في النمر بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غيره ذلك. ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر. وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت. ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح.
وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى. ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلا: إن عمر فلان مائة مثلا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها. وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة. ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق. والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب، فإن الأثر ما يتبع الشيء، فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور. وقال الطيبي: الوجه الأول أظهر، وإليه يشير كلام صاحب "الفائق" قال: ويجوز أن يكون المعنى أن الله يبقى أثر واصل الرحم في الدنيا طويلا فلا يضمحل سريعا كما يضمحل أثر قاطع الرحم. ولما أنشد أبو تمام قوله في بعض المراثي:
توفيت الآمال بعد محمد ... وأصبح في شغل عن السفر السفر
قال له أبو دلف: لم يمت من قيل فيه هذا الشعر. ومن هذه المادة قول الخليل عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} وقد ورد في تفسيره وجه ثالث، فأخرج الطبراني في "الصغير" بسند ضعيف عن أبي الدرداء قال: "ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصل رحمه أنسيء له في أجله، فقال: إنه ليس زيادة في عمره، قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} الآية، ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده". وله في "الكبير" من حديث أبي مشجعة الجهني رفعه: "إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر ذرية صالحة" الحديث. وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله. وقال غيره في أعم من ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعلمه ونحو ذلك.

(10/416)


13 - باب مَنْ وَصَلَ وَصَلَهُ اللَّهُ
5987- حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ قَالَ سَمِعْتُ عَمِّي سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَهُوَ لَكِ" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} .
5988- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَقَالَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ" .
5989- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرَّحِمُ شِجْنَةٌ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ" .
قوله: "باب من وصل وصله الله" أي من وصل رحمه. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، ومعاوية هو ابن أبي مزرد بضم الميم وفتح الزاي وتشديد الراء بعدها مهملة، تقدم ضبطه وتسميته في أول الزكاة، ولمعاوية بن أبي مزرد في هذا الباب حديث آخر وهو ثالث أحاديث الباب من طريق عائشة. قوله: "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ" تقدم تأويل فرغ في تفسير القتال، قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المراد بالخلق جميع المخلوقات، ويحتمل أن يكون المراد به المكلفين. وهذا القول يحتمل أن يكون بعد خلق السماوات والأرض وإبرازها في الوجود، ويحتمل أن يكون بعد خلقها كتبا في اللوح المحفوظ ولم يبرز بعد إلا اللوح والقلم، ويحتمل أن يكون بعد انتهاء خلق أرواح بني آدم عند قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} لما أخرجهم من صلب آدم عليه السلام مثل الذر. قوله: "قامت الرحم فقالت " قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون بلسان الحال ويحتمل أن يكون بلسان المقال قولان مشهوران، والثاني أرجح. وعلى الثاني فهل تتكلم كما هي أو بخلق الله لها عند كلامها حياة وعقلا؟ قولان أيضا مشهوران، والأول أرجح لصلاحية القدرة العامة لذلك، ولما في الأولين من تخصيص عموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل، ولما يلزم منه من حصر قدرة القادر التي لا يحصرها شيء. قلت: وقد تقدم في تفسير القتال حمل عياض له على المجاز، وأنه من باب ضرب المثل، وقوله أيضا يجوز أن يكون الذي نسب إليه القول ملكا يتكلم على لسان الرحم، وتقدم أيضا ما يتعلق بزيادة في هذا الحديث من وجه آخر عن معاوية بن أبي مزرد وهي قوله: "فأخذت بحقو الرحمن " ووقع في حديث ابن عباس عند الطبراني "إن الرحم أخذت بحجزة الرحمن" وحكى

(10/417)


شيخنا في "شرح الترمذي" أن المراد بالحجزة هنا قائمة العرش، وأيد ذلك بما أخرجه مسلم من حديث عائشة "إن الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش" وتقدم أيضا ما يتعلق بقوله: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة" في تفسير القتال، ووقع في رواية حبان بن موسى عن ابن المبارك بلفظ: "هذا مكان" بدل "مقام" وهو تفسير المراد أخرجه النسائي. قوله: "أصل من وصلك وأقطع من قطعك" في ثاني أحاديث الباب من وجه آخر عن أبي هريرة "من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته" قال ابن أبي جمرة: الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه، وإنما خاطب الناس بما يفهمون، ولما كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبة الوصال وهو القرب منه وإسعافه بما يريد ومساعدته على ما يرضيه، وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى، عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده. قال: وكذا القول في القطع، هو كناية عن حرمان الإحسان. وقال القرطبي: وسواء قلنا إنه يعني القول المنسوب إلى الرحم على سبيل المجاز أو الحقيقة أو إنه على جهة التقدير والتمثيل كأن يكون المعنى: لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت كذا، ومثله {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً} الآية، وفي آخرها {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} فمقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره فأدخله في حمايته، وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله، وإن من يطلبه الله بشيء من ذمته يدركه ثم يكبه على وجهه في النار" أخرجه مسلم. قوله: "حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثنا عبد الله بن دينار" لسليمان في هذا المعنى ثلاثة أحاديث: أحدها: هذا، والآخر: الحديث الذي قبله - وقد سبق من طريقه في تفسير القتال ويأتي في التوحيد. قوله: "الرحم شجنة" بكسر المعجمة وسكون الجيم بعدها نون، وجاء بضم أوله وفتحه رواية ولغة. وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة، والشجن بالتحريك واحد الشجون وهي طرق الأودية، ومنه قولهم: "الحديث ذو شجون" أي يدخل بعضه في بعض. وقوله: "من الرحمن" أي أخذ اسمها من هذا الاسم كما في حديث عبد الرحمن بن عوف في السنن مرفوعا: "أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي" والمعنى أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها؛ فالقاطع لها منقطع من رحمة الله. وقال الإسماعيلي: معنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن فلها به علقة، وليس معناه أنها من ذات الله تعالى الله عن ذلك. قال القرطبي: الرحم التي توصل عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين وتجب مواصلتها بالتوادد والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة. وأما الرحم الخاصة فتزيد للنفقة على القريب وتفقد أحوالهم والتغافل عن زلاتهم. وتتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك كما في الحديث الأول من كتاب الأدب "الأقرب فالأقرب" وقال ابن أبي جمرة: تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء. والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارا أو فجارا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم، ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى. قوله: "فقال الله" زاد الإسماعيلي في روايته: "لها" وهذه الفاء عاطفة على شيء محذوف، وأحسن ما يقدر له ما في الحديث الذي قبله " فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله الخ". حديث عائشة، وهو

(10/418)


بلفظ حديث أبي هريرة الذي قبله إلا أنه بلفظ الغيبة. وفي الأحاديث الثلاثة تعظيم أمر الرحم، وأن صلتها مندوب مرغب فيه وأن قطعها من الكبائر لورود الوعيد الشديد فيه. واستدل به على أن الأسماء توقيفية، وعلى رجحان القول الصائر إلى أن المراد بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أسماء جميع الأشياء سواء كانت من الذوات أو من الصفات، والله أعلم.

(10/419)


14 - باب تُبَلُّ الرَّحِمُ بِبَلاَلِهَا
5990- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَاراً غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ: "إِنَّ آلَ أَبِي -قَالَ عَمْرٌو فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بَيَاضٌ- لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ" زَادَ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلاَهَا" يَعْنِي أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بِبَلاَهَا كَذَا وَقَعَ وَبِبَلاَلِهَا أَجْوَدُ وَأَصَحُّ وَبِبَلاَهَا لاَ أَعْرِفُ لَهُ وَجْهاً".
قوله: "باب" هو بالتنوين "تبل الرحم ببلالها" بضم أوله بالمثناة، ويجوز بفتح أوله بالتحتانية، والمراد المكلف. قوله: "حدثني" لغير أبي ذر "حدثنا" وعمرو بن عباس بالموحدة والمهملة هو أبو عثمان الباهلي البصري ويقال له الأهوازي، أصله من إحداهما وسكن الأخرى، وهو من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، وانفرد به عن الستة. وحديث الباب قد حدث به أحمد ويحيى بن معين وغيرهما من شيوخ البخاري عن ابن مهدي، لكن ناسب تخريجه عنه كون صحابيه سميه وهو عمرو بن العاص، ومحمد بن جعفر شيخه هو غندر وهو بصري، ولم أر الحديث المذكور عند أحمد من أصحاب شعبة إلا عنده، إلا ما أخرجه الإسماعيلي من رواية وهب بن حفص عن عبد الملك بن إبراهيم الجعدي عن شعبة، ووهب بن حفص كذبوه. قوله: "أن عمرو بن العاص قال" عند مسلم عن أحمد وعند الإسماعيلي عن يحيى بن معين كلاهما عن غندر بلفظ: "عن عمرو بن العاص" ووقع في رواية بيان بن بشر عن قيس "سمعت عمرو بن العاص" وستأتي الإشارة إليها في الكلام على الطريق المعلقة، وليس لقيس بن أبي حازم في الصحيحين عن عمرو بن العاص غير هذا الحديث، ولعمرو في الصحيحين حديثان آخران حديث: "أي الرجال أحب إليك" وقد مضى في المناقب، وحديث: "إذا اجتهد الحاكم" وسيأتي في الاعتصام، وله آخر معلق عند البخاري مضى في المبعث النبوي، وآخر مضى في التيمم، وعند مسلم حديث آخر في السحور، وهذا جميع ما له عندهما من الأحاديث المرفوعة. قوله: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهارا" يحتمل أن يتعلق بالمفعول أي كان المسموع في حالة الجهر، ويحتمل أن يتعلق بالفاعل أي أقول ذلك جهارا، وقوله: "غير سر" تأكيد لذلك لدفع توهم أنه جهر به مرة وأخفاه أخرى، والمراد أنه لم يقل ذلك خفية بل جهر به وأشاعه. قوله: "إن آل أبي" كذا للأكثر بحذف ما يضاف إلى أداة الكنية، وأثبته المستملي في روايته لكن كنى عنه فقال: "آل أبي فلان" وكذا هو في روايتي مسلم والإسماعيلي، وذكر القرطبي أنه وقع في أصل مسلم موضع " فلان" بياض ثم كتب بعض الناس فيه: "فلان" على سبيل الإصلاح، وفلان كناية عن اسم علم، ولهذا وقع لبعض رواته "إن آل أبي يعني فلان" ولبعضهم

(10/419)


"إن آل أبي فلان" بالجزم. قوله: "قال عمرو" هو ابن عباس شيخ البخاري فيه. قوله: "في كتاب محمد بن جعفر" أي غندر شيخ عمرو فيه. قوله: "بياض" قال عبد الحق في كتاب "الجمع بين الصحيحين": إن الصواب في ضبط هذه الكلمة بالرفع، أي وقع في كتاب محمد بن جعفر موضع أبيض يعني بغير كتابة، وفهم منه بعضهم أنه الاسم المكني عنه في الرواية فقرأه بالجر على أنه في كتاب محمد بن جعفر إن آل أبي بياض، وهو فهم سيء ممن فهمه لأنه لا يعرف في العرب قبيلة يقال لها آل أبي بياض، فضلا عن قريش، وسياق الحديث مشعر بأنهم من قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم وهي قريش، بل فيه إشعار بأنهم أخص من ذلك لقوله: "إن لهم رحما" وأبعد من حمله على بني بياضة وهم بطن من الأنصار لما فيه من التغيير أو الترخيم على رأي، ولا يناسب السياق أيضا. وقال ابن التين: حذفت التسمية لئلا يتأذى بذلك المسلمون من أبنائهم. وقال النووي: هذه الكناية من بعض الرواة، خشي أن يصرح بالاسم فيترتب عليه مفسدة إما في حق نفسه، وإما في حق غيره، وإما معا. وقال عياض: إن المكنى عنه هنا هو الحكم بن أبي العاص. وقال ابن دقيق العيد: كذا وقع مبهما في السياق، وحمله بعضهم على بني أمية ولا يستقيم مع قوله آل أبي، فلو كان آل بني لأمكن، ولا يصح تقدير آل أبي العاص لأنهم أخص من بني أمية والعام لا يفسر بالخاص. قلت: لعل مراد القائل أنه أطلق العام وأراد الخاص، وقد وقع في رواية وهب بن حفص التي أشرت إليها "أن آل بني" لكن وهب لا يعتمد عليه، وجزم الدمياطي في حواشيه بأنه آل أبي العاص بن أمية، ثم قال ابن دقيق العيد: إنه رأى في كلام ابن العربي في هذا شيئا يراجع منه. قلت: قال أبو بكر بن العربي في "سراج المريدين": كان في أصل حديث عمرو بن العاص "أن آل أبي طالب" فغير "آل أبي فلان" كذا جزم به، وتعقبه بعض الناس وبالغ في التشنيع ونسبه إلى التحامل على آل أبي طالب، ولم يصب هذا المنكر فإن هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربي موجودة في "مستخرج أبي نعيم" من طريق الفضل بن الموفق عن عنبسة بن عبد الواحد بسند البخاري عن بيان بن بشر عن قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص رفعه: "إن لبني أبي طالب رحما أبلها ببلاها" وقد أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه أيضا لكن أبهم لفظ طالب، وكأن الحامل لمن أبهم هذا الموضع ظنهم أن ذلك يقتضي نقصا في آل أبي طالب؛ وليس كما توهموه كما سأوضحه إن شاء الله تعالى. قوله: "ليسوا بأوليائي" كذا للأكثر وفي نسخة من رواية أبي ذر "بأولياء" فنقل ابن التين عن الداودي أن المراد بهذا النفي من لم يسلم منهم، أي فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض، والمنفي على هذا المجموع لا الجميع. وقال الخطابي: الولاية المنفية ولاية القرب والاختصاص لا ولاية الدين، ورجح ابن التين الأول وهو الراجح، فإن من جملة آل أبي طالب عليا وجعفر أو هما من أخص الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم لما لهما من السابقة والقدم في الإسلام ونصر الدين، وقد استشكل بعض الناس صحة هذا الحديث لما نسب إلى بعض رواته من النصب وهو الانحراف عن علي وآل بيته، قلت: أما قيس بن أبي حازم فقال يعقوب بن شيبة تكلم أصحابنا في قيس فمنهم من رفع قدره وعظمه وجعل الحديث عنه من أصح الأسانيد حتى قال ابن معين: هو أوثق من الزهري ومنهم من حمل عليه وقال: له أحاديث مناكير، وأجاب من أطراه بأنها غرائب وإفراده لا يقدح فيه. ومنهم من حمل عليه في مذهبه وقال: كان يحمل على علي ولذلك تجنب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيين، وأجاب من أطراه بأنه كان يقدم عثمان على علي. قلت: والمعتمد عليه أنه ثقة ثبت مقبول الرواية، وهو من كبار

(10/420)


التابعين، سمع من أبي بكر الصديق فمن دونه، وقد روي عنه حديث الباب إسماعيل بن أبي خالد وبيان بن بشر وهما كوفيان ولم ينسبا إلى، النصب، لكن الراوي عن بيان وهو عنبسة بن عبد الواحد أموي قد نسب إلى شيء من النصب، وأما عمرو بن العاص وإن كان بينه وبين علي ما كان فحاشاه أن يتهم، وللحديث محل صحيح لا يستلزم نقصا في مؤمني آل أبي طالب، وهو أن المراد بالنفي المجموع كما تقدم، ويحتمل أن يكون المراد بآل أبي طالب أبو طالب نفسه وهو إطلاق سائغ كقوله في أبي موسى: " إنه أوتي مزمارا من مزامير آل داود" وقوله صلى الله عليه وسلم "آل أبي أوفى" وخصه بالذكر مبالغة في الانتفاء ممن لم يسلم لكونه عمه وشقيق أبيه وكان القيم بأمره ونصره وحمايته، ومع ذلك فلما لم يتابعه على دينه انتفى من موالاته. قوله: "إنما وليي الله وصالح المؤمنين" كذا للأكثر بالإفراد وإرادة الجملة، وهو اسم جنس، ووقع في رواية البرقاني "وصالحو المؤمنين" بصيغة الجمع، وقد أجاز بعض المفسرين أن الآية التي في التحريم كانت في الأصل {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ} لكن حذقت الواو من الخط على وفق النطق، وهو مثل قوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} وقال النووي: معنى الحديث أن ولي من كان صالحا وإن بعد مني نسبه، وليس وليي من كان غير صالح وإن قرب مني نسبه. وقال القرطبي: فائدة الحديث انقطاع الولاية في الدين بين المسلم والكافر ولو كان قريبا حميما. وقال ابن بطال: أوجب في هذا الحديث الولاية بالدين ونفاها عن أهل رحمه إن لم يكونوا من أهل دينه، فدل ذلك على أن النسب يحتاج إلى الولاية التي يقع بها الموارثة بين المتناسبين، وأن الأقارب إذا لم يكونوا على دين واحد لم يكن بينهم توارث ولا ولاية، قال: ويستفاد من هذا أن الرحم المأمور بصلتها والمتوعد على قطعها هي التي شرع لها ذلك، فأما من أمر بقطعه من أجل الدين فيستثنى من ذلك، ولا يلحق بالوعيد من قطعه لأنه قطع من أمر الله بقطعه، لكن لو وصلوا بما يباح من أمر الدنيا لكان فضلا، كما دعا صلى الله عليه وسلم لقريش بعد أن كانوا كذبوه فدعا عليهم بالقحط ثم استشفعوا به فرق لهم لما سألوه برحمهم فرحمهم ودعا لهم. قلت: ويتعقب كلامه في موضعين: أحدهما: يشاركه فيه كلام غيره وهو قصره النفي على من ليس على الدين، وظاهر الحديث أن من كان غير صالح في أعمال الدين دخل في النفي أيضا لتقييده الولاية بقوله: { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} ، والثاني: أن صلة الرحم الكافر ينبغي تقييدها بما إذا أيس منه رجوعا عن الكفر، أو رجى أن يخرج من صلبه مسلم، كما في الصورة التي استدل بها وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لقريش بالخصب وعلل بنحو ذلك، فيحتاج من يترخص في صلة رحمه الكافر أن يقصد إلى شيء من ذلك، وأما من كان على الدين ولكنه مقصر في الأعمال مثلا فلا يشارك الكافر في ذلك. وقد وقع في "شرح المشكاة": المعنى أني لا أوالي أحدا بالقرابة، وإنما أحب الله تعالى لما له من الحق الواجب على العباد، وأحب صالح المؤمنين لوجه الله تعالى، وأوالي من أوالي بالإيمان والصلاح سواء كان من ذوي رحم أو لا، ولكن أرعى لذوي الرحم حقهم لصلة الرحم، انتهى. وهو كلام منقح. وقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} على أقوال: أحدها: الأنبياء أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن قتادة وأخرجه الطبري، وذكره ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري، وأخرجه النقاش عن العلاء بن زياد. الثاني: الصحابة أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، ونحوه في تفسير الكلبي قال: هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأشباههم ممن ليس بمنافق. الثالث: خيار المؤمنين أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك. الرابع: أبو بكر وعمر وعثمان أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري. الخامس: أبو بكر وعمر

(10/421)


أخرجه الطبري وابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا وسنده ضعيف، وأخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضا، وكذا هو في تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء بسنده عن ابن عباس موقوفا، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر ضعيف عنه كذلك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير وعبد الله بن بريدة ومقاتل بن حيان كذلك. السادس: أبو بكر خاصة ذكره القرطبي عن المسيب بن شريك. السابع: عمر خاصة أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد، وأخرجه ابن مردويه بسند واه جدا عن ابن عباس. الثامن: علي أخرجه ابن أبي حاتم بسند منقطع عن علي نفسه مرفوعا، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد قال: هو علي، وأخرجه ابن مردويه بسندين ضعيفين من حديث أسماء بنت عميس مرفوعا قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صالح المؤمنين علي بن أبي طالب" ومن طريق أبي مالك عن ابن عباس مثله موقوفا وفي سنده راو ضعيف، وذكره النقاش عن ابن عباس ومحمد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق. قلت: فإن ثبت هذا فقيه دفع توهم من توهم أن في الحديث المرفوع نقصا من قدر علي رضي الله عنه ويكون المنفي أبا طالب ومن مات من آله كافرا، والمثبت من كان منهم مؤمنا، وخص علي بالذكر لكونه رأسهم، وأشير بلفظ الحديث إلى لفظ الآية المذكورة ونص فيها على علي تنويها بقدره ودفعا لظن من يتوهم عليه في الحديث المذكور غضاضة، ولو تفطن من كنى عن أبي طالب لذلك لاستغنى عما صنع، والله أعلم. قوله: "وزاد عنبسة بن عبد الواحد" أي ابن أمية بن عبد الله بن سعيد بن العاص بن أبي أحيحة بمهملتين مصغرا وهو سعيد بن العاص بن أمية؛ وهو موثوق عندهم، وما له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق، وقد وصله البخاري في كتاب البر والصلة فقال: "حدثنا محمد بن عبد الواحد بن عنبسة حدثنا جدي" فذكره وأخرجه الإسماعيلي من رواية نهد بن سليمان عن محمد بن عبد الواحد المذكور وساقه بلفظ: "سمعت عمرو بن العاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي جهرا غير سر: إن بني أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله والذين آمنوا، ولكن لهم رحم" الحديث وقد قدمت لفظ رواية الفضل بن الموفق عن عنبسة من عند أبي نعيم وأنها أخص من هذا. قوله: "ولكن لها رحم أبلها ببلالها، يعني أصلها بصلتها" كذا لهم، لكن سقط التفسير من رواية النسفي، ووقع عند أبي ذر بعده "أبلها ببلائها" وبعده في الأصل: كذا وقع، وببلالها أجود وأصح. وببلاها لا أعرف له وجها، انتهى. وأظنه من قوله: "كذا وقع الخ" من كلام أبي ذر، وقد وجه الداودي فيما نقله ابن التين هذه الرواية على تقدير ثبوتها بأن المراد ما أوصله إليها من الأذى على تركهم الإسلام، وتعقبه ابن التين بأنه لا يقال في الأذى أبله، ووجهها بعضهم بأن البلاء بالمد يجيء بمعنى المعروف والإنعام، ولما كان الرحم مما يستحق المعروف أضيف إليها ذلك. فكأنه قال: أصلها بالمعروف اللائق بها. والتحقيق أن الرواية إنما هي "ببلالها" مشتق من أبلها، قال النووي: ضبطنا قوله: "ببلالها" بفتح الموحدة وبكسرها وهما وجهان مشهوران. وقال عياض: رويناه بالكسر، ورأيته للخطابي بالفتح. وقال ابن التين: هو بالفتح للأكثر ولبعضهم بالكسر. قلت: بالكسر أوجه، فإنه من البلال جمع بلل مثل جمل وجمال، ومن قاله بالفتح بناه على الكسر مثل قطام وحذام. والبلال بمعنى البلل وهو النداوة، وأطلق ذلك على الصلة كما أطلق اليبس على القطيعة، لأن النداوة من شأنها تجميع ما يحصل فيها وتأليفه، بخلاف اليبس فمن شأنه التفريق. وقال الخطابي وغيره: بللت الرحم بلا وبللا وبلالا أي نديتها بالصلة. وقد أطلقوا على الإعطاء الندى وقالوا في البخيل ما تندى كفه

(10/422)


بخير، فشبهت قطيعة الرحم بالحرارة ووصلها بالماء الذي يطفئ ببرده الحرارة، ومنه الحديث: "بلوا أرحامكم ولو بالسلام" وقال الطيبي وغيره: شبه الرحم بالأرض التي إذا وقع عليها الماء وسقاها حتى سقيها أزهرت ورؤيت فيها النضارة فأثمرت المحبة والصفاء، وإذا تركت بغير سقي يبست وبطلت منفعتها فلا تثمر إلا البغضاء والجفاء، ومنه قولهم سنة جماد أي لا مطر فيها، وناقة جماد أي لا لبن فيها. وجوز الخطابي أن يكون معنى قوله: "أبلها ببلالها" في الآخرة أي أشفع لها يوم القيامة. وتعقبه الداودي بأن سياق الحديث يؤذن بأن المراد ما يصلهم به في الدنيا، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: "لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا، فعم وخص - إلى أن قال - يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها" وأصله عند البخاري بدون هذه الزيادة. وقال الطيبي: في قوله: "ببلالها" مبالغة بديعة وهي مثل قوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} أي زلزالها الشديد الذي لا شيء فوقه، فالمعنى أبلها بما اشتهر وشاع بحيث لا أترك منه شيئا.

(10/423)


باب ليس الواصل بالمكافىء
...
15 - باب لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ
5991- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ وَالْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو وَفِطْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ سُفْيَانُ لَمْ يَرْفَعْهُ الأَعْمَشُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَهُ حَسَنٌ وَفِطْرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا" .
قوله: "باب ليس الواصل بالمكافئ" التعريف فيه للجنس. قوله: "سفيان" هو الثوري؛ والحسن بن عمرو الفقيمي بفاء وقاف مصغر، وفطر بكسر الفاء وسكون المهملة ثم راء هو ابن خليفة. قوله: "عن مجاهد" أي الثلاثة عن مجاهد، وعبد الله بن عمرو هو ابن العاص، وقوله: "قال سفيان" هو الراوي، وهو موصول بهذا الإسناد. وقوله: "لم يرفعه الأعمش ورفعه حسن وفطر" هذا هو المحفوظ عن الثوري، وأخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان الثوري عن الحسن بن عمرو وحده مرفوعا من رواية مؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن الحسن بن عمرو موقوفا وعن الأعمش مرفوعا، وتابعه أبو قرة موسى بن طارق عن الثوري على رفع رواية الأعمش، وخالفه عبد الرزاق عن الثوري فرفع رواية الحسن بن عمرو وهو المعتمد، ولم يختلفوا في أن رواية فطر بن خليفة مرفوعة. وقد أخرجه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن فطر وبشير بن إسماعيل كلاهما عن مجاهد مرفوعا، وأخرجه أحمد عن جماعة من شيوخه عن فطر مرفوعا وزاد في أول الحديث: "إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ" الحديث. قوله: "ليس الواصل بالمكافئ" أي الذي يعطي لغيره نظير ما أعطاه ذلك الغير، وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر موقوفا " ليس الوصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الوصل أن تصل من قطعك". قوله: "ولكن" قال الطيبي الرواية فيه بالتشديد ويجوز التخفيف. قوله: " الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها " أي الذي إذا منع أعطى، و"قطعت" ضبطت في بعض الروايات بضم أوله وكسر ثانيه على الباء للمجهول، وفي أكثرها بفتحتين، قال الطيبي: المعنى، ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافئ صاحبه بمثل فعله، ولكنه من يتفضل على صاحبه. وقال شيخنا في "شرح الترمذي" المراد

(10/423)


بالواصل في هذا الحديث الكامل، فإن في المكافأة نوع صلة، بخلاف من إذا وصله قريبه لم يكافئه فإن فيه قطعا بإعراضه عن ذلك، وهو من قبيل "ليس الشديد بالصرعة، وليس الغنى عن كثرة العرض" انتهى. وأقول: لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات: واصل ومكافئ وقاطع، فالواصل من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل. وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك يقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا، والله أعلم.

(10/424)


16 - باب مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ
5992- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أُمُوراً كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ هَلْ لِي فِيهَا مِنْ أَجْرٍ قَالَ حَكِيمٌ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ" وَيُقَالُ أَيْضاً عَنْ أَبِي الْيَمَانِ أَتَحَنَّثُ". وَقَالَ مَعْمَرٌ وَصَالِحٌ وَابْنُ الْمُسَافِرِ "أَتَحَنَّثُ" وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: التَّحَنُّثُ التَّبَرُّرُ وَتَابَعَهُمْ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ.
قوله: "باب من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم" أي هل يكون له في ذلك ثواب؟ وإنما لم يجزم بالحكم لوجود الاختلاف في ذلك. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل كتاب الزكاة، وتقدم البحث في ذلك في كتاب الإيمان في الكلام على حديث أبي سعيد الخدري "إذا أسلم العبد فحسن إسلامه" . قوله: "هل كان لي فيها من أجر؟" وهو تفسير رواية يونس بن يزيد عند مسلم: "هل لي فيها من شيء؟" ووقع في رواية صالح بن كيسان "أفيها أجر؟" وفي رواية ابن مسافر "هل لي فيها من أجر؟". قوله: "ويقال أيضا عن أبي اليمان أتحنت" كذا لأبي ذر، ووقع في رواية غيره: "وقال أيضا" وعلى هذا فهو من كلام البخاري وفاعل "قال" هو البخاري. قوله: "عن أبي اليمان أتحنت" يعني بالمثناة بدل المثلثة، يشير إلى ما أورده هو في "باب شراء المملوك من الحربي" في كتاب البيوع عن أبى اليمان بلفظ كنت أتحنت أو أتحنث بالشك، وكأنه سمعه منه بالوجهين؛ وتقدم في كتاب الزكاة ما صوبه عياض من ذلك. وقال ابن التين: "أتحنت" بالمثناة لا أعلم له وجها انتهى. ووقع عند الإسماعيلي: "أتجنب" بجيم وآخره موحدة فقال: قال البخاري "يقال أتجنب" قال الإسماعيلي: والتجنب تصحيف وإنما هو التحنث مأخوذ من الحنث وهو الإثم، فكأنه قال أتوقى ما يؤثم. قلت؛ وبهذا التأويل تقوى رواية: "أتجنب" بالجيم والموحدة ويكون التردد في اللفظتين وهما "أتحنث" بمهملة ومثلثة "وأتجنب" بجيم وموحدة والمعنى واحد، وهو توقي ما يوقع في الإثم، لكن ليس المراد توقي الإثم بل أعلى منه وهو تحصيل البر. قوله: "وقال معمر وصالح وابن المسافر أتحنث" يعني بالمثلثة، أما رواية معمر فوصلها المؤلف في الزكاة، وهي في "باب فمن تصدق في الشرك ثم أسلم" وعزاها المزي في "الأطراف" للصلاة، ولم أرها فيها، وأما رواية صالح وهو ابن كيسان فأخرجها مسلم، وأما رواية ابن المسافر فكذا وقع هنا بالألف واللام والمشهور فيه بحذفهما، وهو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر

(10/424)


الفهمي المصري أمير مصر، فوصلها الطبراني في "الأوسط" من طريق الليث بن سعد عنه. قوله: "وقال ابن إسحاق التحنث التبرر" هكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية فقال: "حدثني وهب بن كيسان قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول لعبيد بن عمير: حدثنا كيف كان بدء النبوة؟ قال فقال عبيد وأنا حاضر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث به قريش في الجاهلية، والتحنث التبرر" وقد تقدم التنبيه على ذلك في بدء الوحي في حديث عائشة في هذا المعنى: فكان يتحنث، وهو التعبد. ومضى التنبيه على ذلك في أول الكتاب. قوله: "وتابعه هشام بن عروة عن أبيه" في رواية الكشميهني: "وتابعهم" بصيغة الجمع، والأول أرجح فإن المراد بهذه المتابعة خصوص تفسير التحنث بالتبرر، ورواية هشام وصلها المؤلف في العتق من طريق أبي أسامة عنه ولفظه أن حكيم بن حزام قال، فذكر الحديث وفيه: "كنت أتحنث بها يعني أتبرر".

(10/425)


17 - باب مَنْ تَرَكَ صَبِيَّةَ غَيْرِهِ حَتَّى تَلْعَبَ بِهِ أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ مَازَحَهَا
5993- حَدَّثَنَا حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سَنَهْ سَنَهْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ قَالَتْ فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزَبَرَنِي أَبِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دَعْهَا ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْلِي وَأَخْلِقِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا".
قوله: "باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به" أي ببعض جسده. قوله: "أو قبلها أو مازحها" قال ابن التين: ليس في الخبر المذكور في الباب للتقبيل ذكر، فيحتمل أن يكون لما لم ينهها عن مس جسده صار كالتقبيل، وإلى ذلك أشار ابن بطال، والذي يظهر لي أن ذكر المزح بعد التقبيل من العام بعد الخاص؛ وأن الممازحة بالقول والفعل مع الصغيرة إنما يقصد به التأنيس، والتقبيل من جملة ذلك. وحديث الباب عن أم خالد بنت خالد بن سعيد تقدم شرحه في "باب الخميصة السوداء" من كتاب اللباس، وعبد الله في هذا السند هو ابن المبارك، وخالد بن سعيد المذكور في السند تقدم بيان نسبه في كتاب الجهاد. قوله: "فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزبرني أبي" أي نهرني، والزبر بزاي وموحدة ساكنة هو الزجر والمنع وزنه ومعناه. قوله: "أبلي وأخلقي" تقدم ضبطه والاختلاف فيه. قوله: "ثم أبلي وأخلقي" قال الداودي يستفاد منه مجيء "ثم" للمقارنة، وأبي ذلك بعض النحاة فقالوا لا تأتي إلا للتراخي، كذا قال، وتعقبه ابن التين بأن قال ما علمت أن أحدا قال إن ثم للمقارنة، وإنما هي للترتيب بالمهلة وقال وليس في الحديث ما ادعاه من المقارنة لأن الإبلاء يقع بعد الخلق أو الخلف. قلت: لعل الداودي أراد بالمقارنة المعاقبة فيتجه كلامه بعض اتجاه. قوله: "قال عبد الله" هو ابن المبارك وهو متصل بالإسناد المذكور. قوله: "فبقي" أي الثوب المذكور، كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر "فبقيت" والمراد أم خالد. قوله: "حتى ذكر" كذا للأكثر بذال معجمة ثم كاف خفيفة مفتوحتين ثم راء وفيه اكتفاء، والتقدير ذكر الراوي زمنا طويلا. وقال الكرماني: المعنى صار شيئا مذكورا عند الناس بخروج بقائه عن العادة. قلت: وكأنه قرأه "ذكر" بضم أوله

(10/425)


لكن لم يقع عندنا في الرواية إلا بالفتح، ووقع في رواية أبي علي بن السكن "حتى ذكر دهرا" وهو يؤيد ما قدمته. وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: "حتى دكن" بدال مهملة وكاف مكسورة ثم نون أي صار أدكن أي أسود، قال أهل اللغة، الدكن لون يضرب إلى السواد، وقد دكن الثوب بالكسر يدكن بفتح الكاف وبضمها مع الفتح، وقد جزم جماعة بأن رواية الكشميهني تصحيف. قوله: "يعني من بقائها" كذا للأصيلي والضمير للخميصة أو لأم خالد بحسب التوجيهين المتقدمين.

(10/426)


باب رحمة الولد وتقبله ومعانقته
...
18- باب رَحْمَةِ الْوَلَدِ وَتَقْبِيلِهِ وَمُعَانَقَتِهِ
وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ
5994- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: "كُنْتُ شَاهِداً لِابْنِ عُمَرَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ. فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنْ الدُّنْيَا" .
5995- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: "جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئاً فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْراً مِنْ النَّارِ" .
5996- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو قَتَادَةَ قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا".
5997- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِساً فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَداً فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ" .
5998- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ" .
5999- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّاً فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لاَ

(10/426)


وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا" .
قوله: "باب رحمة الولد وقبلته ومعانقته" قال ابن بطال: يجوز تقبيل الولد الصغير في كل عضو منه وكذا الكبير عند أكثر العلماء ما لم يكن عورة، وتقدم في مناقب فاطمة عليها السلام أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبلها، وكذا كان أبو بكر يقبل ابنته عائشة. قوله: "وقال ثابت عن أنس: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه" سقط هذا التعليق لأبي ذر عن غبر الكشميهني، وقد وصله المؤلف في الجنائز من طريق قريش بن حبان عن ثابت في حديث طويل. وإبراهيم هو ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية. حديث ابن عمر. قوله: "مهدي" هو ابن ميمون، وثبت ذلك في رواية أبي ذر. قوله: "ابن أبي يعقوب" هو محمد بن عبد الله الضبي البصري، وابن أبي نعم بضم النون وسكون المهملة هو عبد الرحمن، واسم أبيه لا يعرف، والسند كله إلى عبد الرحمن هذا بصريون، وهو كوفي عابد اتفقوا على توثيقه، وشذ ابن أبي خيثمة فحكى عن ابن معين أنه ضعفه. قوله: "كنت شاهدا لابن عمر" أي حاضرا عنده. قوله: "وسأله رجل" الجملة حالية، واسم الرجل السائل ما عرفته. قوله: "عن دم البعوض" تقدم في المناقب بلفظ: "الذباب" بضم المعجمة وموحدتين. قال الكرماني لعله سأل عنهما معا. قلت: أو أطلق الراوي الذباب على البعوض لقرب شبهه منه وإن كان في البعوض معنى زائد، قال الجاحظ: العرب تطلق على النحل والدبر وما أشبهه ذلك ذبابا. قوله: "وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني الحسين بن علي. قوله: "وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول" هي جملة حالية. قوله: "ريحانتاي" كذا للأكثر، ولأبي ذر عن المستملي والحموي "ريحاني" بكسر النون والتخفيف على الإفراد وكذا عند النسفي، ولأبي ذر عن الكشميهني: "ريحانتي" بزيادة تاء التأنيث، قال ابن التين: وهو وهم والصواب "ريحانتاي". قلت: كأنه قرأه بفتح المثناة وتشديد الياء الأخيرة على التثنية فجعله وهما، ويجوز أن يكون بكسر المثناة والتخفيف فلا يكون وهما، والمراد بالريحان هنا الرزق قاله ابن التين. وقال صاحب "الفائق": أي هما من رزق الله الذي رزقنيه، يقال سبحان الله وريحانه أي أسبح الله وأسترزقه، ويجوز أن يريد بالريحان المشموم يقال حباني بطاقة ريحان، والمعنى أنهما مما أكرمني الله وحباني به، لأن الأولاد يشمون ويقبلون فكأنهم من جملة الرياحين. وقوله: "من الدنيا" أي نصيبي من الريحان الدنيوي. وقال ابن بطال يؤخذ من الحديث أنه يجب تقديم ما هو أوكد على المرء من أمر دينه لإنكار ابن عمر على من سأله عن دم البعوض مع تركه الاستغفار من الكبيرة التي ارتكبها بالإعانة على قتل الحسين فوبخه بذلك، وإنما خصه بالذكر لعظم قدر الحسين ومكانه من النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. والذي يظهر أن ابن عمر لم يقصد ذلك الرجل بعينه بل أراد التنبيه على جفاء أهل العراق وغلبة الجهل عليهم بالنسبة لأهل الحجاز، ولا مانع أن يكون بعد ذلك أفتى السائل عن خصوص ما سأل عنه لأنه لا يحل له كتمان العلم إلا إن حمل على أن السائل كان متعنتا. ويؤيد ما قلته أنه ليس في القصة ما يدل على أن السائل المذكور كان ممن أعان على قتل الحسين، فإن ثبت ذلك فالقول ما قال ابن بطال والله أعلم. قوله: "عبد الله بن أبي بكر" أي ابن محمد بن عمرو بن حزم، ومضى في الزكاة من رواية ابن المبارك عن معمر "عبد الله بن أبي بكر بن حزم" فنسب أباه لجد أبيه وإدخال الزهري بينه وبين عروة رجلا مما يؤذن بأنه قليل التدليس، وقد أخرجه الترمذي مختصرا من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن معمر بإسقاط عبد الله بن أبي بكر من السند، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون الزهري سمعه من عروة مختصرا

(10/427)


وسمعه عنه مطولا وإلا فالقول ما قال ابن المبارك. قوله: "جاءتني امرأة ومعها بنتان" لم أقف على أسمائهن، وسقطت الواو لغير أبي ذر من قوله: "ومعها" وكذا هو في رواية ابن المبارك. قوله: "فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها" زاد معمر "ولم تأكل منها شيئا". قوله: "ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته" هكذا في رواية عروة. ووقع في رواية عراك بن مالك عن عائشة "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهن تمرة، ورفعت تمرة إلى فيها لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها، فأعجبني شأنها" الحديث أخرجه مسلم. وللطبراني من حديث الحسن بن علي نحوه، ويمكن الجمع بأن مرادها بقوله في حديث عروة فلم تجد عندي غير تمرة واحدة أي أخصها بها، ويحتمل أنها لم يكن عندها في أول الحال سوى واحدة فأعطتها ثم وجدت ثنتين، ويحتمل تعدد القصة. قوله: "من يلي من هذه البنات شيئا" كذا للأكثر بتحتانية مفتوحة أوله من الولاية، وللكشميهني بموحدة مضمومة من البلاء. وفي رواية الكشميهني أيضا: "بشيء" وقواه عياض وأيده برواية شعيب بلفظ: "من ابتلي" وكذا وقع في رواية معمر عند الترمذي، واختلف في المراد بالابتلاء هل هو نفس وجودهن أو ابتلي بما يصدر منهن، وكذلك هل هو على العموم في البنات، أو المراد من اتصف منهن بالحاجة إلى ما يفعل به. قوله: "فأحسن إليهن" هذا يشعر بأن المراد بقوله في أول الحديث: "من هذه" أكثر من واحدة، وقد وقع في حديث أنس عند مسلم: "من عال جاريتين " ولأحمد من حديث أم سلمة " من أنفق على ابنتين أو أختين أو ذاتي قرابة يحتسب عليهما" والذي يقع في أكثر الروايات بلفظ الإحسان وفي رواية عبد المجيد فصبر عليهن، ومثله في حديث عقبة بن عامر في "الأدب المفرد" وكذا وقع في ابن ماجه وزاد: "وأطعمهن وسقاهن وكساهن" وفي حديث ابن عباس عند الطبراني فأنفق عليهن وزوجهن وأحسن أدبهن وفي حديث جابر عند أحمد وفي الأدب المفرد "يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن" زاد الطبري فيه: "ويزوجهن" وله نحوه من حديث أبي هريرة في "الأوسط" وللترمذي وفي "الأدب المفرد" من حديث أبي سعيد " فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن" وهذه الأوصاف يجمعها لفظ: "الإحسان" الذي اقتصر عليه في حديث الباب، وقد اختلف في المراد بالإحسان هل يقتصر به على قدر الواجب أو بما زاد عليه؟ والظاهر الثاني، فإن عائشة أعطت المرأة التمرة فآثرت بها ابنتيها فوصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان بما أشار إليه من الحكم المذكور، فدل على أن من فعل معروفا لم يكن واجبا عليه أو زاد على قدر الواجب عليه عد محسنا، والذي يقتصر على الواجب وإن كان يوصف بكونه محسنا لكن المراد من الوصف المذكور قدر زائد، وشرط الإحسان أن يوافق الشرع لا ما خالفه، والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل لفاعله إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهن عنه بزوج أو غيره كما أشير إليه في بعض ألفاظ الحديث، والإحسان إلى كل أحد بحسب حاله، وقد جاء أن الثواب المذكور يحصل لمن أحسن لواحدة فقط ففي حديث ابن عباس المتقدم "فقال رجل من الأعراب: أو اثنتين؟ فقال: أو اثنتين" وفي حديث عوف بن مالك عند الطبراني "فقالت امرأة" وفي حديث جابر "وقيل" وفي حديث أبي هريرة "قلنا" وهذا يدل على تعدد السائلين، وزاد في حديث جابر "فرأى بعض القوم أن لو قال وواحدة لقال وواحدة" وفي حديث أبي هريرة "قلنا: وثنتين؟ قال: وثنتين. قلنا: وواحدة؟ قال: وواحدة" وشاهده حديث ابن مسعود رفعه: " من كانت له ابنة فأدبها وأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأوسع عليها من نعمة الله التي أوسع عليه" أخرجه الطبراني بسند واه. قوله:

(10/428)


"كن له سترا من النار" كذا في أكثر الأحاديث التي أشرت إليها، ووقع في رواية عبد المجيد "حجابا" وهو بمعناه. وفي الحديث تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالبا عن القيام بمصالح أنفسهن، بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال. قال ابن بطال: وفيه جواز سؤال المحتاج، وسخاء عائشة لكونها لم تجد إلا تمرة فآثرت بها، وأن القليل لا يمتنع التصدق به لحقارته، بل ينبغي للمتصدق أن يتصدق بما تيسر له قل أو كثر. وفيه جواز ذكر المعروف إن لم يكن على وجه الفخر ولا المنة. وقال النووي تبعا لابن بطال: إنما سماه ابتلاء لأن الناس يكرهون البنات، فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك، ورغب في إبقائهن وترك قتلهن بما ذكر من الثواب الموعود به من أحسن إليهن وجاهد نفسه في الصبر عليهن. وقال شيخنا في "شرح الترمذي": يحتمل أن يكون معنى الابتلاء هنا الاختبار، أي من اختبر بشيء من البنات لينظر ما يفعل أيحسن إليهن أو يسيء، ولهذا قيده في حديث أبي سعيد بالتقوى، فإن من لا يتقي الله لا يأمن أن يتضجر بمن وكله الله إليه، أو يقصر عما أمر بفعله، أولا يقصد بفعله امتثال أمر الله وتحصيل ثوابه والله أعلم. قوله: "وأمامة بنت أبي العاص" أي ابن الربيع، وهي ابنة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فإذا ركع وضع" كذا للأكثر بحذف المفعول، وللكشميهني: "وضعها" وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الصلاة في أبواب سترة المصلي، ووقع هنا بلفظ: "ركع" وهناك بلفظ: "سجد" ولا منافاة بينهما بل يحمل على أنه كان يفعل ذلك في حال الركوع والسجود، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة، وهو رحمة الولد، وولد الولد ولد. ومن شفقته صلى الله عليه وسلم ورحمته لأمامة أنه كان إذا ركع أو سجد يخشى عليها أن تسقط فيضعها بالأرض وكأنها كانت لتعلقها به لا تصبر في الأرض فتجزع من مفارقته، فيحتاج أن يحملها إذا قام. واستنبط منه بعضهم عظم قدر رحمة الولد لأنه تعارض حينئذ المحافظة على المبالغة في الخشوع والمحافظة على مراعاة خاطر الولد فقدم الثاني، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لبيان الجواز. قوله: "أن أبا هريرة قال" كذا في رواية شعيب، ووقع عند مسلم من رواية سفيان بن عيينة ومعمر فرقهما كلاهما عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. قوله: "وعنده الأقرع بن حابس" الجملة حالية، وقد تقدم نسب الأقرع في تفسير سورة الحجرات، وهو من المؤلفة، وممن حسن إسلامه. قوله: "إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا" زاد الإسماعيلي في روايته: "ما قبلت إنسانا قط". قوله: "من لا يرحم لا يرحم" هو بالرفع فيهما على الخبر. وقال عياض: هو للأكثر. وقال أبو البقاء "من" موصولة ويجوز أن تكون شرطية فيقرأ بالجزم فيهما، قال السهيلي: جعله على الخبر أشبه بسياق الكلام، لأنه سيق للرد على من قال: "إن لي عشرة من الولد الخ" أي الذي يفعل هذا الفعل لا يرحم، ولو كانت شرطية لكان في الكلام بعض انقطاع لأن الشرط وجوابه كلام مستأنف. قلت: وهو أولى من جهة أخرى لأن يصير من نوع ضرب المثل، ورجح بعضهم كونها موصولة لكون الشرط إذا أعقبه نفي ينفى غالبا بلم، وهذا لا يقتضي ترجيحا إذا كان المقام لائقا بكونها شرطية. وأجاز بعض شراح "المشارق" الرفع في الجزءين والجزم فيهما والرفع في الأولى والجزم في الثاني وبالعكس فيحصل أربعة أوجه، واستبعد الثالث، ووجه بأنه يكون في الثاني بمعنى النهي أي لا ترحموا من لا يرحم الناس، وأما الرابع فظاهر وتقديره من لا يكن من أهل الرحمة فإنه لا يرحم، ومثله قول الشاعر:
فقلت له احمل فوق طوقك إنها ... مطوقة من يأتها لا يضيرها

(10/429)


وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأقرع إشارة إلى أن تقبيل الولد وغيره من الأهل المحارم وغيرهم من الأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة لا للذة والشهوة، وكذا الضم والشم والمعانقة. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة، ووقع في رواية الإسماعيلي: "عن هشام بن عروة عن أبيه". قوله: "جاء أعرابي" يحتمل أن يكون هو الأقرع المذكور في الذي قبله، ويحتمل أن يكون قيس بن عاصم التميمي ثم السعدي، فقد أخرج أبو الفرج الأصبهاني في "الأغاني" ما يشعر بذلك ولفظه: "عن أبي هريرة أن قيس بن عاصم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم" فذكر قصة فيها "فهل إلا أن تنزع الرحمة منك" فهذا أشبه بلفظ حديث عائشة. ووقع نحو ذلك لعيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري أخرجه أبو يعلى في مسنده بسند رجاله ثقات إلى أبي هريرة قال: "دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يقبل الحسن والحسين فقال: أتقبلهما يا رسول الله؟ إن لي عشرة فما قبلت أحدا منهم" ويحتمل أن يكون وقع ذلك لجميعهم فقد وقع في رواية مسلم: "قدم ناس من الأعراب فقالوا". قوله: "تقبلون الصبيان" كذا للأكثر بحذف أداة الاستفهام، وثبتت في رواية الكشميهني. قوله: "فما نقبلهم" وفي رواية الإسماعيلي: "فوالله ما نقبلهم" وعند مسلم: "فقال: نعم. قالوا: لكنا والله ما نقبل". قوله: "أو أملك" هو بفتح الواو والهمزة الأولى للاستفهام الإنكاري ومعناه النفي، أي لا أملك، أي لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه. ووقع عند مسلم بحذف الاستفهام وهي مرادة، وعند الإسماعيلي: "وما أملك" وله في أخرى "ما ذنبي إن كان الخ". قوله: "أن نزع" بفتح الهمزة في الروايات كلها مفعول أملك وحكى بعض شراح "المصابيح" كسر الهمزة على أنها شرط والجزاء محذوف، وهو من جنس ما تقدم، أي إن نزع الله الرحمة من قلبك لا أملك لك ردها إليه. ووقع في قصة عيينة "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم لا يرحم" . قوله: "حدثنا ابن أبي مريم" هو سعيد، ومدار هذا الحديث في الصحيحين عليه. وأبو غسان هو محمد بن مطرف، والإسناد منه فصاعدا مدنيون. قوله: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي" في رواية الكشميهني: "بسبي" وبضم قاف "قدم" وهذا السبي هو سبي هوازن. قوله: "فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي" كذا للمستملي والسرخسي بسكون المهملة من تحلب وضم اللام وثديها بالنصب وتسقي بفتح المثناة وبقاف مكسورة، وللباقين "قد تحلب" بفتح الحاء وتشديد اللام أي تهيأ لأن يحلب، وثديها بالرفع ففي رواية الكشميهني بالإفراد وللباقين "ثدياها" بالتثنية، وللكشميهني: "بسقي" بكسر الموحدة وفتح المهملة وسكون القاف وتنوين التحتانية وللباقين "تسعى" بفتح العين المهملة من السعي وهو المشي بسرعة. وفي رواية مسلم عن الحلواني وابن عسكر كلاهما عن ابن أبي مريم "تبتغي" بموحدة ساكنة ثم مثناة مفتوحة ثم غين معجمة من الابتغاء وهو الطلب، قال عياض: وهو وهم، والصواب ما في رواية البخاري. وتعقبه النووي بأن كلا من الروايتين صواب، فهي ساعية وطالبة لولدها. وقال القرطبي: لا خفاء بحسن رواية: "تسعى" ووضوحها، ولكن لرواية تبتغي وجها وهو تطلب ولدها، وحذف المفعول للعلم به، فلا يغلط الراوي مع هذا التوجيه. قوله: "إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها" كذا للجميع ولمسلم، وحذف منه شيء بينته رواية الإسماعيلي ولفظه: "إذا وجدت صبيا أخذته فأرضعته فوجدت صبيا فأخذته فألزمته بطنها" وعرف من سياقه أنها كانت فقدت صبيها وتضررت باجتماع اللبن في ثديها، فكانت إذا وجدت صبيا أرضعته ليخف عنها، فلما وجدت صبيها بعينه أخذته فالتزمته. ولم أقف على اسم هذا الصبي ولا على اسم أمه. قوله: "أترون؟"

(10/430)


بضم المثناة أي أتظنون؟ قوله: "قلنا لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه" أي لا تطرحه طائعة أبدا. وفي رواية الإسماعيلي: "فقلنا لا والله الخ". قوله: "لله" بفتح أوله لام تأكيد، وصرح بالقسم في رواية الإسماعيلي فقال: "والله لله أرحم الخ". قوله: "بعباده" كأن المراد بالعباد هنا من مات على الإسلام، ويؤيده ما أخرجه أحمد والحاكم من حديث أنس قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبي على الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني، وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال: ولا الله بطارح حبيبه في النار" فالتعبير بحبيبه يخرج الكافر. وكذا من شاء إدخاله ممن لم يتب من مرتكبي الكبائر. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لفظ العبد علم ومعناه خاص بالمؤمنين، وهو كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فهي عامة من جهة الصلاحية وخاصة بمن كتبت له قال: ويحتمل أن يكون المراد أن رحمة الله لا يشبهها شيء لمن سبق له منها نصيب من أي العباد كان حتى الحيوانات. وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله وحده، وأن كل من فرض أن فيه رحمة ما حتى يقصد لأجلها فالله سبحانه وتعالى أرحم منه، فليقصد العاقل لجاجته من هو أشد له رحمة، قال: وفي الحديث جواز نطر النساء المسبيات، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن النظر إلى المرأة المذكورة، بل في سياق الحديث ما يقتضي إذنه في النظر إليها. وفيه ضرب المثل بما يدرك بالحواس لما لا يدرك بها لتحصيل معرفة الشيء على وجهه، وإن كان الذي ضرب به المثل لا يحاط بحقيقته لأن رحمة الله لا تدرك بالعقل، ومع ذلك فقربها النبي صلى الله عليه وسلم للسامعين بحال المرأة المذكورة. وفيه جواز ارتكاب أخف الضررين، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه المرأة عن إرضاع للأطفال الذين أرضعتهم مع احتمال أن يكبر بعضهم فيتزوج بعض من أرضعته المرأة معه، لكن لما كانت حالة الإرضاع ناجزة، وما يخشى من المحرمية متوهم اغتفر. قلت: ولفظ الصبي بالتذكير في الخبر ينازع في ذلك، قال: وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وقد يستدل به على عكس ذلك، فأما الأول فمن جهة أن الأطفال لولا أنهم كان بهم ضرورة إلى الإرضاع قي تلك الحالة ما تركها النبي صلى الله عليه وسلم ترضع أحدا منهم، وأما الثاني وهو أقوى فلأنه أقرها على إرضاعهم من قبل أن تتبين الضرورة ا هـ ملخصا، ولا يخفي ما فيه.

(10/431)


باب جعل الله الرحمة في مائة جزء
...
19 - باب جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ
6000- حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ الْبَهْرَانِيُّ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءاً وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ" .
[الحديث 6000 – طرفه في: 6469]
قوله: "باب" بالتنوين "جعل الله الرحمة في مائة جزء" هكذا ترجم ببعض الحديث. وفي رواية النسفي "باب من الرحمة" وللإسماعيلي: "باب" بغير ترجمة. قوله: "البهراني" بفتح الموحدة وسكون الهاء نسبة إلى قبيلة من قضاعة

(10/431)


ينتهي نسبهم إلى بهر ابن عمرو بن الحاف بن قضاعة، نزل أكثرهم حمص في الإسلام. قوله: " جعل الله الرحمة في مائة جزء" قال الكرماني كان المعنى يتم بدون الظرف فلعل "في" زائدة أو متعلقة بمحذوف، وفيه نوع مبالغة إذ جعلها مظروفا لها معنى بحيث لا يفوت منها شيء. وقال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون سبحانه وتعالى لما من على خلقه بالرحمة جعلها في مائة وعاء فأهبط منها واحدا للأرض. قلت: خلت أكثر الطرق عن الظرف كرواية سعيد المقبري عن أبي هريرة الآتية في الرقاق "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة" ولمسلم من رواية عطاء عن أبي هريرة "إن لله مائة رحمة" وله من حديث سلمان " إن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات والأرض، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض" وقال القرطبي: يجوز أن يكون معنى "خلق" اخترع وأوجد، ويجوز أن يكون بمعنى قدر، وقد ورد خلق بمعنى قدر في لغة العرب فيكون المعنى أن الله أظهر تقديره لذلك يوم أظهر تقدير السماوات والأرض. وقوله: "كل رحمة تسع طباق الأرض" المراد بها التعظيم والتكثير، وقد ورد التعظيم بهذا اللفظ في اللغة والشرع كثيرا. قوله: "فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا" في رواية عطاء "وأخر عنده تسعة وتسعين رحمة" وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم: "وخبأ عنده مائة إلا واحدة". قوله: "وأنزل في الأرض جزءا واحدا" في رواية المقبري "وأرسل في خلقه كلهم رحمة" وفي رواية عطاء "أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والأنس والبهائم" وفي حديث سلمان "فجعل منها في الأرض واحدة" قال القرطبي هذا نص في أن الرحمة يراد بها متعلق الإرادة لا نفس الإرادة، وأنها راجعة إلى المنافع والنعم. قوله: "فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" في رواية عطاء "فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها" وفي حديث سلمان " فيها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض" قال ابن أبي جمرة: خص الفرس بالذكر لأنها أشد الحيوان المألوف الذي يعاين المخاطبون حركته مع ولده، ولما في الفرس من الخفة والسرعة في التنقل. ومع ذلك تتجنب أن يصل الضرر منها إلى ولدها. ووقع في حديث سلمان عند مسلم في آخره من الزيادة "فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة مائة" وفيه إشارة إلى أن الرحمة التي في الدنيا بين الخلق تكون فيهم يوم القيامة يتراحمون بها أيضا، وصرح بذلك المهلب فقال: الرحمة التي خلقها الله لعباده وجعلها في نفوسهم في الدنيا هي التي يتغافرون بها يوم القيامة التبعات بينهم. قال: ويجوز أن يستعمل الله تلك الرحمة فيهم فيرحمهم بها سوى رحمته التي وسعت كل شيء وهي التي من صفة ذاته ولم يزل موصوفا بها، فهي التي يرحمهم بها زائدا على الرحمة التي خلقها لهم، قال: ويجوز أن تكون الرحمة التي أمسكها عند نفسه هي التي عند ملائكته المستغفرين لمن في الأرض، لأن استغفارهم لهم دال على أن في نفوسهم الرحمة لأهل الأرض. قلت: وحاصل كلامه أن الرحمة رحمتان، رحمة من صفة الذات وهي لا تتعدد، ورحمة من صفة الفعل وهي المشار إليها هنا. ولكن ليس في شيء من طرق الحديث أن التي عند الله رحمة واحدة بل اتفقت جميع الطرق على أن عنده تسعة وتسعين رحمة، وزاد في حديث سلمان أنه يكملها يوم القيامة مائة بالرحمة التي في الدنيا، فتعدد الرحمة بالنسبة للخلق. وقال القرطبي: مقتضى هذا الحديث أن الله علم إن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع، فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد انتظمت به مصالحهم وحصلت به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي فبلغت مائة وكلها للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} فإن رحيما

(10/432)


من أبنية المبالغة التي لا شيء فوقها، ويفهم من هذا أن الكفار لا يبقى لهم حظ من الرحمة لا من جنس رحمات الدنيا ولا من غيرها إذا كمل كل ما كان في علم الله من الرحمات للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الآية. وقال الكرماني: الرحمة هنا عبارة عن القدرة المتعلقة بإيصال الخير، والقدرة في نفسها غير متناهية، والتعليق غير متناه، لكن حصره في مائة على سبيل التمثيل تسهيلا للفهم وتقليلا لما عند الخلق وتكثيرا لما عند الله سبحانه وتعالى، وأما مناسبة هذا العدد الخاص فحكى القرطبي عن بعض الشراح أن هذا العدد الخاص أطلق لإرادة التكثير والمبالغة فيه، وتعقبه بأنه لم تجر عادة العرب بذلك في المائة وإنما جرى في السبعين، كذا قال. وقال ابن أبي جمرة: ثبت أن نار الآخرة تفضل نار الدنيا بتسع وستين جزءا فإذا قوبل كل جزء برحمة زادت الرحمات ثلاثين جزءا، فيؤخذ منه أن الرحمة في الآخرة أكثر من النقمة فيها. ويؤيده قوله: "غلبت رحمتي غضبي" . قلت: لكن تبقى مناسبة خصوص هذا العدد، فيحتمل أن تكون مناسبة هذا العدد الخاص لكونه مثل عدد درج الجنة، والجنة هي محل الرحمة، فكان كل رحمة بإزاء درجة، وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى، فمن نالته منها رحمة واحدة كان أدنى أهل الجنة منزلة، وأعلاهم منزلة من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة. وقال ابن أبي جمرة: في الحديث إدخال السرور على المؤمنين، لأن العادة أن النفس يكمل فرحها بما وهب لها إذا كان معلوما مما يكون موعودا. وفيه الحث على الإيمان، واتساع الرجاء في رحمات الله تعالى المدخرة. قلت: وقد وقع في آخر حديث سعيد المقبري في الرقاق "فلو يعلم الكافر بكل ما عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة" وأفرده مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى.

(10/433)


20 - باب قَتْلِ الْوَلَدِ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ
6001- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ" وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الْآيَةَ".
قوله: "باب قتل الولد خشية أن يأكل معه" تقدير الكلام: قتل المرء ولده الخ فالضمير يعود للمقدر في قوله قتل الولد. ووقع لأبي ذر عن المستملي والكشميهني: "باب أي الذنب أعظم" وعند النسفي "باب من الرحمة". حديث ابن مسعود "أي الذنب أعظم" الحديث، سيأتي شرحه مستوفى في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(10/433)


21 - باب وَضْعِ الصَّبِيِّ فِي الْحِجْرِ
6002- حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام قال أخبرني أبي عن عائشة "أن النبي

(10/433)


22 - باب وَضْعِ الصَّبِيِّ عَلَى الْفَخِذِ
6003- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَارِمٌ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ يُحَدِّثُهُ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا" وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ التَّيْمِيُّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مِنْهُ شَيْءٌ قُلْتُ حَدَّثْتُ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي عُثْمَانَ فَنَظَرْتُ فَوَجَدْتُهُ عِنْدِي مَكْتُوباً فِيمَا سَمِعْتُ".
قوله: "باب وضع الصبي على الفخذ" هذه الترجمة أخص من التي قبلها، وذكر فيه حديث أسامة بن زيد. قوله: "عن أبيه" هو سليمان بن طرخان التيمي، وأبو تميمة هو طريف؛ بمهملة بوزن عظيم ابن مجالد بالجيم الهجيمي بالجيم مصغر. قوله: "فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر" استشكله الداودي فيما نقله ابن التين فقال: لا أدري ذلك وقع في وقت واحد لأن أسامة أكبر من الحسن، ثم أخذ يستدل على ذلك، والأمر فيه أوضح من أن يحتاج إلى دليل فإن أكثر ما قيل في عمر الحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين وأما أسامة فكان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، وقد أمره على الجيش الذي اشتمل على عدد كثير من كبار المسلمين كعمر كما تقدم بيانه في ترجمته في المناقب، وصرح جماعة بأنه كان عند موت النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وذكر الواقدي في المغازي عن محمد بن الحسن بن أسامة عن أهله قالوا: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسامة ابن تسع عشرة سنة" فيحتمل أن يكون ذلك وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة مراهق والحسن ابن سنتين مثلا ويكون إقعاده أسامة في حجره لسبب اقتضى ذلك كمرض مثلا أصاب أسامة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لمحبته فيه ومعزته عنده يمرضه بنفسه، فيحتمل أن يكون أقعده في تلك الحالة، وجاء الحسن ابن ابنته فأقعده على الفخذ الأخرى وقال معتذرا عن ذلك "إني أحبهما " والله أعلم. قوله: "وعن علي قال حدثنا يحيى حدثنا سليمان" أما علي فهو علي بن عبد الله المديني، وأما يحيى فهو ابن سعيد القطان، وأما سليمان فهو التيمي المذكور قبل، ثم هو معطوف على السند الذي قبله وهو قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" فيكون من رواية البخاري عن علي، ولكنه عبر عنه بصيغة عن فقال: "حدثنا عبد الله بن محمد الخ وعن علي الخ" ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله: "حدثنا عارم" فيكون من رواية البخاري عن شيخه بواسطة قرينه عبد الله بن محمد، ولا يستغرب ذلك من رواية الأقران ولا من البخاري فقد حدث بالكثير عن كثير من شيوخه ويدخل أحيانا بينهم الواسطة، وقد حدث عن عارم بالكثير بغير واسطة منها ما سيأتي قريبا من "باب قول النبي

(10/434)


صلى الله عليه وسلم يسروا ولا تعسروا" وأدخل هنا بينه وبين عبد الله بن محمد الجعفي، ووقع في بعض النسخ في آخر هذا الحديث: "قيل لأبي عبد الله: من يقول عن علي؟ فقال: حدثنا عبد الله بن محمد" انتهى فإن كان محفوظا صح الاحتمال الأخير وبالله التوفيق. قوله: "قال التيمي" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "فوقع في قلبي منه شيء" يعني شك هل سمعه من أبي تميمة عن أبي عثمان أو سمعه من أبي عثمان بغير واسطة، وفي السند على الأول ثلاثة بصريون من التابعين في نسق من سليمان التيمي فصاعدا، وليس لأبي تميمة في البخاري إلا هذا الحديث وآخر سيأتي في كتاب الأحكام من روايته عن جندب البجلي. قوله: "فوجدته عندي مكتوبا فيما سمعت" أي من أبي عثمان، فكأنه سمعه من أبي تميمة عن أبي عثمان ثم لقي أبا عثمان فسمعه منه أو كان سمعه من أبي عثمان فثبته فيه أبو تميمة، وانتزع منه بعضهم جواز الاعتماد في تحديثهم على خطه ولو لم يتذكر السماع، ولا حجة فيه لاحتمال التذكر في هذه الحالة، وقد ذكر ابن الصلاح المسألة ونقل الخلاف فيها، والراجح في الرواية الاعتماد.

(10/435)


23 - باب حُسْنُ الْعَهْدِ مِنْ الإِيمَانِ
6004- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ - وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي بِثَلاَثِ سِنِينَ - لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِي فِي خُلَّتِهَا مِنْهَا".
قوله: "باب حسن العهد من الإيمان" قال أبو عبيد: العهد هنا رعاية الحرمة. وقال عياض: هو الاحتفاظ بالشيء والملازمة له. وقال الراغب: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال. وعهد الله تارة يكون بما ركزه في العقل وتارة بما جاءت به الرسل، وتارة بما يلتزمه المكلف ابتداء كالنذر، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} وأما لفظ: "العهد" فيطلق بالاشتراك بإزاء معان أخرى، منها الزمان والمكان واليمين والذمة والصحة والميثاق والإيمان والنصيحة والوصية والمطر ويقال له العهاد أيضا. قوله: "عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة" قد تقدم شرحه في ترجمة خديجة من كتاب المناقب. وقوله: "على خديجة" يريد من خديجة فأقام "على" مقام "من" وحروف الجر تتناوب في رأي. أو "على" سببية أي بسبب خديجة. وقوله فيه: "ولقد أمره ربه الخ" تقدم شرحه هناك أيضا، ولكن أورده هناك من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وقوله فيه: "وإن كان ليذبح الشاة ثم ليهدي في خلتها منها" أي من الشاة المذبوحة، وزاد في رواية الليث عن هشام في فضل خديجة ما يسعهن، وقد تقدم هناك بيان الاختلاف في ضبط هذه اللفظة، وإن مخففة من الثقيلة، وخلتها بضم المعجمة أي خلائلها. وقال الخطابي: الخلة مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجماعة، تقول: رجل خلة وامرأة خلة وقوم خلة، ويحتمل أن يكون فيه محذوف تقديره: إلى أهل خلتها، أي أهل صداقتها، والخلة الصداقة والخليل الصديق. قلت: وقع في رواية مسلم من هذا الوجه بلفظ: "ثم نهديها إلى خلائلها" وسبق في المناقب من وجه آخر عن هشام بن عروة "وإلى أصدقائها" وللبخاري في "الأدب المفرد" من حديث أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي

(10/435)


بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة".
" تنبيه ": جرى البخاري على عادته في الاكتفاء بالإشارة دون التصريح، فإن لفظ الترجمة قد ورد في حديث يتعلق بخديجة رضي الله عنها أخرجه الحاكم والبيهقي في "الشعب" من طريق صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: "جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان" وأخرجه البيهقي أيضا من طريق مسلم بن جنادة عن حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مثله بمعنى القصة وقال: غريب. ومن طريق أبي سلمة عن عائشة نحوه وإسناده ضعيف.

(10/436)


باب فضب من يعول يتيما
...
24 - باب فَضْلِ مَنْ يَعُولُ يَتِيماً
6005- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى" .
قوله: "باب فضل من يعول يتيما" أي يربيه وينفق عليه. قوله: "عبد العزيز بن أبي حازم" أي سلمة بن دينار. قوله: "أنا وكافل اليتيم" أي القيم بأمره ومصالحه، زاد مالك من مرسل صفوان بن سليم "كافل اليتيم له أو لغيره" ووصله البخاري في "الأدب المفرد" والطبراني من رواية أم سعيد بنت مرة الفهرية عن أبيها، ومعنى قوله له بأن يكون جدا أو عما أو أخا أو نحو ذلك من الأقارب، أو يكون أبو المولود قد مات فتقوم أمه مقامه أو ماتت أمه فقام أبوه في التربية مقامها. وأخرج البزار من حديث أبي هريرة موصولا "من كفل يتيما ذا قرابة أو لا قرابة له " وهذه الرواية تفسر المراد بالرواية التي قبلها. قوله: "وأشار بإصبعيه السبابة" في رواية الكشميهني: "السباحة" بمهملة بدل الموحدة الثانية، والسباحة هي الأصبع التي تلي الإبهام سميت بذلك لأنها يسبح بها في الصلاة فيشار بها في التشهد لذلك، وهي السبابة أيضا لأنها يسب بها الشيطان حينئذ. قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك. قلت: قد تقدم الحديث في كتاب اللعان وفيه: "وفرج بينهما" أي بين السبابة والوسطى، وفيه إشارة إلى أن بين درجة النبي صلى الله عليه وسلم وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة والوسطى، وهو نظير الحديث الآخر "بعثت أنا والساعة كهاتين " الحديث، وزعم بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك استوت إصبعاه في تلك الساعة ثم عادتا إلى حالهما الطبيعية الأصلية تأكيدا لأمر كفالة اليتيم. قلت: ومثل هذا لا يثبت بالاحتمال، ويكفي في إثبات قرب المنزلة من المنزلة أنه ليس بين الوسطى والسبابة إصبع أخرى، وقد وقع في رواية لأم سعيد المذكورة عند الطبراني " معي في الجنة كهاتين" يعني المسبحة والوسطى "إذا اتقى" ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حالة دخول الجنة، لما أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة رفعه: "أنا أول من يفتح باب الجنة فإذا امرأة تبادرني فأقول: من أنت فتقول: أنا امرأة تأيمت على أيتام لي" ورواته لا بأس بهم، وقوله: "تبادرني" أي لتدخل معي أو تدخل في أثري، ويحتمل أن يكون المراد بمجموع الأمرين: سرعة الدخول، وعلو المنزلة. وقد أخرج أبو داود من حديث عوف بن مالك رفعه: "أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة: امرأة ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى ماتوا أو بانوا" فهذا

(10/436)


فيه قيد زائد وتقييد في الرواية التي أشرت إليها بقوله: "اتقي الله" أي فيما يتعلق باليتيم المذكور. وقد أخرج الطبراني في "المعجم الصغير" من حديث جابر "قلت يا رسول الله مم أضرب منه يتيمي؟ قال: مم كنت ضاربا منه ولدك غير واق مالك بماله" وقد زاد في رواية مالك المذكور "حتى يستغني عنه" فيستفاد منه أن للكفالة المذكورة أمدا. قال شيخنا في "شرح الترمذي" لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي أو منزلة النبي لكون النبي شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومعلما ومرشدا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه، ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه، فظهرت مناسبة ذلك اهـ ملخصا.

(10/437)


25 - باب السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ
6006- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ" .
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... مِثْلَهُ.
قوله: "باب الساعي على الأرملة" أي في مصالحها. ذكر فيه حديث أبي هريرة ذكره موصولا وحديث صفوان بن سليم مرسلا كلاهما من رواية مالك، وقد تقدم شرحه في كتاب النفقات.

(10/437)


26 - باب السَّاعِي عَلَى الْمِسْكِينِ
6007- حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وأحسبه قال كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر" .
قوله: "باب الساعي على المسكين" ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور قبله مقتصرا عليه دون المرسل، ووقع في هذه الرواية: "كالمجاهد في سبيل الله" وأحسبه قال يشك القعنبي وهو رواية عن مالك "كالقائم لا يفتر" ولفظ الرواية التي قبلها لإسماعيل بن أبي أويس عن مالك "كالمجاهد أو كالذي يصوم" الحديث، وقد تقدم بيان ذلك واضحا في كتاب النفقات.

(10/437)


27 - باب رَحْمَةِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ
6008- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا وَسَأَلَنَا عَمَّنْ

(10/437)


28- باب الْوَصَاةِ بِالْجَارِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إِلَى قَوْلِهِ {مُخْتَالاً فَخُوراً}

(10/440)


6014- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ" .
6015- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ" .
قوله: "باب الوصاة بالجار" بفتح الواو وتخفيف الصاد المهملة مع المد لغة في الوصية، وكذا الوصاية بإبدال الهمزة ياء وهما بمعنى، لكن الأول من أوصيت والثاني من وصيت.
" تنبيه ": وقع في شرح شيخنا ابن الملقن هنا بسملة وبعدها كتاب البر والصلة ولم أر ذلك في شيء من الروايات التي اتصلت لنا، ويؤيد ما عندنا أن أحاديث صلة الرحم تقدمت وأحاديث بر الوالدين قبلها والوصية بالجار وما يتعلق بها ذكرت هنا وتلاها باقي أبواب الأدب وقوله هنا بعد الباب: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} يؤيد ذلك لأنه بوب على ترتيب ما في هذه الآية، فبدأ ببر الوالدين وثني بذي القربى وثلث بالجار وربع بالصاحب. ولم يقع ذلك أيضا في مستخرج الإسماعيلي ولا أبي نعيم. قوله: "وقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية" كذا لأبي ذر وللباقين بعد قوله: {إِحْسَاناً} إلى قوله: {مُخْتَالاً فَخُوراً} وللنسفي وقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية، والمراد من هذه الآية هنا قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} وثبت للنسفي البسملة قبل الباب وكأنه للانتقال إلى نوع غير الذي قبله، ورأيت في شرح شيخنا سراج الدين بن الملقن كتاب البر والصلة ولم أره لغيره، والجار القريب من بينهما قرابة والجار الجنب بخلافه وهذا قول الأكثر، وأخرجه الطبري بسند حسن عن ابن عباس، وقيل الجار القريب المسلم والجار الجنب غيره وأخرجه أيضا الطبري عن نوف البكالي أحد التابعين، وقيل: الجار القريب المرأة والجنب الرفيق في السفر. ثم ذكر فيه حديثين: الحديث الأول: حديث عائشة. قوله: "أبو بكر بن محمد" أي ابن عمرو بن حزم، وعمرة هي أمه، والسند كله كوفيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق، وقد سمع يحيى بن سعيد وهو الأنصاري من عمرة كثيرا وربما دخل بينهما واسطة مثل هذا، وروايته عن أبي بكر المذكور من الأقران. قوله: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" أي يأمر عن الله بتوريث الجار من جاره. واختلف في المراد بهذا التوريث فقيل: يجعل له مشاركة في المال بفرض سهم يعطاه مع الأقارب، وقيل: المراد أن ينزل منزلة من يرث بالبر والصلة، والأول أظهر فإن الثاني استمر، والخبر مشعر بأن التوريث لم يقع. ويؤيده ما أخرجه البخاري من حديث جابر نحو حديث الباب بلفظ: "حتى ظننت أنه يجعل له ميراثا" وقال ابن أبي جمرة: الميراث على قسمين حسي ومعنوي، فالحسي هو المراد هنا، والمعنوي ميراث العلم، ويمكن أن يلحظ هنا أيضا فإن حق الجار على الجار أن يعلمه ما يحتاج إليه والله أعلم. واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب دارا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد، وعكسه

(10/441)


من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك، فيعطي كل حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوي، وقد حمله عبد الله بن عمرو أحد من روى الحديث على العموم، فأمر لما ذبحت له شاة أن يهدى منها لجاره اليهودي، أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وحسنه، وقد وردت الإشارة إلى ما ذكرته في حديث مرفوع أخرجه الطبراني من حديث جابر رفعه: "الجيران ثلاثة: جار له حق وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق مسلم له رحم له حق الجوار والإسلام والرحم" قال القرطبي: الجار يطلق ويراد به الداخل في الجوار، ويطلق ويراد به المجاور في الدار وهو الأغلب، والذي يظهر أنه المراد به في الحديث الثاني لأن الأول كان يرث ويورث، فإن كان هذا الخبر صدر قبل نسخ التوريث بين المتعاقدين فقد كان ثابتا فكيف يترجى وقوعه؟ وإن كان بعد النسخ فكيف يظن رجوعه بعد رفعه؟ فتعين أن المراد به المجاور في الدار. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة كالهدية، والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك. وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية. وقد نفى صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يأمن جاره بوائقه كما في الحديث الذي يليه، وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار وأن إضراره من الكبائر. قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح. والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه ويبين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضا ويستر عليه زلله عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فبه وإلا فيهجره قاصدا تأديبه على ذلك مع إعلامه بالسبب ليكف، وسيأتي القول في حد الجار في "باب حق الجوار" قريبا انتهى ملخصا. قوله: "عمر بن محمد" أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وذكر لفظه مثل لفظ حديث عائشة، وقد روي هذا المتن أيضا أبو هريرة وهو في صحيح ابن حبان، وعبد الله بن عمرو بن العاص وهو عند أبي داود والترمذي، وأبو أمامة وهو عند الطبراني. ووقع عنده في حديث عبد الله بن عمرو أن ذلك كان في حجة الوداع، وله في لفظ: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" فأفاد أنه وقع لعبد الله بن عمرو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نظير ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل ولأحمد من حديث رجل من الأنصار "خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به قائم ورجل مقبل عليه، فجلست حتى جعلت أرثي له من طول القيام، فذكرت له ذلك فقال: "أتدري من هذا؟ قلت لا. قال: هذا جبريل" فذكر مثل حديث ابن عمر سواء. وأخرج عبد بن حميد نحوه من حديث جابر فأفاد سبب الحديث، ولم أر في شيء من طرقه بيان لفظ وصية جبريل، إلا أن الحديث يشعر بأنه بالغ في تأكيد حق الجار. وقال ابن أبي جمرة: يستفاد من الحديث أن من أكثر من شيء من أعمال البر يرجى له الانتقال إلى ما هو أعلى منه، وأن الظن إذا كان في طريق الخير جاز ولو لم يقع المظنون، بخلافه ما إذا كان في طريق الشر. وفيه جواز الطمع في الفضل إذا توالت النعم. وفيه جواز التحدث بما يقع في النفس من أمور الخير. والله أعلم.

(10/442)


29 - باب إِثْمِ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ. يُوبِقْهُنَّ: يُهْلِكْهُنَّ. مَوْبِقاً: مَهْلِكاً
6016- حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ" . تَابَعَهُ شَبَابَةُ وَأَسَدُ بْنُ مُوسَى وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ الأَسْوَدِ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قوله: "باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه" البوائق بالموحدة والقاف جمع بائقة وهي الداهية والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يوافي بغتة. قوله: "يوبقهن يهلكهن، موبقا مهلكا" هما أثران قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} قال: يهلكهن. وقال في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} أي متوعدا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} أي مهلكا. قوله: "عن سعيد" هو المقبري، ووقع منسوبا غير مسمى عند الإسماعيلي عن محمد بن يحيى بن سليمان عن عاصم بن علي شيخ البخاري فيه، وأخرجه أبو نعيم من طريق عمر بن حفص ومن طريق إبراهيم الحربي كلاهما عن عاصم بن علي مسمى منسوبا قال: "عن سعيد المقبري". قوله: "عن أبي شريح" هو الخزاعي، ووقع كذلك عند أبي نعيم واسمه على المشهور خويلد وقيل عمرو وقيل: هانئ وقيل: كعب. قوله: "والله لا يؤمن" وقع تكريرها ثلاثا صريحا، ووقع عند أحمد "والله لا يؤمن ثلاثا" وكأنه اختصار من الراوي، ولأبي يعلى من حديث أنس "ما هو بمؤمن" وللطبراني من حديث كعب بن مالك "لا يدخل الجنة" ولأحمد نحوه عن أنس بسند صحيح. قوله: "قيل: يا رسول الله ومن؟" هذه الواو يحتمل أن تكون زائدة أو استئنافية أو عاطفة على شيء مقدر أي عرفنا ما المراد مثلا ومن المحدث عنه، ووقع لأحمد من حديث ابن مسعود أنه السائل عن ذلك، وذكره المنذري في ترغيبه بلفظ: "قالوا يا رسول الله لقد خاب وخسر من هو" وعزاه للبخاري وحده، وما رأيته فيه بهذه الزيادة ولا ذكرها الحميدي في الجمع. قوله: "قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه" في حديث أنس "من لم يأمن" وفي حديث كعب "من خاف" زاد أحمد والإسماعيلي: "قالوا: وما بوائقه؟ قال: شره" وعند المنذري هذه الزيادة للبخاري ولم أرها فيه.
" تنبيه ": في المتن جناس بليغ وهو من جناس التحريف، وهو قوله: "لا يؤمن ولا يأمن" فالأول من الإيمان والثاني من الأمان. قوله: "تابعه شبابة وأسد بن موسى" يعني عن ابن أبي ذئب في ذكر أبي شريح، فأما رواية شبابة وهو ابن سوار المدايني فأخرجها الإسماعيلي، وأما رواية أسد بن موسى وهو الأموي المعروف بأسد السنة فأخرجها الطبراني في "مكارم الأخلاق". قوله: "وقال حميد بن الأسود وعثمان بن عمر وأبو بكر بن عياش وشعيب بن إسحاق عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة" يعني اختلف أصحاب ابن أبي ذئب عليه في صحابي هذا الحديث فالثلاثة الأول قالوا فيه عن أبي شريح، والأربعة قالوا عن أبي هريرة. وقد نقل أبو معين الرازي عن أحمد أن من سمع من ابن أبي ذئب بالمدينة فإنه يقول عن أبي هريرة، ومن سمع منه ببغداد فإنه يقول عن أبي شريح قلت: ومصداق ذلك أن ابن وهب وعبد العزيز الدراوردي وأبا عمرو العقدي وإسماعيل بن أبي أويس وابن

(10/443)


أبي فديك ومعن بن عيسى إنما سمعوا من ابن أبي ذئب بالمدينة وقد قالوا كلهم فيه: "عن أبي هريرة" وقد أخرجه الحاكم من رواية ابن وهب ومن رواية إسماعيل ومن رواية الدراوردي، وأخرجه الإسماعيلي من رواية معن والعقدي وابن أبي فديك وأما حميد بن الأسود وأبو بكر بن عياش اللذان علقه البخاري من طريقهما فهما كوفيان وسماعهما من ابن أبي ذئب أيضا بالمدينة لما حجا، وأما عثمان بن عمر فهو بصري وقد أخرج أحمد الحديث عنه كذلك، وأما رواية شعيب بن إسحاق فهو شامي وسماعه من ابن أبي ذئب أيضا بالمدينة، وقد أخرجه أحمد أيضا عن إسماعيل بن عمر فقال: "عن أبي هريرة" وإسماعيل واسطي. وممن سمعه ببغداد من ابن أبي ذئب يزيد بن هارون وأبو داود الطيالسي وحجاج بن محمد وروح بن عبادة وآدم بن أبي إياس وقد قالوا كلهم "عن أبي شريح" وهو في مسند الطيالسي كذلك، وعند الإسماعيلي من رواية يزيد، وعند الطبراني من رواية آدم، وعند أحمد من رواية حجاج وروح بن عبادة، ويزيد واسطي سكن بغداد، وأبو داود وروح بصريان وحجاج بن محمد مصيصي، وآدم عسقلاني، وكانوا كلهم يقدمون بغداد ويطلبون بها الحديث، وإذا تقرر ذلك فالأكثر قالوا فيه: "عن أبي هريرة" فكان ينبغي ترجيحهم. ويؤيده أن الراوي إذا حدث في بلده كان أتقن لما يحدثه به في حال سفره، ولكن عارض ذلك أن سعيدا المقبري مشهور بالرواية عن أبي هريرة فمن قال عنه: "عن أبي هريرة" سلك الجادة، فكانت مع من قال عنه: "عن أبي شريح" زيادة علم ليست عند الآخرين، وأيضا فقد وجد معنى الحديث من رواية الليث عن سعيد المقبري عن أبي شريح كما سيأتي بعد باب، فكانت فيه تقوية لمن رآه عن ابن أبي ذئب فقال فيه: "عن أبي شريح" ومع ذلك فصنيع البخاري يقتضي تصحيح الوجهين، وإن كانت الرواية عند أبي شريح أصح. وقد أخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة ذاهلا عن الذي أورده البخاري بل وعن تخريج مسلم له من وجه آخر عن أبي هريرة فقال بعد تخريجه: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ وإنما أخرجاه من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" وتعقبه شيخنا في أماليه بأنهما لم يخرجا طريق أبي الزناد ولا واحد منهما. وإنما أخرج مسلم طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة باللفظ الذي ذكره الحاكم. قلت: وعلى الحاكم تعقب آخر وهو أن مثل هذا لا يستدرك لقرب اللفظين في المعنى، قال ابن بطال: في هذا الحديث تأكيد حق الجار لقسمه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتكريره اليمين ثلاث مرات، وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل ومراده الإيمان الكامل، ولا شك أن العاصي غير كامل الإيمان. وقال النووي عن نفي الإيمان في مثل هذا جوابان: أحدهما: أنه في حق المستحل، والثاني: أن معناه ليس مؤمنا كاملا اهـ. ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يجازي مجازاة المؤمن بدخول الجنة من أول وهلة مثلا، أو أن هذا خرج مخرج الزجر والتغليظ، وظاهره غير مراد، والله أعلم. وقال ابن أبي جمرة: إذا أكد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه وأمر بحفظه وإيصال الخير إليه وكف أسباب الضرر عنه فينبغي له أن يراعي حق الحافظين اللذين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات، فقد جاء أنهما يسران بوقوع الحسنات ويحزنان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات والمواظبة على اجتناب المعصية، فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران اهـ ملخصا.

(10/444)


30 - باب لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا
6017- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ" .
قوله: "باب لا تحقرن جارة لجارتها" كذا حذف المفعول اكتفاء بشهرة الحديث. وأورد فيه حديث أبي هريرة في ذلك، واتفق أن هذا الحديث ورد من طريق سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة والحديث قبله من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة ليس بينهما واسطة، وكل من الطريقين صحيح لأن سعيدا أدرك أبا هريرة وسمع منه أحاديث وسمع من أبيه عن أبي هريرة أشياء كان يحدث بها تارة عن أبي هريرة بلا واسطة، وقد ذكر البخاري بعضها وبين الاختلاف على سعيد فيها، وهي محمولة على أنه سمعها من أبي هريرة واستثبت أباه فيها، فكان يحدث بها تارة عن أبيه عن أبي هريرة وتارة عنه بلا واسطة، ولم يكن مدلسا، وإلا لحدث بالجميع عن أبي هريرة والله أعلم. وبقية المتن " ولو فرسن شاة " بكسر الفاء وسكون الراء وكسر المهملة ثم نون: حافر الشاة. وقد تقدم شرحه مستوفى في "كتاب الهبة" والكلام على إعراب يا نساء المسلمات، وحاصله أن فيه اختصارا. لأن المخاطبين يعرفون المراد منه، أي لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئا ولو أنها تهدي لها ما لا ينتفع به في الغالب، ويحتمل أن يكون من باب النهي عن الشيء أمر بضده، وهو كناية عن التحابب والتوادد، فكأنه قال: لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير، وخص النهي بالنساء لأنهن موارد المودة والبغضاء، ولأنهن أسرع انفعالا في كل منهما. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون النهي للمعطية، ويحتمل أن يكون للمهدي إليها. قلت: ولا يتم حمله على المهدي إليها إلا بجعل اللام في قوله لجارتها بمعنى من ولا يمتنع حمله على المعنيين.

(10/445)


31 - باب مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ
6018- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ" .
6019- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ قَالَ وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ" .
[الحديث 6019 – طرفاه في: 6135، 6476]
قوله: "باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره" ذكر فيه حديثا لأبي هريرة في ذلك وآخر لأبي شريح. قوله: "أبو الأحوص" هو سلام بالتشديد ابن سليم، وأبو حصين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم، وأبو

(10/445)


صالح هو ذكوان. قوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " المراد بقوله يؤمن الإيمان الكامل، وخصه بالله واليوم الآخر إشارة إلى المبدأ والمعاد، أي من آمن بالله الذي خلقه وآمن بأنه سيجازيه بعمله فليفعل الخصال المذكورات. قوله: "فلا يؤذ جاره" في حديث أبي شريح "فليكرم جاره" وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة من طريق الأعمش عن أبي صالح بلفظ: "فليحسن إلى جاره" وقد ورد تفسير الإكرام والإحسان للجار وترك أذاه في عدة أحاديث أخرجها الطبراني من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأبو الشيخ في "كتاب التوبيخ" من حديث معاذ بن جبل "قالوا يا رسول الله ما حق الجار على الجار؟ قال: إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنيته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده" وألفاظهم متقاربة، والسياق أكثره لعمرو بن شعيب. وفي حديث بهز بن حكيم "وإن أعوز سترته" وأسانيدهم واهية لكن اختلاف مخارجها يشعر بأن الحديث أصلا. ثم الأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فرض عين وقد يكون فرض كفاية وقد يكون مستحبا، ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق. قوله: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" زاد في حديث أبي شريح "جائزته. قال: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام" الحديث وسيأتي شرحه بعد نيف وخمسين بابا في "باب إكرام الضيف" إن شاء الله تعالى. قوله: " ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" بضم الميم ويجوز كسرها، وهذا من جوامع الكلم لأن القول كله إما خير وإما شر وإما آيل إلى أحدهما؛ فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها، فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إلى الشر فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت. وقد أخرج الطبراني والبيهقي في "الزهد" من حديث أبي أمامة نحو حديث الباب بلفظ: "فليقل خيرا ليغنم، أو ليسكت عن شر ليسلم" واشتمل حديث الباب من الطريقين على أمور ثلاثة تجمع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية، أما الأولان فمن الفعلية، وأولهما يرجع إلى الأمر بالتخلي عن الرذيلة والثاني يرجع إلى الأمر بالتحلي بالفضيلة، وحاصله من كان حامل الإيمان فهو متصف بالشفقة على خلق الله قولا بالخير وسكوتا عن الشر وفعلا لما ينفع أو تركا لما يضر، وفي معنى الأمر بالصمت عدة أحاديث: منها حديث أبي موسى وعبد الله بن عمرو بن العاص "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه" وقد تقدما في كتاب الإيمان، وللطبراني عن ابن مسعود "قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل" فذكر فيها " أن يسلم المسلمون من لسانك" ولأحمد وصححه ابن حبان من حديث البراء رفعه في ذكر أنواع من البر "قال فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير" وللترمذي من حديث ابن عمر "من صمت نجا" وله من حديثه "كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسي القلب" وله من حديث سفيان الثقفي "قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي؟ قال: هذا. وأشار إلى لسانه" وللطبراني مثله من حديث الحارث بن هشام وفي حديث معاذ عند أحمد والترمذي والنسائي: "أخبرني بعمل يدخلني الجنة" فذكر الوصية بطولها وفي آخرها " ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا. وأشار إلى لسانه " الحديث. وللترمذي من حديث عقبة بن عامر "قلت: يا رسول

(10/446)


الله ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك" .

(10/447)


32 - باب حَقِّ الْجِوَارِ فِي قُرْبِ الأَبْوَابِ
6020- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَاباً" .
قوله: "باب حق الجوار في قرب الأبواب" ذكر فيه حديث عائشة "قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابا" وقد تقدم الكلام على سنده مستوفي في كتاب الشفعة. وقوله: "أقربهما" أي أشدهما قربا. قيل: الحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها فيتشوف لها بخلاف الأبعد وأن الأقرب أسرع إجارة لما يقع لجاره من المهمات ولا سيما في أوقات الغفلة. وقال ابن أبي جمرة: الإهداء إلى الأقرب مندوب، لأن الهدية في الأصل ليست واجبة فلا يكون الترتيب فيها واجبا. ويؤخذ من الحديث أن الأخذ في العمل بما هو أعلى أولى، وفيه تقديم العلم على العمل. واختلف في حد الجوار: فجاء عن علي رضي الله عنه "من سمع النداء فهو جار" وقيل: "من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار" وعن عائشة "حد الجوار أربعون دارا من كل جانب" وعن الأوزاعي مثله. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" مثله عن الحسن، وللطبراني بسند ضعيف عن كعب بن مالك مرفوعا: "ألا إن أربعين دارا جار" وأخرج ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب "أربعون دارا عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه" وهذا يحتمل كالأولى، ويحتمل أن يريد التوزيع فيكون من كل جانب عشرة.

(10/447)


33 - باب كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ
6021- حدثنا علي بن عياش حدثنا أبو غسان قال حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل معروف صدقة" .
6022- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ أَوْ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ" .
قوله: "باب كل معروف صدقة" أورد فيه حديث جابر بهذا اللفظ، وقد أخرج مسلم من حديث حذيفة وقد أخرجه الدار قطني والحاكم من طريق عبد الحميد بن الحسن الهلالي عن ابن المنكدر مثله وزاد في آخره: " وما أنفق الرجل على أهله كتب له به صدقة، وما وقى به المرء عرضه فهو صدقة" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق محمد بن المنكدر عن أبيه كالأول وزاد: ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تلقي من دلوك

(10/447)


34 - باب طِيبِ الْكَلاَمِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ"
6023- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: "ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ". قَالَ شُعْبَةُ: أَمَّا مَرَّتَيْنِ فَلاَ أَشُكُّ ثُمَّ قَالَ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ" .
قوله: "باب طيب الكلام" أصل الطيب ما تستلذه الحواس، ويختلف باختلاف متعلقه، قال ابن بطال: طيب الكلام من جليل عمل البر لقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية، والدفع قد يكون بالقول كما يكون

(10/448)


بالفعل. قوله: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: الكلمة الطيبة صدقة" هو طرف من حديث أورده المصنف موصولا في كتاب الصلح وفي كتاب الجهاد، وقد تقدم الكلام عليه هناك في "باب من أخذ بالركاب" قال ابن بطال: وجه كون الكلمة الطيبة صدقة أن إعطاء المال يفرح به قلب الذي يعطاه ويذهب ما في قلبه، وكذلك الكلام الطيب فاشتبها من هذه الحيثية. ذكر المصنف حديث عدي بن حاتم، وفيه: " اتقوا النار ولو بشق تمرة؛ فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة" وقوله: "أخبرني عمرو" كذا لهم وهو ابن مرة، وقد تقدم الحديث من طريق شعبة عنه في كتاب الزكاة مع شرحه، وخيثمة شيخ عمرو هو ابن عبد الرحمن، وتقدم الحديث مبسوطا في علامات النبوة.

(10/449)


35 - باب الرِّفْقِ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ
6024- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: "دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ قَالَتْ عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ قَالَتْ: فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَهْلاً يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ" .
6025- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَعْرَابِيّاً بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامُوا إِلَيْهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُزْرِمُوهُ ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ" .
قوله: "باب الرفق في الأمر كله" الرفق بكسر الراء وسكون الفاء بعدها قاف هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف. حديث عائشة في قصة اليهود لما قالوا السام عليكم، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان، وقوله: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" في حديث عمره عن عائشة عند مسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" والمعنى أنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده، وقيل: المراد يثيب عليه ما لا يثيب على غيره، والأول أوجه. وله في حديث شريح بن هانئ عنها "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شأنه" وفي حديث أبي الدرداء "من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير" الحديث، وأخرجه الترمذي وصححه وابن خزيمة. وفي حديث جرير عند مسلم: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله" وقوله فيه: "عن صالح" هو ابن كيسان. حديث أنس في قصة الذي بال في المسجد، وقد تقدم مشروحا في كتاب الطهارة، وقوله: "لا تزرموه" بضم أوله وسكون الزاي وكسر الراء من الإزرام، أي لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم البول إذا انقطع وأزرمته قطعته، وكذلك يقال في الدمع.

(10/449)


36 - باب تَعَاوُنِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضاً
6026- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي جَدِّي

(10/449)


37 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً}
كِفْلٌ: نَصِيبٌ. قَالَ أَبُو مُوسَى: كِفْلَيْنِ: أَجْرَيْنِ بِالْحَبَشِيَّةِ
6028- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ قَالَ: اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ" .
قوله: "باب قول الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} " كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: {مُقِيتاً} وقد عقب المصنف الحديث المذكور قبله بهذه الترجمة إشارة إلى أن الأجر على الشفاعة ليس على العموم بل مخصوص بما تجوز فيه الشفاعة وهي الشفاعة الحسنة، وضابطها ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه كما دلت عليه الآية، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن مجاهد قال: هي في شفاعة الناس بعضهم لبعض، وحاصله أن من

(10/451)


شفع لأحد في الخير كان له نصيب من الأجر ومن شفع له بالباطل كان له نصيب من الوزر، وقيل: الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمن والسيئة الدعاء عليه. قوله: "كفل نصيب" هو تفسير أبي عبيدة. وقال الحسن وقتادة: الكفل الوزر والإثم. وأراد المصنف أن الكفل يطلق ويراد به النصيب، ويطلق ويراد به الأجر، وأنه في آية النساء بمعنى الجزاء، وفي آية الحديد بمعنى الأجر. ثم ذكر حديث أبي موسى، وقد أشرت إلى ما فيه في الذي قبله. ووقع فيه: "إذا أتاه صاحب الحاجة" وعند الكشميهني: "صاحب حاجة". قوله: "قال أبو موسى: كفلين أجرين بالحبشية" وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبي موسى الأشعري في قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} قال: ضعفين بالحبشية أجرين.

(10/452)


38 - باب لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً
6029- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ سَمِعْتُ مَسْرُوقاً قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ح وحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حِينَ قَدِمَ مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْكُوفَةِ فَذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَمْ يَكُنْ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً وَقَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَخْيَرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ خُلُقاً ".
6030- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ يَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَالَ: مَهْلاً يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ" .
6031- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا أَبُو يَحْيَى هُوَ فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلاَلِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّاباً وَلاَ فَحَّاشاً وَلاَ لَعَّاناً كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ" .
[الحديث 6031 – طرفه في: 6046]
6032- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ " أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشاً إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ" .
[الحديث 6032 – طرفاه في: 6054، 6131]

(10/452)


قوله: "باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفاحشا" كذا للأكثر، وللكشميهني: "ولا متفحشا" بالتشديد كما في لفظ حديث عبد الله بن عمرو في الباب، ووقع في بعضها بلفظ: "متفاحشا" والفحش كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، ويدخل في القول والفعل، والصفة، يقال طويل فاحش الطول إذا أفرط في طوله، لكن استعماله في القول أكثر. والمتفحش بالتشديد الذي يتعمد ذلك ويكثر منه ويتكلفه. وأغرب الداودي فقال: الفاحش الذي يقول الفحش، والمتفحش الذي يستعمل الفحش ليضحك الناس. حديث عبد الله بن عمرو، أورده من طريق شعبة عن سليمان وهو الأعمش سمعت أبا وائل، ومن طريق جرير عن الأعمش عن شقيق بن سلمة وهو أبو وائل المذكور، وقد تقدم المتن بتمامه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء في معناه، وفيه أيضا قوله: "إن من خيركم أحسنكم أخلاقا" ووقع هنا للكشميهني: "إن خيركم" وتبين بالرواية الأخرى أن "من" مرادة فيه. ووقع للأكثر "أخيركم" بوزن أفضلكم ومعناه وهي على الأصل، والرواية الأخرى بمعناها، يقال فلان خير من فلان أي أفضل منه، وقد أخرج أحمد والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أسامة رفعه: "إن الله لا يحب كل فحاش متفحش". حديث عائشة في قصة اليهود، وقد تقدم قريبا في "باب الرفق" وأن شرحه يأتي في الاستئذان، ووقع هنا "يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش" وقد حكى عياض عن بعض شيوخه أن عين العنف مثلثة والمشهور ضمها. حديث أنس: قوله: "سبابا" بالمهملة وموحدتين الأولى ثقيلة. قوله: "كان يقول لأحدنا عند المعتبة" بفتح الميم وسكون المهملة وكسر المثناة الفوقية - ويجوز فتحها - بعدها موحدة وهي مصدر عتب عليه يعتب عتبا وعتابا ومعتبة ومعاتبة، قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة. قوله: "ما له ترب جبينه" قال الخطابي: يحتمل أن يكون المعنى خر لوجهه فأصاب التراب جبينه ويحتمل أن يكون دعاء له بالعبادة كأن يصلي فيترب جبينه، والأول أشبه لأن الجبين لا يصلي عليه، قال ثعلب: الجبينان يكتنفان الجبهة ومنه قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي ألقاه على جبينه. قلت: وأيضا فالثاني بعيد جدا، لأن هذه الكلمة استعملها العرب قبل أن يعرفوا وضع الجبهة بالأرض في الصلاة. وقال الداودي: قوله ترب جبينه كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم، وهي من التراب، أي سقط جبينه للأرض، وهو كقولهم رغم أنفه، ولكن لا يراد معنى قوله ترب جبينه، بل هو نظير ما تقدم في قوله تربت يمينك، أي أنها كلمة تجري على اللسان ولا يراد حقيقتها. حديث عائشة. قوله: "حدثنا عمرو بن عيسى" هو أبو عثمان الضبعي البصري، ثقة مستقيم الحديث قاله ابن حبان وما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في كتاب الصلاة. وشيخه محمد بن سواء هو أبو الخطاب السدوسي البصري، ثقة أيضا، له عند البخاري هذا الحديث وآخر في المناقب. وشيخه روح بن القاسم مشهور كثير الحديث وقد تابعه عن محمد بن المنكدر سفيان بن عيينة كما سيأتي في "باب اغتياب أهل الفساد" وفي "باب المداراة" ومعمر عند مسلم وسياق روح أتم. قوله: "عن عروة عن عائشة" في رواية ابن عيينة "سمعت عروة أن عائشة أخبرته". قوله: "أن رجلا" قال ابن بطال هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له الأحمق المطاع، ورجا النبي صلى الله عليه وسلم بإقباله عليه تألفه ليسلم قومه لأنه كان رئيسهم، وكذا فسره به عياض ثم القرطبي والنووي جازمين بذلك، ونقله ابن التين عن الداودي لكن احتمالا لا جزما، وقد أخرجه عبد الغني بن سعيد في "المبهمات" من طريق عبد

(10/453)


الله بن عبد الحكم عن مالك أنه بلغه عن عائشة "استأذن عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بئس ابن العشيرة" الحديث، وأخرجه ابن بشكوال في "المبهمات" من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلا. وأخرج عبد الغني أيضا من طريق أبي عامر الخراز عن أبي يزيد المدني عن عائشة قالت: "جاء مخرمة بن نوفل يستأذن، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته قال: بئس أخو العشيرة" الحديث وهكذا وقع لنا في أواخر الجزء الأول من "فوائد أبي إسحاق الهاشمي" وأخرجه الخطيب، فيحمل على التعدد. وقد حكى المنذر في مختصره القولين فقال: هو عيينة، وقيل مخرمة. وأما شيخنا ابن الملقن فاقتصر على أنه مخرمة وذكر أنه نقله من حاشية بخط الدمياطي فقصر، لكنه حكى بعد ذلك عن ابن التين أنه جوز أنه عيينة قال: وصرح به ابن بطال. قوله: "بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة" في رواية معمر "بئس أخو القوم وابن القوم" وهي بالمعني، قال عياض المراد بالعشيرة الجماعة أو القبيلة. وقال غيره العشيرة الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده. قوله: "فلما جلس تطلق" بفتح الطاء المهملة وتشديد اللام أي أبدى له طلاقة وجهه، يقال وجهه طلق وطليق أي مسترسل منبسط غير عبوس، ووقع في رواية ابن عامر "بش في وجهه" ولأحمد من وجه آخر عن عائشة "واستأذن آخر فقال نعم أخو العشيرة" فلما دخل لم يهش له ولم ينبسط كما فعل بالآخر، فسألته فذكر الحديث. قال الخطابي: جمع هذا الحديث علما وأدبا، وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله، وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته. قلت: وظاهر كلامه أن يكون هذا من جملة الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته، وإنما الذي يمكن أن يختص به النبي صلى الله عليه وسلم أن يكشف له عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطلعه المغتر على حاله فيذم الشخص بحضرته ليتجنبه المغتر ليكون نصيحة، بخلاف غير النبي صلى الله عليه وسلم فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه. وقال القرطبي: في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى. ثم قال تبعا لعياض: والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد الله تعالى. وقال عياض: لم يكن عيينة والله أعلم حينئذ أسلم. فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرفه باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه فيكون ما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم من جملة علامات النبوة، وأما إلانة القول له بعد أن دخل فعلى سبيل التألف له. ثم ذكر نحو ما تقدم. وهذا الحديث أصل في المداراة، وفي جواز غيبة أهل الكفر والفسق ونحوهم والله أعلم. قوله: "متى عهدتني فاحشا" في رواية الكشميهني: "فحاشا" بصيغة المبالغة. قوله: "من تركه

(10/454)


الناس" في رواية عيينة "من تركه أو ودعه الناس" قال المازري: ذكر بعض النحاة أن العرب أماتوا مصدر يدع وماضيه، والنبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وقد نطق بالمصدر في قوله: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات" وبماضيه في هذا الحديث. وأجاب عياض بأن المراد بقولهم أماتوه أي تركوا استعماله إلا نادرا، قال: ولفظ أماتوه يدل عليه ويؤيد ذلك أنه لم ينقل في الحديث إلا في هذين الحديثين مع شك الراوي في حديث الباب مع كثرة استعمال ترك ولم يقل أحد من النحاة إنه لا يجوز. قوله: "اتقاء شره" أي قبح كلامه، لأن المذكور كان من جفاة العرب. وقال القرطبي: في هذا الحديث إشارة إلى أن عيينة المذكور ختم له بسوء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اتقى فحشه وشره، أخبر أن من يكون كذلك يكون شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة. قلت: ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال، فإن الحديث ورد بلفظ العموم فمن اتصف بالصفة المذكورة فهو الذي يتوجه عليه الوعيد، وشرط ذلك أن يموت على ذلك، ومن أين له أن عيينة مات على ذلك؟ واللفظ المذكور يحتمل لأن يقيد بتلك الحالة التي قيل فيها ذلك، وما المانع أن يكون تاب وأناب؟ وقد كان عيينة ارتد في زمن أبي بكر وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر، وله مع عمر قصة ذكرت في تفسير الأعراف، ويأتي شرحها في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى، وفيها ما يدل على جفائه. والحديث الذي فيه أنه "أحمق مطاع" أخرجه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: "جاء عيينة بن حصن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال: من هذه؟ قال: أم المؤمنين: قال ألا أنزل لك عن أجمل منها. فغضبت عائشة وقالت: من هذا؟ قال: هذا أحمق" ووصله الطبراني من حديث جرير وزاد فيه: اخرج فاستأذن، قال: إنها يمين علي أن لا أستأذن على مضري. وعلى تقدير أن يسلم له ذلك وللقاضي قبله في عيينة لا يسلم له ذلك في مخرمة بن نوفل وسيأتي في "باب المداراة" ما يدل على أن تفسير المبهم هنا بمخرمة هو الراجح.

(10/455)


39 - باب حُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ الْبُخْلِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ.
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ فَرَجَعَ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ
6033- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ: لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْراً أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ" .
6034- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِراً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ: لاَ".

(10/455)


6035- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "كُنَّا جُلُوساً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يُحَدِّثُنَا إِذْ قَالَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً" .
6036- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ فَقَالَ الْقَوْمُ هِيَ الشَّمْلَةُ فَقَالَ سَهْلٌ هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْسُوكَ هَذِهِ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا فَقَالَ: "نَعَمْ" فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَمَهُ أَصْحَابُهُ قَالُوا مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مُحْتَاجاً إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَلُ شَيْئاً فَيَمْنَعَهُ فَقَالَ رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا".
6037- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ" .
6038- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ سَمِعَ سَلاَمَ بْنَ مِسْكِينٍ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتاً يَقُولُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ وَلاَ لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ أَلاَ صَنَعْتَ؟".
قوله: "باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل" جمع في هذه الترجمة بين هذه الأمور الثلاثة لأن السخاء من جملة محاسن الأخلاق، بل هو من معظمها والبخل ضده، فأما الحسن فقال الراغب: هو عبارة عن كل مرغوب فيه إما من جهة العقل وإما من جهة العرض وإما من جهة الحسن، وأكثر ما يقال في عرف العامة فيما يدرك بالبصر، وأكثر ما جاء في الشرع فيما يدرك بالبصيرة، انتهى ملخصا. وأما الخلق فهو بضم الخاء واللام ويجوز سكونها، قال الراغب: الخلق والخلق يعني بالفتح وبالضم في الأصل بمعنى واحد كالشرب والشرب، لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة انتهى. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي" أخرجه أحمد وصححه ابن حبان. وفي حديث علي الطويل في دعاء الافتتاح عند مسلم: "واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت " وقال القرطبي في "المفهم": الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل العفو والحلم والجود والصبر وتحمل الأذى والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتوادد ولين الجانب ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك،

(10/456)


وأما السخاء فهو بمعنى الجود، وهو بذل ما يقتنى بغير عوض، وعطفه على حسن الخلق من عطف الخاص على العام، وإنما أفرد للتنويه به. وأما البخل فهو منع ما يطلب مما يقتنى، وشره ما كان طالبه مستحقا ولا سيما إن كان من غير مال المسئول. وأشار بقوله: "وما يكره من البخل" إلى أن بعض ما يجوز انطلاق اسم البخل عليه قد لا يكون مذموما. قوله: "وقال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس" تقدم موصولا في كتاب الإيمان، وتقدم شرحه في كتاب الصيام، وفيه بيان السبب في أكثرية جوده في رمضان. قوله: "وقال أبو ذر لما بلغه مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه الخ" كذا للأكثر بتكرير قال. وفي رواية الكشميهني: "وكان أبو ذر الخ " وهي أولى، وهذا طرف من قصة إسلام أبي ذر، وقد تقدمت موصولة مطولة في المبعث النبوي مشروحة والغرض منه هنا قوله: "ويأمر بمكارم الأخلاق" والمكارم جمع مكرمة بضم الراء وهي من الكرم، قال الراغب: وهو اسم الأخلاق، وكذلك الأفعال المحمودة، قال ولا يقال للرجل كريم حتى يظهر ذلك منه، ولما كان أكرم الأفعال ما يقصد به أشرف الوجوه، وأشرفها ما يقصد به وجه الله تعالى، وإنما يحصل ذلك من المتقي قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وكل فائق في بابه يقال له كريم. حديث أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس" أي أحسنهم خلقا وخلقا "وأجود الناس" أي أكثرهم بذلا لما يقدر عليه "وأشجع الناس" أي أكثرهم إقداما مع عدم الفرار، وقد تقدم شرح الحديث المذكور في كتاب الهبة، واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاث من جوامع الكلم لأنها أمهات الأخلاق، فإن في كل إنسان ثلاث قوى: أحدها: الغضبية وكمالها الشجاعة، ثانيها: الشهوانية وكمالها الجود، ثالثها: العقلية وكمالها النطق بالحكمة. وقد أشار أنس إلى ذلك بقوله: "أحسن الناس" لأن الحسن يشمل القول والفعل، ويحتمل أن يكون المراد بأحسن الناس حسن الخلقة وهو تابع لاعتدال المزاج الذي يتبع صفاء النفس الذي منه جودة القريحة التي تنشأ عنها الحكمة قاله الكرماني، وقوله: "فزع أهل المدينة" أي سمعوا صوتا في الليل فخافوا أن يهجم عليهم عدو، وقوله: "فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، قد سبق الناس إلى الصوت" أي أنه سبق فاستكشف الخبر فلم يجد ما يخاف منه فرجع يسكنهم. وقوله: "لم تراعوا" هي كلمة تقال عند تسكين الروع تأنيسا، وإظهارا للرفق بالمخاطب. حديث جابر. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "عن ابن المنكدر" في رواية الإسماعيلي من طريق أبي الوليد الطيالسي ومن طريق عبد الله وهو ابن المبارك كلاهما عن سفيان "سمعت محمد بن المنكدر". قوله: "ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا" كذا للجميع، وكذا في "الأدب المفرد" من طريق ابن عيينة سمعت ابن المنكدر، ووقع في رواية الإسماعيلي من الطريقين المذكورين، وكذا عند مسلم من طريق سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر بلفظ: "ما سئل شيئا قط فقال لا" قال الكرماني: معناه ما طلب منه شيء من أمر الدنيا فمنعه، قال الفرزدق: "ما قال لا قط إلا في تشهده" قلت: وليس المراد أنه يعطي ما يطلب منه جزما، بل المراد أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده أعطاه إن كان الإعطاء سائغا وإلا سكت. وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية أخرجه ابن سعد ولفظه: "إذا سئل فأراد أن يفعل قال نعم، وإذا لم يرد أن يفعل سكت" وهو قريب من حديث أبي هريرة الماضي في الأطعمة "ما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه" وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: معناه لم يقل "لا" منعا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارا كما في قوله تعالى: {قُلْتَ لا أَجِدُ

(10/457)


مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} ولا يخفى الفرق بين قول لا أجد ما أحملكم وبين لا أجملكم. قلت: وهو نظير ما تقدم في حديث أبي موسى الأشعري لما سأل الأشعريون الحملان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما عندي ما أحملكم" لكن يشكل على ما تقدم أن في حديث الأشعري المذكور أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم فقال: "والله لا أحملكم" فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر بما إذا سئل ما ليس عنده والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة أو من حال السائل، كأن يكون لم يعرف العادة، فلو اقتصر في جوابه على السكوت مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلا ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل، والسر في الجمع بين قوله: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ} وقوله: "والله لا أحملكم" أن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودا عنده، والثاني أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا أو بالاستيهاب إذ لا اضطرار حينئذ إلى ذلك، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الأيمان والنذور. وفهم بعضهم من لازم عدم قول "لا" إثبات "نعم" ورتب عليه أنه يلزم منه تحريم البخل، لأن من القواعد أنه صلى الله عليه وسلم إذا واظب على شيء كان ذلك علامة وجوبه، والترجمة تقتضي أن البخل مكروه. وأجيب بأنه إذا تم هذا البحث حملت الكراهة على التحريم، لكنه لا يتم لأن الذي يحرم من البخل ما يمنع الواجب سلمنا أنه يدل على الوجوب لكن على من هو في مقام النبوة، إذ مقابله نقص منزه عنه الأنبياء فيختص الوجوب بالنبي صلى الله عليه وسلم، والترجمة تتضمن أن من البخل ما يكره، ومقابله أن منه ما يحرم كما أن فيه ما يباح بل ويستحب بل ويجب، فلذلك اقتصر المصنف على قوله يكره. حديث مسروق "كنا جلوسا عند عبد الله بن عمرو بن العاص" ورجاله إلى الصحابة كوفيون، وقد دخلها كما تقدم صريحا في هذا الحديث في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "لم يكن فاحشا" تقدم شرحه في الباب المذكور وهو الحديث السادس عشر منه، وقوله فيه: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقا" في رواية الكشميهني: "أحسنكم" ووقع في الرواية الماضية "إن من خياركم" وهي مرادة هنا. وقد أخرج أبو يعلى من حديث أنس رفعه: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة رفعه: "إن من أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا " ولأحمد بسند رجاله ثقات من حديث جابر بن سمرة نحوه بلفظ: "أحسن الناس إسلاما" وللترمذي من حديث جابر رفعه: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولأحمد والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أبي ثعلبة نحوه وقال: "أحاسنكم أخلاقا" وسياقه أتم، وللبخاري في الأدب المفرد وابن حبان والحاكم والطبراني من حديث أسامة بن شريك "قالوا: يا رسول الله من أحب عباد الله إلى الله؟ قال: أحسنهم خلقا" وفي رواية عنه "ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: خلق حسن" ومن الأحاديث الصحيحة في حسن الخلق حديث النواس بن سمعان رفعه: "البر حسن الخلق" أخرجه مسلم والبخاري في "الأدب المفرد"، وحديث أبي الدرداء رفعه: "ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان وزاد الترمذي فيه وهو عند البزار "وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة" وأخرجه أبو داود وابن حبان أيضا والحاكم من حديث عائشة نحوه، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" والحاكم من حديث أبي هريرة، وأخرجه الطبراني من حديث أنس نحوه، وأحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو. وأخرج الترمذي وابن حبان وصححاه وهو عند البخاري في "الأدب المفرد" من

(10/458)


حديث أبي هريرة "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: تقوى الله وحسن الخلق" وللبزار بسند حسن من حديث أبي هريرة رفعه: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" والأحاديث في ذلك كثيرة. وحكى ابن بطال تبعا للطبري خلافا: هل حسن الخلق غريزة، أو مكتسب؟ وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث ابن مسعود "إن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم" الحديث وهو عند البخاري في "الأدب المفرد" وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في كتاب القدر. وقال القرطبي في "المفهم" الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محمودا وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفا فيرتاض صاحبه حني يقوى. قلت: وقد وقع في حديث الأشج العصري عند أحمد والنسائي والبخاري في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة. قال: يا رسول الله، قديما كانا في أو حديثا؟ قال: قديما. قال: الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما" فترديده السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي، وما هو مكتسب. حديث سهل بن سعد في قصة البردة التي سأل الصحابي لتكون كفنه، والغرض منه قولهم للذي طلبها: "سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه" وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الجنائز، وفي قولهم: "سألته إياها" استعمال ثاني الضميرين منفصلا وهو المتعين هنا فرارا من الاستثقال، إذ لو قاله متصلا فإنه يصير هكذا سألتموها، قال ابن مالك: والأصل أن لا يستعمل المنفصل إلا عند تعذر المتصل؛ لأن الاتصال أخصر وأبين، لكن إذا اختلف الضميران وتقاربا فالأحسن الانفصال نحو هذا، فإن اختلفا في الرتبة جاز الاتصال والانفصال مثل أعطيتكه وأعطيتك إياه. حديث أبي هريرة "يتقارب الزمان" وسيأتي شرحه في كتاب الفتن وقوله فيه: "وينقص العمل" وقع في رواية الكشميهني: "وينقص العلم" وهو المعروف في هذا الحديث وللآخر وجه. وقوله فيه: "ويلقى الشح" وهو مقصود الباب وهو أخص من البخل فإنه بخل مع حرص. واختلف في ضبط "يلقى" فالأكثر على أنه بسكون اللام أي يوضع في القلوب فيكثر، وهو على هذا بالرفع، وقيل: بفتح اللام وتشديد القاف أي يعطي القلوب الشح، وهو على هذا بالنصب حكاه صاحب "المطالع" وقال الحميدي: لم تضبط الرواة هذا الحرف، ويحتمل أن يكون "تلقى" بالتشديد أي يتلقى ويتواصى به ويدعوه إليه من قوله: "وما يلقاها إلا الصابرون" أي ما يعلمها وينبه عليها، قال ولو قيل: يلقى مخففة لكان بعيدا لأنه لو ألقي لترك وكان مدحا والحديث مساق للذم، ولو كان بالفاء بمعنى يوجد لم يستقم لأنه لم يزل موجودا. اهـ. وقد ذكرت توجيه القاف. حديث أنس. قوله: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين" تقدم نظيره في الوليمة من وجه آخر عن أنس، ومثله عند أحمد وغيره عن ثابت عن أنس، وكذا هو في معظم الروايات، ووقع عند مسلم من طريق إسحاق بن طلحة عن أنس "والله لقد خدمته تسع سنين" ولا مغايرة بينهما لأن ابتداء خدمته له كان بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وبعد تزويج أمه أم سليم بأبي طلحة، فقد مضى في الوصايا من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي" الحديث وفيه: "إن أنسا غلام كيس فليخدمك، قال فخدمته في السفر والحضر" وأشار بالسفر إلى ما وقع في المغازي وغيرها من طريق عمرو بن أبي عمرو عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من أبي طلحة لما أراد الخروج إلى خيبر من يخدمه فأحضر له أنسا" فأشكل هذا على الحديث الأول لأن

(10/459)


بين قدومه المدينة وبين خروجه إلى خيبر ست سنين وأشهرا. وأجيب بأنه طلب من أبي طلحة من يكون أسن من أنس وأقوى على الخدمة في السفر فعرف أبو طلحة من أنس القوة على ذلك فأحضره، فلهذا قال أنس في هذه الرواية: "خدمته في الحضر والسفر" وإنما تزوجت أم سليم بأبي طلحة بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أشهر؛ لأنها بادرت إلى الإسلام ووالد أنس حي فعرف بذلك فلم يسلم وخرج في حاجة له فقتله عدو له، وكان أبو طلحة قد تأخر إسلامه فاتفق أنه خطبها فاشترطت عليه أن يسلم فأسلم أخرجه ابن سعد بسند حسن، فعلى هذا تكون مدة خدمة أنس تسع سنين وأشهرا، فألغى الكسر مرة وجبره أخرى. وقوله في هذا الحديث: "والله ما قال لي أف قط" قال الراغب: أصل الأف كل مستقذر من وسخ كقلامة الظفر وما يجري مجراها، ويقال ذلك لكل مستخف به، ويقال أيضا عند تكره الشيء وعند التضجر من الشيء، واستعملوا منها الفعل كأففت بفلان، وفي أف عدة لغات: الحركات الثلاث بغير تنوين وبالتنوين، ووقع في رواية مسلم هنا "أفا" بالنصب والتنوين وهي موافقة لبعض القراءات الشاذة كما سيأتي، وهذا كله مع ضم الهمزة والتشديد، وعلى ذلك اقتصر بعض الشراح، وذكر أبو الحسن الرماني فيها لغات كثيرة فبلغها تسعا وثلاثين ونقلها ابن عطية وزاد واحدة أكملها أربعين، وقد سردها أبو حيان في "البحر" واعتمد على ضبط القلم. ولخص ضبطها صاحبه الشهاب السمين ولخصته منه، وهي الستة المقدمة، وبالتخفيف كذلك ستة أخرى، وبالسكون مشددا ومخففا، وبزيادة هاء ساكنة في آخره مشددا ومخففا، وأفي بالإمالة وبين بين وبلا إمالة الثلاثة بلا تنوين، وأفو بضم ثم سكون وأفي بكسر ثم سكون. فذلك ثنتان وعشرون، وهذا كله مع ضم الهمزة ويجوز كسرها وفتحها، فأما بكسرها ففي إحدى عشرة: كسر الفاء وضمها ومشددا مع التنوين وعدمه أربعة ومخففا بالحركات الثلاث مع التنوين وعدمه ستة، وأفي بالإمالة والتشديد، وأفا بفتح الهمزة ففي ست بفتح الفاء وكسرها مع التنوين وعدمه أربعة وبالسكون وبألف مع التشديد، والتي زادها ابن عطية أفاه بضم أوله وزيادة ألف وهاء ساكنة، وقرئ من هذه اللغات ست كلها بضم الهمزة، فأكثر السبعة بكسر الفاء مشددا بغير تنوين، ونافع وحفص كذلك لكن بالتنوين، وابن كثير وابن عامر بالفتح والتشديد بلا تنوين، وقرأ أبو السماك كذلك لكن بضم الفاء، وزيد بن علي بالنصب والتنوين، وعن ابن عباس بسكون الفاء. قلت: وبقي من الممكن في ذلك أفي كما مضى لكن بفتح الفاء وسكون الياء، وأفيه بزيادة هاء، وإذا ضممت هاتين إلى التي زادها ابن عطية وأضفتها إلى ما بدئ به صارت العدة خمسا وعشرين كلها بضم الهمزة، فإذا استعملت القياس في اللغة كان الذي بفتح الهمزة كذلك وبكسرها كذلك فتكمل خمسا وسبعين. قوله: "ولا لم صنعت ولا ألا صنعت" بفتح الهمزة والتشديد بمعنى هلا. وفي رواية مسلم من هذا الوجه "لشيء مما يصنعه الخادم" وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة "ما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا، ولشيء تركته هلا فعلت كذا وكذا" وفي رواية عبد العزيز بن صهيب "ما قال لشيء صنعته لم صنعت هذا كذا، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا كذا" ويستفاد من هذا ترك العتاب على ما فات، لأن هناك مندوحة عنه باستئناف الأمر به إذا احتيج إليه، وفائدة تنزيه اللسان عن الزجر والذم واستئلاف خاطر الخادم بترك معاتبته، وكل ذلك في الأمور التي تتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا فلا يتسامح فيها لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(10/460)


40 - باب كَيْفَ يَكُونُ الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ؟
6039- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ قَالَتْ كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ قَامَ إِلى الصَّلاَةِ".
قوله: "باب" بالتنوين "كيف يكون الرجل في أهله؟" ذكر فيه حديث عائشة "كان في مهنة أهله" وقد تقدم شرحه في أبواب صلاة الجماعة من كتاب الصلاة. قوله: "في مهنة أهله" المهنة بكسر الميم وبفتحها، وأنكر الأصمعي الكسر وفسرها هناك بخدمة أهله، وبينت أن التفسير من قول الراوي عن شعبة، وأن جماعة رووه عن شعبة بدونها، وكذا أخرجه ابن سعد في الترجمة النبوية عن وهب بن جرير وعفان وأبي قطن كلهم عن شعبة بدونها؛ لكن وقع عنده عن أبي النضر عن شعبة في آخره: "يعني بالمهنة في خدمة أهله" وقد وقع في حديث آخر لعائشة أخرجه أحمد وابن سعد وصححه ابن حبان من رواية هشام بن عروة عن أبيه "قلت لعائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم" وفي رواية لابن حبان: "ما يعمل أحدكم في بيته" وله ولأحمد من رواية الزهري عن عروة عن عائشة "يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويرقع دلوه" وله من طريق معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة بلفظ: "ما كان إلا بشرا من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه" وأخرجه الترمذي في الشمائل والبزار وقال: وروي عن يحيى عن القاسم عن عائشة، وروي عن يحيي عن حميد المكي عن مجاهد عن عائشة. وفي رواية حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عند أبي سعد "كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلا من رجالكم إلا أنه كان بساما" قال ابن بطال: من أخلاق الأنبياء التواضع، والبعد عن التنعم، وامتهان النفس ليستن بهم ولئلا يخلدوا إلى الرفاهية المذمومة، وقد أشير إلى ذمها بقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} .

(10/461)


41 - باب الْمِقَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
6040- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ ".
قوله: "باب المقة من الله" أي ابتداؤها من الله. المقة بكسر الميم وتخفيف القاف هي المحبة، وقد ومق يمق، والأصل الومق والهاء فيه عوض عن الواو، كعدة ووعد وزنة ووزن. وهذه الترجمة لفظ زيادة وقعت في نحو حديث الباب في بعض طرقه، لكنها على غير شرط البخاري فأشار إليها في الترجمة كعادته، أخرجه أحمد والطبراني وابن أبي شيبة من طريق محمد بن سعد الأنصاري عن أبي ظبية بمعجمة عن أبي أمامة مرفوعا قال: "المقة من الله والصيت من السماء، فإذا أحب الله عبدا" الحديث. وللبزار من طريق أبي وكيع الجراح بن مليح عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه: "ما من عبد إلا وله صيت في السماء، فإن كان حسنا وضع في الأرض وإن كان سيئا

(10/461)


وضع في الأرض" والصيت بكسر الصاد المهملة وسكون التحتانية بعدها مثناة أصله الصوت كالريح من الروح، والمراد به الذكر الجميل، وربما قيل لضده لكن بقيد. قوله: "أبو عاصم" هو النبيل، وهو من كبار شيوخ البخاري وربما روى عنه بواسطة مثل هذا، فقد علقه في بدء الخلق لأبي عاصم وقد نبهت عليه ثم. قوله: "عن نافع" هو مولى ابن عمر، قال البزار بعد أن أخرجه عن عمرو بن علي الفلاس شيخ البخاري فيه: لم يروه عن نافع إلا موسى بن عقبة، ولا عن موسى إلا ابن جريج. قلت: وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثوبان عند أحمد والطبراني في "الأوسط" وأبو أمامة عند أحمد، ورواه عن أبي هريرة أبو صالح عند المصنف في التوحيد وأخرجه مسلم والبزار. قوله: "إذا أحب الله العبد" وقع في بعض طرقه بيان سبب هذه المحبة والمراد بها، ففي حديث ثوبان "إن العبد ليلتمس مرضاة الله تعالى فلا يزال كذلك حتى يقول: يا جبريل إن عبدي فلانا يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي غلبت عليه" الحديث أخرجه أحمد والطبراني في "الأوسط" ويشهد له حديث أبي هريرة الآتي في الرقاق ففيه: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" الحديث. قوله: "إن الله يحب فلانا فأحبه" بفتح الموحدة المشددة ويجوز الضم، ووقع في حديث ثوبان "فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، وتقوله حملة العرش". قوله: " فينادي جبريل في أهل السماء الخ " في حديث ثوبان أهل السماوات السبع. قوله: "ثم يوضع له القبول في أهل الأرض" زاد الطبراني في حديث ثوبان "ثم يهبط إلى الأرض، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} وثبتت هذه الزيادة في آخر هذا الحديث عند الترمذي وابن حاتم من طريق سهيل عن أبيه، وقد أخرج مسلم إسنادها ولم يسق اللفظ، وزاد مسلم فيه: "وإذا أبغض عبدا دعا جبريل" فساقه على منوال الحب وقال في آخره: "ثم يوضع له البغضاء في الأرض" ونحوه في حديث أبي أمامة عند أحمد، وفي حديث ثوبان عند الطبراني "وإن العبد يعمل بسخط الله فيقول الله يا جبريل إن فلانا يستسخطني" فذكر الحديث على منوال الحب أيضا وفيه: "فيقول جبريل: سخطة الله على فلان" وفي آخره مثل ما في الحب "حتى يقوله أهل السماوات السبع، ثم يهبط إلى الأرض" وقوله: "يوضع له القبول" هو من قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أي رضيها، قال المطرزي: القبول مصدر لم أسمع غيره بالفتح؛ وقد جاء مفسرا في رواية القعنبي "فيوضع له المحبة" والقبول الرضا بالشيء وميل النفس إليه. وقال ابن القطاع: قبل الله منك قبولا والشيء والهدية أخذت. والخبر صدق، وفي التهذيب: عليه قبول إذا كانت العين تقبله، والقبول من الريح الصبا لأنها تستقبل الدبور، والقبول أن يقبل العفو والعافية وغير ذلك، وهو اسم للمصدر أميت الفعل منه. وقال أبو عمرو بن العلاء: القبول بفتح القاف لم أسمع غيره، يقال فلان عليه قبول إذا قبلته النفس، وتقبلت الشيء قبولا. ونحوه لابن الأعرابي وزاد: قبلته قبولا بالفتح والضم، وكذا قبلت هديته عن اللحياني. قال ابن بطال: في هذه الزيادة رد على ما يقوله القدرية إن الشر من فعل العبد وليس من خلق الله انتهى. والمراد بالقبول في حديث الباب قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه والرضا عنه، ويؤخذ منه أن محبة قلوب الناس علامة محبة الله، ويؤيده ما تقدم في الجنائز "أنتم شهداء الله في الأرض" والمراد بمحبة الله إرادة الخير للعبد وحصول الثواب له، وبمحبة الملائكة استغفارهم له وإرادتهم خير الدارين له وميل قلوبهم إليه لكونه مطيعا لله محبا له، ومحبة العباد له اعتقادهم فيه الخير وإرادتهم دفع الشر عنه ما أمكن، وقد تطلق محبة الله تعالى للشيء على إرادة إيجاده وعلى إرادة تكميله، والمحبة التي في هذا الباب من القبيل الثاني، وحقيقة المحبة

(10/462)


عند أهل المعرفة من المعلومات التي لا تحد وإنما يعرفها من قامت به وجدانا لا يمكن التعبير عنه، والحب على ثلاثة أقسام: إلهي وروحاني وطبيعي، وحديث الباب يشتمل على هذه الأقسام الثلاثة، فحب الله العبد حب إلهي، وحب جبريل والملائكة له حب روحاني، وحب العباد له حب طبيعي.

(10/463)


42 - باب الْحُبِّ فِي اللَّهِ
6041- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَجِدُ أَحَدٌ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا" .
قوله: "باب الحب في الله" ذكر فيه حديث أنس "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإيمان، وبيان أن هذه الترجمة أول حديث أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي أمامة ولفظه: "الحب في الله والبغض في الله من الإيمان" وأن له طرقا أخرى. قوله: " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق أبيه وأمه وولده وزوجه وجميع الناس، لأن الهدى من الضلال والخلاص من النار إنما كان بالله على لسان رسوله، ومن علامات محبته نصر دينه بالقول والفعل والذب عن شريعته والتخلق بأخلاقه، والله أعلم.

(10/463)


باب قول الله تعالى: {ياأيها الذين أمنوا لا يسخر قوما من قوما عسى أن يكونوا خيرا منهم ..}
...
43 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}
6042- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الأَنْفُسِ وَقَالَ بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ أَوْ الْعَبْدِ ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا" . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَوُهَيْبٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ "جَلْدَ الْعَبْدِ".
6043- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم بِمِنًى: " أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ بَلَدٌ حَرَامٌ أَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا" .
قوله: "باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} الآية" كذا لأبي ذر والنسفي، وسقطت الآية لغيرهما وزاد {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} . وذكر فيه حديثين: أحدهما:

(10/463)


باب ما ينهى عن السباب واللعن
...
44 - باب مَا يُنْهَى مِنْ السِّبَابِ وَاللَّعْنِ
6044- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" تَابَعَهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ
6045- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ أَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ الدِّيلِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ وَلاَ يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ" .
6046- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلاَ لَعَّاناً وَلاَ سَبَّاباً كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ ".
6047- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ

(10/464)


غَيْرِ الإِسْلاَمِ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِناً فَهُوَ كَقَتْلِهِ وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ" .
6048- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي لاَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ" فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَقَالَ أَتُرَى بِي بَأْسٌ؟ أَمَجْنُونٌ أَنَا؟ اذْهَبْ".
6049- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَ النَّاسَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَإِنَّهَا رُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْراً لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ" .
6050- حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ هُوَ ابْنُ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: "رَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْداً وَعَلَى غُلاَمِهِ بُرْداً فَقُلْتُ لَوْ أَخَذْتَ هَذَا فَلَبِسْتَهُ كَانَتْ حُلَّةً وَأَعْطَيْتَهُ ثَوْباً آخَرَ فَقَالَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلاَمٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: "أَسَابَبْتَ فُلاَناً؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. قُلْتُ عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ قَالَ نَعَمْ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلاَ يُكَلِّفُهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ" .
قوله: "باب ما ينهى من السباب واللعن" في رواية غير أبي ذر والنسفي "عن" بدل "من" وهي أولى، وفي الأول حذف تقديره ما ينهى عنه. والسباب بكسر المهملة وتخفيف الموحدة تقدم بيانه مع شرح الحديث الأول في كتاب الإيمان، وهو محتمل لأن يكون على ظاهر لفظه من التفاعل، ويحتمل أن يكون بمعنى السب وهو الشتم وهو نسبة الإنسان إلى عيب ما، وعلى الأول فحكم من بدأ منهما أن الوزر عليه حتى يعتدي الثاني كما ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة وصحح ابن حبان من حديث العرباض بن سارية قال: "المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان". قوله: "تابعه محمد بن جعفر عن شعبة" وصله أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر وهو غندر بهذا الإسناد لكن قال فيه: "عن شعبة عن زبيد ومنصور" وزاد فيه زبيدا وهو بالزاي والموحدة مصغر، ومعنى اللعن الدعاء بالإبعاد من رحمة الله تعالى. قوله: "عن الحسين" هو ابن ذكوان المعلم، والإسناد إلى أبي

(10/465)


ذر بصريون وقد دخلها هو أيضا. وفي رواية مسلم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث "حدثنا أبي حدثنا الحسين المعلم". قوله: "عن أبي ذر" في رواية الإسماعيلي من وجهين "عن أبي معمر" شيخ البخاري فيه بالسند إلى أبي الأسود أن أبا ذر حدثه. قوله: "لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كما قال" وفي رواية للإسماعيلي: "إلا حار عليه" وفي أخرى "إلا ارتدت عليه" يعني رجعت عليه و"حار" بمهملتين أي رجع، وهذا يقتضي أن من قال لآخر أنت فاسق أو قال له أنت كافر فإن كان ليس كما قال كان هو المستحق للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال لم يرجع عليه شيء لكونه صدق فيما قال، ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقا ولا كافرا أن لا يكون آثما في صورة قوله له أنت فاسق بل في هذه الصورة تفصيل: إن قصد نصحه أو نصح غيره ببيان حاله جاز، وإن قصد تعييره وشهرته بذلك ومحض أذاه لم يجز، لأنه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعظته بالحسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف لأنه قد يكون سببا لإغرائه وإصراره على ذلك الفعل كما في طبع كثير من الناس من الأنفة، ولا سيما إن كان الآمر دون المأمور في المنزلة. ووقع في رواية مسلم بلفظ: "ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه" ذكره في أثناء حديث في ذم من ادعى إلى غير أبيه، وقد تقدم صدره في مناقب قريش بالإسناد المذكور هنا، فهو حديث واحد فرقه البخاري حديثين، وسيأتي هذا المتن في "باب من أكفر أخاه بغير تأويل" من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر بلفظ فقد باء بها أحدهما وهو بمعنى رجع أيضا، قال النووي: اختلف في تأويل هذا الرجوع فقيل رجع عليه الكفر إن كان مستحلا، وهذا بعيد من سياق الخبر، وقيل: محمول على الخوارج لأنهم يكفرون المؤمنين هكذا نقله عياض عن مالك وهو ضعيف. لأن الصحيح عند الأكثرين أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم. قلت: ولما قاله مالك وجه، وهو أن منهم من يكفر كثيرا من الصحابة ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالإيمان فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة لا من مجرد صدور التكفير منهم بتأويل كما سيأتي إيضاحه في "باب من أكفر أخاه بغير تأويل" والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم، وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم. وقيل: معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره، وهذا لا بأس به. وقيل: يخشى عليه أن يؤول به ذلك إلى الكفر كما قيل: المعاصي بريد الكفر فيخاف على من أدامها وأصر عليها سوء الخاتمة، وأرجح من الجميع أن من قال ذلك لمن يعرف منه الإسلام ولم يقم له شبهة في زعمه أنه كافر فإنه يكفر بذلك كما سيأتي تقريره، فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر، فكأنه كفر نفسه لكونه كفر من هو مثله، ومن لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام، ويؤيده أن في بعض طرقه: "وجب الكفر على أحدهما" وقال القرطبي: حيث جاء الكفر في لسان الشرع فهو جحد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية، وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم وترك شكر المنعم والقيام بحقه كما تقدم تقريره في كتاب الإيمان في "باب كفر دون كفر" وفي حديث أبي سعيد "يكفرن الإحسان ويكفرن العشير" قال وقوله باء بها أحدهما أي رجع بإثمها ولازم ذلك، وأصل البوء اللزوم، ومنه: "أبوء بنعمتك" أي ألزمها نفسي وأقر بها قال: والهاء في قوله: "بها" راجع إلى التكفيرة الواحدة التي هي أقل ما يدل عليها لفظ كافر، ويحتمل أن يعود إلى الكلمة. والحاصل أن المقول له إن كان كافرا كفرا شرعيا فقد صدق القائل وذهب بها المقول له، وإن لم يكن رجعت

(10/466)


للقائل معرة ذلك القول وإثمه، كذا اقتصر على هذا التأويل في رجع، وهو من أعدل الأجوبة، وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء بسند جيد رفعه: "إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلا وإلا رجعت إلى قائلها" وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بسند حسن وآخر عند أبي داود والترمذي عن ابن عباس ورواته ثقات، ولكنه أعل بالإرسال. حديث أنس تقدم شرحه في "باب حسن الخلق". حديث ثابت بن الضحاك وقد اشتمل على خمسة أحكام وسيأتي في "باب من أكفر أخاه بغير تأويل" بتمامه إلا خصلة واحدة منها، ويأتي كذلك في الأيمان والنذور، ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى، ويؤخذ حكم ما يتعلق بتكفير من كفر المسلم من الذي قبله. وقوله: "لعن المسلم كقتله" أي لأنه إذا لعنه فكأنه دعا عليه بالهلاك. حديث سليمان بن صرد بضم الصاد وفتح الراء بعدها دال مهملات، وهو ابن الجون بن أبي الجون الخزاعي، صحابي شهير يقال كان اسمه يسار بتحتانية ومهملة فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، ويكنى أبا المطرف، وقتل في سنة خمس وستين وله ثلاث وتسعون سنة. قوله: "استب رجلان" لم أعرف أسماءهما ووقع في صفة إبليس من وجه آخر عن الأعمش بهذا السند "كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان". قوله: "حتى انتفخ وجهه" في الرواية المذكورة "فاحمر وجهه وانتفخت أوداجه" وفي رواية مسلم: "تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه" وقد تقدم تفسير الودج في صفة إبليس، وفي حديث معاذ بن جبل عند أحمد وأصحاب السنن "حتى أنه ليخيل إلي أن أنفه ليتمزع من الغضب". قوله: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد" في الرواية المذكورة " لو قال أعوذ بالله من الشيطان" وفي رواية مسلم: "الرجيم" ومثله في حديث معاذ ولفظه: "إني لأعلم كلمة لو يقولها هذا الغضبان لذهب عنه الغضب: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم" . قوله: "فانطلق إليه الرجل" في رواية مسلم: "فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية المتقدمة "فقالوا له" فدلت هذه الرواية على أن الذي خاطبه منهم واحد وهو معاذ بن جبل كما بينته رواية أبي داود ولفظه: "قال فجعل معاذ يأمره، فأبى وضحك وجعل يزداد غضبا". قوله: "وقال تعوذ بالله" في الرواية المذكورة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعوذ بالله" وهو بالمعنى فإنه صلى الله عليه وسلم أرشده إلى ذلك، وليس في الخبر أنه أمرهم أن يأمروه بذلك، لكن استفادوا ذلك من طريق عموم الأمر بالنصيحة للمسلمين. قوله: "أترى بي بأس" بضم التاء أي أتظن، ووقع "بأس" هنا بالرفع للأكثر وفي بعضها "بأسا" بالنصب وهو أوجه. قوله: "أمجنون أنا" في الرواية المذكورة "وهل بي من جنون؟" قوله: "اذهب" هو خطاب من الرجل للرجل الذي أمره بالتعوذ أي امض في شغلك. وأخلق بهذا المأمور أن يكون كافرا أو منافقا، أو كان غلب عليه الغضب حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج الغضب بهذا الجواب السيء، وقيل: إنه كان من جفاة الأعراب وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون، ولم يعلم أن الغضب نوع من شر الشيطان ولهذا يخرج به عن صورته ويزين إفساد ما له كتقطيع ثوبه وكسر آنيته أو الإقدام على من أغضبه ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال، وقد أخرج أبو داود من حديث عطية السعدي رفعه: "إن الغضب من الشيطان" الحديث. حديث عبادة بن الصامت في ذكر ليلة القدر وقد تقدم في أواخر الصيام مشروحا وأورده هنا لقوله فيه: "فتلاحى" أي تنازع، والتلاحي بالمهملة أي التجادل والتنازع، وهو يفضي في الغالب إلى المساببة

(10/467)


وتقدم أن الرجلين هما كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد. حديث أبي ذر "ساببت رجلا" وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان وأن الرجل المذكور هو بلال المؤذن، وكان اسم أمه حمامة بفتح المهملة وتخفيف الميم. وقوله: "إنك امرؤ فيك جاهلية" التنوين للتقليل، والجاهلية ما كان قبل الإسلام، ويحتمل أن يراد بها هنا الجهل أي إن فيك جهلا. وقوله: "قلت على ساعتي هذه من كبر السن" أي هل في جاهلية أو جهل وأنا شيخ كبير؟ وقوله: "هم إخوانكم" أي العبيد أو الخدم حتى يدخل من ليس في الرق منهم، وقرينة قوله: "تحت أيديكم" ترشد إليه، ويؤخذ منه المبالغة في ذم السب واللعن لما فيه من احتقار المسلم، وقد جاء الشرع بالتسوية بين المسلمين في معظم الأحكام، وأن التفاضل الحقيقي بينهم إنما هو بالتقوى، فلا يفيد الشريف النسب نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى، وينتفع الوضيع النسب بالتقوى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .

(10/468)


3 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ.
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟" وَمَا لاَ يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ.
6051- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِي الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا قَصُرَتْ الصَّلاَةُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ فَقَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ قَالُوا بَلْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ" .
قوله: "باب ما يجوز من ذكر الناس" أي بأوصافهم "نحو قولهم الطويل والقصير. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يقول ذو اليدين، وما لا يراد به شين الرجل" هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الألقاب وما لا يعجب الرجل أن يوصف به مما هو فيه. وحاصله أن اللقب إن كان مما يعجب الملقب ولا إطراء فيه مما يدخل في نهي الشرع فهو جائز أو مستحب، وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا إن تعين طريقا إلى التعريف به حيث يشتهر به ولا يتميز عن غيره إلا بذكره، ومن ثم أكثر الرواة من ذكر الأعمش والأعرج ونحوهما وعارم وغندر وغيرهم، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لما سلم في ركعتين من صلاة الظهر فقال: "أكما يقول ذو اليدين؟" وقد أورده المصنف في الباب ولم يذكر هذه الزيادة. وقال في سياق الرواية التي أوردها "وفي القوم رجل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه ذا اليدين" وأما الرواية التي علقها في الباب فوصلها في "باب تشبيك الأصابع" في أوائل كتاب الصلاة من طريق ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة ولكن لفظه: "أكما يقول ذو اليدين؟" وقد أخرجه مسلم من طريق أيوب عن ابن سيرين بلفظ: "ما يقول ذو اليدين؟" وهو المطابق للتعليق المذكور، وإلى ما ذهب إليه البخاري من التفصيل في ذلك ذهب الجمهور، وشذ قوم فشددوا حتى نقل عن الحسن البصري أنه كان يقول: أخاف أن يكون قولنا حميدا الطويل غيبة، وكأن

(10/468)


البخاري لمح بذلك حيث ذكر قصة ذي اليدين وفيها "وفي القوم رجل في يديه طول" قال ابن المنير أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا إن كان للبيان والتمييز فهو جائز وإن كان للتنقيص لم يجز، قال: وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها فأشارت بيدها أنها قصيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغتبتيها" وذلك أنها لم تفعل هذا بيانا إنما قصدت الإخبار عن صفتها فكان كالاغتياب انتهى. الحديث المذكور أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب الغيبة" وابن مردويه في "التفسير" و(1) في(1) من طريق حبان بن مخارق عن عائشة وهو(1) .
ـــــــ
(1) كذا بياض بالأصل

(10/469)


46 - باب الْغِيبَةِ. وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
6052- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِداً يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا هَذَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِداً وَعَلَى هَذَا وَاحِداً ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا" .
قوله: "باب الغيبة وقول الله تعالى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية" هكذا اكتفى بذكر الآية المصرحة بالنهي عن الغيبة ولم يذكر حكمها كما ذكر حكم النميمة بعد بابين حيث جزم بأن النميمة من الكبائر، وقد اختلف في حد الغيبة وفي حكمها، فأما حدها فقال الراغب: هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك. وقال الغزالي: حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه. وقال ابن الأثير في النهاية: الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه. وقال النووي في "الأذكار" تبعا للغزالي: ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز. قال النووي: وممن يستعمل التعريض في ذلك كثير من الفقهاء في التصانيف وغيرها كقولهم قال بعض من يدعي العلم أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو نحو ذلك مما يفهم السامع المراد به، ومنه قولهم عند ذكره: الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة. وتمسك من قال: إنها لا يشترط فيها غيبة الشخص بالحديث المشهور الذي أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رفعه: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكرهه. قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" وله شاهد مرسل عن المطلب بن عبد الله عند مالك، فلم يقيد ذلك بغيبة الشخص فدل على أن لا فرق بين أن يقول ذلك في غيبته أو في حضوره، والأرجح اختصاصها بالغيبة مراعاة لاشتقاقها؛ وبذلك جزم أهل اللغة. قال ابن التين: الغيبة ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب. وكذا قيده الزمخشري وأبو نصر القشيري في

(10/469)


التفسير وابن خميس في جزء له مفرد في الغيبة والمنذري وغير واحد من العلماء من آخرهم الكرماني قال: الغيبة أن تتكلم خلف الإنسان بما يكرهه لو سمعه وكان صدقا. قال: وحكم الكناية والإشارة مع النية كذلك. وكلام من أطلق منهم محمول على المقيد في ذلك. وقد وقع في حديث سليم بن جابر(1) والحديث سيق لبيان صفتها واكتفي باسمها على ذكر محلها. نعم المواجهة بما ذكر حرام لأنه داخل في السب والشتم، وأما حكمها فقال النووي في "الأذكار": الغيبة والنميمة محرمتان بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك. وذكر في "الروضة" تبعا للرافعي أنها من الصغائر، وتعقبه جماعة. ونقل أبو عبد الله القرطبي في تفسيره الإجماع على أنها من الكبائر لأن حد الكبيرة صادق عليها لأنها مما ثبت الوعيد الشديد فيه. وقال الأذرعي لم أر من صرح بأنها من الصغائر إلا صاحب العدة(2) والغزالي. وصرح بعضهم بأنها من الكبائر. وإذا لم يثبت الإجماع فلا أقل من التفصيل، فمن اغتاب وليا لله أو عالما ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلا. وقد قالوا: ضابطها ذكر الشخص بما يكره، وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه، وقد يشتد تأذيه بذلك وأذى المسلم محرم. وذكر النووي من الأحاديث الدالة على تحريم الغيبة حديث أنس رفعه: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" أخرجه أبو داود وله شاهد عن ابن عباس عند أحمد وحديث سعيد بن زيد رفعه: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" أخرجه أبو داود، وله شاهد عند البزار وابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة، وعند أبي يعلى من حديث عائشة، ومن حديث أبي هريرة رفعه: "من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب له يوم القيامة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا، فيأكله ويكلح ويصيح" سنده حسن. وفي "الأدب المفرد" عن ابن مسعود قال: "ما التقم أحد لقمة شرا من اغتياب مؤمن" الحديث، وفيه أيضا وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة ماعز ورجمه في الزنا "وإن رجلا قال لصاحبه انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم كلا من جيفة هذا الحمار - لحمار ميت - فما نلتما من عرض هذا الرجل أشد من أكل هذه الجيفة" وأخرج أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" بسند حسن عن جابر قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهاجت ريح منتنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين" وهذا الوعيد في هذه الأحاديث يدل على أن الغيبة من الكبائر، لكن تقييده في بعضها بغير حق قد يخرج الغيبة بحق لما تقرر أنها ذكر المرء بما فيه. حديث ابن عباس قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين يعذبان" الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، وليس فيه ذكر الغيبة بل فيه يمشي بالنميمة، قال ابن التين: إنما ترجم بالغيبة وذكر النميمة لأن الجامع بينهما ذكر ما يكرهه المقول فيه يظهر الغيب. وقال الكرماني: الغيبة نوع من النميمة لأنه لو سمع المنقول عنه ما نقل عنه لغمه. قلت: الغيبة قد توجد في بعض صور النميمة، وهو أن يذكره في غيبته بما فيه مما يسوؤه قاصدا بذلك الإفساد، فيحتمل أن تكون قصة الذي كان يعذب في قبره كانت كذلك، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما رد في بعض طرقه بلفظ الغيبة صريحا، وهو ما أخرجه هو في "الأدب المفرد" من حديث جابر قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتى على قبرين - فذكر فيه نحو حديث الباب وقال فيه - أما أحدهما فكان يغتاب الناس" الحديث. وأخرج أحمد والطبراني بإسناد صحيح عن أبي بكرة قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما
ـــــــ
(1) بياض بأصله.
(2) في نسخة العمدة.

(10/470)


يعذبان، وما يعذبان في كبير وبكى - وفيه - وما يعذبان إلا في الغيبة والبول" ولأحمد والطبراني أيضا من حديث يعلى بن شبابة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر يعذب صاحبه فقال: إن هذا كان يأكل لحوم الناس ثم دعا بجريدة رطبة" الحديث، ورواته موثقون. ولأبي داود الطيالسي عن ابن عباس بسند جيد مثله. وأخرجه الطبراني وله شاهد عن أبي أمامة عند أبي جعفر الطبري في التفسير. وأكل لحوم الناس يصدق على النميمة والغيبة. والظاهر اتحاد القصة، ويحتمل التعدد، وتقدم بيان ذلك واضحا في كتاب الطهارة.

(10/471)


47 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ ...".
6053- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ" .
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم خير دور الأنصار" ذكر فيه أول حديث أبي أسيد الساعدي، وقد تقدم في المناقب بتمامه وقي إيراده هذه الترجمة هنا إشكال، لأن هذا ليس من الغيبة أصلا إلا إن أخذ من أن المفضل عليهم يكرهون ذلك فيستثنى ذلك من عموم قوله: "ذكرك أخاك بما يكره" ويكون محل الزجر إذا لم يترتب عليه حكم شرعي، فأما ما يترتب عليه حكم شرعي فلا يدخل في الغيبة ولو كرهه المحدث عنه، ويدخل في ذلك ما يذكر لقصد النصيحة من بيان غلط من يخشى أن يقلد أو يغتر به في أمر ما، فلا يدخل ذكره بما يكره من ذلك في الغيبة المحرمة كما سيأتي، وإليه يشير ما ترجم به المصنف عقب هذا. حديث أبي أسيد الساعدي، وقد تقدم في المناقب بتمامه. قال ابن التين: في حديث أبي أسيد دليل على جواز المفاضلة بين الناس لمن يكون عالما بأحوالهم لينبه على فضل الفاضل ومن لا يلحق بدرجته في الفضل، فيمتثل أمره بتنزيل الناس منازلهم، وليس ذلك بغيبة.

(10/471)


48 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ اغْتِيَابِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالرِّيَبِ
6054- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الْكَلاَمَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلاَمَ؟ قَالَ: أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ" .
قوله: "باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد" ذكر فيه حديث عائشة في قوله: "بئس أخو العشيرة" وقد تقدم شرحه قريبا في "باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا". وقد نوزع في كون ما وقع من ذلك غيبة، وإنما هو نصيحة ليحذر السامع، وإنما لم يواجه المقول فيه بذلك لحسن خلقه صلى الله عليه وسلم، ولو واجه المقول فيه بذلك لكان حسنا، ولكن حصل القصد بدون مواجهة. والجواب أن المراد أن صورة الغيبة موجودة فيه وإن لم يتناول الغيبة المذمومة شرعا، وغايته أن تعريف الغيبة المذكور أولا هو اللغوي، وإذا استثني منه ما ذكر كان ذلك تعريفها الشرعي. قوله في الحديث: "إن شر الناس" استئناف كلام كالتعليل لتركه مواجهته بما ذكره في غيبته، ويستنبط منه

(10/471)


باب الغيبة من الكبائر
...
49 - باب النَّمِيمَةُ مِنْ الْكَبَائِرِ
6055- حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبِيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْضِ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا فَقَالَ: يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا بِكِسْرَتَيْنِ أَوْ ثِنْتَيْنِ فَجَعَلَ كِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا وَكِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا فَقَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا" .
قوله: "باب النميمة من الكبائر" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر وحده. حديث ابن عباس في قصة القبرين، وهو ظاهر فيما ترجم به، لقوله في سياقه "وإنه لكبير" وقد تقدم القول فيه في كتاب الطهارة، وقد صحح ابن حبان من حديث أبي هريرة بلفظ: "وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه ويمشي بينهم بالنميمة". "لطيفة": أبدى بعضهم للجمع بين هاتين الخصلتين مناسبة، وهي أن البرزخ مقدمة الآخرة، وأول ما يقضي فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة ومن حقوق العباد الدماء، ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة بنشر الفتن التي يسفك بسببها الدماء.

(10/472)


باب ما يكره من الغيبة
...
50 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ النَّمِيمَةِ.
وَقَوْلِهِ تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} يَهْمِزُ وَيَلْمِزُ وَيَعِيبُ وَاحِدٌ
6056- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: "كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ رَجُلاً يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ".
قوله: "باب ما يكره من النميمة" كأنه أشار بهذه الترجمة إلى بعض القول المنقول على جهة الإفساد يجوز إذا كان المقول فيه كافرا مثلا، كما يجوز التجسس في بلاد الكفار ونقل ما يضرهم. قوله: "وقوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} " قال الراغب همز الإنسان اغتيابه، والنم إظهار الحديث بالوشاية، وأصل النميمة الهمس والحركة. قوله: "{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} يهمز ويلمز ويعيب واحد" كذا للأكثر بكسر العين المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة، ووقع في رواية الكشميهني ويغتاب بغين معجمة ساكنة ثم مثناة وأظنه تصحيفا، والهمزة الذي يكثر منه الهمز

(10/472)


51 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
6057- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" قَالَ أَحْمَدُ: أَفْهَمَنِي رَجُلٌ إِسْنَادَهُ.
قوله: "باب قول الله تعالى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} " قال الراغب: الزور الكذب، قيل له ذلك لكونه مائلا عن الحق، والزور بفتح الزاي الميل. وكان موقع هذه الترجمة للإشارة إلى أن القول المنقول بالنميمة لما كان أعم من أن يكون صدقا أو كذبا فالكذب فيه أقبح. قوله: "حدثنا أحمد بن يونس" هو أحمد بن عبد الله بن يونس نسب إلى جده، وقد تقدم حديث الباب في أوائل الصيام أخرجه عن آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب بالسند والمتن

(10/473)


وتقدم شرحه هناك، وقوله هنا في آخره: "قال أحمد أفهمني رجل إسناده" أحمد هو ابن يونس المذكور. والمعنى أنه لما سمع الحديث من ابن أبي ذئب لم يتيقن إسناده من لفظ شيخه فأفهمه إياه رجل كان معه في المجلس، وقد خالف أبو داود رواية البخاري فأخرج الحديث المذكور عن أحمد بن يونس هذا لكن قال في آخر: "قال أحمد فهمت إسناده من ابن أبي ذئب، وأفهمني الحديث رجل إلى جنبه أراه ابن أخيه" وهكذا أخرجه الإسماعيلي عن إبراهيم بن شريك عن أحمد بن يونس، وهذا عكس ما ذكره البخاري، فإن مقتضى روايته أن المتن فهمه أحمد من شيخه ولم يفهم الإسناد منه بخلاف ما قال أبو داود وإبراهيم بن شريك، فيحمل على أن أحمد بن يونس حدث به على الوجهين. وخبط الكرماني هنا فقال: قال أفهمني أي كنت نسيت هذا الإسناد فذكرني رجل إسناده، ووجه الخبط نسبته إلى أحمد بن يونس نسيان الإسناد وأن التذكير وقع له من الرجل بعد ذلك، وليس كذلك، بل أراد أنه لما سمعه من ابن أبي ذئب خفي عنه بعض لفظه أما على رواية البخاري فمن الإسناد، وأما على رواية أبي داود فمن المتن، وكان الرجل بجنبه فكأنه استفهمه عما خفي عليه منه فأفهمه، فلما كان بعد ذلك وتصدى للتحديث به أخبر بالواقع ولم يستجز أن يسنده عن ابن أبي ذئب بغير بيان. وقد وقع مثل ذلك لكثير من المحدثين، وعقد الخطيب لذلك بابا في كتاب "الكفاية" وانظر إلى قوله: "أفهمني رجل إلى جنبه" أي إلى جنب ابن أبي ذئب. ثم قال الكرماني: وأراد رجل عظيم والتنوين يدل عليه والغرض مدح شيخه ابن أبي ذئب أو رجل آخر غيره أفهمني اهـ. ولم يتعين أنه تعظيم للرجل الذي أفهمه من مجرد قوله رجل، بل الذي فيه أنه إنما نسي اسمه فعبر عنه برجل أو كنى عن اسمه عمدا، وأما مدح شيخه فليس في السياق ما يقتضيه. قلت: وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة المخزومي، وكان له أخوان المغيرة وطالوت، ولم أقف على اسم ابن أخيه المذكور ولا على تعيين أبيه أيهما هو، قال ابن التين: ظاهر الحديث أن من اغتاب في صومه فهو مفطر، وإليه ذهب بعض السلف، وذهب الجمهور إلى خلافه، لكن معنى الحديث أن الغيبة من الكبائر وأن إثمها لا يفي له بأجر صومه فكأنه في حكم المفطر. قلت: وفي كلامه مناقشة لأن حديث الباب لا ذكر للغيبة فيه، وإنما فيه قول الزور والعمل به والجهل، ولكن الحكم والتأويل في كل ذلك ما أشار إليه والله أعلم. وقوله فيه: "فليس لله حاجة" هو مجاز عن عدم قبول الصوم.

(10/474)


52 - باب مَا قِيلَ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ
6058- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ" .
قوله: "باب ما قيل في ذي الوجهين" أورد فيه حديث أبي هريرة وفيه تفسيره وهو من جملة صور التمام. قوله: "تجد من شرار الناس" كذا وقع في رواية الكشميهني: "شرار" بصيغة الجمع، وأخرجه الترمذي من طريق أبي معاوية عن الأعمش بلفظ: "إن من شر الناس" وقد تقدم في أوائل المناقب في طريق عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عنه عن أبي هريرة بلفظ: "تجدون شر الناس" وأخرجه مسلم من هذا الوجه ومن رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عنه بلفظ: "تجدون من شر الناس ذا الوجهين" وأخرجه أبو داود من رواية سفيان بن عيينة

(10/474)


عن أبي الزناد عن الأعرج عنه بلفظ: "من شر الناس ذو الوجهين" ولمسلم من رواية مالك عن أبي الزناد "إن من شر الناس ذا الوجهين" وسيأتي في الأحكام من طريق عراك بن مالك عنه بلفظ: " إن شر الناس ذو الوجهين" وهو عند مسلم أيضا، وهذه الألفاظ متقاربة والروايات التي فيها "شر الناس" محمولة على الرواية التي فيها "من شر الناس" ووصفه بكونه شر الناس أو من شر الناس مبالغة في ذلك، ورواية: "أشر الناس" بزيادة الألف لغة في شر يقال خير وأخير وشر وأشر بمعنى ولكن الذي بالألف أقل استعمالا، ويحتمل أن يكون المراد بالناس من ذكر من الطائفتين المتضادتين خاصة، فإن كل طائفة منهما مجانبة للأخرى ظاهرا فلا يتمكن من الاطلاع على أسرارها إلا بما ذكر من خداعه الفريقين ليطلع على أسرارهم فهو شرهم كلهم. والأولى حمل الناس على عمومه فهو أبلغ في الذم، وقد وقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبي شهاب عن الأعمش بلفظ: "من شر خلق الله ذو الوجهين" قال القرطبي: إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق، إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس. وقال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين، وهي مداهنة محرمة. قال: فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود. وقال غيره: الفرق بينهما أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليه ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح. ويؤيد هذه التفرقة رواية الإسماعيلي من طريق ابن نمير عن الأعمش "الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء" وقال ابن عبد البر: حمله على ظاهره جماعة وهو أولى، وتأوله قوم على أن المراد به من يرائي بعمله فيري الناس خشوعا واستكانة ويوهمهم أنه يخشى الله حتى يكرموه وهو في الباطن بخلاف ذلك، قال: وهذا محتمل لو اقتصر في الحديث على صدره فإنه داخل في مطلق ذي الوجهين، لكن بقية الحديث ترد هذا التأويل وهي قوله: "يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" قلت: وقد اقتصر في رواية الترمذي على صدر الحديث، لكن دلت بقية الروايات على أن الراوي اختصره، فإنه عند الترمذي من رواية الأعمش، وقد ثبت هنا من رواية الأعمش بتمامه، ورواية ابن نمير التي أشرت إليها هي التي ترد التأويل المذكور صريحا، وقد رواه البخاري في "الأدب المفرد" من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: "لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا". وأخرج أبو داود من حديث عمار بن ياسر قال: "قال رسول الله صلى الله علبه وسلم: من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار" وفي الباب عن أنس أخرجه ابن عبد البر بهذا اللفظ، وهذا يتناول الذي حكاه ابن عبد البر عمن ذكره بخلاف حديث الباب فإنه فسر من يتردد بين طائفتين من الناس، والله أعلم.

(10/475)


53 - باب مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يُقَالُ فِيهِ
6059- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ" .
قوله: "باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه" قد تقدمت الإشارة إلى أن المذموم من نقلة الأخبار من يقصد

(10/475)


الإفساد، وأما من يقصد النصيحة ويتحرى الصدق ويجتنب الأذى فلا، وقل من يفرق بين البابين، فطريق السلامة في ذلك لمن يخشى عدم الوقوف على ما يباح من ذلك مما لا يباح الإمساك عن ذلك. حديث ابن مسعود في إخباره النبي صلى الله عليه وسلم بقول القائل "هذه قسمة ما أريد بها وجه الله" سيأتي شرحه مستوفى في "باب الصبر على الأذى" إن شاء الله تعالى. وقوله في هذه الرواية فتمعر وجهه بالعين المهملة أي تغير من الغضب، وللكشميهني فتمغر بالغين المعجمة أي صار لونه لون المغرة، وأراد البخاري بالترجمة بيان جواز النقل على وجه النصيحة، لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن مسعود نقله ما نقل، بل غضب من قول المنقول عنه، ثم حلم عنه وصبر على أذاه ائتساء بموسى عليه السلام وامتثالا لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .

(10/476)


54 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّمَادُحِ
6060- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: " سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ فَقَالَ أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ ".
6061- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْراً. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ يَقُولُهُ مِرَاراً إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحاً لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللَّهُ وَلاَ يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَداً قَالَ وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ وَيْلَكَ" .
قوله: "باب ما يكره من التمادح" هو تفاعل من المدح أي المبالغ، والتمدح التكلف والممادحة أي مدح كل من الشخصين الآخر، وكأنه ترجم ببعض ما يدل عليه الخبر لأنه أعم من أن يكون من الجانبين أو من جانب واحد، ويحتمل أن لا يريد حمل التفاعل فيه على ظاهره، وقد ترجم له في الشهادات "ما يكره من الإطناب في المدح". حديث أبي موسى قال فيه حدثنا محمد بن الصباح بفتح المهملة وتشديد الموحدة وآخره حاء مهملة هو البزار، ووقع هنا في رواية أبي ذر "محمد بن صباح" بغير ألف ولام، وتقدم الكل في الشهادات بهذا الحديث بعينه، وأخرجه مسلم عنه فقال: "حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح" وهذا الحديث هما اتفق الشيخان على تخريجه عن شيخ واحد، ومما ذكره البخاري بسنده ومتنه في موضعين ولم يتصرف في متنه ولا إسناده وهو قليل في كتابه، وقد أخرجه أحمد في مسنده عن محمد بن الصباح. وقال عبد الله بن أحمد بعد أن أخرجه عن أبيه عنه: قال عبد الله وسمعته أنا من محمد بن الصباح فذكره، وإسماعيل بن زكريا شيخه هو الخلقاني بضم المعجمة وسكون اللام بعدها قاف، وبريدة بموحدة وراء يكنى أبا بردة مثل كنية جده وهو شيخه فيه، وقوله عن بريد في رواية الإسماعيلي: "حدثنا بريد" قوله: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل" لم أقف على اسمهما صريحا، ولكن أخرج أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" من حديث محجن بن الأدرع الأسلمي قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي" فذكر

(10/476)


حديثا قال فيه: " فدخل المسجد فإذا رجل يصلي، فقال لي من هذا؟ فأثنيت عليه خيرا، فقال: اسكت لا تسمعه فتهلكه" وفي رواية له "فقلت يا رسول الله هذا فلان وهذا وهذا" وفي أخرى له "هذا فلان وهو من أحسن أهل المدينة صلاة، أو من أكثر أهل المدينة" الحديث. والذي أثنى عليه محجن يشبه أن يكون هو عبد الله ذو النجادين المزني، فقد ذكرت في ترجمته في الصحابة ما يقرب ذلك. قوله: "ويطريه" بضم أوله وبالطاء المهملة من الإطراء وهو المبالغة في المدح، وسأذكر ما ورد في بيان ما وقع من ذلك في الحديث الذي بعده. قوله: "في المدحة" بكسر الميم، وفي نسخة مضت في الشهادات "في المدح" بفتح الميم بلا هاء، وفي أخرى "في مدحه" بفتح الميم وزيادة الضمير والأول هو المعتمد. قوله: "لقد أهلكتم - أو قطعتم - ظهر الرجل" كذا فيه بالشك، وكذا لمسلم، وسيأتي في حديث أبي بكرة الذي بعده بلفظ: "قطعت عنق صاحبك" وهما بمعنى، والمراد بكل منهما الهلاك لأن من يقطع عنقه يقتل ومن يقطع ظهره يهلك. قوله: "عن خالد" هو الحذاء وصرح به مسلم في روايته من طريق غندر عن شعبة. قوله: "أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا" وفي رواية غندر "فقال: يا رسول الله ما من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه في كذا وكذا" لعله يعني الصلاة لما سيأتي. قوله: "ويحك" هي كلمة رحمة وتوجع، وويل كلمة عذاب، وقد تأتي موضع ويح كما سأذكره. قوله: "قطعت عنق صاحبك يقوله مرارا" في رواية يزيد بن زريع عن خالد الحذاء التي مضت في الشهادات "ويحك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك، مرارا" وبين في رواية وهيب التي سأنبه عليها بعد أنه قال ذلك ثلاثا. قوله: "إن كان أحدكم" في رواية يزيد بن زريع "وقال إن كان" قوله: "لا محالة" أي لا حيلة له في ترك ذلك وهي بمعنى لا بد والميم زائدة، ويحتمل أن يكون من الحول أي القوة والحركة. قوله: "فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى" بضم أوله أي يظن ووقع في رواية يزيد بن زريع "إن كان يعلم ذلك" وكذا في رواية وهيب. قوله: "والله حسيبه" بفتح أوله وكسر ثانيه وبعد التحتانية الساكنة موحدة أي كافيه، ويحتمل أن يكون هنا فعيل من الحساب أي محاسبة على عمله الذي يعلم حقيقته، وهي جملة اعتراضية. وقال الطيبي: هي من تتمة المقول، والجملة الشرطية حال من فاعل فليقل، والمعنى فليقل أحسب أن فلانا كذا إن كان يحسب ذلك منه والله يعلم سره لأنه هو الذي يجازيه، ولا يقل أتيقن ولا أتحقق جازما بذلك. قوله: "ولا يزكي على الله أحد" كذا لأبي ذر عن المستملي والسرخسي بفتح الكاف على البناء للمجهول وفي رواية الكشميهني: "ولا يزكي" بكسر الكاف على البناء للفاعل وهو المخاطب أولا المقول له فليقل، وكذا في أكثر الروايات. وفي رواية غندر "ولا أزكي" بهمزة بدل التحتانية أي لا أقطع على عاقبة أحد ولا على ما في ضميره لكون ذلك مغيبا عنه، وجيء بذلك بلفظ الخبر ومعناه النهي أي لا تزكوا أحدا على الله لأنه أعلم بكم منكم. قوله: "قال وهيب عن خالد" يعني بسنده المتقدم "ويلك" أي وقع في روايته ويلك بدل ويحك، وستأتي رواية وهيب موصولة في "باب ما جاء في قول الرجل ويلك" ويأتي شرح هذه اللفظة هناك. قال ابن بطال: حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالا على ما وصف به، ولذلك تأول العلماء في الحديث الآخر "احثوا في وجوه المداحين التراب" أن المراد من يمدح الناس في وجوههم بالباطل. وقال عمر: المدح هو الذبح. قال: وأما من مدح بما فيه فلا يدخل في النهي، فقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجه مادحه ترابا. انتهى ملخصا.

(10/477)


فأما الحديث المشار إليه فأخرجه مسلم من حديث المقداد، وللعلماء فيه خمسة أقوال: أحدها: هذا وهو حمله على ظاهره واستعمله المقداد راوي الحديث. والثاني: الخيبة والحرمان كقولهم لمن رجع خائبا رجع وكفه مملوءة ترابا. والثالث: قولوا له بفيك التراب، والعرب تستعمل ذلك لمن تكره قوله. والرابع: أن ذلك يتعلق بالممدوح كأن يأخذ ترابا فيبذره بين يديه يتذكر بذلك مصيره إليه فلا يطغي بالمدح الذي سمعه. والخامس المراد بحثو التراب في وجه المادح إعطاؤه ما طلب لأن كل الذي فوق التراب تراب، وبهذا جزم البيضاوي وقال: شبه الإعطاء بالحثي على سبيل الترشيح والمبالغة في التقليل والاستهانة، قال الطيبي: ويحتمل أن يراد رفعه عنه وقطع لسانه عن عرضه بما يرضيه من الرضخ، والدافع قد يدفع خصمه بحثي التراب على وجهه استهانة به. وأما الأثر عن عمر فورد مرفوعا أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث معاوية "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" فذكره بلفظ: "إياكم والتمادح فإنه الذبح" وإلى لفظ هذه الرواية رمز البخاري في الترجمة، وأخرجه البيهقي في "الشعب" مطولا وفيه: "وإياكم والمدح فإنه من الذبح" وأما ما مدح به النبي صلى الله عليه وسلم فقد أرشد مادحيه إلى ما يجوز من ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم" الحديث، وقد تقدم بيانه في أحاديث الأنبياء، وقد ضبط العلماء المبالغة الجائزة من المبالغة الممنوعة بأن الجائزة يصحبها شرط أو تقريب، والممنوعة بخلافها، ويستثنى من ذلك ما جاء عن المعصوم فإنه لا يحتاج إلى قيد كالألفاظ التي وصف النبي صلى الله عليه وسلم بها بعض الصحابة مثل قوله لابن عمرو "نعم العبد عبد الله" وغير ذلك وقال الغزالي في "الإحياء" آفة المدح في المادح أنه قد يكذب وقد يرائي الممدوح بمدحه ولا سيما إن كان فاسقا أو ظالما، فقد جاء في حديث أنس رفعه: "إذا مدح الفاسق غضب الرب" أخرجه أبو يعلى وابن أبي الدنيا في الصمت، وفي سنده ضعف، وقد يقول ما لا يتحققه مما لا سبيل له إلى الاطلاع عليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "فليقل أحسب" وذلك كقوله إنه ورع ومتق وزاهد، بخلاف ما لو قال: رأيته يصلي أو يحج أو يزكي فإنه يمكنه الاطلاع على ذلك، ولكن تبقى الآفة على الممدوح، فإنه لا يأمن أن يحدث فيه المدح كبرا أو إعجابا أو يكله على ما شهره به المادح فيفتر عن العمل، لأن الذي يستمر في العمل غالبا هو الذي يعد نفسه مقصرا، فإن سلم المدح من هذه الأمور لم يكن به بأس، وربما كان مستحبا، قال ابن عيينة: من عرف نفسه لم يضره المدح. وقال بعض السلف: إذا مدح الرجل في وجهه فليقل: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون، أخرجه البيهقي في "الشعب".

(10/478)


55 - باب مَنْ أَثْنَى عَلَى أَخِيهِ بِمَا يَعْلَمُ
وَقَالَ سَعْدٌ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلاَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ
6062- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذَكَرَ فِي الإِزَارِ مَا ذَكَرَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ إِزَارِي يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ قَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ".
قوله: "باب من أثنى على أخيه بما يعلم" أي فهو جائز ومستثنى من الذي قبله، والضابط أن لا يكون في المدح

(10/478)


مجازفة، ويؤمن على الممدوح الإعجاب والفتنة كما تقدم. قوله: "وقال سعد" هو ابن أبي وقاص، وتقدم الحديث المذكور موصولا في مناقب عبد الله من كتاب المناقب. ذكر المصنف حديث ابن عمر موصولا في قصة جر الإزار "فقال أبو بكر: إن إزاري يسقط من أحد شقيه، قال: إنك لست منهم " وقد تقدم أبسط من هذا في كتاب اللباس، وفي لفظ: "إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء" وهذا من جملة المدح، لكنه لما كان صدقا محضا وكان الممدوح يؤمن معه الإعجاب والكبر مدح به، ولا يدخل ذلك في المنع، ومن جملة ذلك الأحاديث المتقدمة في مناقب الصحابة ووصف كل واحد منهم بما وصف به من الأوصاف الجميلة كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر " ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك" وقوله للأنصاري " عجب الله من صنعكما " وغير ذلك من الأخبار.

(10/479)


باب قول الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يظكم لعلكم تذكرون}
...
56 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} وَتَرْكِ إِثَارَةِ الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ
6063- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي ذَاتَ يَوْمٍ: " يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِي أَمْرٍ اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلاَنِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيَّ وَالْآخَرُ عِنْدَ رَأْسِي فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي مَا بَالُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ يَعْنِي مَسْحُوراً قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ قَالَ وَفِيمَ قَالَ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْرِجَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلاَ تَعْنِي تَنَشَّرْتَ؟ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَمَّا أَنَا فَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرّاً" قَالَتْ وَلَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ".
قوله: "باب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} الآية" كذا لأبي ذر والنسفي، وساق الباقون إلى {تَذَكَّرُونَ} وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق أبي الضحى قال: "قال شتير بن شكل لمسروق: حدث يا أبا عائشة وأصدقك. قال: هل سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ما في القرآن آية أجمع لحلال وحرام وأمر ونهي من هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} ؟ قال نعم" وسنده صحيح. قوله: "وقوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} " أي إن أثم البغي على الباغي إما عاجلا وإما آجلا. قوله: "وقوله: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} " كذا في رواية كريمة والأصيلي على وفق التلاوة، وكذا في رواية النسفي وأبي ذر وللباقين "ومن بغي عليه" وهو سبق قلم إما من المصنف وإما ممن بعده، كما أن المطابق للتلاوة إما من المصنف وإما من إصلاح من بعده، وإذا لم تتفق الروايات على شيء فمن جزم بأن الوهم من المصنف فقد تحامل عليه. قال

(10/479)


الراغب: البغي مجاوزة القصد في الشيء. فمنه ما يحمد ومنه ما يذم، فالمحمود مجاوزة العدل الذي هو الإتيان بالمأمور بغير زيادة فيه ولا نقصان منه إلى الإحسان وهو الزيادة عليه، ومنه الزيادة على الفرض بالتطوع المأذون فيه، والمذموم مجاوزة العدل إلى الجور والحق إلى الباطل والمباح إلى الشبهة، ومع ذلك فأكثر ما يطلق البغي على المذموم قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقال تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} وإذا أطلق البغي وأريد به المحمود يزاد فيه غالبا التاء كما قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} وقال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} وقال غيره: البغي الاستعلاء بغير حق، ومنه بغي الجرح إذا فسد. قوله: "وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر" ثم ذكر فيه حديث عائشة في قصة الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ابن بطال: وجه الجمع بين الآيات المذكورة وترجمة الباب مع الحديث أن الله لما نهى عن البغي، وأعلم أن ضرر البغي إنما هو راجع إلى الباغي، وضمن النصر لمن بغي عليه كان حق من بغي عليه أن يشكر الله على إحسانه إليه بأن يعفو عمن بغى عليه، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقب الذي كاده بالسحر مع قدرته على ذلك. انتهى ملخصا. ويحتمل أن يكون مطابقة الترجمة للآيات والحديث أنه صلى الله عليه وسلم ترك استخراج السحر خشية أن يثور على الناس منه شر فسلك مسلك العدل في أن لا يحصل لمن لم يتعاط السحر من آثر الضرر الناشئ عن السحر شر، وسلك مسلك الإحسان في ترك عقوبة الجاني كما سبق. وقال ابن التين: يستفاد من الآية الأولى أن دلالة الاقتران ضعيفة، لجمعه تعالى بين العدل والإحسان في أمر واحد، والعدل واجب والإحسان مندوب. قلت: وهو مبني على تفسير العدل والإحسان، وقد اختلف السلف في المراد بهما في الآية فقيل: العدل لا إله إلا الله، والإحسان الفرائض. وقيل: العدل لا إله إلا الله، والإحسان الإخلاص. وقيل: العدل خلع الأنداد، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. وهو بمعنى الذي قبله. وقيل: العدل الفرائض، والإحسان النافلة. وقيل: العدل العبادة، والإحسان الخشوع فيها. وقيل: العدل الإنصاف، والإحسان التفضل. وقيل: العدل امتثال المأمورات، والإحسان اجتناب المنهيات. وقيل: العدل بذل الحق، والإحسان ترك الظلم. وقيل: العدل استواء السر والعلانية، والإحسان فضل العلانية. وقيل: العدل البذل، والإحسان العفو. وقيل: العدل في الأفعال، والإحسان في الأقوال. وقيل غير ذلك. وأقر بها لكلامه الخامس والسادس. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: العدل بن العبد وربه بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، وبين العبد وبين نفسه بمزيد الطاعات وتوقي الشبهات الشهوات، وبين العبد وبين غيره بالإنصاف. انتهى ملخصا. وقال الراغب: العدل ضربان مطلق يقتضي العقل حسنه ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا ولا يوصف بالاعتداء بوجه، نحو أن تحسن لمن أحسن إليك وتكف الأذى عمن كف أذاه عنك. وعدل يعرف بالشرع ويمكن أن يدخله النسخ ويوصف بالاعتداء مقابلة كالقصاص وأرش الجنايات وأخذ مال المرتد، ولذا قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية، وهذا النحو هو المعنى بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} فإن العدل هو المساواة في المكافأة في خير أو شر، والإحسان مقابلة الخير بأكثر منه والشر بالترك أو بأقل منه. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "مطبوب، يعني مسحورا" هذا التفسير مدرج في الخبر، وقد بينت ذلك عند شرح الحديث في كتاب الطب، وكذا قوله: "فهلا" تعني تنشرت. ومن قال هو مأخوذ من النشرة أو من نشر الشيء بمعنى إظهاره. وكيف يجمع بين قولها "فأخرج" وبين

(10/480)


قولها في الرواية الأخرى "هلا استخرجته" وأن حاصله أن الإخراج الواقع كان لأصل السحر والاستخراج المنفي كان لأجزاء السحر. وقوله في آخره: "حليف ليهود" وقع في رواية الكشميهني هنا "لليهود" بزيادة لام

(10/481)


باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر وقوله تعالى: {من شر حاسد إذا حسد}
...
57 - باب مَا يُنْهَى عَنْ التَّحَاسُدِ وَالتَّدَابُرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}
6064- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً" .
6065- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ" .
[الحديث 6065 – طرفه في: 6076]
قوله: "باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر" كذا للأكثر، وعند الكشميهني وحده "من" بدل "عن". وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} أشار بذكر هذه الآية إلى أن النهي عن التحاسد ليس مقصورا على وقوعه بين اثنين فصاعدا، بل الحسد مذموم ومنهي عنه ولو وقع من جانب واحد، لأنه إذا ذم مع وقوعه مع المكافأة فهو مذموم مع الإفراد بطريق الأولى. قوله: "بشر بن محمد" هو المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "إياكم والظن" قال الخطابي وغيره ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تناط به الأحكام غالبا، بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بغير دليل، وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يمكن دفعها، وما لا يقدر عليه لا يكلف به، ويؤيده حديث: "تجاوز الله للأمة عما حدثت به أنفسها" وقد تقدم شرحه. وقال القرطبي: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم رجلا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، ولذلك عطف عليه قوله: "ولا تجسسوا" وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع، فنهى عن ذلك، وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} ، فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان أبحث لأتحقق، قيل له "ولا تجسسوا" فإن قال تحققت من غير تجسس قيل له "ولا يغتب بعضكم بعضا" وقال عياض: استدل بالحديث قوم على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي، وحمله المحققون على ظن مجرد عن الدليل ليس مبنيا على أصل ولا تحقيق نظر. وقال النووي: ليس المراد في الحديث بالظن ما يتعلق بالاجتهاد الذي يتعلق بالأحكام أصلا، بل الاستدلال به لذلك ضعيف أو باطل. وتعقب بأن ضعفه ظاهر وأما بطلانه فلا، فإن اللفظ صالح لذلك، ولا سيما إن حمل على ما ذكره القاضي عياض وقد قربه في "المفهم" وقال: الظن الشرعي الذي هو تغليب أحد الجانبين أو هو بمعنى اليقين ليس مرادا من الحديث ولا من الآية. فلا يلتفت لمن استدل بذلك على إنكار الظن الشرعي. وقال ابن عبد البر: احتج به بعض الشافعية على من قال بسد الذريعة في البيع فأبطل بيع العينة، ووجه

(10/481)


الاستدلال النهي عن الظن بالمسلم شرا، فإذا باع شيئا حمل على ظاهره الذي وقع العقد به ولم يبطل بمجرد توهم أنه سلك به مسلك الحيلة، ولا يخفى ما فيه. وأما وصف الظن بكونه أكذب الحديث، مع أن تعمد الكذب الذي لا يستند إلى ظن أصلا أشد من الأمر الذي يستند إلى الظن، فللإشارة إلى أن الظن المنهي عنه هو الذي لا يستند إلى شيء يجوز الاعتماد عليه فيعتمد عليه ويجعل أصلا ويجزم به، فيكون الجازم به كاذبا؛ وإنما صار أشد من الكاذب لأن الكذب في أصله مستقبح مستغنى عن ذمه، بخلاف هذا فإن صاحبه بزعمه مستند إلى شيء فوصف بكونه أشد الكذب مبالغة في ذمه والتنفير منه، وإشارة إلى أن الاغترار به أكثر من الكذب المحض لخفائه غالبا ووضوح الكذب المحض. قوله: "فإن الظن أكذب الحديث" قد استشكلت تسمية الظن حديثا، وأجيب بأن المراد عدم مطابقة الواقع سواء كان قولا أو فعلا، ويحتمل أن يكون المراد ما ينشأ عن الظن فوصف الظن به مجازا. قوله: " ولا تحسسوا ولا تجسسوا" إحدى الكلمتين بالجيم والأخرى بالحاء المهملة، وفي كل منهما حذف إحدى التاءين تخفيفا، وكذا في بقية المناهي التي في حديث الباب، والأصل تتحسسوا، قال الخطابي معناه لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوها، قال الله تعالى حاكيا عن يعقوب عليه السلام {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} وأصل هذه الكلمة التي بالمهملة من الحاسة إحدى الحواس الخمس، وبالجيم من الجس بمعنى اختيار الشيء باليد وهي إحدى الحواس، فتكون التي بالحاء أعم. وقال إبراهيم الحربي: هما بمعنى واحد. وقال ابن الأنباري: ذكر الثاني للتأكيد كقولهم بعدا وسخطا، وقيل بالجيم البحث عن عوراتهم وبالحاء استماع حديث القوم، وهذا رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أحد صغار التابعين. وقيل بالجيم البحث عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر، وبالحاء البحث عما يدرك بحاسة العين والأذن ورجح هذا القرطبي، وقيل بالجيم تتبع الشخص لأجل غيره وبالحاء تتبعه لنفسه وهذا اختيار ثعلب، ويستثنى من النهي عن التجسس ما لو تعين طريقا إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلا كأن يخبر ثقة بأن فلانا خلا بشخص ليقتله ظلما، أو بامرأة ليزني بها، فيشرع في هذه الصورة التجسس والبحث عن ذلك حذرا من فوات استدراكه، نقله النووي عن "الأحكام السلطانية" للماوردي واستجاده، وأن كلامه: ليس للمحتسب أن يبحث عما لما يظهر من المحرمات ولو غلب على الظن استسرار أهلها بها إلا هذه الصورة. قوله: "ولا تحاسدوا" الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها أعم من أن يسعى في ذلك أو لا، فإن سعى كان باغيا، وإن لم يسع في ذلك ولا أظهره ولا تسبب في تأكيد أسباب الكراهة التي نهي المسلم عنها في حق المسلم نظر: فإن كان المانع له من ذلك العجز بحيث لو تمكن لفعل فهذا مأزور، وإن كان المانع له من ذلك التقوى ففد يعذر لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية فيكفيه في مجاهدتها أن لا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها، وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية رفعه: "ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة والظن والحسد. قيل: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قالا: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ " وعن الحسن البصري قال: ما من آدمي إلا وفيه الحسد. فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء. قوله: "ولا تدابروا" قال الخطابي: لا تتهاجروا فيهجر أحدكم أخاه، مأخوذ من تولية الرجل الآخر دبره إذا أعرض عنه حين يراه. وقال ابن عبد البر: قيل للإعراض مدابرة لأن من أبغض أعرض ومن أعرض ولى دبره، والمحب بالعكس. وقيل معناه لا يستأثر أحدكم على الآخر، وقيل للمستأثر مستدبر لأنه يولى دبره حين يستأثر بشيء دون الآخر وقال المازري: معنى

(10/482)


التدابر المعاداة يقول دابرته أي عاديته. وحكى عياض أن معناه لا تجادلوا ولكن تعاونوا، والأول أولى. وقد فسره مالك في "الموطأ" بأخص منه فقال إذ ساق حديث الباب عن الزهري بهذا السند: ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام، يدبر عنه بوجهه. وكأنه أخذه من بقية الحديث: "يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" فإنه يفهم أن صدور السلام منهما أو من أحدهما يرفع ذلك الإعراض، وسيأتي مزيد لهذا في "باب الهجرة" ويؤيده ما أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في "زيادات كتاب البر والصلة" لابن المبارك بسند صحيح عن أنس قال: التدابر التصارم. قوله: "ولا تباغضوا" أي لا تتعاطوا أسباب البغض، لأن البغض لا يكتسب ابتداء. وقيل المراد النهي عن الأهواء المضلة المقتضية للتباغض. قلت: بل هو لأعم من الأهواء، لأن تعاطي الأهواء ضرب من ذلك، وحقيقة التباغض أن يقع بين اثنين وقد يطلق إذا كان من أحدهما، والمذموم منه ما كان في غير الله تعالى، فإنه واجب فيه ويثاب فاعله لتعظيم حق الله ولو كانا أو أحدهما عند الله من أهل السلامة، كمن يؤديه اجتهاده إلى اعتقاد ينافي الآخر فيبغضه على ذلك وهو معذور عند الله. قوله: "وكونوا عباد الله إخوانا" بلفظ المنادي المضاف، زاد مسلم في آخره من رواية أبي صالح عن أبي هريرة "كما أمركم الله" ومثله عنده من طريق قتادة عن أنس، وهذه الجملة تشبه التعليل لما تقدم، كأنه قال إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخوانا ومفهومه إذا لم تتركوها تصيروا أعداء، ومعنى كونوا إخوانا اكتسبوا ما تصيرون به إخوانا مما سبق ذكره وغير ذلك من الأمور المقتضية لذلك إثباتا ونفيا، وقوله: "عباد الله" بحذف حرف النداء، وفيه إشارة إلى أنكم عبيد الله فحقكم أن تتواخوا بذلك، قال القرطبي: المعنى كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة، ولعل قوله في الرواية الزائدة "كما أمركم الله" أي بهذه الأوامر المقدم ذكرها فإنها جامعة لمعاني الأخوة، ونسبتها إلى الله لأن الرسول مبلغ عن الله، وقد أخرج أحمد بسند حسن عن أبي أمامة مرفوعا: "لا أقول إلا ما أقول" ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "كما أمركم الله" الإشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فإنه خبر عن الحالة التي شرعت للمؤمنين، فهو بمعنى الأمر، قال ابن عبد البر: تضمن الحديث تحريم بغض المسلم والإعراض عنه وقطيعته بعد صحبته بغير ذنب شرعي، والحسد له على ما أنعم به عليه، وأن يعامله معاملة الأخ النسيب، وأن لا ينقب عن معايبه، ولا فرق في ذلك بين الحاضر والغائب، وقد يشترك الميت مع الحي في كثير من ذلك.
" تنبيه ": وقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن همام في هذا الحديث من الزيادة "ولا تنافسوا" وكذا وقعت في حديث أبي هريرة من رواية الأعرج وبين الاختلاف فيها في الباب الذي بعده، ووقع عند مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة في آخره: "كما أمركم الله" وقد نبهت عليها. ولمسلم أيضا من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فيه: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" وأفرد هذه الزيادة في البيوع من وجه آخر، ومثله من رواية أبي سعيد مولى عامر بن كريز عن أبي هريرة وزاد بعد قوله: "إخوانا": "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه، التقوى هاهنا ويشير إلى صدره" وزاد في رواية أخرى من هذه الطريق "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" وقد أفردها أيضا من وجه آخر عن أبي هريرة، وزاد البخاري من رواية جعفر بن ربيعة عن الأعرج فيه زيادة سأذكرها في الباب الذي بعده. وهذه الطريق من رواية مولى عامر

(10/483)


أجمع ما وقفت عليه من طرق هذا الحديث عن أبي هريرة، وكأنه كان يحدث به أحيانا مختصرا وطورا بتمامه، وقد فرقه بعض الرواة أحاديث، وممن وقع عنده بعضه مفرقا ابن ماجه في كتاب الزهد من كتابه وهو حديث عظيم اشتمل على جمل من الفوائد والآداب المحتاج إليها. حديث أنس: قوله: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا" هكذا اقتصر الحفاظ من أصحاب الزهري عنه على هذه الثلاثة، وزاد عبد الرحمن بن إسحاق عنه فيه: "ولا تنافسوا" ذكر ذلك ابن عبد البر في "التمهيد" والخطيب في "المدرج" قال: وهكذا قال سعيد بن أبي مريم عن مالك عن ابن شهاب، وقد قال الخطيب وابن عبد البر: خالف سعيد جميع الرواة عن مالك في "الموطأ" وغيره فإنهم لم يذكروا هذه الكلمة في حديث أنس، وإنما هي عندهم في حديث مالك عن أبي الزناد، أي الحديث الذي يلي هذا، فأدرجها ابن أبي مريم في إسناد حديث أنس، وكذا قال حمزة الكناني: لا أعلم أحدا قالها عن مالك في حديث أنس غير سعيد، وسيأتي الكلام على حكم التهاجر، والتنبيه على زيادة وقعت في آخر حديث أنس هذا بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى.

(10/484)


48 - باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا}
6066- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً".
قوله: "باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا} " كذا للجميع، إلا أن لفظ: "باب" سقط من رواية أبي ذر. حديث أبي هريرة من رواية مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عنه فقط، وزعم ابن بطال وتبعه ابن التين أن البخاري أورد فيه حديث أنس - أي المذكور في الباب الذي قبله - ثم حكى ابن بطال عن المهلب أن مطابقته للترجمة من جهة أن البغض والحسد ينشآن عن سوء الظن، قال ابن التين: وذلك أنهما يتأولان أفعال من يبغضانه ويحسدانه على أسوأ التأويل. اهـ. والذي وقفت عليه في النسخ التي وقعت لنا كلها أن حديث أنس في الباب الذي قبله ولا إشكال فيه. قوله فيه "ولا تناجشوا" كذا في جميع النسخ التي وقفت عليها من البخاري بالجيم والشين المعجمة، من النجش وهو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، وقد تقدم بيانه وحكمه في كتاب البيوع، والذي في جميع الروايات عن مالك بلفظ: "ولا تنافسوا" بالفاء والسين المهملة، وكذا أخرجه الدار قطني في "الموطآت" من طريق ابن وهب ومعن وابن القاسم وإسحاق بن عيسى بن الطباع وروح بن عبادة ويحيي بن يحيى التميمي والقعنبي ويحيى بن بكير ومحمد بن الحسن ومحمد بن جعفر الوركاني وأبي مصعب وأبي حذافة كلهم عن مالك، وكذا ذكره ابن عبد البر من رواية يحيى بن يحيي الليثي وغيره عن مالك، وكذا أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى التميمي، وكذلك أخرجه مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ولكنه أخرج من طريق الأعمش عن أبي صالح بلفظ: "ولا تناجشوا" كما وقع عند البخاري ومن طريق أبي سعيد مولى عامر بن كريز كذلك فاختلف فيها على أبي هريرة ثم أبي صالح عنه، فلا يمتنع أن يختلف فيها على مالك، إلا أني ما وجدت ما يعضد رواية عبد الله بن يوسف هذه، ويبعد أن يجتمع الجميع على

(10/484)


شيء وينفرد واحد بخلافه ويكون محفوظا، ولم أر الحديث في نسختي من "مستخرج الإسماعيلي" أصلا فلا أدري سقط عليه أو سقط من النسخة، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من رواية الوركاني عن مالك ووقع فيه عنده ولا تنافسوا كالجماعة، ولكنه قال في آخره: أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك ولم ينبه على هذه اللفظة، فما أدري هل وقع في نسخته على وفاق الجماعة أو على ما عندنا ولم يعتن ببيان ذلك، ولم أر من نبه على هذا الموضع حتى أن الحميدي ساقه من البخاري وحده من رواية جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة، وهذه الطريق قد مضت في أوائل النكاح، وليس فيها هذه اللفظة المختلف فيها ولكن فيها بعد قوله إخوانا "ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" قال: وأخرجه البخاري أيضا من حديث مالك فساقه بهذا السند والمتن بتمامه دون اللفظة التي أتكلم عليها وقال: هكذا أخرجه البخاري في الأدب، وأغفله أبو مسعود، ولكنه ذكر أنه أخرجه من رواية شعيب عن أبي الزناد، ولم أجد ذلك فيه إلا من رواية شعيب عن الزهري عن أنس، قال الحميدي: وأخرجه البخاري من رواية همام عن أبي هريرة نحوه، ومن رواية طاوس عن أبي هريرة مثل رواية الأعرج سواء. قلت: ورواية طاوس تأتي في الفرائض. قال الحميدي: وقد أخرجه مسلم أيضا من رواية مالك عن أبي الزناد فساقه وفيه: "ولا تنافسوا" قال: فهو متفق عليه من رواية مالك لا من أفراد البخاري وكأنه استدرك ذلك على نفسه، والغرض من ذلك أن الحميدي مع تتبعه واعتنائه لم ينبه على ما وقع في هذه اللفظة من الاختلاف، وكذا أغفل ابن عبد البر التنبيه عليها، وهي على شرطه في "التمهيد" وكذلك الدار قطني، ولو تفطن لها لساقها في "غرائب مالك" كعادته في أنظارها، ولكنه لم يتعرض لها فلعلها من تغيير بعض الرواة بعد البخاري. والله أعلم.

(10/485)


59 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الظَّنِّ
6067- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا أَظُنُّ فُلاَناً وَفُلاَناً يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئاً" . قَالَ اللَّيْثُ: كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ.
[الحديث 6067 – طرفه في: 6068]
6068- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بِهَذَا "وَقَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا أَظُنُّ فُلاَناً وَفُلاَناً يَعْرِفَانِ دِينَنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ" .
قوله: "باب ما يجوز من الظن" كذا للنسفي، ولأبي ذر عن الكشميهني، وكذا في ابن بطال. وفي رواية القابسي والجرجاني "ما يكره" وللباقين "ما يكون" والأول أليق بسياق الحديث. قوله: "ما أظن فلانا وفلانا" لم أقف على تسميتهما، وقد ذكر الليث في الرواية الأولى أنهما كانا منافقين. قوله: "يعرفان من ديننا شيئا" وفي الرواية الأخرى "يعرفان ديننا الذي نحن عليه". قال الداودي: تأويل الليث بعيد، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف جميع المنافقين، كذا قال. وقال غيره: الحديث لا يطابق الترجمة لأن في الترجمة إثبات الظن وفي الحديث نفي الظن. والجواب أن النفي في الحديث لظن النفي لا لنفي الظن فلا تنافي بينه وبين الترجمة، وحاصل الترجمة أن مثل هذا الذي

(10/485)


وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه، لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين، والنهي إنما هو عن الظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه، وقد قال ابن عمر: إنا كنا إذا فقدنا الرجل في عشاء الآخرة أسأنا به الظن، ومعناه أنه لا يغيب إلا لأمر سيء إما في بدنه وإما في دينه.

(10/486)


باب ستر المسلم على نفسه
...
60 - باب سَتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ
6069- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ" .
6070- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى. قَالَ: "يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. وَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ" .
قوله: "باب ستر المؤمن على نفسه" أي إذا وقع منه ما يعاب فيشرع له ويندب له. قوله: "عبد العزيز بن عبد الله" هو الأويسي. قوله: "عن ابن أخي ابن شهاب" هو محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري، ووقع في رواية لأبي نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن عبد العزيز شيخ البخاري فيه: "حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن عبد الله ابن أخي ابن شهاب" وقد روى إبراهيم بن سعد عن الزهري نفسه الكبير، وربما أدخل بينهما واسطة مثل هذا. قوله: "عن ابن شهاب" في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه أخرجه مسلم والإسماعيلي. قوله: "كل أمتي معافى " بفتح الفاء مقصور اسم مفعول من العافية وهو إما بمعنى عفا الله عنه وإما سلمه الله وسلم منه. قوله: " إلا المجاهرين" كذا هو للأكثر وكذا في رواية مسلم ومستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم بالنصب. وفي رواية النسفي "إلا المجاهرون" بالرفع وعليها شرح ابن بطال وابن التين وقال: كذا وقع، وصوابه عند البصريين بالنصب، وأجاز الكوفيون الرفع في الاستثناء المنقطع، كذا قال. وقال ابن مالك "إلا" على هذا بمعنى لكن، وعليها خرجوا قراءة ابن كثير وأبي عمرو {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} أي لكن امرأتك {أنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} وكذلك هنا المعنى: لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون، فالمجاهرون مبتدأ والخبر محذوف. وقال الكرماني: حق الكلام النصب إلا أن يقال العفو بمعنى الترك وهو نوع من النفي، ومحصل الكلام كل واحد من الأمة يعفى عن ذنبه ولا يؤاخذ به إلا الفاسق المعلن اهـ. واختصره من كلام الطيبي فإنه قال: كتب في نسخة "المصابيح" المجاهرون بالرفع وحقه النصب، وأجاب بعض شراح المصابيح بأنه مستثنى من قوله معافى وهو في معنى النفي، أي كل أمتي لا ذنب عليهم إلا المجاهرون. وقال الطيبي: الأظهر أن يقال المعنى:

(10/486)


كل أمتي يتركون في الغيبة إلا المجاهرون، والعفو بمعنى الترك وفيه معنى النفي كقوله: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} والمجاهر الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدث بها، وقد ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به اهـ. والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من جاهر بكذا بمعنى جهر به. والنكتة في التعبير بفاعل إرادة المبالغة، ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة والمراد الذي يجاهر بعضهم بعضا بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكد الاحتمال الأول. قوله: "وإن من المجاهرة" كذا لابن السكن والكشميهني وعليه شرح ابن بطال، وللباقين "المجانة" بدل المجاهرة. ووقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد "وإن من الإجهار" كذا عند مسلم. وفي رواية له "الجهار" وفي رواية الإسماعيلي: "الإهجار" وفي رواية لأبي نعيم في المستخرج "وإن من الهجار" فتحصلنا على أربعة أشهرها الجهار ثم تقديم الهاء وبزيادة ألف قبل كل منهما، قال الإسماعيلي: لا أعلم أني سمعت هذه اللفظة في شيء من الحديث، يعني إلا في هذا الحديث. وقال عياض: وقع للعذري والسجزي في مسلم الإجهار وللفارسي الإهجار وقال في آخره: وقال زهير الجهار، هذه الروايات من طريق ابن سفيان وابن أبي ماهان عن مسلم، وفي أخرى عن ابن سفيان في رواية زهير الهجار، قال عياض: الجهار والإجهار والمجاهرة كله صواب بمعنى الظهور والإظهار، ويقال جهر وأجهر بقوله وقراءته إذا أظهر وأعلن لأنه راجع لتفسير قوله أولا "إلا المجاهرون" قال وأما المجانة فتصحيف وإن كان معناها لا يبعد هنا، لأن الماجن هو الذي يستهتر في أموره وهو الذي لا يبالي بما قال وما قيل له. قلت: بل الذي يظهر رجحان هذه الرواية لأن الكلام المذكور بعده لا يرتاب أحد أنه من المجاهرة فليس في إعادة ذكره كبير فائدة، وأما الرواية بلفظ المجانة فتفيد معنى زائدا وهو أن الذي يجاهر بالمعصية يكون من جملة المجان، والمجانة مذمومة شرعا وعرفا، فيكون الذي يظهر المعصية قد ارتكب محذورين: إظهار المعصية وتلبسه بفعل المجان، قال عياض: وأما الإهجار فهو الفحش والخناء وكثرة الكلام، وهو قريب من معنى المجانة، يقال أهجر في كلامه، وكأنه أيضا تصحيف من الجهار أو الإجهار وإن كان المعنى لا يبعد أيضا هنا، وأما لفظ الهجار فبعيد لفظا ومعنى لأن الهجار الحبل أو الوتر تشد به يد البعير أو الحلقة التي يتعلم فيها الطعن ولا يصح له هنا معنى، والله أعلم. قلت: بل له معنى صحيح أيضا فأنه يقال هجر وأهجر إذا أفحش في كلامه فهو مثل جهر وأجهر، فما صح في هذا صح في هذا، ولا يلزم من استعمال الهجار بمعنى الحبل أو غيره أن لا يستعمل مصدرا من الهجر بضم الهاء. قوله: "البارحة" هي أقرب ليلة مضت من وقت القول، تقول لقيته البارحة، وأصلها من برح إذا زال. وورد في الأمر بالستر في الأمر حديث ليس على شرط البخاري وهو حديث ابن عمر رفعه: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله" الحديث أخرجه الحاكم، وهو في "الموطأ" من مرسل زيد بن أسلم، قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تذل أهلها، ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد ومن التعزير إن لم يوجب حدا، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك، وبهذا يعرف موقع إيراد حديث النجوى عقب حديث الباب، وقد استشكلت مطابقته للترجمة من جهة أنها معقودة لستر المؤمن على نفسه والذي في الحديث ستر الله على المؤمن، والجواب أن الحديث مصرح بذم من جاهر بالمعصية فيستلزم

(10/487)


مدح من يستتر، وأيضا فإن ستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه، فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربه فلم يستره، ومن قصد التستر بها حياء من ربه ومن الناس من الله عليه بستره إياه، وقيل إن البخاري يشير بذكر هذا الحديث في هذه الترجمة إلى تقوية مذهبه أن أفعال العباد مخلوقة لله. قوله: "عن صفوان بن محرز" في رواية شيبان عن قتادة "حدثنا صفوان" وتقدم التنبيه عليها في تفسير سورة هود، وصفوان مازني بصري وأبوه بضم أوله وسكون المهملة وكسر الراء ثم الزاي ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في بدء الخلق عنه عن عمران بن حصين وقد ذكرهما في عدة مواضع. قوله: "أن رجلا سأل ابن عمر" في رواية همام عن قتادة الماضية في المظالم عن صفوان قال: "بينما أنا أمشي مع ابن عمر آخذ بيده" وفي رواية سعيد وهشام عن قتادة في تفسير هود "بينما ابن عمر يطوف إذ عرض له رجل" ولم أقف على اسم السائل لكن يمكن أن يكون هو سعيد بن جبير فقد أخرج الطبراني من طريقه قال: "قلت لابن عمر حدثني" فذكر الحديث. قوله: "كيف سمعت" في رواية سعيد وهشام "فقال يا أبا عبد الرحمن" وهي كنية عبد الله بن عمر. قوله: "كيف سمعت رسول الله يقول في النجوى" هي ما تكلم به المرء يسمع نفسه ولا يسمع غيره، أو يسمع غيره سرا دون من يليه، قال الراغب: ناجيته إذا ساررته، وأصله أن تخلو في نجوة من الأرض، وقيل أصله من النجاة وهي أن تنجو بسرك من أن يطلع عليه، والنجوى أصله المصدر، وقد يوصف بها فيقال هو نجوى وهم نجوى، والمراد بها هنا المناجاة التي تقع من الرب سبحانه وتعالى يوم القيامة مع المؤمنين. وقال الكرماني: أطلق على ذلك النجوى لمقابلة مخاطبة الكفار على رءوس الأشهاد هناك. قوله: " يدنو أحدكم من ربه " في رواية سعيد بن أبي عروبة "يدنو المؤمن من ربه" أي يقرب منه قرب كرامة وعلو منزلة. قوله: "حتى يضع كنفه" بفتح الكاف والنون بعدها فاء أي جانبه، والكنف أيضا الستر وهو المراد هنا، والأول مجاز في حق الله تعالى كما يقال فلان في كنف فلان أي في حمايته وكلاءته. وذكر عياض أن بعضهم صحفه تصحيفا شنيعا فقال بالمثناة بدل النون ويؤيد الرواية الصحيحة أنه وقع في رواية سعيد بن جبير بلفظ: "يجعله في حجابه" زاد في رواية همام "وستره". قوله: " فيقول عملت كذا وكذا" في رواية همام فيقول: "أتعرف ذنب كذا وكذا" زاد في رواية سعيد وهشام " فيقرره بذنوبه" وفي رواية سعيد بن جبير "فيقول له أقرأ صحيفتك فيقرأ، ويقرره بذنب ذنب، ويقول أتعرف أتعرف". قوله: "فيقول نعم" زاد في رواية همام "أي رب" وفي رواية سعيد وهشام "فيقول أعرف". قوله: " ثم يقول إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" في رواية سعيد بن جبير "فيلتفت يمنة ويسرة فيقول: لا بأس عليك إنك في ستري لا يطلع على ذنوبك غيري" زاد همام وسعيد وهشام في روايتهم "فيعطى كتاب حسناته" ووقع في بعض روايات سعيد وهشام "فيطوى" وهو خطأ. وفي رواية سعيد بن جبير "اذهب فقد غفرتها لك " ووقع عند الثلاثة "وأما الكافر والمنافق" ولبعضهم "الكفار والمنافقون" وفي رواية سعيد وهشام "وأما الكافر فينادي على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين" وقد تقدم في تفسير هود أن الأشهاد جمع شاهد مثل أصحاب وصاحب، وهو أيضا جمع شهيد كشريف وأشراف، قال المهلب: في الحديث تفضل الله على عباده بستره لذنوبهم يوم القيامة، وأنه يغفر ذنوب من شاء منهم، بخلاف قول من أنفذ الوعيد على أهل الإيمان لأنه لم يستثن في هذا الحديث ممن يضع عليه كنفه وستره أحدا إلا الكفار والمنافقين فإنهم الذين

(10/488)


ينادي عليهم على رءوس الأشهاد باللعنة. قلت: قد استشعر البخاري هذا فأورد في كتاب المظالم هذا الحديث ومعه حديث أبي سعيد "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة" الحديث، فدل هذا الحديث على أن المراد بالذنوب في حديث ابن عمر ما يكون بين المرء وربه سبحانه وتعالى دون مظالم العباد، فمقتضى الحديث أنها تحتاج إلى المقاصصة، ودل حديث الشفاعة أن بعض المؤمنين من العصاة يعذب بالنار ثم يخرج منها بالشفاعة كما تقدم تقريره في كتاب الإيمان، فدل مجموع الأحاديث على أن العصاة من المؤمنين في القيامة على قسمين: أحدهما من معصيته بينه وبين ربه، فدل حديث ابن عمر على أن هذا القسم على قسمين: قسم تكون معصيته مستورة في الدنيا فهذا الذي يسترها الله عليه في القيامة وهو بالمنطوق، وقسم تكون معصيته مجاهرة فدل مفهومه على أنه بخلاف ذلك. والقسم الثاني من تكون معصيته بينه وبين العباد فهم على قسمين أيضا: قسم ترجح سيئاتهم على حسناتهم فهؤلاء يقعون في النار ثم يخرجون بالشفاعة، وقسم تتساوى سيئاتهم وحسناتهم فهؤلاء لا يدخلون الجنة حتى يقع بينهم التقاص كما دل عليه حديث أبي سعيد، وهذا كله بناء على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة أن(1) يفعله باختياره، وإلا فلا يجب على الله شيء وهو يفعل في عباده ما يشاء.
ـــــــ
(1) هكذا بياض بالأصل.

(10/489)


61 - باب الْكِبْرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} مُسْتَكْبِرٌ فِي نَفْسِهِ. عِطْفُهُ: رَقَبَتُهُ
6071- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَيْسِيُّ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ" .
6072- وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: "إِنْ كَانَتْ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ" .
قوله: "باب الكبر" بكسر الكاف وسكون الموحدة ثم راء، قال الراغب: الكبر والتكبر والاستكبار متقارب، فالكبر الحالة التي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه. وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظم ذلك أن يتكبر على ربه بأن يمتنع من قبول الحق والإذعان له بالتوحيد والطاعة. والتكبر يأتي على وجهين: أحدهما أن تكون الأفعال الحسنة زائدة على محاسن الغير ومن ثم وصف سبحانه وتعالى بالمتكبر، والثاني أن يكون متكلفا لذلك متشبعا بما ليس فيه، وهو وصف عامة الناس نحو قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} والمستكبر مثله. وقال الغزالي: الكبر على قسمين: فإن ظهر على الجوارح يقال تكبر، وإلا قيل: في نفسه كبر. والأصل هو الذي في النفس وهو الاسترواح إلى رؤية النفس، والكبر يستدعي متكبرا عليه يرى نفسه فوقه ومتكبرا به، وبه ينفصل الكبر عن العجب، فمن لم يخلق إلا وحده يتصور أن يكون معجبا لا متكبرا. قوله: "وقال

(10/489)


مجاهد: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} مستكبرا في نفسه، عطفه رقبته" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في قوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال رقبته. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال مستكبرا في نفسه، ومن طريق قتادة قال: لاوي عنقه. ومن طريق السدي {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي معرض من العظمة. ومن طريق أبي صخير المدني قال: كان محمد بن كعب يقول: هو الرجل يقول هذا شيء ثنيت عليه رجلي، فالعطف هو الرجل، قال أبو صخر: والعرب تقول العطف العنق. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد أنها نزلت في النضر بن الحارث. حديث حارثة بن وهب وقد تقدم شرحه في تفسير سورة ن، والغرض منه وصف المستكبر بأنه من أهل النار. وقوله: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف" هو برفع كل لأن التقدير هم كل ضعيف الخ ولا يجوز أن يكون بدلا من أهل. حديث أنس: قوله: "وقال محمد بن عيسى" أي ابن أبي نجيح المعروف بابن الطباع بمهملة مفتوحة وموحدة ثقيلة، وهو أبو جعفر البغدادي نزيل أذنة بفتح الهمزة والمعجمة والنون، وهو ثقة عالم بحديث هشيم حتى قال علي بن المديني سمعت يحيي القطان وابن مهدي يسألانه عن حديث هشيم. وقال أبو حاتم: حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع الثقة المأمون، ورجحه على أخيه إسحاق بن عيسى وإسحاق أكثر من محمد. وقال أبو داود: كان يتفقه، وكان يحفظ نحو أربعين ألف حديث، ومات سنة أربع وعشرين ومائتين، وحدث عنه أبو داود بلا واسطة. وأخرج الترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجه من حديثه بواسطة، ولم أر له في البخاري سوى هذا الموضع وموضع آخر في الحج "قال محمد بن عيسى حدثنا" قال حماد ولم أر في شيء من نسخ البخاري تصريحه عنه بالتحديث، وقد قال أبو نعيم بعد تخريجه ذكره البخاري بلا رواية، وأما الإسماعيلي فإنه قال: قال البخاري قال محمد بن عيسى فذكره ولم يخرج له سندا، وقد ضاق مخرجه على أبي نعيم أيضا، فساقه في مستخرجه من طريق البخاري، وغفل عن كونه في مسند أحمد وأخرجه أحمد عن هشيم شيخ محمد بن عيسى فيه، وإنما عدل البخاري عن تخريجه عن أحمد بن حنبل لتصريح حميد في رواية محمد بن عيسى بالتحديث، فإنه عنده عن هشيم "أنبأنا حميد عن أنس" وحميد مدلس، والبخاري يخرج له ما صرح فيه بالحديث. قوله: "فتنطلق به حيث شاءت" في رواية أحمد "فتنطلق به في حاجتها" وله من طريق علي بن زيد عن أنس "أن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت" وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه، والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الرفق والانقياد. وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ الإماء أي أمة كانت، وبقوله: "حيث شاءت" أي من الأمكنة. والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة على ذلك، وهذا دال على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم. وقد ورد في ذم الكبر ومدح التواضع أحاديث، من أصحها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقيل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: الكبر بطر الحق وغمط الناس" والغمط بفتح المعجمة وسكون الميم بعدها مهملة هو الازدراء والاحتقار، وقد أخرجه الحاكم بلفظ: "الكبر من بطر الحق وازدري الناس" والسائل المذكور يحتمل أن يكون ثابت بن قيس فقد روى الطبراني بسند حسن عنه أنه سأل عن

(10/490)


ذلك، وكذا أخرج من حديث سواد بن عمرو أنه سأل عن ذلك. وأخرج عبد بن حميد من حديث ابن عباس رفعه: "الكبر السفه عن الحق، وغمص الناس. فقال: يا نبي الله وما هو؟ قال: السفه أن يكون لك على رجل مال فينكره فيأمره رحل بتقوى الله فيأبى، والغمص أن يجيء شامخا بأنفه، وإذا رأى ضعفاء الناس وفقراءهم لم يسلم عليهم ولم يجلس إليهم محقرة لهم " وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو بريء من الكبر والغلول والدين دخل الجنة" وأخرج أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه: "من تواضع لله درجة رفعه الله درجة حتى يجعله الله في أعلى عليين، ومن تكبر على الله درجة وضعه الله درجة حتى يجعله في أسفل سافلين" وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر رفعه: " إياكم والكبر، فإن الكبر يكون في الرجل وإن عليه العباءة " ورواته ثقات، وحكى ابن بطال عن الطبري أن المراد بالكبر في هذه الأحاديث الكفر، بدليل قوله في الأحاديث "على الله" ثم قال: ولا ينكر أن يكون من الكبر ما هو استكبار على غير الله تعالى ولكنه غير خارج عن معنى ما قلناه، لأن معتقد الكبر على ربه يكون لخلق الله أشد استحقارا انتهى. وقد أخرج مسلم من حديث عياض بن حماد بكسر المهملة وتخفيف الميم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد" الحديث، والأمر بالتواضع نهي عن الكبر فإنه ضده، وهو أعم من الكفر وغيره واختلف في تأويل ذلك في حق المسلم فقيل: لا يدخل الجنة مع أول الداخلين، وقيل لا يدخلها بدون مجازاة، وقيل جزاؤه أن لا يدخلها ولكن قد يعفى عنه، وقيل ورد مورد الزجر والتغليظ، وظاهره غير مراد. وقيل: معناه لا يدخل الجنة حال دخولها وفي قلبه كبر، حكاه الخطابي، واستضعفه النووي فأجاد لأن الحديث سيق لذم الكبر وصاحبه لا للإخبار عن صفة دخول أهل الجنة الجنة قال الطيبي: المقام يقتضي حمل الكبر على من يرتكب الباطل، لأن تحرير الجواب إن كان استعمال الزينة لإظهار نعمة الله فهو جائز أو مستحب، وإن كان للبطر المؤدي إلى تسفيه الحق وتحقير الناس والصد عن سبيل الله فهو المذموم.

(10/491)


باب الهجرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث"
...
62 - باب الْهِجْرَةِ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ"
6073، 6074، 6075- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّهَا "أَنَّ عَائِشَةَ حُدِّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لاَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لاَ أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَداً فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتْ الْهِجْرَةُ فَقَالَتْ لاَ وَاللَّهِ لاَ أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَداً وَلاَ أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَقَالَ لَهُمَا أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالاَ السَّلاَمُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ أَنَدْخُلُ قَالَتْ عَائِشَةُ ادْخُلُوا قَالُوا كُلُّنَا؟ قَالَتْ: نَعَم ادْخُلُوا كُلُّكُمْ - وَلاَ تَعْلَمُ أَنَّ

(10/491)


مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ - فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إِلاَّ مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ وَيَقُولاَنِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنْ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنْ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ إِنِّي نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ فَلَمْ يَزَالاَ بِهَا حَتَّى كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا".
6076- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ"
6077- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ" .
[الحديث 6077 – طرفه في: 6237]
قوله: "باب الهجرة" بكسر الهاء وسكون الجيم، أي ترك الشخص مكالمة الأخر إذا تلاقيا، وهي في الأصل الترك فعلا كان أو قولا، وليس المراد بها مفارقة الوطن فإن تلك تقدم حكمها. قوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال" قد وصله في الباب عن أبي أيوب، وأراد هنا أن يبين أن عمومه مخصوص بمن هجر أخاه بغير موجب لذلك، قال النووي قال العلماء تحرم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنص وتباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عفي عنه في ذلك لأن الآدمي مجبول على الغضب، فسومح بذلك القدر ليرجع ويزول ذلك العارض. وقال أبو العباس القرطبي: المعتبر ثلاث ليال، حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار ألغي البعض وتعتبر ذلك ليلة اليوم، وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة. قلت: وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود، وقد مضى في "باب ما نهي عن التحاسد" في رواية شعيب في حديث أبي أيوب بلفظ: "ثلاثة أيام" فالمعتمد أن المرخص فيه ثلاثة أيام بلياليها، فحيث أطلقت الليالي أريد بأيامها وحيث أطلقت الأيام أريد بلياليها، ويكون الاعتبار مضي ثلاثة أيام بلياليها ملفقة، إذا ابتدئت مثلا من الظهر يوم السبت كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء، ويحتمل أن يلغي الكسر، ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة، والأول أحوط. فيه عن ثلاثة من الصحابة شيء مرفوع وباقيه عنهم وعن رابع موقوف. قوله: "حدثني عوف بن الطفيل وهو ابن أخي عائشة" كذا عند النسفي وأبي ذر، وعند غيرهما وكذا أخرجه أحمد عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه فقال: "عوف بن مالك بن الطفيل، وهو ابن أخي عائشة لأمها" وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق علي بن المديني من رواية الأوزاعي وصالح بن كيسان ومعمر ثلاثتهم عن الزهري، ففي رواية الأوزاعي عنه "حدثني

(10/492)


الطفيل بن الحارث وكان من أزد شنوءة وكان أخا لها من أمها أم رومان" وفي رواية صالح عنه "حدثني عوف بن الطفيل بن الحارث وهو ابن أخي عائشة لأمها" وفي رواية معمر "عوف بن الحارث بن الطفيل" قال علي بن المديني: هكذا اختلفوا والصواب عندي وهو المعروف عوف بن الحارث بن الطفيل بن سخبرة يعني بفتح المهملة والموحدة بينهما معجمة ساكنة، قال: والطفيل أبوه هو الذي روى عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عنه، يعني حديث: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان" أخرجه النسائي وابن ماجه، وكذا أخرج أحمد طريق معمر والأوزاعي. وقال إبراهيم الحربي في "كتاب النهي عن الهجران" بعد أن أورد من طريق معمر وشعيب وصالح والأوزاعي كما تقدم، ومن طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري عن عوف بن الحارث بن الطفيل، ومن طريق النعمان بن راشد عن الزهري عن عروة عن المسور: هذا وهم، قال: وكذا وهم الأوزاعي في قوله الطفيل بن الحارث وصالح في قوله عوف بن الطفيل بن الحارث، وأصاب معمر وعبد الرحمن بن خالد في قولهما عوف بن الحارث بن الطفيل، كذا قال، ثم قال: الذي عندي أن الحارث بن سخبرة الأزدي قدم مكة ومعه امرأته أم رومان بنت عامر الكنانية فخالف أبا بكر الصديق، ثم مات فخلف أبو بكر على أم رومان فولدت له عبد الرحمن وعائشة وكان لها من الحارث الطفيل بن الحارث فهو أخو عائشة لأمها، وولد الطفيل بن الحارث عوفا، وله عن عائشة رواية غير هذه، وهو الذي حدث عنه الزهري انتهى. فعلى هذا يكون الذي أصاب في تسميته ونسبه صالح بن كيسان، وأما معمر وعبد الرحمن بن خالد فقلباه، والأول هو الذي صوبه علي بن المديني. وقد اختلف على الأوزاعي، فالرواية التي ذكرها الحربي عنه هي رواية الوليد بن مسلم، وأخرجه الإسماعيلي من رواية ابن كثير عن الأوزاعي على وفق رواية معمر وابن خالد، وأما شعيب في رواية أحمد فقلب الحارث أيضا فسماه مالكا، وحذفه في رواية أبي ذر فأصاب وسكت عن تسمية جده، وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" رواية عبد الرحمن بن خالد كذلك. وإذا تحرر ذلك ظهر أن الذي جزم به ابن الأثير في "جامع الأصول" من أنه عوف بن مالك بن الطفيل ليس بجيد، والاختلاف المذكور كله في تحرير اسم الراوي هنا عن عائشة ونسبه إلا رواية النعمان بن راشد فإنها شاذة، لأنه قلب شيخ الزهري فجعله عروة بن الزبير والمحفوظ رواية الجماعة، على أن للخبر من رواية عروة أصلا كما تقدم في أوائل مناقب قريش لكنه من غير رواية الزهري عنه. قوله: "أن عائشة حدثت" كذا للأكثر بضم أوله وبحذف المفعول، ووقع في رواية الأصيلي: "حدثته" والأول أصح، ويؤيده أن في رواية الأوزاعي "أن عائشة بلغها"، ووقع في رواية معمر على الوجهين، ووقع في رواية صالح أيضا: "حدثته". قوله: "في بيع أو عطاء أعطته عائشة" في رواية الأوزاعي "في دار لها باعتها، فسخط عبد الله ابن الزبير بيع تلك الدار". قوله: "لتنتهين عائشة" زاد في رواية الأوزاعي "فقال: أما والله لتنتهين عائشة عن بيع رباعها" وهذا مفسر لما أبهم في رواية غيره، وكذا لما تقدم في مناقب قريش من طريق عروة قال: "كانت عائشة لا تمسك شيئا، فما جاءها من رزق الله تصدقت به" وهذا لا يخالف الذي هنا لأنه يحتمل أن تكون باعت الرباع لتتصدق بثمنها، وقوله: "لتنتهين أو لأحجرن عليها" هذا أيضا يفسر قوله في رواية عروة "ينبغي أن يؤخذ على يدها". قوله: "لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا" في رواية عبد الرحمن بن خالد "كلمة أبدا" وفي رواية معمر "بكلمة" وفي رواية الإسماعيلي من طريق الأوزاعي بدل قوله أبدا "حتى يفرق الموت بيني وبينه" قال

(10/493)


ابن التين: قولها "أن لا أكلم" تقديره علي نذر إن كلمته اهـ. ووقع في بعض الروايات بحذف "لا" وشرح عليها الكرماني وضبطها بالكسر بصيغة الشرط قال: وهو الموافق للرواية المتقدمة في مناقب قريش بلفظ: "لله علي نذر إن كلمته" فعلى هذا يكون النذر معلقا على كلامه لا أنها نذرت ترك كلامه ناجزا. قوله: "فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة" كذا للأكثر، ووقع في رواية السرخسي والمستملي: "حتى" بدل "حين" والأول الصواب، ووقع في رواية معمر على الصواب، زاد في رواية الأوزاعي "فطالت هجرتها إياه فنقصه الله بذلك في أمره كله، فاستشفع بكل جدير أنها تقبل عليه" في الرواية الأخرى عنه "فاستشفع عليها بالناس فلم تقبل" وفي رواية عبد الرحمن بن خالد "فاستشفع ابن الزبير بالمهاجرين" وقد أخرج إبراهيم الحربي من طريق حميد بن قيس بن عبد الله بن الزبير قال فذكر نحو هذه القصة قال: "فاستشفع إليها بعبيد بن عمير فقال لها: أين حديث أخبرتنيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصوم فوق ثلاث". قوله: "فقالت لا ولله لا أشفع" بكسر الفاء الثقيلة. قوله: "فيه أحدا" في رواية الكشميهني: "أبدا" بدل قوله: "أحدا" وجمع بين اللفظين في رواية عبد الرحمن بن خالد وكذا في رواية معمر. قوله: "ولا أتحنث إلى نذري" في رواية معمر "ولا أحنث في نذري" وفي رواية الأوزاعي "فقالت والله لا آثم فيه" أي في نذرها أو في ابن الزبير وتكون في سببية. قوله: "فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة" أما المسور فهو ابن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن زهرة بن كلاب، وأما عبد الرحمن فجده يغوث بفتح التحتانية وضم المعجمة وسكون الواو بعدها مثلثة وهو ابن وهيب بن عبد مناف بن زهرة، يجتمع مع المسور في عبد مناف بن زهرة، ووهيب وأهيب أخوان، ومات الأسود قبل الهجرة ولم يسلم، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن صغير فذكر في الصحابة، وله في البخاري غير هذا الموضع حديث عن أبي بن كعب سيأتي قريبا، ووقع في رواية عروة المتقدمة "فاستشفع إليها برجال من قريش وبأخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة" وقد بينت هناك معنى هذه الخؤولة وصفة قرابة بني زهرة برسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه وأمه. قوله: "أنشدكما بالله لما" بالتخفيف و"ما" زائدة ويجوز التشديد حكاه عياض، يعني ألا، أي لا أطلب إلا الإدخال عليها، ونظره بقوله تعالى: {لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} وقوله: {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} فقد قرنا بالوجهين. وفي رواية الكشميهني: "ألا أدخلتماني" زاد الأوزاعي فسألهما أن يشتملا عليه بأرديتهما. قوله: "فإنها" في رواية الكشميهني: "فإنه" والهاء ضمير الشأن. قوله: "لا يحل لها أن تنذر قطيعتي" لأنه كان ابن أختها وهي التي كانت تتولى تربيته غالبا. قوله: "فقالا السلام عليك ورحمة الله وبركاته" في رواية معمر "فقالا السلام على النبي ورحمة الله" فيحتمل أن تكون الكاف في الأول مفتوحة. قوله: "أندخل؟ قالت: نعم. قالوا: كلنا؟ قالت: نعم" في رواية الأوزاعي "قالا: ومن معنا؟ قالت: ومن معكما". قوله: "فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي" في رواية الأوزاعي "فبكى إليها وبكت إليه وقبلها" وفي روايته الأخرى عند الإسماعيلي: "وناشدها ابن الزبير الله والرحم". قوله: "ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عما قد علمت من الهجرة وإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال" في رواية معمر "أنه لا يحل" بحذف الواو وهو كالتفسير لما قبله ويؤيد ذلك ورود الحديث مرفوعا من طريق أخرى كحديثي أنس وأبي أيوب اللذين بعده، وهذا القدر هو المرفوع من الحديث، وهو هنا من مسند المسور وعبد الرحمن بن الأسود وعائشة جميعا فإنها أقرتهما على ذلك،

(10/494)


وقد غفل أصحاب الأطراف عن ذكره في مسند عبد الرحمن بن الأسود لكونه مرسلا، ولكن ذكروا أنظاره فيلزمهم من هذه الحيثية، وله عن عائشة طريق أخرى تقدم بيانها وأنها من رواية حميد بن قيس عن عبيد بن عمير عنها، وأخرجه أيضا أبو داود من طريق أخرى عن عائشة، وجاء المتن عن جماعة كثيرة من الصحابة يزيد بعضهم على بعض كما سأبينه بعد. "تنبيه": ادعى المحب الطبري أن الهجران المنهي عنه ترك السلام إذا التقيا، ولم يقع ذلك من عائشة في حق ابن الزبير، ولا يخفى ما فيه، فإنها حلفت أن لا تكلمه والحالف يحرص على أن لا يحنث، وترك السلام داخل في ترك الكلام، وقد ندمت على سلامها عليه فدل على أنها اعتقدت أنها حنثت. ويؤيده ما كانت تعتقه في نذرها ذلك. قوله: "فلما أكثروا على عائشة من التذكرة" أي التذكير بما جاء في فضل صلة الرحم والعفو وكظم الغيظ. قوله: "والتحريج" بحاء مهملة ثم الجيم أي الوقوع في الحرج وهو الضيق لما ورد في القطيعة من النهي. وفي رواية معمر "التخويف". قوله: "فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير" في رواية الأوزاعي "فكلمته بعدما خشي أن لا تكلمه، وقبلت منه بعد أن كادت أن لا تقبل منه". قوله: "وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة" في رواية الأوزاعي "ثم بعثت إلى اليمن بمال فابتيع لها به أربعون رقبة فأعتقتها كفارة لنذرها" ووقع في رواية عروة المتقدمة "فأرسل إليها بعشر رقاب فأعتقتهم" وظاهره أن عبد الله بن الزبير أرسل إليها بالعشرة أولا، ولا ينافي رواية الباب أن تكون هي اشترت بعد ذلك تمام الأربعين فأعتقتهم، وقد وقع في الرواية الماضية "ثم لم تزل حتى بلغت أربعين". قوله: "وكانت تذكر نذرها" في رواية الأوزاعي "قال عوف بن الحارث ثم سمعتها بعد ذلك تذكر نذرها ذلك" ووقع في رواية عروة أنها قالت: "وددت أني جعلت حين حلفت عملا فأعمله فأفرغ منه"، وبينت هناك ما يحتمله كلامها هذا. حديث الزهري عن أنس وعن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب، وقد تقدم حديث أنس في "باب التحاسد" وأراد بإيرادهما معا أنه عند الزهري على الوجهين، لأنه أخرج من طريق مالك عن شيخه، وأول حديث أبي أيوب عنه "لا يحل لرجل" كما علقه أولا وزاد فيه: "يلتقيان" وفي رواية الكشميهني: "فيلتقيان" بزيادة فاء. قوله: "عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب" هكذا اتفق أصحاب الزهري، وخالفهم عقيل فقال: "عن عطاء بن يزيد عن أبي" وخالفهم كلهم شبيب بن سعيد عن يونس عنه فقال: "عن عبيد الله أو عبد الرحمن عن أبي بن كعب" قال إبراهيم الحربي: أما شبيب فلم يضبط سنده، وقد ضبطه ابن وهب عن يونس فساقه على الصواب أخرجه مسلم، وأما عقيل فلعله سقط عليه لفظ أيوب فصار عن أبي فنسبه من قبل نفسه فقال ابن كعب فوهم في ذلك. قوله: "فوق ثلاث" ظاهره إباحة ذلك في الثلاث، وهو من الرفق، لأن الآدمي في طبعه الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، والغالب أنه يزول أو يقل في الثلاث. قوله: "فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" زاد الطبري من طريق أخرى عن الزهري "يسبق إلى الجنة" ولأبي داود بسند صحيح من حديث أبي هريرة "فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه، فإن رد عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجرة" ولأحمد والمصنف في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان من حديث هشام بن عامر "فإنهما ناكثان عن الحق ما داما على صرامهما، وأولهما فيئا يكون سبقه كفارة" فذكر نحو حديث أبي هريرة، وزاد في آخره: "فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعا". قوله: "وخيرهما الذي يبدأ

(10/495)


بالسلام" قال أكثر العلماء: تزول الهجرة بمجرد السلام ورده. وقال أحمد: لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولا. وقال أيضا: ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام. وكذا قال ابن القاسم وقال عياض: إذا اعتزل كلامه لم تقبل شهادته عليه عندنا ولو سلم عليه، يعني وهذا يؤيد قول ابن القاسم. قلت: ويمكن الفرق بأن الشهادة يتوقى فيها، وترك المكالمة يشعر بأن في باطنه عليه شيئا فلا تقبل شهادته عليه، وأما زوال الهجرة بالسلام عليه بعد تركه ذلك في الثلاث فليس بممتنع، واستدل للجمهور بما رواه الطبراني من طريق زيد بن وهب عن ابن مسعود في أثناء حديث موقوف وفيه: "ورجوعه أن يأتي فيسلم عليه" واستدل بقوله: "أخاه" على أن الحكم يختص بالمؤمنين. وقال النووي: لا حجة في قوله: "لا يحل لمسلم" لمن يقول الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، لأن التقييد بالمسلم لكونه الذي يقبل خطاب الشرع وينتفع به. وأما التقييد بالأخوة فدال على أن للمسلم أن يهجر الكافر من غير تقييد. واستدل بهذه الأحاديث على أن من أعرض عن أخيه المسلم وامتنع من مكالمته والسلام عليه أثم بذلك، لأن نفي الحل يستلزم التحريم، ومرتكب الحرام آثم. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث إلا لمن خاف من مكالمته ما يفسد عليه دينه أو يدخل منه على نفسه أو دنياه مضرة، فإن كان كذلك جاز، ورب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية. وقد استشكل على هذا ما صدر من عائشة في حق ابن الزبير قال ابن التين: إنما ينعقد النذر إذا كان في طاعة كلله علي أن أعتق أو أن أصلي، وأما إذا كان قي حرام أو مكروه أو مباح فلا نذر، وترك الكلام يفضي إلى التهاجر وهو حرام أو مكروه. وأجاب الطبري بأن المحرم إنما هو ترك السلام فقط، وإن الذي صدر من عائشة ليس فيه أنها امتنعت من السلام على ابن الزبير ولا من رد السلام عليه لما بدأها بالسلام، وأطال في تقرير ذلك وجعله نظير من كانا في بلدين لا يجتمعان ولا يكلم أحدهما الآخر وليسا مع ذلك متهاجرين، قال: وكانت عائشة لا تأذن لأحد من الرجال عليها إلا بإذن، ومن دخل كان بينه وبينها حجاب إلا إن كان ذا محرم منها، ومع ذلك لا يدخل عليها حجابها إلا بإذنها، فكانت في تلك المدة منعت ابن الزبير من الدخول عليها، كذا قال، ولا يخفى ضعف المأخذ الذي سلكه من أوجه لا فائدة للإطالة بها، والصواب ما أجاب به غيره أن عائشة رأت ابن الزبير ارتكب بما قال أمرا عظيما وهو قوله لأحجرن عليها، فإن فيه تنقيصا لقدرها ونسبة لها إلى ارتكاب ما لا يجوز من التبذير الموجب لمنعها من التصرف فيما رزقها الله تعالى، مع ما انضاف إلى ذلك من كونها أم المؤمنين وخالته أخت أمه ولم يكن أحد عندها في منزلته كما تقدم التصريح به في أوائل مناقب قريش، فكأنها رأت أن في ذلك الذي وقع منه نوع عقوق، والشخص يستعظم ممن يلوذ به ما لا يستعظمه من الغريب، فرأت أن مجازاته على ذلك بترك مكالمته، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه عقوبة لهم لتخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، ولم يمنع من كلام من تخلف عنها من المنافقين مؤاخذة للثلاثة لعظيم منزلتهم وازدراء بالمنافقين لحقارتهم، فعلى هذا يحمل ما صدر من عائشة. وقد ذكر الخطابي أن هجر الوالد ولده والزوج زوجته ونحو ذلك لا يتضيق بالثلاث، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم هجر نساءه شهرا، وكذلك ما صدر من كثير من السلف في استجازتهم ترك مكالمة بعضهم بعضا مع علمهم بالنهي عن المهاجرة. ولا يخفى أن هنا مقامين أعلى وأدنى، فالأعلى اجتناب الإعراض جملة فيبذل السلام والكلام والمواددة بكل طريق، والأدنى الاقتصار على السلام دون غيره، والوعيد الشديد إنما هو لمن يترك المقام الأدنى، وأما الأعلى فمن تركه

(10/496)


من الأجانب فلا يلحقه اللوم، بخلاف الأقارب فإنه يدخل فيه قطيعة الرحم، وإلى هذا أشار ابن الزبير في قوله: "فإنه لا يحل لها قطيعتي" أي إن كانت هجرتي عقوبة على ذنبي فليكن لذلك أمد، وإلا فتأييد ذلك يفضي إلى قطيعة الرحم، وقد كانت عائشة علمت بذلك لكنها تعارض عندها هذا والنذر الذي التزمته، فلما وقع من اعتذار ابن الزبير واستشفاعه ما وقع رجح عندها ترك الإعراض عنه، واحتاجت إلى التكفير عن نذرها بالعتق الذي تقدم ذكره، ثم كانت بعد ذلك يعرض عندها شك في أن التكفير المذكور لا يكفيها فتظهر الأسف على ذلك إما ندما على ما صدر منها من أصل النذر المذكور وإما خوفا من عاقبة ترك الوفاء به، والله أعلم.

(10/497)


63 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى
وَقَالَ كَعْبٌ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا". وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً.
6078- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لاَعْرِفُ غَضَبَكِ وَرِضَاكِ. قَالَتْ: قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّكِ إِذَا كُنْتِ رَاضِيَةً قُلْتِ بَلَى وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ سَاخِطَةً قُلْتِ لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ. قَالَتْ: قُلْتُ أَجَلْ لَسْتُ أُهَاجِرُ إِلاَّ اسْمَكَ" .
قوله: "باب ما يجوز من الهجران لمن عصى" أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز، لأن عموم النهي مخصوص بمن لم يكن لهجره سبب مشروع، فتبين هنا السبب المسوغ للهجر وهو لمن صدرت منه معصية، فيسوغ لمن اطلع عليها منه هجره عليها ليكف عنها. قوله: "وقال كعب" أي ابن مالك الأنصاري "حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، وذكر خمسين ليلة" وهذا طرف من الحديث الطويل، وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر المغازي. حديث عائشة "إني لأعرف غضبك ورضاك" وقد تقدم شرحه في باب غيرة النساء ووجدهن في كتاب النكاح، قال المهلب: غرض البخاري في هذا الباب أن يبين صفة الهجران الجائز، وأنه يتنوع بقدر الجرم، فمن كان من أهل العصيان يستحق الهجران بترك المكالمة كما في قصة كعب وصاحبيه، وما كان من المغاضبة بين الأهل والإخوان فيجوز الهجر فيه بترك التسمية مثلا أو بترك بسط الوجه مع عدم هجر السلام والكلام. وقال الكرماني: لعله أراد قياس هجران من يخالف الأمر على هجران اسم من يخالف الأمر الطبيعي. وقال الطبري: قصة كعب بن مالك أصل هو هجران أهل المعاصي، وقد استشكل كون هجران الفاسق أو المبتدع مشروعا ولا يشرع هجران الكافر وهو أشد جرما منهما لكونهما من أهل التوحيد في الجملة، وأجاب ابن بطال بأن لله أحكاما فيها مصالح للعباد وهو أعلم بشأنها وعليهم التسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنه تعبد لا يعقل معناه. وأجاب غيره بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران باللسان. فهجران الكافر بالقلب وبترك التودد والتعاون والتناصر، لا سيما إذا كان حربيا وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم فإنه ينزجر بذلك غالبا، ويشترك كل من الكافر والعاصي في مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة، والأمر المعروف والنهي عن المنكر، وإنما المشروع ترك المكالمة بالموادة ونحوها. قال

(10/497)


عياض: إنما اغتفرت مغاضبة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم مع ما في ذلك من الحرج - لأن الغضب على النبي صلى الله عليه وسلم معصية كبيرة - لأن الحامل لها على ذلك الغيرة التي جبلت عليها النساء، وهي لا تنشأ إلا عن فرط المحبة، فلما كان الغضب لا يستلزم البغض اغتفر، لأن البغض هو الذي يفضي إلى الكفر أو المعصية، وقد دل قولها "لا أهجر إلا اسمك" على أن قلبها مملوء بمحبته صلى الله عليه وسلم. قوله: "أجل" بوزن نعم ومعناه. وقال الأخفش: إلا أن نعم أحسن من أجل في جواب الاستفهام، وأجل أحسن من نعم في التصديق. قلت: وهي في هذا الحديث على وفق ما قال.

(10/498)


باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة أو عشيا
...
64 - باب هَلْ يَزُورُ صَاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً
6079- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِمَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ؟ قَالَ: إِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي بِالْخُرُوجِ ".
قوله: "باب هل يزور صاحبه كل يوم، أو بكرة وعشيا" قيل: العشي من الزوال إلى العتمة. وقيل: إلى الفجر. فقال ابن فارس: العشاء بالفتح والمد الطعام وبالكسر من الزوال إلى العتمة، والعشي من الزوال إلى الفجر. قوله: "هشام" هو ابن يوسف. قوله: "عن معمر وقال الليث حدثني عقيل" وفي بعض النسخ "ح وقال الليث" وهذا التعليق سبق مطولا في "باب الهجرة إلى المدينة" موصولا عن يحيى بن بكير عن الليث. قوله: "قال ابن شهاب فأخبرني عروة" كأن هذا سياق معمر، وكأنه كان عنده قبل قوله: "لم أعقل أبوي" كلام آخر فعطف هذا عليه. وقد وقع عند أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب "قال وأخبرني" كذا رأيته فيه بالواو، وأما رواية عقيل فلفظه في "باب الهجرة إلى المدينة" عن ابن شهاب "أخبرني عروة عن عائشة قالت: "لم أعقل الخ" وقد استشكل كون أبي بكر كان يحوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يتكلف المجيء إليه وكان يمكنه هو أن يفعل ذلك، وأجاب ابن التين بأنه لم يكن يجيء إلى أبي بكر لمجرد الزيارة بل لما يتزايد عنده من علم الله، ولم يتضح لي هذا الجواب، ويحتمل أن يقال: إنه ليس في الخير ما يمنع أن أبا بكر كان يجيء إليه صلى الله عليه وسلم في الليل والنهار أكثر من مرتين، ويحتمل أن يقال: كان سبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء إلى بيت أبي بكر يأمن من أذى المشركين بخلاف ما لو جاء أبو بكر إليه. ويحتمل أن يكون منزل أبي بكر كان بين بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبين المسجد فكان يمر به والمقصود المسجد وكان يشهده كلما مر به، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى بطوله في "باب الهجرة إلى المدينة" وكأن البخاري رمز بالترجمة إلى توهين الحديث المشهور "زر غبا تزدد حبا" وقد ورد من طرق كثرها غرائب لا يخلو واحد منها من مقال، وقد جمع طرقه أبو نعيم وغيره، وجاء من حديث علي وأبي ذر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأبي برزة وعبد الله بن عمر وأنس وجابر وحبيب بن مسلمة ومعاوية بن حيدة، وقد جمعتها في جزء مفرد، وأقوى طرقه ما أخرجه الحاكم في "تاريخ نيسابور" والخطيب في "تاريخ بغداد" والحافظ أبو محمد بن

(10/498)


السقاء في فوائده من طريق أبي عقيل يحيى بن حبيب بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي ثابت عن جعفر بن عون عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأبو عقيل كوفي مشهور بكنيته، قاله ابن أبي حاتم: سمع منه أبي وهو صدوق، وذكر ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ وأغرب. قلت: واختلف عليه في رفعه ووقفه، وقد رفعه أيضا يعقوب بن شيبة عن جعفر بن عون رويناه في "فوائد أبي محمد بن السقاء" أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جده يعقوب، واختلف فيه على جعفر بن عون فرواه عبد بن حميد في تفسيره عنه عن أبي حبان الكلبي عن عطاء عن عبيد بن عمير موقوفا في قصة له مع عائشة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: "دخلت أنا وعبيد على عائشة فقالت: يا عبيد بن عمير ما يمنعك أن تزورنا؟ قال: قول الأول زر غبا تزدد حبا. فقال عند الله بن عمير: دعونا من بطالتكم هذه وأخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث في صلاته صلى الله عليه وسلم: "وذكر أبو عبيد في الأمثال بأنه من أمثال العرب، وكان هذا الكلام شائعا في المتقدمين، فرويناه في فوائد أبي محمد السقاء قال انشدونا لهلال بن العلاء:
الله يعلم أنني ... لك أخلص الثقلين قلبا
لكن لقول نبينا ... زوروا على الأيام غبا
ولقوله من زار غـ ... با منكم يزداد حبا
قلت: وكان يمكنه أن يوجز فيقول:
لكن لقول نبينا ... من زار غبا زاد حبا
وقد أنشدونا لأبي محمد بن هارون القرطبي راوي الموطأ:
أقل زيارة الإخوا ... ن تزدد عندهم قربا
فإن المصطفى قد قا ... ل زر غبا تزد حبا
قلت: ولا منافاة بين هذا الحديث وحديث الباب لأن عمومه يقبل التخصيص فيحمل على من ليست له خصوصية مودة ثابتة فلا ينقص كثرة زيارته من منزلته. قال ابن بطال: الصديق الملاطف لا يزيده كثرة الزيارة إلا محبة، بخلاف غيره.

(10/499)


65 - باب الزِّيَارَةِ. وَمَنْ زَارَ قَوْماً فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ
وَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ عِنْدَهُ
6080- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ طَعَاماً فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَمَرَ بِمَكَانٍ مِنْ الْبَيْتِ فَنُضِحَ لَهُ عَلَى بِسَاطٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُمْ".
قوله: "باب الزيارة" أي مشروعيتها "ومن زار قوما فطعم عندهم" أي من تمام الزيارة أن يقدم. للزائر ما حضر، قاله ابن بطال، وهو مما يثبت المودة ويزيد في المحبة. قلت: وقد ورد في ذلك حديث أخرجه الحاكم

(10/499)


وأبو يعلى من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير قال: "دخل على جابر نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقدم إليهم خبزا وخلا فقال: كلوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم الإدام الخل، إنه هلاك بالرجل أن يدخل إليه النفر من إخوانه فيحتقر ما في بيته أن يقدمه إليهم، وهلاك بالقوم أن يحتقروا ما قدم إليهم". وورد في فضل الزيارة أحاديث: منها عند الترمذي وحسنه وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رفعه: "من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا " وله شاهد عند البزار من حديث أنس بسند جيد، وعند مالك وصححه ابن حبان من حديث معاذ بن جبل مرفوعا: "حقت محبتي للمتزاورين في" الحديث وأخرجه أحمد بسند صحيح من حديث عتبان بن مالك، وعند الطبراني من حديث صفوان بن عسال رفعه: "من زار أخاه المؤمن خاض في الرحمة حتى يرجع". قوله: "وزار سلمان أبا الدرداء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأكل عنده" هو طرف من حديث لأبي جحيفة تقدم مستوفى مشروحا في كتاب الصيام. قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي. قوله: "زار أهل بيت من الأنصار" هم أهل عتبان بن مالك كما مضى من وجه آخر عن أنس بن سيرين بأتم من هذا السياق وأوله "قال رجل من الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم إني لا أستطيع الصلاة معك، وصنع طعاما" الحديث، وأورده في صلاة الضحى وقصة عتبان وطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته قد تقدمت في الصلاة أيضا مطولة. وفيها أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى في بيته تأخر حتى أكل عندهم، وفيه قصة مالك بن الدخشم، ووقع له صلى الله عليه وسلم نحو القصة التي في هذا الباب في بيت أبي طلحة كما سيأتي في "باب كنية الصبي" من طريق أبي التياح عن أنس، فإن فيه ذكر البساط ونضحه، لكن ليس فيه ذكر الطعام، نعم في رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته، وفيه ذكر نضح الحصير والصلاة بهم لكن ليس في أوله القصة التي في رواية أنس بن سيرين عن أنس أن الرجل قالا "لا أستطيع الصلاة معك" فإن هذا القدر مختص بقصة عتبان، فتعين الحمل عليه، ووهم من رجح أنه بيت أبي طلحة، وفي الحديث استحباب الزيارة ودعاء الزائر لمن زاره وطعم عنده.

(10/500)


66 - باب مَنْ تَجَمَّلَ لِلْوُفُودِ
6081- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: "قَالَ لِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَا الإِسْتَبْرَقُ قُلْتُ مَا غَلُظَ مِنْ الدِّيبَاجِ وَخَشُنَ مِنْهُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ رَأَى عُمَرُ عَلَى رَجُلٍ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِ هَذِهِ فَالْبَسْهَا لِوَفْدِ النَّاسِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ فَقَالَ إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فَمَضَى مِنْ ذَلِكَ مَا مَضَى ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْهِ بِحُلَّةٍ فَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ وَقَدْ قُلْتَ فِي مِثْلِهَا مَا قُلْتَ قَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتُصِيبَ بِهَا مَالاً فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ لِهَذَا الْحَدِيثِ".
قوله: "باب من تجمل للوفود" أي حسن هيئته بالملبوس ونحوه لمن يقدم عليه، والوفود جمع وافد وهو من يقدم على من له أمر أو سلطان زائرا أو مسترفدا والمراد من قول عمر "للوفود" من كان يرد على النبي صلى الله عليه وسلم ممن يرسلهم قبائلهم يبايعون لهم على الإسلام ويتعلمون أمور الدين حتى يعلموهم، وإنما أورد الترجمة بصورة

(10/500)


الاستفهام لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عمر، فالظاهر أنه إنما أنكر لبس الحرير بقرينة قوله: "إنما يلبس هذه" ولم ينكر أصل التجمل، لكنه محتمل مع ذلك. حديث ابن عمر في قصة حلة عطارد، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب اللباس. وعبد الصمد في سنده هو ابن عبد الوارث. وقوله: "وخشن" بفتح الخاء وضم الشين المعجمتين للأكثر، ولبعضهم بالمهملتين، وشاهد الترجمة منه قول عمر "تجمل بها للوفود" وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وقد اعترضها الداودي فقال: كان ينبغي أن يقول التجمل للوفود لأنه لا يقال فعل كذا إلا لمن صدر منه الفعل، وليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وجوابه أن معنى الترجمة من فعل ذلك متمسكا بما دل عليه الحديث المذكور، وقوله في آخر الحديث: "وكان ابن عمر يكره العلم في الثوب لهذا الحديث" قال الخطابي: مذهب ابن عمر في هذا مذهب الورع، وكان ابن عباس يقول في روايته: "إلا علما في ثوب" وذلك لأن مقدار العلم لا يقع عليه اسم اللبس، قال: ولو أن رجلا حلف لا يلبس غزل فلانة فأخذ ثوبا فنسج فيه من غزلها ومن غزل غيرها وكان الذي من غزلها لو انفرد لم يبلغ إذا نسج أنه يحصل منه شيء مما يقع على مثله اسم اللبس لم يحنث، كذا قال، وقد تقدم في كتاب اللباس من رواية أبي عثمان عن عمر في النهي عن لبس الحرير، "إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع" وتقدم شرح ذلك مستوفى هناك.

(10/501)


67 - باب الإِخَاءِ وَالْحِلْفِ.
وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: "آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ". وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ "لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ".
6082- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" .
6083- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: "قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ؟ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِي دَارِي".
قوله: "باب الإخاء والحلف" بكسر المهملة وسكون اللام وبفتح المهملة وكسر اللام هو المعاهدة، وقد تقدم بيانها في أوائل الهجرة. قوله: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء" هو طرف من الحديث الذي أشرت إليه في الباب الذي قبله، وقد تقدم في "باب الهجرة إلى المدينة" أنه صلى الله عليه وسلم آخى بين الصحابة. وأخرج أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن أنس قال: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين ابن مسعود والزبير" والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة، وذكر غير واحد أنه آخى صلى الله عليه وسلم بين أصحابه مرتين مرة بين المهاجرين فقط ومرة بين المهاجرين والأنصار. قوله: "وقال عبد الرحمن بن عوف: لما قدمنا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في فضائل الأنصار، وقدمت شيئا يتعلق به في أبواب الوليمة. قوله: "حدثنا إسماعيل بن زكريا" لمحمد بن الصباح فيه شيخ آخر، فإن مسلما أخرجه عنه عن حفص بن غياث عن عاصم. قوله: "عاصم" هو ابن سليمان الأحول. قوله: "قلت لأنس بن مالك أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام فقال: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري" ووقع في رواية أبي داود من رواية سفيان بن عيينة

(10/501)


عن عاصم قال: "سمعت أنس بن مالك يقول حالف" فذكره بلفظ المهاجرين بدل قريش، فقيل له أليس قال لا حلف في الإسلام؟ قال: قد حالف فذكر مثله وزاد مرتين أو ثلاثا، وأخرجه مسلم بنحوه مختصرا، وعرف من رواية الباب تسمية السائل عن ذلك، وذكره الصنف في الاعتصام مختصرا خاليا عن السؤال وزاد في آخره: "وقنت شهرا يدعو على أحياء من بني سليم" وحديث القنوت من طريق عاصم مضى في الوتر وغيره. وأما الحديث المسئول عنه فهو حديث صحيح أخرجه مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" وأخرجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه(1) وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن أبي أوفى نحوه باختصار. وأخرج أيضا أحمد وأبو يعلى وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا: "شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه" وحلف المطيبين كان قبل المبعث بمدة، ذكره ابن إسحاق وغيره، وكان جمع من قريش اجتمعوا فتعاقدوا على أن ينصروا المظلوم وينصفوا بين الناس ونحو ذلك من خلال الخير، واستمر ذلك بعد المبعث، ويستفاد من حديث عبد الرحمن بن عوف أنهم استمروا على ذلك في الإسلام، وإلى ذلك الإشارة في حديث جبير بن مطعم. وتضمن جواب أنس إنكار صدر الحديث لأن فيه نفي الحلف وفيما قاله هو إثباته، ويمكن الجمع بأن المنفي ما كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف ولو كان ظالما ومن أخذ الثأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها ومن التوارث ونحو ذلك، والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم والقيام في أمر الدين ونحو ذلك من المستحبات الشرعية كالمصادقة والمواددة وحفظ العهد، وقد تقدم حديث ابن عباس في نسخ التوارث بين المتعاقدين، وذكر الداودي أنهم كانوا يورثون الحليف السدس دائما فنسخ ذلك. وقال ابن عيينة: حمل العلماء قول أنس "حالف" على المؤاخاة. قلت: لكن سياق عاصم عنه يقتضي أنه أراد المحالفة حقيقة، وإلا كان الجواب مطابقا، وترجمة البخاري طاهرة في المغايرة بينهما وتقدم في الهجرة إلى المدينة "باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه" وذكر الحديثين المذكورين هنا أولا ولم يذكر حديث الحلف، وتقدم ما يتعلق بالمؤاخاة هناك. قال النووي: المنفي حلف التوارث وما يمنع منه الشرع، وأما التحالف على طاعة الله ونصر المظلوم والمؤاخاة في الله تعالى فهو أمر مرغب فيه.
ـــــــ
(1) بياض بالأصل

(10/502)


68 - باب التَّبَسُّمِ وَالضَّحِكِ
وَقَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم: "أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكْتُ".
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى.
6084- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَبَتَّ طَلاَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ فَجَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلاَثِ تَطْلِيقَاتٍ فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ لِهُدْبَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا قَالَ وَأَبُو بَكْرٍ

(10/502)


جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ لِيُؤْذَنَ لَهُ فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي أَبَا بَكْرٍ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلاَ تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّبَسُّمِ ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لاَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ" .
6085- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ فَقَالَ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَقَالَ عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللاَتِي كُنَّ عِنْدِي لَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَقَالَ أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَمْ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ إِنَّكَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِيهٍ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكاً فَجّاً إِلاَّ سَلَكَ فَجّاً غَيْرَ فَجِّكَ".
6086- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّائِفِ قَالَ: " إِنَّا قَافِلُونَ غَداً إِنْ شَاءَ اللَّهُ" فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نَبْرَحُ أَوْ نَفْتَحَهَا. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ قَالَ فَغَدَوْا فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالاً شَدِيداً وَكَثُرَ فِيهِمْ الْجِرَاحَاتُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا قَافِلُونَ غَداً إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ فَسَكَتُوا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". قَالَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِالْخَبَرِ كُلِّهِ
6087- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلَكْتُ وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ أَعْتِقْ رَقَبَةً قَالَ لَيْسَ لِي قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لاَ أَسْتَطِيعُ قَالَ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً قَالَ لاَ أَجِدُ فَأُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْعَرَقُ الْمِكْتَلُ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ؟ تَصَدَّقْ بِهَا. قَالَ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي؟ وَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنَّا؟ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ فَأَنْتُمْ إِذاً" .
6088- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ

(10/503)


فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً قَالَ أَنَسٌ فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ".
6089- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: "مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي".
6090- "وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِياً مَهْدِيّاً" .
6091- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ "أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ. فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ أَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَبِمَ شَبَهُ الْوَلَدِ؟" .
6092- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعاً قَطُّ ضَاحِكاً حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ".
6093- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ ح وقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ قَحَطَ الْمَطَرُ فَاسْتَسْقِ رَبَّكَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَمَا نَرَى مِنْ سَحَابٍ فَاسْتَسْقَى فَنَشَأَ السَّحَابُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ مُطِرُوا حَتَّى سَالَتْ مَثَاعِبُ الْمَدِينَةِ فَمَا زَالَتْ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا تُقْلِعُ ثُمَّ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ غَرِقْنَا فَادْعُ رَبَّكَ يَحْبِسْهَا عَنَّا فَضَحِكَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَصَدَّعُ عَنْ الْمَدِينَةِ يَمِيناً وَشِمَالاً يُمْطَرُ مَا حَوَالَيْنَا وَلاَ يُمْطِرُ مِنْهَا شَيْءٌ يُرِيهِمْ اللَّهُ كَرَامَةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجَابَةَ دَعْوَتِهِ" .
قوله: "باب التبسم والضحك" قال أهل اللغة: التبسم مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك وهي الثنايا والأنياب وما يليها وتسمى النواجذ. قوله:

(10/504)


"وقالت فاطمة أسرَّ إلي النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت" هو من طرف من حديث لعائشة عن فاطمة عليها السلام مر بتمامه وشرحه في الوفاة النبوية. قوله: "وقال ابن عباس: إن الله هو أضحك وأبكى" أي خلق في الإنسان الضحك والبكاء، وهذا طرف من حديث لابن عباس تقدم في الجنائز، وأشار فيه ابن عباس - بجواز البكاء بغير نياحة - إلى قوله تعالى في سورة النجم {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ثم ذكر في الباب تسعة أحاديث تقدم أكثرها وفي جميعها ذكر التبسم أو الضحك، وأسبابها مختلفة لكن أكثرها للتعجب، وبعضها للإعجاب، وبعضها للملاطفة. حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة، والغرض منه قولها فيه: "وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم" وقد مر شرحه مستوفى في كتاب الصلاة، وقوله فيه: "وابن سعيد بن العاص جالس" وقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني "وسعيد بن العاص" والصواب الأول وهو خالد وقد وقع مسمى فيما مضى. حديث سعد "استأذن عمر" تقدم شرحه مستوفى في مناقب عمر، والغرض منه قوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال: أضحك الله سنك" ويستفاد منه ما يقال للكبير إذا ضحك، وإسماعيل شيخه فيه هو ابن أبي أويس كما جزم به المزي. وقال أبو علي الجياني: لعله ابن أبى أويس. قلت: وقد تقدم في فضائل الأنصار حديث قال فيه البخاري "حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد" وإسماعيل هذا هو ابن أبي أويس جزما، وهو يؤيد ما جزم به المزي. حديث عمرو هو ابن دينار عن أبي العباس وهو الشاعر عن عبد الله بن عمر. كذا للأكثر بضم العين، وللحموي وحده هنا "عمرو" بفتحها والصواب الأول، وقد تقدم بيانه في غزوة الطائف مع شرح الحديث، والغرض منه هنا قوله: "فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقوله فيه: "لا نبرح أو نفتحها" قال ابن التين: ضبطناه بالرفع والصواب النصب، لأن "أو" إذا كانت بمعنى "حتى" أو "إلى إن" نصبت وهي هنا كذلك. قوله: "قال الحميدي حدثنا سفيان بالخبر كله" تقدم بيان من وصله في غزوة الطائف، ووقع في رواية الكشميهني: "حدثنا سفيان كله بالخبر" والمعني أنه ذكر بصريح الأخبار في جميع السند لا بالعنعنة. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل وإبراهيم هو ابن سعد. قوله: "حدثنا ابن شهاب" هذا إنما سمعه إبراهيم بن سعد من الزهري، وقد سبق في الحديث الثاني أنه روى عنه بواسطة صالح بن كيسان بينهما. وقصة المجامع في رمضان تقدم شرحها في كتاب الصيام، وقوله فيه: "قال إبراهيم" هو ابن سعد وهو موصول بالسند المذكور، وقوله: "والعرق المكتل" فيه بيان لما أدرجه غيره فجعل تفسير العرق من نفس الحديث، والغرض منه قوله: "فضحك حتى بدت نواجذه" والنواجذ جمع ناجذة بالنون والجيم والمعجمة هي الأضراس، ولا تكاد تظهر إلا عند المبالغة في الضحك، ولا منافاة بينه وبين حديث عائشة ثامن أحاديث الباب: "ما رأيته صلى الله عليه وسلم مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته" لأن المثبت مقدم على النافي قاله ابن بطال، وأقوى منه أن الذي نفته غير الذي أثبته أبو هريرة، ويحتمل أن يريد بالنواجذ الأنياب مجازا أو تسامحا وبالأنياب مرة(1) فقد تقدم في الصيام في هذا الحديث بلفظ: "حتى بدت أنيابه" والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه أو الإفراط فيه لأنه يذهب الوقار، قال ابن بطال: والذي ينبغي أن يقتدى به من فعله ما واظب عليه من ذلك،
ـــــــ
(1) لعل هنا سقطا، تمامه: "فعبر بالنواجذ مرة وبالأنياب مرة الخ".

(10/505)


فقد روى البخاري في "الأدب المفرد" وابن ماجه من وجهين عن أبي هريرة رفعه: "لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب" . قوله: "مالك" قال الدار قطني لم أر هذا الحديث عند أحد من رواة الموطأ إلا عند يحيى بن بكير ومعن بن عيسى، ورواه جماعة من رواة الموطأ عن مالك لكن خارج الموطأ، وزاد ابن عبد البر أنه رواه في الموطأ أيضا مصعب بن عبد الله الزبيري وسليمان بن صرد. قلت: ولم يخرجه البخاري إلا من رواية مالك، وأخرجه مسلم أيضا من رواية الأوزاعي ومن رواية همام ومن رواية عكرمة بن عمار كلهم عن إسحاق بن أبي طلحة، وساقه على لفظ مالك وبين بعض غيره. قوله: "كنت أمشي" في رواية الأوزاعي "أدخل المسجد". قوله: "وعليه برد" في رواية الأوزاعي "رداء". قوله: "نجراني" بفتح النون وسكون الجيم نسبة إلى نجران بلد معروف بين الحجاز واليمن، وتقدم في أواخر المغازي. قوله: "غليظ الحاشية" في رواية الأوزاعي "الصنفة" بفتح المهملة وكسر النون بعدها فاء وهي طرف الثوب مما يلي طرته. قوله: "فأدركه أعرابي" زاد همام "من أهل البادية" وفي رواية الأوزاعي "فجاء أعرابي من خلفه". قوله: "فجبذ" بفتح الجيم والموحدة بعدها ذال معجمة. وفي رواية الأوزاعي "فجذب" وهي بمعنى جبذ. قوله: "جبذة شديدة" في رواية عكرمة "حتى رجع النبي صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي". قوله: "قال أنس فنظرت إلى صفحة عاتق" في رواية مسلم: "عنق" وكذا عند جميع الرواة عن مالك، وكذا في رواية الأوزاعي. قوله: "أثرت فيها" في رواية الكشميهني: "بها" وكذا لمسلم من رواية مالك. وفي رواية همام "حتى انشق البرد وذهبت حاشيته في عنقه" وزاد أن ذلك وقع من الأعرابي لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجرته، ويجمع بأنه لقيه خارج المسجد فأدركه لما كاد يدخل فكلمه أو مسك بثوبه لما دخل، فلما كاد يدخل الحجرة خشي أن يفوته فجبذه. قوله: "مر لي" في رواية الأوزاعي "أعطنا". قوله: "فضحك" في رواية الأوزاعي "فتبسم ثم قال مروا له" وفي رواية همام "وأمر له بشيء" وفي الحديث بيان حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى في النفس والمال والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل من الصفح والإغضاء والدفع بالتي هي أحسن. حديث جرير وهو ابن عبد الله البجلي، وابن نمير هو محمد بن عبد الله بن نمير، وابن إدريس هو عبد الله، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، والجميع كوفيون، والغرض منه قوله: "ولا رآني إلا تبسم" وتقدم في المناقب بلفظ: "إلا ضحك" وهما متقاربان، والتبسم أوائل الضحك كما تقدم، وبقية شرحه هناك. حديث أم سلمة في سؤال أم سليم "هل على المرأة من غسل" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الطهارة، والغرض منه قوله: "فضحكت أم سلمة" لوقوع ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها ضحكها وإنما أنكر عليها إنكارها احتلام المرأة. قوله: "عمرو" هو ابن الحارث المصري، وأبو النضر هو سالم. قوله: "مستجمعا قط ضاحكا" في رواية الكشميهني: "مستجمعا ضحكا" أي مبالغا في الضحك لم يترك منه شيئا، يقال استجمع السيل: اجتمع من كل موضع، واستجمعت للمرء أموره: اجتمع له ما يحبه، فعلى هذا قوله: "ضاحكا" منصوب على التمييز وإن كان مشتقا مثل لله دره فارسا أي ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكا تاما مقبلا بكليته على الضحك، واللهوات بفتح اللام والهاء جمع لهاة وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم، وهذا القدر المذكور طرف من حديث تقدم بتمامه وشرحه في تفسير سورة الأحقاف. حديث أنس في قصة الذي طلب الاستقاء ثم

(10/506)


الاستصحاء والغرض منه ضحكه صلى الله عليه وسلم عند قول القائل "غرقنا" أورده من وجهين عن قتادة، وساقه هنا على لفظ سعيد بن أبي عروبة، وساقه في الدعوات على لفظ أبي عوانة، ومحمد بن محبوب شيخه هو أبو عبد الله البنائي البصري، وهو غير محمد بن الحسن الذي لقيه محبوب، ووهم من وحدهما كشيخنا ابن الملقن فإنه جزم بذلك وعم أن البخاري روى عنه هنا وروى عن رجل عنه، وليس كذلك بل هما اثنان أحدهما في عداد شيوخ الآخر، وشيخ البخاري اسمه محمد واسم أبيه محبوب والآخر اسمه محمد واسم أبيه الحسن ومحبوب لقب محمد لا لقب الحسن، وقد أخرج له البخاري في كتاب الأحكام حديثا واحدا قال فيه: "حدثنا محبوب بن الحسن" وسبب الوهم أنه وقع في بعض الأسانيد "حدثنا محمد بن الحسن محبوب" فظنوا أنه لقب الحسن وليس كذلك.

(10/507)


69 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وَمَا يُنْهَى عَنْ الْكَذِبِ
6094- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقاً وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً" .
6095- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ" .
6096- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي قَالاَ الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ بِالْكَذْبَةِ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
قوله: "باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وما ينهى عن الكذب" قال الراغب أصل الصدق والكذب في القول ماضيا كان أو مستقبلا وعدا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في الخبر، وقد يكونان في غيره كالاستفهام والطلب، والصدق مطابقة القول الضمير والمخبر عنه، فإن انخرم شرط لم يكن صدقا، بل إما أن يكون كذبا أو مترددا بينهما على اعتبارين، كقول المنافق: محمد رسول الله فإنه يصح أن يقال صدق لكون المخبر عنه كذلك، يصح أن يقال كذب لمخالفة قوله لضميره. والصديق من كثر منه الصدق، وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق في الاعتقاد ويحصل نحو صدق ظني، وفي الفعل نحو صدق في القتال، ومنه {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} اهـ ملخصا. وقال ابن التين: اختلف في قوله: {مَعَ الصَّادِقِينَ} فقيل: معناه مثلهم.

(10/507)


وقيل: منهم. قلت: وأظن المصنف لمح بذكر الآية إلى قصة كعب بن مالك وما أداه صدقه في الحديث إلى الخير الذي ذكره في الآية بعد أن وقع له ما وقع من ترك المسلمين كلامه تلك المدة حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت ثم من الله عليه بقبول توبته. وقال في قصته: ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي أن لا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا. وقال الغزالي: الكذب من قبائح الذنوب، وليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر، ولذلك يؤذن فيه حيث يتعين طريقا إلى المصلحة. وتعقب بأنه يلزم أن يكون الكذب - إذا لم ينشأ عنه ضرر - مباحا، وليس كذلك، ويمكن الجواب بأنه يمنع من ذلك حسما للمادة فلا يباح منه إلا ما يترتب عليه مصلحة، فقد أخرج البيهقي في "الشعب" بسند صحيح عن أبي بكر الصديق قال: "الكذب بجانب الإيمان" وأخرجه عنه مرفوعا وقال: الصحيح موقوف. وأخرج البزار من حديث سعد بن أبي وقاص رفعه قال: "يطبع المؤمن على كل شيء، إلا الخيانة والكذب" وسنده قوي، وذكر الدار قطني في "العلل" أن الأشبه أنه موقوف، وشاهد المرفوع من مرسل صفوان بن سليم في الموطأ قال ابن التين: ظاهره يعارض حديث ابن مسعود، والجمع بينهما حمل حديث صفوان على المؤمن الكامل. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وأما جرير المذكور في ثالث أحاديث الباب فهو ابن حازم. قوله: "إن الصدق يهدي" بفتح أوله من الهداية وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، هكذا وقع أول الحديث من رواية منصور عن أبي وائل، ووقع في أوله من رواية الأعمش عن أبي وائل عند مسلم وأبي داود والترمذي "عليكم بالصدق فإن الصدق" وفيه: "وإياكم والكذب فإن الكذب الخ". قوله: "إلى البر" بكسر الموحدة أصله التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات كلها، ويطلق على العمل الخالص الدائم. قوله: "وإن البر يهدي إلى الجنة" قال ابن بطال: مصداقه في كتاب الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} . قوله: "وإن الرجل ليصدق" زاد في رواية الأعمش "ويتحرى الصدق" وكذا زادها في الشق الثاني. قوله: "حتى يكون صديقا" في رواية الأعمش "حتى يكتب عند الله صديقا" قال ابن بطال: المراد أنه يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة في الصدق. قوله: "وإن الكذب يهدي إلى الفجور" قال الراغب: أصل الفجر الشق، فالفجور شق ستر الديانة، ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي، وهو اسم جامع للشر. قوله: "وإن الرجل ليكذب حتى يكتب" في رواية الكشميهني: "يكون" وهو وزن الأول، والمراد بالكتابة الحكم عليه بذلك وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض، وقد ذكره مالك بلاغا عن ابن مسعود وزاد فيه زيادة مفيدة ولفظه: "لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين" قال النووي قال العلماء: في هذا الحديث حث على تحري الصدق وهو قصده والاعتناء به وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فيعرف به. قلت: والتقييد بالتحري وقع في رواية أبي الأحوص عن منصور بن المعتمر عند مسلم ولفظه: "وإن العبد ليتحرى الصدق " وكذا قال في الكذب، وعنده أيضا في رواية الأعمش عن شقيق وهو أبو وائل وأوله عنده "عليكم بالصدق" وفيه: "وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق" وقال فيه: "وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب " فذكره، وفي هذه الزيادة إشارة إلى أن من توقى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق صار له الصدق سجية حتى يستحق الوصف به، وكذلك عكسه، وليس المراد أن الحمد والذم فيهما يختص بمن يقصد إليهما

(10/508)


فقط، إن كان الصادق في الأصل ممدوحا والكاذب مذموما. ثم قال النووي: وأعلم أن الموجود في نسخ البخاري ومسلم في بلادنا وغيرها أنه ليس في متن الحديث إلا ما ذكرناه قاله القاضي عياض، وكذا نقله الحميدي، ونقل أبو مسعود عن كتاب مسلم في حديث ابن مثنى وابن بشار زيادة وهي "إن شر الروايا روايا الكذب، لأن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا يعد الرجل صبيه ثم يخلفه" فذكر أبو مسعود أن مسلما روى هذه الزيادة في كتابه، وذكرها أيضا أبو بكر البرقاني في هذا الحديث، قال الحميدي: وليست عندنا في كتاب مسلم، والروايا جمع رواية بالتشديد وهو ما يتروى فيه الإنسان قبل قوله أو فعله، وقيل هو جمع رواية أي للكذب والهاء للمبالغة. قلت: لم أر شيئا من هذا في "الأطراف لأبي مسعود" ولا في "الجمع بين الصحيحين للحميدي" فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين. حديث أبي هريرة "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب" الحديث وتقدم شرحه في كتاب الإيمان، وطرفا من حديث سمرة في المنام الطويل المقدم ذكره وشرحه في كتاب الجنائز، وفيه: "الذي رأيته يشق شدقه الكذاب" قال ابن بطال: إذا كرر الرجل الكذب حتى استحق اسم المبالغة بالوصف بالكذب لم يكن من صفات كملة المؤمنين بل من صفات المنافقين، يعني فلهذا عقب البخاري حديث ابن مسعود بحديث أبي هريرة. قلت: وحديث أبي هريرة المذكور هنا في صفة المنافق يشمل الكذب في القول والفعل، والقصد الأول في حديثه والثاني في أمارته والثالث في وعده. أخبر في حديث سمرة بعقوبة الكاذب بأنه يشق شدقه وذلك في موضع المعصية وهو فمه الذي كذب به. قلت: ومناسبته للحديث الأول أن عقوبة الكاذب أطلقت في الحديث الأول بالنار فكان في حديث سمرة بيانها. قوله في حديث سمرة "قالا الذي رأيته يشق شدقه فكذاب" هكذا وقع بالفاء واستشكل بأن الموصول الذي يدخل خبره الفاء يشترط أن يكون مبهما عاما، وأجاب ابن مالك بأنه نزل المعين المبهم منزلة العام إشارة إلى اشتراك من يتصف في العقاب المذكور، والله أعلم.

(10/509)


70 - باب فِي الْهَدْيِ الصَّالِحِ
6097- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ أَحَدَّثَكُمْ الأَعْمَشُ سَمِعْتُ شَقِيقاً قَالَ: "سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلّاً وَسَمْتاً وَهَدْياً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَبْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ لاَ نَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ إِذَا خَلاَ".
6098- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُخَارِقٍ سَمِعْتُ طَارِقاً قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 6098 – طرفه في: 7277]
قوله: "باب الهدي الصالح" بفتح الهاء وسكون الدال هو الطريقة الصالحة، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من وجهين من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رفعه: "الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة" وفي الطريق الأخرى "جزء من سبعين جزءا من النبوة" وأخرجه أبو داود وأحمد باللفظ الأول وسنده حسن، وأخرجه الطبراني من وجه آخر

(10/509)


عن ابن عباس بلفظ: "خمسة وأربعين" وسنده ضعيف، وستأتي الإشارة إلى طريق الجمع بين هذه الروايات في التعبير في شرح حديث الرؤيات الصالحة، قال التوربشتي: الاقتصاد على ضربين: أحدهما ما كان متوسطا بين محمود ومذموم كالتوسط بين الجور والعدل، وهذا المراد بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} ، وهذا محمود ومذموم بالنسبة، والثاني متوسط بين طرفي الإفراط والتفريط كالجود فإنه متوسط بين الإسراف والبخل، وكالشجاعة فإنها متوسطة بين التهور والجبن، وهذا هو المراد في الحديث. قوله: "حدثني إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه ونص البخاري لفظه، ولكنه حذف من آخره قول أبي أسامة وهو ثابت في مسند إسحاق فقال في آخر الحديث: "فأقر به أبو أسامة وقال نعم" وشقيق هو أبو وائل. قوله: "دلا" يفتح المهملة وتشديد اللام هو حسن الحركة في المشي والحديث وغيرهما، ويطلق أيضا على الطريق. قوله: "وسمتا" بفتح المهملة وسكون الميم هو حسن المنظر في أمر الدين، ويطلق أيضا على القصد في الأمر وعلى الطريق والجهة. قوله: "وهديا" قال أبو عبيد: الهدي والدل متقاربان، يقال في السكينة والوقار وفي الهيبة والمنظر والشمائل قال: والسمت يكون في حسن الهيئة والمنظر من جهة الخير والدين لا من جهة الجمال والزينة، ويطلق على الطريق، وكلاهما جيد بأن يكون له هيئة أهل الخير على طريقة أهل الإسلام. قوله: "لابن أم عبد" بفتح اللام وهي تأكيد بعد التأكيد بأن المكسورة التي في أول الحديث وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود، ووقع في رواية محمد بن عبيد عن الأعمش عند الإسماعيلي بلفظ: "عبد الله بن مسعود" وفي الحديث فضيلة لابن مسعود جليلة لشهادة حذيفة له بأنه أشد الناس شبها برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الخصال، وفيه توقى حذيفة حيث قال: "من حين يخرج إلى أن يرجع" فإنه اقتصر في الشهادة له بذلك على ما يمكنه مشاهدته، وإنما قال: "لا أدري ما يصنع في أهله" لأنه جوز أن يكون إذا خلا يكون في انبساطه لأهله يزيد أو ينقص عن هيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله، ولم يرد بذلك إثبات نقص في حق عبد الله رضي الله عنه. وقد أخرج أبو عبيد في "غريب الحديث" أن أصحاب عبد الله بن مسعود كانوا ينظرون إلى سمته وهديه ودله فيتشبهون به، فكأن الحامل لهم على ذلك حديث حذيفة. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق زيد بن وهب "سمعت ابن مسعود قال: اعلموا أن حسن الهدي في أخر الزمان خير من بعض العمل" وسنده صحيح، ومثله لا يقال من قبل الرأي، فكأن ابن مسعود لأجل هذا كان يحرص على حسن الهدي، وقد استشكل الداودي الشارح بقول حذيفة في ابن مسعود قول مالك "كان عمر أشبه الناس بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشبه الناس بعمر ابنه عبد الله، وبعبد الله ابنه سالم" قال الداودي: وقول حذيفة يقدم على قول مالك، ويمكن الجمع باختلاف متعلق الشبه بحمل شبه ابن مسعود بالسمت وما ذكر معه، وقول مالك بالقوة في الدين ونحوها، ويحتمل أن تكون مقالة حذيفة وقعت بعد موت عمر، يؤيد قول مالك ما أخرج البخاري في "كتاب رفع اليدين" عن جابر قال: "لم يكن أحد منهم ألزم لطريق النبي صلى الله عليه وسلم من عمر" وفي السنن ومستدرك. الحاكم عن عائشة قالت: "ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة عليها السلام" قلت: ويجمع بالحمل في هذا على النساء. وأخرج أحمد عن عمر "من سره أن ينظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود". قلت: ويجمع بالحمل على من بعد الصحابة، وعن عبد الرحمن بن حبير بن نفير "حج عمرو بن الأسود فرآه ابن عمر يصلي فقال: ما رأيت أشبه صلاة

(10/510)


ولا هديا ولا خشوعا ولا لبسة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل" انتهى. وعمرو المذكور(1). قوله: "عن مخارق" هو ابن عبد الله ويقال ابن خليفة الأحمسي وطارق هو ابن شهاب الأحمسي. قوله: "قال قال عبد الله" في رواية الإسماعيلي: "كان عبد الله يقول" وعبد الله هو ابن مسعود؛ وجزم ابن بطال بأن عبد الله هذا هو ابن عمر فوهم في ذلك. قوله: "إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد" هو بفتح الهاء كما في الترجمة وروي بضمها ضد الضلال، زاد أبو خليفة عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه في آخره: وشر الأمور محدثاتها "وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين" أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" وسيأتي في كتاب الاعتصام من وجه آخر عن ابن مسعود وفيه هذه الزيادة بلفظها وسأذكر شرحها هناك إن شاء الله تعالى. هكذا رأيت هذا الحديث في جميع الطرق موقوفا، وقد ورد بعضه مرفوعا من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود أخرجه أصحاب السنن، وجاء أكثره مرفوعا من حديث جابر أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد وابن ماجه وغيرهم من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جابر بألفاظ مختلفة، منها لأحمد عن يحيى القطان عن جعفر به "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته بعد التشهد: إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد" قال يحيي ولا أعلمه إلا قال: "وشر الأمور محدثاتها" الحديث، وفي لفظ لمسلم من طريق عبد الوهاب الثقفي عن جعفر بن محمد في أثناء حديث قال فيه: "ويقول: أما بعد إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" الحديث.
ـــــــ
(1) بياض بالأصل، كأنه محل ترجمة عمرو.

(10/511)


71 - باب الصَّبْرِ عَلَى الأَذَى
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
6099- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَيْسَ أَحَدٌ أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَداً وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ".
[الحديث 6099 – طرفه في: 7378]
6100- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ شَقِيقاً يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ قُلْتُ أَمَّا أَنَا لاَقُولَنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَسَارَرْتُهُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَغَضِبَ حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ" .
قوله: "باب الصبر في الأذى" أي حبس النفس عن المجازاة على الأذى قولا أو فعلا، وقد يطلق على الحلم "وقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} " قال بعض أهل العلم: الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ويقال فيها؛ ولهذا شق على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة،

(10/511)


لكنه حلم عن القائل فصبر لما علم من جزيل ثواب الصابرين وأن الله تعالى يأجره بغير حساب، والصابر أعظم أجرا من المنفق لأن حسنته مضاعفة إلى سبعمائة، والحسنة في الأصل بعشر أمثالها إلا من شاء أن يزيده، وقد تقدم في أوائل الإيمان حديث ابن مسعود "الصبر نصف الإيمان" وقد ورد في الصبر على الأذى حديث ليس على شرط البخاري، وهو ما أخرجه ابن ماجه يسند حسن عن ابن عمر رفعه: "المؤمن الذي يخالط الناس يصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " وأخرجه الترمذي من حديث صحابي لم يسم. قوله: حديث أبي موسى "ليس أحد أو ليس شيء" هو شك من الراوي، وقد أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد بسند البخاري وقال فيه: "أحد" بغير شك. قوله: "أصبر على أذى" هو بمعنى الحلم، أو أطلق الصبر لأنه بمعنى الحبس والمراد به حبس العقوبة على مستحقها عاجلا وهذا هو الحلم. قوله: "على أذى سمعه من الله" قد بينه في بقية الحديث، وهو أنهم يشركون به ويرزقهم، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. قوله: "قال عبد الله" هو ابن مسعود ووقع في رواية سفيان عن الأعمش الماضية في "باب من أخبر صاحبه بما يعلم" بلفظ: "عن ابن مسعود". قوله: "قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما" في رواية شعبة عن الأعمش أنها قسمه غنائم حنين. وفي رواية منصور عن ابن أبي وائل "لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل وأعطى ناسا من أشراف العرب" وقد تقدم إيضاح ذلك في غزوة حنين. قوله: "فقال رجل من الأنصار" تقدمت تسميته في غزوة حنين والرد على من زعم أنه حرقوص بن زهير. قوله: "والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله" قد تقدم في غزوة حنين من وجه آخر بلفظ: "ما أراد" على البناء للفاعل وفي رواية منصور "ما عدل فيها" وهو بضم أوله على البناء للمجهول. قوله: "قلت أما لأقولن" قال ابن التين: هي بتخفيف الميم ووقع في رواية: "أما" بتشديدها وليس ببين. قلت: وقع للكشميهني: "أم" بغير ألف وهو يؤيد التخفيف، ويوجه التشديد على أن في الكلام حذفا تقديره أما إذ قلت ذلك لأقولن. قوله: "فشق ذلك عليه وتغير وجهه" قد تقدم قبل بأكثر من عشرة أبواب بلفظ: "فتمعر وجهه" وهو بالعين المهملة ويجوز بالمعجمة. قوله: "حتى وددت أني لم أكن" في رواية أن بفتح وتخفيف. قوله: "ثم قال: قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر" في رواية شعبة عن الأعمش " يرحم الله موسى قد أوذي " فذكره وزاد في رواية منصور "فقال فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى" الحديث. وفي هذا الحديث جواز إخبار الإمام وأهل الفضل بما يقال فيهم مما لا يليق بهم ليحذروا القائل وفيه بيان ما يباح من الغيبة والنميمة لأن صورتهما موجودة في صنيع ابن مسعود هذا ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قصد ابن مسعود كان نصح النبي صلى الله عليه وسلم وإعلامه بمن يطعن فيه ممن يظهر الإسلام ويبطن النفاق ليحذر منه، وهذا جائز كما يجوز التجسس على الكفار ليؤمن من كيدهم، وقد ارتكب الرجل المذكور بما قال إثما عظيما فلم يكن له حرمة. وفيه أن أهل الفضل قد يغضبهم ما يقال فيهم مما ليس فيهم، ومع ذلك فيتلقون ذلك بالصبر والحلم كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بموسى عليه السلام، وأشار بقوله: "قد أوذي موسى" إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} قد حكي في صفة أذاهم له ثلاث قصص: إحداها قولهم هو آدر، وقد تقدم ضبط ذلك وشرحه في قصة موسى من أحاديث الأنبياء. ثانيها: في قصة موت هارون، وقد أوضحته أيضا في قصة موسى ثالثها: في قصته مع قارون حيث أمر البغي أن تزعم أن موسى

(10/512)


راودها حتى كان ذلك سبب هلاك: قارون، وقد تقدم ذلك في قصة قارون في آخر أخبار موسى من أحاديث الأنبياء.

(10/513)


72 - باب مَنْ لَمْ يُوَاجِهْ النَّاسَ بِالْعِتَابِ
6101- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئاً فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لاَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً" .
[الحديث 6601 – طرفه في: 7301]
6102- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ هُوَ ابْنُ أَبِي عُتْبَةَ مَوْلَى أَنَسٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَإِذَا رَأَى شَيْئاً يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ".
قوله: "باب من لم يواجه الناس بالعتاب" أي حياء منهم. قوله: "مسلم" هو ابن صبيح أبو الضحى، ووهم من زعم أنه ابن عمران البطين، وقد أخرجه مسلم من طريق جرير عن الأعمش فقال: "عن أبي الضحى" ومن طريق حفص بن غياث التي أخرجها البخاري من طريقه فقال نحو جرير، ومن طريق عيسى بن يونس عن الأعمش كذلك، ومن طريق معاوية عن الأعمش عن مسلم. قوله: "صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فترخص فيه" في رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش "رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أمر". قوله: "فتنزه عنه قوم" في رواية مسلم من طريق جرير عن الأعمش "فبلغ ذلك ناسا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا". قوله: "فخطب" في رواية أبي معاوية "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بأن الغضب في وجهه". قوله: " ما بال أقوام" في رواية جرير "ما بال رجال" قال ابن بطال: هذا لا ينافي الترجمة، لأن المراد بها المواجهة مع التعيين كأن يقول ما بالك يا فلان تفعل كذا، وما بال فلان يفعل كذا. فأما مع الإبهام فلم تحصل المواجهة وإن كانت صورتها موجودة وهي مخاطبة من فعل ذلك، لكنه لما كان من جملة المخاطبين ولم يميز عنهم صار كأنه لم يخاطب. قوله: "يتنزهون عن الشيء أصنعه" في رواية جرير " بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه" وفي رواية أبي معاوية "يرغبون عما رخص لي فيه". قوله: "فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية" جمع بين القوة العلمية والقوة العملية، أي أنهم توهموا أن رغبتهم عما أفعل أقرب لهم عند الله، وليس كذلك إذ هو أعلمهم بالقربة وأولاهم بالعمل بها. وقد تقدم معنى هذا الحديث في كتاب الإيمان في رواية هشام بن عروة عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون" الحديث، وفيه: "فيغضب ثم يقول إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" وقد أوضحت شرحه هناك وذكرت فيه أن الحديث من أفراد هشام عن أبيه عروة عن عائشة، وطريق مسروق هذه متابعة جيدة لأصل هذا الحديث، قال ابن بطال: كان النبي صلى الله عليه وسلم رفيقا بأمته فلذلك خفف عنهم العتاب، لأنهم فعلوا ما يجوز لهم من الأخذ بالشدة، ولو كان ذلك حراما لأمرهم بالرجوع إلى فعله. قلت: أما المعاتبة فقد حصلت

(10/513)


منه لهم بلا ريب، وإنما لم يميز الذي صدر منه ذلك سترا عليه، فحصل منه الرفق من هذه الحيثية لا بترك العتاب أصلا. وأما استدلاله يكون ما فعلوه غير حرام فواضح من جهة أنه لم يلزمهم بفعل ما فعله هو. وفي الحديث الحث على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذم التعمق والتنزه عن المباح، وحسن العشرة عند الموعظة، والإنكار والتلطف في ذلك، ولم أعرف أعيان القوم المشار إليهم في هذا الحديث، ولا الشيء الذي ترخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجدت ما يمكن أن يعرف به ذلك وهو ما أخرجه مسلم في كتاب الصيام من وجه آخر عن عائشة "أن رجلا قال: يا رسول الله إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله وقال : إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" ونحو هذا في حديث أنس المذكور في كتاب النكاح "أن ثلاثة رهط سألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر" الحديث وفيه قولهم "وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وفيه قولهم "والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء". حديث أبي سعيد يأتي في "باب الحياء" بعد أربعة أبواب، وقد تقدم شرحه أيضا في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم". قال ابن بطال: يستفاد منه الحكم بالدليل، لأنهم جزموا بأنهم كانوا يعرفون ما يكرهه بتغير وجهه، ونظيره أنهم كانوا يعرفون أنه يقرأ في الصلاة باضطراب لحيته كما تقدم في موضعه.

(10/514)


73 - باب مَنْ كَفَّرَ أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ
6103- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالاَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا" وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
6104- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا" .
6105- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلاَمِ كَاذِباً فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ" .
قوله: "باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال" كذا قيد مطلق الخبر بما إذا صدر ذلك بغير تأويل من قائله. واستدل لذلك في الباب الذي يليه. قوله: "حدثنا محمد وأحمد بن سعيد قالا حدثنا عثمان بن عمر" أما محمد فهو ابن يحيى الذهلي، وأما أحمد بن سعيد فهو ابن سعيد بن صخر أبو جعفر الدارمي، جزم بذلك أبو نصر الكلاباذي. قوله: "عن يحيي بن أبي كثير عن أبي سلمة" كذا في رواية الجميع بالعنعنة. قوله: "عن أبي هريرة" في

(10/514)


رواية عكرمة بن عمار المعلقة أنه "سمع أبا هريرة". قوله: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر" تقدم شرحه في "باب ما ينهي عنه من السباب واللعن". قوله: "وقال عكرمة بن عمار عن يحيى" هو ابن أبي كثير "عن عبد الله بن يزيد" هو المدني مولى الأسود بن سفيان، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث المعلق وحديث آخر موصول مضى في التفسير. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني بهذا الحديث، وقد وصله الحارث بن أبي أسامة في مسنده وأبو نعيم في "المستخرج" من طريقه عن النضر بن محمد اليماني عن عكرمة بن عمار به، وقد أخرج مسلم في كتاب الإيمان من طريق النضر بن محمد عن عكرمة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة حديثا غير هذا ليس فيه بين يحيى وأبي سلمة واسطة. وأخرج الإسماعيلي حديث الباب من رواية حذيفة عن عكرمة بن عمار بهذا السند وقال: إنه موقوف لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه. وقد رفعه النضر بن محمد عن عكرمة كما ترى، ودل صنيع البخاري على أن زيادة عبد الله بن يزيد بين يحيى وأبي سلمة في هذه الرواية المعلقة لم تقدح في رواية علي بن المبارك عن يحيى بدون ذكر عبد الله بن يزيد عنده، إما لاحتمال أن يكون يحيى سمعه من أبي سلمة بواسطة ثم سمعه من أبي سلمة، وإما أن يكون لم يعتد بزيادة عكرمة بن عمار لضعف حفظه عنده.
وقد استدرك الدار قطني عليه إخراجه لرواية علي بن المبارك. وقال: يحيى بن أبي كثير مدلس، وقد زاد فيه عكرمة رجلا، والحق أن مثل هذا لا يتعقب به البخاري لأنه لم تخف عليه العلة بل عرفها وأبرزها وأشار إلى أنها لا تقدح، وكأن ذلك لأن أصل الحديث معروف ومتنه مشهور مروي من عدة طرق، فيستفاد منه أن مراتب العلل متفاوتة، وأن ما ظاهره القدح منها إذا انجبر زال عنه القدح، والله أعلم. حديث ابن عمر في نفس المعنى وتقدم شرحه. حديث ثابت بن الضحاك تقدم شرحه. قال ابن بطال: كنت أسأل المهلب كثيرا عن هذا الحديث لصعوبته فيجيبني بأجوبة مختلفة والمعنى واحد قال: قوله: "فهو كما قال" يعني فهو كاذب لا كافر، إلا أنه لما تعمد الكذب الذي حلف عليه والتزم الملة التي حلف بها قال عليه السلام "فهو كما قال" من التزام تلك الملة إن صح قصده بكذبه إلى التزامها في تلك الحالة، لا في وقت ثان إذا كان على سبيل الخديعة للمحلوف له. قلت: وحاصله أنه لا يصير بذلك كافرا وإنما يكون كالكافر في حال حلفه بذلك خاصة، وسيأتي أن غيره حمل الحديث على الزجر والتغليظ، وأن ظاهره غير مراد، وفيه غير ذلك من التأويلات.

(10/515)


74 - باب مَنْ لَمْ يَرَ إِكْفَارَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلاً أَوْ جَاهِلاً.
وَقَالَ عُمَرُ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" .
6106- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا سَلِيمٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الصَّلاَةَ فَقَرَأَ بِهِمْ الْبَقَرَةَ قَالَ فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلاَةً خَفِيفَةً فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذاً فَقَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا وَإِنَّ مُعَاذاً صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَتَجَوَّزْتُ فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ ثَلاَثاً اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا

(10/515)


وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى وَنَحْوَهما" .
6107- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللاَتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ" .
6108- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلاَ إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ وَإِلاَ فَلْيَصْمُتْ" .
قوله: "باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا" أي بالحكم أو بحال المقول فيه. قوله: "وقال عمر لحاطب بن أبي بلتعة إنه نافق"، كذا للأكثر بلفظ الفعل الماضي. وفي رواية الكشميهني: "منافق" باسم الفاعل. وهذا طرف من حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وقد تقدم موصولا مع شرحه في تفسير سورة الممتحنة. حديث جابر في قصة معاذ بن جبل حيث طول في صلاة الصبح ففارقه الرجل فصلى وحده، فقال معاذ إنه منافق وتقدم شرحه مستوفى في صلاة الجماعة، ومحمد بن عبادة شيخ البخاري فيه أبوه بفتح العين المهملة وتخفيف الموحدة. وقوله: "فتجوز رجل" بالجيم والزاي للجميع، وحكى ابن التين أنه روي بالحاء المهملة أي انحاز فصلى وحده. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه، وأبو المغيرة هو عبد القدوس بن الحجاج الحمصي، وهو من شيوخ البخاري قد حدث عنه كثيرا بلا واسطة. وتقدم الحديث في تفسير سورة النجم مع شرحه، ووجه دخوله في هذا الباب واضح، قال ابن بطال عن المهلب: أمره صلى الله عليه وسلم للحالف باللات والعزى بقوله لا إله إلا الله خشية أن يستديم حاله على ما قال فيخشى عليه من حبوط عمله فيما نطق به من كلمة الكفر بعد الإيمان، قال: ومثله قوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" فنفى عنه الإيمان في حالة الزنا خاصة انتهى. وقال في موضع آخر ليس في هذا الحديث إطلاق الحلف بغير الله، وإنما فيه تعليم من نسي أو جهل فحلف بذلك أن يبادر إلى ما يكفر عنه ما وقع فيه. وحاصله أنه أرشد من تلفظ بشيء مما لا ينبغي له التلفظ به أن يبادر إلى ما يرفع الحرج عن القائل أن لو قال ذلك قاصدا إلى معني ما قال، وقد قدمت توجيه هذا في شرح الحديث المذكور، ومناسبة الأمر بالصدقة لمن قال أقامرك من حيث أنه أراد إخراج المال في الباطل، فأمر بإخراجه في الحق. حديث ابن عمر في حلف عمر بأبيه، وفيه النهي عن ذلك، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الأيمان والنذور، وقصد بذكره هنا الإشارة إلى ما ورد في بعض طرقه: "من حلف بغير الله فقد أشرك" لكن لما كان حلف عمر بذلك قبل أن يقتضي النهي كان معذورا فيما صنع، فلذلك اقتصر على نهيه ولم يؤاخذه بذلك لأنه تأول أن حق أبيه عليه يقتضي أنه يستحق أن يحلف به، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لا يحب لعبده أن يحلف بغيره، والله علم.

(10/516)


75 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْغَضَبِ وَالشِّدَّةِ لأَمْرِ اللَّهِ
وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}
6109- حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ وَقَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ"
6110- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنِّي لاَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا قَالَ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ أَشَدَّ غَضَباً فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ قَالَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ" .
6111- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي رَأَى فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً فَحَكَّهَا بِيَدِهِ فَتَغَيَّظَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّ اللَّهَ حِيَالَ وَجْهِهِ فَلاَ يَتَنَخَّمَنَّ حِيَالَ وَجْهِهِ فِي الصَّلاَةِ" .
6112- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: "عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الإِبِلِ قَالَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا" .
6113- وَقَالَ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً أَوْ حَصِيراً فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهَا فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَباً فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلاَةِ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ" .
قوله: "باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى وقال الله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ

(10/517)


عَلَيْهِمْ} كأنه يشير إلى أن الحديث الوارد في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبر على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأما إذا كان لله تعالى فإنه يمتثل فيه أمر الله من الشدة. وذكر فيه خمسة أحاديث تقدمت كلها وفي كل منها ذكر غضب النبي صلى الله عليه وسلم في أسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كله كان في أمر الله، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد في الزجر عنها. حديث عائشة في القرام، وقد تقدم شرحه في اللباس، ويسرة شيخه بفتح الياء المثناة من تحت والمهملة. حديث أبي مسعود في قصة تطويل الإمام في صلاة الغداة، وتقدم شرحه في صلاة الجماعة. حديث ابن عمر في النخامة في القبلة، وقد تقدم شرحه في أوائل كتاب الصلاة، وقوله: "حيال وجهه" بكسر المهملة بعدها تحتانية خفيفة أي تلقاء. حديث زيد بن خالد في اللقطة، وتقدم شرحه هناك. حديث زيد بن ثابت "احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة" وقد تقدم شرحه في أبواب الإمامة، وحجيرة تصغير حجرة بالراء، وقد تقدم فيه رواية بالزاي، ويقال بفتح أوله وكسر ثانيه، والخصفة بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة ثم فاء: ما يتخذ من خوص المقل أو النخل، وقوله فيه: "وقال المكي" هو ابن إبراهيم البلخي أحد مشايخه، وقد وصله أحمد والدارمي في مسنديهما عن المكي بن إبراهيم بتمامه، ومحمد بن زياد شيخه في الطريق الثانية هو الزيادي ماله في البخاري سوى هذا الحديث، قال الكلاباذي: أخرج له شبه المقرون! وكذا قال ابن عدي: روى له استشهادا، وكانت وفاته قبل البخاري بقليل، مات في حدود الخمسين ويقال سنة اثنتين وخمسين وذكر ذلك الدمياطي في حواشيه، ومحمد بن جعفر هو غندر وعبد الله بن سعيد هو ابن أبي هند، وسياق الحديث في هذا الباب على لفظ محمد بن جعفر. والغرض منه قوله: "فخرج عليهم مغضبا" والظاهر أن غضبه لكونهم اجتمعوا بغير أمره فلم يكتفوا بالإشارة منه لكونه لم يخرج عليهم بل بالغوا فحصبوا بابه وتتبعوه، أو غضب لكونه تأخر إشفاقا عليهم لئلا تفرض عليه وهم يظنون غير ذلك، وأبعد من قال: "صلى في مسجده بغير أمره" وقوله في آخره: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" دال على أن المراد بالصلاة أي في قوله في الحديث الآخر "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا" صلاة النافلة، وحكى ابن التين عن قوم أنه يستحب أن يجعل في بيته من فريضة، وزيفه بحديث الباب والله أعلم.

(10/518)


76 - باب الْحَذَرِ مِنْ الْغَضَبِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
6114- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" .
6115- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ قَالَ اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَباً قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لاَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ". فَقَالُوا

(10/518)


لِلرَّجُلِ أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ".
6116- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَوْصِنِي قَالَ لاَ تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَاراً قَالَ لاَ تَغْضَبْ" .
قوله: "باب الحذر من الغضب لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} وقوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} " الآية" كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى قوله: "المحسنين" وكأنه أشار بالآية الثانية إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الأول في الباب فعند أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون فقال: ما هذا؟ قالوا: فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه، قال: أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجل كلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه " رواه البزار بسند حسن، وليس في الآيتين دلالة على التحذير من الغضب إلا أنه لما ضم من يكظم غيطه إلى من يجتنب الفواحش كان في ذلك إشارة إلى المقصود. قوله: "ليس الشديد بالصرعة" بضم الصاد والمهملة وفتح الراء: الذي يصرع الناس كثيرا بقوته، والهاء للمبالغة في الصفة، والصرعة بسكون الراء بالعكس وهو من يصرعه غيره كثيرا، وكل ما جاء بهذا الوزن بالضم وبالسكون فهو كذلك كهمزة ولمزة وحفظة وخدعة وضحكة، ووقع بيان ذلك في حديث ابن مسعود عند مسلم وأوله "ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرعه الرجال" قال: ابن التين: ضبطناه بفتح الراء. وقرأه بعضهم بسكونها، وليس بشيء لأنه عكس المطلوب، قال: وضبط أيضا في بعض الكتب بفتح الصاد وليس بشيء. قوله: "إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" في رواية أحمد من حديث رجل لم يسمه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الصرعة كل الصرعة - كررها ثلاثا - الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه فيصرع غضبه". حديث سليمان بن صرد، تقدم شرحه في باب السباب واللعن. قوله: "حدثني يحيى بن يوسف" هو الزمي بكسر الزاي وتشديد الميم، لم أر له في البخاري رواية إلا عن أبي بكر بن عياش، وأبو حصين بفتح أوله. قوله: "عن أبي صالح عن أبي هريرة" خالفه الأعمش فقال: "عن أبي صالح عن أبي سعيد" أخرجه مسدد في مسنده عن عبد الواحد بن زياد عن الأعمش، وهو على شرط البخاري أيضا لولا عنعنة الأعمش. قوله: "أن رجلا" هو جارية بالجيم ابن قدامة أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني من حديثه مبهما ومفسرا، ويحتمل أن يفسر بغيره، ففي الطبراني من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي "قلت: يا رسول الله قل لي قولا أنتفع به وأقلل، قال: لا تغضب، ولك الجنة" وفيه عن أبي الدرداء "قلت: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: لا تغضب" وفي حديث ابن عمر عند أبي يعلى "قلت يا رسول الله قل لي قولا وأقلل لعلي أعقله". قوله: "أوصني" في حديث أبي الدرداء "دلني على عمل يدخلني الجنة" وفي حديث ابن عمر عند أحمد "ما يباعدني من غضب الله " زاد أبو كريب عن أبي بكر بن عياش عند الترمذي "ولا تكثر علي لعلي أعيه" وعند الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش نحوه. قوله: "فردد مرارا" أي ردد السؤال يلتمس أنفع من ذلك أو أعم فلم يزده على ذلك. قوله: "قال لا تغضب" في رواية أبي كريب "كل ذلك

(10/519)


يقول لا تغضب" وفي رواية عثمان بن أبي شيبة قال: "لا تغضب ثلاث مرات" وفيها بيان عدد المرار، وقد تقدم حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه، وأنه كان لا يراجع بعد ثلاث، وزاد أحمد وابن حبان في رواية عن رجل لم يسم قال: "تفكرت فيما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله" قال الخطابي معنى قوله: "لا تغضب" اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه. وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلة. وقال غيره: ما كان من قبيل الطبع الحيواني لا يمكن دفعه، فلا يدخل في النهي لأنه من تكليف المحال، وما كان من قبيل ما يكتسب بالرياضة فهو المراد. وقيل: معناه لا تغضب لأن أعظم ما ينشأ عنه الغضب الكبر لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده فيحمله الكبر على الغضب، فالذي يتواضع حتى يذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب. وقيل: معناه لا تفعل ما يأمرك به الغضب. وقال ابن بطال: في الحديث الأول أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الذي يملك نفسه عند الغضب أعظم الناس قوة. وقال غيره: لعل السائل كان غضوبا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كل أحد بما هو أولى به، فلهذا اقتصر في وصيته له على ترك الغضب. وقال ابن التين: جمع صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تغضب" خير الدنيا والآخرة لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين. وقال البيضاوي: لعله لما رأى أن جميع المفاسد التي تعرض للإنسان إنما هي من شهوته ومن غضبه، وكانت شهوة السائل مكسورة فلما سأل عما يحترز به عن القبائح نهاه عن الغضب الذي هو أعظم ضررا من غيره، وأنه إذا ملك نفسه عند حصوله كان قد قهر أقوى أعدائه انتهى. ويحتمل أن يكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن أعدى عدو للشخص شيطانه ونفسه، والغضب إنما ينشأ عنهما، فمن جاهدهما حتى يغلبهما مع ما في ذلك من شدة المعالجة كان لقهر نفسه عن الشهوة أيضا أقوى. وقال ابن حبان بعد أن أخرجه: أراد لا تعمل بعد الغضب شيئا مما نهيت عنه، لا أنه نهاه عن شيء جبل عليه ولا حيلة له في دفعه. وقال بعض العلماء: خلق الله الغضب من النار وجعله غريزة في الإنسان، فمهما قصد أو نوزع في غرض ما اشتعلت نار الغضب وثارت حتى يحمر الوجه والعينان من الدم، لأن البشرة تحكي لون ما وراءها، وهذا إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه، وإن كان ممن فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب فيصفر اللون حزنا، وإن كان على النظير تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويترتب على الغضب تغير الظاهر والباطن كتغير اللون والرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن غير ترتيب واستحالة الخلقة حتى لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لكان غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته، هذا كله في الظاهر، وأما الباطن فقبحه أشد من الظاهر، لأنه يولد الحقد في القلب والحسد وإضمار السوء على اختلاف أنواعه، بل أولى شيء يقبح منه باطنه، وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه، وهذا كله أثره في الجسد، وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحي منه العاقل ويندم قائله عند سكون الغضب ويظهر أثر الغضب أيضا في الفعل بالضرب أو القتل، وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوبه ويلطم خده، وربما سقط صريعا، وربما أغمي عليه، وربما كسر الآنية وضرب من ليس له في ذلك جريمة. ومن تأمل هذه المفاسد عرف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللطيفة من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تغضب" من الحكمة واستجلاب المصلحة في درء

(10/520)


المفسدة مما يتعذر إحصاؤه والوقوف على نهايته، وهذا كله في الغضب الدنيوي لا الغضب الديني كما تقدم تقريره في الباب الذي قبله، ويعين على ترك الغضب استحضار ما جاء في كظم الغيظ من الفضل، وما جاء في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد، وأن يستعيذ من الشيطان كما تقدم في حديث سليمان بن صرد، وأن يتوضأ كما تقدمت الإشارة إليه في حديث عطية، والله أعلم. وقال الطوفي: أقوى الأشياء في دفع الغضب استحضار التوحيد الحقيقي، وهو أن لا فاعل إلا الله، وكل فاعل غيره فهو آلة له، فمن توجه إليه بمكروه من جهة غيره فاستحضر أن الله لو شاء لم يمكن ذلك الغير منه اندفع غضبه، لأنه لو غضب والحالة هذه كان غضبه على ربه جل وعلا وهو خلاف العبودية. قلت: وبهذا يظهر السر في أمره صلى الله عليه وسلم الذي غضب بأن يستعيذ من الشيطان لأنه إذا توجه إلى الله في تلك الحالة بالاستعاذة به من الشيطان أمكنه استحضار ما ذكر، وإذا استمر الشيطان متلبسا متمكنا من الوسوسة لم يمكنه من استحضار شيء من ذلك، والله أعلم.

(10/521)


77 - باب الْحَيَاءِ
6117- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ إِنَّ مِنْ الْحَيَاءِ وَقَاراً وَإِنَّ مِنْ الْحَيَاءِ سَكِينَةً فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ" .
6118- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الإِيمَانِ" .
6119- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مَوْلَى أَنَسٍ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُتْبَةَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا".
قوله: "باب الحياء" بالمد تقدم تعريفه في أول كتاب الإيمان، ووقع لابن دقيق العيد في "شرح العمدة" أن أصل الحياء الامتناع ثم استعمل في الانقباض، والحق أن الامتناع من لوازم الحياء ولازم الشيء لا يكون أصله، ولما كان الامتناع لازم الحياء كان في التحريض على ملازمة الحياء حض على الامتناع عن فعل ما يعاب، والحيا بالقصر المطر. قوله: "عن قتادة" كذا قال أكثر أصحاب شعبة، وخالفهم شبابة بن سوار فقال: "عن شعبة عن خالد بن رباح" بدل قتادة، أخرجه ابن منده، ووقع نطير هذه القصة عن عمران بن حصين أيضا للعلاء من زياد أخرجه ابن المبارك في "كتاب البر والصلة". قوله: "عن أبي السوار" بفتح المهملة وتشديد الواو وبعد الألف راء اسمه حريث على الصحيح، وقيل حجير بن الربيع، وقيل غير ذلك ووقع في رواية محمد بن جعفر عن شعبة عبد مسلم: "سمعت أما السوار". قوله: "الحياء لا يأتي إلا بخير" في رواية خالد بن رباح عن أبي السوار عبد أحمد وكذلك في رواية أبي قتادة العدوي عن عمران عند مسلم: "الحياء خير كله"

(10/521)


وللطبراني من حديث قرة بن إياس " قيل لرسول الله: الحياء من الدين؟ فقال: بل هو الدين كله" وللطبراني من وجه آخر عن عمران بن حصين "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة". قوله: "بشير بن كعب" بالموحدة والمعجمة مصغر تابعي جليل، يأتي ذكره في الدعوات. قوله: "مكتوب في الحكمة" في رواية محمد بن جعفر "أنه مكتوب في الحكمة" وفي رواية أبي قتادة العدوي عند مسلم: "فقال بشير بن كعب إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة" بالشك، والحكمة في الأصل إصابة الحق بالعلم، وسيأتي بسط القول في ذلك في "باب ما يجوز من الشعر" إن شاء الله تعالى. قوله: "إن من الحياء وقارا، وإن من الحياء سكينه" في رواية الكشميهني: "السكينة" بزيادة ألف ولام. وفي رواية أبي قتادة العدوي، "إن منه سكينة ووقارا لله" وفيه ضعف، وهذه الزيادة متعينة ومن أجلها غضب عمران، وإلا فليس في ذكر السكينة والوقار ما ينافي كونه خيرا، أشار إلى ذلك ابن بطال، لكن يحتمل أن يكون غضب من قوله منه؛ لأن التبعيض يفهم أن منه ما يضاد ذلك، وهو قد روي أنه كله خير. وقال القرطبي: معنى كلام بشير أن من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار بأن يوقر غيره ويتوقر هو في نفسه. ومنه ما يحمله على أن يسكن عن كثير مما يتحرم الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذي المروءة، ولم ينكر عمران عليه هذا القدر من حيث معناه، وإنما أنكره عليه من حيث أنه ساقه في معرض من يعارض كلام الرسول بكلام غيره، وقيل إنما أنكر عليه كونه خاف أن يخلط السنة بغيرها. قلت: ولا يخفى حسن التوجيه السابق. قوله: "وتحدثني عن صحيفتك" في رواية أبي قتادة "فغضب عمران حتى احمرت عيناه وقال: لا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه" وفي رواية أحمد "وتعرض فيه بحديث الكتب" وهذا يؤيد الاحتمال الماضي، وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه لبشير بن كعب هذا قصة مع ابن عباس تشعر بأنه كان يتساهل في الأخذ عن كل من لقيه. قوله: "عبد العزيز بن أبي سلمة" هو الماجشون. قوله: "مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يعظ أخاه في الحياء" تقدم في أول كتاب الإيمان مع شرحه، ولم أعرف اسم الرجل ولا اسم أخيه إلى الآن، والمراد بوعظه أنه يذكر له ما يترتب على ملازمته من المفسدة. قوله: "الحياء من الإيمان" حكى ابن التين عن أبي عبد الملك أن المراد به كمال الإيمان. وقال أبو عبيد الهروي: معناه أن المستحي ينقطع بحياته عن المعاصي وإن لم يكن له تقية، فصار كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي. قال عياض وغيره: إنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم، وأما كونه خيرا كله ولا يأتي إلا بخير فأشكل حمله على العموم، لأنه قد يصد صاحبه عن مواجهة من يرتكب المنكرات ويحمله على الإخلال ببعض الحقوق. والجواب أن المراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيا، والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعيا بل هو عجز ومهانة، وإنما يطلق عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي، وهو خلق يبعث على ترك القبيح. قلت: ويحتمل أن يكون أشير إلى من كان الحياء من خلقه أن الخير يكون فيه أغلب فيضمحل ما لعله يقع منه مما يذكر في جنب ما يحصل له بالحياء من الخير، أو لكونه إذا صار عادة وتخلق به صاحبه يكون سببا لجلب الخير إليه فيكون منه الخير بالذات والسبب. وقال أبو العباس القرطبي: الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلف به دون الغريزي، غير أن من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب، وقد ينطبع بالمكتسب حتى يصير غريزيا، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع له النوعان فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها،

(10/522)


وكان في الحياء المكتسب في الذروة العليا صلى الله عليه وسلم انتهى. الحديث تقدم شرحه في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم" وقوله: "عن مولى أنس" قال أبو عبد الله اسمه عبد الله بن أبي عتبة، كذا للأكثر، وحكى الجياني أنه وقع لبعض رواة الفربري عبد الله بدل عبد الرحمن، وأبو عبد الله المذكور هو البخاري، هكذا جزم بتسميته هنا، وتقدم كذلك مسمى هناك، وفي اسمه خلاف فقيل عبد الرحمن وقيل عبيد الله بالتصغير والمعتمد أنه عبد الله مكبرا، وقوله: "العذراء" بفتح المهملة وسكون الذال المعجمة ثم راء ومد هي البكر، والخدر بكسر المعجمة وسكون المهملة الموضع الذي تحبس فيه وتستتر، والله أعلم.

(10/523)


78 - باب إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ
6120- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ" .
قوله: "باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت" كذا ترجم بلفظ الحديث وضمه في "الأدب المفرد" إلى ترجمة الحياء. قوله: "زهير" هو ابن معاوية أبو خيثمة، ومنصور هو ابن المعتمر، والإسناد كله كوفيون، وقد تقدم الاختلاف فيه على ربعي في آخر ذكر بني إسرائيل. قوله: "إن مما أدرك الناس" وقع في حديث حذيفة عند أحمد والبزار "إن آخر ما يعلق به أهل الجاهلية من كلام النبوة الأولى" والناس يجوز فيه الرفع، والعائد على "ما" محذوف، ويجوز النصب والعائد ضمير الفاعل، و"أدرك" بمعنى بلغ و"إذا لم تستح" اسم للكلمة المشبهة بتأويل هذا القول. قوله: "فاصنع ما شئت" قال الخطابي: الحكمة في التعبير بلفظ الأمر دون الخبر في الحديث أن الذي يكف الإنسان عن مواقعة الشر هو الحياء فإذا تركه صار كالمأمور طبعا بارتكاب كل شر، وقد سبق هذا الحديث والإشارة إلى شرحه في ذكر بني إسرائيل في أواخر أحاديث الأنبياء، وأشير هنا إلى زيادة على ذلك، قال النووي في "الأربعين": الأمر فيه للإباحة، أي إذا أردت فعل شيء فإن كان مما لا تستحي إذا فعلته من الله ولا من الناس فافعله وإلا فلا، وعلى هذا مدار الإسلام، وتوجيه ذلك أن المأمور به الواجب والمندوب يستحيي من تركه، والمنهي عنه الحرام والمكروه يستحيي من فعله، وأما المباح فالحياء من فعله جائز وكذا من تركه فتضمن الحديث الأحكام الخمسة. وقيل هو أمر تهديد كما تقدم توجيهه، ومعناه إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت فإن الله مجازيك عليه، وفيه إشارة إلى تعظيم أمر الحياء، وقيل هو أمر بمعنى الخير، أي من لا يستحيي يصنع ما أراد.

(10/523)


79 - باب مَا لاَ يُسْتَحْيَا مِنْ الْحَقِّ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ
6121- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ فَقَالَ نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ" .
6122- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ

(10/523)


3 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا"
وَكَانَ يُحِبُّ التَّخْفِيفَ وَالْيُسْرَ عَلَى النَّاسِ
6124- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: "لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَهُمَا: " يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا " قَالَ أَبُو مُوسَى يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضٍ يُصْنَعُ فِيهَا شَرَابٌ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ وَشَرَابٌ مِنْ الشَّعِيرِ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" .
6125- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا" .
6126- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً فَإِنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ

(10/524)


النَّاسِ مِنْهُ. وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ بِهَا لِلَّهِ".
6127- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: "كُنَّا عَلَى شَاطِئِ نَهَرٍ بِالأَهْوَازِ قَدْ نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ عَلَى فَرَسٍ فَصَلَّى وَخَلَّى فَرَسَهُ فَانْطَلَقَتْ الْفَرَسُ فَتَرَكَ صَلاَتَهُ وَتَبِعَهَا حَتَّى أَدْرَكَهَا فَأَخَذَهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَضَى صَلاَتَهُ وَفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ فَأَقْبَلَ يَقُولُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ تَرَكَ صَلاَتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ فَأَقْبَلَ فَقَالَ مَا عَنَّفَنِي أَحَدٌ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ إِنَّ مَنْزِلِي مُتَرَاخٍ فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُهُ لَمْ آتِ أَهْلِي إِلَى اللَّيْلِ وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى مِنْ تَيْسِيرِهِ".
6128- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ أَعْرَابِيّاً بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ".
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يسروا ولا تعسروا، وكان يحب التخفيف والتسري على الناس" أما حديث يسروا فوصله في الباب، وأما الحديث الآخر فأخرجه مالك في الموطأ عن الزهري عن عروة عن عائشة فذكر حديثا في صلاة الضحى وفيه: "وكان يحب ما خف على الناس" وفي حديث أيمن المخزومي عن عائشة في قصة الصلاة بعد العصر وفيه: "وما كان يصليها في المسجد مخافة أن تثقل على أمته، وكان يحب ما خفف عليهم" وقد تقدم في "باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت" من كتاب الصلاة، وقد وصل في الباب حديث أبي برزة وفيه: "أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى من تيسيره". حديث أبي موسى "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ولمعاذ لما بعثهما إلى اليمن: يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا". وإسحاق في حديث أبي موسى هو ابن راهويه كما وقع في رواية ابن السكن، وجزم به أبو نعيم، وتردد الكلاباذي وتبعه أبو علي الجياني هل هو ابن راهويه أو هو ابن منصور. حديث أنس " يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا ". قوله: "يسروا" هو أمر بالتيسير والمراد به الأخذ بالتسكين تارة وبالتيسير أخرى من جهة أن التنفير يصاحب المشقة غالبا وهو ضد التسكين، والتبشير يصاحب التسكين غالبا وهو ضد التنفير، وقد تقدم بيان الوقت الذي بعث فيه أبو موسى ومعاذ رضي الله عنهما إلى اليمن في أواخر كتاب المغازي، وتقدم الكلام على البتع وهو يكسر الموحدة وسكون المثناة بعدها مهملة في كتاب الأشربة. قال الطبري: المراد بالأمر بالتيسير فيما كان من النوافل مما كان شاقا لئلا يفضي بصاحبه إلى الملل فيتركه أصلا، أو يعجب بعمله فيحبط فيما رخص فيه من الفرائض كصلاة الفرض قاعدا للعاجز والفطر في الفرض لمن سافر فيشق عليه، وزاد غيره في ارتكاب أخف الضررين إذا لم يكن من أحدهما بد كما في قصة الأعرابي حيث بال في المسجد. حديث عائشة "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين" الحديث، وقد تقدم شرحه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال البيضاوي: يتصور التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه إذا صدر من الكفار

(10/525)


مثلا، وفيه توجيه آخر تقدم هناك. حديث أبي برزة. قوله: "وفينا رجل له رأي" لم أقف على اسمه، وحكى ابن التين عن الداودي أن معنى قوله: "له رأي " يظن أنه محسن وليس كذلك. وقوله: "نضب عنه بالماء" بنون وضاد معجمة ثم موحدة أي زال، وقد تقدم في أواخر الصلاة بلفظ: "فجعل رجل من الخوارج يقول" فهذا هو المعتمد، وأن المراد بالرأي رأي الخوارج، والتنوين فيه للتحقير، أي رأي فاسد وقد تقدم شرح الحديث هناك. حديث أبي هريرة في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، وقد سبقت الإشارة إليه في "باب الرفق" وأن شرحه تقدم في كتاب الطهارة. وفي هذه الأحاديث أن الغلو ومجاوزة القصد في العبادة وغيرها مذموم، وأن المحمود من جميع ذلك ما أمكنت المواظبة معه وأمن صاحبه العجب وغيره من المهلكات.

(10/526)


81 - باب الِانْبِسَاطِ إِلَى النَّاسِ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: خَالِطِ النَّاسَ وَدِينَكَ لاَ تَكْلِمَنَّهُ. وَالدُّعَابَةِ مَعَ الأَهْلِ
6129- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟".
[الحديث 6129 – طرفه في: 6203]
6130- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي".
قوله: "باب الانبساط إلى الناس" في رواية الكشميهني: "مع الناس". قوله: "وقال ابن مسعود: خالط الناس ودينك لا تكلمنه" بفتح أوله وسكون الكاف وكسر اللام وفتح الميم من الكلم بفتح الكاف وسكون اللام وهو الجرح وزنا ومعنى، وروي بالمثلثة بدل الكافة والنون مشددة للتأكيد. وقوله: "ودينك" يجوز فيه النصب والرفع. وهذا الأثر وصله الطبراني في الكبير من طريق عبد الله بن باباه بموحدتين عن ابن مسعود قال: "خالطوا الناس وصافوهم بما يشتهون، ودينكم لا تكلمنه" وهذه بضم الميم للجميع. وأخرجه ابن المبارك في كتاب البر والصلة من وجه آخر عن ابن مسعود بلفظ: "خالطوا الناس وزايلوهم في الأعمال" وعن عمر مثله كمن قال: "وانظروا ألا تكلموا دينكم". قوله: "والدعابة مع الأهل" هو بقية الترجمة معطوف على الانبساط بالجر، ويجوز أن يعطف على "باب" فيقرأ بالرفع، والدعابة بضم الدال وتخفيف العين المهملتين وبعد ألف موحدة هي الملاطفة في القول بالمزاح وغيره، وقد أخرج الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة قال قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: "إني لا أقول إلا حقا" وأخرج من حديث ابن عباس رفعه: "لا تمار أخاك وتمازحه" الحديث، والجمع بينهما أن المنهي عنه ما فيه إفراط أو مداومة عليه لما فيه من الشغل عن ذكر الله

(10/526)


والتفكر في مهمات الدين ويؤول كثيرا إلى قسوة القلب والإيذاء والحقد وسقوط المهابة والوقار، والذي يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطيب نفس المخاطب ومؤانسته فهو مستحب، قال الغزالي: من الغلط أن يتخذ المزاح حرفة، ويتمسك بأنه صلى الله عليه وسلم مزح فهو كمن يدور مع الريح حيث دار، وينظر رقصهم، ويتمسك بأنه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة أن تنظر إليهم. حديث أنس في قصة النغير سيأتي شرحه مستوفى في "باب ما يجوز من الشعر" قريبا إن شاء الله تعالى. حديث عائشة "كنت ألعب بالبنات" ومحمد شيخه فيه هو ابن سلام. قوله: "وكان لي صواحب يلعبن معي" أي من أقرانها. قوله: "يتقمعن" بمثناة وتشديد الميم المفتوحة وفي رواية الكشميهني بنون ساكنة وكسر الميم ومعناه أنهن يتغيبن منه ويدخلن من وراء الستر، وأصله من قمع التمرة أي يدخلن في الستر كما يدخلن التمرة في قمعها. قوله: "فيسربهن إلي" بسين مهملة ثم موحدة أي يرسلهن. واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن. قال وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ، وإليه مال ابن بطال، وحكى عن ابن أبي زيد عن مالك أنه كره أن يشتري الرجل لابنته الصور، ومن ثم رجح الداودي أنه منسوخ، وقد ترجم ابن حبان الإباحة لصغار النساء اللعب باللعب، وترجم له النسائي إباحة الرجل لزوجته اللعب بالبنات فلم يقيد بالصغر وفيه نظر. قال البيهقي بعد تخريجه ثبت النهي عن اتخاذ "الصور" فيحمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كان قبل التحريم وبه جزم ابن الجوزي. وقال المنذري إن كانت اللعب كالصورة فهو قبل التحريم وإلا فقد يسمى ما ليس بصورة لعبة، وبهذا جزم الحليمي فقال: إن كانت صورة كالوثن لم يجز وإلا جاز، وقيل: معنى الحديث اللعب مع البنات أي الجواري والباء هنا بمعنى مع حكاه ابن التين عن الداودي، ورده. قلت: ويرده ما أخرجه ابن عيينة في "الجامع" من رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه عن هشام بن عروة في هذا الحديث: "وكن جواري يأتين فيلعبن بها معي" وفي رواية جرير عن هشام "كنت ألعب بالبنات وهن اللعب" أخرجه أبو عوانة وغيره. وأخرج أبو داود والنسائي من وجه آخر عن عائشة قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر" فذكر الحديث في هتكه الستر الذي نصبته على بابها قالت: "فكشف ناحية الستر على بنات لعائشة لعب فقال: ما هذا يا عائشة، قالت: بناتي. قالت: ورأى فيها فرسا مربوطا له جناحان فقال: ما هذا؟ قلت فرس. قال فرس له جناحان؟ قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة؟ فضحك" فهذا صريح في أن المراد باللعب غير الآدميات. قال الخطابي: في هذا الحديث أن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد: وإنما أرخص لعائشة فيها لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ. قلت: وفي الجزم به نظر لكنه محتمل، لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة إما أكملتها أو جاوزتها أو قاربتها. وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعا فيترجح رواية من قال في خيبر، ويجمع بما قال الخطابي لأن ذلك أولى من التعارض.

(10/527)


82 - باب الْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ

(10/527)


6131- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ "أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الْكَلاَمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ فَقَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ" .
6132- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِداً لِمَخْرَمَةَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: "قَدْ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ" قَالَ أَيُّوبُ بِثَوْبِهِ وَأَنَّهُ يُرِيهِ إِيَّاهُ وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شَيْءٌ". رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ".
قوله: "باب المداراة مع الناس" هو بغير همز، وأصله الهمز لأنه من المدافعة، والمراد به الدفع برفق. وأشار المصنف بالترجمة إلى ما ورد فيه على غير شرطه واقتصر على إيراد ما يؤدي معناه، فمما ورد فيه صريحا لجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مداراة الناس صدقة" أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط، وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وأخرجه ابن أبي عاصم في "آداب الحكماء" بسند أحسن منه، وحديث أبي هريرة "رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس" أخرجه البزار بسند ضعيف. قوله: "ويذكر عن أبي الدرداء: إنا لنكشر" بالكاف الساكنة وكسر المعجمة. قوله: "في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم" كذا للأكثر بالعين المهملة واللام الساكنة والنون، وللكشميهني بالقاف الساكنة قيل اللام المكسورة ثم تحتانية ساكنة من القلا بكسر القاف مقصور وهو البغض، وبهذه الرواية جزم ابن التين، ومثله في تفسير المزمل من "الكشاف". وهذا الأثر وصله ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحربي في "غريب الحديث" والدينوري في "المجالسة" من طريق أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء فذكر مثله وزاد: "ونضحك إليهم" وذكره بلفظ اللعن ولم يذكر الدينوري في إسناده جبير بن نفير، ورويناه في "فوائد أبو بكر بن المقري" من طريق كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن أبي الدرداء قال: "إنا لنكشر أقواما" فذكر مثله وهو منقطع، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" من طريق خلف بن حوشب قال قال أبو الدرداء فذكر اللفظ المعلق سواء، وهو منقطع أيضا والكشر بالشين المعجمة وفتح أوله ظهور الأسنان، وأكثر ما يطلق عند الضحك، والاسم الكشرة كالعشرة قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الألفة. وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط، لأن المدارة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنه معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا

(10/528)


احتيج إلى تألفه ونحو ذلك. حديث عائشة "استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: ائذنوا له فبئس ابن العشيرة" وقد تقدم بيان موضع شرحه في "باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد"، والنكتة في إيراده هنا التلميح إلى ما وقع في بعض الطرق بلفظ المداراة. وهو عند الحارث بن أبي أسامة من حديث صفوان بن عسل نحو حديث عائشة وفيه: "فقال: إنه منافق أداريه عن نفاقه، وأخشى أن يفسد على غيره". حديث المسور بن مخرمة "قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أقبية" وفيه قصة أبيه مخرمة وقد تقدم شرحه في كتاب اللباس؛ ووقع في هذه الطريق "وكان في خلقه شيء" وقد رمز البخاري بإيراده عقب الحديث الذي قبله بأنه المبهم فيه كما أشرت إلى ذلك قبل، ووقع في رواية مسروق عن عائشة "مر رجل برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بئس عبد الله وأخو العشيرة، ثم دخل عليه فرأيته أقبل عليه بوجهه كأن له عنده منزلة". أخرجه النسائي. وشرح ابن بطال الحديث على أن المذكور كان منافقا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالحكم بما ظهر، لا بما يعلمه في نفس الأمر، وأطال في تقرير ذلك، ولم يقل أحد في المبهم في حديث عائشة أنه كان منافقا لا مخرمة بن نوفل ولا عيينة بن حصن، وإنما قيل في مخرمة ما قيل لما كان في خلقه من الشدة فكان لذلك في لسانه بذاءة، وأما عيينة فكان إسلامه ضعيفا وكان مع ذلك أهوج فكان مطاعا في قومه كما تقدم، والله أعلم. وقوله في هذه الرواية: "فلما جاءه قال خبأت هذا لك" وفي رواية الكشميهني: "قد خبأت" وقوله: "قال أيوب" هو موصول بالسند المذكور، وقوله: "بثوبه وأنه يريه إياه" والمعنى أشار أيوب بثوبه ليرى الحاضرين كيفية ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عند كلامه مع مخرمة، ولفظ القول يطلق ويراد به الفعل، وقوله: "رواه حماد بن زيد عن أيوب " تقدم موصولا في " باب فرض الخمس " وصورته مرسل أيضا. قوله: "وقال حاتم بن وردان الخ" أراد بهذا التعليق بيان وصل الخبر، وأن رواية ابن علية وحماد وإن كانت صورتهما الإرسال لكن الحديث في الأصل موصول، وقد مضى بيان وصل رواية حاتم هذه في الشهادات.

(10/529)


83 - باب لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لاَ حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ
6133- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ" .
قوله: "باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" اللدغ بالدال المهملة والغين المعجمة ما يكون من ذوات السموم، واللذع بالذال المعجمة والعين المهملة ما يكون من النار، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الطب، والجحر بضم الجيم وسكون المهملة. قوله: "وقال معاوية لا حكيم إلا بتجربة" كذا للأكثر بوزن عظيم.
وفي رواية الأصيلي: "إلا ذو تجربة". وفي رواية أبي ذر عن غير الكشميهني: "لا حلم" بكسر المهملة وسكون اللام "إلا بتجربة" وفي رواية الكشميهني: "إلا لذي تجربة" وهذا الأثر وصله أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "قال معاوية: لا حلم إلا بالتجارب" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق علي بن مسهر عن هشام عن أبيه قال: "كنت جالسا عند معاوية فحدث نفسه ثم انتبه فقال: لا حليم إلا ذو تجربة. قالها ثلاثا" وأخرج من حديث أبي سعيد مرفوعا: "لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة" وأخرجه أحمد

(10/529)


وصححه ابن حبان، قال ابن الأثير: معناه: لا يحصل الحلم حتى يرتكب الأمور ويعثر فيها فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطأ ويجتنبها. وقال غيره: المعني لا يكون حليما كاملا إلا من وقع في زلة وحصل منه خطأ فحينئذ يخجل، فينبغي لمن كان كذلك أن يستر من رآه على عيب فبعفو عنه، وكذلك من جرب الأمور علم نفعها وضررها فلا يفعل شيئا إلا عن حكمة. قال الطيبي ويمكن أن يكون تخصيص الحليم بذي التجربة للإشارة إلى أن غير الحكيم بخلافه، وأن الحليم الذي ليس له تجربة قد يعثر في مواضع لا ينبغي له فيها الحلم بخلاف الحليم المجرب، وبهذا تظهر مناسبة أثر معاوية لحديث الباب، والله تعالى أعلم. قوله: "عن ابن المسيب" في رواية يونس عن الزهري "أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثه" أخرج البخاري في "الأدب المفرد" وكذا قال أصحاب الزهري فيه، وخالفهم صالح بن أبي الأخضر وزمعة بن صالح وهما ضعيفان فقالا: "عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه" أخرجه ابن عدي من طريق المعافى بن عمران عن زمعة وابن أبي الأخضر، واستغربه من حديث المعافى قال: وأما زمعة فقد رواه عنه أيضا أبو نعيم. قلت: أخرجه أحمد عنه، ورواه عن زمعة أيضا أبو داود الطيالسي في مسنده وأبو أحمد الزبيري أخرجه ابن ماجه. قوله: "لا يلدغ" هو بالرفع على صيغة الخبر، قال الخطابي هذا لفظه خبر ومعناه أمر، أي ليكن المؤمن حازما حذرا لا يؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدين كما يكون في أمر الدنيا وهو أولاهما بالحذر، وقد روي بكسر الغين في الوصل فيتحقق معنى النهي عنه، قال ابن التين: وكذلك قرأناه، قيل: معنى لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين أن من أذنب ذنبا فعوقب به في الدنيا لا يعاقب به في الآخرة. قلت: إن أراد قائل هذا أن عموم الخبر يتناول هذا فيمكن وإلا فسبب الحديث يأبى ذلك، ويؤيده قول من قال: فيه تحذير من التغفيل، وإشارة إلى استعمال الفطنة. ومال أبو عبيد: معناه ولا ينبغي للمؤمن إذا نكب من وجه أن يعود إليه. قلت وهذا هو الذي فهمه الأكثر ومنهم الزهري راوي الخبر، فأخرج ابن حبان من طريق سعيد بن عبد العزيز قال: "قيل للزهري لما قدم من عند هشام بن عبد الملك: ماذا صنع بك؟ قال: أوفى عني ديني، ثم قال: يا بن شهاب تعود تدان؟ قلت: لا" وذكر الحديث. وقال أبو داود الطيالسي بعد تخريجه: لا يعاقب في الدنيا بذنب فيعاقب به في الآخرة، وحمله غيره على غير ذلك. قيل: المراد بالمؤمن في هذا الحديث الكامل الذي قد أوقفته معرفته على غوامض الأمور حتى صار يحذر مما سيقع. وأما المؤمن المغفل فقد يلدغ مرارا. قوله: "من جحر" زاد في رواية الكشميهني والسرخسي "واحد" ووقع في بعض النسخ من "جحر حية" وهي زيادة شاذة. قال ابن بطال: وفيه أدب شريف أدب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته ونبههم كيف يحذرون مما يخافون سوء عاقبته، وفي معناه حديث: "المؤمن كيس حذر" أخرجه صاحب "مسند الفردوس" من حديث أنس بسند ضعيف قال: وهذا الكلام مما لم يسبق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأول ما قاله لأبي عزة الجمحي وكان شاعرا فأسر ببدر فشكى عائلة وفقرا فمن عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأطلقه بغير فداء، فظفر به بأحد فقال من علي وذكر فقره وعياله فقال: لا تمسح عارضيك بمكة تقول سخرت بمحمد مرتين، وأمر به فقتل. وأخرج قصته ابن إسحاق في المغازي بغير إسناد. وقال ابن هشام في "تهذيب السيرة" بلغني عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حينئذ "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " وصنيع أبي عبيد في كتاب الأمثال مشكل على قول ابن بطال أن النبي - أول من قال ذلك ولذلك قال ابن التين: إنه مثل قديم. وقال التوربشتي: هذا السبب يضعف الوجه الثاني يعني الرواية بكسر الغين

(10/530)


على النهي. وأجاب الطيبي بأنه يوجه بأن يكون صلى الله عليه وسلم لما رأى من نفسه الزكية الميل إلى الحلم جرد منها مؤمنا حازما فنهاه عن ذلك، يعني ليس من شيمة المؤمن الحازم الذي يغضب لله أن ينخدع من الغادر المتمرد فلا يستعمل الحلم في حقه، بل ينتقم منه. ومن هذا قول عائشة "ما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها" قال فيستفاد من هذا أن الحلم ليس محمودا مطلقا، كما أن الجود ليس محمودا مطلقا، وقد قال تعالى في وصف الصحابة {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} قال وعلى الوجه الأول وهو الرواية بالرفع فيكون إخبارا محضا لا يفهم هذا الغرض المستفاد من هذه الرواية، فتكون الرواية بصيغة النهي أرجح والله أعلم. قلت: ويؤيده حديث: " احترسوا من الناس بسوء الظن" أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أنس، وهو من رواية بقية بالعنعنة عن معاوية بن يحيى وهو ضعيف، فله علتان. وصح من قول مطرف التابعي الكبير أخرجه مسدد.

(10/531)


84 - بَاب حَقِّ الضَّيْفِ
6134- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ قُلْتُ بَلَى قَالَ فَلاَ تَفْعَلْ قُمْ وَنَمْ وَصُمْ وَأَفْطِرْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنَّكَ عَسَى أَنْ يَطُولَ بِكَ عُمُرٌ وَإِنَّ مِنْ حَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا فَذَلِكَ الدَّهْرُ كُلُّهُ قَالَ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ فَقُلْتُ فَإِنِّي أُطِيقُ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ قَالَ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلْتُ أُطِيقُ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ صَوْمَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ قُلْتُ وَمَا صَوْمُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ قَالَ نِصْفُ الدَّهْرِ" .
قوله: "حسين" هو المعلم، وقد تقدم الحديث مشروحا في كتاب الصيام، والغرض منه "وإن لزورك عليك حقا" والزور بفتح الزاي وسكون الواو بعدها راء الزائر، وقد بسط القول فيه في الباب الذي يليه.

(10/531)


85 - باب إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُ بِنَفْسِهِ. وَقَوْلِهِ تعالى: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يُقَالُ هُوَ زَوْرٌ وَهَؤُلاَءِ زَوْرٌ وَضَيْفٌ وَمَعْنَاهُ أَضْيَافُهُ وَزُوَّارُهُ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ مِثْلُ قَوْمٍ رِضاً وَعَدْلٍ يُقَالُ مَاءٌ غَوْرٌ وَبِئْرٌ غَوْرٌ وَمَاءَانِ غَوْرٌ وَمِيَاهٌ غَوْرٌ وَيُقَالُ الْغَوْرُ الْغَائِرُ لاَ تَنَالُهُ الدِّلاَءُ كُلَّ شَيْءٍ غُرْتَ فِيهِ فَهُوَ مَغَارَةٌ تَزَّاوَرُ تَمِيلُ مِنْ الزَّوَرِ وَالأَزْوَرُ الأَمْيَلُ
6135- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ" .
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ مِثْلَهُ وَزَادَ "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ".

(10/531)


86 - باب صُنْعِ الطَّعَامِ وَالتَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ
6139- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَاماً فَقَالَ كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمْ الْآنَ قَالَ فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ سَلْمَانُ". أَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبٌ السُّوَائِيُّ يُقَالُ وَهْبُ الْخَيْرِ
قوله: "باب صنع الطعام والتكلف للضيف" ذكر فيه حديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم إيضاح ذلك مع بقية شرحه في كتاب الصيام. قوله: "أبو جحيفة وهب السوائي" يعني بضم المهملة والمد "وهب الخير" أي كان يقال له وهب الخير، وهذا لم يقع في رواية أبي ذر. ووقع في التكلف للضيف حديث سلمان "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلف للضيف" أخرجه أحمد والحاكم، وفيه قصة سلمان مع ضيفه حيث طلب منه زيادة على ما قدم له فرهن مطهرته بسبب ذلك، ثم قال الرجل لما فرغ "الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا. فقال له سلمان: لو قنعت ما كانت مطهرتي مرهونة".

(10/534)


87 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْغَضَبِ وَالْجَزَعِ عِنْدَ الضَّيْفِ
6140- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَضَيَّفَ رَهْطاً فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ دُونَكَ أَضْيَافَكَ فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْدَهُ فَقَالَ اطْعَمُوا فَقَالُوا أَيْنَ

(10/534)


88 - باب قَوْلِ الضَّيْفِ لِصَاحِبِهِ: والله لاَ آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ.
فِيهِ حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6141- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِضَيْفٍ لَهُ أَوْ بِأَضْيَافٍ لَهُ فَأَمْسَى عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَتْ لَهُ أُمِّي احْتَبَسْتَ عَنْ ضَيْفِكَ أَوْ عَنْ أَضْيَافِكَ اللَّيْلَةَ قَالَ مَا عَشَّيْتِهِمْ فَقَالَتْ عَرَضْنَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا أَوْ فَأَبَى فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَسَبَّ وَجَدَّعَ وَحَلَفَ لاَ يَطْعَمُهُ فَاخْتَبَأْتُ أَنَا فَقَالَ يَا غُنْثَرُ فَحَلَفَتْ الْمَرْأَةُ لاَ تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ فَحَلَفَ الضَّيْفُ أَوْ الأَضْيَافُ أَنْ لاَ يَطْعَمَهُ أَوْ يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَأَنَّ هَذِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا فَجَعَلُوا لاَ يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا فَقَالَ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا فَقَالَتْ وَقُرَّةِ عَيْنِي إِنَّهَا الآنَ لاَكْثَرُ قَبْلَ أَنْ نَأْكُلَ فَأَكَلُوا وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا".
قوله: "باب قول الضيف لصاحبه والله لا آكل حتى تأكل" ذكر فيه حديث أبي جحيفة، يشير إلى قصة أبي الدرداء وسلمان وقد تقدم شرحها في كتاب الصيام، ولم تقع هذه الترجمة ولا هذا التعليق في رواية أبي ذر، وإنما ساق قصة أضياف أبي بكر تلو الطريق التي قبلها، وهي من هذا الوجه مختصرة، وسليمان في سندها هو التيمي.

(10/535)


باب إكرام الكبير ويبدأ بالكلام والسؤال
...
89 - باب إِكْرَامِ الْكَبِيرِ وَيَبْدَأُ الأَكْبَرُ بِالْكَلاَمِ وَالسُّؤَالِ
6142، 6143- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ

(10/535)


90 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الشِّعْرِ وَالرَّجَزِ وَالْحُدَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْهُ
وَقَوْلِهِ تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ

(10/536)


إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ
6145- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً" .
6146- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْتُ جُنْدَباً يَقُولُ: "بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
6147- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ".
6148- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلاً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الأَكْوَعِ أَلاَ تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ قَالَ وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلاً شَاعِراً فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَاغْفِرْ فِدَاءٌ لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا ... وَثَبِّتْ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا
وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ هَذَا السَّائِقُ قَالُوا عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ وَجَبَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْلاَ أَمْتَعْتَنَا بِهِ قَالَ فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ الْيَوْمَ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَاناً كَثِيرَةً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذِهِ النِّيرَانُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ قَالُوا عَلَى لَحْمٍ قَالَ عَلَى أَيِّ لَحْمٍ قَالُوا عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَهْرِقُوهَا وَاكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ أَوْ ذَاكَ" فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ فَتَنَاوَلَ بِهِ يَهُودِيّاً لِيَضْرِبَهُ وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ فَأَصَابَ

(10/537)


رُكْبَةَ عَامِرٍ فَمَاتَ مِنْهُ فَلَمَّا قَفَلُوا قَالَ سَلَمَةُ رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاحِباً فَقَالَ لِي: " مَا لَكَ فَقُلْتُ فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي زَعَمُوا أَنَّ عَامِراً حَبِطَ عَمَلُهُ قَالَ مَنْ قَالَهُ قُلْتُ قَالَهُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ الأَنْصَارِيُّ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَذَبَ مَنْ قَالَهُ إِنَّ لَهُ لاَجْرَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِيٌّ نَشَأَ بِهَا مِثْلَهُ"
6149- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ فَقَالَ: "وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقاً بِالْقَوَارِيرِ" قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ فَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ".
[الحديث 6149 – أطرافه في: 6161، 6202، 6209، 6210، 6211]
قوله: "باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء". أما الشعر فهو في الأصل اسم لما دق ومنه "ليت شعري" ثم استعمل في الكلام المقفى الموزون قصدا، ويقال أصله بفتحتين يقال شعرت أصبت الشعر وشعرت بكذا علمت علما دقيقا كإصابة الشعر. وقال الراغب: قال بعض الكفار عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه شاعر، فقيل لما وقع في القرآن من الكلمات الموزونة والقوافي، وقيل: أرادوا أنه كاذب لأنه أكثر ما يأتي به الشاعر كذب، ومن ثم سموا الأدلة الكاذبة شعرا، وقيل في الشعر: أحسنه أكذبه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ويؤيد الأول ما ذكر في حد الشعر أن شرطه القصد إليه، وأما ما وقع موزونا اتفاقا فلا يسمى شعرا، وأما الرجز فهو بفتح الراء والجيم بعدها زاي، وهو نوع من الشعر عند الأكثر، وقيل: ليس بشعر لأنه يقال راجز لا شاعر وسمي رجزا لتقارب أجزائه واضطراب اللسان به، ويقال رجز البعير إذا تقارب خطوه واضطرب لضعف فيه، وأما الحداء فهو بضم الحاء وتخفيف الدال المهملتين يمد ويقصر: سوق الإبل بضرب مخصوص من الغناء، والحداء في الغالب إنما يكون بالرجز وقد يكون بغيره من الشعر ولذلك عطفه على الشعر والرجز، وقد جرت عادة الإبل أنها تسرع السير إذا حدي بها. وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن طاوس مرسلا، وأورده البزار موصولا عن ابن عباس دخل حديث بعضهم في بعض: إن أول من حدا الإبل عبد لمضر بن نزار بن معد بن عدنان كان في إبل لمضر فقصر، فضربه مضر على يده فأوجعه فقال: يا يداه يا يداه، وكان حسن الصوت فأسرعت الإبل لما سمعته في السير، فكان ذلك مبدأ الحداء. ونقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلافه فيه، ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، ويلتحق بالحداء هنا الحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد. قوله: "وقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ الغاوون. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} ساق في رواية كريمة والأصيلي إلى آخر السورة، ووقع في رواية أبي ذر بين الآيتين المذكورتين لفظة "وقوله: "وهي زيادة لا يحتاج إليها، قال المفسرون في هذه الآية: المراد بالشعراء شعراء المشركين، يتبعهم غواة الناس ومردة الشياطين وعصاة الجن ويروون شعرهم لأن الغاوي لا يتبع إلا عاويا مثله، وسمى الثعلبي منهم عبد الله بن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب

(10/538)


ومسافع وعمرو بن أبي أمية بن أبي الصلت، وقيل: نزلت في شاعرين تهاجيا فكان مع كل واحد منهما جماعة وهم الغواة السفهاء. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} إلى قوله: {مَا لا يَفْعَلُونَ} قال فنسخ من ذلك واستثنى فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخر السورة. وأخرج ابن أبي شيبة - من طريق مرسلة - قال: لما نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} جاء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وهم يبكون فقالوا: يا رسول الله أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء. فقال اقرءوا ما بعدها {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أنتم {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أنتم. وقال السهيلي: نزلت الآية في الثلاثة، وإنما وردت بالإبهام ليدخل معهم من اقتدى بهم، وذكر الثعلبي مع الثلاثة كعب بن زهير بغير إسناد، والله أعلم. قوله: "قال ابن عباس: في كل لغو يخوضون" وصله ابن أبي حاتم والطبري من طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {فِي كُلِّ وَادٍ} قال: في كل لغو. وفي قوله: {يَهِيمُونَ} قال: يخوضون. وقال غيره يهيمون أي يقولون في الممدوح والمذموم ما ليس فيه، فهم كالهائم على وجهه والهائم المخالف للقصد. قوله: "وما يكره منه" هو قسيم قوله: "ما يجوز"، والذي يتحصل من كلام العلماء في حد الشعر الجائز أنه إذا لم يكثر منه في المسجد، وخلا عن هجو، وعن الإغراق في المدح والكذب المحض. والتغزل بمعين لا يحل. وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على جوازه إذا كان كذلك، واستدل بأحاديث الباب وغيرها وقال: ما أنشد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو استنشده ولم ينكره. قلت: وقد جمع ابن سيد الناس شيخ شيوخنا مجلدا في أسماء من نقل عنه من الصحابة شيء من شعر متعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد ذكر في الباب خمسة أحاديث دالة على الجواز، وبعضها مفصل لما يكره مما لا يكره، وترجم في "الأدب المفرد" ما يكره من الشعر وأورد فيه حديث عائشة مرفوعا: "إن أعظم الناس فرية الشاعر يهجو القبيلة بأسرها" وسنده حسن، وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ: " أعظم الناس فرية رجل هاجي رجلا فهجا القبيلة بأسرها" وصححه ابن حبان. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن عائشة أنها كانت تقول: الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ الحسن ودع القبيح ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها القصيدة فيها أربعون بيتا، وسنده حسن. وأخرج أبو يعلي أوله من حديثها من وجه آخر مرفوعا، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" أيضا من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا بلفظ: "الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام" وسنده ضعيف. وأخرجه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد. وقد اشتهر هذا الكلام عن الشافعي. واقتصر ابن بطال على نسبته إليه فقصر، وعاب القرطبي المفسر على جماعة من الشافعية الاقتصار على نسبة ذلك للشافعي وقد شاركهم في ذلك ابن بطال وهو مالكي. وأخرج الطبري من طريق ابن جريج قال: سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء فقال: لا بأس به ما لم يكن فحشا. قوله: "عن الزهري أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن" يعني ابن الحارث بن هشام المخزومي، وفي هذا الإسناد أربعة من التابعين قرشيون مدنيون في نسق، فالزهري من صغار التابعين وأبو بكر ومن فوقه من كبارهم؛ ولمروان وعبد الرحمن مزية إدراك النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهما من حيث الرواية معدودان في التابعين، وقد تقدم قريبا أن لعبد الرحمن رؤية وأنه عد لذلك في الصحابة، وكذا ذكر بعضهم مروان في الصحابة لإدراكه، وقد تقدم ذلك في الشروط. وقد اختلف على

(10/539)


الزهري في سنده: فالأكثر على ما قال شعيب. وقال معمر في المشهور عنه: "عن الزهري عن عروة" بدل أبي بكر موصولا، وأخرجه ابن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة "عن الزهري عن عروة" مرسلا، ووافق رباح بن أبي زيد عن معمر الجماعة، وكذا قال هشام بن يوسف عن معمر، لكن قال عبد الله بن الأسود وكذا قال إبراهيم بن سعيد: عن الزهري، وحذف يزيد بن هارون عن إبراهيم بن سعد مروان من السند والصواب إثباته. قوله: "إن من الشعر حكمة" أي قولا صادقا مطابقا للحق. وقيل: أصل الحكمة المنع، فالمعنى إن من الشعر كلاما نافعا يمنع من السفه. وأخرج أبو داود من رواية صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من البيان سحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيا" . فقال صعصعة بن صوحان: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أما قوله: "إن من البيان سحرا" فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأما قوله: "وإن من العلم جهلا" فيكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهل ذلك. وأما قوله: "إن من الشعر حكما" فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ بها الناس. وأما قوله: "إن من القول عيا" فعرضك كلامك على من لا يريده. وقال ابن التين: مفهومه أن بعض الشعر ليس كذلك، لأن "من" تبعيضية. ووقع في حديث ابن عباس عند البخاري في "الأدب المفرد" وأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجة بلفظ: "إن من الشعر حكما" وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود، وأخرجه أيضا من حديث بريدة مثله. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير قال قال أبو بكر: ربما قال الشاعر الكلمة الحكيمة. وقال ابن بطال: ما كان في الشعر والرجز ذكر الله تعالى وتعظيم له ووحدانيته وإيثار طاعته والاستسلام له فهو حسن مرغب فيه، وهو المراد في الحديث بأنه حكمة، وما كان كذبا وفحشا فهو مذموم. قال الطبري: في هذا الحديث رد على من كره الشعر مطلقا واحتج بقول ابن مسعود "الشعر مزامير الشيطان" وعن مسروق أنه تمثل بأول بيت شعر ثم سكت، فقيل له فقال: أخاف أن أجد في صحيفتي شعرا، وعن أبي أمامة رفعه: " أن إبليس لما أهبط إلى الأرض قال: رب اجعل لي قرآنا، قال قرآنك الشعر" ثم أجاب عن ذلك بأنها أخبار واهية. وهو كذلك، فحديث أبي أمامة فيه علي بن يزيد الهاني وهو ضعيف، وعلى تقدير قوتها فهو محمول على الإفراط فيه والإكثار منه كما سيأتي تقريره بعد باب، ويدل على الجواز سائر أحاديث الباب. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن عمر بن الشريد عن أبيه قال: "استنشدني النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته حتى أنشدته مائة قافية". وعن مطرف قال: صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة فقل منزل نزله إلا وهو ينشدني شعرا. وأسند الطبري عن جماعة من كبار الصحابة ومن كبار التابعين أنهم قالوا الشعر وأنشدوه واستنشدوه. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن خالد بن كيسان قال: كنت عند ابن عمر فوقف عليه إياس بن خيثمة فقال: ألا أنشدك من شعري؟ قال: بلى ولكن لا تنشدني إلا حسنا. وأخرج ابن أبي شيبة بسند حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه" ومن طريق عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: "كنت أجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي في المسجد فيتناشدون الأشعار ويذكرون حديث الجاهلية" وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه من حديث جابر بن سمرة قال: "كان أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم يتذاكرون الشعر وحديث الجاهلية عند رسول

(10/540)


الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهاهم. وربما يتبسم". قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "سمعت جندبا" في رواية أبي عوانة عن الأسود الماضية في أوائل الجهاد: "جندب بن سفيان البجلي". قوله: "بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي" في رواية أبي عوانة "كان في بعض المشاهد" وفي رواية شعبة عن الأسود "خرج إلى الصلاة" وأخرج الطيالسي وأحمد في رواية ابن عيينة عن الأسود عن جندب "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار". قوله: "فعثر" بالعين المهملة والثاء المثلثة. قوله: "فقال: هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت" هذان قسمان من رجز والتاء في آخرهما مكسورة على وفق الشعر، وجزم الكرماني بأنهما في الحديث بالسكون وفيه نظر، وزعم غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم تعمد إسكانهما ليخرج القسمين عن الشعر، وهو مردود فإنه يصير من ضرب آخر من الشعر وهو من ضروب البحر الملقب الكامل. وفي الثاني زحاف جائز. قال عياض: وقد غفل بعض الناس فروى دميت ولقيت بغير مد فخالف الرواية ليسلم من الإشكال فلم يصب، وقد اختلف هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم متمثلا أو قاله من قبل نفسه غير قاصد لإنشائه فخرج موزونا، وبالأول جزم الطبري وغيره، ويؤيده أن ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" أوردهما لعبد الله بن رواحة فذكر أن جعفر بن أبي طالب لما قتل في غزوة مؤتة بعد أن قتل زيد بن حارثة أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقاتل فأصيب إصبعه، فارتجز وجعل يقول هذين القسمين وزاد:
يا نفس إن لا تقتلي تموتي ... هذي حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
وهكذا جزم ابن التين بأنهما من شعر ابن رواحة. وذكر الواقدي أن الوليد بن المغيرة كان رافق أبا بصير في صلح الحديبية على ساحل البحر، ثم أن الوليد رجع إلى المدينة فعثر بالحرة فانقطعت إصبعه فقال هذين القسمين. وأخرجه الطبراني من وجه آخر موصول بسند ضعيف. وقال ابن هشام في زيادات السيرة "حدثني من أثق به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لي بعباس بن أبي ربيعة، فقال الوليد بن الوليد أنا" فذكر قصة فيها "فعثر فدميت إصبعه فقالهما" وهذا إن كان محفوظا احتمل أن يكون ابن رواحة ضمنهما شعره وزاد عليهما، فإن قصة الحديبية قبل قصة مؤتة، وقد تقدم نحو هذا الاحتمال في أوائل غزوة خيبر في الرجز المنسوب لعامر بن الأكوع "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" وأنه نسب في رواية أخرى لابن رواحة. وقد اختلف في جواز تمثل النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الشعر وإنشاده حاكيا عن غيره فالصحيح جوازه. وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وصححه والنسائي من رواية المقدام بن شريح عن أبيه "قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل من شعر ابن رواحة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود" وأخرج ابن أبي شيبة نحوه من حديث ابن عباس وأخرج أيضا من مرسل أبي جعفر الخطمي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد وعبد الله بن رواحة يقول: أفلح من يعالج المساجدا. فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ابن رواحة: يتلو القرآن قائما وقاعدا. فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأما ما أخرجه الخطيب في التاريخ عن عائشة:
تفاءل بما تهوى تكن فلقلما ... يقال لشيء كان إلا تحققا
قال: وإنما لم يعربه لئلا يكون شعرا، فهو شيء لا يصح. ومما يدل على وهائه التعليل المذكور، والحديث

(10/541)


الثالث في الباب يؤيد ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يجوز له أن يحكي الشعر عن ناظمه. وقد تقدم في غزوة حنين قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" وأنه دل على جواز وقوع الكلام منه منظوما من غير قصد إلى ذلك ولا يسمى ذلك شعرا. وقد وقع الكثير من ذلك في القرآن العظيم، لكن غالبها أشطار أبيات والقليل منها وقع وزن بيت تام، فمن التام قوله تعالى: {الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ}- {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} - {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} - {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} - {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} - {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} - {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ - وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} - {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} - {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} - {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} - {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ} - {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} – وكذلك السجود - {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} - {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} - {يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ} - {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} - {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} - {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} - {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} - {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} والواو في كل منهما وإن كانت زائدة على الوزن لكنه يجوز في النظم ويسمى الخزم بالزاي بعد الخاء المعجمة. وأما الأشطار فكثيرة جدا فمنها {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} - {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} - {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} - {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ - فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} - {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} - {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} - {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} - {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} - {أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} - {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} - {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} - {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} - {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} - {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} - {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} - {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} - {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} - {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} - لآبَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} - {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ - {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ - {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ - {َانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ - {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} - {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} - {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} - {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} - {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} - {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ - {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} - {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} - {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} - {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} - {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} - {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ} - {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} - {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ} - {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} - وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} - {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} - {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} - {فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} - {زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} - {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} - {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} - {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ومن التام أيضا {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} . وإذا انتهى إلى {النَّاسِ} تم أيضا، وأيضا {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} وقيل في الجواب عن الحديث: إن وقوع البيت الواحد من الفصيح لا يسمى شعرا، ولا يسمى قائله شاعرا. حديث أبي هريرة "أصدق كلمة قالها الشاعر" تقدم شرحه في أيام الجاهلية، وقوله: "عن أبي سلمة عن أبي هريرة" وقع في رواية زائدة بن قدامة "عن عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة" به وزاد بعد قوله كلمة لبيد: ثم تمثل أوله وترك آخره. وقد أخرج مسلم من وجه آخر عن زائدة مثل رواية سفيان ومن تابعه وهو المحفوظ. الحديث

(10/542)


الرابع: حديث سلمة بن الأكوع في قصة عامر بن الأكوع، تقدم شرحه مستوفى في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وقوله فيه: "وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم" يؤخذ منه جميع الترجمة لاشتماله على الشعر والرجز والحداء ويؤخذ منه الرجز من جملة الشعر، وقوله: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" قال ابن التين: هذا ليس بشعر ولا رجز لأنه ليس بموزون، وليس كما قال بل هو رجز موزون، وإنما زيد في أوله سبب خفيف ويسمى الخزم بالمعجمتين وقوله: "فاغفر فداء لك ما اقتفينا" أما فداء فهو بكسر الفاء والمدمنون، ومنهم من يقوله بالقصر، وشرط اتصاله بحرف الجر كالذي هنا، قاله ابن التين. وقال المازري لا يقال لله فداء لك لأنها كلمة تستعمل عند توقع مكروه لشخص فيختار شخص آخر أن يحل به دون ذلك الآخر ويفديه، فهو إما مجاز عن الرضا كأنه قال: نفسي مبذولة لرضاك أو هذه الكلمة وقعت خطابا لسامع الكلام، وقد تقدم له توجيه آخر في غزوة خيبر. وقال ابن بطال: معناه اغفر لنا ما ارتكبناه من الذنوب، وفداء لك دعاء أي افدنا من عقابك على ما اقترفنا من ذنوبنا، كأنه قال: أغفر لنا وافدنا منك فداء لك، أي من عندك فلا تعاقبنا به. وحاصله أنه جعل اللام للتبيين مثل هيت لك، واستدل بجواز الحداء على جواز غناء الركبان المسمى بالنصب، وهو ضرب من النشيد بصوت فيه تمطيط، وأفرط قوم فاستدلوا به على جواز الغناء مطلقا بالألحان التي تشتمل عليها الموسيقى، وفيه نظر. وقال الماوردي: اختلف فيه، فأباحه قوم مطلقا، ومنعه قوم مطلقا، وكرهه مالك والشافعي في أصح القولين، ونقل عن أبي حنيفة المنع، وكذا أكثر الحنابلة. ونقل ابن طاهر في "كتاب السماع" الجواز عن كثير من الصحابة، لكن لم يثبت من ذلك شيء إلا في النصب المشار إليه أولا. قال ابن عبد البر: الغناء الممنوع ما فيه تمطيط وإفساد لوزن الشعر طلبا للطرب وخروجا من مذاهب العرب. وإنما وردت الرخصة في الضرب الأول دون ألحان العجم. وقال الماوردي: هو الذي لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه من غير نكير إلا في حالتين: أن يكثر منه جدا وأن يصحبه ما يمنعه منه. واحتج من أباحه بأن فيه ترويحا للنفس، فإن فعله ليقوى على الطاعة فهو مطيع أو على المعصية فهو عاص، وإلا فهو مثل التنزه في البستان والتفرج على المارة. وأطنب الغزالي في الاستدلال، ومحصله أن الحداء بالرجز والشعر لم يزل يفعل في الحضرة النبوية، وربما التمس ذلك، وليس هو إلا أشعار توزن بأصوات طيبة وألحان موزونة، وكذلك الغناء أشعار موزونة تؤدى بأصوات مستلذة وألحان موزونة. وقد تقدم له بوجه آخر في غزوة خيبر(1) والحليمي ما تعين طريقا إلى الدواء أو شهد به طبيب عدل عارف. قوله: "إسماعيل" هو ابن علية. قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه" يأتي في "باب المعاريض" في رواية حماد بن زيد عن أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر. وفي رواية شعبة عن ثابت عن أنس "كان في منزله فحدي الحادي" وسيأتي ذلك في "باب المعاريض" وأخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق شعبة بلفظ: "وكان معهم سائق وحاد" ولأبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "كان أنجشة يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال" وأخرجه أبو عوانة من رواية عفان عن حماد. وفي رواية قتادة عن أنس "كان للنبي صلى الله عليه وسلم حاد يقال له أنجشة وكان حسن الصوت" وسيأتي في "باب المعاريض" وفي رواية وهيب "وأنجشة غلام النبي صلى الله عليه وسلم يسوق بهن" وفي رواية حميد عن أنس "فاشتد بهن في السياق" أخرجها أحمد عن ابن عدي عنه. وفي رواية حماد
ـــــــ
(1) بياض بأصله.

(10/543)


ابن سلمة عن ثابت "فإذا أعنقت الإبل" وهي بعين مهملة ونون وقاف أي أسرعت وزنه ومعناه، والعنق بفتحتين قد تقدم بيانه في كتاب الحج. قوله: "ومعهن أم سليم" في رواية حميد عن أنس عند الحارث "وكان يحدو بأمهات المؤمنين ونسائهم" وفي رواية وهيب عن أيوب كما سيأتي بعد عشرين بابا "كانت أم سليم في الثقل" وفي رواية سليمان التيمي عن أنس عند مسلم: "كانت أم سليم مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه من طريق يزيد بن زريع عنه، وأخرجه النسائي من طريق زهير والرامهرمزي في "الأمثال" من طريق حماد بن مسعدة كلاهما عن سليمان فقال: "عن أنس عن أم سليم" جعله من مسند أم سليم، والأول هو المحفوظ، وحكى عياض أن في رواية السمرقندي في مسلم: "أم سلمة" بدل أم سليم قال وقوله في الرواية الأخرى "مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم" يقوي أنها ليست من نسائه. قلت: وتضافر الروايات على أنها أم سليم يقضي بأن قوله أم سلمة تصحيف. قوله: "فقال: ويحك يا أنجشة" في رواية حماد "كان في سفر له وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة" وسيأتي في "باب المعاريض" وفي رواية مسلم من هذا الوجه "كان في بعض أسفاره وغلام أسود" وفي رواية للنسائي عن قتيبة عن حماد "وغلام له يقال له أنجشة" وهو بفتح الهمز وسكون النون وفتح الجيم بعدها شين معجمة ثم هاء تأنيث، ووقع في رواية وهيب "يا أنجش" على الترخيم، قال البلاذري: كان أنجشة حبشيا يكني أبا مارية. وأخرج الطبراني من حديث واثلة أنه كان ممن نفاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المخنثين. قوله: "رويدك" كذا للأكثر وفي رواية سليمان التيمي "رويدا" وفي رواية شعبة "أرفق" ووقع في رواية حميد "رويدك أرفق" جمع بينهما رويناه في "جزء الأنصاري" عن حميد. وأخرجه الحارث عن عبد الله بن بكر عن حميد فقال: "كذلك سوقك" وهي بمعنى كفاك. قال عياض: قوله رويدا منصوب على أنه صفة لمحذوف دل عليه اللفظ أي سق سوقا رويدا، أو احد حدوا رويدا. أو على المصدر أي أورد رويدا مثل أرفق رفقا. أو على الحال أي سر رويدا، أو رويدك منصوب على الإغراء، أو مفعول بفعل مضمر أي الزم رفقك، أو على المصدر أي أرود رويدك. وقال الراغب: رويدا من أرود يرود كأمهل يمهل وزنه ومعناه، وهو من الرود بفتح الراء وسكون ثانيه وهو التردد في طلب الشيء برفق راد وارتاد، والرائد طالب الكلأ، ورادت المرأة ترود إذا مشت على هينتها. وقال الرامهرمزي: رويدا تصغير رود وهو مصدر فعل الرائد، وهو المبعوث في طلب الشيء، ولم يستعمل في معنى المهملة إلا مصغرا، قال وذكر صاحب "العين" أنه إذا أريد به معنى الترويد في الوعيد لم ينون. وقال السهيلي: قوله رويدا أي أرفق، جاء بلفظ التصغير لأن المراد التقليل أي أرفق قليلا، وقد يكون من تصغير المرخم وهو أن يصغر الاسم بعد حرف الزوائد كما قالوا في أسود سويد فكذا في أرود رويد. قوله: "سوقك" كذا للأكثر وفي رواية حميد "سيرك" وهو بالنصب على نزع الخافض أي أرفق في سوقك، أو سقهن كسوقك. وقال القرطبي في "المفهم": رويدا أي أرفق، وسوقك مفعول به. ووقع في رواية مسلم: "سوقا" وكذا للإسماعيلي في رواية شعبة، وهو منصوب على الإغراء بقوله أرفق سوقا، أو على المصدر أي سق سوقا. وقرأت بخط ابن الصائغ المتأخر: رويدك إما مصدر والكاف في محل خفض، وإما اسم فعل والكاف حرف خطاب، وسوقك بالنصب على الوجهين والمراد به حدوك إطلاقا لاسم المسبب على السبب. وقال ابن مالك: رويدك اسم فعل بمعني أرود أي أمهل، والكاف المتصلة به حرف خطاب، وفتحة داله بنائية. ولك أن تجعل رويدك مصدرا مضافا إلى الكاف ناصبها سوقك وفتحة دالة على هذا إعرابية. وقال أبو البقاء: الوجه

(10/544)


النصب برويدا والتقدير أمهل سوقك، والكاف حرف خطاب وليست اسما، ورويدا يتعدى إلى مفعول واحد. قوله: "بالقوارير" في رواية هشام عن قتادة "رويدك سوقك ولا تكسر القوارير" وزاد حماد في روايته عن أيوب قال أبو قلابة: يعني النساء، ففي رواية همام عن قتادة "ولا تكسر القوارير" قال قتادة: يعني ضعفة النساء والقوارير جمع قارورة وهي الزجاجة سميت بذلك لاستقرار الشراب فيها. وقال الرامهرمزي: كني عن النساء بالقوارير لرقتهن وضعفهن عن الحركة، والنساء يشبهن بالقوارير في الرقة واللطافة وضعف البنية، وقيل: المعنى سقهن كسوقك القوارير لو كانت محمولة على الإبل. وقال غيره: شبههن بالقوارير لسرعة انقلابهن عن الرضا، وقلة دوامهن على الوفاء، كالقوارير يسرع إليها الكسر ولا تقبل الجبر، وقد استعملت الشعراء ذلك، قال بشار:
ارفق بعمرو إذا حركت نسبته ... فإنه عربي من قوارير
قال أبو قلابة: فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه: "سوقك بالقوارير " قال الداودي: هذا قاله أبو قلابة لأهل العراق لما كان عندهم من التكلف ومعارضة الحق بالباطل. وقال الكرماني: لعله نظر إلى أن شرط الاستعارة أن يكون وجه الشبه جليا، وليس بين القارورة والمرأة وجه للتشبيه من حيث ذاتهما ظاهر، لكن الحق أنه كلام في غاية الحسن والسلامة عن العيب؛ ولا يلزم في الاستعارة أن يكون جلاء وجه الشبه من حيث ذاتهما، بل يكفي الجلاء الحاصل من القرائن الحاصلة، وهو هنا كذلك. قال: ويحتمل أن يكون قصد أبي قلابة أن هذه الاستعارة من مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغة، ولو صدرت من غيره ممن لا بلاغة له لعبتموها. قال وهذا هو اللائق بمنصب أبي قلابة. قلت: وليس ما قاله الداودي بعيدا ولكن المراد من كان يتنطع في العبارة ويتجنب الألفاظ التي تشتمل على شيء من الهزل. وقريب من ذلك قول شداد بن أوس الصحابي لغلامه: ائتنا بسفرة نعبث بها، فأنكرت عليه، أخرجه أحمد والطبراني. قال الخطابي: كان أنجشة أسود وكان في سوقه عنف، فأمره أن يرفق بالمطايا. وقيل: كان حسن الصوت بالحداء فكره أن تسمع النساء الحداء فإن حسن الصوت يحرك من النفوس، فشبه ضعف عزائمهن وسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في سرعة الكسر إليها. وجزم ابن بطال بالأول فقال: القوارير كناية عن النساء اللاتي كن على الإبل التي تساق حينئذ، فأمر الحادي بالرفق في الحداء لأنه يحنث الإبل حتى تسرع فإذا أسرعت لم يؤمن على النساء السقوط، وإذا مشت رويدا أمن على النساء السقوط، قال: وهذا من الاستعارة البديعة، لأن القوارير أسرع شيء تكسيرا، فأفادت الكناية من الحض على الرفق بالنساء في السير ما لم تفده الحقيقة لو قال أرفق بالنساء. وقال الطيبي: هي استعارة لأن المشبه به غير مذكور، والقرينة حالية لا مقالية، ولفظ الكسر ترشيح لها. وجزم أبو عبيد الهروي بالثاني وقال: شبه النساء بالقوارير لضعف عزائمهن، والقوارير يسرع إليها الكسر، فخشي من سماعهن النشيد الذي يحدو به أن يقع بقلوبهن منه، فأمره بالكف، فشبه عزائمهن بسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في إسراع الكسر إليها. ورجح عياض هذا الثاني فقال هذا أشبه بمساق الكلام، وهو الذي يدل عليه كلام أبي قلابة، وإلا فلو عبر عن السقوط بالكسر لم يعبه أحد. وجوز القرطبي في "المفهم" الأمرين فقال: شبههن بالقوارير لسرعة تأثرهن وعدم تجلدهن، فخاف عليهن من حث السير بسرعة السقوط أو التألم من كثرة الحركة والاضطراب الناشئ

(10/545)


عن السرعة، أو خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد. قلت: والراجح عند البخاري الثاني، ولذلك أدخل هذا الحديث في "باب المعاريض"، ولو أريد المعنى الأول لم يكن في القوارير تعريض.

(10/546)


91 - باب هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ
6150- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَكَيْفَ بِنَسَبِي" فَقَالَ حَسَّانُ لاَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنْ الْعَجِينِ وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ لاَ تَسُبُّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
6151- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ الْهَيْثَمَ بْنَ أَبِي سِنَانٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ فِي قَصَصِهِ يَذْكُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَخاً لَكُمْ لاَ يَقُولُ الرَّفَثَ يَعْنِي بِذَاكَ ابْنَ رَوَاحَةَ قَالَ:
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ ... إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ
تَابَعَهُ عُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَالأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
6152- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَعَمْ".
6153- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ اهْجُهُمْ أَوْ قَالَ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ".
قوله: "باب هجاء المشركين" الهجاء والهجو بمعني، ويقال هجوته ولا تقل هجيته. وأشار بهذه الترجمة إلى أن بعض الشعر قد يكون مستحبا، وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أنس رفعه: "جاهدوا المشركين بألسنتكم" وتقدم في مناقب قريش الإشارة إلى حديث كعب بن مالك وغيره في ذلك، وللطبراني من حديث عمار بن ياسر "لما هجانا المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" قولوا لهم كما يقولون لكم" فإن

(10/546)


كنا لنعلمه إماء أهل المدينة. قوله: "حدثنا محمد" هو ابن سلام نسبه أبو علي بن السكن وصرح به البخاري في "الأدب المفرد" وعبدة هو ابن سليمان، وتقدم شرح حديث عائشة هذا في مناقب قريش. وقوله استأذن حسان، ووقع في طريق مرسلة بيان ذلك وسببه: فروى ابن وهب في جامعه وعبد الرزاق في مصنفه من طريق محمد بن سيرين قال: "هجا رهط من المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال المهاجرون: يا رسول الله ألا تأمر عليا فيهجو هؤلاء القوم؟ فقال: إن القوم الذين نصروا بأيديهم أحق أن ينصروا بألسنتهم. فقالت الأنصار: أرادنا والله. فأرسلوا إلى حسان، فأقبل فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أحب أن لي بمقولي ما بين صنعاء وبصرى، فقال: أنت لها، فقال لا علم لي بقريش، فقال لأبي بكر أخبره عنهم ونقب له في مثالبهم. وقد تقدم بعض هذا موصولا من حديث عائشة وهو عند مسلم، وقوله: "لأسلنك" أي لأخلص نسبك من هجومهم بحيث لا يبقى شيء من نسبك فيناله الهجو، كالشعرة إذا انسلت لا يبقى عليها شيء من العجين. وفي الحديث جواز سب المشرك جوابا عن سبه للمسلمين، ولا يعارض ذلك مطلق النهي عن سب المشركين لئلا يسبوا المسلمين لأنه محمول على البداءة به، لا على من أجاب منتصرا. وقوله في الحديث الثاني "ينافح" بفاء ومهملة أي يخاصم بالمدافعة، والمنافح المدافع، تقول نافحت عن فلان أي دافعت عنه. حديث أبي هريرة في شعر عبد الله بن رواحة، وقد تقدم شرحه في قيام الليل في أواخر كتاب الصلاة، وكذا بيان متابعة عقيل ومن وصلها ورواية الزبيدي ومن وصلها. قال ابن بطال: فيه أن الشعر إذا اشتمل على ذكر الله والأعمال الصالحة كان حسنا ولم يدخل فيما ورد فيه الذم من الشعر. قال الكرماني: في البيت الأول إشارة إلى علمه، وفي الثالث إلى عمله، وفي الثاني إلى تكميله غيره صلى الله عليه وسلم فهو كامل مكمل. "تنبيه": وقع للجميع في البيت الثالث "إذا استثقلت بالكافرين المضاجع" إلا الكشميهني فقال: "بالمشركين" واستثقلت بالمثلثة والقاف من الثقل. وزعم عياض أنه وقع في رواية أبي ذر "استقلت" بمثناة فقط وتشديد اللام قال: وهو فاسد الرواية والنظم والمعنى. قلت: وروايتنا من طريق أبي ذر متقنة وهي كالجادة. قوله: "وحدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وأخوه أبو بكر واسمه عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال، ومحمد بن أبي عتيق هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وأبو عتيق كنية جده محمد. وقد تقدمت رواية شعيب مفردة في "باب الشعر في المسجد" في أوائل الصلاة وقرنها هنا برواية ابن أبي عتيق ولفظهما واحد، إلا أنه قال هناك "أنشدك الله هل سمعت" وقال هنا "نشدتك الله" وفي رواية الكشميهني: "نشدتك بالله يا أبا هريرة" والباقي سواء. وقد تقدم بيان الاختلاف على الزهري في شيخه في هذا الحديث هناك، وتوجيه الجمع، والإشارة إلى شرح الحديث، وقوله: "هل سمعت" وقال في آخره: "نعم" يستفاد منه مشروعية تحمل الحديث بهذه الصيغة، وعد المزي هذا الحديث في "الأطراف" من مسند حسان وهو صريح في كونه من مسند أبي هريرة، ويحتمل أن يكون من مسند حسان. قوله: "عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان" هكذا رواه أكثر أصحاب شعبة فقال فيه: "عن البراء عن حسان" جعله من مسند حسان أخرجه النسائي، وقد أوردت هذا في الملائكة من بدء الخلق معزوا إلى الترمذي، وهو سهو كأن سببه التباس الرقم، فإنه للترمذي ت وللنسائي ن وهما يلتبسان، وقد تقدم بيان الوقت الذي وقع ذلك فيه لحسان في المغازي في غزوة بني قريظة.

(10/547)


92 - باب مَا يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبَ عَلَى الإِنْسَانِ الشِّعْرُ حَتَّى يَصُدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ
6154- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحاً خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْراً" .
6155- حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش قال سمعت أبا صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن يمتلئ جوف رجل قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا" .
قوله: "باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن" هو في هذا الحمل متابع لأبي عبيد كما سأذكره، ووجهه أن الذم كان للامتلاء وهو الذي لا بقية لغيره معه دل على أن ما دون ذلك لا يدخله الذم. حديث: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا" من حديث ابن عمر ومن حديث أبي هريرة. زاد أبو ذر في روايته عن الكشميهني في حديث أبي هريرة " حتى يريه " وهذه الزيادة ثابتة في "الأدب المفرد" عن الشيخ الذي أخرجه عنه هنا، وكذلك رواية النسفي، ونسبها بعضهم للأصيلي، ولسائر رواة الصحيح "قيحا يريه" بإسقاط حتى، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبو عوانة وابن حبان من طرق عن الأعمش في أكثرها "حتى يريه" ووقع عند الطبراني من وجه آخر عن سالم عن ابن عمر بلفظ: "حتى يريه" أيضا. قال ابن الجوزي: وقع في حديث سعد عند مسلم: "حتى يريه" وفي حديث أبي هريرة عند البخاري بإسقاط "حتى" فعلى ثبوتها يقرأ: "يريه" بالنصب وعلى حذفها بالرفع، قال: ورأيت جماعة من المبتدئين يقرءونها بالنصب مع إسقاط حتى جريا على المألوف، وهو غلط إذ ليس هنا ما ينصب. وذكر أن ابن الخشاب نبه على ذلك. ووجه بعضهم النصب على بدل الفعل من الفعل وإجراء إعراب يمتلئ على يريه، ووقع في حديث عوف بن مالك عند الطحاوي والطبراني "لأن يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى لهاته قيحا يتخضخض خير له من أن يمتلئ شعرا" وسنده حسن. ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم لهذا الحديث سبب ولفظه: "بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض لنا شاعر ينشد فقال: أمسكوا الشيطان، لأن يمتلئ" فذكره. ويريه بفتح الياء آخر الحروف بعدها راء ثم ياء أخرى، قال الأصمعي: هو من الوري بوزن الرمي يقال منه رجل موري غير مهموز وهو أن يوري جوفه وأنشد: قالت له وريا إذا تنحنحا تدعو عليه بذلك. وقال أبو عبيد: الوري هو أن يأكل القيح جوفه. وحكى ابن التين فيه الفتح بوزن الفرى وهو قول الفراء. وقال ثعلب: هو بالسكون المصدر، وبالفتح الاسم. وقيل: معنى قوله: "حتى يريه" أي يصيب رئته، وتعقب بأن الرئة مهموزة فإذا بنيت منه فعلا قلت رأه يرأه فهو مرئي انتهى، ولا يلزم من كون أصلها مهموزا أن لا تستعمل مسهلة، ويقرب ذلك أن الرئة إذا امتلأت قيحا يحصل الهلاك، وأما قوله: "جوف أحدكم " فقال ابن أبي جمرة يحتمل ظاهره أن يكون المراد جوفه كله وما فيه من القلب وغيره، ويحتمل أن يريد به القلب خاصة وهو الأظهر لأن أهل الطب يزعمون أن القيح إذا وصل إلى القلب شيء منه وإن كان يسيرا فإن صاحبه يموت لا محالة، بخلاف غير القلب مما في

(10/548)


الجوف من الكبد والرئة. قلت: ويقوي الاحتمال الأول رواية عوف بن مالك "لأن يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى لهاته" وتظهر مناسبته للثاني لأن مقابله - وهو الشعر - محله القلب لأنه ينشأ عن الفكر، وأشار ابن أبي جمرة إلى عدم الفرق في امتلاء الجوف من الشعر بين من ينشئه أو يتعانى حفظه من شعر غيره وهو ظاهر، وقوله: "قيحا" بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها مهملة المدة لا يخالطها دم، وقوله: "شعرا" ظاهره العموم في كل شعر، لكنه مخصوص بما لم يكن مدحا حقا كمدح الله ورسوله وما اشتمل على الذكر والزهد وسائر المواعظ مما لا إفراط فيه، ويؤيده حديث عمرو بن الشريد عن أبيه عند مسلم كما أشرت إليه قريبا، قال ابن بطال: ذكر بعضهم أن معنى قوله: "خير له من أن يمتلئ شعرا" يعني الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبيد: والذي عندي في هذا الحديث غير هذا القول، لأن الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم لو كان شطر بيت لكان كفرا، فكأنه إذا حمل وجه الحديث على امتلاء القلب منه أنه قد رخص في القليل منه، ولكن وجهه عندي أن يمتلئ قلبه من الشعر حتى يغلب عليه فيشغله عن القرآن وعن ذكر الله فيكون الغالب عليه، فأما إذا كان القرآن والعلم الغالبين عليه فليس جوفه ممتلئا من الشعر. قلت: وأخرج أبو عبيد التأويل المذكور من رواية مجالد عن الشعبي مرسلا فذكر الحديث وقال في آخره: يعني من الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم. وقد وقع لنا ذلك موصولا من وجهين آخرين، فعند أبي يعلى من حديث جابر في الحديث المذكور "قيحا أو دما خير له من أن يمتلئ شعرا هجيت به" وفي سنده راو لا يعرف، وأخرجه الطحاوي وابن عدي من رواية ابن الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة مثل حديث الباب قال: "فقالت عائشة لم يحفظ إنما قال: من أن يمتلئ شعرا هجيت به "، وابن الكلبي واهي الحديث، وأبو صالح شيخه ما هو الذي يقال له السمان المتفق على تخريج حديثه في الصحيح عن أبي هريرة، بل هذا آخر ضعيف يقال له باذان، فلم تثبت هذه الزيادة. ويؤيد تأويل أبي عبيد ما أخرجه البغوي في "معجم الصحابة" والحسن بن سفيان في مسنده والطبراني في "الأوسط" من حديث مالك بن عمير السلمي أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح وغيرها وكان شاعرا فقال: "يا رسول الله أفتني في الشعر" فذكر الحديث وزاد: "قلت يا رسول الله امسح على رأسي، قال فوضع يده على رأسي فما قلت بيت شعر بعد" وفي رواية الحسن بن سفيان بعد قوله: "على رأسي ثم أمرها على كبدي وبطني" وزاد البغوي في روايته: "فإن رابك منه شيء فاشبب بامرأتك وامدح راحلتك" فلو كان المراد الامتلاء من الشعر لما أذن له في شيء منه. بل دلت الزيادة الأخيرة على الإذن في المباح منه. وذكر السهيلي في غزوة ودان عن جامع ابن وهب أنه روي فيه أن عائشة رضي الله عنها تأولت هذا الحديث على ما هجي به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكرت على من حمله على العموم في جميع الشعر، قال السهيلي: فإن قلنا بذلك فليس في الحديث إلا عيب امتلاء الجوف منه، فلا يدخل في النهي رواية اليسير على سبيل الحكاية، ولا الاستشهاد به في اللغة. ثم ذكر استشكال أبي عبيد وقال: عائشة أعلم منه، فإن الذي يروي ذلك على سبيل الحكاية لا يكفر، ولا فرق بينه وبين الكلام الذي ذموا به النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الجواب عن صنيع ابن إسحاق في إيراده بعض أشعار الكفرة في هجو المسلمين، والله أعلم. واستدل بتأويل أبي عبيد على أن مفهوم الصفة ثابت باللغة، لأنه فهم منه أن غير الكثير من الشعر ليس كالكثير فخص الذم بالكثير الذي دل عليه الامتلاء دون القليل منه فلا يدخل في الذم. وأما من قال إن أبا عبيد بنى هذا التأويل على اجتهاده فلا يكون ناقلا للغة، فجوابه أنه إنما فسر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه على ما تلقفه من لسان

(10/549)


العرب لا على ما يعرض في خاطره لما عرف من تحرزه في تفسير الحديث النبوي. وقال النووي: استدل به على كراهة الشعر مطلقا وإن قل وإن سلم من الفحش. وتعلق بقوله في حديث أبي سعيد "خذوا الشيطان" (1). وأجيب باحتمال أن يكون كافرا، أو كان الشعر هو الغالب عليه، أو كان شعره الذي ينشده إذ ذاك من المذموم. وبالجملة فهي واقعة عين يتطرق إليها الاحتمال ولا عموم لها فلا حجة فيها، وألحق ابن أبي جمرة بامتلاء الجوف بالشعر المذموم حتى يشغله عما عداه من الواجبات والمستحبات الامتلاء من السجع مثلا ومن كل علم مذموم كالسحر وغير ذلك من العلوم التي تقسي القلب وتشغله عن الله تعالى وتحدث الشكوك في الاعتقاد وتفضي به إلى التباغض والتنافس.
" تنبيه ": مناسبة هذه المبالغة في ذم الشعر أن الذين خوطبوا بذلك كانوا في غاية الإقبال عليه والاشتغال به، فزجرهم عنه ليقبلوا على القرآن وعلى ذكر الله تعالى وعبادته، فمن أخذ من ذلك ما أمر به لم يضره ما بقي عنده مما سوى ذلك، والله أعلم.
ـــــــ
(1) هو في صحيح مسلم (كتاب الشعر) رقم 2259 عن أبي سعيد "بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا الشيطان – أو – أمسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا" .

(10/550)


93 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تَرِبَتْ يَمِينُكِ" وَ"عَقْرَى، حَلْقَى"
6156- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ قَالَ: " ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ" قَالَ عُرْوَةُ فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ".
6157- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْفِرَ فَرَأَى صَفِيَّةَ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً لأَنَّهَا حَاضَتْ فَقَالَ: "عَقْرَى حَلْقَى" لُغَةٌ لِقُرَيْشٍ إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا ثُمَّ قَالَ: "أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ يَعْنِي الطَّوَافَ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَانْفِرِي إِذاً" .
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم تربت يمينك، وعقرى، حلقي" ذكر فيه حديثين لعائشة مقدما فيهما ما ترجم به. حديثها في قصة أبي القعيس في الرضاعة، وقد تقدم شرحه في كتاب النكاح في "باب الأكفاء في الدين" في شرح حديث أبي هريرة "تنكح المرأة لأربع" الحديث. قال ابن السكيت: أصل تربت افتقرت، ولكنها كلمة

(10/550)


تقال ولا يراد بها الدعاء وإنما أراد التحريض على الفعل المذكور، وأنه إن خالف أساء. وقال النحاس: معناه إن لم تفعل لم يحصل في يديك إلا التراب. وقال ابن كيسان: هو مثل جرى على أنه إن فاتك ما أمرتك به افتقرت إليه فكأنه قال افتقرت إن فاتك فاختصر. وقال الداودي: معناه افتقرت من العلم. وقيل هي كلمة تستعمل في المدح عند المبالغة كما قالوا للشاعر قاتله الله لقد أجاد، وقيل غير ذلك مما تقدم بيانه في حديث أبي هريرة. حديثها في قصة صفية لما حاضت في الحج، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج في "باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت" وضبطه أبو عبيد في "غريب الحديث" بالقصر وبالتنوين، وذكر في "الأمثال" أنه في كلام العرب بالمد وفي كلام المحدثين بالقصر. وقال أبو علي القالي: هو بالمد وبالقصر معا، قالوا: والمعنى عقرها الله وحلقها. وفيه من القول نحو ما تقدم في تربت.

(10/551)


94 - باب مَا جَاءَ فِي زَعَمُوا
6158- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: "ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره فسلمت عليه فقال من هذه فقلت أنا أم هانئ بنت أبي طالب فقال مرحبا بأم هانئ فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد فلما انصرف قلت يا رسول الله زعم بن أمي أنه قاتل رجلا قد أجرته فلان بن هبيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ قالت أم هانئ وذاك ضحى" .
قوله: "باب ما جاء في زعموا" كأنه يشير إلى حديث أبي قلابة قال: "قيل لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا؟ قال: "بئس مطيه الرجل" أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعا. وكأن البخاري أشار إلى ضعف هذا الحديث بإخراجه حديث أم هانئ وفيه قولها "زعم ابن أمي" فإن أم هانئ أطلقت ذلك في حق علي ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في زعم أنها تقال في الأمر الذي لا يوقف على حقيقته. وقال ابن بطال: معنى حديث أبي مسعود أن من أكثر من الحديث بما لا يتحقق صحته لم يؤمن عليه الكذب. وقال غيره: كثر استعمال الزعم بمعنى القول، وقد وقع في حديث ضمام بن ثعلبة الماضي في كتاب العلم "زعم رسولك" وقد أكثر سيبويه في كتابه من قوله في أشياء يرتضيها "زعم الخليل".

(10/551)


باب وا جاء في قول الرجل: "ويلك"
...
95 - باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ وَيْلَكَ
6159- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: "ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَكَ" .
6160- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ

(10/551)


96 - باب عَلاَمَةِ الحبِّ في اللَّهِ. لِقَوْلِهِ تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ}
6168- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" .
[الحديث 6168 – طرفه في: 6169]
6169- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْماً وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " .
تَابَعَهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6170- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ قَالَ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" .
تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ
6171- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاَةٍ وَلاَ صَوْمٍ وَلاَ صَدَقَةٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" .

(10/557)


قوله: "باب علامة الحب في الله لقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} ذكر فيه حديث: "المرء مع من أحب" قال الكرماني: يحتمل أن يكون المراد بالترجمة محبة الله للعبد، أو محبة العبد لله، أو المحبة بين العباد في ذات الله بحيث لا يشوبها شيء من الرياء، والآية مساعدة للأولين، واتباع الرسول علامة للأولى لأنها مسببة للاتباع، وللثانية لأنها سببه انتهى. ولم يتعرض لمطابقة الحديث للترجمة. وقد توقف فيه غير واحد. والمشكل منه جعل ذلك علامة الحب في الله، وكأنه محمول على الاحتمال الثاني الذي أبداه الكرماني، وأن المراد علامة حب العبد لله، فدلت الآية أنها لا تحصل إلا باتباع الرسول، ودل الخبر على أن اتباع الرسول وإن كان الأصل أنه لا يحصل إلا بامتثال جميع ما أمر به أنه قد يحصل من طريق التفضل باعتقاد ذلك وإن لم يحصل استيفاء العمل بمقتضاه، بل محبة من يعمل ذلك كافية في حصول أصل النجاة، والكون مع العاملين بذلك لأن محبتهم إنما هي لأجل طاعتهم. والمحبة من أعمال القلوب فأثاب الله محبهم على معتقده، إذ النية هي الأصل والعمل تابع لها، وليس من لازم المعية الاستواء في الدرجات. وقد اختلف في سبب نزول الآية: فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل فأنزل الله هذه الآية. وذكر الكلبي في تفسيره عن ابن عباس أنها نزلت حين قال اليهود {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وفي تفسير محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير: نزلت في نصارى نجران، قالوا: إنما نعبد المسيح حبا لله وتعظيما له. وفي تفسير الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في قريش، قالوا: إنما نعبد الأصنام حبا لله لتقربنا إليه زلفى فنزلت. قوله: "شعبة عن سليمان" هو الأعمش. وفي رواية أبي داود الطيالسي "عن شعبة عن الأعمش". قوله: "عن أبي وائل" في رواية الطيالسي "عن شعبة عن الأعمش سمع أبا وائل" وكذا في رواية عمرو بن مرزوق "عن شعبة عن الأعمش سمعت أبا وائل". قوله: "عن عبد الله" هكذا رواه أصحاب شعبة، فقالوا "عن عبد الله" ولم ينسبوه منهم ابن أبي عدي عند مسلم، وأبو داود الطيالسي، عند أبي عوانة، وعمرو بن مرزوق عند أبي نعيم وأبو عامر العقدي، ووهب بن جرير عند الإسماعيلي، وحكى الإسماعيلي عن بندار أنه عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري، واستدل برواية سفيان الثوري عن الأعمش الآتية عقب هذا، وسيأتي ما يؤيده، ولكن صنيع البخاري يقتضي أنه كان عند أبي وائل عن ابن مسعود وعن أبي موسى جميعا وأن الطريقين صحيحان لأنه بين الاختلاف في ذلك ولم يرجح، ولذا ذكر أبو عوانة في صحيحه عن عثمان بن أبي شيبة أن الطريقين صحيحان. قلت: ويؤيد ذلك أن له عند ابن مسعود أصلا، فقد أخرج أبو نعيم في "كتاب المحبين" من طريق عطية عن أبي سعيد قال: "أتيت أنا وأخي عبد الله بن مسعود فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث. وأخرجه أيضا من طريق مسروق عن عبد الله به. قوله: "جرير عن الأعمش عن أبي وائل قال: قال عبد الله بن مسعود - ثم قال في آخره - تابعه جرير بن حازم" فيه إشارة إلى أن جريرا الأول هو ابن عبد الحميد. وأما متابعة جرير بن حازم فوصلها أبو نعيم في "كتاب المحبين" من طريق أبي الأزهر أحمد بن الأزهر عن وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله، فذكره ولم ينسب عبد الله. قوله: "وسليمان بن قرم" هو بفتح القاف وسكون الراء ومتابعته هذه وصلها مسلم من طريق أبي الجواب عمار بن رزيق بتقديم الراء عنه عن عبد الله وعطفها على رواية شعبة فقال مثله، وساق أبو عوانة في صحيحه لفظها ولم ينسب عبد الله أيضا، وساقها الخطيب في كتاب "المكمل" مطولة. قوله: "وأبو عوانة

(10/558)


عن الأعمش" يعني أن الثلاثة رووه عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله، وأبو عوانة هذا هو الوضاح، وأما أبو عوانة صاحب الصحيح فاسمه يعقوب ومتابعة أبي عوانة وصلها أبو عوانة يعقوب والخطيب في كتاب "المكمل" من طريق يحيى بن حماد عنه وقال فيه أيضا: "عن عبد الله" ولم ينسبه. قوله: "حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله: "عن أبي موسى" هكذا صرح به أبو نعيم، وأخرجه أبو عوانة من رواية قبيصة عن سفيان الثوري فقال: "عن عبد الله" ولم ينسبه، وهذا يؤيد قول بندار أن عبد الله حيث لم ينسب فالمراد به في هذا الحديث أبو موسى، وأن من نسبه ظن أنه ابن مسعود لكثرة مجيء ذلك على هذه الصورة في رواية أبي وائل، ولكنه هنا خرج عن القاعدة، وتبين برواية من صرح أنه أبو موسى الأشعري أن المراد بعبد الله ابن قيس وهو أبو موسى الأشعري، ولم أر من صرح في روايته عن ابن الأعمش أنه عبد الله بن مسعود إلا ما وقع في رواية جرير بن عبد الحميد هذه عند البخاري عن قتيبة عنه، وقد أخرجه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة كلاهما عن جرير فقال: "عن عبد الله" حسب، وكذا قال أبو يعلي عن أبي خيثمة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية جعفر بن العباس وأبو عوانة من رواية إسحاق بن إسماعيل كلهم عن جرير به، وكل من ذكر البخاري أنه تابعه إنما جاء من روايته أيضا عن عبد الله غير منسوب، كذا أخرجه أبو عوانة من رواية شيبان عن الأعمش فقال عبد الله ولم ينسبه. قوله: "المرء مع من أحب" قد جمع أبو نعيم طرق هذا الحديث في جزء سماه "كتاب المحبين مع المحبوبين" وبلغ الصحابة فيه نحو العشرين. وفي رواية أكثرهم بهذا اللفظ، وفي بعضها بلفظ أنس الآتي عقب هذا. قوله: "تابعه أبو معاوية ومحمد بن عبيد" يعني عن الأعمش، وهذه المتابعة وصلها مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير عنهما وقال في روايته: "عن أبي موسى" وهكذا أخرجه أبو عوانة من طريق محمد ابن كناسة عن الأعمش، ووجدت للأعمش فيه إسنادا آخر أخرجه الحسن بن رشيق في "شيوخ مكة" له عن جعفر بن محمد السوسي عن سهل بن عثمان عن حفص بن غياث عن الأعمش عن الشعبي عن عروة بن مضرس به وقال: غريب تفرد به سهل، قلت: ورجاله ثقات، إلا أني لا أعرف جعفر بن محمد، ولعله دخل عليه متن حديث في إسناد حديث. قوله: "جاء رجل" في حديث أبي موسى "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم" ووقع في رواية أبي معاوية ومحمد بن عبيد "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل" وأولى ما فسر به هذا المبهم أنه أبو موسى راوي الحديث، فعند أبي عوانة من رواية محمد بن كناسة عن الأعمش في هذا الحديث عن شقيق "عن أبي موسى قلت يا رسول الله" فذكر الحديث، ولكن يعكر عليه ما وقع في رواية وهب بن جرير التي تقدم ذكرها من عند أبي نعيم فإن لفظه: "عن عبد الله قال جاء أعرابي فقال: يا رسول الله إني أحب قوما ولا ألحق بهم" الحديث وأبو موسى إن جاز أن يبهم نفسه فيقول أتى رجل فغير جائز أن يصف نفسه بأنه أعرابي، وقد وقع في حديث صفوان بن عسال الذي أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن خزيمة من طريق عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش قال: "قلت لصفوان بن عسال: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهوى شيئا؟ قال: نعم، كنا مع رسول الله في مسير، فناداه أعرابي بصوت له جهوري فقال: أيا محمد، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم على قدر ذلك فقال: هاؤم. قال: أرأيت المرء يحب القوم" الحديث وأخرج أبو نعيم في "كتاب المحبين" من طريق مسروق عن عبد الله وهو ابن مسعود قال: "أتى أعرابي فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق إني لأحبك" فذكر الحديث فهذا الأعرابي يحتمل أن يكون هو صفوان بن قدامة، فقد أخرج الطبراني وصححه أبو عوانة من حديثه قال: "قلت يا رسول الله إني أحبك، قال: "المرء مع من أحب" وقد وقع هذا السؤال لغير من ذكر، فعند أبي عوانة أيضا وأحمد وأبي داود وابن حبان من

(10/559)


طريق عبد الله بن الصامت "عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله الرجل يحب القوم" الحديث ورجاله ثقات، فإن كان مضبوطا أمكن أن يفسر به المبهم في حديث أبي موسى، لكن المحفوظ بهذا الإسناد عن أبي ذر "الرجل يعمل العمل من الخير ويحمد الناس عليه" كذا أخرجه مسلم وغيره، فلعل بعض رواته دخل عليه حديث في حديث. قوله: "كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم" في رواية سفيان الآتية "ولما يلحق بهم" وهي أبلغ فإن النفي بلما أبلغ من النفي بلم، فيؤخذ منه أن الحكم ثابت ولو بعد اللحاق. ووقع في حديث أنس عند مسلم: "ولم يلحق بعملهم" وفي حديث أبي ذر المشار إليه قبل "ولا يستطيع أن يعمل بعملهم" وفي بعض طرق حديث صفوان بن عسال عند أبي نعيم "ولم يعمل بمثل عملهم" وهو يفسر المراد. قوله: "المرء مع من أحب " قد جمع أبو نعيم طرق هذا الحديث في جزء سماه "كتاب المحبين مع المحبوبين". وبلغ الصحابة فيه نحو العشرين. وفي رواية أكثرهم بهذا الحديث، وفي بعضها بلفظ أنس الآتي عقب هذا. قوله: "حدثنا عبدان" هو عبد الله بن عثمان بن أبي جبلة بن أبي رواد، ويقال إن أباه تفرد برواية هذا الحديث عن شعبة، وضاق مخرجه على الإسماعيلي وأبي نعيم فأخرجه من طريق البخاري عنه وأخرجه مسلم عن واحد عن عبدان، ووقع لي في رواية أخرى عن شعبة أخرجه أبو نعيم في المحبين من طريق السميدع بن واهب عنه وقد رواه منصور عن سالم بن أبي الجعد كما سيأتي في كتاب الأحكام، وأخرجه أبو عوانة من رواية الأعمش عن سالم واستغربه. قوله: "أن رجلا" تقدم القول في تسميته في الباب الذي قبله. قوله: "متى الساعة" هكذا في أكثر الروايات عن أنس، ووقع في رواية جرير عن منصور في أوله "بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله متى الساعة"؟ وفي رواية أبي المليح الرقي عن الزهري عن أنس "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعرض له أعرابي" أخرجه أبو نعيم، وله من طريق شريك عن أبي نمر عن أنس "دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب" ومن رواية أبي ضمرة عن حميد عن أنس "جاء رجل فقال: متى الساعة؟ فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ثم صلى، ثم قال: أين السائل عن الساعة"؟ ويجمع بينهما بأن سأله والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فلم يجبه حينئذ، فلما انصرف من الصلاة وخرج من المسجد رآه فتذكر سؤاله، أو عاوده الأعرابي في السؤال فأجابه حينئذ. قوله: "ما أعددت لها" ؟ قال الكرماني: سلك مع السائل أسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل بغير ما يطلب مما يهمه أو هو أهم. قوله: "أنت مع من أحببت" زاد سلام بن أبي الصهباء عن ثابت عن أنس " إنك مع من أحببت، ولك ما احتسبت" أخرجه أبو نعيم، وله مثله من طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أنس. وأخرج أيضا من طريق أشعث عن الحسن عن أنس "المرء مع من أحب، وله ما اكتسب" ومن طريق مسروق عن عبد الله "أنت مع من أحببت، وعليك ما اكتسبت، وعلى الله ما احتسبت".

(10/560)


باب الرجل يقول للرجل: "إخسأ"
...
97 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ اخْسَأْ
6172- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لابْنِ صَائِدٍ قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئاً فَمَا هُوَ قَالَ الدُّخُّ قَالَ اخْسَأْ" .
6173- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ

(10/560)


ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدَهُ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فِي أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ يَوْمَئِذٍ الْحُلُمَ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ ثُمَّ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَرَضَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ثُمَّ قَالَ لِابْنِ صَيَّادٍ مَاذَا تَرَى قَالَ يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئاً قَالَ هُوَ الدُّخُّ قَالَ اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنْ يَكُنْ هُوَ لاَ تُسَلَّطُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ" .
6174- قَالَ سَالِمٌ: "فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الأَنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئاً قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ أَوْ زَمْزَمَةٌ فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ أَيْ صَافِ وَهُوَ اسْمُهُ هَذَا مُحَمَّدٌ فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ" .
6175- قَالَ سَالِمٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: " إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ" .
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: خَسَأْتُ الْكَلْبَ بَعَّدْتُهُ. خَاسِئِينَ مُبْعَدِينَ.
قوله: "باب قول الرجل للرجل اخسأ" سيأتي بيانه في آخر الباب، قال ابن بطال: اخسأ زجر للكلب وإبعاد له، هذا أصل هذه الكلمة، واستعملتها العرب في كل من قال أو فعل ما لا ينبغي له مما يسخط الله. ذكر فيه حديث ابن عباس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لابن صياد: قد خبأت لك خبيئا، قال: فما هو؟ قال: الدخ. حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صياد: "قد خبأت لك خبيئا، قال: فما هو؟ قال: الدخ. قال: اخسأ" وأخرجه من رواية عبد الله بن عمر قال: "انطلق عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه قبل ابن صياد" فذكر الحديث مطولا وفيه: "اخسأ فلن تعدو قدرك" وقد سبق مطولا في أواخر كتاب الجنائز. وقوله في هذه الرواية: "فرضه النبي صلى الله عليه وسلم" قال الخطابي: وقع هنا بالضاد المعجمة وهو غلط والصواب بالصاد أي المهملة أي قبض عليه بثوبه يضم بعضه إلى بعض. وقال ابن بطال: من رواه بالمعجمة فمعناه دفعه حتى وقع فتكسر، يقال رض الشيء فهو رضيض ومرضوض إذا انكسر. قوله: "قال أبو عبد الله: خسأت الكلب بعدته، خاسئين مبعدين" ثبت هذا في رواية المستملي وحده، وهو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي قاصين مبعدين، يقال:

(10/561)


خسأته عني، وخسأ هو، يعني يتعدى ولا يتعدى. وقال في قوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً} أي مبعدا وقال الراغب: خسأ البصر انقبض عن مهانة، وخسأت الكلب فخسأ أي زجرته مستهينا به فانزجر. ومال ابن التين في قوله في حديث الباب: "اخسأ": معناه اسكت صاغرا مطرودا. وثبتت الهمزة في آخر اخسأ في رواية وحذفت في أخرى بلفظ: "اخس" وهو تخفيف.

(10/562)


98 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ: "مَرْحَباً".
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ: "مَرْحَباً بِابْنَتِي" . وَقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَرْحَباً بِأُمِّ هَانِئٍ" .
6176- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَرْحَباً بِالْوَفْدِ الَّذِينَ جَاءُوا غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى" فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مُضَرُ وَإِنَّا لاَ نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ وَنَدْعُو بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا فَقَالَ: أَرْبَعٌ وَأَرْبَعٌ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَصُومُوا رَمَضَانَ وَأَعْطُوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَلاَ تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ" .
قوله: "باب قول الرجل مرحبا" كذا للأكثر. وفي رواية المستملي: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم مرحبا" قال الأصمعي: معنى قوله: "مرحبا" لقيت رحبا وسعة. وقال الفراء: نصب على المصدر، وفيه معنى الدعاء بالرحب والسعة، وقيل هو مفعول به أي لقيت سعة لا ضيقا. قوله: "وقالت عائشة قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: " مرحبا بابنتي" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في علامات النبوة من رواية مسروق عن عائشة قالت: "أقبلت فاطمة تمشي" الحديث، وفيه القدر المعلق، وقد تقدم شرحه هناك. قوله: "وقالت أم هانئ جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مرحبا بأم هانئ" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في مواضع: منها في أوائل الصلاة من رواية أبي مرة مولى عقيل عن أم هانئ وفيه اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. حديث ابن عباس في وفد عبد قيس وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "مرحبا بالوفد" وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان وفي كتاب الأشربة مستوفي، وأخرجه هنا من طريق أبي التياح بالمثناة الفوقانية المفتوحة وتشديد التحتانية وآخره مهملة واسمه يزيد بن حميد عن أبي جمرة بالجيم والراء، ووقع في سياق متنه ألفاظ ليست في رواية غيره، منها قوله: "مرحبا بالوفد الذين جاؤوا" ومنها قوله: " أربع وأربع، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأعطوا خمس ما غنمتم ولا تشربوا" الحديث. والمعنى آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع كما في رواية غيره. ومنها جعله إعطاء الخمس من جملة الأربع، وفي سائر الروايات هي زائدة على الأربع. وقد أخرج ابن أبي عاصم في هذا الباب حديث بريدة "أن عليا لما خطب فاطمة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: مرحبا وأهلا" وهو عند النسائي وصححه الحاكم. وأخرج فيه أيضا من حديث علي "استأذن عمار بن ياسر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مرحبا بالطيب المطيب" وهو عند الترمذي وابن ماجة والمصنف في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان والحاكم. وأخرج ابن أبي عاصم وابن السني فيه أحاديث أخرى غير هذه.

(10/562)


99 - باب مَا يُدْعَى النَّاسُ بِآبَائِهِمْ
6177- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ" .
6178- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن دينار عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان" .
قوله: "باب ما يدعى الناس بآبائهم" كذا للأكثر، وذكره ابن بطال بلفظ: "هل يدعي الناس" زاد في أوله هل، وقد ورد في ذلك حديث لأم الدرداء سأنبه عليه في "باب تحويل الاسم" واستغنى المصنف عنه لما لم يكن على شرطه بحديث الباب. حديث ابن عمر في الغادر يرفع له لواء لقوله فيه: "غدرة فلان ابن فلان" فتضمن الحديث أنه ينسب إلى أبيه في الموقف الأعظم. وقع في رواية الكشميهني في الرواية الأولى "ينصب" بدل "يرفع" قال الكرماني: الرفع والنصب هنا بمعنى واحد، يعني لأن الغرض إظهار ذلك. وقال ابن بطال: في هذا الحديث رد لقول من زعم أنهم لا يدعون يوم القيامة إلا بأمهاتهم سترا على آبائهم. قلت: هو حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس وسنده ضعيف جدا. وأخرج ابن عدي من حديث أنس مثله وقال: منكر. أورده في ترجمة إسحاق بن إبراهيم الطبري. قال ابن بطال: والدعاء بالآباء أشد في التعريف وأبلغ في التمييز. وفي الحديث جواز الحكم بظواهر الأمور. قلت: وهذا يقتضي حمل الآباء على من كان ينسب إليه في الدنيا لا على ما هو في نفس الأمر وهو المعتمد، وينظر كلامه من شرحه. وقال ابن أبي جمرة: والغدر على عمومه في الجليل والحقير. وفيه أن لصاحب كل ذنب من الذنوب التي يريد الله إظهارها علامة يعرف بها صاحبها، ويؤيده قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} قال: وظاهر الحديث أن لكل غدرة لواء، فعلى هذا يكون للشخص الواحد عدة ألوية بعدد غدراته. قال: والحكمة في نصب اللواء أن العقوبة تقع غالبا بضد الذنب، فلما كان الغدر من الأمور الخفية ناسب أن تكون عقوبته بالشهرة، ونصب اللواء أشهر الأشياء عند العرب.

(10/563)


100 - باب لاَ يَقُلْ خَبُثَتْ نَفْسِي
6179- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي" .
6180- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي" . تَابَعَهُ عُقَيْلٌ
قوله: "باب لا يقل خبثت نفسي" بفتح الخاء المعجمة وضم الموحدة بعدها مثلثة ثم مثناة، ويقال: بفتح الموحدة، والضم أصوب. قال الراغب: الخبث يطلق على الباطل في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح في

(10/563)


الفعال. قلت: وعلى الحرام والصفات المذمومة القولية والفعلية. حديث عائشة بلفظ: "لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لقست نفسي" . قال الخطابي تبعا لأبي عبيد: لقست وخبثت بمعنى واحد. وإنما كره صلى الله عليه وسلم من ذلك اسم الخبث فاختار اللفظة السالمة من ذلك، وكان من سنته تبديل الاسم القبيح بالحسن. وقال غيره: معنى لقست غثت بغين معجمة ثم مثلثة، وهو يرجع أيضا إلى معنى خبيث، وقيل معناه ساء خلقها، وقيل: مالت به إلى الدعة. وقال ابن بطال: هو على معنى الأدب وليس على سبيل الإيجاب. وقد تقدم في الصلاة في الذي يعقد الشيطان على قافية رأسه فيصبح خبيث النفس.
ونطق القرآن بهذه اللفظة فقال تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} . قلت: لكن لم يرد ذلك إلا في معرض الذم، فلا ينافي ذلك ما دل عليه حديث الباب من كراهة وصف الإنسان نفسه بذلك. وقد سبق لهذا عياض فقال: الفرق أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن صفة شخص مذموم الحال فلم يمتنع إطلاق ذلك اللفظ عليه. وقال ابن أبي جمرة: النهي عن ذلك للندب، والأمر بقوله: "لقست" للندب أيضا، فإن عبر بما يؤدي معناه كفى، ولكن ترك الأولى. قال: ويؤخذ من الحديث استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة والأسماء، والعدول إلى ما لا قبح فيه، والخبث واللقس وإن كان المعنى المراد يتأدى بكل منهما لكن لفظ الخبث قبيح ويجمع أمورا زائدة على المراد، بخلاف اللقس فإنه يختص بامتلاء المعدة. قال وفيه أن المرء يطلب الخير حتى بالفأل الحسن، ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما، ويدفع الشر عن نفسه مهما أمكن، ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ المشتركة. قال: ويلتحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله لا يقول لست بطيب بل يقول ضعيف، ولا يخرج نفسه من الطيبين فيلحقها بالخبيثين.
" تنبيه ": أخرج أبو نعيم في "المستخرج" حديث سهل من طريق شبيب بن سعيد عن يونس بن يزيد عن الزهري ثم قال: أخرجه البخاري عن عبدان عن ابن المبارك عن موسى. وقال: هو موسى بن عقبة، والصحيح يونس. قلت: لم أقف عليه في الأصول المعتمدة من رواية أبي ذر إلا عن يونس وكذا في رواية النسفي. قوله: "تابعه عقيل" يعني عن الزهري بسنده المذكور والمتن، وهذه المتابعة وصلها الطبراني من طريق نافع بن يزيد عن عقيل وسقطت من رواية أبي ذر، وثبتت للنسفي والباقين.

(10/564)


101 - باب لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ
6181- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قَالَ اللَّهُ يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ" .
6182- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ وَلاَ تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ" .
[الحديث 6182 – طرفه في: 6183]
قوله: "باب لا تسبوا الدهر" هذا اللفظ أخرجه مسلم من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي

(10/564)


هريرة فذكره، وبعده " فإن الله هو الدهر" . قوله: "الليث عن يونس عن ابن شهاب" قال أبو علي الجياني هكذا للجميع إلا لأبي علي بن السكن فقال فيه: "الليث عن عقيل عن ابن شهاب" وهكذا وقع في "الزهريات للذهلي" من روايته عن أبي صالح عن الليث، ولكن لفظه: "لا يسب ابن آدم الدهر" قال أبو علي الجياني الحديث محفوظ ليونس عن ابن شهاب أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عنه. قلت الحديث عند الليث عن شيخين، وقد أخرجه يعقوب بن سفيان وأبو نعيم من طريقه قال: "حدثنا أبو صالح وابن بكير قالا حدثنا الليث حدثني يونس به". قوله: " قال الله يسب بنو آدم الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار" هذه رواية يونس بن يزيد عن الزهري، ورواية معمر بعدها بلفظ: "ولا تقولوا يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر" وأوله "لا تسموا العنب الكرم" ويأتي شرحه في الباب الذي بعده، وقد اختلف على معمر فيه شيخ الزهري فقال عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن معمر عنه عن أبي سلمة. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ولفظه: "قال الله يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر" الحديث أخرجه مسلم، وهكذا قال سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد أخرجه أحمد عنه ولفظه: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" وقد مضى في التفسير من هذا الوجه، وسيأتي في التوحيد، وهكذا أخرجه مسلم وغيره من رواية سفيان بن عيينة. قال ابن عبد البر الحديثان للزهري عن أبي سلمة وعن سعيد بن المسيب جميعا صحيحان قلت قال النسائي كلاهما محفوظ، لكن حديث أبي سلمة أشهرهما، قلت ولعبد الرزاق فيه عن معمر إسناد آخر أخرجه مسلم أيضا من طريقه فقال: "عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة " بلفظ: "لا يسب أحدكم الدهر، فإن الله هو الدهر؛ ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم " الحديث، وأخرجه أحمد من رواية همام عن أبي هريرة بلفظ: "لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر، إني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما " وأخرجه مالك في " الموطأ " عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "لا يقولن أحدكم " والباقي مثل رواية الأعلى عن معمر، لكن وقع في رواية يحيى بن يحيى الليثي عن مالك في آخره: "فإن الدهر هو الله " قال ابن عبد البر خالف جميع الرواة عن مالك، وجميع رواة الحديث مطلقا، فإن الجميع قالوا " فإن الله هو الدهر " وأخرجه أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: " لا تسبوا الدهر فإن الله قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك" وسنده صحيح. قوله: "ولا تقولوا خيبة الدهر" كذا للأكثر، وللنسفي "يا خيبة الدهر" وفي البخاري "واخيبة الدهر " الخيبة بفتح الخاء المعجمة وإسكان التحتانية بعدها موحدة الحرمان، وهي بالنصب على الندبة، كأنه فقد الدهر لما يصدر عنه مما يكرهه فندبه متفجعا عليه أو متوجعا منه. وقال الداودي: هو دعاء على الدهر بالخيبة وهو كقولهم قحط الله نوءها يدعون على الأرض بالقحط، وهي كلمة هذا أصلها ثم صارت تقال لكل مذموم. ووقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "وادهره وادهره" ومعنى النهي عن سب الدهر أن من اعتقد أنه الفاعل للمكروه فسبه أخطأ فإن الله هو الفاعل، فإذا سببتم من أنزل ذلك بكم رجع السب إلى الله. وقد تقدم شرح الحديث في تفسير سورة الجاثية. ومحصل ما قيل في تأويله ثلاثة أوجه: أحدها: أن المراد بقوله: "أن الله هو الدهر" أي المدبر للأمور. ثانيها: أنه على حذف مضاف أي صاحب الدهر. ثالثها: التقدير مقلب الدهر، ولذلك عقبه بقوله: "بيدي الليل والنهار" ووقع في رواية زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "بيدي

(10/565)


الليل والنهار أجدده وأبليه وأذهب بالملوك" أخرجه أحمد. وقال المحققون: من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكنه يكره له ذلك لشبهه بأهل الكفر في الإطلاق، وهو نحو التفصيل الماضي في قولهم: مطرنا بكذا. وقال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا أو فعله لما قبل الموت، وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطلة بظاهر هذا الحديث واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم، لأن الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم ولا شيء عندهم ولا صانع سواه، وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث: "أنا الدهر أقلب ليله ونهاره" فكيف يقلب الشيء نفسه؟ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لا يخفى أن من سب الصنعة فقد سب صانعها، فمن سب نفس الليل والنهار أقدم على أمر عظيم بغير معنى، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس، وهو الذي يعطيه سياق الحديث حيث نفى عنهما التأثير، فكأنه قال: لا ذنب لهما في ذلك، وأما الحوادث فمنها ما يجري بوساطة العاقل المكلف فهذا يضاف شرعا ولغة إلى الذي جرى على يديه، ويضاف إلى الله تعالى لكونه بتقديره، فأفعال العباد من أكسابهم، ولهذا ترتبت عليها الأحكام، وهي في الابتداء خلق الله. ومنها ما يجري يغير وساطة فهو منسوب إلى قدرة القادر، وليس لليل والنهار فعل ولا تأثير لا لغة ولا عقلا ولا شرعا، وهو المعني في هذا الحديث. ويلتحق بذلك ما يجري من الحيوان غير العاقل. ثم أشار بأن النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى على الأدنى، وأن فيه إشارة إلى ترك سب كل شيء مطلقا إلا ما أذن الشرع فيه، لأن العلة واحدة، والله أعلم انتهى ملخصا. واستنبط منه أيضا منع الحيلة في البيوع كالعينة لأنه نهى عن سب الدهر لما يؤول إليه من حيث المعنى وجعله سبا لخالقه.

(10/566)


102 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ"
وَقَدْ قَالَ: "إِنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" كَقَوْلِهِ: "إِنَّمَا الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" كَقَوْلِهِ: "لاَ مُلْكَ إِلاَّ لِلَّهِ". فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ الْمُلْكِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُلُوكَ أَيْضاً، فَقَالَ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا}
6183- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَيَقُولُونَ الْكَرْمُ إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ" .
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الكرم قلب المؤمن، وقد قال: إنما المفلس الذي يفلس يوم القيامة كقوله: إنما الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب، كقوله: لا ملك إلا الله فوصفه بانتهاء الملك. ثم ذكر الملوك أيضا فقال: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} غرض البخاري أن الحصر ليس على ظاهره، وإنما المعنى أن الأحق باسم الكرم قلب المؤمن، ولم يرد أن غيره لا يسمى كرما، كما أن المراد بقوله: "إنما المفلس من ذكر" ولم يرد أن من يفلس في الدنيا لا يسمى مفلسا، وبقوله: "إنما الصرعة" كذلك، وكذا قوله: "لا ملك إلا الله" لم يرد أنه لا يجوز أن يسمى غيره ملكا، وإنما أراد الملك الحقيقي وإن سمي غيره ملكا، واستشهد لذلك بقوله تعالى: {إِنَّ

(10/102)


103- باب قَوْلِ الرَّجُلِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. فِيهِ الزُّبَيْرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6184- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَدِّي أَحَداً غَيْرَ سَعْدٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي" أَظُنُّهُ يَوْمَ أُحُدٍ".
قوله: "باب قول الرجل فداك أبي وأمي" تقدم ضبط فداك ومعناه في "باب ما يجوز من الرجز والشعر" قريبا. قوله: "فيه الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى ما وصله في مناقب الزبير بن العوام من طريق عبد الله بن الزبير قال: "جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة يوم الأحزاب في النساء" الحديث. وفيه قول الزبير "فلما رجعت جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: فداك أبي وأمي" . قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان وسفيان هو الثوري. قوله: "يفدي" بفتح أوله وسكون الفاء للكشميهني، ولغيره يضم أوله والفاء المفتوحة والتشديد، وقد تقدم في مناقب سعد بن أبي وقاص بيان الجمع بين حديث الزبير المذكور في الباب في إثبات التفدية له وبين حديث علي هذا في نفي ذلك عن غير سند، وكأن البخاري رمز بذلك إلى هذا الجمع، وغفل من خص حديث الزبير بتخريج مسلم مع إخراج البخاري له ورمزه إليه في هذا الباب، وقوله في آخر هذا الحديث: "أظنه يوم أحد" تقدم الجزم بذلك في رواية إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه في غزوة أحد من كتاب المغازي ولفظه: "فإني سمعته يقول: ارم سعد، فداك

(10/568)


أبي وأمي" وتقدم هناك سبب هذا القول لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

(10/569)


104 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا".
6185- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةُ مُرْدِفُهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَثَرَتْ النَّاقَةُ فَصُرِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَرْأَةُ وَأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ أَحْسِبُ اقْتَحَمَ عَنْ بَعِيرِهِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ هَلْ أَصَابَكَ مِنْ شَيْءٍ قَالَ: "لاَ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْمَرْأَةِ " فَأَلْقَى أَبُو طَلْحَةَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَصَدَ قَصْدَهَا فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَيْهَا فَقَامَتْ الْمَرْأَةُ فَشَدَّ لَهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِمَا فَرَكِبَا فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ أَوْ قَالَ أَشْرَفُوا عَلَى الْمَدِينَةِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ" فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ".
قوله: "باب قول الرجل جعلني الله فداك" أي هل يباح أو يكره؟ وقد استوعب الأخبار الدالة على الجواز أبو بكر بن أبي عاصم في أول كتابه "آداب الحكماء" وجزم بجواز ذلك فقال: للمرء أن يقول ذلك لسلطانه ولكبيره ولذوي العلم ولمن أحب من إخوانه غير محظور عليه ذلك، بل يثاب عليه إذا قصد توقيره واستعطافه، ولو كان ذلك محظورا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم قائل ذلك ولأعلمه أن ذلك غير جائز أن يقال لأحد غيره. قوله: "وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: فديناك بآبائنا وأمهاتنا" هو طرف من حديث لأبي سعيد رفعه: "أن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده. فقال أبو بكر: فديناك بآبائنا وأمهاتنا " الحديث، وقد تقدم موصولا في مناقب أبي بكر مع شرحه. حديث أنس في إرداف صفية قد تقدم شرحه في أواخر كتاب اللباس، والمراد منه قول أبي طلحة "يا نبي الله جعلني الله فداك، هل أصابك شيء؟" وقد ترجم أبو داود نحو هذه الترجمة وساق حديث أبي ذر "قلت للنبي صلى الله عليه وسلم لبيك وسعديك، جعلني الله فداك" الحديث، وكذا أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" في الترجمة. قال الطبراني: في هذه الأحاديث دليل على جواز قول ذلك. وأما ما رواه مبارك بن فضالة عن الحسن قال: "دخل الزبير على النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاك فقال: كيف تجدك جعلني الله فداك؟ قال: ما تركت أعرابيتك بعد" ثم ساقه من هذا الوجه ومن وجه آخر ثم قال: لا حجة في ذلك على المنع، لأنه لا يقاوم تلك الأحاديث في الصحة. وعلى تقدير ثبوت ذلك فليس فيه صريح المنع، بل فيه إشارة إلى أنه ترك الأولى في القول للمريض إما بالتأنيس والملاطفة وإما بالدعاء والتوجع. فإن قيل: إنما ساغ ذلك لأن الذي دعا بذلك كان أبواه مشركين، فالجواب أن قول أبي طلحة كان بعد أن أسلم، وكذا أبو ذر. وقول أبي بكر كان بعد أن أسلم أبواه. انتهى ملخصا. ويمكن أن يعترض بأنه لا يلزم من تسويغ قول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسوغ لغيره، لأن نفسه أعز من أنفس القائلين وآبائهم ولو كانوا أسلموا، فالجواب ما تقدم من كلام ابن أبي عاصم، فإن فيه إشارة إلى أن الأصل عدم الخصوصية. وأخرج ابن أبي عاصم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة "فداك أبوك" ومن حديث

(10/569)


ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه "فداكم أبي وأمي" ومن حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك للأنصار.

(10/570)


105 - باب أَحَبِّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
6186- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلاَمٌ فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ فَقُلْنَا لاَ نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ وَلاَ كَرَامَةَ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "سَمِّ ابْنَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ" .
قوله: "باب أحب الأسماء إلى الله عز وجل" ورد بهذا اللفظ حديث أخرجه مسلم من طريق نافع عن ابن عمر "إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن" وله شاهد من حديث أبي وهب الجشمي وسيأتي التنبيه عليه بعد باب، وآخر عن مجاهد عند ابن أبي شيبة مثله، قال القرطبي: يلتحق بهذين الاسمين ما كان مثلهما كعبد الرحيم وعبد الملك وعبد الصمد، وإنما كانت أحب إلى الله لأنها تضمنت ما هو وصف واجب لله وما هو وصف للإنسان وواجب له وهو العبودية. ثم أضيف العبد إلى الرب إضافة حقيقية فصدقت أفراد هذه الأسماء وشرفت بهذا التركيب فحصلت لها هذه الفضيلة. وقال غيره: الحكمة في الاقتصار على الاسمين أنه لم يقع في القرآن إضافة عبد إلى اسم من أسماء الله تعالى غيرهما، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وقال في آية أخرى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} ويؤيده قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} وقد أخرج الطبراني من حديث أبي زهير الثقفي رفعه: "إذا سميتم فعبدوا " ومن حديث ابن مسعود رفعه: "أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به" وفي إسناد كل منهما ضعف. قوله: "عن جابر ولد لرجل منا غلام" اسم الرجل المذكور لم أقف عليه. قوله: "فسماه القاسم" مقتضى رواية مسلم عن رفاعة بن الهيثم عن خالد بالسند المذكور هنا "فسماه محمدا" إلا أنه أورده عقب رواية عبثر وهو بوزن جعفر بعين مهملة ثم موحدة ثم ساكنة ثم مثلثة عن حصين بالسند المذكور فسماه محمدا فذكر الحديث، وفي آخره: "سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فإنما بعثت قاسما أقسم بينكم" ثم ساق رواية خالد وقال بهذا الإسناد ولم يذكر "فإنما بعثت قاسما أقسم بينكم" وكأن الاختلاف فيه على خالد، فإن الإسماعيلي أخرجه من رواية وهيب بن بقية عن خالد فقال: "فسماه القاسم" وأخرجه أحمد عن هشيم عن حصين فقال: "سماه القاسم" وأخرجه أيضا من رواية معمر عن منصور كذلك، وأخرجه أبو نعيم من رواية يوسف القاضي عن مسدد عن خالد فقال: "سماه باسم النبي صلى الله عليه وسلم" هكذا قاله أبو عوانة عن: حصين أخرجه أبو نعيم في "المستخرج على مسلم" وهذا يقتضي ترجيح رواية رفاعة بن الهيثم، وأخرجه أحمد عن زياد البكائي عن منصور كما قال رفاعة، وقد وقع الاختلاف فيه على شعبة أيضا في "باب قوله تعالى: { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} يعني قسم ذلك من كتاب فرض الخمس فأخرجه البخاري هناك عن أبي الوليد عن شعبة عن سليمان وهو الأعمش ومنصور وقتادة قالوا سمعنا سالما أي ابن أبي الجعد عن جابر قال: "ولد لرجل منا غلام فأراد أن يسميه محمدا" قال وقال عمر ويعني ابن مرزوق عن شعبة عن قتادة بسنده "أراد أن يسميه القاسم" وأورده من رواية سفيان الثوري عن الأعمش فقال: "أراد أن يسميه القاسم" وأخرجه مسلم من رواية جرير عن منصور فقال فيه: "ولد لرجل منا غلام فسماه محمدا فقال له قومه:

(10/570)


لا ندعك تسميه باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق إليه بابنه حامله على ظهره فقال: يا رسول الله ولد لي غلام فسميته محمدا" فذكر الحديث، وقد بين شعبة أن في رواية منصور عن سالم عن جابر أن الأنصاري قال: "حملته على عنقي" أورده البخاري في فرض الخمس، وقد تقدم أنه يقتضي أن يكون من مسند الأنصاري من رواية جابر عنه، وسائر الروايات عن سالم بن أبي الجعد يقتضي أنه من مسند جابر، وفيه أورده أصحاب المسانيد والأطراف، وقدمت في فرض الخمس أن رواية من قال أراد أن يسميه القاسم أرجح، وذكرت وجه رجحانه. ويؤيده أنه لم يختلف على محمد بن المنكدر عن جابر في ذلك كما أخرجه المؤلف في آخر الباب الذي يليه. قوله: "لا نكنيك أبا القاسم ولا كرامة" في الرواية التي في الباب بعده من هذا الوجه "ولا ننعمك عينا" هو من الإنعام أي لا ننعم عليك بذلك فتقر به عينك، ويؤخذ منه مشروعية تكنية المرء بمن يولد له ولا يختص بأول أولاده. قوله: "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم" كذا للأكثر بضم الهمزة على البناء للمجهول، ولبعضهم بالبناء للفاعل، ويؤيده ما في الباب الذي بعده بلفظ: "فأتى النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقال: سم ابنك عبد الرحمن " في مطابقه الترجمة لحديث جابر عسر، وأقرب ما قيل أنهم لما أنكروا عليه التكني بكنية النبي صلى الله عليه وسلم اقتضى مشروعية الكنية، وأنه لما أمره أن يسميه عبد الرحمن اختار له اسما يطيب خاطره به إذ غير الاسم فاقتضى الحال أنه لا يشير عليه إلا باسم حسن، وتوجيه كونه أحسن تقدم في أول الباب، قال بعض شراح "المشارق" لله الأسماء الحسنى، وفيها أصول وفروع أي من حيث الاشتقاق قال: وللأصول أصول أي من حيث المعني، فأصول الأصول اسمان الله والرحمن، لأن كلا منهما مشتمل على الأسماء كلها، قال كلها تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} ولذلك لم يتسم بهما أحد. وما ورد من رحمن اليمامة غير وارد لأنه مضاف، وقول شاعرهم "وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا" تغالى في الكفر، وليس بوارد، لأن الكلام في أنه لم يتسم به أحد، ولا يرد إطلاق من أطلقه وصفا لأنه لا يستلزم التسمية بذلك، وقد لقب غير واحد الملك الرحيم ولم يقع مثل ذلك في الرحمن، وإذا تقرر ذلك كانت إضافة العبودية إلى كل منهما حقيقة محضة، فظهر وجه الأحبية، والله أعلم.

(10/571)


باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : "سموا بإسمي ولا تكنوا بكنيتي"
...
3 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي" . قَالَهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
6187- حدثنا مسدد حدثنا خالد حدثنا حصين عن سالم عن جابر رضي الله عنه قال: "ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم، فقالوا: لا نكنيه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي" .
6188- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن أيوب عن بن سيرين سمعت أبا هريرة قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي" .
6189- حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان قال: سمعت بن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "ولد لرجل منا غلام، فسماه القاسم فقالوا: لا نكنيك بأبي القاسم ولا ننعمك عينا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: سم ابنك عبد الرحمن" .

(10/571)


قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سموا باسمي ولا تكنوا" بفتح الكاف وتشديد النون وهو على حذف إحدى التائين أو بسكون الكاف وضم النون. وفي رواية الكشميهني: "ولا تكتنوا" بسكون الكاف وفتح المثناة بعدها نون. قوله: "بكنيتي" في رواية الأصيلي: "بكنوتي" بالواو بدل التحتانية وهي بمعناها كنوته وكنيته بمعنى، قال عياض رووه كلهم في عدة مواضع بالياء، وقد تقدم معنى الكنية والتعريف بها في أوائل المناقب في "باب كنية النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "فيه أنس" يشير إلى ما تقدم موصولا في البيوع ثم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق حميد عن، أنس بهذا، وفيه قصة سيأتي التنبيه عليها ولفظه: "سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي". ثم ذكر فيه حديث جابر في ذلك ثم حديث أبي هريرة ثم حديث جابر من وجه آخر فأما حديث أبي هريرة فاقتصر فيه المتن ولفظه كحديث أنس المذكور، وأما حديث جابر ففي الرواية الأولى من طريق سالم وهو ابن أبي الجعد عنه "ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم فقالوا لا نكنيك حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية الثانية من طريق محمد بن المنكدر عنه "فقلنا لا نكنيك بأبي القاسم ولا ننعمك عينا" فيجمع بين هذا الاختلاف إما بأن بعضهم قال هذا وبعضهم قال هذا، وإما أنهم منعوا أولا مطلقا ثم استدركوا فقالوا حتى نسأل. وفي الرواية الأولى أيضا: "فقال سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" وفي الرواية الثانية "فقال سم ابنك عبد الرحمن" ويجمع بينهما بأن أحد الراويين ذكر ما لم يذكر الآخر. وقوله: "لا نكنيك" بفتح أوله مع التخفيف وبضمه مع التشديد، و"ننعمك" بضم أوله. قال النووي: اختلف في التكني بأبي القاسم على ثلاثة مذاهب: الأول المنع مطلقا سواء كان اسمه محمدا أم لا، ثبت ذلك عن الشافعي. والثاني الجواز مطلقا، ويختص النهي بحياته صلى الله عليه وسلم. والثالث لا يجوز لمن اسمه محمد ويجوز لغيره. قال الرافعي: يشبه أن يكون هذا هو الأصح، لأن الناس لم يزالوا يفعلونه في جميع الأعصار من غير إنكار. قال النووي: هذا مخالف لظاهر الحديث، وأما إطباق الناس عليه ففيه تقوية للمذهب الثاني، وكأن مستندهم ما وقع في حديث أنس المشار إليه قبل "أنه صلى الله عليه وسلم كان في السوق، فسمع رجلا يقول: يا أبا القاسم، فالتفت إليه فقال: لم أعنك، فقال: سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" قال ففهموا من النهي الاختصاص بحياته للسبب المذكور، وقد زال بعده صلى الله عليه وسلم. انتهى ملخصا. وهذا السبب ثابت في الصحيح، فما خرج صاحب القول المذكور عن الظاهر إلا بدليل. ومما ننبه عليه أن النووي أورد المذهب الثالث مقلوبا فقال: يجوز لمن اسمه محمد دون غيره، وهذا لا يعرف به قائل، وإنما هو سبق قلم، وقد حكى المذاهب الثلاثة في "الأذكار" على الصواب، وكذا هي في الرافعي. ومما تعقبه السبكي عليه أنه رجح منع التكنية بأبي القاسم مطلقا، ولما ذكر الرافعي في خطبة المنهاج فقال المحرر للإمام أبي القاسم الرافعي، وكان يمكنه أن يقول للإمام الرافعي فقط أو يسميه باسمه ولا يكنيه بالكنية التي يعتقد المصنف منعها. وأجيب باحتمال أن يكون أشار بذلك إلى اختيار الرافعي الجواز، أو إلى أنه مشتهر بذلك، ومن شهر بشيء لم يمتنع تعريفه به، ولو كان بغير هذا القصد فإنه لا يسوغ والله أعلم. وبالمذهب الأول قال الظاهرية، وبالغ بعضهم فقال: لا يجوز لأحد أن يسمي ابنه القاسم لئلا يكني أبا القاسم. وحكى الطبري مذهبا رابعا وهو المنع من التسمية بمحمد مطلقا، وكذا التكني بأبي القاسم مطلقا، ثم ساق من طريق سالم بن أبي الجعد "كتب عمر: لا تسموا أحدا باسم نبي" واحتج لصاحب هذا القول بما أخرجه من طريق الحكم بن عطية عن ثابت عن أنس رفعه: "يسمونهم محمدا ثم يلعنونهم" وهو حديث أخرجه البزار وأبو يعلي أيضا وسنده لين، قال عياض: والأشبه أن عمر إنما فعل ذلك

(10/572)


إعظاما لاسم النبي صلى الله عليه وسلم لئلا ينتهك. وقد كان سمع رجلا يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب: يا محمد فعل الله بك وفعل، فدعاه وقال: لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب بك فغير اسمه. قلت: أخرجه أحمد والطبراني من طريق عبد الرحمن بن ابن أبي ليلى "نظر عمر إلى ابن عبد الحميد وكان اسمه محمدا ورجل يقول له: فعل الله بك يا محمد، فأرسل إلى ابن زيد بن الخطاب فقال: لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب بك، فسماه عبد الرحمن. وأرسل إلى بني طلحة وهم سبعة ليغير أسماءهم فقال له محمد وهو كبيرهم: والله لقد سماني النبي صلى الله عليه وسلم محمدا، فقال: قوموا فلا سبيل إليكم" فهذا يدل على رجوعه عن ذلك. وحكى غيره مذهبا خامسا وهو المنع مطلقا في حياته والتفصيل بعده بين من اسمه محمد وأحمد فيمتنع وإلا فيجوز وقد ورد ما يؤيد المذهب الثالث الذي ارتضاه الرافعي ووهاه النووي، وذلك فيما أخرجه أحد وأبو داود وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان من طريق أبي الزبير عن جابر رفعه: "من تسمي باسمي فلا يكتني بكنيتي، ومن اكتني بكنيتي فلا يتسمى باسمي" لفظ أبي داود وأحمد من طريق هشام الدستوائي عن أبي الزبير، ولفظ الترمذي وابن حبان من طريق حسين بن الواقد عن أبي الزبير "إذا سميتم بي فلا تكنوا بي، وإذا كنيتم بي فلا تسموا بي" قال أبو داود ورواه الثوري عن ابن جريج مثل رواية هشام، ورواه معقل عن أبي الزبير مثل رواية ابن سيرين عن أبي هريرة، قال ورواه محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة مثل رواية أبي الزبير. قلت: ووصله البخاري في "الأدب المفرد" وأبو يعلى ولفظه: "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي" والترمذي من طريق الليث عنه ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته وقال: أنا أبو القاسم، الله يعطي وأنا أقسم" قال أبو داود: واختلف على عبد الرحمن بن أبي عمرة وعلى أبي زرعة بن عمرو وموسى بن يسار عن أبي هريرة على الوجهين قلت: وحديث ابن أبي عمرة أخرجه أحمد وابن أبي شيبة من طريقه عن عمه رفعه: "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي" وأخرج الطبراني من حديث محمد بن فضالة قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن أسبوعين، فأتي بي إليه فمسح على رأسي وقال: سموه باسمي ولا تكنوه بكنيتي" ورواية أبي زرعة عند أبي يعلى بلفظ: "من تسمى باسمي فلا يكتني بكنيتي" واحتج للمذهب الثاني بما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث علي قال: "قلت يا رسول الله إن ولد لي من بعدك ولد أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال نعم" وفي بعض طرقه: "فسماني محمدا وكناني أبا القاسم" وكان رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب، روينا هذه الرخصة في "أمالي الجوهري" وأخرجها ابن عساكر في الترجمة النبوية من طريقه وسندها قوي، قال الطبري: في إباحة ذلك لعلي ثم تكنية علي ولده أبا القاسم إشارة إلى أن النهي عن ذلك كان على الكراهة لا على التحريم، قال ويؤيد ذلك أنه لو كان على التحريم لأنكره الصحابة ولما مكنوه أن يكني ولده أبا القاسم أصلا، فدل على أنهم إنما فهموا من النهي التنزيه. وتعقب بأنه لم ينحصر الأمر فيما قال، فلعلهم علموا الرخصة له دون غيره كما في بعض طرقه، أو فهموا تخصيص النهي بزمانه صلى الله عليه وسلم، وهذا أقوى لأن بعض الصحابة سمى ابنه محمدا وكناه أبا القاسم وهو طلحة بن عبيد الله. وقد جزم الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه. وأخرج ذلك من طريق عيسى بن طلحة عن ظئر محمد بن طلحة وكذا يقال لكنية كل من المحمدين ابن أبي بكر وابن سعد وابن جعفر بن أبي طالب وابن عبد الرحمن بن عوف وابن حاطب بن أبي بلتعة وابن الأشعث بن قيس أبو القاسم وأن آباءهم كنوهم بذلك، قال عياض: وبه قال جمهور السلف والخلف وفقهاء الأمصار، وأما ما أخرجه أبو داود من حديث عائشة "أن امرأة قالت:

(10/573)


يا رسول الله إني سميت ابني محمدا وكنيته أبا القاسم فذكر لي أنك تكره ذلك، قال: ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي" فقد ذكر الطبراني في "الأوسط" أن محمدا بن عمران الحجبي تفرد به عن صفية بنت شيبة عنها، ومحمد المذكور مجهول، وعلى تقدير أن يكون محفوظا فلا دلالة فيه على الجواز مطلقا، لاحتمال أن يكون قبل النهي. وفي الجملة أعدل المذاهب المذهب المفصل المحكي أخيرا مع غرابته. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة بعد أن أشار إلى ترجيح المذهب الثالث من حيث الجواز: لكن الأولى الأخذ بالمذهب الأول فإنه أبرأ للذمة وأعظم للحرمة، والله أعلم.

(10/574)


107 - باب اسْمِ الْحَزْنِ
6190- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَاهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا اسْمُكَ قَالَ حَزْنٌ قَالَ أَنْتَ سَهْلٌ" قَالَ لاَ أُغَيِّرُ اسْماً سَمَّانِيهِ أَبِي قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَمَا زَالَتْ الْحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَمَحْمُودٌ هُوَ ابْنُ غَيْلاَنَ قَالاَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ... بِهَذَا
[الحديث 6190 – طرفه في: 6193]
قوله: "باب اسم الحزن" بفتح المهملة وسكون الزاي: ما غلظ من الأرض، وهو ضد السهل، واستعمل في الخلق يقال: في فلان حزونة أي في خلقه غلظة وقساوة. قوله: "عن ابن المسيب" هو سعيد، وسماه أحمد في روايته عن عبد الرزاق، وكذا محمود بن غيلان وأحمد بن صالح وغيرهما. قوله: "عن أبيه أن أباه جاء" كذا رواه إسحاق بن نصر عن عبد الرزاق، وتابعه أحمد عن عبد الرزاق في روايته: "عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجده" وكذا أخرجه ابن حبان من طريق محمد بن أبي السري عن عبد الرزاق، وأورده المصنف عن عقبة عن محمود بن غيلان وعلي بن عبد الله كلاهما عن عبد الرزاق فقالا في روايتهما: "عن أبيه عن جده" وكذا أورده أبو داود عن أحمد بن صالح والإسماعيلي من طريق إسحاق بن الضيف كلاهما عن عبد الرزاق وفيه: "عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له" وهذا الاختلاف على عبد الرزاق وبحسبه يكون الحديث إما من مسند المسيب بن حزن على الرواية الأولى، وإما من مسند حزن بن أبي وهب والده على الرواية الثانية، وقد أعرض الحميدي تبعا لأبي مسعود عن الرواية الثانية وأورد الحديث في مسند المسيب، وأما الكلاباذي فجزم بأن الحديث من مسند حزن، وهذا الذي ينبغي أن يعتمد، لأن الزيادة من الثقة مقبولة ولا سيما وفيهم ابن المديني. قوله: "قال أنت سهل" في وراية الإسماعيلي من طريق محمود بن غيلان، ومن طريق إسحاق بن الضيف جميعا قال: "بل اسمك سهل" . قوله: "لا أغير اسما" في رواية أحمد بن صالح "فقال: لا، السهل يوطأ ويمتهن" ويجمع بأنه قال كلا من الكلامين فنقل بعض الرواة ما لم ينقله الآخر. قوله: "فما زالت الحزونة فينا بعد" في رواية أحمد بن صالح "فظننت أنه سيصيبنا بعده حزونة". قوله: "حدثنا علي بن عبد الله ومحمود هو ابن غيلان" كذا ثبت للأكثر، وسقط محمود من رواية الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني، وقد أخرجه الإسماعيلي عن الهيثم بن خلف عن محمود بن غيلان كما قال البخاري ولفظه كما

(10/574)


قدمته، وأخرجه أبو نعيم عن أبي أحمد وهو الغطريفي عن الهيثم فقال في السند "عن أبيه أن أباه جاءه" والمعتمد ما قال الإسماعيلي. قال ابن بطال: فيه أن الأمر بتحسين الأسماء وبتغيير الاسم إلى أحسن منه ليس على الوجوب، وسيأتي مزيد لهذا في الباب الذي يليه. وقال ابن التين: معنى قول ابن المسيب "فما زالت فينا الحزونة" يريد اتساع التسهيل(1) فيما يريدونه. وقال الداودي: يريد الصعوبة في أخلاقهم، إلا أن سعيدا أفضى به ذلك إلى الغضب في الله. وقال غيره: يشير إلى الشدة التي بقيت في أخلاقهم. فقد ذكر أهل النسب أن في ولده سوء خلق معروف فيهم لا يكاد يعدم منهم.
" تنبيه ": قال الكرماني هنا: قالوا لم يرو عن المسيب بن حزن - وهو وأبوه صحابيان - إلا ابنه سعيد بن المسيب، وهذا خلاف المشهور من شرط البخاري أنه لم يرو عن واحد ليس له إلا راو واحد. قلت: وهذا المشهور راجع إلى غرابته، وذلك أنه لم يذعه إلا الحاكم ومن تلقى كلامه، وأما المحققون فلم يلتزموا ذلك، وحجتهم أن ذلك لم ينقل عن البخاري صريحا، وقد وجد عمله على خلافه في عدة مواضع: منها "هذا فلان يعتد به" وقد قررت ذلك في "النكت على علوم الحديث" وعلى تقدير تسليم الشرط المذكور، فالجواب عن هذا الموضع أن الشرط المذكور إنما هو في غير الصحابة، وأما الصحابة فكلهم عدول فلا يقال في واحد منهم بعد أن ثبتت صحبته مجهول، وإن وقع ذلك في كلام بعضهم فهو مرجوح، ويحتاج من ادعى الشرط في بقية المواضع إلى الأجوبة.
ـــــــ
(1) لعله امتناع التسهيل.

(10/575)


108 - باب تَحْوِيلِ الاسْمِ إِلَى اسْمٍ أَحْسَنَ مِنْهُ
6190- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ أُتِيَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وُلِدَ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَأَبُو أُسَيْدٍ جَالِسٌ فَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَمَرَ أَبُو أُسَيْدٍ بِابْنِهِ فَاحْتُمِلَ مِنْ فَخِذِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفَاقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَيْنَ الصَّبِيُّ فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ قَلَبْنَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا اسْمُهُ قَالَ فُلاَنٌ قَالَ وَلَكِنْ أَسْمِهِ الْمُنْذِرَ فَسَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ الْمُنْذِرَ" .
6192- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ زَيْنَبَ كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ فَقِيلَ تُزَكِّي نَفْسَهَا فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ" .
6193- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ قَالَ: "جَلَسْتُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَحَدَّثَنِي أَنَّ جَدَّهُ حَزْناً قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا اسْمُكَ قَالَ اسْمِي حَزْنٌ قَالَ بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ قَالَ مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْماً سَمَّانِيهِ أَبِي" قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَمَا زَالَتْ فِينَا الْحُزُونَةُ بَعْدُ".
قوله: "باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه" هذه الترجمة منتزعة مما أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عروة ==

كتاب :35 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 ="كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع الاسم القبيح حوله إلى ما هو أحسن منه" وقد وصله الترمذي من وجه آخر عن هشام بذكر عائشة فيه. حديث سهل بن سعد. قوله: "أتي بالمنذر بن أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين ولد" أبو أسيد بالتصغير صحابي مشهور، وله أحاديث في الصحيح، وتقدم ذكر ولده هذا في صلاة الجماعة في المغازي، وتقدمت روايته عن أبيه في كتاب الطلاق، وكان الصحابة إذا ولد لأحدهم الولد أتي به النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه ويبارك عليه، وقد تكرر ذلك في الأحاديث. قوله: "فوضعه على فخذه" يعني إكراما له. قوله: "فلها النبي صلى الله عليه وسلم بشيء بين يديه" أي اشتغل، وكل ما شغلك عن شيء فقد ألهاك عن غيره. قال ابن التين: روي لهي بوزن علم وهي اللغة المشهرة، وبالفتح لغة طي. قوله: "فاستفاق النبي صلى الله عليه وسلم" أي انقضى ما كان مشتغلا به فأفاق من ذلك فلم ير الصبي فسأل عنه، يقال أفاق من نومه ومن مرضه واستفاق بمعني. قوله: "قلبناه" بفتح القاف وتشديد اللام بعدها موحدة ساكنة أي صرفناه إلى منزله، وذكر ابن التين أنه وقع في روايته أقلبناه بزيادة همزة أوله، قال والصواب حذفها وأثبتها غيره لغة. قوله: "ما اسمه؟ قال فلان" لم أقف على تعيينه، فكأنه كان سماه اسما ليس مستحسنا فسكت عن تعيينه. أو سماه فنسيه بعض الرواة. قوله: "ولكن اسمه المنذر " أي ليس هذا الاسم الذي سميته به الذي يليق به بل هو المنذر، قال الداودي: سماه المنذر تفاؤلا أن يكون له علم ينذر به. قلت: وتقدم في المغازي أنه سمي المنذر بالمنذر بن عمرو الساعدي الخزرجي وهو صحابي مشهور من رهط أبي أسيد. قوله: "عطاء بن أبي ميمونة" هو ابن هلال مولى أنس، وأبو رافع هو نفيع الصانع. قوله: "أن زينب كان اسمها برة" بفتح الموحدة وتشديد الراء، كذا في رواية محمد بن جعفر وهو غندر عن شعبة، ووافقه جماعة. وقال عمرو بن مرزوق عن شعبة بهذا السند عن أبي هريرة "كان اسم ميمونة برة" أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" عنه، والأول أكبر، وزينب هي بنت جحش أو بنت أبي سلمة، والأولى زوج النبي صلى الله عليه وسلم والثانية ربيبته، وكل منهما كان اسمها أولا برة فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال ابن عبد البر، وقصة زينب بنت جحش أخرجها مسلم وأبو داود في أثناء حديث عن زينب بنت أم سلمة قال: "سميت برة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزكوا أنفسكم فإن الله أعلم بأهل البر منكم. قالوا: ما نسميها؟ قال: سموها زينب" وفي بعض روايات مسلم: "وكان اسم زينب بنت جحش برة" وقد أخرج الدار قطني في "المؤتلف" بسند فيه ضعف "أن زينب بنت جحش قالت: يا رسول الله اسمي برة فلو غيرته، فإن البرة صغيرة، فقال لو كان مسلما(1) لسميته باسم من أسمائها، ولكن هو جحش فالجحش أكبر من البرة" وقد وقع مثل ذلك لجويرية بنت الحارث أم المؤمنين، فأخرج مسلم وأبو داود والمصنف في "الأدب المفرد" عن ابن عباس قال: "كان اسم جويرية بنت الحارث برة، فحول النبي صلى الله عليه وسلم اسمها فسماها جويرية، كره أن يقول خرج من عند برة". قوله: "فقيل تزكي نفسها" أي لأن لفظه: "برة" مشتقة من البر، وكذلك وقع في قصة جويرية "كره أن يقال خرج من عند برة" وقال في قصة زينب "الله أعلم بأهل البر منكم". قوله: "هشام" هو ابن يوسف، وعبد الحميد بن جبير بن شيبة أي ابن عثمان الحجبي. قوله: "فحدثني أن جده حزنا" هكذا أرسل سعيد الحديث لما حدث به عبد الحميد، ولما حدث به الزهري وصله عن
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: هكذا في جملة النسخ، وحرر

(10/576)


أبيه كما تقدم بيانه في الباب الذي قبله، وهذا على قاعدة الشافعي أن المرسل إذا جاء موصولا من وجه آخر تبين صحة مخرج المرسل، وقاعدة البخاري أن الاختلاف في الوصل والإرسال لا يقدح المرسل في الموصول إذا كان الواصل أحفظ من المرسل، كالذي هنا فإن الزهري أحفظ من عبد الحميد، قال الطبري لا تنبغي التسمية باسم قبيح المعنى، ولا باسم يقتضي التزكية له، ولا باسم معناه السب. قلت: الثالث أخص من الأول، قال: ولو كانت الأسماء إنما هي أعلام للأشخاص لا يقصد بها حقيقة الصفة، لكن وجه الكراهة أن يسمع سامع بالاسم فيظن أنه صفة للمسمى، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يحول الاسم إلى ما إذا دعي به صاحبه كان صدقا، قال: وقد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أسماء، وليس ما غير من ذلك على وجه المنع من التسمي بها بل على وجه الاختيار، قال: ومن ثم أجاز المسلمون أن يسمى الرجل القبيح بحسن والفاسد بصالح، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم حزنا لما امتنع من تحويل اسمه إلى سهل بذلك، ولو كان ذلك لازما لما أقره على قوله: "لا أغير اسما سمانيه أبي" انتهى ملخصا. وقد ورد الأمر بتحسين الأسماء، وذلك فيما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي الدرداء رفعه: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم" ورجاله ثقات، إلا أن في سنده انقطاعا بين عبد الله بن أبي زكريا راويه عن أبي الدرداء [وأبي الدرداء] فإنه لم يدركه، قال أبو داود: وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم العاص وعتلة بفتح المهملة والمثناة بعدها لام وشيطان وغراب وحباب بضم المهملة وتخفيف الموحدة وشهاب وحرب وغير ذلك قلت: والعاصي الذي ذكره هو مطيع بن الأسود العدوي والد عبد الله بن مطيع، ووقع مثله لعبد الله بن الحارث بن جزء وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر أخرجه البزار والطبراني من حديث عبد الله بن الحارث بسند حسن والأخبار في مثل ذلك كثيرة، وعتلة هو عتبة بن عبد السلمي، وشيطان هو عبد الله، وغراب هو مسلم أبو رايطة، وحباب هو عبد الله بن عبد الله بن أبي، وشهاب هو هشام بن عامر الأنصاري، وحرب هو الحسن بن علي سماه علي أولا حربا، وأسانيدها مبينة في كتابي في الصحابة.

(10/577)


109 - باب مَنْ سَمَّى بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَبَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي ابْنَهُ
6194- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قُلْتُ لِابْنِ أَبِي أَوْفَى رَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَاتَ صَغِيراً وَلَوْ قُضِيَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ عَاشَ ابْنُهُ وَلَكِنْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ".
6195- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قَالَ لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لَهُ مُرْضِعاً فِي الْجَنَّةِ" .
6196- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ" . وَرَوَاهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6197- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي

(10/577)


هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" .
6198- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَدَفَعَهُ إِلَيَّ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي مُوسَى".
6199- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلاَقَةَ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَالَ: "انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قوله: "باب من سمى بأسماء الأنبياء" في هذه الترجمة حديثان صريحان: أحدهما أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم" ثانيهما أخرجه أبو داود والنسائي والمصنف في "الأدب المفرد" من حديث أبي وهب الجشمي بضم الجيم وفتح المعجمة رفعه: "تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة" قال بعضهم: أما الأولان فلما تقدم في "باب أحب الأسماء إلى الله" وأما الآخران فلأن العبد في حرث الدنيا أو حرث الآخرة ولأنه لا يزال يهم بالشيء بعد الشيء، وأما الأخيران فلما في الحرب من المكاره ولما في مرة من المرارة. وكأن المؤلف رحمه الله لما لم يكونا على شرطه اكتفى بما استنبطه من أحاديث الباب وأشار بذلك إلى الرد على من كره ذلك، كما تقدم عن عمر أنه أراد أن يغير أسماء أولاد طلحة وكان سماهم بأسماء الأنبياء. وأخرج البخاري أيضا في "الأدب المفرد" في مثل ترجمة هذا الباب حديث يوسف بن عبد الله بن سلام قال: "سماني النبي صلى الله عليه وسلم يوسف" الحديث وسنده صحيح وأخرجه الترمذي في "الشمائل" وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: "أحب الأسماء إليه أسماء الأنبياء". ثم ذكر فيه أحد عشر حديثا موصولة ومعلقة: الأول حديث أنس: قوله: "وقال أنس: قبل النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم، يعني ابنه" ثبت هذا التعليق في رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده، وهو في رواية النسفي أيضا، وهو طرف من حديث طويل تقدم موصولا في الجنائز. قوله: "حدثنا ابن نمير" هو محمد بن عبد الله بن نمير نسب لجده، ومحمد بن بشر هو العبدي، وإسماعيل هو ابن خالد، والإسناد كله كوفيون. قوله: "قلت لابن أبي أوفى" هو عبد الله الصحابي ابن الصحابي. قوله: "رأيت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، قال مات صغيرا" تضمن كلامه جواب السؤال بالإشارة إليه وصرح بالزيادة عليه كأنه قال: نعم رأيته لكن مات صغيرا. ثم ذكر السبب في ذلك. وقد رواه إبراهيم بن حميد عن إسماعيل عن أبي خالد بلفظ: "قال نعم كان أشبه الناس به، مات وهو صغير" أخرجه ابن منده والإسماعيلي من طريق جرير عن إسماعيل "سألت ابن أبي أوفى عن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أي شيء كان حين مات؟ قال: كان صبيا". قوله: "ولو قضي أن يكون بعد محمد نبي عاش ابنه" إبراهيم "ولكن لا نبي بعده" هكذا جزم به عبد الله بن أبي أوفى. ومثل هذا لا يقال بالرأي، وقد توارد عليه جماعة: فأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: "لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم

(10/578)


صلى عليه وقال: إن له مرضعا في الجنة، لو عاش لكان صديقا نبيا، ولأعتقت أخواله القبط" وروى أحمد وابن منده من طريق السدي "سألت أنسا كم بلغ إبراهيم؟ قال كان قد ملأ المهد، ولو بقي لكان نبيا، ولكن لم يكن ليبقى، لأن نبيكم آخر الأنبياء" ولفظ أحمد "لو عاش إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم لكان صديقا نبيا" ولم يذكر القصة فهذه عدة أحاديث صحيحة عن هؤلاء الصحابة أنهم أطلقوا ذلك، فلا أدري ما الذي حمل النووي في ترجمة إبراهيم المذكور من كتاب تهذيب الأسماء واللغات على استنكار ذلك ومبالغته حيث قال: هو باطل، وجسارة في الكلام على المغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم من الزلل. ويحتمل أن يكون استحضر ذلك عن الصحابة المذكورين، فرواه عن غيرهم ممن تأخر فقال ذلك، وقد استنكر قبله ابن عبد البر في "الاستيعاب" الحديث المذكور فقال هذا لا أدري ما هو، وقد ولد نوح من ليس بنبي، وكما يلد غير النبي نبيا فكذا يجوز عكسه، حتى نسب قائله إلى المجازفة والخوض في الأمور المغيبة بغير علم إلى غير ذلك، مع أن الذي نقل عن الصحابة المذكورين إنما أتوا فيه بقضية شرطية. حديث البراء "لما مات إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن له مرضعا في الجنة" قال الخطابي: هو بضم الميم على أنه اسم فاعل من أرضع أي من يتم إرضاعه. وبفتحها أي أن له رضاعا في الجنة. وقال ابن التين في الصحاح: امرأة مرضع أي لها ولد ترضعه، فهي مرضعة بضم أوله، فإن وصفتها بإرضاعه قلت مرضعة يعني بفتح الميم، قال: والمعنى هنا يصح، ولكن لم يروه أحد بفتح الميم. قلت: وقع في رواية الإسماعيلي: "أن له مرضعا ترضعه في الجنة" والمعنى تكمل إرضاعه، لأنه لما مات كان ابن ستة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا على اختلاف الروايتين، وقيل إنما عاش سبعين يوما. حديث جابر "سموا باسمي" ذكره مختصرا عن آدم عن شعبة عن حصين، وقد تقدم شرحه قريبا، وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن شعبة عن حصين بتمامه، قوله: "ورواه أنس" تقدم التنبيه عليه قريبا في "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سموا باسمي". حديث أبي هريرة "سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" ووقع في رواية المستملي والسرخسي هنا "بكنوتي" وقد تقدم توجيهه قريبا. قوله: "ومن رآني في المنام" الحديث هو حديث آخر جمعهما الراوي بهذا الإسناد، وسيأتي شرحه في كتاب التعبير. قوله: "ومن كذب علي متعمدا" الحديث هو حديث آخر تقدم شرحه في كتاب العلم. عن أبي موسى هو الأشعري قال: "ولد لي غلام". قوله: "وكان أكبر ولد أبي موسى" هذا يشعر بأن أبا موسى كني قبل أن يولد له، وإلا فلو كان الأمر على غير ذلك لكني بابنه إبراهيم المذكور، ولم ينقل أنه كان يكني أبا إبراهيم. حديث المغيرة "انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم" كذا أورده مختصرا، وقد تقدم في الكسوف بهذا الإسناد مطولا من وجه آخر عن زياد بن علاقة مطولا أيضا وتقدم شرحه هناك. قوله: "رواه أبو بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى ما أخرجه موصولا في الكسوف ومعلقا، لكن لم أر في شيء من طرق حديث أبي بكرة التصريح بأن ذلك كان يوم مات إبراهيم، إلا في رواية أسندها في "باب كسوف القمر" مع أن مجموع الأحاديث تدل على ذلك كما قاله البيهقي، قال ابن بطال: في هذه الأحاديث جواز التسمية بأسماء الأنبياء، وقد ثبت عن سعيد بن المسيب أنه قال: "أحب الأسماء إلى الله أسماء الأنبياء" وإنما كره عمر ذلك، لئلا يسبب أحد المسمى بذلك فأراد تعظيم الاسم لئلا يبتذل في ذلك وهو قصد حسن، وذكر الطبري أن الحجة في ذلك حديث أنس "يسمونهم

(10/579)


محمدا ويلعنونهم" قال: وهو ضعيف، لأنه من رواية الحكم بن عطية عن ثابت عنه، وعلى تقدير ثبوته فلا حجة فيه للمنع، بل فيه النهي عن لعن من يسمى محمدا، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الحديث في "باب سموا باسمي" قال ويقال إن طلحة قال للزبير: أسماء بني أسماء الأنبياء وأسماء بنيك أسماء الشهداء، فقال: أنا أرجو أن يكون بني شهداء، وأنت لا ترجو أن يكون بنوك أنبياء، فأشار إلى أن الذي فعله أولى من الذي فعله طلحة.

(10/580)


110 - باب تَسْمِيَةِ الْوَلِيدِ
6200- أخبرنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا بن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: "لما رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم أجعلها عليهم سنين كسني يوسف" .
قوله: "باب تسمية الوليد" ورد في كراهية هذا الاسم حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمي الرجل عبده أو ولده حربا أو مرة أو وليدا" الحديث وسنده ضعيف جدا، وورد فيه أيضا حديث آخر مرسل أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه والبيهقي في "الدلائل" من طريقه قال: "حدثنا محمد بن خالد بن العباس السكسكي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا أبو عمرو الأوزاعي" وأخرجه البيهقي في "الدلائل" أيضا من رواية بشر بن بكر عن الأوزاعي، وأخرجه عبد الرزاق في الجزء الثاني من أماليه عن معمر كلاهما عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "ولد لأخي أم سلمة ولد فسماه الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سميتموه بأسماء فراعنتكم، ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد هو أشر على هذه الأمة من فرعون لقومه" قال الوليد بن مسلم في روايته قال الأوزاعي: فكانوا يرونه الوليد بن عبد الملك. ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد لفتنة الناس به حين خرجوا عليه فقتلوه وانفتحت الفتن على الأمة بسبب ذلك وكثر فيهم القتل. وفي رواية بشر بن بكر من الزيادة "غيروا اسمه فسموه عبد الله" وبين في روايته أنه أخو أم سلمة لأمها، وهكذا أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن إسماعيل بن أبي إسماعيل عن إسماعيل بن عياش عن الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب أخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من رواية الحارث، وأخرجه أحمد عن أبي المغيرة عن إسماعيل بن عياش فزاد فيه: "قال حدثني الأوزاعي وغيره عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر به" فزاد فيه عمر، فادعى ابن حبان أنه لا أصل له، فقال في كتاب "الضعفاء" في ترجمة إسماعيل بن عياش: هذا خبر باطل، ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رواه عمر، ولا حدث به سعيد ولا الزهري ولا هو من حديث الأوزاعي. ثم أعله بإسماعيل بن عياش. واعتمد ابن الجوزي على كلام ابن حبان فأورد الحديث في "الموضوعات" فلم يصب، فإن إسماعيل لم ينفرد به، وعلى تقدير انفراده فإنما انفرد بزيادة عمر في الإسناد، وإلا فأصله كما ذكرت عند الوليد وغيره من أصحاب الأوزاعي عنه، وعند معمر وغيره من أصحاب الزهري، فإن كان سعيد بن المسيب تلقاه عن أم سلمة فهو على شرح الصحيح ويؤيد ذلك أن له شاهدا عن أم سلمة أخرجه إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" من رواية محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو عن عطاء عن زينب بنت أم سلمة عن أمها قالت: "دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي غلام من آل المغيرة اسمه

(10/580)


الوليد، فقال: من هذا؟ قلت: الوليد. قال: قد اتخذتم الوليد حنانا، غيروا اسمه فإنه سيكون في هذه الأمة فرعون يقال له الوليد" وقد أخرجه الحاكم من وجه آخر عن الوليد موصولا بذكر أبي هريرة فيه أخرجه من طريق نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم وقال في آخره: "قال الزهري إن استخلف الوليد بن يزيد وإلا فهو الوليد بن عبد الملك". قلت: وعندي أن ذكر أبي هريرة فيه من أوهام نعيم بن حماد والله أعلم. ولما لم يكن هذا الحديث المذكور على شرط البخاري أومأ إليه كعادته وأورد فيه الحديث الدال على الجواز، فإنه لو كان مكروها لغيره النبي صلى الله عليه وسلم كعادته، فإن في بعض طرق الحديث المذكور الدلالة على أن الوليد بن الوليد المذكور قد قدم بعد ذلك المدينة مهاجرا كما مضى في المغازي ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم غير اسمه، وأما ما تقدم أنه أمر بتغيير اسم الوليد فذلك اسم ولد المذكور فغيره فسماه عبد الله. وأخرج الطبراني في ترجمة الوليد بن الوليد بن المغيرة من طريق إسماعيل بن أيوب المخزومي في قصة الوليد بن الوليد بعد أن جاء المدينة مهاجرا؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة بعد موته وهي تقول: أبك الوليد بن الوليد أبا الوليد بن المغيرة فقال: " إن كدتم لتتخذون الوليد حنانا فسماه عبد الله " ووصله ابن منده من وجه واه إلى أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة عن أبيه عن جده أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. ومن شواهد الحديث ما أخرجه الطبراني أيضا من حديث معاذ بن جبل قال "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر حديثا فيه قال: "الوليد اسم فرعون هادم شرائع الإسلام، يبوء بدمه رجل من أهل بيته" وأسكن سنده ضعيف جدا.

(10/581)


111 - باب مَنْ دَعَا صَاحِبَهُ فَنَقَصَ مِنْ اسْمِهِ حَرْفاً
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا هِرٍّ"
6201- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام؟ قلت وعليه السلام ورحمة الله. قالت: وهو يرى ما لا نرى" .
6202- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فِي الثَّقَلِ وَأَنْجَشَةُ غُلاَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسُوقُ بِهِنَّ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَنْجَشُ رُوَيْدَكَ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ" .
قوله: "باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا" كذا اقتصر على حرف، وهو مطابق لحديث عائشة في "عائش" ولحديث أنس في "أنجش". وأما حديث أبي هريرة فنازع ابن بطال في مطابقته فقال: ليس من الترخيم، وإنما هو نقل اللفظ من التصغير والتأنيث إلى التكبير والتذكير، وذلك أنه كان كناه أبا هريرة وهريرة تصغير هرة فخاطبه باسمها مذكرا، فهو نقصان في اللفظ وزيادة في المعنى. قلت: فهو نقص في الجملة، لكن كون النقص منه حرفا فيه نظر، وكأنه لحظ الاسم قبل التصغير وهي هرة فإذا حذف الياء الأخيرة صدق أنه نقص من

(10/581)


الاسم حرفا، وقد ترجم في "الأدب المفرد" مثله، لكن قال: "شيئا" بدل "حرفا" وأورد فيه حديث عائشة "رأيت عثمان والنبي صلى الله عليه وسلم يضرب كتفه يقول: أكنت عثم" وجبريل يوحي إليه. قوله: "وقال أبو حازم عن أبي هريرة: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هر" بتشديد الراء ويجوز تخفيفها، وهذا طرف من حديث وصله المصنف رحمه الله في الأطعمة أوله "أصابني جهد شديد - وفيه - فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسي فقال: يا أبا هر" ويأتي في الرقاق حديث أوله "والذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد على الأرض بكبدي من الجوع" وفيه مثله. قوله: "يا أنجش رويدك" تقدم شرحه في "باب ما يجوز من الشعر" وأكثر ما وقع في الروايات بغير ترخيم، ويجوز في الشين الضم والفتح كما في الذي قبله.

(10/582)


باب الكنية للصبي قبل أن يولد وقبل أن يولد للرجل
...
112 - باب الْكُنْيَةِ لِلصَّبِيِّ وَقَبْلَ أَنْ يُولَدَ لِلرَّجُلِ
6203- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيماً وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ" نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا
قوله: "باب الكنية للصبي، وقبل أن يولد للرجل" في رواية الكشميهني: "يلد الرجل" ذكر فيه قصة أبي عمير وهو مطابق لأحد ركني الترجمة، والركن الثاني مأخوذ من الإلحاق بل بطريق الأولى، وأشار بذلك إلى الرد على من منع تكنية من لم يولد له مستندا إلى أنه خلاف الواقع، فقد أخرج ابن ماجه وأحمد والطحاوي وصححه الحاكم من حديث صهيب "أن عمر قال له: ما لك تكنى أبا يحيى وليس لك ولد؟ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كناني" وأخرج سعيد بن منصور من طريق فضيل بن عمرو "قلت لإبراهيم إني أكنى أبا النضر وليس لي ولد، وأسمع الناس يقولون: من اكتنى وليس له ولد فهو أبو جعر"، فقال إبراهيم: كان علقمة يكنى أبا شبل وكان عقيما لا يولد له وقوله جعر بفتح الجيم وسكون المهملة، وشبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة. وأخرج المصنف في "الأدب المفرد" عن علقمة قال: كناني عبد الله بن مسعود قبل أن يولد لي. وقد كان ذلك مستعملا عند العرب، قال الشاعر: لها كنية عمرو وليس لها عمرو. وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري قال: كان رجال من الصحابة يكتنون قبل أن يولد لهم. وأخرج المصنف في "باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم" من كتاب الجنائز عن هلال الوزان قال: كناني عروة قبل أن يولد لي. قلت: وكنية هلال المذكور أبو عمرو ويقال أبو أمية ويقال غير ذلك. وأخرج الطبراني عن علقمة عن ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا عبد الرحمن قبل أن يولد له" وسنده صحيح. قال العلماء: كانوا يكنون الصبي تفاؤلا بأنه سيعيش حتى يولد له، وللأمن من التلقيب، لأن الغالب أن من يذكر شخصا فيعظمه أن لا يذكره باسمه الخاص به فإذا كانت له كنية أمن من تلقيبه، ولهذا قال قائلهم: بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليها الألقاب. وقالوا: الكنية للعرب كاللقب للعجم، ومن ثم كره للشخص أن يكني نفسه إلا إن قصد التعريف. قوله: "عبد الوارث" هو ابن سعيد، وأبو التياح بمثناة فوقانية ثم تحتانية ثقيلة

(10/582)


مفتوحتين ثم مهملة هو يزيد بن حميد، والإسناد كله بصريون، وقد تقدم من رواية شعبة عن أبي التياح في "باب الانبساط إلى الناس" وقد أخرجه النسائي من طريق شعبة هكذا، ومن وجه آخر عن شعبة عن قتادة عن أنس، ومن وجه ثالث عن شعبة عن محمد بن قيس عن حميد عن أنس والمشهور الأول، ويحتمل أن يكون لشعبة فيه طرق. قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا" هذا قاله أنس توطئة لما يريد من قصة الصبي، وأول حديث شعبة عن أنس قال: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا" ولأحمد من طريق المثنى بن سعيد عن أبي التياح عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أم سليم" وفي رواية محمد بن قيس المذكور "كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اختلط بنا أهل البيت" يعني لبيت أبي طلحة وأم سليم، ولأبي يعلى من طريق محمد بن سيرين عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشانا ويخالطنا" وللنسائي من طريق إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي أبا طلحة كثيرا" ولأبي يعلى من طريق خالد بن عبد الله عن حميد "كان يأتي أم سليم وينام على فراشها، وكان إذا مشى يتوكأ" ولابن سعد وسعيد بن منصور عن ربعي بن عبد الله بن الجارود عن أنس "كان يزور أم سليم فتتحفه بالشيء تصنعه له". قوله: "وكان لي أخ يقال له أبو عمير" هو بالتصغير. وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند أحمد "كان لي أخ صغير" وهو أخو أنس بن مالك من أمه، ففي رواية المثنى بن سعيد المذكورة "وكان لها أي أم سليم ابن صغير" وفي رواية حميد، عند أحمد "وكان لها من أبي طلحة ابن يكنى أبا عمير" وفي رواية مروان بن معاوية عن حميد عند ابن أبي عمر "كان بني لأبي طلحة" وفي رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عند ابن سعد "أن أبا طلحة كان له ابن قال أحسبه فطيما" في بعض النسخ "فطيم" بغير ألف وهو محمول على طريقة من يكتب المنصوب المنون بلا ألف والأصل فطيم لأنه صفة أخ وهو مرفوع، لكن تخلل بين الصفة والموصوف "أحسبه"، وقد وقع عند أحمد من طريق المثنى بن سعيد مثل ما في الأصل فطيم بمعنى مفطوم أي انتهى إرضاعه. قوله: "وكان" أي النبي صلى الله عليه وسلم "إذا جاء" زاد مروان بن معاوية في روايته: "إذا جاء لأم سليم يمازحه" ولأحمد في روايته عند حميد مثله، وفي أخرى "يضاحكه" وفي رواية محمد بن قيس يهازله. وفي رواية المثنى بن أبي عوانة "يفاكهه". قوله: "يا أبا عمير" في رواية ربعي بن عبد الله "فزارنا ذات يوم فقال: يا أم سليم ما شأني أرى أبا عمير ابنك خائر النفس " بمعجمة ومثلثة أي ثقيل النفس غير نشيط. وفي رواية مروان بن معاوية وإسماعيل بن جعفر كلاهما عن حميد "فجاء يوما وقد مات نغيره" زاد مروان "الذي كان يلعب به" زاد إسماعيل "فوجده حزينا، فسأل عنه فأخبرته فقال: يا أيا عمير" وساقه أحمد عن يزيد بن هارون عن حميد بتمامه. وفي رواية حماد بن سلمة المشار إليها "فقال: ما شأن أبي عمير حزينا" وفي رواية ربعي بن عبد الله "فجعل يمسح رأسه ويقول" في رواية عمارة بن زاذان "فكان يستقبله ويقول". قوله: "ما فعل النغير" بنون ومعجمة وراء مصغر، وكرر ذلك في رواية حماد بن سلمة. قوله: "نغير كان يلعب به" وهو طير صغير واحد نغرة وجمعه نغران، قال الخطابي طوير له صوت، وفيه نظر فإنه ورد في بعض طرقه أنه الصعو بمهملتين بوزن العفو كما في رواية ربعي "فقالت أم سليم ماتت صعوته التي كان يلعب بها، فقال أي أبا عمير مات النغير" فدل على أنهما شيء واحد والصعو لا يوصف بحسن الصوت، قال الشاعر:
كالصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يترنم
قال عياض: النغير طائر معروف يشبه العصفور، وقيل هي فرخ العصافير، وقيل هي نوع من الحمر بضم

(10/583)


المهملة وتشديد الميم ثم راء، قال: والراجح أن النغير طائر أحمر المنقار. قلت: هذا الذي جزم به الجوهري. وقال صاحب "العين والمحكم": الصعو صغير المنقار أحمر الرأس. قوله: "فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا الخ" تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصلاة، وتقدمت الإشارة إليه قريبا أيضا. وفي هذا الحديث عدة فوائد جمعها أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاص الفقيه الشافعي صاحب التصانيف في جزء مفرد، بعد أن أخرجه من وجهين عن شعبة عن أبي التياح، ومن وجهين عن حميد عن أنس، ومن طريق محمد بن سيرين، وقد جمعت في هذا الموضع طرقه وتتبعت ما في رواية كل منهم من فائدة زائدة. وذكر ابن القاص في أول كتابه أن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها، ومثل ذلك بحديث أبي عمير هذا قال: وما درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستين وجها. ثم ساقها مبسوطة، فلخصتها مستوفيا مقاصده، ثم أتبعته بما تيسر من الزوائد عليه فقال: فيه استحباب التأني في المشي، وزيارة الإخوان، وجواز زيارة الرجل للمرأة الأجنبية إذا لم تكن شابة وأمنت الفتنة، وتخصيص الإمام بعض الرعية بالزيارة، ومخالطة بعض الرعية دون بعض، ومشي الحاكم وحده، وأن كثرة الزيارة لا تنقص المودة، وأن قوله: "زر غبا تزدد حبا" مخصوص بمن يزور لطمع، وأن النهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر. وفيه مشروعية المصافحة لقول أنس فيه: "ما مسست كفا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم" وتخصيص ذلك بالرجل دون المرأة، وأن الذي مضى في صفته صلى الله عليه وسلم أنه "كان شثن الكفين" خاص بعبالة الجسم لا بخشونة اللمس. وفيه استحباب صلاة الزائر في بيت المزور ولا سيما إن كان الزائر ممن يتبرك به، وجواز الصلاة على الحصير، وترك التقزز لأنه علم أن في البيت صغيرا وصلى مع ذلك في البيت وجلس فيه. وفيه أن الأشياء على يقين الطهارة لأن نضحهم البساط إنما كان للتنظيف. وفيه أن الاختيار للمصلي أن يقوم على أروح الأحوال وأمكنها، خلافا لمن استحب من المشددين في العبادة أن يقوم على أجهدها. وفيه جواز حمل العالم علمه إلى من يستفيده منه، وفضيلة لآل أبي طلحة ولبيته إذ صار في بيتهم قبلة يقطع بصحتها. وفيه جواز الممازحة وتكرير المزح وأنها إباحة سنة لا رخصة، وأن ممازحة الصبي الذي لم يميز جائزة، وتكرير زيارة الممزوح معه. وفيه ترك التكبر والترفع، والفرق بين كون الكبير في الطريق فيتواقر أو في البيت فيمزح، وأن الذي ورد في صفة المنافق أن سره يخالف علانيته ليس على عمومه. وفيه الحكم على ما يظهر من الأمارات في الوجه من حزن أو غيره. وفيه جواز الاستدلال بالعين على حال صاحبها، إذ استدل صلى الله عليه وسلم بالحزن الظاهر على الحزن الكامن حتى حكم بأنه حزين فسأل أمه عن حزنه. وفيه التلطف بالصديق صغيرا كان أو كبيرا، والسؤال عن حاله، وأن الخبر الوارد في الزجر عن بكاء الصبي محمول على ما إذا بكى عن سبب عامدا ومن أذى بغير حق. وفيه قبول خبر الواحد لأن الذي أجاب عن سبب حزن أبي عمير كان كذلك. وفيه جواز تكنية من لم يولد له، وجواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه، وقص جناح الطير إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما وأيهما كان الواقع التحق به الآخر في الحكم. وفيه جواز إدخال الصيد من الحل إلى الحرم وإمساكه بعد إدخاله، خلافا لمن منع من إمساكه وقاسه على من صاد ثم أحرم فإنه يجب عليه الإرسال. وفيه جواز تصغير الاسم ولو كان لحيوان، وجواز مواجهة الصغير بالخطاب خلافا

(10/584)


لمن قال: الحكيم لا يواجه بالخطاب إلا من يعقل ويفهم، قال: والصواب الجواز حيث لا يكون هناك طلب جواب، ومن ثم لم يخاطبه في السؤال عن حاله بل سأل غيره. وفيه معاشرة الناس على قدر عقولهم. وفيه جواز قيلولة الشخص في بيت غير بيت زوجته ولو لم تكن فيه زوجته، ومشروعية القيلولة، وجواز قيلولة الحاكم في بيت بعض رعيته ولو كانت امرأة، وجواز دخول الرجل بيت المرأة وزوجها غائب ولو لم يكن محرما إذا انتفت الفتنة. وفيه إكرام الزائر وأن التنعم الخفيف لا ينافي السنة، وأن تشييع المزور الزائر ليس على الوجوب. وفيه أن الكبير إذا زار قوما واسى بينهم، فإنه صافح أنسا، ومازح أبا عمير، ونام على فراش أم سليم، وصلى بهم في بيتهم حتى نالوا كلهم من بركته، انتهى ما لخصته من كلامه فيما استنبط من فوائد حديث أنس في قصة أبي عمير. ثم ذكر فصلا في فائدة تتبع طرق الحديث، فمن ذلك الخروج من خلاف من شرط في قبول الخبر أن تتعدد طرقه، فقيل لاثنين وقيل لثلاثة وقيل لأربعة وقيل حتى يستحق اسم الشهرة، فكان في جميع الطرق ما يحصل المقصود لكل أحد غالبا، وفي جميع الطرق أيضا، ومعرفة من رواها، وكميتها العلم بمراتب الرواة في الكثرة والقلة. وفيها الاطلاع على علة الخبر بانكشاف غلط الغالط وبيان تدليس المدلس وتوصيل المعنعن. ثم قال: وفيما يسره الله تعالى من جمع طرق هذا الحديث واستنباط فوائده ما يحصل به التمييز بين أهل الفهم في النقل وغيرهم ممن لا يهتدي لتحصيل ذلك، مع أن العين المستنبط منها واحدة، ولكن من عجائب اللطيف الخبير أنها تسقى بماء واحد؛ ونفضل بعضها على بعض في الأكل هذا آخر كلامه ملخصا. وقد سبق إلى التنبيه على فوائد قصة أبي عمير بخصوصها من القدماء أبو حاتم الرازي أحد أئمة الحديث وشيوخ أصحاب السنن، ثم تلاه الترمذي في "الشمائل" ثم تلاه الخطابي، وجميع ما ذكروه يقرب من عشرة فوائد فقط، وقد ساق شيخنا في "شرح الترمذي" ما ذكره ابن القاص بتمامه ثم قال: ومن هذه الأوجه ما هو واضح، ومنها الخفي، ومنها المتعسف. قال: والفوائد التي ذكرها آخرا وأكمل بها الستين هي من فائدة جمع طرق الحديث لا من خصوص هذا الحديث. وقد بقي من فوائد هذا الحديث أن بعض المالكية والخطابي من الشافعية استدلوا به على أن صيد المدينة لا يحرم، وتعقب باحتمال ما قاله ابن القاص أنه صيد في الحل ثم أدخل الحرم فلذلك أبيح إمساكه، وبهذا أجاب مالك في "المدونة" ونقله ابن المنذر عن أحمد والكوفيين، ولا يلزم منه أن حرم المدينة لا يحرم صيده. وأجاب ابن التين بأن ذلك كان قبل تحريم صيد حرم المدينة، وعكسه بعض الحنفية فقال قصة أبي عمير تدل على نسخ الخبر الدال على تحريم صيد المدينة، وكلا القولين متعقب. ما أجاب به ابن القاص من مخاطبة من لا يميز التحقيق فيه جواز مواجهته بالخطاب إذا فهم الخطاب وكان في ذلك فائدة ولو بالتأنيس له، وكذا في تعليمه الحكم الشرعي عند قصد تمرينه عليه من الصغر كما في قصة الحسن بن علي لما وضع التمرة في فيه قال له "كخ كخ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة" كما تقدم بسطه في موضعه، ويجوز أيضا مطلقا إذا كان القصد بذلك خطاب من حضر أو استفهامه ممن يعقل، وكثيرا ما يقال للصغير الذي لا يفهم أصلا إذا كان ظاهر الوعك: كيف أنت؟ والمراد سؤال كافله أو حامله. ذكر ابن بطال من فوائد هذا الحديث أيضا استحباب النضح فيما لم يتيقن طهارته. وفيه أن أسماء الأعلام لا يقصد معانيها، وأن إطلاقها على المسمى لا يستلزم الكذب، لأن الصبي لم يكن أبا وقد دعي أبا عمير. وفيه جواز السجع في الكلام إذا لم يكن متكلفا، وأن ذلك لا يمتنع من النبي كما امتنع منه إنشاء الشعر. وفيه إتحاف الزائر بصنيع ما يعرف

(10/585)


أنه يعجبه من مأكول أو غيره. وفيه جواز الرواية بالمعنى، لأن القصة واحدة وقد جاءت بألفاظ مختلفة. وفيه جواز الاقتصار على بعض الحديث، وجواز الإتيان به تارة مطولا وتارة ملخصا، وجميع ذلك يحتمل أن يكون من أنس ويحتمل أن يكون ممن بعده، والذي يظهر أن بعض ذلك منه والكثير منه ممن بعده، وذلك يظهر من اتحاد المخارج واختلافها. وفيه مسح رأس الصغير للملاطفة، وفيه دعاء الشخص بتصغير اسمه عند عدم الإيذاء، وفيه جواز السؤال عما السائل به عالم لقوله: "ما فعل النغير؟" بعد علمه بأنه مات. وفيه إكرام أقارب الخادم وإظهار المحبة لهم، لأن جميع ما ذكر من صنيع النبي صلى الله عليه وسلم مع أم سليم وذويها كان غالبا بواسطة خدمة أنس له. وقد نوزع ابن القاص في الاستدلال به على إطلاق جواز لعب الصغير بالطير، فقال أبو عبد الملك: يجوز أن يكون ذلك منسوخا بالنهي عن تعذيب الحيوان. وقال القرطبي: الحق أن لا نسخ، بل الذي رخص فيه للصبي إمساك الطير ليلتهي به، وأما تمكينه من تعذيبه ولا سيما حتى يموت فلم يبح قط. ومن الفوائد التي لم يذكرها ابن القاص ولا غيره في قصة أبي عمير أن عند أحمد في آخر رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عن أنس "فمرض الصبي فهلك" فذكر الحديث في قصة موته وما وقع لأم سليم من كتمان ذلك عن أبي طلحة حتى نام معها، ثم أخبرته لما أصبح فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فدعا لهم فحملت ثم وضعت غلاما، فأحضره أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله، وقد تقدم ذلك مستوفى في كتاب الجنائز، وتأتي الإشارة إلى بعضه في "باب المعاريض" قريبا. وقد جزم الدمياطي في "أنساب الخزرج" بأن أبا عمير مات صغيرا وقال ابن الأثير في ترجمته في الصحابة: لعله الغلام الذي جرى لأم سليم وأبي طلحة في أمره ما جرى، وكأنه لم يستحضر رواية عمارة بن زاذان المصرحة بذلك فذكره احتمالا، ولم أر عند من ذكر أبا عمير في الصحابة له غير قصة النغير، ولا ذكروا له اسما، بل جزم بعض الشراح بأن اسمه كنيته، فعلى هذا يكون ذلك من فوائد هذا الحديث، وهو جعل الاسم المصدر بأب أو أم اسما علما من غير أن يكون له اسم غيره، لكن قد يؤخذ من قول أنس في رواية ربعي بن عبد الله "يكنى أبا عمير" أن له اسما غير كنيته. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه من رواية هشيم عن أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له حديثا، وأبو عمير هذا ذكروا أنه كان أكبر ولد أنس وذكروا أن اسمه عبد الله كما جزم به الحاكم أبو أحمد وغيره، فلعل أنسا مسماه باسم أخيه لأمه وكناه بكنيته، ويكون أبو طلحة سمى ابنه الذي رزقه خلفا من أبي عمير باسم أبي عمير لكنه لم يكنه بكنيته، والله أعلم. ثم وجدت في كتاب النساء لأبي الفرج بن الجوزي قد أخرج في أواخره في ترجمة أم سليم من طريق محمد بن عمرو وهو أبو سهل البصري وفيه مقال عن حفص بن عبيد الله عن أنس أن أبا طلحة زوج أم سليم كان له منها ابن يقال له حفص غلام قد ترعرع فأصبح أبو طلحة وهو صائم في بعض شغله فذكر قصة نحو القصة التي في الصحيح بطولها في موت الغلام ونومها مع أبي طلحة وقولها "أرأيت لو أن رجلا أعارك عارية الخ" وإعلامهما النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ودعائه لهما وولادتهما وإرسالها الولد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه. وفي القصة مخالفة لما في الصحيح: منها أن الغلام كان صحيحا فمات بغتة، ومنها أنه ترعرع، والباقي بمعناه. فعرف بهذا أن اسم أبي عمير حفص، وهو وارد على من صنف في الصحابة وفي المبهمات، والله أعلم. ومن النوادر التي تتعلق بقصة أبي عمير ما أخرجه الحاكم في "علوم الحديث" عن أبي حاتم الرازي أنه قال: حفظ الله أخانا صالح بن محمد - يعني الحافظ الملقب جزرة - فإنه لا يزال يبسطنا غائبا وحاضرا، كتب إلي أنه

(10/586)


لما مات الذهلي - يعني بنيسابور - أجلسوا شيخا لهم يقال له محمش فأملى عليهم حديث أنس هذا فقال: يا أبا عمير ما فعل البعير؟ قاله بفتح عين عمير بوزن عظيم وقال بموحدة مفتوحة بدل النون وأهمل العين بوزن الأول فصحف الاسمين معا. قلت: ومحمش هذا لقب وهو بفتح الميم الأولى وكسر الثانية بينهما حاء مهملة ساكنة وآخره معجمة، واسمه محمد بن يزيد بن عبد الله النيسابوري السلمي ذكره ابن حبان في الثقات وقال: روى عن يزيد بن هارون وغيره وكانت فيه دعابة

(10/587)


113 - باب التَّكَنِّي بِأَبِي تُرَابٍ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ كُنْيَةٌ أُخْرَى
6204- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَيْهِ لاَبُو تُرَابٍ وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى بِهَا وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلاَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضَبَ يَوْماً فَاطِمَةَ فَخَرَجَ فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْبَعُهُ فَقَالَ هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الْجِدَارِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْتَلاَ ظَهْرُهُ تُرَاباً فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ وَيَقُولُ: "اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ" .
قوله: "باب التكني بأبي تراب وإن كانت له كنية أخرى" وذكر فيه قصة علي بن أبي طالب في ذلك، وقد تقدمت بأتم من هذا السياق في مناقبه، وفيه بيان الاختلاف في سبب ذلك وأن الجمع بينهما ممتنع، ثم ظهر لي إمكان الجمع وقد ذكرته في بابه من كتاب الاستئذان، وقد ثبت في حديث عبد المطلب بن ربيعة عند مسلم في قصة طويلة أن عليا رضي الله عنه قال: أنا أبو حسن. قوله في السند "سليمان" هو ابن بلال، وقوله: "عن سهل بن سعد" في رواية الإسماعيلي وأبي نعيم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد شيخ البخاري فيه بهذا السند "سمعت سهل بن سعد" وقوله وما سماه أبو تراب إلا النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن التين: صوابه أبا تراب. قلت: وليس الذي وقع في الأصل خطأ بل هو موجه على الحكاية، أو على جعل الكنية اسما. وقد وقع في بعض النسخ "أبا تراب" ونبه على اختلاف الروايات في ذلك الإسماعيلي. ووقع في رواية أبي بكر المشار إليها آنفا بالنصب أيضا. وقوله: "إن كانت لأحب أسمائه إليه" فيه إطلاق الاسم على الكنية، وأنث "كانت" باعتبار الكنية. قال الكرماني: أن مخففة من الثقيلة وكانت زائدة، وأحب منصوب على أنه اسم أن، وهي وإن خففت لكن لا يوجب تخفيفها إلغاءها. قلت: ولم يتعين ما قال، بل كانت على حالها. وأشار سهل بذلك إلى انقضاء محبته بموته، وسهل إنما حدث بذلك بعد موت علي بدهر. وقال ابن التين: وأنث كانت على تأنيث الأسماء مثل "وجاءت كل نفس" ومثل "كما شرقت صدر القناة" كذا قال، وما تقدم أولى. وقوله: "وأن كان ليفرح أن ندعوها" بنون مفتوحة ودال ساكنة والواو محركة بمعنى نذكرها كذا للنسفي، ولأبي ذر عن المستملي والسرخسي ووقع في روايتنا من طريق أبي الوقت "أن يدعاها" وهو بتحتانية أوله مضمومة، ولسائر الرواة "يدعى بها" بضم أوله أي ينادى بها وهي رواية المصنف في "الأدب المفرد" عن شيخه المذكور هنا بهذا الإسناد، وكذا لأبي نعيم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة المذكورة. وفي رواية عثمان بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد "أن يدعوه بها"

(10/587)


وقوله: "فاضطجع إلى الجدار في المسجد" في رواية الكشميهني: "إلى جدار المسجد" وعنه "في" بدل "إلى" وفي رواية النسفي "إلى الجدار إلى المسجد" وقد تقدم في أبواب المساجد بلفظ: "فإذا هو راقد في المسجد" وهو يقوي رواية الأكثر هنا. وقوله: "يتبعه" بتشديد المثناة والعين مهملة، وللكشميهني: "يبتغيه" بتقديم الموحدة ثم مثناة والغين معجمة بعدها تحتانية. ويستفاد من الحديث جواز تكنية الشخص بأكثر من كنية، والتلقيب بلفظ الكنية وبما يشتق من حال الشخص، وأن اللقب إذا صدر من الكبير في حق الصغير تلقاه بالقبول ولو لم يكن لفظه لفظ مدح، وأن من حمل ذلك على التنقيص لا يلتفت إليه، وهو كما كان أهل الشام ينتقصون ابن الزبير بزعمهم حيث يقولون له: ابن ذات النطاقين، فيقول: "تلك شكاة ظاهر عنك عارها" قال ابن بطال: وفيه أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طبع عليه البشر من الغضب، وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته ولا يعاب عليه. قلت: ويحتمل أن يكون سبب خروج علي خشية أن يبدو منه في حالة الغضب ما لا يليق بجناب فاطمة رضي الله عنهما فحسم مادة الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما. وفيه كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه توجه نحو علي ليترضاه، ومسح التراب عن ظهره ليبسطه، وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده، فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار وترك معاتبتهم إبقاء لمودتهم، لأن العتاب إنما يخشى ممن يخشى منه الحقد لا ممن هو منزه عن ذلك.
" تنبيه ": أخرج ابن إسحاق والحاكم من طريقه من حديث عمار أنه "كان هو وعلي في غزوة العشيرة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عليا نائما وقد علاه تراب فأيقظه وقال له: "مالك أبا تراب، ثم قال: ألا أحدثك بأشقى الناس" الحديث. وغزوة العشيرة كانت في أثناء السنة الثانية قبل وقعة بدر، وذلك قبل أن يتزوج علي فاطمة، فإن كان محفوظا أمكن الجمع بأن يكون ذلك تكرر منه صلى الله عليه وسلم في حق علي، والله أعلم. وقد ذكر ابن إسحاق عقب القصة المذكورة قال: "حدثني بعض أهل العلم أن عليا كان إذا غضب على فاطمة في شيء لم يكلمها، بل كان يأخذ ترابا فيضعه على رأسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ذلك عرف فيقول: مالك يا أبا تراب؟" فهذا سبب آخر يقوي التعدد، والمعتمد في ذلك كله حديث سهل في الباب والله أعلم.

(10/588)


114 - باب أَبْغَضِ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ
6205- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَخْنَى الأَسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ" .
[الحديث 6205 – طرفه في: 6206]
6206- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً قَالَ: "أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ" وَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ "أَخْنَعُ الأَسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الأَمْلاَكِ" قَالَ سُفْيَانُ يَقُولُ غَيْرُهُ تَفْسِيرُهُ شَاهَانْ شَاهْ
قوله: "باب أبغض الأسماء إلى الله عز وجل" كذا ترجم بلفظ: "أبغض" وهو بالمعنى، وقد ورد بلفظ:

(10/588)


"أخبث" بمعجمة وموحدة ثم مثلثة، وبلفظ: "أغيظ" وهما عند مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة، ولابن أبي شيبة عن مجاهد بلفظ: "أكره الأسماء" ونقل ابن التين عن الداودي قال: ورد في بعض الأحاديث "أبغض الأسماء إلى الله خالد ومالك" قال: وما أراه محفوظا لأن في الصحابة من تسمى بهما، قال: وفي القرآن تسمية خازن النار مالكا قال: والعباد وإن كانوا يموتون فإن الأرواح لا تفنى، انتهى كلامه. فأما الحديث الذي أشار إليه فما وقفت عليه بعد البحث، ثم رأيت في ترجمة إبراهيم بن الفضل المدني أحد الضعفاء من مناكيره عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رفعه: " أحب الأسماء إلى الله ما سمي به، وأصدقها الحارث وهمام، وأكذب الأسماء خالد ومالك، وأبغضها إلى الله ما سمي لغيره: "فلم يضبط الداودي لفظ المتن، أو هو متن آخر اطلع عليه. وأما استدلاله على ضعفه بما ذكر من تسمية بعض الصحابة وبعض الملائكة فليس بواضح، لاحتمال اختصاص المنع بمن لا يملك شيئا. وأما احتجاجه لجواز التسمية لخالد بما ذكر من أن الأرواح لا تفنى فعلى تقدير التسليم فليس بواضح أيضا، لأن الله سبحانه وتعالى قد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} والخلد البقاء الدائم بغير موت، فلا يلزم من كون الأرواح لا تفنى أن يقال صاحب تلك الروح خالد. قوله: "أخنى" كذا في رواية شعيب بن أبي حمزة للأكثر، من الخنا بفتح المعجمة وتخفيف النون مقصور وهو الفحش في القول، ويحتمل أن يكون من قولهم أخنى عليه الدهر أي أهلكه، ووقع عند المستملي: "أخنع" بعين مهملة وهو المشهور في رواية سفيان بن عيينة وهو من الخنوع وهو الذل، وقد فسره بذلك الحميدي شيخ البخاري عقب روايته له عن سفيان قال: "أخنع أذل" وأخرج مسلم عن أحمد بن حنبل قال: سألت أبا عمرو الشيباني يعني إسحاق اللغوي عن أخنع فقال: أوضع، قال عياض: معناه أنه أشد الأسماء صغارا. وبنحو ذلك فسره أبو عبيد. والخانع الذليل وخنع الرجل ذل، قال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلا، وقد فسر الخليل أخنع بأفجر فقال: الخنع الفجور، يقال أخنع الرجل إلى المرأة إذا دعاها للفجور. قلت: وهو قريب من معنى الخنا وهو الفحش. ووقع عند الترمذي في آخر الحديث: "أخنع أقبح" وذكر أبو عبيد أنه ورد بلفظ: "أنخع" بتقديم النون على المعجمة وهو بمعنى أهلك لأن النخع الذبح والقتل الشديد، وتقدم أن في رواية همام "أغيظ" بغين وظاء معجمتين، ويؤيده "اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك" أخرجه الطبراني. ووقع في شرح شيخنا ابن الملقن أن في بعض الروايات " أفحش الأسماء" ولم أرها، وإنما ذكر ذلك بعض الشراح في تفسير أخنى وقوله: "أخنع اسم عند الله . وقال سفيان غير مرة أخنع الأسماء" أي قال ذلك أكثر من مرة، وهذا اللفظ يستعمل كثيرا في إرادة الكثرة وسأذكر توجيه الروايتين. قوله: "عن أبي الزناد" في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان "حدثنا أبو الزناد" وهي عند أبي عوانة في صحيحه أيضا من طريقه. قوله: "رواية" كذا في رواية علي هنا. وفي رواية أحمد عن سفيان "يبلغ به" أخرجها مسلم وأبو داود، وعند الترمذي عن محمد بن ميمون عن سفيان مثله، وكلاهما كناية عن الرفع بمعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووقع التصريح بذلك في رواية الحميدي. قوله: "عند الله" زاد أبو داود والترمذي في روايتهما: "يوم القيامة" وهذه الزيادة ثابتة هنا في رواية شعيب إلي قبل هذه. قوله: "تسمى" أي سمى نفسه أو سمي بذلك فرضي به واستمر عليه. قوله: "بملك الأملاك" بكسر اللام من ملك، والأملاك جمع ملك بالكسر وبالفتح وجمع مليك. قوله: "قال سفيان يقول غيره" أي غير أبي الزناد. قوله: "تفسيره شاهان شاه" هكذا ثبت لفظ

(10/589)


تفسيره في رواية الكشميهني؛ ووقع عند أحمد عن سفيان قال سفيان: "مثل شاهان شاه" فلعل سفيان قاله مرة نقلا ومرة من قبل نفسه، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن الصباح عن سفيان مثله وزاد مثل ذلك الصين، وشاهان شاه بسكون النون وبهاء في آخره وقد تنون وليست هاء تأنيث فلا يقال بالمثناة أصلا. وقد تعجب بعض الشراح من تفسير سفيان بن عيينة اللفظة العربية باللفظة العجمية وأنكر ذلك آخرون، وهو غفلة منهم عن مراده وذلك أن لفظ شاهان شاه كان قد كثر التسمية به في ذلك العصر فنبه على أن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك بل كل ما أدى معناه بأي لسان كان فهو مراد بالذم، ويؤيد ذلك أنه وقع عند الترمذي "مثل شاهان شاه" وقوله شاهان شاه هو المشهور في روايات هذا الحديث، وحكى عياض عن بعض الروايات "شاه شاه" بالتنوين بغير إشباع في الأولى والأصل هو الأولى، وهذه الرواية تخفيف منها، وزعم بعضهم أن الصواب شاه شاهان وليس كذلك لأن قاعدة العجم تقديم المضاف إليه على المضاف، فإذا أرادوا قاضي القضاة بلسانهم قالوا موبذان موبذ، فموبذ هو القاضي وموبذان جمعه فكذا شاه هو الملك وشاهان هو الملوك، قال عياض: استدل به بعضهم على أن الاسم غير المسمى، ولا حجة فيه بل المراد من الاسم صاحب الاسم، يدل عليه رواية: "همام أغيظ رجل" فكأنه من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويؤيده قوله: "تسمى" فالتقدير أن أخنع اسم رجل تسمى بدليل الرواية الأخرى "وأن أخنع الأسماء" واستدل بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم لورود الوعيد الشديد، ويلتحق به ما في معناه مثل خالق الخلق وأحكم الحاكمين وسلطان السلاطين وأمير الأمراء، وقيل يلتحق به أيضا من تسمى بشيء من أسماء الله الخاصة به كالرحمن والقدوس والجبار. وهل يلتحق به من تسمى قاضي القضاة أو حاكم الحكام؟ اختلف العلماء في ذلك فقال الزمخشري في قوله تعالى: {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} : أي أعدل الحكام وأعلمهم، إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل، قال: ورب غريق في الجهل والجور من مقلدي زماننا قد لقب أقضى القضاة ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر، وتعقبه ابن المنير بحديث: "أقضاكم علي" قال: فيستفاد منه أن لا حرج على من أطلق على قاض يكون أعدل القضاة أو أعلمهم في زمانه أقضى القضاة، أو يريد إقليمه أو بلده. ثم تكلم في الفرق بين قاضي القضاة وأقضى القضاة، وفي اصطلاحهم على أن الأول فوق الثاني وليس من غرضنا هنا. وقد تعقب كلام ابن المنير علم الدين العراقي فصوب ما ذكره الزمخشري من المنع ورد ما احتج به من قضية علي بأن التفضيل في ذلك وقع في حق من خوطب به ومن يلتحق بهم فليس مساويا لإطلاق التفضيل بالألف واللام، قال ولا يخفى ما في إطلاق ذلك من الجراءة وسوء الأدب، ولا عبرة بقول من ولي القضاء فنعت بذلك فلذ في سمعه فاحتال في الجواز فإن الحق أحق أن يتبع، انتهى كلامه. ومن النوادر أن القاضي عز الدين ابن جماعة قال إنه رأى أباه في المنام فسأله عن حاله فقال: ما كان علي أضر من هذا الاسم، فأمر الموقعين أن لا يكتبوا له في السجلات قاضي القضاة بل قاضي المسلمين، وفهم من قول أبيه أنه أشار إلى هذه التسمية مع احتمال أنه أشار إلى الوظيفة، بل هو الذي يترجح عندي، فإن التسمية بقاضي القضاة وجدت في العصر القديم من عهد أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وقد منع الماوردي من جواز تلقيب الملك الذي كان في عصره بملك الملوك مع أن الماوردي كان يقال له أقضى القضاة، وكأن وجه التفرقة بينهما الوقوف مع الخبر وظهور إرادة العهد الزماني في القضاة. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: يلتحق بملك الأملاك

(10/590)


قاضي القضاة وإن كان اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة، وقد سلم أهل المغرب من ذلك فاسم كبير القضاة عندهم قاضي الجماعة، قال: وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شيء، لأن الزجر عن ملك الأملاك والوعيد عليه يقتضي المنع منه مطلقا، سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملك على ملوك الأرض أم على بعضها، سواء كان محقا في ذلك أم مبطلا، مع أنه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك وكان فيه صادقا ومن قصده وكان فيه كاذبا.

(10/591)


115 - باب كُنْيَةِ الْمُشْرِكِ.
وَقَالَ مِسْوَرٌ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ ".
6207- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ وَأُسَامَةُ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي حَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَسَارَا حَتَّى مَرَّا بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَفِي الْمُسْلِمِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ ابْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ وَقَالَ لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَيُّهَا الْمَرْءُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقّاً فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ كَذَا وَكَذَا" فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ وَلَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الْآيَةَ وَقَالَ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْراً فَقَتَلَ اللَّهُ بِهَا مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ وَسَادَةِ قُرَيْشٍ فَقَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَنْصُورِينَ غَانِمِينَ مَعَهُمْ أُسَارَى مِنْ صَنَادِيدِ

(10/591)


الْكُفَّارِ وَسَادَةِ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ فَبَايِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَمُوا".
6208- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ قَالَ نَعَمْ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ لَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ ".
قوله: "باب كنية المشرك" أي هل يحوز ابتداء، وهل إذا كانت له كنية تجوز مخاطبته أو ذكره بها؟ وأحاديث الباب مطابقة لهذا الأخير، ويلتحق به الثاني في الحكم. قوله: "وقال مسور" هو ابن مخرمة الزهري كذا للجميع إلا النسفي فسقط هذا التعليق من روايته، ووقع في "مستخرج أبي نعيم" وقال المسور وهو الأشهر. قوله: "إلا أن يريد ابن أبي طالب" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في باب فرض الخمس. قوله: "وحدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وهو معطوف على السند الذي قبله وساق المتن على لفظه، وسليمان هو ابن بلال وقوله: "عن عروة" في رواية شعيب "أخبرنا عروة بن الزبير" وتقدم سياق لفظ شعيب في تفسير آل عمران مع شرح الحديث، والغرض منه قوله: "ألم تسمع ما قال أبو حباب؟" بضم المهملة وتخفيف الموحدة وآخره موحدة وهي كنية عبد الله بن أبي، وكان حينئذ لم يظهر الإسلام كما هو بين من سياق الحديث، وظاهر في آخره. قوله فيه "أبو حباب" قال ومحل ذلك إذا وجد فيه الشرط، وهو أن لا يعرف إلا بكنيته أو خيف من ذكر اسمه فتنة، ثم قال: وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فسماه باسمه ولم يكنه ولا لقبه بلقبه وهو قيصر، وقد أمرنا بالإغلاظ عليهم فلا نكنيهم ولا نلين لهم قولا، وقد تعقب كلامه بأنه لا حصر فيما ذكر بل قصة عبد الله بن أبي في ذكره بكنيته دون اسمه وهو باسمه أشهر ليس لخوف الفتنة، فإن الذي ذكر بذلك عنده كان قويا في الإسلام فلا يخشى معه أن لو ذكر عبد الله باسمه أن يجر بذلك فتنة، وإنما هو محمول على التألف كما جزم به ابن بطال فقال: فيه جواز تكنية المشركين على وجه التألف إما رجاء إسلامهم أو لتحصيل منفعة منهم، وأما تكنية أبي طالب فالظاهر أنه من القبيل الأول وهو اشتهاره بكنيته دون اسمه، وأما تكنية أبي لهب فقد أشار النووي في شرحه إلى احتمال رابع وهو اجتناب نسبته إلى عبودية الصنم لأنه كان اسمه عبد العزى، وهذا سبق إليه ثعلب ونقله عنه ابن بطال. وقال غيره: إنما ذكر بكنيته دون اسمه للإشارة إلى أنه {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} قيل وإن تكنيته بذلك من جهة التجنيس لأن ذلك من جملة البلاغة أو المجازاة، أشير إلى أن الذي نفخر به في الدنيا من الجمال والولد كان سببا في خزيه وعقابه. وحكى ابن بطال عن أبي عبد الله بن أبي زمنين أنه قال: كان اسم أبي لهب عبد العزى وكنيته أبو

(10/592)


عتبة، وأما أبو لهب فلقب لقب به لأن وجهه كان يتلألأ ويلتهب جمالا، قال فهو لقب وليس بكنية، وتعقب بأن ذلك يقوي الإشكال الأول لأن اللقب إذا لم يكن على وجه الذم للكافر لم يصلح من المسلم، وأما قول الزمخشري: هذه التكنية ليست للإكرام بل للإهانة إذ هي كناية عن الجهنمي إذ معناه تبت يدا الجهنمي، فهو متعقب لأن الكنية لا نظر فيها إلى مدلول اللفظ، بل الاسم إذا صدر بأم أو أب فهو كنية، سلمنا لكن اللهب لا يختص بجهنم وإنما المعتمد ما قاله غيره أن النكتة في ذكره بكنيته أنه لما علم الله تعالى أن مآله إلى النار ذات اللهب ووافقت كنيته حاله حسن أن يذكر بها، وأما ما استشهد به النووي من الكتاب إلى هرقل فقد وقع في نفس الكتاب ذكره بعظيم الروم، وهو مشعر بالتعظيم، واللقب لغير العرب كالكنى للعرب، وقد قال النووي في موضع آخر: فرع إذا كتاب إلى مشرك كتابا وكتب فيه سلاما أو نحوه فينبغي أن يكتب كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فذكر الكتاب وفيه: "عظيم الروم" وهذا ظاهره التناقض، وقد جمع أبي رحمه الله في نكت له على "الأذكار" بأن قوله عظيم الروم صفة لازمة لهرقل فاكتفى به صلى الله عليه وسلم عن قوله ملك الروم فإنه لو كتبها لأمكن هرقل أن يتمسك بها في أنه أقره على المملكة. قال: ولا يرد مثل ذلك في قوله تعالى حكاية عن صاحب مصر "وقال الملك" لأنه حكاية عن أمر مضى وانقضى، بخلاف هرقل انتهى. وينبغي أن يضم إليه أن ذكر عظيم الروم والعدول عن ملك الروم حيث كان لا بد له من صفة تميزه عند الاقتصار على اسمه، لأن من يتسمى بهرقل كثير، فقيل عظيم الروم ليميز عمن يتسمى بهرقل، فعلى هذا فلا يحتج به على جواز الكتابة لكل ملك مشرك بلفظ عظيم قومه إلا إن احتيج إلى مثل ذلك للتمييز، وعلى عموم ما تقدم من التألف أو من خشية الفتنة يجوز ذلك بلا تقييد والله أعلم. وإذا ذكر قيصر وأنه لقب لكل من ملك الروم فقد شاركه في ذلك جماعة من الملوك ككسرى لملك الفرس، وخاقان لملك الترك، والنجاشي لملك الحبشة، وتبع لملك اليمن، وبطليوس لملك اليونان، والقطنون لملك اليهود وهذا في القديم ثم صار يقال له رأس الجالوت، ونمرود لملك الصابئة، ودهمي لملك الهند، وقور لملك السند، ويعبور لملك الصين، وذو يزن وغيره من الأذواء لملك حمير، وهياج لملك الزنج، وزنبيل لملك الخزر، وشاه أرمن لملك أخلاط، وكابل لملك النوبة، والأفشين لملك فرغانة وأسروسنة، وفرعون لملك مصر، والعزيز لمن ضم إليها الإسكندرية، وجالوت لملك العمالقة ثم البربر، والنعمان لملك الغرب من قبل الفرس، نقل أكثر هذا الفصل من السيرة لمغلطاي وفي بعضه نظر.

(10/593)


116 - باب الْمَعَارِيضُ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ
وَقَالَ إِسْحَاقُ: سَمِعْتُ أَنَساً مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ كَيْفَ الْغُلاَمُ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ هَدَأَ نَفَسُهُ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ وَظَنَّ أَنَّهَا صَادِقَةٌ
6209- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ فَحَدَا الْحَادِي. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارْفُقْ يَا أَنْجَشَةُ وَيْحَكَ بِالْقَوَارِيرِ" .
6210- حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن ثابت عن أنس وأيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " رويدك

(10/593)


يا أنجشة سوقك بالقوارير" قال أبو قلابة يعني النساء".
6211- حدثنا إسحاق أخبرنا حبان حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم حاد يقال له أنجشة وكان حسن الصوت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير" . قال قتادة: يعني ضعفة النساء.
6212- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة قال حدثني قتادة عن أنس بن مالك قال: "كان بالمدينة فزع فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة فقال: ما رأينا من شيء وإن وجدناه لبحرا" .
قوله: "باب" بالتنوين "المعاريض" وقع عند ابن التين المعارض بغير ياء وصوابه بإثبات الياء قال: وثبت كذلك في رواية أبي ذر وهو من التعريض خلاف التصريح. قوله: "مندوحة" بوزن مفعولة بنون ومهملة أي فسحة ومتسع، ندحت الشيء وسعته وانتدح فلان بكذا اتسع وانتدحت الغنم في مرابضها إذا اتسعت من البطنة، والمعنى أن في المعاريض ما يغني عن الكذب. وهذا الترجمة لفظ حديث أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله قال: صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة فما أتى عليه يوم إلا أنشدنا فيه شعرا وقال: إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب. وأخرجه الطبري في "التهذيب" والطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات. وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن قتادة مرفوعا ووهاه، وأخرجه أبو بكر بن كامل في فوائده والبيهقي في الشعب من طريقه كذلك، وأخرجه ابن عدي أيضا من حديث علي مرفوعا بسند واه أيضا، وللمصنف في "الأدب المفرد" من طريق أبي عثمان النهدي عن عمر قال: أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب؟ والمعاريض والمعارض بإثبات الياء أو بحذفها من التعريض بالقول، قال الجوهري: هو خلاف التصريح، وهو التورية بالشيء عن الشيء. وقال الراغب: التعريض كلام له وجهان في صدق وكذب، أو باطن وظاهر. قلت: والأولى أن يقال: كلام له وجهان يطلق أحدهما والمراد لازمه. ومما يكثر السؤال عنه الفرق بين التعريض والكناية وللشيخ تقي الدين السبكي جزء جمعه في ذلك. قوله: "وقال إسحاق" هو ابن أبي طلحة التابعي المشهور، وهذا التعليق سقط من رواية النسفي، وهو طرف من حديث طويل أخرجه المصنف في الجنائز، وشاهد الترجمة منه قول أم سليم "هدأ نفسه؛ وأرجو أن قد استراح" فإن أبا طلحة فهم من ذلك أن الصبي المريض تعافى، لأن قولها "هدأ" مهموز بوزن سكن ومعناه، والنفس بفتح الفاء مشعر بالنوم، والعليل إذا نام أشعر بزوال مرضه أو خفته، وأرادت هي أنه انقطع بالكلية بالموت، وذلك قولها "وأرجو أنه استراح" فهم منه أنه استراح من المرض بالعافية، ومرادها أنه استراح من نكد الدنيا وألم المرض، فهي صادقة باعتبار مرادها، وخبرها بذلك غير مطابق للأمر الذي فهمه أبو طلحة، فمن ثم قال الراوي "وظن أنها صادقة" أي باعتبار ما فهم هو. حديث أنس في قصة أنجشة وقد تقدم شرحه في "باب ما يجوز من الشعر" والمراد منه قوله: "رفقا بالقوارير" فأنه كنى بذلك عن النساء كما تقدم تقريره هناك، وحديث أنس في فرس أبي طلحة والمراد منه "إنا وجدناه لبحرا" أي لسرعة جريه، وقد تقدم شرحه في كتاب الجهاد، وكأنه استشهد بحديثي

(10/594)


أنس لجواز التعريض، والجامع بين التعريض وبين ما دل عليه اللفظ في غير ما وضع له لمعنى جامع بينهما.
قال ابن المنير: حديث القوارير والفرس ليسا من المعاريض بل من المجاز، فكأنه لما رأى ذلك جائزا قال: فالمعاريض التي هي حقيقة أولى بالجواز. قال ابن بطال: شبه جري الفرس بالبحر إشارة إلى أنه لا ينقطع، يعني ثم أطلق صفة الجري على نفس الفرس مجازا، قال: وهذا أصل في جواز استعمال المعاريض، ومحل الجواز فيما يخلص من الظلم أو يحصل الحق، وأما استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحق أو تحصيل الباطل فلا يجوز. وأخرج الطبري من طريق محمد بن سيرين قال: "كان رجل من باهلة عيونا - أي كثير الإصابة بالعين - فرأى بغلة لشريح فأعجب بها، فخشي شريح عليها فقال: إنها إذا ربضت لا تقوم حتى تقام، فقال: أف أف، فسلمت منه" وإنما أراد شريح بقوله: "حتى تقام" أي حتى يقيمها الله تعالى.

(10/595)


باب قول الرجل للشيء "ليس بشيء" وهو ينوي ليس بحق
...
117 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلشَّيْءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ يَنْوِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قال النبي صلى الله عليه وسلم للْقَبْرَيْنِ: " يُعَذَّبَانِ بِلاَ كَبِيرٍ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ" .
6213- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ يَقُولُ قَالَتْ عَائِشَةُ سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسُوا بِشَيْءٍ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَاناً بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقّاً. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ" .
قوله: "باب قول الرجل للشيء: ليس بشيء، وهو ينوي أنه ليس بحق" ذكر فيه حديثين: الأول: قوله: "وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم للقبرين: "يعذبان بلا كبير، وأنه لكبير" وهذا طرف من حديث تقدم في كتاب الطهارة، وتقدم شرحه أيضا، وتقدم أيضا في "باب النميمة من الكبائر" من كتاب الأدب بلفظ: "وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير". حديث عائشة في الكهان ليسوا بشيء، وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب الطب، قال الخطابي: معني قوله: "ليسوا بشيء" فيما يتعاطونه من علم الغيب، أي ليس قولهم بشيء صحيح يعتمد كما يعتمد قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخبر عن الوحي، وهو كما يقال لمن عمل عملا غير متقن أو قال قولا غير سديد: ما عملت أو ما قلت شيئا. قال ابن بطال نحوه وزاد: إنهم يريدون بذلك المبالغة في النفي، وليس ذلك كذبا. وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} والمراد بالذكر هنا القدر والشرف أي كان موجودا، ولكن لم يكن له قدر يذكر به، إما وهو مصور من طين على قول من مال المراد به آدم أو في بطن أمه على قول من قال إن المراد به الجنس.

(10/595)


118 - باب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: { أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ}
وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ: "رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ".
6214- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ

(10/595)


119 - باب نَكْتِ الْعُودِ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ.
6216- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ وَفِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودٌ يَضْرِبُ بِهِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَفْتِحُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَذَهَبْتُ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَإِذَا عُمَرُ فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ فَقَالَ افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ أَوْ تَكُونُ فَذَهَبْتُ فَإِذَا عُثْمَانُ فَقُمْتُ فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ قَالَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ" .
قوله: "باب من نكت العود في الماء والطين" النكت بالنون والمثناة الضرب المؤثر. حديث أبي موسى في قصة القف وقد تقدم شرحه في المناقب وهو ظاهر فيما ترجم له، وأورده هنا بلفظ عود يضرب به بين الماء والطين. وفي رواية الكشميهني في الماء والطين وأورده بلفظ: "ينكت" في مناقب أبي بكر الصديق، وعثمان بن غياث المذكور في السند بكسر الغين المعجمة ثم تحتانية خفيفة وآخره مثلثة، وحكى الكرماني أنه وقع في بعض النسخ يحيى بن عثمان وهو غلط، قال ابن بطال: من عادة العرب إمساك العصا والاعتماد عليها عند الكلام وغيره وقد عاب ذلك عليهم بعض من يتعصب للعجم، وفي استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له الحجة البالغة، وكأن المراد بالعود هنا المخصرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوكأ عليها وليس مصرحا به في هذا الحديث. قلت: وفقه الترجمة أن ذلك لا يعد من العبث المذموم لأن ذلك إنما يقع من العاقل عند التفكر في الشيء ثم لا يستعمله فيما لا يضر تأثيره فيه، بخلاف من يتفكر وفي يده سكين فيستعملها في خشبة تكون في البناء الذي فيها(1)...... فسادا، فذاك هو العبث المذموم.
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: انظر ما مرجع الضمير وتأمل، ولذا وجد بياض في بعض النسخ بين قوله فيها وقوله بعده فسادا.

(10/597)


120 - باب الرَّجُلِ يَنْكُتُ الشَّيْءَ بِيَدِهِ فِي الأَرْضِ
6217- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَجَعَلَ يَنْكُتُ الأَرْضَ بِعُودٍ فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ فُرِغَ مِنْ مَقْعَدِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَالُوا أَفَلاَ نَتَّكِلُ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ".
قوله: "باب الرجل ينكت الشيء بيده في الأرض" ذكر فيه حديث علي بن أبي طالب "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وسيأتي شرحه في كتاب القدر، ومضى الحديث بأتم من هذا السياق في تفسير سورة والليل، والغرض منه قوله: "ينكت في الأرض بعود". حديث علي بن أبي طالب " اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وسيأتي شرحه في كتاب القدر، ومضى الحديث بأتم من هذا السياق في تفسير سورة والليل، والغرض منه قوله: "ينكت في الأرض بعود" وقوله في السند "شعبة عن سليمان" هو الأعمش ومنصور هو

(10/597)


ابن المعتمر، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه فقال: "عن الأعمش" وذهل الكرماني حيث زعم أن سليمان هو التيمي.

(10/598)


3 - باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ
6218- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجَرِ يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ حَتَّى يُصَلِّينَ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ" وَقَالَ ابْنُ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ قَالَ لاَ قُلْتُ اللَّهُ أَكْبَرُ" .
6219- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً مِنْ الْعِشَاءِ ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ مَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ الَّذِي عِنْدَ مَسْكَنِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِمَا رَجُلاَنِ مِنْ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَفَذَا فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ قَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا مَا قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا" .
قوله: "باب التكبير والتسبيح عند التعجب" قال ابن بطال: التسبيح والتكبير معناه تعظيم الله وتنزيهه من السوء، واستعمال ذلك عند التعجب واستعظام الأمر حسن، وفيه تمرين اللسان على ذكر الله تعالى، وهذا توجيه حيد، كأن البخاري رمز إلى الرد على من منع من ذلك. وذكر المصنف فيه حديث صفية بنت حيي في قصة الرجلين اللذين قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على رسلكما إنها صفية، فقالا: سبحان الله" أورده من طريق شعيب بن أبي حمزة ومن طريق ابن أبي عتيق، وساقه على لفظ ابن أبي عتيق، وقد تقدم شرحه في الاعتكاف، وقوله: "العشر الغوابر" بالغين المعجمة ثم الموحدة المراد بها هنا البواقي، وقد تطلق أيضا على المواضي وهو من الأضداد، وهو مطابق لما ترجم له لأن الظاهر أن مرادهما بقولهما "سبحان الله" التعجب من القول المذكور بقرينة قوله: "وكبر عليهما" أي عظم وشق. وقوله: "يقذف في قلوبكما" كذا هنا بحذف المفعول، وقد سبق في الاعتكاف بلفظ: "في قلوبكما شرا" وحديث أم سلمة "استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أنزل من الفتن" وقد تقدم بعض شرحه في العلم. وتأتي بقيته في الفتن، وقوله من الخزائن قيل عبر بها عن الرحمة كقوله: "خزائن رحمة ربي" كما عبر بالفتن عن العذاب لأنها أسباب مؤدية إليه، أن المراد بالخزائن إعلامه بما سيفتح على أمته من الأموال بالغنائم من البلاد التي يفتحونها

(10/598)


وأن الفتن تنشأ عن ذلك، فهو من جملة ما أخبر به مما وقع قبل وقوعه. وقد تعرض له البيهقي في "دلائل النبوة". قوله: "وقال ابن أبي ثور" هو عبيد الله بن عبد الله فذكر حديث عمر حيث قال: "أطلقت نساءك؟ قال: لا، قلت: الله أكبر" وهو طرف من حديث طويل تقدم موصولا في كتاب العلم، وتقدم شرحه في كتاب النكاح، وقد وردت عدة أحاديث صحيحة في قول "سبحان الله" عند التعجب كحديث أبي هريرة "لقيني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جنب" وفيه فقال: "سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس" متفق عليه. وحديث عائشة "أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض" وفيه: "قال تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله" الحديث متفق عليه. وعند مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي نذرت أن تنحر ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "سبحان الله بئسما جزيتها" وكلاهما من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين أيضا من قول جماعة من الصحابة كحديث عبد الله بن سلام لما قيل له إنك من أهل الجنة قال: سبحان الله. ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم.
" تنبيه ": وقع في حديث صفية في رواية غير أبي ذر مؤخرا آخر هذا الباب والخطب فيه سهل، ووقع في شرح ابن بطال إيراد حديث صفية المذكور عقب حديث علي في الباب الذي قبله متصلا به، ثم استشكل مطابقته للترجمة وقال: سألت المهلب عنه فقال إنما أورده لحديث علي حيث قال فيه: "ليس منكم أحد إلا وقد فرغ من مقعده من الجنة والنار" فقواه بحديث أم سلمة، أشار إلى أن أقوى أسباب النار الفتن والعصبية فيها والتقاتل على المال وما يفتح من الخزائن. اهـ. ولم أقف في شيء من نسخ البخاري على وفق ما نقل ابن بطال، وإنما وقع حديث أم سلمة في باب التسبيح والتكبير للتعجب وهو ظاهر فيما ترجم له مستغن عن التكلف، والجواب المذكور لا يفيد مطابقة الحديث للترجمة، وإنما هو مطابق لحديث الترجمة فيما لا يتعلق بالترجمة.

(10/599)


122 - باب النَّهْيِ عَنْ الْخَذْفِ
6220- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ صُهْبَانَ الأَزْدِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَذْفِ وَقَالَ إِنَّهُ لاَ يَقْتُلُ الصَّيْدَ وَلاَ يَنْكَأُ الْعَدُوَّ وَإِنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ السِّنَّ" .
قوله: "باب النهي عن الخذف" بفتح المعجمة وسكون الدال المهملة بعدها فاء، تقدم بيانه وشرح الحديث في كتاب الصيد والذبائح.

(10/599)


123 - باب الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ
6221- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "عَطَسَ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ وَهَذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ".
[الحديث 6221 – طرفه في: 6225]

(10/599)


124 - باب تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ اللَّهَ. فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ
6222- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَرَدِّ السَّلاَمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ قَالَ حَلْقَةِ الذَّهَبِ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالسُّنْدُسِ وَالْمَيَاثِرِ" .
قوله: "باب تشميت العاطس إذا حمد الله" أي مشروعية التشميت بالشرط المذكور ولم يعين الحكم، وقد ثبت الأمر بذلك كما في حديث الباب، قال ابن دقيق العيد: ظاهر الأمر الوجوب، ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة الذي في الباب الذي يليه "فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته" وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "حق المسلم على المسلم ست" فذكر فيها "وإذا عطس فحمد الله فشمته" وللبخاري من وجه آخر عن أبي هريرة "خمس تجب للمسلم على المسلم" فذكر منها التشميت، وهو عند مسلم أيضا. وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد الله، وليقل من عنده: يرحمك الله" ونحوه عند الطبراني من حديث أبي مالك، وقد أخذ بظاهرها ابن مزين من المالكية. وقال به جمهور أهل الظاهر. وقال ابن أبي جمرة: قال جماعة من علمائنا إنه فرض عين، وقواه ابن القيم في حواشي السنن فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ: "الحق" الدال عليه، وبلفظ: "على" الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابي "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء. وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه أبو الوليد بن رشيد وأبو بكر بن العربي وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة وذهب عبد الوهاب وجماعة من المالكية إلى أنه مستحب، ويجزئ الواحد عن الجماعة وهو قول الشافعية، والراجح من حيث الدليل القول الثاني، والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصح ويسقط بفعل البعض، وأما من قال إنه فرض على مبهم فإنه ينافي كونه فرض عين. قوله: "فيه أبو هريرة" يحتمل أن يريد به حديث أبي هريرة المذكور في الباب الذي بعده، ويحتمل أن يريد به حديث أبي هريرة الذي أوله "حق المسلم على المسلم ست" وقد أشرت إليه قبل وأن مسلما أخرجه. حديث البراء "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس" الحديث، وقد تقدم شرح معظمه في كتاب اللباس. قال ابن بطال: ليس في حديث البراء التفصيل الذي في الترجمة، وإنما ظاهره أن كل عاطس يشمت على التعميم، قال: وإنما التفصيل في حديث أبي هريرة الآتي قال: وكان ينبغي له أن يذكره بلفظه في هذا الباب ويذكر بعده حديث البراء ليدل على أن حديث البراء وإن كان ظاهره العموم لكن المراد به الخصوص ببعض العاطسين وهم الحامدون، قال: وهذا من الأبواب التي أعجلته المنية عن تهذيبها. كذا قال. والواقع أن هذا الصنيع لا يختصن بهذه الترجمة بل قد أكمل منه البخاري في الصحيح، فطالما ترجم بالتقييد

(10/603)


والتخصيص كما في حديث الباب من إطلاق أو تعميم، ويكتفي من دليل التقييد والتخصيص بالإشارة إما لما وقع في بعض طرق الحديث الذي يورده أو في حديث آخر كما صنع في هذا الباب، فإنه أشار بقوله: "فيه أبو هريرة" إلى ما ورد في حديثه من تقييد الأمر بتشميت العاطس، بما إذا حمد، وهذا أدق التصرفين، ودل إكثاره من ذلك على أنه عن عمد منه لا أنه مات قبل تهذيبه، بل عد العلماء ذلك من دقيق فهمه وحسن تصرفه، في إيثار الأخفى عل الأجلى شحذا للذهن وبعثا للطالب على تتبع طرق الحديث، إلى غير ذلك من الفوائد. وقد خص من عموم الأمر بتشميت العاطس جماعة: الأول من لم يحمد كما تقدم، وسيأتي في باب مفرد. الثاني الكافر فقد أخرج أبو داود وصححه الحاكم من حديث أبي موسى الأشعري قال: "كانت اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول يهديكم الله ويصلح بالكم" قال ابن دقيق العيد: إذا نظرنا إلى قول من قال من أهل اللغة إن التشميت الدعاء بالخير دخل الكفار في عموم الأمر بالتشميت، وإذا نظرنا إلى من خص التشميت بالرحمة لم يدخلوا قال: ولعل من خص التشميت بالدعاء بالرحمة بناه على الغالب لأنه تقييد لوضع اللفظ في اللغة. قلت: وهذا البحث أنشأه من حيث اللغة، وأما من حيث الشرع فحديث أبي موسى دال على أنهم يدخلون في مطلق الأمر بالتشميت، لكن لهم تشميت مخصوص وهو الدعاء لهم بالهداية وإصلاح البال وهو الشأن ولا مانع من ذلك، بخلاف تشميت المسلمين فإنهم أهل الدعاء بالرحمة بخلاف الكفار. الثالث المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث فإن ظاهر الأمر بالتشميت يشمل من عطس واحدة أو أكثر لكن أخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: "يشمته واحدة وثنتين وثلاثا، وما كان بعد ذلك فهو زكام" هكذا أخرجه موقوفا من رواية سفيان بن عيينة عنه، وأخرجه أبو داود من طريق يحيى القطان عن ابن عجلان كذلك ولفظه: "شمت أخاك" وأخرجه من رواية الليث عن ابن عجلان وقال فيه: "لا أعلمه إلا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم" قال أبو داود: ورفعه موسى بن قيس عن ابن عجلان أيضا. وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه رفعه: "إن عطس فشمته، ثم إن عطس فشمته، ثم إن عطس فقل إنك مضنوك" قال ابن أبي بكر: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة، وهذا مرسل جيد، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال: "فشمته ثلاثا، فما كان بعد ذلك فهو زكام" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن العاص " شمتوه ثلاثا، فإن زاد فهو داء يخرج من رأسه " موقوف أيضا، ومن طريق عبد الله بن الزبير: إن رجلا عطس عنده فشمته ثم عطس فقال له في الرابعة أنت مضنوك، موقوف أيضا. ومن طريق عبد الله بن عمر مثله لكن قال: "في الثالثة"، ومن طريق علي بن أبي طالب "شمته ما بينك وبينه ثلاث، فإن زاد فهو ريح" وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة يشمت العاطس إذا تتابع عليه العطاس ثلاثا، قال النووي في "الأذكار" إذا تكرر العطاس متتابعا فالسنة أن يشمته لكل مرة إلى أن يبلغ ثلاث مرات، رويناه في صحيح مسلم وأبي داود والترمذي عن سلمة بن الأكوع أنه " سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعطس عنده رجل فقال له يرحمك الله، ثم عطس أخرى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم" هذا لفظ رواية مسلم، وأما أبو داود والترمذي فقالا قال سلمة "عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله، ثم عطس الثانية أو الثالثة فقال رسول الله: يرحمك الله، هذا رجل مزكوم" اهـ كلامه ونقلت من نسخة عليها خطه بالسماع عليه، والذي نسبه إلى أبي داود والترمذي من إعادة قوله صلى الله عليه وسلم للعاطس يرحمك الله

(10/604)


ليس في شيء من نسخها كما سأبينه، فقد أخرجه أيضا أبو عوانة وأبو نعيم في مستخرجيهما والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد وابن أبي شيبة وابن السني وأبو نعيم أيضا في "عمل اليوم والليلة" وابن حبان في صحيحه والبيهقي في "الشعب" كلهم من رواية عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة عن أبيه وهو الوجه الذي أخرجه منه مسلم وألفاظهم متفاوتة، وليس عند أحد منهم إعادة يرحمك الله في الحديث، وكذلك ما نسبه إلى أبي داود والترمذي أن عندهما "ثم عطس الثانية أو الثالثة" فيه نظر، فإن لفظ أبي داود "أن رجلا عطس" والباقي مثل سياق مسلم سواء إلا أنه لم يقل أخرى، ولفظ الترمذي مثل ما ذكره النووي إلى قوله: "ثم عطس" فإنه ذكره بعده مثل أبي داود سواء، وهذه رواية ابن المبارك عنده وأخرجه من رواية يحيى القطان فأحال به على رواية ابن المبارك فقال نحوه إلا أنه قال له في الثانية أنت مزكوم. وفي رواية شعبة قال يحيى القطان. وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي "قال له في الثالثة أنت مزكوم" وهؤلاء الأربعة رووه عن عكرمة بن عمار وأكثر الروايات المذكورة ليس فيها تعرض للثالثة، ورجح الترمذي من قال: "في الثالثة" على رواية من قال: "في الثانية" وقد وجدت الحديث من رواية يحيى القطان يوافق ما ذكره النووي، وهو ما أخرجه قاسم بن أصبغ في مصنفه وابن عبد البر من طريقه قال حدثنا محمد بن عبد السلام حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى القطان حدثنا عكرمة فذكره بلفظ: "عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمته، ثم عطس فشمته، ثم عطس فقال له في الثالثة: أنت مزكوم" هكذا رأيت فيه: "ثم عطس فشمته" وقد أخرجه الإمام أحد عن يحيى القطان ولفظه: "ثم عطس الثانية والثالثة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم" وهذا اختلاف شديد في لفظ هذا الحديث لكن الأكثر على ترك ذكر التشميت بعد الأولى، وأخرجه ابن ماجه من طريق وكيع عن عكرمة بلفظ آخر قال: "يشمت العاطس ثلاثا؛ فما زاد فهو مزكوم" وجعل الحديث كله من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وأفاد تكرير التشميت، وهي رواية شاذة لمخالفة جميع أصحاب عكرمة في سياقه، ولعل ذلك من عكرمة المذكور لما حدث به وكيعا فإن في حفظه مقالا، فإن كانت محفوظة فهو شاهد قوي لحديث أبو هريرة، ويستفاد منه مشروعية تشميت العاطس ما لم يزد على ثلاث إذا حمد الله سواء تتابع عطاسه أم لا، فلو تتابع ولم يحمد لغلبة العطاس عليه ثم كرر الحمد بعدد العطاس فهل يشمت بعدد الحمد؟ فيه نظر. وظاهر الخبر نعم. وقد أخرج أبو يعلى وابن السني من وجه آخر عن أبي هريرة النهي عن التشميت بعد ثلاث، ولفظه: "إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه، فإن زاد على ثلاث فهو مزكوم، ولا يشمته بعد ثلاث" قال النووي: فيه رجل لم أتحقق حاله، وباقي إسناده صحيح، قلت: الرجل المذكور هو سليمان بن أبي داود الحراني، والحديث عندهما من رواية محمد بن سليمان عن أبيه، ومحمد موثق وأبوه يقال له الحراني ضعيف، قال فيه النسائي: ليس بثقة ولا مأمون. قال النووي: وأما الذي رويناه في سنن أبي داود والترمذي عن عبيد بن رفاعة الصحابي قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يشمت العاطس ثلاثا فإن زاد فإن شئت فشمته وإن شئت فلا " فهو حديث ضعيف قال فيه الترمذي: هذا الحديث غريب، وإسناده مجهول. قلت: إطلاقه عليه الضعف ليس بجيد، إذا لا يلزم من الغرابة الضعف، وأما وصف الترمذي إسناده بكونه مجهولا فلم يرد جميع رجال الإسناد فإن معظمهم موثقون، وإنما وقع في روايته تغيير اسم بعض رواته وإبهام اثنين منهم، وذلك أن أبا داود والترمذي أخرجاه معا من طريق عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن، ثم اختلفا: فأما رواية أبي داود ففيها عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة عن أمه حميدة – أو

(10/605)


عبيدة - بنت عبيد بن رفاعة عن أبيها، وهذا إسناد حسن، والحديث مع ذلك مرسل كما سأبين وعبد السلام بن حرب من رجال الصحيح، ويزيد هو أبو خالد الدالاني وهو صدوق في حفظه شيء، ويحيى بن إسحاق وثقه يحيى بن معين وأمه حميدة روى عنها أيضا زوجها إسحاق بن أبي طلحة، وذكرها ابن حبان في ثقات التابعين، وأبوها عبيد بن رفاعة ذكروه في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وله رؤية، قاله ابن السكن، قال: ولم يصح سماعه. وقال البغوي: روايته مرسلة وحديثه عن أبيه عند الترمذي والنسائي وغيرهما، وأما رواية الترمذي ففيها عن عمر بن إسحاق بن أبي طلحة عن أمه عن أبيها كذا سماه عمر ولم يسم أمه ولا أباها، وكأنه لم يمعن النظر فين ثم قال إنه إسناد مجهول وقد تبين أنه ليس بمجهول، وأن الصواب يحيى بن إسحاق لا عمر، فقد أخرجه الحسن بن سفيان وابن السني وأبو نعيم وغيرهم من طريق عبد السلام بن حرب فقالوا يحيى بن إسحاق. وقالوا: حميدة بغير شك وهو المعتمد. وقال ابن العربي هذا الحديث وإن كان فيه مجهول لكن يستحب العمل به لأنه دعاء بخير وصلة وتودد للجليس، فالأولى العمل به والله أعلم. وقال ابن عبد البر: دل حديث عبيد بن رفاعة على أنه يشمت ثلاثا ويقال أنت مزكوم بعد ذلك، وهي زيادة يجب قبولها فالعمل بها أولى. ثم حكى النووي عن ابن العربي أن العلماء اختلفوا هل يقول لمن تتابع عطاسه أنت مزكوم في الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ على أقوال، والصحيح في الثالثة قال: ومعناه إنك لست ممن يشمت بعدها لأن الذي بك مرض وليس من العطاس المحمود الناشئ عن خفة البدن كما سيأتي تقريره في الباب الذي يليه، قال: فإن قيل فإذا كان مرضا فينبغي أن يشمت بطريق الأولى لأنه أحوج إلى الدعاء من غيره، قلنا نعم لكن يدعى له بدعاء يلائمه لا بالدعاء المشروع للعاطس بل من جنس دعاء المسلم للمسلم بالعافية، وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أنه قال: يكرر التشميت إذا تكرر العطاس إلا أن يعرف أنه مزكوم فيدعو له بالشفاء، قال: وتقريره أن العموم يقتضي التكرار إلا في موضع العلة وهو الزكام، قال وعند هذا يسقط الأمر بالتشميت عند العلم بالزكام لأن التعليل به يقتضي أن لا يشمت من علم أن به زكاما أصلا، وتعقبه بأن المذكور هو العلة دون التعليل وليس المعلل هو مطلق الترك ليعم الحكم عليه بعموم علته، بل المعلل هو الترك بعد التكرير، فكأنه قيل لا يلزم تكرر التشميت لأنه مزكوم، قال ويتأيد بمناسبة المشقة الناشئة عن التكرار. الرابع ممن يخص من عموم العاطسين من يكره التشميت، قال ابن دقيق العيد: ذهب بعض أهل العلم إلى أن من عرف من حاله أنه يكره التشميت أنه لا يشمت إجلالا للتشميت أن يؤهل له من يكرهه فإن قيل: كيف يترك السنة لذلك؟ قلنا: هي سنة لمن أحبها، فأما من كرهها ورغب عنها فلا. قال: ويطرد ذلك في السلام والعيادة. قال ابن دقيق العيد: والذي عندي أنه لا يمتنع من ذلك إلا من خاف منه ضررا، فأما غيره فيشمت امتثالا للأمر ومناقضة للمتكبر في مراده وكسرا لسورته في ذلك، وهو أولى من إجلال التشميت. قلت: ويؤيده أن لفظ التشميت دعاء بالرحمة فهو يناسب المسلم كائنا من كان والله أعلم. الخامس قال ابن دقيق العيد يستثنى أيضا من عطس والإمام يخطب، فإنه يتعارض الأمر بتشميت من سمع العاطس والأمر بالإنصات لمن سمع الخطيب، والراجح الإنصات لإمكان تدارك التشميت بعد فراغ الخطيب ولا سيما إن قيل بتحريم الكلام والإمام يخطب، وعلى هذا فهل يتعين تأخير التشميت حتى يفرغ الخطيب أو يشرع له التشميت بالإشارة؟ فلو كان العاطس الخطيب فحمد واستمر في خطبته فالحكم كذلك وإن حمد فوقف قليلا ليشمت فلا يمتنع أن يشرع تشميته. السادس ممن يمكن أن يستثنى من كان عند عطاسه في حالة

(10/606)


يمتنع عليه فيها ذكر الله، كما إذا كان على الخلاء أو في الجماعة فيؤخر ثم يحمد الله فيشمت، فلو خالف فحمد في تلك الحالة هل يستحق التشميت؟ فيه نظر.

(10/607)


125 - باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْعُطَاسِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ التَّثَاؤُبِ
6223- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِذَا قَالَ هَا ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ" .
قوله: "باب ما يستحب من العطاس، وما يكره من التثاؤب" قال الخطابي: معنى المحبة والكراهة فيهما منصرف إلى سببهما، وذلك أن العطاس يكون من خفة البدن وانفتاح المسام وعدم الغاية في الشبع وهو بخلاف التثاؤب فإنه يكون من علة امتلاء البدن وثقله مما يكون ناشئا عن كثرة الأكل والتخليط فيه، والأول يستدعي النشاط للعبادة والثاني على عكسه. قوله: "سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة" هكذا قال آدم بن أبي أياس عن ابن أبي ذئب، وتابعه عاصم بن علي كما سيأتي بعد باب، والحجاج بن محمد عند النسائي وأبو داود الطيالسي ويزيد بن هارون عند الترمذي وابن أبي فديك عند الإسماعيلي وأبو عامر العقدي عند الحاكم كلهم عن ابن أبي ذئب، وخالفهم القاسم بن يزيد عند النسائي فلم يقل فيه: "عن أبيه " وكذا ذكره أبو نعيم من طريق الطيالسي. وكذلك أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من رواية محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ولم يقل "عن أبيه" ورجح الترمذي رواية من قال عن أبيه وهو المعتمد. قوله: "إن الله يحب العطاس " يعني الذي لا ينشأ عن زكام، لأنه المأمور فيه بالتحميد والتشميت، ويحتمل التعميم في نوعي العطاس والتفصيل في التشميت خاصة، وقد ورد ما يخص بعض أحوال العاطسين، فأخرج الترمذي من طريق أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده رفعه قال: "العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان" وسنده ضعيف، وله شاهد عن ابن مسعود في الطبراني لكن لم يذكر النعاس، وهو موقوف وسنده ضعيف أيضا. قال شيخنا في "شرح الترمذي" لا يعارض هذا حديث الباب في محبة العطاس وكراهة التثاؤب لكونه بحال الصلاة فقد بتسبب الشيطان في حصول العطاس للمصلي ليشغله عن صلاته، وقد يقال إن العطاس إنما لم يوصف بكونه مكروها في الصلاة لأنه لا يمكن رده بخلاف التثاؤب، ولذلك جاء في التثاؤب كما سيأتي بعد "فليرده ما استطاع" ولم يأت ذلك في العطاس. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة "إن الله يكره التثاؤب ويحب العطاس في الصلاة" وهذا يعارض حديث جد عدي وفي سنده ضعف أيضا وهو موقوف والله أعلم. ومما يستحب للعاطس أن لا يبالغ في إخراج العطسة فقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: "سبع من الشيطان" فذكر منها شدة العطاس. قوله: "فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته" استدل به على استحباب مبادرة العاطس بالتحميد، ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه ينبغي أن يتأنى في حقه حتى يسكن ولا يعاجله بالتشميت، قال: وهذا فيه غفلة عن شرط

(10/607)


التشميت وهو توقفه على حمد العاطس. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن مكحول الأزدي "كنت إلى جنب ابن عمر فعطس رجل من ناحية المسجد فقال ابن عمر يرحمك الله إن كنت حمدت الله" واستدل به على أن التشميت إنما يشرع لمن سمع العاطس وسمع حمده، فلو سمع من يشمت غيره ولم يسمع هو عطاسه ولا حمده هل يشرع له تشميته؟ سيأتي قريبا. قوله: "وأما التثاؤب" سيأتي شرحه بعد بابين.

(10/608)


126 - باب إِذَا عَطَسَ كَيْفَ يُشَمَّتُ
6224- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ" .
قوله: "باب إذا عطس كيف يشمت؟" بضم أوله وتشديد الميم المفتوحة. قوله: "عن أبي صالح" هو السمان، والإسناد كله مدنيون إلا شيخ البخاري، وهو من رواية تابعي عن تابعي. قوله: "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله" كذا في جميع نسخ البخاري، وكذا أخرجه النسائي من طريق يحيى بن حسان، والإسماعيلي من طريق بشر بن المفضل وأبي النضر، وأبو نعيم في "المستخرج" من طريق عاصم بن علي، وفي "عمل يوم وليلة" من طريق عبد الله بن صالح كلهم عن عبد العزيز بن أبي سلمة، وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن عبد العزيز المذكور به بلفظ: "فليقل الحمد لله على كل حال". قلت: ولم أر هذه الزيادة من هذا الوجه في غير هذه الرواية، وقد تقدم ما يتعلق بحكمها. واستدل بأمر العاطس بحمد الله أنه يشرع حتى للمصلي، وقد تقدمت الإشارة إلى حديث رفاعة بن رافع في "باب الحمد للعاطس" وبذلك قال الجمهور من الصحابة والأئمة بعدهم، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، ونقل الترمذي عن بعض التابعين أن ذلك يشرع في النافلة لا في الفريضة، ويحمد مع ذلك في نفسه. وجوز شيخنا في "شرح الترمذي" أن يكون مراده أنه يسر به ولا يجهر به، وهو متعقب مع ذلك بحديث رفاعة بن رافع فإنه جهر بذلك ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه. نعم يفرق بين أن يكون في قراءة الفاتحة أو غيرها من أجل اشتراط الموالاة في قراءتها، وجزم ابن العربي من المالكية بأن العاطس في الصلاة يحمد في نفسه، ونقل عن سحنون أنه لا يحمد حتى يفرغ وتعقبه بأنه غلو. قوله: "وليقل له أخوه أو صاحبه" هو شك من الراوي وكذا وقع للأكثر من رواية عاصم بن علي "فليقل له أخوه" ولم يشك والمراد بالأخوة أخوة الإسلام. قوله: "يرحمك الله" قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون دعاء بالرحمة، ويحتمل أن يكون إخبارا على طريق البشارة كما قال في الحديث الآخر "طهور إن شاء الله" أي هي طهر لك؛ فكأن المشمت بشر العاطس بحصول الرحمة له في المستقبل بسبب حصولها له في الحال لكونها دفعت ما يضره، قال: وهذا ينبني على قاعدة، وهي أن اللفظ إذا أريد به معناه لم ينصرف لغيره، وإن أريد به معنى يحتمله انصرف إليه، وإن أطلق انصرف إلى الغالب، وإن لم يستحضر القائل المعنى الغالب. وقال ابن بطال: ذهب إلى هذا قوم فقالوا: يقول له يرحمك الله يخصه بالدعاء وحده وقد أخرج البيهقي في "الشعب" وصححه ابن حبان من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة رفعه: "لما خلق الله آدم عطس،

(10/608)


فألهمه ربه أن قال: الحمد لله، فقال له ربه: يرحمك الله" وأخرج الطبري عن ابن مسعود قال: "يقول يرحمنا الله وإياكم" وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر نحوه. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن أبي جمرة بالجيم "سمعت ابن عباس إذا شمت يقول: عافانا الله وإياكم من النار، يرحمكم الله" وفي الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه "كان إذا عطس فقيل له: يرحمك الله، قال: يرحمنا الله وإياكم ويغفر الله لنا ولكم" قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث أن السنة لا تتأدى إلا بالمخاطبة، وأما ما اعتاده كثير من الناس من قولهم للرئيس يرحم الله سيدنا فخلاف السنة، وبلغني عن بعض الفضلاء أنه شمت رئيسا فقال له يرحمك الله يا سيدنا فجمع الأمرين وهو حسن. قوله: "فإذا قال له يرحمك الله فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم" مقتضاه أنه لا يشرع ذلك إلا لمن شمت وهو واضح، وأن هذا اللفظ هو جواب التشميت، وهذا مختلف فيه قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى هذا وذهب الكوفيون إلى أنه يقول يغفر الله لنا ولكم، وأخرجه الطبري عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما. قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والطبراني من حديث ابن مسعود وهو في حديث سالم بن عبيد المشار إليه قبل ففيه: "وليقل يغفر الله لنا ولكم" قلت: وقد وافق حديث أبي هريرة في ذلك حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى وحديث أبي مالك الأشعري عند الطبراني أيضا وحديث ابن عمر عند البزار وحديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عند البيهقي في "الشعب". وقال ابن بطال: ذهب مالك والشافعي إلى أنه يتخير بين اللفظين. وقال أبو الوليد بن رشد: الثاني أولى، لأن المكلف يحتاج إلى طلب المغفرة، والجمع بينهما أحسن إلا للذمي، وذكر الطبري أن الذين منعوا من جواب التشميت بقول "يهديكم الله ويصلح بالكم" احتجوا بأنه تشميت اليهود كما تقدمت الإشارة إليه من تخريج أبي داود من حديث أبي موسى، قال: ولا حجة فيه إذ لا تضاد بين خبر أبي موسى وخبر أبي هريرة - يعني حديث الباب - لأن حديث أبي هريرة في جواب التشميت وحديث أبي موسى في التشميت نفسه، وأما ما أخرجه البيهقي في "الشعب" عن ابن عمر قال: اجتمع اليهود والمسلمون فعطس النبي صلى الله عليه وسلم فشمته الفريقان جميعا فقال للمسلمين: يغفر الله لكم ويرحمنا وإياكم. وقال لليهود: يهديكم الله ويصلح بالكم. فقال: تفرد به عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد عن أبيه عن نافع، وعبد الله ضعيف. واحتج بعضهم بأن الجواب المذكور مذهب الخوارج لأنهم لا يرون الاستغفار للمسلمين، وهذا منقول عن إبراهيم النخعي، وكل هذا لا حجة فيه بعد ثبوت الخبر بالأمر به، قال البخاري بعد تخريجه في "الأدب المفرد": وهذا أثبت ما يروى في هذا الباب. وقال الطبري: هو من أثبت الأخبار. وقال البيهقي: هو أصح شيء ورد في هذا الباب. وقد أخذ به الطحاوي من الحنفية واحتج له بقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} قال: والذي يجيب بقوله: "غفر الله لنا ولكم" لا يزيد المشمت على معنى قوله يرحمك الله، لأن المغفرة ستر الذنب والرحمة ترك المعاقبة عليه، بخلافه دعائه له بالهداية والإصلاح فإن معناه أن يكون سالما من مواقعة الذنب صالح الحال، فهو فوق الأول فيكون أولى، واختار ابن أبي جمرة أن يجمع المجيب بين اللفظين فيكون أجمع للخير ويخرج من الخلاف، ورجحه ابن دقيق العيد. وقد أخرج مالك في "الموطأ" عن نافع عن ابن عمر أنه "كان إذا عطس فقيل له يرحمك الله قال: يرحمنا الله وإياكم، يغفر الله لنا ولكم" قال ابن أبي جمرة: وفي الحديث دليل على عظيم نعمة الله على العاطس؛ يؤخذ ذلك مما رتب عليه من الخير، وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله على عبده، فإنه أذهب عنه الضرر

(10/609)


بنعمة العطاس ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه، ثم الدعاء بالخير بعد الدعاء بالخير، وشرع هذه النعم المتواليات في زمن يسير فضلا منه وإحسانا، وفي هذا لمن رآه بقلب له بصيرة زيادة قوة في إيمانه حتى يحصل له من ذلك ما لا يحصل بعبادة أيام عديدة، ويداخله من حب الله الذي أنعم عليه بذلك ما لم يكن في باله، ومن حب الرسول الذي جاءت معرفة هذا الخير على يده والعلم الذي جاءت به سنته ما لا يقدر قدره. قال: وفي زيادة ذرة من هذا ما يفوق الكثير مما عداه من الأعمال ولله الحمد كثيرا. وقال الحليمي: أنواع البلاء والآفات كلها مؤاخذات، وإنما المؤاخذة عن ذنب، فإذا حصل الذنب مغفورا وأدركت العبد الرحمة لم تقع المؤاخذة، فإذا قيل للعاطس: يرحمك الله، فمعناه جعل الله لك ذلك لتدوم لك السلامة. وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرحمة والتوبة من الذنب، ومن ثم شرع له الجواب بقوله: "غفر الله لنا ولكم". قوله: "بالكم شأنكم" قال أبو عبيدة في معنى قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} أي شأنهم.

(10/610)


127 - باب لاَ يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ إِذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ
6225- حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة حدثنا سليمان التيمي قال سمعت أنسا رضي الله عنه يقول: "عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال الرجل يا رسول الله شمت هذا ولم تشمتني قال إن هذا حمد الله ولم تحمد الله" .
قوله: "باب لا يشمت العاطس إذا لم يحمد الله" أورد فيه حديث أنس الماضي في "باب الحمد للعاطس" وكأنه أشار إلى أن الحكم عام وليس مخصوصا بالرجل الذي وقع له ذلك وإن كانت واقعة حال لا عموم فيها، لكن ورد الأمر بذلك فيما أخرجه مسلم من حديث أبي موسى بلفظ: " إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه" قال النووي: مقتضى هذا الحديث أن من لم يحمد الله لم يشمت. قلت: هو منطوقه، لكن هل النهي فيه للتحريم أو للتنزيه؟ الجمهور على الثاني، قال: وأقل الحمد والتشميت أن يسمع صاحبه، ويؤخذ منه أنه إذا أتى بلفظ آخر غير الحمد لا يشمت. وقد أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث سالم بن عبيد الأشجعي قال: "عطس رجل فقال السلام عليكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليك وعلى أمك. وقال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله" واستدل به على أنه يشرع التشميت لمن حمد إذا عرف السامع أنه حمد الله وإن لم يسمعه، كما لو سمع العطسة ولم يسمع الحمد بل سمع من شمت ذلك العاطس فإنه يشرع له التشميت لعموم الأمر به لمن عطس فحمد. وقال النووي: المختار أنه يشمته من سمعه دون غيره، وحكى ابن العربي اختلافا فيه ورجح أنه يشمته. قلت: وكذا نقله ابن بطال وغيره عن مالك، واستثنى ابن دقيق العيد من علم أن الذين عند العاطس جهلة لا يفرقون بين تشميت من حمد وبين من لم يحمد، والتشميت متوقف على من علم أنه حمد فيمتنع تشميت هذا ولو شمته من عنده لأنه لا يعلم هل حمد أو لا، فإن عطس وحمد ولم يشمته أحد فسمعه من بعد عنه استحب له أن يشمته حين يسمعه. وقد أخرج ابن عبد البر بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن إن كان في سفينة فسمع عاطسا على الشط حمد فاكترى قاربا بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته ثم رجع، فسئل عن ذلك فقال: لعله يكون مجاب الدعوة، فلما رقدوا سمعوا قائلا يقول: يا أهل

(10/610)


السفينة إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم. قال النووي: ويستحب لمن حضر من عطس فلم يحمد أن يذكره بالحمد ليحمد فيشمته، وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النخعي، وهو من باب النصيحة والأمر بالمعروف. وزعم ابن العربي أنه جهل من فاعله، قال: وأخطأ فيما زعم بل الصواب استحبابه. قلت: احتج ابن العربي لقوله بأنه إذا نبهه ألزم نفسه ما لم يلزمها، قال: فلو جمع بينهما فقال الحمد لله يرحمك الله جمع جهالتين: ما ذكرناه أولا وإيقاعه التشميت قبل وجود الحمد من العاطس. وحكى ابن بطال عن بعض أهل العلم - وحكى غيره أنه الأوزاعي - أن رجلا عطس عنده فلم يحمد فقال له: كيف يقول من عطس؟ قال: الحمد لله، قال: يرحمك الله. قلت: وكأن ابن العربي أخذ بظاهر حديث الباب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الذي عطس فلم يحمد لكن تقدم في "باب الحمد للعاطس" احتمال أنه لم يكن مسلما، فلعل ترك ذلك لذلك، لكن يحتمل أن يكون كما أشار إليه ابن بطال أراد تأديبه على ترك الحمد بترك تشميته، ثم عرفه الحكم وأن الذي يترك الحمد لا يستحق التشميت. وهذا الذي فهمه أبو موسى الأشعري ففعل بعد النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، شمت من حمد ولم يشمت من لم يحمد، كما ساق حديثه مسلم.

(10/611)


باب إذا تثاءب وضع يده على فمه
...
128 - باب إِذَا تَثَاءَبَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ
6226- حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ كَانَ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ" .
قوله: "باب إذا تثاؤب" كذا للأكثر، وللمستملي: "تثاءب" بهمزة بدل الواو، قال شيخنا في "شرح الترمذي" وقع في رواية المحبوبي عند الترمذي بالواو. وفي رواية السنجي بالهمز، ووقع عند البخاري وأبي داود بالهمز، وكذا في حديث أبي سعيد عند أبي داود، وأما عند مسلم فبالواو، قال: وكذا هو في أكثر نسخ مسلم، وفي بعضها بالهمز. وقد أنكر الجوهري كونه بالواو وقال: تقول تثاءبت على وزن تفاعلت ولا تقل تثاوبت، قال: والتثاؤب أيضا مهموز، وقد يقلبون الهمزة المضمومة واوا والاسم الثؤباء بضم ثم همز على وزن الخيلاء، وجزم ابن دريد وثابت بن قاسم في "الدلائل" بأن الذي بغير واو بوزن تيممت فقال ثابت: لا يقال تثاؤب بالمد مخففا بل يقال تثأب بالتشديد. وقال ابن دريد: أصله من ثئب فهو مثئوب إذا استرخى وكسل. وقال غير واحد: إنهما لغتان. وبالهمز والمد أشهر. قوله: "فليضع يده على فيه " أورد فيه حديث أبي هريرة بلفظ فليرده ما استطاع. قال الكرماني: عموم الأمر بالرد يتناول وضع اليد على الفم فيطابق الترجمة من هذه الحيثية. قلت: وقد ورد في بعض طرقه صريحا أخرجه مسلم وأبو داود من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه بلفظ: "إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه " ولفظ الترمذي مثل لفظ الترجمة. قوله: "إن الله يحب العطاس" تقدم شرحه قريبا. قوله: "وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان" قال

(10/611)


ابن بطال إضافة التثاؤب إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة، أي أن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائبا لأنها حالة تتغير فيها صورته فيضحك منه. لا أن المراد أن الشيطان فعل التثاؤب. وقال ابن العربي: قد بينا أن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان لأنه واسطته، وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلى الملك لأنه واسطته، قال: والتثاؤب من الامتلاء وينشأ عنه التكاسل وذلك بواسطة الشيطان، والعطاس من تقليل الغذاء وينشأ عنه النشاط وذلك بواسطة الملك. وقال النووي: أضيف التثاؤب إلى الشيطان لأنه يدعو إلى الشهوات إذ يكون عن ثقل البدن واسترخائه وامتلائه، والمراد التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك وهو التوسع في المأكل. قوله: " فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع" أي يأخذ في أسباب رده، وليس المراد به أنه يملك دفعه لأن الذي وقع لا يرد حقيقة، وقيل معنى إذا تثاءب إذا أراد أن يتثاءب، وجوز الكرماني أن يكون الماضي فيه بمعنى المضارع. قوله: " فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان " في رواية ابن عجلان " فإذا قال آه ضحك منه الشيطان" وفي حديث أبي سعيد "فإن الشيطان يدخل" وفي لفظ له "إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع فإن الشيطان يدخل" هكذا قيده بحالة الصلاة، وكذا أخرجه الترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: "التثاؤب في الصلاة من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع" وللترمذي والنسائي من طريق محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة نحوه، ورواه ابن ماجه من طريق عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه بلفظ: "إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه ولا يعوي، فإن الشيطان يضحك منه" قال شيخنا في شرح الترمذي: أكثر روايات الصحيحين فيها إطلاق التثاؤب، ووقع في الرواية الأخرى تقييده بحالة الصلاة فيحتمل أن يحمل المطلق على المقيد، وللشيطان غرض قوي في التشويش على المصلي في صلاته، ويحتمل أن تكون كراهته في الصلاة أشد، ولا يلزم من ذلك أن لا يكره في غير حالة الصلاة. وقد قال بعضهم: إن المطلق إنما يحمل على المقيد في الأمر لا في النهي، ويؤيد كراهته مطلقا كونه من الشيطان، وبذلك صرح النووي، قال ابن العربي: ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خص الصلاة لأنها أولى الأحوال بدفعه لما فيه من الخروج عن اعتدال الهيئة واعوجاج الخلقة. وأما قوله في رواية أبي سعيد في ابن ماجه: "ولا يعوي" فإنه بالعين المهملة، شبه التثاؤب الذي يسترسل معه بعواء الكلب تنفيرا عنه واستقباحا له فإن الكلب يرفع رأسه ويفتح فاه ويعوي، والمتثائب إذا أفرط في التثاؤب شابهه. ومن هنا تظهر النكتة في كونه يضحك منه، لأنه صيره ملعبة له بتشويه خلقه في تلك الحالة. وأما قوله في رواية مسلم: "فإن الشيطان يدخل" فيحتمل أن يراد به الدخول حقيقة، وهو وإن كان يجري من الإنسان مجرى الدم لكنه لا يتمكن منه ما دام ذاكر الله تعالى، والمتثائب في تلك الحالة غير ذاكر فيتمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقة. ويحتمل أن يكون أطلق الدخول وأراد التمكن منه، لأن من شأن من دخل في شيء أن يكون متمكنا منه. وأما الأمر بوضع اليد على الفم فيتناول ما إذا انفتح بالتثاؤب فيغطى بالكف ونحوه وما إذا كان منطبقا حفظا له عن الانفتاح بسبب ذلك. وفي معنى وضع اليد على الفم وضع الثوب ونحوه مما يحصل ذلك المقصود، وإنما تتعين اليد إذا لم يرتد التثاؤب بدونها، ولا فرق في هذا الأمر بين المصلي وغيره، بل يتأكد في حال الصلاة كما تقدم ويستثنى ذلك من النهي عن وضع المصلي يده على فمه. ومما يؤمر به المتثائب إذا كان في الصلاة أن يمسك عن القراءة حني يذهب عنه لئلا يتغير نظم قراءته، وأسند ابن أبي شيبة نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة والتابعين

(10/612)


المشهورين، ومن الخصائص النبوية ما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في "التاريخ" من مرسل يزيد بن الأصم قال: "ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط" وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال: "ما تثاءب نبي قط" ومسلمة أدرك بعض الصحابة وهو صدوق. ويؤيد ذلك ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان. ووقع في "الشفاء لابن سبع" أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتمطى، لأنه من الشيطان، والله أعلم.
" خاتمة ": اشتمل كتاب الأدب من الأحاديث المرفوعة على مائتين وستة وخمسين حديثا، المعلق منها خمسة وسبعون والبقية موصولة. المكرر منها فيه وفيما مضى مائتا حديث وحديث، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عبد الله بن عمرو في عقوق الوالدين، وحديث أبي هريرة " من سره أن يبسط له في رزقه" ، وحديث: " الرحم شجنة" ، وحديث ابن عمرو "ليس الواصل بالمكافئ"، وحديث أبي هريرة "قام أعرابي فقال اللهم ارحمنا"، وحديث أبي شريح "من لا يأمن جاره" وحديث جابر "كل معروف صدقة" ، وحديث أنس "لم يكن فاحشا"، وحديث عائشة "ما أظن فلانا وفلانا يعرفان ديننا"، وحديث أنس "إن كانت الأمة" وحديث حذيفة "أن أشبه الناس دلا وسمتا"، وحديث ابن مسعود " إن أحسن الحديث كتاب الله" وحديث أبي هريرة " إذا قال الرجل يا كافر "، وحديث ابن عمر فيه، وحديث أبي هريرة "لا تغضب"، وحديث ابن عمر " لأن يمتلئ" وحديث ابن عباس في ابن صياد، وحديث سعيد بن المسيب عن أبيه في اسم الحزن، وحديث ابن أبي أوفى في إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أحد عشر أثرا بعضها موصول وبعضها معلق. والله أعلم بالصواب.
تم الجزء العاشر. ويليه الحادي عشر، أوله: كتاب الاستئذان

(10/613)


المجلد الحادي عشر
كتاب الإستئذان
باب بدء السلام
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المجلد الحادي عشر
79 - كِتَاب الِاسْتِئْذَانِ
3 - بَاب بَدْءِ السَّلاَمِ
6227- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ"
قوله: "كتاب الاستئذان - باب بدء السلام" الاستئذان طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن: وبدء بفتح أوله والهمز بمعنى الابتداء أي أول ما وقع السلام، وإنما ترجم للسلام مع الاستئذان للإشارة إلى أنه لا يؤمن لمن لم يسلم. وقد أخرج أبو داود وابن أبي شيبة بسند جيد عن ربعي بن حراش "حدثني رجل أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال: أألج؟ فقال لخادمه: اخرج لهذا فعلمه "فقال: قل السلام عليكم أأدخل" الحديث وصححه الدار قطني. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق زيد بن أسلم "بعثني أبي إلى ابن عمر فقلت: أألج؟ فقال: لا تقل كذا، ولكن قل: السلام عليكم، فإذا رد عليك فادخل". ومن طريق ابن أبي بريدة "استأذن رجل على رجل من الصحابة ثلاث مرات يقول أأدخل؟ وهو ينظر إليه لا يأذن له فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قال: نعم، ثم قال: لو أقمت إلى الليل". وسيأتي مزيد لذلك في الباب الذي يليه. قوله: "حدثنا يحيى بن جعفر" هو البيكندي. قوله: "خلق الله آدم على صورته" تقدم بيانه في بدء الخلق، واختلف إلى ماذا يعود الضمير؟ فقيل: إلى آدم أي خلقه على صورته التي استمر عليها إلى أن أهبط وإلى أن مات، دفعا لتوهم من يظن أنه لما كان في الجنة كان على صفة أخرى، أو ابتدأ خلقه كما وجد لم ينتقل في النشأة كما ينتقل ولده من حالة إلى حالة. وقيل للرد على الدهرية أنه لم يكن إنسان إلا من نطفة ولا تكون نطفة إنسان إلا من إنسان ولا أول لذلك، فبين أنه خلق من أول الأمر على هذه الصورة. وقيل للرد على الطبائعيين الزاعمين أن الإنسان قد يكون من فعل الطبع وتأثيره، وقيل للرد على القدرية الزاعمين أن الإنسان يخلق فعل نفسه، وقيل إن لهذا الحديث سببا حذف من هذه الرواية وأن أوله قصة الذي ضرب عبده فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال له إن الله خلق آدم على صورته، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب العتق، وقيل الضمير لله وتمسك قائل ذلك بما ورد في بعض طرقه: "على صورة الرحمن" والمراد بالصورة الصفة، والمعنى أن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء. قوله: "اذهب فسلم على أولئك" فيه إشعار بأنهم كانوا على بعد، واستدل به على إيجاب ابتداء السلام.

(11/3)


لورود الأمر به، وهو بعيد بل ضعيف لأنها واقعة حال لا عموم لها، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على أن الابتداء بالسلام سنة، ولكن في كلام المازري ما يقتضي إثبات خلاف في ذلك، كذا زعم بعض من أدركناه وقد راجعت كلام المازري وليس فيه ذلك فإنه قال: ابتداء السلام سنة ورده واجب. هذا هو المشهور عند أصحابنا، وهو من عبادات الكفاية، فأشار بقوله المشهور إلى الخلاف في وجوب الرد هل هو فرض عين أو كفاية؟ وقد صرح بعد ذلك بخلاف أبي يوسف كما سأذكره بعد، نعم وقع في كلام القاضي عبد الوهاب فيما نقله عنه عياض قال: لا خلاف أن ابتداء السلام سنة أو فرض على الكفاية فإن سلم واحد من الجماعة أجزأ عنهم، قال عياض: معنى قوله فرض على الكفاية مع نقل الإجماع على أنه سنة أن إقامة السنن وإحياءها فرض على الكفاية. قوله: "نفر من الملائكة" بالخفض في الرواية، ويجوز الرفع والنصب، ولم أقف على تعيينهم. قوله: "فاستمع" في رواية الكشميهني: "فاسمع". قوله: "ما يحيونك" كذا للأكثر بالمهملة من التحية، وكذا تقدم في خلق آدم عن عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق، وكذا عند أحمد ومسلم عن محمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق. وفي رواية أبي ذر هنا بكسر الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة من الجواب، وكذا هو في "الأدب المفرد" للمصنف عن عبد الله بن محمد بالسند المذكور. قوله: "فإنها" أي الكلمات التي يحيون بها أو يجيبون. قوله: "تحيتك وتحية ذريتك" أي من جهة الشرع، أو المراد بالذرية بعضهم وهم المسلمون. وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" وابن ماجه وصححه ابن خزيمة من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة مرفوعا: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين" وهو يدل على أنه شرع لهذه الأمة دونهم. وفي حديث أبي ذر الطويل في قصة إسلامه قال: "وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث وفيه: "فكنت أول من حياه بتحية الإسلام فقال: وعليك ورحمة الله" أخرجه مسلم. وأخرج الطبراني والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي أمامة رفعه: "جعل الله السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا" وعند أبي داود من حديث عمران بن حصين "كنا نقول في الجاهلية: أنعم بك عينا، وأنعم صباحا" فلما جاء الإسلام نهينا عن ذلك ورجاله ثقات، لكنه منقطع. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: "كانوا في الجاهلية يقولون: حييت مساء، حييت صباحا، فغير الله ذلك بالسلام". قوله: "فقال السلام عليكم" قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الله علمه كيفية ذلك تنصيصا، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله له "فسلم" قلت: ويحتمل أن يكون ألهمه ذلك، ويؤيده ما تقدم في "باب حمد العاطس" في الحديث الذي أخرجه ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: "أن آدم لما خلقه الله عطس فألهمه الله أن قال الحمد لله" الحديث فلعله ألهمه أيضا صفة السلام. واستدل به على أن هذه الصيغة هي المشروعة لابتداء السلام لقوله: "فهي تحيتك وتحية ذريتك" وهذا فيما لو سلم على جماعة، فلو سلم على واحد فسيأتي حكمه بعد أبواب، ولو حذف اللام فقال: "سلام عليكم" أجزأ، قال الله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} وقال تعالى: {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقال تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} إلى غير ذلك، لكن باللام أولى لأنها للتفخيم والتكثير، وثبت في حديث التشهد "السلام عليك أيها النبي" قال عياض: ويكره أن يقول في الابتداء: عليك السلام. وقال النووي في "الأذكار": إذا قال المبتدئ وعليكم السلام لا يكون سلاما ولا يستحق جوابا، لأن هذه الصيغة لا تصلح للابتداء قاله المتولي، فلو قاله بغير واو فهو سلام،

(11/4)


قطع بذلك الواحدي، وهو ظاهر.قال النووي: ويحتمل أن لا يجزئ كما قيل به في التحلل من الصلاة، ويحتمل أن لا يعد سلاما ولا يستحق جوابا لما رويناه في سنن أبي داود والترمذي وصححه وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن أبي جري بالجيم والراء مصغر الهجيمي بالجيم مصغرا قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله، قال: لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى " قال ويحتمل أن يكون ورد لبيان الأكمل، وقد قال الغزالي في "الإحياء": يكره للمبتدئ أن يقول عليكم السلام، قال النووي: والمختار لا يكره، ويجب الجواب لأنه سلام. قلت: وقوله بالأسانيد الصحيحة يوهم أن له طرقا إلى الصحابي المذكور، وليس كذلك فإنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي جري، ومع ذلك فمداره عند جميع من أخرجه على أبي تميمة الهجيمي راوية عن أبي جري، وقد أخرجه أحمد أيضا والنسائي وصححه الحاكم، وقد اعترض هو ما دل عليه الحديث بما أخرجه مسلم من حديث عائشة في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، الحديث. وفيه: "قلت: كيف أقول؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين ". قلت: وكذا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أتى البقيع "السلام على أهل الديار من المؤمنين" الحديث. قال الخطابي: فيه أن السلام على الأموات والأحياء سواء، بخلاف ما كانت عليه الجاهلية من قولهم: "عليك سلام الله قيس بن عاصم". قلت: ليس هذا من شعر أهل الجاهلية، فإن قيس بن عاصم صحابي مشهور عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والمرثية المذكورة لمسلم معروف قالها لما مات قيس، ومثله ما أخرج ابن سعد وغيره أن الجن رثوا عمر بن الخطاب بأبيات منها:
عليك السلام من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
وقال ابن العربي في السلام على أهل البقيع: لا يعارض النهي في حديث أبي جري لاحتمال أن يكون الله أحياهم لنبيه صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم سلام الأحياء، كذا قال، ويرده حديث عائشة المذكور قال: ويحتمل أن يكون النهي مخصوصا بمن يرى أنها تحية الموتى وبمن يتطير بها من الأحياء فإنها كانت عادة أهل الجاهلية وجاء الإسلام بخلاف ذلك، قال عياض وتبعه ابن القيم في "الهدى" فنقح كلامه فقال: كان من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في الابتداء السلام عليكم، ويكره أن يقول عليكم السلام، فذكر حديث أبي جري وصححه ثم قال: أشكل هذا على طائفة وظنوه معارضا لحديث عائشة وأبي هريرة وليس كذلك، وإنما معنى قوله: " عليك السلام تحية الموتى " إخبار عن الواقع لا عن الشرع، أي أن الشعراء ونحوهم يحيون الموتى به واستشهد بالبيت المتقدم وفيه ما فيه، قال: فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحيى بتحية الأموات. وقال عياض أيضا: كانت عادة العرب في تحية الموتى تأخير الاسم، كقولهم عليه لعنة الله وغضبه عند الذم، وكقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} ، وتعقب بأن النص في الملاعنة ورد بتقديم اللعنة والغضب على الاسم. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون حديث عائشة لمن زار المقبرة فسلم على جميع من بها، وحديث أبي جري إثباتا ونفيا في السلام على الشخص الواحد، ونقل ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أن المبتدئ لو قال عليكم السلام لم يجز، لأنها صيغة جواب، قال: والأولى الإجزاء لحصول مسمى السلام، ولأنهم قالوا: إن المصلي ينوي بإحدى التسليمتين الرد على من حضر، وهي بصيغة الابتداء. ثم حكى عن أبي الوليد بن رشد أنه يجوز الابتداء بلفظ الرد وعكسه، وسيأتي مزيد لذلك في "باب من رد فقال عليك السلام ".

(11/5)


إن شاء الله تعالى. قوله: "فقالوا السلام عليك ورحمة الله" كذا للأكثر في البخاري هنا، وكذا للجميع في بدء الخلق، ولأحمد ومسلم من هذا الوجه من رواية عبد الرزاق، ووقع هنا للكشميهني فقالوا وعليك السلام ورحمة الله، وعليها شرح الخطابي، واستدل برواية الأكثر لمن يقول يجزئ في الرد أن يقع باللفظ الذي يبتدأ به كما تقدم، قيل ويكفي أيضا الرد بلفظ الإفراد، وسيأتي البحث في ذلك "باب من رد فقال عليك السلام". قوله: "فزادوه ورحمة الله" فيه مشروعية الزيادة في الرد على الابتداء، وهو مستحب بالاتفاق لوقوع التحية في ذلك في قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} فلو زاد المبتدئ "ورحمة الله" استحب أن يزاد: "وبركاته" فلو زاد: "وبركاته" فهل تشرع الزيادة في الرد؟ وكذا لو زاد المبتدئ على "وبركاته" هل يشرع له ذلك؟ أخرج مالك في الموطأ عن ابن عباس قال: "انتهى السلام إلى البركة" وأخرج البيهقي في "الشعب" من طريق عبد الله بن بابه1 قال: "جاء رجل إلى ابن عمر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: حسبك إلى وبركاته" انتهى إلى "وبركاته" ومن طريق زهرة بن معبد قال: "قال عمر: انتهى السلام إلى وبركاته" ورجاله ثقات. وجاء عن ابن عمر الجواز، فأخرج مالك أيضا في "الموطأ" عنه أنه زاد في الجواب "والغاديات والرائحات" وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق عمرو بن شعيب عن سالم مولى ابن عمر قال: "كان ابن عمر يزيد إذا رد السلام، فأتيته مرة فقلت: السلام عليكم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله. ثم أتيته فزدت "وبركاته" فرد وزاد: "وطيب صلواته" ومن طريق زيد بن ثابت أنه كتب إلى معاوية "السلام عليكم يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ومغفرته وطيب صلواته" ونقل ابن دقيق العيد عن أبي الوليد بن رشد أنه يؤخذ من قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} الجواز في الزيادة على البركة إذا انتهى إليها المبتدئ. وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي بسند قوي عن عمران بن حصين قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه وقال: عشر. ثم جاء آخر، فقال السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه وقال: عشرون. ثم جاء آخر فزاد وبركاته، فرد وقال: ثلاثون" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من حديث أبي هريرة وصححه ابن حبان وقال: "ثلاثون حسنة" وكذا فيما قبلها، صرح بالمعدود. وعند أبي نعيم في "عمل يوم وليلة" من حديث على أنه هو الذي وقع له مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وأخرج الطبراني من حديث سهل بن حنيف بسند ضعيف رفعه: "من قال السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن زاد ورحمة الله كتب له عشرون حسنة، ومن زاد وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة". وأخرج أبو داود من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه بسند ضعيف نحو حديث عمران وزاد في آخره: "ثم جاء آخر فزاد ومغفرته، فقال أربعون. وقال: هكذا تكون الفضائل" وأخرج ابن السني في كتابه بسند واه من حديث أنس قال: "كان رجل يمر فيقول السلام عليك يا رسول الله فيقول له وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه" وأخرج البيهقي في "الشعب" بسند ضعيف أيضا من حديث زيد بن أرقم "كنا إذا سلم علينا النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته" وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت قوي ما اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على وبركاته. واتفق العلماء على أن الرد واجب على الكفاية، وجاء عن أبي يوسف أنه قال: يجب الرد على كل فرد فرد، واحتج له بحديث الباب لأن فيه: "فقالوا السلام عليك" وتعقب
ـــــــ
1 قال مصحح طبعة بولاق: لعله محرف عن "بابه" كما تقدم غير مرة

(11/6)


بجواز أن يكون نسب إليهم والمتكلم به بعضهم، واحتج له أيضا بالاتفاق على أن من سلم على جماعة فرد عليه واحد من غيرهم لا يجزئ عنهم، وتعقب بظهور الفرق. واحتج للجمهور بحديث علي رفعه: "يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم" أخرجه أبو داود والبزار، وفي سنده ضعف لكن له شاهد من حديث الحسن ابن علي عند الطبراني وفي سنده مقال، وآخر مرسل في "الموطأ" عن زيد بن أسلم. واحتج ابن بطال بالاتفاق على أن المبتدئ لا يشترط في حقه تكرير السلام بعدد من يسلم عليهم كما في حديث الباب من سلام آدم وفي غيره من الأحاديث، قال: فكذلك لا يجب الرد على كل فرد فرد إذا سلم الواحد عليهم. واحتج الماوردي بصحة الصلاة الواحدة على العدد من الجنائز. وقال الحليمي: إنما كان الرد واجبا لأن السلام معناه الأمان، فإذا ابتدأ به المسلم أخاه فلم يجبه فإنه يتوهم منه الشر، فيجب عليه دفع ذلك التوهم عنه. انتهى كلامه. وسيأتي بيان معاني لفظ السلام في "باب السلام اسم من أسماء الله تعالى" ويؤخذ من كلامه موافقة القاضي حسين حيث قال: لا يجب رد السلام على من سلم عند قيامه من المجلس إذا كان سلم حين دخل، ووافقه المتولي، وخالفه المستظهري فقال: السلام سنة عند الانصراف فيكون الجواب واجبا، قال النووي: هذا هو الصواب، كذا قال. قوله: "فكل من يدخل الجنة" كذا للأكثر هنا وللجميع في بدء الخلق، ووقع هنا لأبي ذر "فكل من يدخل يعني الجنة" وكأن لفظ الجنة سقط من روايته فزاد فيه يعني. قوله: "على صورة آدم" تقدم شرح ذلك في بدء الخلق، قال المهلب: في هذا الحديث أن الملائكة يتكلمون بالعربية ويتحيون بتحية الإسلام. قلت: وفي الأول نظر لاحتمال أن يكون في الأزل بغير اللسان العربي، ثم لما حكى للعرب ترجم بلسانهم، ومن المعلوم أن من ذكرت قصصهم في القرآن من غير العرب نقل كلامهم بالعربي فلم يتعين أنهم تكلموا بما نقل عنهم بالعربي، بل الظاهر أن كلامهم ترجم بالعربي. وفيه الأمر بتعلم العلم من أهله والأخذ بنزول مع إمكان العلو، والاكتفاء في الخبر مع إمكان القطع بما دونه. وفيه أن المدة التي بين آدم والبعثة المحمدية فوق ما نقل عن الإخباريين من أهل الكتاب وغيرهم بكثير، وقد تقدم بيان ذلك ووجه الاحتجاج به في بدء الخلق.

(11/7)


باب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ...}
...
2 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنَّ قَالَ اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْهُنَّ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} : وَقَالَ قَتَادَةُ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُمْ {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} خَائِنَةَ الأَعْيُنِ مِنْ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي النَّظَرِ إِلَى الَّتِي لَمْ تَحِضْ مِنْ النِّسَاءِ لاَ يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إِلَى الْجَوَارِي.

(11/7)


الَّتِي يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِيَ"
6228- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ وَأَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنْ النَّظَرِ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ"
6229- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا فَقَالَ إِذْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلاَمِ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ"
قوله: "باب قول الله تعالى" في رواية أبي ذر "قوله تعالى". "لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم" إلى قوله تعالى: {وَمَا تَكْتُمُونَ} ، وساق في رواية كريمة والأصيلي الآيات الثلاث، والمراد بالاستئناس في قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الاستئذان بتنحنح ونحوه عند الجمهور. وأخرج الطبري من طريق مجاهد "حتى تستأنسوا تتنحنحوا أو تتنخموا" ومن طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود "كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس يتكلم ويرفع صوته" وأخرج ابن أبي حاتم بسند ضعيف من حديث أبي أيوب قال: "قلت يا رسول الله هذا السلام، فما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بتسبيحة أو تكبيرة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت" وأخرج الطبري من طريق قتادة قال: الاستئناس هو الاستئذان ثلاثا، فالأولى ليسمع، والثانية ليتأهبوا له، والثالثة إن شاءوا أذنوا له وإن شاءوا ردوا. والاستئناس في اللغة طلب الإيناس وهو من الأنس بالضم ضد الوحشة، وقد تقدم في أواخر النكاح في حديث عمر الطويل في قصة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وفيه: "فقلت أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم. قال فجلس" وقال البيهقي: معنى تستأنسوا تستبصروا ليكون الدخول على بصيرة، فلا يصادف حالة يكره صاحب المنزل أن يطلعوا عليها. وأخرج من طريق الفراء قال: الاستئناس في كلام العرب معناه انظروا من في الدار. وعن الحليمي: معناه حتى تستأنسوا بأن تسلموا. وحكى الطحاوي أن الاستئناس في لغة اليمن الاستئذان وجاء عن ابن عباس إنكار ذلك، فأخرج سعيد بن منصور والطبري والبيهقي في الشعب بسند صحيح أن ابن عباس "كان يقرأ حتى تستأذنوا" ويقول: أخطأ الكاتب. وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب، ومن طريق مغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال: في مصحف ابن مسعود "حتى تستأذنوا" وأخرج سعيد ابن منصور من

(11/8)


طريق مغيرة عن إبراهيم في مصحف عبد الله "حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا" وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في "أحكام القرآن" عن ابن عباس واستشكله، وكذا طعن في صحته جماعة ممن بعده، وأجيب بأن ابن عباس بناها على قراءته التي تلقاها عن أبي بن كعب، وأما اتفاق الناس على قراءتها بالسين فلموافقة خط المصحف الذي وقع الاتفاق على عدم الخروج عما يوافقه، وكان قراءة أبي من الأحرف التي تركت للقراءة بها كما تقدم تقريره في فضائل القرآن. وقال البيهقي: يحتمل أن يكون ذلك كان في القراءة الأولى ثم نسخت تلاوته، يعني ولم يطلع ابن عباس على ذلك. قوله: "وقال سعيد بن أبي الحسن" هو البصري أخو الحسن. قوله: "للحسن" أي لأخيه. قوله: "إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن، قال: اصرف بصرك عنهن، يقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قال قتادة: عما لا يحل لهم" كذا وقع في رواية الكشميهني: ووقع في رواية غيره بعد قوله: "اصرف بصرك" وقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إلخ، فعلى رواية الكشميهني يكون الحسن استدل بالآية. وأورد المصنف أثر قتادة تفسيرا لها، وعلى رواية الأكثر تكون ترجمة مستأنفة، والنكتة في ذكرها في هذا الباب على الحالين للإشارة إلى أن أصل مشروعية الاستئذان للاحتراز من وقوع النظر إلى ما لا يريد صاحب المنزل النظر إليه لو دخل بغير إذن، وأعظم ذلك النظر إلى النساء الأجنبيات، وأثر قتادة عند ابن أبي حاتم وصله من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد بن أبي عروبة عنه في قوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قال: عما لا يحل لهم. قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} كذا للأكثر تخلل أثر قتادة بين الآيتين، وسقط جميع ذلك من رواية النسفي فقال بعد قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الآيتين وقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}. قوله: "خائنة الأعين من النظر إلى ما نهى عنه" كذا للأكثر بضم نون "نهى" على البناء للمجهول. وفي رواية كريمة: "إلى ما نهى الله عنه" وسقط لفظ: "من" من رواية أبي ذر، وعند ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس في قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} قال هو الرجل ينظر إلى المرأة الحسناء تمر به أو يدخل بيتا هي فيه فإذا فطن له غض بصره، وقد علم الله تعالى أنه يود لو اطلع على فرجها وإن قدر عليها لو زنى بها، ومن طريق مجاهد وقتادة نحوه، وكأنهم أرادوا أن هذا من جملة خائنة الأعين. وقال الكرماني. معنى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} أن الله يعلم النظرة المسترقة إلى ما لا يحل، وأما خائنة الأعين التي ذكرت في الخصائص النبوية فهي الإشارة بالعين إلى أمر مباح لكن على خلاف ما يظهر منه بالقول. قلت: وكذا السكوت المشعر بالتقرير فإنه يقوم مقام القول. وبيان ذلك في حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: "لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، فذكر منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، إلى أن قال: "فأما عبد الله فاختبأ عند عثمان، فجاء به حتى أوقفه فقال: يا رسول الله بايعه، فأعرض عنه، ثم بايعه بعد الثلاث مرات، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عنه فيقتله: فقالوا: هلا أومأت قال. إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" أخرجه الحاكم من هذا الوجه، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" من مرسل سعيد بن المسيب أخصر منه وزاد فيه: "وكان رجل من الأنصار نذر إن رأى ابن أبي سرح أن يقتله"، فذكر بقية الحديث نحو حديث ابن عباس. وأخرجه الدار قطني من طريق سعيد بن يربوع. وله طرق أخرى يشد بعضها.

(11/9)


بعضا. قوله: "وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء: لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليه وإن كانت صغيرة" كذا للأكثر.وفي رواية الكشميهني: "في النظر إلى ما لا يحل من النساء لا يصلح إلخ" وقال: "النظر إليهن" وسقط هذا الأثر والذي بعده من رواية النسفي. قوله: "وكره عطاء النظر إلى الجواري التي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري" وصله ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي قال: "سئل عطاء بن أبي رباح عن الجواري التي يبعن بمكة، فكره النظر إليهن، إلا لمن يريد أن يشتري" ووصله الفاكهي في "كتاب مكة" من وجهين عن الأوزاعي وزاد: "اللاتي يطاف بهن حول البيت" قال الفاكهي "زعموا أنهم كانوا يلبسون الجارية ويطوفون بها مسفرة حول البيت ليشهروا أمرها ويرغبوا الناس في شرائها. قوله: "أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل" هو ابن عباس، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج، قال ابن بطال: في الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة، ومقتضاه أنه إذا أمنت الفتنة لم يمتنع، قال: ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها فخشي الفتنة عليه، قال: وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن. وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخثعمية بالاستتار ولما صرف وجه الفضل، قال: وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضا لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة ولو رآه الغرباء، وأن قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} على الوجوب في غير الوجه. قلت: وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادعاه نظر لأنها كانت محرمة، و قوله: "عجز راحلته" بفتح العين المهملة وضم الجيم بعدها زاي أي مؤخرها، و قوله: "وضيئا" أي لحسن وجهه ونظافة صورته، وقوله: "فأخلف يده" أي أدارها من خلفه، و قوله: "بذقن الفضل" بفتح الذال المعجمة والقاف بعدها نون، قال ابن التين: أخذ منه بعضهم أن الفضل كان حينئذ أمرد، وليس بصحيح، لأن في الرواية الأخرى "وكان الفضل رجلا وضيئا". فإن قيل سماه رجلا باعتبار ما آل إليه أمره قلنا. بل الظاهر أنه وصف حالته حينئذ، ويقويه أن ذلك كان في حجة الوداع والفضل كان أكبر من أخيه عبد الله وقد كان عبد الله حينئذ راهق الاحتلام قلت: وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يزوج الفضل لما سأله أن يستعمله على الصدقة ليصيب ما يتزوج به، فهذا يدل على بلوغه قبل ذلك الوقت ولكن لا يلزم منه أن تكون نبتت لحيته كما لا يلزم من كونه لا لحية له أن يكون صبيا. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وأبو عامر هو العقدي، وزهير هو ابن محمد التميمي، وزيد ابن أسلم هو مولى ابن عمر، وهكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي عامر، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أخرى عن أبي عامر كذلك، وأخرجه أحمد وعبد بن حميد جميعا عن أبي عامر العقدي عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، فكأن لأبي عامر فيه شيخين، وهو عند أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن زهير به، وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن زهير، وقد مضى في المظالم من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم. قوله: "إياكم" هو للتحذير. قوله: "والجلوس" بالنصب وقوله بالطرقات في رواية الكشميهني: "في الطرقات" وفي رواية حفص بن ميسرة "على الطرقات" وهي جمع الطرق بضمتين وطرق جمع طريق. وفي حديث أبي طلحة عند مسلم: "كنا قعودا بالأفنية" جمع فناء بكسر الفاء ونون ومد وهو المكان المتسع أمام الدار "فجاء رسول الله.

(11/10)


صلى الله عليه وسلم فقال: "ما لكم ولمجالس الصعدات" بضم الصاد والعين المهملتين جمع صعيد وهو المكان الواسع وتقدم بيانه في كتاب المظالم، ومثله لابن حبان من حديث أبي هريرة، زاد سعيد بن منصور من مرسل يحيى بن يعمر "فإنها سبيل من سبيل الشيطان أو النار". قوله: "فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها" قال عياض: فيه دليل على أن أمره لهم لم يكن للوجوب، وإنما كان على طريق الترغيب والأولى، إذ لو فهموا الوجوب لم يراجعوه هذه المراجعة، وقد يحتج به من لا يرى الأوامر على الوجوب. قلت: ويحتمل أن يكونوا رجوا وقوع النسخ تخفيفا لما شكوا من الحاجة إلى ذلك، ويؤيده أن في مرسل يحيى بن يعمر "فظن القوم أنها عزمة" ووقع في حديث أبي طلحة "فقالوا إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتحدث ونتذاكر". قوله: "فإذا أبيتم" في رواية الكشميهني: "إذا أبيتم" بحذف الفاء. قوله: "إلا المجلس" كذا للجميع هنا بلفظ: "إلا" بالتشديد، وتقدم في أواخر المظالم بلفظ فإذا أتيتم إلى المجالس بالمثناة بدل الموحدة في أتيتم وبتخفيف اللام من إلى، وذكر عياض أنه للجميع هناك هكذا، وقد بينت هناك أنه للكشميهني هناك كالذي هنا، ووقع في حديث أبي طلحة "إما لا" بكسر الهمزة "ولا" نافية وهي ممالة في الرواية، ويجوز ترك الإمالة. ومعناه إلا تتركوا ذلك فافعلوا كذا. وقال ابن الأنباري افعل كذا إن كنت لا تفعل كذا، ودخلت "ما" صلة. وفي حديث عائشة عند الطبراني في الأوسط "فإن أبيتم إلا أن تفعلوا" وفي مرسل يحيى بن يعمر "فإن كنتم لا بد فاعلين". قوله: "فأعطوا الطريق حقه" في رواية حفص بن ميسرة "حقها" والطريق يذكر ويؤنث، وفي حديث أبي شريح عند أحمد "فمن جلس منكم على الصعيد فليعطه حقه". قوله: "قالوا وما حق الطريق"؟ في حديث أبي شريح "قلنا: يا رسول الله وما حقه "؟. قوله: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر" في حديث أبي طلحة الأولى والثانية وزاد: "وحسن الكلام" وفي حديث أبي هريرة الأولى والثالثة وزاد: "وإرشاد ابن السبيل وتشميت العاطس إذا حمد" وفي حديث عمر عند أبي داود وكذا في مرسل يحيى بن يعمر من الزيادة وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال، وهو عند البزار بلفظ وإرشاد الضال، وفي حديث البراء عند أحمد والترمذي "اهدوا السبيل وأعينوا المظلوم وأفشوا السلام" وفي حديث ابن عباس عند البزار من الزيادة "وأعينوا على الحمولة". وفي حديث سهل بن حنيف عند الطبراني من الزيادة "ذكر الله كثيرا" وفي حديث وحشي بن حرب عند الطبراني من الزيادة "واهدوا الأغبياء وأعينوا المظلوم" ومجموع ما في هذه الأحاديث أربعة عشر أدبا وقد نظمتها في ثلاثة أبيات وهي:
جمعت آداب من رام الجلوس على الطر ... يق من قول خير الخلق إنسانا
أفش السلام وأحسن في الكلام ... وشمت عاطسا وسلاما رد إحسانا
في الحمل عاون ومظلوما أعن وأغث ... لهفان اهد سبيلا واهد حيرانا
بالعرف مر وانه عن نكر وكف أذى ... وغض طرفا وأكثر ذكر مولانا
وقد اشتملت على معنى علة النهي عن الجلوس في الطرق من التعرض للفتن بخطور النساء الشواب وخوف ما يلحق من النظر إليهن من ذلك، إذ لم يمنع النساء من المرور في الشوارع لحوائجهن، ومن التعرض لحقوق الله .

(11/11)


وللمسلمين مما لا يلزم الإنسان إذا كان في بيته وحيث لا ينفرد أو يشتغل بما يلزمه، ومن رؤية المناكير وتعطيل المعارف، فيجب على المسلم الأمر والنهي عند ذلك فإن ترك ذلك فقد تعرض للمعصية، وكذا يتعرض لمن يمر عليه ويسلم عليه فإنه ربما كثر ذلك فيعجز عن الرد على كل مار، ورده فرض فيأثم، والمرء مأمور بأن لا يتعرض للفتن وإلزام نفسه ما لعله لا يقوى عليه، فندبهم الشارع إلى ترك الجلوس حسما للمادة، فلما ذكروا له ضرورتهم إلى ذلك لما فيه من المصالح من تعاهد بعضهم بعضا ومذاكرتهم في أمور الدين ومصالح الدنيا وترويح النفوس بالمحادثة في المباح دلهم على ما يزيل المفسدة من الأمور المذكورة، ولكل من الآداب المذكورة شواهد في أحاديث أخرى: فأما إفشاء السلام فسيأتي في باب مفرد، وأما إحسان الكلام فقال عياض فيه ندب إلى حسن معاملة المسلمين بعضهم لبعض، فإن الجالس على الطريق يمر به العدد الكثير من الناس فربما سألوه عن بعض شأنهم ووجه طرقهم فيجب أن يتلقاهم بالجميل من الكلام، ولا يتلقاهم بالضجر وخشونة اللفظ، وهو من جملة كف الأذى قلت: وله شواهد من حديث أبي شريح هانئ رفعه: "من موجبات الجنة إطعام الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام" ومن حديث أبي مالك الأشعري رفعه: "في الجنة غرف لمن أطاب الكلام" الحديث، وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رفعه: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة". وأما تشميت العاطس فمضى مبسوطا في أواخر كتاب الأدب، وأما رد السلام فسيأتي أيضا قريبا، وأما المعاونة على الحمل فله شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رفعه: "كل سلامي من الناس عليه صدقة" الحديث، وفيه: "ويعين الرجل على دابته فيحمله عليها ويرفع له عليها متاعه صدقة" وأما إعانة المظلوم فتقدم في حديث البراء قريبا، وله شاهد آخر تقدم في كتاب المظالم، وأما إغاثة الملهوف فله شاهد في الصحيحين من حديث أبي موسى فيه: "ويعين ذا الحاجة الملهوف" وفي حديث أبي ذر عند ابن حبان: "وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث" وأخرج المرهبي في العلم من حديث أنس رفعه في حديث: "والله يحب إغاثة اللهفان" وسنده ضعيف جدا، لكن له شاهد من حديث ابن عباس أصلح منه "والله يحب إغاثة اللهفان" وأما إرشاد السبيل فروى الترمذي وصححه ابن حبان من حديث أبي ذر مرفوعا: "وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة" وللبخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وصححه من حديث البراء رفعه: "من منح منيحة أو هدى زقاقا كان له عدل عتق نسمة" وهدى بفتح الهاء وتشديد المهملة، والزقاق بضم الزاي وتخفيف القاف وآخره قاف معروف، والمراد من دل الذي لا يعرفه عليه إذا احتاج إلى دخوله، وفي حديث أبي ذر عند ابن حبان: "ويسمع الأصم ويهدي الأعمى ويدل المستدل على حاجته" وأما هداية الحيران فله شاهد في الذي قبله، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيهما أحاديث كثيرة منها في حديث أبي ذر المذكور قريبا وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر صدقة" وأما كف الأذى فالمراد به كف الأذى عن المارة بأن لا يجلس حيث يضيق عليهم الطريق أو على باب منزل من يتأذى بجلوسه عليه أو حيث يكشف عياله أو ما يريد التستر به من حاله قاله عياض، قال: ويحتمل أن يكون المراد كف أذى الناس بعضهم عن بعض انتهى. وقد وقع في الصحيح من حديث أبي ذر رفعه: "فكف عن الشر فإنها لك الصدقة" وهو يؤيد الأول، وأما غض البصر فهو المقصود من حديث الباب، وأما كثرة ذكر الله ففيه عدة أحاديث يأتي بعضها في الدعوات.

(11/12)


3 - باب السَّلاَمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}

(11/12)


6230- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ "كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ السَّلاَمُ عَلَى مِيكَائِيلَ السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ فَإِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنْ الْكَلاَمِ مَا شَاءَ"
قوله: "باب السلام اسم من أسماء الله تعالى" هذه الترجمة لفظ بعض حديث مرفوع له طرق ليس منها شيء على شرط المصنف في الصحيح، فاستعمله في الترجمة وأورد ما يؤدي معناه على شرطه وهو حديث التشهد لقوله فيه: "فإن الله هو السلام" وكذا ثبت في القرآن في أسماء الله "السلام المؤمن المهيمن" ومعنى السلام السالم من النقائص، وقيل المسلم لعباده، وقيل المسلم على أوليائه. وأما لفظ الترجمة فأخرجه في "الأدب المفرد" من حديث أنس بسند حسن وزاد: "وضعه الله في الأرض، فأفشوه بينكم" وأخرجه البزار والطبراني من حديث ابن مسعود موقوفا ومرفوعا، وطريق الموقوف أقوى. وأخرجه البيهقي في "الشعب" من حديث أبي هريرة مرفوعا بسند ضعيف وألفاظهم سواء. وأخرج البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس موقوفا "السلام اسم الله وهو تحية أهل الجنة" وشاهده حديث المهاجر بن قنفذ أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى توضأ وقال: "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره، ويحتمل أن يكون أراد ما في رد السلام من ذكر اسم الله صريحا في قوله: "ورحمة الله". وقد اختلف في معنى السلام: فنقل عياض أن معناه اسم الله أي كلاءة الله عليك وحفظه، كما يقال الله معك ومصاحبك. وقيل: معناه إن الله مطلع عليك فيما تفعل. وقيل: معناه إن اسم الله يذكر على الأعمال توقعا لاجتماع معاني الخيرات فيها وانتفاء عوارض الفساد عنها. وقيل: معناه السلامة كما قال تعالى: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} وكما قال الشاعر:
تحيى بالسلامة أم عمرو ... وهل لي بعد قومي من سلام
فكأن المسلم أعلم من سلم عليه أنه سالم منه وأن لا خوف عليه منه. وقال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": السلام يطلق بإزاء معان، منها السلامة، ومنها التحية، ومنها أنه اسم من أسماء الله. قال وقد يأتي بمعنى التحية محضا. وقد يأتي بمعنى السلامة محضا، وقد يأتي مترددا بين المعنيين كقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} فإنه يحتمل التحية والسلامة، وقوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}. قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} لم يقع في رواية أبي ذر {أَوْ رُدُّوهَا} ومناسبة ذكر هذه الآية في هذه الترجمة للإشارة إلى أن عموم الأمر بالتحية مخصوص بلفظ السلام كما دلت عليه الأحاديث المشار إليها في الباب الأول. واتفق العلماء على ذلك إلا ما حكاه ابن التين عن ابن خويز منداد عن مالك أن المراد بالتحية في الآية الهدية لكن حكى القرطبي عن ابن خويز منداد أنه ذكره احتمالا، وادعى أنه قول الحنفية فإنهم احتجوا بذلك بأن

(11/13)


السلام لا يمكن رده بعينه بخلاف الهدية فإن الذي يهدى له إن أمكنه أن يهدي أحسن منها فعل وإلا ردها بعينها. وتعقب بأن المراد بالرد رد المثل لا رد العين، وذلك سائغ كثير. ونقل القرطبي أيضا عن ابن القاسم وابن وهب عن مالك أن المراد بالتحية في الآية تشميت العاطس والرد على المشمت، قال: وليس في السياق دلالة على ذلك، ولكن حكم التشميت والرد مأخوذ من حكم السلام والرد عند الجمهور، ولعل هذا هو الذي نحا إليه مالك. حديث ابن مسعود في التشهد، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الصلاة، والغرض منه قوله فيه: "إن الله هو السلام" وهو مطابق لما ترجم له. واتفقوا على أن من سلم لم يجزئ في جوابه إلا السلام، ولا يجزئ في جوابه صبحت بالخير أو بالسعادة ونحو ذلك. واختلف فيمن أتى في التحية بغير لفظ السلام هل يجب جوابه، أم لا؟ وأقل ما يحصل به وجوب الرد أن يسمع المبتدئ. وحينئذ يستحق الجواب، ولا يكفي الرد بالإشارة، بل ورد الزجر عنه، وذلك فيما أخرجه الترمذي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "لا تشبهوا باليهود والنصارى، فإن تسليم الإشارة بالإصبع، وتسليم النصارى بالأكف" قال الترمذي: غريب.قلت: وفي سنده ضعف، لكن أخرج النسائي بسند جيد عن جابر رفعه: "لا تسلموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرءوس والأكف والإشارة" قال النووي: لا يرد على هذا حديث أسماء بنت يزيد "مر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم" فإنه محمول على أنه جمع بين اللفظ والإشارة، وقد أخرجه أبو داود من حديثها بلفظ: "فسلم علينا" انتهى. والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حسا وشرعا، وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام كالمصلي والبعيد والأخرس، وكذا السلام على الأصم، ولو أتى بالسلام بغير اللفظ العربي هل يستحق الجواب؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء، ثالثها يجب لمن يحسن بالعربية. وقال ابن دقيق العيد: الذي يظهر أن التحية بغير لفظ السلام من باب ترك المستحب وليس بمكروه إلا إن قصد به العدول عن السلام إلى ما هو أظهر في التعظيم من أجل أكابر أهل الدنيا، ويجب الرد على الفور، فلو أخر ثم استدرك فرد لم يعد جوابا قاله القاضي حسين وجماعة، وكأن محله إذا لم يكن عذر. ويجب رد جواب السلام في الكتاب ومع الرسول، ولو سلم الصبي على بالغ وجب عليه الرد، ولو سلم على جماعة فيهم صبي فأجاب أجزأ عنهم في وجه.

(11/14)


4 - باب تَسْلِيمِ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ
6231- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ"
[الحديث 6231- أطرافه في 6232، 6233، 6234]
قوله: "باب تسليم القليل على الكثير" هو أمر نسبي يشمل الواحد بالنسبة للاثنين فصاعدا والاثنين بالنسبة للثلاثة فصاعدا وما فوق ذلك. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "يسلم" كذا للجميع بصيغة الخبر وهو بمعنى الأمر، وقد ورد صريحا في رواية عبد الرزاق عن معمر عند أحمد بلفظ: "ليسلم" ويأتي شرحه فيما بعده، قال الماوردي: لو دخل شخص مجلسا فإن كان الجمع قليلا يعمهم سلام واحد فسلم كفاه، فإن زاد فخصص بعضهم

(11/14)


فلا بأس، ويكفي أن يرد منهم واحد، فإن زاد فلا بأس، وإن كانوا كثيرا بحيث لا ينتشر فيهم فيبتدئ أول دخوله إذا شاهدهم، وتتأدى سنة السلام في حق جميع من يسمعه، ويجب على من سمعه الرد على الكفاية. وإذا جلس سقط عنه سنة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين، وهل يستحب أن يسلم على من جلس عندهم ممن لم يسمعه؟ وجهان: أحدهما إن عاد فلا بأس، وإلا فقد سقطت عنه سنة السلام لأنهم جمع واحد، وعلى هذا يسقط فرض الرد بفعل بعضهم، والثاني أن سنة السلام باقية في حق من لم يبلغهم سلامه المتقدم فلا يسقط فرض الرد من الأوائل عن الأواخر.

(11/15)


5 - باب تَسْلِيمِ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي
6232- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّهُ سَمِعَ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ"
قوله: "باب يسلم الراكب على الماشي" في رواية الكشميهني: "تسليم" على وفق الترجمة التي قبلها. قوله: "مخلد" هو ابن يزيد. قوله: "زياد" هو ابن سعد الخراساني نزيل مكة، وقد وقع في رواية الإسماعيلي هنا "زياد بن سعد". قوله: "أنه سمع ثابتا مولى ابن يزيد" في رواية غير أبي ذر "عبد الرحمن بن زيد" ووقع في رواية روح التي بعدها "أن ثابتا أخبره وهو مولى عبد الرحمن بن زيد" وزيد المذكور هو ابن الخطاب أخو عمر بن الخطاب ولذلك نسبوا ثابتا عدويا، وحكى أبو علي الجياني أن في رواية الأصيلي عن الجرجاني "عبد الرحمن بن يزيد" بزيادة ياء في أوله وهو وهم، وثابت هو ابن الأحنف وقيل ابن عياض بن الأحنف وقيل إن الأحنف لقب عياض، وليس لثابت في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في المصراة من كتاب البيوع. قوله: "يسلم الراكب على الماشي" كذا ثبت في هذه الرواية، ولم يذكر ذلك في رواية همام كما ذكر في رواية همام الصغير على الكبير ولم يذكر في هذه، فكأن كلا منهما حفظ ما لم يحفظ الآخر، وقد وافق هماما عطاء بن يسار كما سيأتي بعده، واجتمع من ذلك أربعة أشياء وقد اجتمعت في رواية الحسن عن أبي هريرة عند الترمذي وقال: روي من غير وجه عن أبي هريرة، ثم حكى قول أيوب وغيره أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.

(11/15)


6 - باب تَسْلِيمِ الْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ
6233- حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح بن عبادة حدثنا بن جريج قال أخبرني زياد أن ثابتا أخبره وهو مولى عبد الرحمن بن زيد "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ثم يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير"
قوله: "باب يسلم الماشي على القاعد" ذكر فيه الحديث الذي قبله من وجه آخر عن ابن جريج؛ وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن شبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة بعدها لام بزيادة أخرجه عبد الرزاق وأحمد بسند

(11/15)


7 - باب تَسْلِيمِ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ
6234- وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ"
قوله: "باب يسلم الصغير على الكبير" وقال إبراهيم هو ابن طهمان: وثبت كذلك في رواية أبي ذر. وقد وصله البخاري في "الأدب المفرد" قال: "حدثنا أحمد بن أبي عمرو حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان به سواء" وأبو عمرو هو حفص بن عبد الله بن راشد السلمي قاضي نيسابور، ووصله أيضا أبو نعيم من طريق عبد الله بن العباس، والبيهقي من طريق أبي حامد بن الشرفي كلاهما عن أحمد بن حفص به، وأما قول الكرماني: عبر البخاري بقوله: "وقال إبراهيم" لأنه سمع منه في مقام المذاكرة فغلط عجيب، فإن البخاري لم يدرك إبراهيم بن طهمان فضلا عن أن يسمع منه، فإنه مات قبل مولد البخاري بست وعشرين سنة، وقد ظهر بروايته في الأدب أن بينهما في هذا الحديث رجلين. قوله: "والمار على القاعد" هو كذا في رواية همام، وهو أشمل من رواية ثابت التي قبلها بلفظ: "الماشي" لأنه أعم من أن يكون المار ماشيا أو راكبا، وقد اجتمعا في حديث فضالة بن عبيد عند البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وصححه والنسائي وصحيح ابن حبان بلفظ: "يسلم الفارس على الماشي والماشي على القائم" وإذا حمل القائم على المستقر كان أعم من أن يكون جالسا أو واقفا أو متكئا أو مضطجعا، وإذا أضيفت هذه الصورة إلى الراكب تعددت الصور، وتبقى صورة لم تقع منصوصة وهي ما إذا تلاقى ماران راكبان أو ماشيان وقد تكلم عليها المازري فقال: يبدأ الأدنى منهما الأعلى قدرا في الدين إجلالا لفضله، لأن فضيلة الدين مرغب فيها في الشرع، وعلى هذا لو التقى راكبان ومركوب أحدهما أعلى في الحس من مركوب الآخر كالجمل والفرس فيبدأ راكب الفرس، أو يكتفي بالنظر إلى أعلاهما قدرا في الدين فيبتدؤه الذي دونه، هذا الثاني أظهر كما لا نظر إلى من يكون أعلاهما قدرا من جهة الدنيا، إلا أن يكون سلطانا يخشى منه، وإذا تساوى المتلاقيان من كل جهة فكل منهما مأمور بالابتداء، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام كما تقدم في حديث المتهاجرين في أبواب الأدب. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح من حديث جابر قال: "الماشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل" ذكره عقب رواية ابن جريج عن زياد بن سعد عن ثابت عن أبي هريرة بسنده المذكور عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر وصرح فيه بالسماع. وأخرج أبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما والبزار من وجه آخر عن ابن جريج الحديث بتمامه مرفوعا بالزيادة. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن الأغر المزني "قال لي أبو بكر لا يسبقك أحد إلى السلام" والترمذي من حديث أبي أمامة رفعه: "إن أولى الناس بالله من بدأ بالسلام" وقال: حسن. وأخرج الطبراني من حديث أبي الدرداء "قلنا: يا رسول الله إنا نلتقي فأينا يبدأ بالسلام؟ قال: أطوعكم لله". قوله: "والقليل على الكثير" تقدم تقريره، لكن لو عكس الأمر فمر جمع كثير على جمع قليل، وكذا لو مر الصغير على الكبير، لم أر فيهما نصا. واعتبر النووي المرور فقال الوارد يبدأ سواء كان صغيرا أم كبيرا قليلا أم كثيرا،

(11/16)


ويوافقه قول المهلب: إن المار في حكم الداخل، وذكر الماوردي أن من مشى في الشوارع المطروقة كالسوق أنه لا يسلم إلا على البعض، لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به عن المهم الذي خرج لأجله ولخرج به عن العرف قلت: ولا يعكر على هذا ما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" عن الطفيل بن أبي ابن كعب قال: "كنت أغدو مع ابن عمر إلى السوق فلا يمر على بياع ولا أحد إلا سلم عليه. فقلت: ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع؟ قال: إنما نغدو من أجل السلام على من لقينا" لأن مراد الماوردي من خرج في حاجة له فتشاغل عنها بما ذكر، والأثر المذكور ظاهر في أنه خرج لقصد تحصيل ثواب السلام. وقد تكلم العلماء على الحكمة فيمن شرع لهم الابتداء، فقال ابن بطال عن المهلب: تسليم الصغير لأجل حق الكبير لأنه أمر بتوقيره والتواضع له، وتسليم القليل لأجل حق الكثير لأن حقهم أعظم، وتسليم المار لشبهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع. وقال ابن العربي: حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضل. وقال المازري: أما أمر الراكب فلأن له مزية على الماشي فعوض الماشي بأن يبدأه الراكب بالسلام احتياطا على الراكب من الزهو أن لو حاز الفضيلتين، وأما الماشي فلما يتوقع القاعد منه من الشر ولا سيما إذا كان راكبا، فإذا ابتدأه بالسلام أمن منه ذلك وأنس إليه، أو لأن في التصرف في الحاجات امتهانا فصار للقاعد مزية فأمر بالابتداء، أو لأن القاعد يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم فسقطت البداءة عنه للمشقة، بخلاف المار فلا مشقة عليه، وأما القليل فلفضيلة الجماعة أو لأن الجماعة لو ابتدءوا لخيف على الواحد الزهو فاحتيط له، ولم يقع تسليم الصغير على الكبير في صحيح مسلم وكأنه لمراعاة السن فإنه معتبر في أمور كثيرة في الشرع، فلو تعارض الصغر المعنوي والحسي كأن يكون الأصغر أعلم مثلا فيه نظر، ولم أر فيه نقلا. والذي يظهر اعتبار السن لأنه الظاهر، كما تقدم الحقيقة على المجاز. ونقل ابن دقيق العيد عن ابن رشد أن محل الأمر في تسليم الصغير على الكبير إذا التقيا فإن كان أحدهما راكبا والآخر ماشيا بدأ الراكب، وإن كانا راكبين أو ماشيين بدأ الصغير. وقال المازري وغيره: هذه المناسبات لا يعترض عليها بجزئيات تخالفها لأنها لم تنصب نصب العلل الواجبة الاعتبار حتى لا يجوز أن يعدل عنها، حتى لو ابتدأ الماشي فسلم على الراكب لم يمتنع لأنه ممتثل للأمر بإظهار السلام وإفشائه، غير أن مراعاة ما ثبت في الحديث أولى وهو خبر بمعنى الأمر على سبيل الاستحباب، ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة، بل يكون خلاف الأولى، فلو ترك المأمور بالابتداء فبدأه الآخر كان المأمور تاركا للمستحب والآخر فاعلا للسنة، إلا إن بادر فيكون تاركا للمستحب أيضا. وقال المتولي: لو خالف الراكب أو الماشي ما دل عليه الخبر كره، قال: والوارد يبدأ بكل حال. وقال الكرماني: لو جاء أن الكبير يبدأ الصغير والكثير يبدأ القليل لكان مناسبا، لأن الغالب أن الصغير يخاف من الكبير والقليل من الكثير، فإذا بدأ الكبير والكثير أمن منه الصغير والقليل، لكن لما كان من شأن المسلمين أن يأمن بعضهم بعضا اعتبر جانب التواضع كما تقدم، وحيث لا يظهر رجحان أحد الطرفين باستحقاقه التواضع له اعتبر الإعلام بالسلامة والدعاء له رجوعا إلى ما هو الأصل، فلو كان المشاة كثيرا والقعود قليلا تعارضا ويكون الحكم حكم اثنين تلاقيا معا فأيهما بدأ فهو أفضل، ويحتمل ترجيح جانب الماشي كما تقدم، والله أعلم.

(11/17)


8 - باب إِفْشَاءِ السَّلاَمِ

(11/17)


6235- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ "الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَصْرِ الضَّعِيفِ وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَى عَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ وَنَهَانَا عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ وَعَنْ رُكُوبِ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالإِسْتَبْرَقِ"
قوله: "باب إفشاء السلام" كذا للنسفي وأبي الوقت, وسقط لفظ "باب" للباقين. الإفشاء الإظهار, والمراد نشر السلام بين الناس ليحيوا سنته. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن عمر "إذا سلمت فأسمع فإنها تحية من عند الله" قال النووي: أقله أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلم عليه, فإن لم يسمعه لم يكن آتيا بالسنة. ويستحب أن يرفع صوته بقدر ما يتحقق أنه سمعه, فإن شك استظهر. ويستثنى من رفع الصوت بالسلام ما إذا دخل على مكان فيه أيقاظ ونيام فالسنة فيه ما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان" ونقل النووي عن المتولي أنه قال: "يكره إذا لقي جماعة أن يخص بعضهم بالسلام. لأن القصد بمشروعية السلام تحصيل الألفة, وفي التخصيص إيحاش لغير من خص بالسلام". قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، والشيباني هو أبو إسحاق، وأشعث هو ابن أبي الشعثاء بمعجمة ثم مهملة ثم مثلثة فيه وفي أبيه، واسم أبيه سليم بن أسود. قوله: "عن معاوية بن قرة" كذا للأكثر وخالفهم جعفر بن عوف فقال عن الشيباني عن أشعث عن سويد ابن غفلة عن البراء وهي رواية شاذة أخرجها الإسماعيلي. قوله: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض الحديث" تقدم في اللباس أنه ذكر في عدة مواضع لم يسقه بتمامه في أكثرها، وهذا الموضع مما ذكر فيه سبعا مأمورات وسبعا منهيات، والمراد منه هنا إفشاء السلام، وتقدم شرح عيادة المريض في الطب واتباع الجنائز فيه وعون المظلوم في كتاب المظالم وتشميت العاطس في أواخر الأدب وسيأتي إبرار القسم في كتاب الأيمان والنذور، وسبق شرح المناهي في الأشربة وفي اللباس، وأما نصر الضعيف المذكور هنا فسبق حكمه في كتاب المظالم، ولم يقع في أكثر الروايات في حديث البراء هذا، وإنما وقع بدله إجابة الداعي، وقد تقدم شرحه في كتاب الوليمة من كتاب النكاح. قال الكرماني: نصر الضعيف من جملة إجابة الداعي لأنه قد يكون ضعيفا وإجابته نصره، أو أن لا مفهوم للعدد المذكور وهو السبع فتكون المأمورات ثمانية، كذا قال؛ والذي يظهر لي أن إجابة الداعي سقطت من هذه الرواية، وأن نصر الضعيف المراد به عون المظلوم الذي ذكر في غير هذه الطريق، ويؤيد هذا الاحتمال أن البخاري حذف بعض المأمورات من غالب المواضع التي أورد الحديث فيها اختصارا. قوله: "وإفشاء السلام" تقدم في الجنائز بلفظ ورد السلام، ولا مغايرة في المعنى لأن ابتداء السلام ورده متلازمان، وإفشاء السلام ابتداء يستلزم إفشاءه جوابا، وقد جاء إفشاء السلام من حديث البراء بلفظ آخر وهو عند المصنف في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عنه رفعه: "أفشوا السلام تسلموا" وله شاهد من حديث أبي الدرداء مثله عند الطبراني، ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "ألا أدلكم على ما تحابون به؟ أفشوا السلام بينكم" قال ابن العربي: فيه أن من فوائد إفشاء السلام حصول المحبة بين المتسالمين، وكان ذلك لما فيه من ائتلاف الكلمة لتعم المصلحة بوقوع المعاونة على إقامة شرائع الدين وإخزاء

(11/18)


الكافرين، وهي كلمة إذا سمعت أخلصت القلب الواعي لها عن النفور إلى الإقبال على قائلها. وعن عبد الله بن سلام رفعه: "أطعموا الطعام وأفشوا السلام" الحديث وفيه: "تدخلوا الجنة بسلام" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وصححه الترمذي والحاكم، وللأولين وصححه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "اعبدوا الرحمن، وأفشوا السلام" الحديث وفيه: "تدخلوا الجنان" والأحاديث في إفشاء السلام كثيرة منها عند البزار من حديث الزبير وعند أحمد من حديث عبد الله بن الزبير وعند الطبراني من حديث ابن مسعود وأبي موسى وغيرهم، ومن الأحاديث في إفشاء السلام ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رفعه: "إذا قعد أحدكم فليسلم وإذا قام فليسلم فليست الأولى أحق من الآخرة" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن ابن عمر قال: "إن كنت لأخرج إلى السوق وما لي حاجة إلا أن أسلم ويسلم علي" وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق الطفيل بن أبي بن كعب عن ابن عمر نحوه لكن ليس فيها شيء على شرط البخاري فاكتفى بما ذكره من حديث البراء، واستدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا يكفي السلام سرا بل يشترط الجهر وأقله أن يسمع في الابتداء وفي الجواب، ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه. وقد أخرج النسائي بسند جيد عن جابر رفعه: "لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرءوس والأكف" ويستثنى من ذلك حالة الصلاة فقد وردت أحاديث جيدة أنه صلى الله عليه وسلم رد السلام وهو يصلي إشارة، منها حديث أبي سعيد "أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فرد عليه إشارة" ومن حديث ابن مسعود نحوه، وكذا من كان بعيدا بحيث لا يسمع التسليم يجوز السلام عليه إشارة ويتلفظ مع ذلك بالسلام وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: "يكره السلام باليد ولا يكره بالرأس" وقال ابن دقيق العيد: استدل بالأمر بإفشاء السلام من قال بوجوب الابتداء بالسلام، وفيه نظر إذ لا سبيل إلى القول بأنه فرض عين على التعميم من الجانبين وهو أن يجب على كل أحد أن يسلم على كل من لقيه لما في ذلك من الحرج والمشقة، فإذا سقط من جانبي العمومين سقط من جانبي الخصوصين إذ لا قائل يجب على واحد دون الباقين، ولا يجب السلام على واحد دون الباقين، قال: وإذا سقط على هذه الصورة لم يسقط الاستحباب لأن العموم بالنسبة إلى كلا الفريقين ممكن انتهى. وهذا البحث ظاهر في حق من قال إن ابتداء السلام فرض عين، وأما من قال فرض كفاية فلا يرد عليه إذا قلنا إن فرض الكفاية ليس واجبا على واحد بعينه، قال ويستثنى من الاستحباب من ورد الأمر بترك ابتدائه بالسلام كالكافر قلت: ويدل عليه قوله في الحديث المذكور قبل "إذا فعلتموه تحاببتم" والمسلم مأمور بمعاداة الكافر فلا يشرع له فعل ما يستدعي محبته ومواددته. وسيأتي البحث في ذلك في "باب التسليم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين"، وقد اختلف أيضا في مشروعية السلام على الفاسق وعلى الصبي، وفي سلام الرجل على المرأة وعكسه، وإذا جمع المجلس كافرا ومسلما هل يشرع السلام مراعاة لحق المسلمين؟ أو يسقط من أجل الكافر؟ وقد ترجم المصنف لذلك كله. وقال النووي يستثنى من العموم بابتداء السلام من كان مشتغلا بأكل أو شرب أو جماع، أو كان في الخلاء أو الحمام أو نائما أو ناعسا أو مصليا أو مؤذنا ما دام متلبسا بشيء مما ذكر، فلو لم تكن اللقمة في فم الآكل مثلا شرع السلام عليه، ويشرع في حق المتبايعين وسائر المعاملات، واحتج له ابن دقيق العيد بأن الناس غالبا يكونون في أشغالهم فلو روعي ذلك لم يحصل امتثال الإفشاء. وقال ابن دقيق العيد: احتج من منع السلام على من في الحمام بأنه بيت الشيطان وليس موضع التحية لاشتغال من فيه بالتنظيف، قال وليس هذا المعنى بالقوي في

(11/19)


الكراهة، بل يدل على عدم الاستحباب. قلت: وقد تقدم في كتاب الطهارة من البخاري "إن كان عليهم إزار فيسلم وإلا فلا" وتقدم البحث فيه هناك. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أم هانئ "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره فسلمت عليه" الحديث. قال النووي: وأما السلام حال الخطبة في الجمعة فيكره للأمر بالإنصات، فلو سلم لم يجب الرد عند من قال الإنصات واجب، ويجب عند من قال إنه سنة، وعلى الوجهين لا ينبغي أن يرد أكثر من واحد، وأما المشتغل بقراءة القرآن فقال الواحدي الأولى ترك السلام عليه فإن سلم عليه كفاه الرد بالإشارة، وإن رد لفظا استأنف الاستعاذة وقرأ. قال النووي: وفيه نظر، والظاهر أنه يشرع السلام عليه ويجب عليه الرد، ثم قال: وأما من كان مشتغلا بالدعاء مستغرقا فيه مستجمع القلب فيحتمل أن يقال هو كالقارئ، والأظهر عندي أنه يكره السلام عليه لأنه يتنكد به ويشق عليه أكثر من مشقة الأكل. وأما الملبي في الإحرام فيكره أن يسلم عليه لأن قطعه التلبية مكروه، ويجب عليه الرد مع ذلك لفظا أن لو سلم عليه، قال: ولو تبرع واحد من هؤلاء برد السلام إن كان مشتغلا بالبول ونحوه فيكره "وإن كان آكلا ونحوه فيستحب في الموضع الذي لا يجب، وإن كان مصليا لم يجز أن يقول بلفظ المخاطبة كعليك السلام أو عليك فقط، فلو فعل بطلت إن علم التحريم لا إن جهل في الأصح، فلو أتى بضمير الغيبة لم تبطل، ويستحب أن يرد بالإشارة، وإن رد بعد فراغ الصلاة لفظا فهو أحب، وإن كان مؤذنا أو ملبيا لم يكره له الرد لفظا لأنه قدر يسير لا يبطل الموالاة. وقد تعقب والدي رحمه الله في نكته على الأذكار ما قاله الشيخ في القارئ لكونه يأتي في حقه نظير ما أبداه هو في الداعي، لأن القارئ قد يستغرق فكره في تدبر معاني ما يقرؤه، ثم اعتذر عنه بأن الداعي يكون مهتما بطلب حاجته فيغلب عليه التوجه طبعا، والقارئ إنما يطلب منه التوجه شرعا فالوساوس مسلطة عليه ولو فرض أنه يوفق للحاجة العلية فهو على ندور انتهى. ولا يخفى أن التعليل الذي ذكره الشيخ من تنكد الداعي يأتي نظيره في القارئ، وما ذكره الشيخ في بطلان الصلاة إذا رد السلام بالخطاب ليس متفقا عليه، فعن الشافعي نص في أنه لا تبطل لأنه لا يريد حقيقة الخطاب بل الدعاء، وإذا عذرنا الداعي والقارئ بعدم الرد فرد بعد الفراغ كان مستحبا. وذكر بعض الحنفية أن من جلس في المسجد للقراءة أو التسبيح أو لانتظاره الصلاة لا يشرع السلام عليهم، وإن سلم عليهم لم يجب الجواب، قال وكذا الخصم إذا سلم على القاضي لا يجب عليه الرد. وكذلك الأستاذ إذا سلم عليه تلميذه لا يجب الرد عليه، كذا قال. وهذا الأخير لا يوافق عليه. ويدخل في عموم إفشاء السلام، السلام على النفس لمن دخل مكانا ليس فيه أحد، لقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" وابن أبي شيبة بسند حسن عن ابن عمر "فيستحب إذا لم يكن أحد في البيت أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". وأخرج الطبري عن ابن عباس ومن طريق كل من علقمة وعطاء ومجاهد نحوه، ويدخل فيه من مر على من ظن أنه إذا سلم عليه لا يرد عليه فإنه يشرع له السلام ولا يتركه لهذا الظن لأنه قد يخطئ، قال النووي: وأما قول من لا تحقيق عنده أن ذلك يكون سببا لتأثيم الآخر فهو غباوة، لأن المأمورات الشرعية لا تترك بمثل هذا، ولو أعملنا هذا لبطل إنكار كثير من المنكرات. قال: وينبغي لمن وقع له ذلك أن يقول له بعبارة لطيفة رد السلام واجب، فينبغي أن ترد ليسقط عنك الفرض، وينبغي إذا تمادى على الترك أن يحلله من ذلك لأنه حق آدمي، ورجح ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" المقالة التي زيفها

(11/20)


النووي بأن مفسدة توريط المسلم في المعصية أشد من ترك مصلحة السلام عليه، ولا سيما وامتثال الإفشاء قد حصل مع غيره.

(11/21)


9 - باب السَّلاَمِ لِلْمَعْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمَعْرِفَةِ
6236- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ :" تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ"
6237- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ" وَذَكَرَ سُفْيَانُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ
قوله: "باب السلام للمعرفة وغير المعرفة" أي من يعرفه المسلم ومن لا يعرفه، أي لا يخص بالسلام من يعرفه دون من لا يعرفه. وصدر الترجمة لفظ حديث أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن مسعود أنه "مر برجل فقال السلام عليك يا أبا عبد الرحمن، فرد عليه ثم قال: إنه سيأتي على الناس زمان يكون السلام فيه للمعرفة" وأخرجه الطحاوي والطبراني والبيهقي في "الشعب" من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعا ولفظه: "إن من أشراط الساعة أن يمر الرجل بالمسجد لا يصلي فيه، وأن لا يسلم إلا على من يعرفه" ولفظ الطحاوي "إن من أشراط الساعة السلام للمعرفة". حديث عبد الله بن عمر، قوله: "حدثني يزيد" هو ابن أبي حبيب كما ذكر في رواية قتيبة عن الليث في كتاب الإيمان. قوله: "عن أبي الخير" هو مرثد بفتح الميم والمثلثة بينهما راء ساكنة وآخره دال مهملة والإسناد كله بصريون، وقد تقدم شرح الحديث في أوائل كتاب الإيمان، قال النووي معنى قوله: "على من عرفت ومن لم تعرف" تسلم على من لقيته ولا تخص ذلك بمن تعرف، وفي ذلك إخلاص العمل لله واستعمال التواضع وإفشاء السلام الذي هو شعار هذه الأمة قلت: وفيه من الفوائد أنه لو ترك السلام على من لم يعرف احتمل أن يظهر أنه من معارفه، فقد يوقعه في الاستيحاش منه، قال: وهذا العموم مخصوص بالمسلم، فلا يبتدئ السلام على كافر. قلت: قد تمسك به من أجاز ابتداء الكافر بالسلام، ولا حجة فيه لأن الأصل مشروعية السلام للمسلم فيحمل قوله: "من عرفت عليه" وأما "من لم تعرف" فلا دلالة فيه، بل إن عرف أنه مسلم فذاك وإلا فلو سلم احتياطا لم يمتنع حتى يعرف أنه كافر. وقال ابن بطال في مشروعية السلام على غير المعرفة استفتاح للمخاطبة للتأنيس ليكون المؤمنون كلهم إخوة فلا يستوحش أحد من أحد، وفي التخصيص ما قد يوقع في الاستيحاش، ويشبه صدود المتهاجرين المنهي عنه. وأورد الطحاوي في "المشكل" حديث أبي ذر في قصة إسلامه وفيه: "فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وقد صلى هو وصاحبه- فكنت أول من حياه بتحية الإسلام" قال الطحاوي وهذا لا ينافي حديث ابن مسعود في ذم السلام للمعرفة، لاحتمال أن يكون أبو ذر سلم على أبي بكر قبل

(11/21)


ذلك، أو لأن حاجته كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم دون أبي بكر.قلت: والاحتمال الثاني لا يكفي في تخصيص السلام، وأقرب منه أن يكون ذلك قبل تقرير الشرع بتعميم السلام، وقد ساق مسلم قصة إسلام أبي ذر بطولها ولفظه: "وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه ثم صلى فلما قضى صلاته قال أبو ذر: فكنت أول من حياه بتحية السلام فقال: وعليك ورحمة الله" الحديث وفي لفظ قال: "وصلى ركعتين خلف المقام فأتيته فإني لأول الناس حياه بتحية الإسلام فقال: وعليك السلام. من أنت"؟ وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو بكر توجه بعد الطواف إلى منزله ودخل النبي صلى الله عليه وسلم منزله فدخل عليه أبو ذر وهو وحده، ويزيده ما أخرجه مسلم، وقد تقدم للبخاري أيضا في المبعث من وجه آخر عن أبي ذر في قصة إسلامه أنه قام يلتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه ويكره أن يسأل عنه فرآه علي فعرفه أنه غريب، فاستتبعه حتى دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم. حديث أبي أيوب "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه" الحديث تقدم شرحه في كتاب الأدب مستوفى، وهو متعلق بالركن الأول من الترجمة.

(11/22)


10 - باب آيَةِ الْحِجَابِ
6238- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَخَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرًا حَيَاتَهُ وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ وَقَدْ كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا عَرُوسًا فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنْ الطَّعَامِ ثُمَّ خَرَجُوا وَبَقِيَ مِنْهُمْ رَهْطٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالُوا الْمُكْثَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ كَيْ يَخْرُجُوا فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى جَاءَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ ثُمَّ ظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَتَفَرَّقُوا فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَظَنَّ أَنْ قَدْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا فَأُنْزِلَ آيَةُ الْحِجَابِ فَضَرَبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سِتْرًا
6239- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ دَخَلَ الْقَوْمُ فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ مِنْ الْقَوْمِ وَقَعَدَ بَقِيَّةُ الْقَوْمِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ

(11/22)


قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُمْ حِينَ قَامَ وَخَرَجَ وَفِيهِ أَنَّهُ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومُوا"
6240- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْجُبْ نِسَاءَكَ قَالَتْ فَلَمْ يَفْعَلْ وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجْنَ لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ فَقَالَ عَرَفْتُكِ يَا سَوْدَةُ حِرْصًا عَلَى أَنْ يُنْزَلَ الْحِجَابُ قَالَتْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ الْحِجَابِ"
قوله: "باب آية الحجاب" أي الآية التي نزلت في أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتجاب من الرجال. حديث أنس من وجهين عنه. وتقدم شرحه مستوفي في سورة الأحزاب، قوله في أول الطريق "عن ابن شهاب أخبرني أنس بن مالك أنه قال كان" قال الكرماني فيه التفات أو تجريد، و قوله: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرا حياته" أي بقية حياته إلى أن مات، و قوله: "وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب" أي بسبب نزوله، وإطلاق مثل ذلك جائز للإعلام لا للإعجاب. و قوله: "وقد كان أبي بن كعب يسألني عنه" فيه إشارة إلى اختصاصه بمعرفته، لأن أبي بن كعب أكبر منه علما وسنا وقدرا. وقوله في آخره: "فأنزل الله تعالى: {ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية" كذا اتفق عليه الرواة عن معتمر بن سليمان وخالفهم عمرو بن علي الفلاس عن معتمر فقال: "فأنزلت: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} أخرجه الإسماعيلي وأشار إلى شذوذه فقال: "جاء بآية غير الآية التي ذكرها الجماعة". وقوله: "معتمر" هو ابن سليمان التيمي، و قوله: "قال أبي" بفتح الهمزة وكسر الموحدة مخففا والقائل هو معتمر، ووقع في الرواية المتقدمة في سورة الأحزاب "سمعت أبي". قوله: "حدثنا أبو مجلز عن أنس" قد تقدم في "باب الحمد للعاطس" لسليمان التيمي حديث عن أنس بلا واسطة، وقد سمع من أنس عدة أحاديث، وروى عن أصحابه عنه عدة أحاديث، وفيه دلالة على أنه لم يدلس. قوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاري. قوله: "فيه" أي في حديث أنس هذا. قوله: "من الفقه أنه لم يستأذنهم حين قام وخرج، وفيه أنه تهيأ للقيام وهو يريد أن يقوموا" ثبت هذا كله للمستملي وحده هنا وسقط للباقين، وهو أولى فإنه أفرد لذلك ترجمة كما سيأتي بعد اثنين وعشرين بابا. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه كما جزم به أبو نعيم في "المستخرج". قوله: "أخبرنا يعقوب بن إبراهيم" أي ابن سعد الزهري. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان وقد سمع إبراهيم بن سعد الكثير من ابن شهاب ربما أدخل بينه وبينه واسطة كهذا. قوله: "كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجب نساءك" تقدم شرحه مستوفي في كتاب الطهارة، وقوله في آخره: "قد عرفناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب" فأنزل الله عز وجل الحجاب، ويجمع بينه وبين حديث أنس في نزول الحجاب بسبب قصة زينب أن عمر حرص على ذلك حتى قال لسودة ما قال، فاتفقت القصة للذين قعدوا في البيت في زواج زينب فنزلت الآية، فكان كل من الأمرين سببا لنزولها، وقد تقدم تقرير ذلك بزيادة فيه في تفسير سورة الأحزاب، وقد سبق إلى الجمع بذلك القرطبي: فقال: يحمل على أن عمر تكرر منه هذا القول قبل الحجاب

(11/23)


وبعده، ويحتمل أن بعض الرواة ضم قصة إلى أخرى. قال والأول أولى فإن عمر قامت عنده أنفة من أن يطلع أحد على حرم النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يحجبهن، فلما نزل الحجاب كان قصده أن لا يخرجن أصلا فكان في ذلك مشقة فأذن لهن أن يخرجن لحاجتهن التي لا بد منها. قال عياض: خص أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بستر الوجه والكفين، واختلف في ندبه في حق غيرهن، قالوا: فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا غيرها، قال: ولا يجوز إبراز أشخاصهن وإن كن مستترات إلا فيما دعت الضرورة إليه من الخروج إلى البراز، وقد كن إذا حدثن جلسن للناس من وراء الحجاب وإذا خرجن لحاجة حجبن وسترن انتهى. وفي دعوى وجوب حجب أشخاصهن مطلقا إلا في حاجة البراز نظر، فقد كن يسافرن للحج وغيره ومن ضرورة ذلك الطواف والسعي وفيه بروز أشخاصهن، بل وفي حالة الركوب والنزول لا بد من ذلك، وكذا في خروجهن إلى المسجد النبوي وغيره. "تنبيه": حكى ابن التين عن الداودي أن قصة سودة هذه لا تدخل في باب الحجاب وإنما هي في لباس الجلابيب، وتعقب بأن إرخاء الجلابيب هو الستر عن نظر الغير إليهن وهو من جملة الحجاب.

(11/24)


11 - باب الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ
6241- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَفِظْتُهُ كَمَا أَنَّكَ هَا هُنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ :"لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ".
6242- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ أَوْ بِمَشَاقِصَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعُنَهُ
[الحديث 6242- طرفاه في 6889، 6900]
قوله: "باب الاستئذان من أجل البصر" أي شرع من أجله، لأن المستأذن لو دخل بغير إذن لرأى بعض ما يكره من يدخل إليه أن يطلع عليه، وقد ورد التصريح بذلك فيما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود والترمذي وحسنه من حديث ثوبان رفعه: "لا يحل لامرئ مسلم أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن فإن فعل فقد دخل" أي صار في حكم الداخل، وللأولين من حديث أبي هريرة بسند حسن رفعه: "إذا دخل البصر فلا إذن" وأخرج البخاري أيضا عن عمر من قوله: "من ملأ عينه من قاع بيت قبل أن يؤذن له فقد فسق". قوله: "سفيان" قال الزهري كانت عادة سفيان كثيرا حذف الصيغة فيقول فلان عن فلان، لا يقول حدثنا ولا أخبرنا ولا عن، وقوله: "حفظته كما أنك هاهنا" هو قول سفيان وليس في ذلك تصريح بأنه سمعه من الزهري، لكن قد أخرج مسلم والترمذي الحديث المذكور من طرق عن سفيان فقالوا "عن الزهري" ورواه الحميدي وابن أبي عمر في مسنديهما عن سفيان فقالا "حدثنا الزهري" أخرجه أبو نعيم من طريق الحميدي والإسماعيلي من طريق ابن أبي

(11/24)


عمر، وقوله: "كما أنك هاهنا" أي حفظته حفظا كالمحسوس لا شك فيه. قوله: "عن سهل" في رواية الحميدي "سمعت سهل بن سعد" ويأتي في الديات من رواية الليث عن الزهري أن سهلا أخبره، وقد تقدم بعض هذا في كتاب اللباس ووعدت بشرحه في الديات، وقوله في هذه الرواية: "من جحر في حجر" الأول بضم الجيم وسكون المهملة وهو كل ثقب مستدير في أرض أو حائط، وأصلها مكامن الوحش، والثاني بضم المهملة وفتح الجيم جمع حجرة وهي ناحية البيت. ووقع في رواية الكشميهني: "حجرة" بالإفراد. وقوله: "مدري يحك به" في رواية الكشميهني: "بها" والمدري تذكر وتؤنث. وقوله: "لو أعلم أنك تنتظر" كذا للأكثر بوزن تفتعل، وللكشميهني: "تنظر". و قوله: "من أجل البصر" وقع فيه عند أبي داود بسبب آخر من حديث سعد، كذا عنده مبهم، وهو عند الطبراني عن سعد بن عبادة "جاء رجل فقام على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن مستقبل الباب، فقال له: هكذا عنك، فإنما الاستئذان من أجل النظر" وأخرج أبو داود بسند قوي من حديث ابن عباس "كان الناس ليس لبيوتهم ستور فأمرهم الله بالاستئذان، ثم جاء الله بالخير فلم أر أحدا يعمل بذلك" قال ابن عبد البر: أظنهم اكتفوا بقرع الباب. وله من حديث عبد الله بن بسر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، وذلك أن الدور لم يكن عليها ستور" وقوله في حديث أنس "بمشقص أو مشاقص" بشين معجمة وقاف وصاد مهملة وهو شك من الراوي هل قاله شيخه بالإفراد أو بالجمع، والمشقص بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه: نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض. و قوله: "يختل" بفتح أوله وسكون المعجمة وكسر المثناة أي يطعنه وهو غافل، وسيأتي حكم من أصيبت عينه أو غيرها بسبب ذلك في كتاب الديات وهو مخصوص بمن تعمد النظر، وأما من وقع ذلك منه عن غير قصد فلا حرج عليه، ففي صحيح مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن نظرة الفجأة فقال: اصرف بصرك" وقال لعلي "لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الثانية" واستدل بقوله: "من أجل البصر" على مشروعية القياس والعلل، فإنه دل على أن التحريم والتحليل يتعلق بأشياء متى وجدت في شيء وجب الحكم عليه، فمن أوجب الاستئذان بهذا الحديث وأعرض عن المعنى الذي لأجله شرع لم يعمل بمقتضى الحديث، واستدل به على أن المرء لا يحتاج في دخول منزله إلى الاستئذان لفقد العلة التي شرع لأجلها الاستئذان، نعم لو احتمل أن يتجدد فيه ما يحتاج معه إليه شرع له، ويؤخذ منه أنه يشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم لئلا تكون منكشفة العورة، وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن نافع "كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن" ومن طريق علقمة "جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تريد أن تراها" ومن طريق مسلم بن نذير بالنون مصغر "سأل رجل حذيفة: أستأذن على أمي؟ قال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره" ومن طريق موسى بن طلحة "دخلت مع أبي على أمي فدخل واتبعته فدفع في صدري وقال: تدخل بغير إذن "؟ ومن طريق عطاء "سألت ابن عباس: أستأذن على أختي؟ قال: نعم. قلت: إنها في حجري، قال: أتحب أن تراها عريانة "؟ وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة. وذكر الأصوليون هذا الحديث مثالا للتنصيص على العلة التي هي أحد أركان القياس.

(11/25)


12 - باب زِنَا الْجَوَارِحِ دُونَ الْفَرْجِ

(11/25)


6343- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ ح حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ"
[الحديث 6243- طرفه في 6612]
قوله: "باب زنا الجوارح دون الفرج" أي أن الزنا لا يختص إطلاقه بالفرج، بل يطلق على ما دون الفرج من نظر وغيره. وفيه إشارة إلى حكمة النهي عن رؤية ما في البيت بغير استئذان لتظهر مناسبته الذي قبله. قوله: "عن ابن طاوس" هو عبد الله، وفي مسند الحميدي عن سفيان "حدثنا عبد الله بن طاوس" وأخرجه أبو نعيم من طريقه. قوله: "لم أر شيئا أشبه باللمم من قول أبي هريرة" هكذا اقتصر البخاري على هذا القدر من طريق سفيان ثم عطف عليه رواية معمر عن ابن طاوس فساقه مرفوعا بتمامه، وكذا صنع الإسماعيلي فأخرجه من طريق ابن أبي عمر عن سفيان ثم عطف عليه رواية معمر، وهذا يوهم أن سياقهما سواء، وليس كذلك فقد أخرجه أبو نعيم من رواية بشر بن موسى عن الحميدي ولفظه: "سئل ابن عباس عن اللمم فقال: لم أر شيئا أشبه به من قول أبي هريرة: كتب على ابن آدم حظه من الزنا" وساق الحديث موقوفا، فعرف من هذا أن رواية سفيان موقوفة ورواية معمر مرفوعة، ومحمود شيخه فيه هو ابن غيلان، وقد أفرده عنه في كتاب القدر وعلقه فيه لورقاء عن ابن طاوس فلم يذكر فيه ابن عباس بين طاوس وأبي هريرة، فكأن طاوسا سمعه من أبي هريرة بعد ذكر ابن عباس له ذلك، وسيأتي شرحه مستوفي في كتاب القدر إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: سمي النظر والنطق زنا لأنه يدعو إلى الزنا الحقيقي، ولذلك قال: "والفرج يصدق ذلك ويكذبه" قال ابن بطال: استدل أشهب بقوله: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" على أن القاذف إذا قال زنت يدك لا يحد، وخالفه ابن القاسم فقال يحد، وهو قول للشافعي وخالفه بعض أصحابه، واحتج للشافعي فيما ذكر الخطابي بأن الأفعال تضاف للأيدي لقوله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} وليس المراد في الآيتين جناية الأيدي فقط بل جميع الجنايات اتفاقا فكأنه إذا قال زنت يدك وصف ذاته بالزنا لأن الزنا لا يتبعض ا ه. وفي التعليل الأخير نظر، والمشهور عند الشافعية أنه ليس صريحا.

(11/26)


باب التسليم و الا ستئذان ثلاثا
...
13 - باب التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِئْذَانِ ثَلاَثًا
6244- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاَثًا وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا"
6245- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ "عَنْ أَبِي

(11/26)


سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ قُلْتُ اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ" فَقَالَ وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَاللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ بِهَذَا"
قوله: "باب التسليم والاستئذان ثلاثا" أي سواء اجتمعا أو انفردا، وحديث أنس شاهد للأول وحديث أبي موسى شاهد للثاني، وقد ورد في بعض طرقه الجمع بينهما، واختلف هل السلام شرط في الاستئذان أو لا؟ فقال المازري: صلاة الاستئذان أن يقول: السلام عليكم أأدخل؟ ثم هو بالخيار أن يسمي نفسه أو يقتصر على التسليم، كذا قال، وسيأتي ما يعكر عليه في "باب إذا قال من ذا؟ فقال: أنا". قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن منصور وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث وعبد الله بن المثنى أي ابن عبد الله ابن أنس تقدم القول فيه في "باب من أعاد الحديث ثلاثا" في كتاب العلم، وقدم هنا السلام على الكلام وهناك بالعكس، وتقدم شرحه، وقول الإسماعيلي: إن السلام إنما يشرع تكراره إذا اقترن بالاستئذان، والتعقب عليه، وأن السلام وحده قد يشرع تكراره إذا كان الجمع كثيرا ولم يسمع بعضهم وقصد الاستيعاب، وبهذا جزم النووي في معنى حديث أنس، وكذا لو سلم وظن أنه لم يسمع فتسن الإعادة فيعيد مرة ثانية وثالثة ولا يزيد على الثالثة. وقال ابن بطال: هذه الصيغة تقتضي العموم ولكن المراد الخصوص وهو غالب أحواله، كذا قال، وقد تقدم من كلام الكرماني مثله وفيه نظر، و "كان" بمجردها لا تقتضي مداومة ولا تكثيرا، لكن ذكر الفعل المضارع بعدها يشعر بالتكرار. واختلف فيمن سلم ثلاثا فظن أنه لم يسمع، فعن مالك له أن يزيد حتى يتحقق، وذهب الجمهور وبعض المالكية إلى أنه لا يزيد اتباعا لظاهر الخبر. وقال المازري: اختلفوا فيما إذا ظن أنه لم يسمع هل يزيد على الثلاث؟ فقيل: لا، وقيل: نعم. وقيل: إذا كان الاستئذان بلفظ السلام لم يزد وإن كان بغير لفظ السلام زاد. قوله: "حدثنا يزيد بن خصيفة" بخاء معجمة وصاد مهملة وفاء مصغر، ووقع لمسلم عن عمرو الناقد "حدثنا سفيان حدثني والله يزيد بن خصيفة" وشيخه بسر بضم الموحدة وسكون المهملة، وقد صرح بسماعه من أبي سعيد في الرواية الثانية المعلقة. قوله: "كنت في مجلس من مجالس الأنصار" في رواية مسلم عن عمرو الناقد عن سفيان بسنده هذا إلى أبي سعيد قال: "كنت جالسا بالمدينة" وفي رواية الحميدي عن سفيان "إني لفي حلقة فيها أبي بن كعب" أخرجه الإسماعيلي. قوله: "إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور" في رواية عمرو الناقد "فأتانا أبو موسى فزعا أو مذعورا" وزاد: "قلنا ما شأنك؟ فقال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه فأتيت بابه". قوله: "فقال استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت" في رواية مسلم: "فسلمت على بابه ثلاثا فلم يردوا علي فرجعت" وتقدم في البيوع من طريق عبيد بن عمير "أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب فلم

(11/27)


يؤذن له وكأنه كان مشغولا، فرجع أبو موسى، ففزع عمر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له. قيل إنه رجع" وفي رواية بكير بن الأشج عن بسر عند مسلم: "استأذنت على عمر أمس ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت، ثم جئت اليوم فدخلت عليه فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثا ثم انصرفت، قال قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك؟ قال استأذنت كما سمعت" وله من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد "أن أبا موسى أتى باب عمر فاستأذن، فقال عمر واحدة ثم استأذن فقال عمر ثنتان ثم استأذن فقال عمر ثلاث ثم انصرف فاتبعه فرده" وله من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة "جاء أبو موسى إلى عمر فقال: السلام عليكم هذا عبد الله بن قيس. فلم يأذن له، فقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري، ثم انصرف. فقال: ردوه علي" وظاهر هذين السياقين التغاير، فإن الأول يقتضي أنه لم يرجع إلى عمر إلا في اليوم الثاني، وفي الثاني أنه أرسل إليه في الحال. وقد وقع في رواية لمالك في الموطأ "فأرسل في أثره" ويجمع بينهما بأن عمر لما فرغ من الشغل الذي كان فيه تذكره فسأل عنه فأخبر برجوعه فأرسل إليه فلم يجده الرسول في ذلك الوقت وجاء هو إلى عمر في اليوم الثاني. قوله: "فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي" في رواية عبيد بن حنين عن أبي موسى عند البخاري في الأدب المفرد "فقال: يا عبد الله اشتد عليك أن تحتبس على بابي؟ أعلم أن الناس كذلك يشتد عليهم أن يحتبسوا على بابك، فقلت بل استأذنت إلخ" وفي هذه الزيادة دلالة على أن عمر أراد تأديبه لما بلغه أنه قد يحتبس على الناس في حال إمرته، وقد كان عمر استخلفه على الكوفة، مع ما كان عمر فيه من الشغل. قوله: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" وقع في رواية عبيد بن عمير "كنا نؤمر بذلك" وفي رواية عبيد بن حنين عن أبي موسى "فقال عمر ممن سمعت هذا؟ قلت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أبي نضرة "إن هذا شيء حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقال والله لتقيمن عليه بينة" زاد مسلم: "وإلا أوجعتك". وفي رواية بكير بن الأشج "فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا" وفي رواية عبيد بن عمير لتأتيني على ذلك بالبينة. وفي رواية أبي نضرة "وإلا جعلتك عظة". قوله: "أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية عبيد بن عمير "فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم" وفي رواية أبي نضرة فقال: "ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الاستئذان ثلاث؟ قال فجعلوا يضحكون، فقلت أتاكم أخوكم وقد أفزع فتضحكون. قوله: "فقال أبي" هو ابن كعب وهو في رواية مسلم كذلك. قوله: "لا يقوم معي إلا أصغر القوم" في رواية بكير بن الأشج "فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا، قم يا أبا سعيد". قوله: "فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك" في رواية مسلم: "فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت" وفي رواية أبي نضرة "فقال أبو سعيد: انطلق، وأنا شريكك في هذه العقوبة" وفي رواية بكير ابن الأشج "فقمت حتى أتيت عمر فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا" واتفق الرواة على أن الذي شهد لأبي موسى عند عمر أبو سعيد، إلا ما عند البخاري في "الأدب المفرد" من طريق عبيد ابن حنين فإن فيه: "فقام معي أبو سعيد الخدري أو أبو مسعود إلى عمر" هكذا بالشك. وفي رواية لمسلم من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة في هذه القصة "فقال عمر إن وجد بينه تجدوه عند المنبر عشية، وإن لم يجد بينة فلن تجدوه، فلما أن جاء بالعشي وجده قال: يا أبا موسى ما تقول، أقد وجدت؟ قال: نعم أبي بن كعب، قال: عدل. قال: يا أبا الطفيل - وفي لفظ له يا أبا المنذر - ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك

(11/28)


يا ابن الخطاب، فلا تكون عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله، أنا سمعت شيئا فأحببت أن أثبت" هكذا وقع في هذه الطريق، وطلحة بن يحيى فيه ضعف، ورواية الأكثر أولى أن تكون محفوظة، ويمكن الجمع بأن أبي بن كعب جاء بعد أن شهد أبو سعيد. وفي رواية عبيد بن حنين التي أشرت إليها في "الأدب المفرد" زيادة مفيدة وهي أن أبا سعيد أو أبا مسعود قال لعمر "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو يريد سعد بن عبادة حتى أتاه فسلم فلم يؤذن له ثم سلم الثانية فلم يؤذن له ثم سلم الثالثة فلم يؤذن له فقال: قضينا ما علينا ثم رجع، فأذن له سعد" الحديث، فثبت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ومن فعله. وقصة سعد بن عبادة هذه أخرجها أبو داود من حديث قيس بن سعد ابن عبادة مطولة بمعناه، وأحمد من طريق ثابت عن أنس أو غيره كذا فيه، وأخرجه البزار عن أنس بغير تردد، وأخرجه الطبراني من حديث أم طارق مولاة سعد، واتفق الرواة على أن أبا سعيد حدث بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحكى قصة أبي موسى عنه إلا ما أخرجه مالك في الموطأ عن الثقة عن بكير بن الأشج عن بسر عن أبي سعيد عن أبي موسى بالحديث مختصرا دون القصة، وقد أخرجه مسلم من طريق عمرو بن الحارث عن بكير بطوله وصرح في روايته بسماع أبي سعيد له من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا وقع في رواية أخرى عنده "فقال أبو موسى إن كان سمع ذلك منكم أحد فليقم معي، فقالوا لأبي سعيد قم معه" وأغرب الداودي فقال: روى أبو سعيد حديث الاستئذان عن أبي موسى وهو يشهد له عند عمر فأدى إلى عمر ما قال أهل المجلس، وكأنه نسي أسماءهم بعد ذلك فحدث به عن أبي موسى وحده لكونه صاحب القصة. وتعقبه ابن التين بأنه مخالف لما في رواية الصحيح لأنه قال: "فأخبرت عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله". قلت: وليس ذلك صريحا في رد ما قال الداودي. وإنما المعتمد في التصريح بذلك رواية عمرو بن الحارث وهي من الوجه الذي أخرجه منه مالك، والتحقيق أن أبا سعيد حكى قصة أبي موسى عنه بعد وقوعها بدهر طويل، لأن الذين رووها عنه لم يدركوها، ومن جملة قصة أبي موسى الحديث المذكور، فكأن الراوي لما اختصرها واقتصر على المرفوع خرج منها أن أبا سعيد ذكر الحديث المذكور عن أبي موسى وغفل عما في آخرها من رواية أبي سعيد المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، وهذا من آفات الاختصار، فينبغي لمن اقتصر على بعض الحديث أن يتفقد مثل هذا وإلا وقع في الخطأ وهو كحذف ما للمتن به تعلق، وتختلف الدلالة بحذفه؛ وقد اشتد إنكار ابن عبد البر على من زعم أن هذا الحديث إنما رواه أبو سعيد عن أبي موسى وقال إن الذي وقع في الموطأ لهما هو من النقلة لاختلاط الحديث عليهم. وقال في موضع آخر: ليس المراد أن أبا سعيد روى هذا الحديث عن أبي موسى، وإنما المراد عن أبي سعيد أن قصة أبي موسى والله أعلم. وممن وافق أبا موسى على رواية الحديث المرفوع جندب بن عبد الله أخرجه الطبراني عنه بلفظ: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع". قوله: "وقال ابن المبارك" هو عبد الله، وابن عيينة هو سفيان المذكور في الإسناد الأول، وأراد بهذا التعليق بيان سماع بسر له من أبي سعيد، وقد وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق الحسن بن سفيان حدثنا حبان ابن موسى حدثنا عبد الله بن المبارك، وكذا وقع التصريح به عند مسلم عن عمرو الناقد، وأخرجه الحميدي عن سفيان. حدثنا يزيد بن خصيفة سمعت بسر بن سعيد يقول حدثني أبو سعيد" وقد استشكل ابن العربي إنكار عمر على أبي موسى حديثه المذكور مع كونه وقع له مثل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث ابن عباس الطويل في هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في المشربة، فإن فيه أن عمر استأذن مرة بعد مرة فلما لم يؤذن له في الثالثة رجع حتى جاءه الإذن

(11/29)


وذلك بين في سياق البخاري، قال: والجواب عن ذلك أنه لم يقض فيه بعلمه، أو لعله نسى ما كان وقع له. ويؤيده قوله: "شغلني الصفق بالأسواق". قلت: والصورة التي وقعت لعمر ليست مطابقة لما رواه أبو موسى، بل استأذن في كل مرة فلم يؤذن له فرجع فلما رجع في الثالثة استدعى فأذن له، ولفظ البخاري الذي أحال عليه ظاهر فيما قلته، وقد استوفيت طرقه عند شرح الحديث في أواخر النكاح، وليس فيه ما ادعاه. وتعلق بقصة عمر من زعم أنه كان لا يقبل خبر الواحد، ولا حجة فيه لأنه قبل خبر أبي سعيد المطابق لحديث أبي موسى ولا يخرج بذلك عن كونه خبر واحد، واستدل به من ادعى أن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضم إليه غيره كما في الشهادة، قال ابن بطال: وهو خطأ من قائله وجهل بمذهب عمر، فقد جاء في بعض طرقه أن عمر قال لأبي موسى "أما إني لم أتهمك ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قلت: وهذه الزيادة في الموطأ عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم أن أبا موسى...فذكر القصة وفي آخره: "فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية عبيد بن حنين التي أشرت إليها آنفا "فقال عمر لأبي موسى والله إن كنت لأمينا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أحببت أن أستثبت" ونحوه في رواية أبي بردة حين قال أبي بن كعب لعمر "لا تكن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سبحان الله، إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت" قال ابن بطال: فيؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه من السهو وغيره، وقد قبل عمر خبر العدل الواحد بمفرده في توريث المرأة من دية زوجها وأخذ الجزية من المجوس إلى غير ذلك، لكنه كان يستثبت إذا وقع له ما يقتضي ذلك. وقال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون حضر عنده من قرب عهده بالإسلام فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الرغبة والرهبة طلبا للمخرج مما يدخل فيه، فأراد أن يعلمهم أن من فعل شيئا من ذلك ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج. وادعى بعضهم أن عمر لم يعرف أبا موسى، قال ابن عبد البر: وهو قول خرج بغير رؤية من قائله ولا تدبر، فإن منزلة أبي موسى عند عمر مشهورة. وقال ابن العربي: اختلف في طلب عمر من أبي موسى البينة على عشرة أقوال فذكرها، وغالبها متداخل، ولا تزيد على ما قدمته. واستدل بالخبر المرفوع على أنه لا تجوز الزيادة في الاستئذان على الثلاث، قال ابن عبد البر: فذهب أكثر أهل العلم إلى ذلك وقال بعضهم: إذا لم يسمع فلا بأس أن يزيد. وروى سحنون عن ابن وهب عن مالك: لا أحب أن يزيد على الثلاث إلا من علم أنه لم يسمع. قلت: وهذا هو الأصح عند الشافعية. قال ابن عبد البر: وقيل تجوز الزيادة مطلقا بناء على أن الأمر بالرجوع بعد الثلاث للإباحة والتخفيف عن المستأذن، فمن استأذن أكثر فلا حرج عليه قال: الاستئذان أن يقول السلام عليكم أأدخل؟ كذا قال، ولا يتعين هذا اللفظ. وحكى ابن العربي إن كان بلفظ الاستئذان لا يعيد وإن كان بلفظ آخر أعاد، قال: والأصح لا يعيد، وقد تقدم ما حكاه المازري في ذلك. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن أبي العالية قال: أتيت أبا سعيد فسلمت فلم يؤذن لي ثم سلمت فلم يؤذن لي فتنحيت ناحية فخرج علي غلام فقال: ادخل، فدخلت فقال لي أبو سعيد: أما إنك لو زدت -يعني على الثلاث- لم يؤذن لك. واختلف في حكمة الثلاث فروى ابن أبي شيبة من قول علي بن أبي طالب: الأولى إعلام، والثانية مؤامرة، والثالثة عزمة إما أن يؤذن له وإما أن يرد. قلت: ويؤخذ من صنيع أبي موسى حيث ذكر اسمه أولا وكنيته ثانيا ونسبته ثالثا أن الأولى هي الأصل والثانية إذا جوز أن يكون التبس على من استأذن عليه والثالثة إذا

(11/30)


غلب على ظنه أنه عرفه، قال ابن عبد البر: وذهب بعضهم إلى أن أصل الثلاث في الاستئذان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} قال: وهذا غير معروف في تفسيرها. وإنما أطبق الجمهور على أن المراد بالمرات الثلاث الأوقات. قلت: وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حبان قال: "بلغنا أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا طعاما، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماء: يا رسول الله ما أقبح هذا، إنه ليدخل على المرأة وزوجها غلامهما وهما في ثوب واحد بغير إذن، فنزلت" وأخرج أبو داود وابن أبي حاتم بسند قوي من حديث ابن عباس أنه سئل عن الاستئذان في العورات الثلاث فقال: إن الله ستير يحب الستر، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده وهو على أهله فأمروا أن يستأذنوا في العورات الثلاث. ثم بسط الله الرزق فاتخذوا الستور والحجال فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم الله به مما أمروا به. ومن وجه آخر صحيح عن ابن عباس: لم يعمل بها أكثر الناس، وإني لآمر جاريتي أن تستأذن علي. وفي الحديث أيضا أن لصاحب المنزل إذا سمع الاستئذان أن لا يأذن سواء سلم مرة أم مرتين أم ثلاثا إذا كان في شغل له ديني أو دنيوي يتعذر بترك الإذن معه للمستأذن. وفيه أن العالم المتبحر قد يخفى عليه من العلم ما يعلمه من هو دونه ولا يقدح ذلك في وصفه بالعلم والتبحر فيه. قال ابن بطال: وإذا جاز ذلك على عمر فما ظنك بمن هو دونه. وفيه أن لمن تحقق براءة الشخص مما يخشى منه وأنه لا يناله بسبب ذلك مكروه أن يمازحه ولو كان قبل إعلامه بما يطمئن به خاطره مما هو فيه، لكن بشرط أن لا يطول الفصل لئلا يكون سببا في إدامة تأذي المسلمين بالهم الذي وقع له كما وقع للأنصار مع أبي موسى، وأما إنكار أبي سعيد عليهم فإنه اختار الأولى وهو المبادرة إلى إزالة ما وقع فيه قبل التشاغل بالممازحة.

(11/31)


14 - باب إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَأْذِنُ
قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هُوَ إِذْنُهُ"
6246- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ و حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ أَخْبَرَنَا مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ أَبَا هِرٍّ الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأُذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا"
قوله: "باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن"؟ يعني أو يكتفي بقرينة الطلب. قوله: "وقال سعيد عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هو إذنه" كذا للأكثر ووقع للكشميهني: "وقال شعبة" والأول هو المحفوظ. وقد أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" وأبو داود من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة وأخرجه البيهقي من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن ابن أبي عروبة، ولفظ البخاري "إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فهو إذنه" ولفظ أبي داود مثله وزاد: "إلى طعام" قال أبو داود لم يسمع قتادة من أبي رافع، كذا في اللؤلؤي عن أبي داود ولفظه في رواية أبي الحسن بن العبد يقال لم يسمع قتادة من أبي رافع شيئا. كذا قال، وقد ثبت سماعه منه في الحديث الذي سيأتي في البخاري في كتاب التوحيد من رواية سليمان التيمي عن قتادة أن أبا

(11/31)


رافع حدثه، وللحديث مع ذلك متابع أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ: "رسول الرجل إلى الرجل إذنه" وأخرج له شاهدا موقوفا على ابن مسعود قال: "إذا دعي الرجل فهو إذنه" وأخرجه ابن أبي شيبة مرفوعا.
واعتمد المنذري على كلام أبي داود فقال: أخرجه البخاري تعليقا لأجل الانقطاع، كذا قال، ولو كان عنده منقطعا لعلقه بصيغة التمريض كما هو الأغلب من صنيعه، وهو غالبا يجزم إذا صح السند إلى من علق عنه كما قال في الزكاة "وقال طاوس قال معاذ" فذكر أثرا وطاوس لم يدرك معاذا. وكذا إذا كان فوق من علق عنه من ليس على شرطه كما قال في الطهارة "وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده" وحيث وقع فيما طواه من ليس على شرطه مرضه كما قال في النكاح "ويذكر عن معاوية بن حيدة"، فذكر حديثا، ومعاوية هو جد بهز بن حكيم، وقد أوضحت ذلك في المقدمة. ثم أورد المصنف طرفا من حديث مجاهد عن أبي هريرة قال: "دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد لبنا في قدح فقال: أبا هر، الحق أهل الصفة فادعهم إلي. قال: فأتيهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فدخلوا" أقتصر منه على هذا القدر لأنه الذي أحتاج إليه هنا، وساقه في الرقاق بتمامه كما سيأتي، وظاهره يعارض الحديث الأول ومن ثم لم يجزم بالحكم. وجمع المهلب وغيره بتنزيل ذلك على اختلاف حالين: إن طال العهد بين الطلب والمجيء احتاج إلى استئناف الاستئذان، وكذا إن لم يطل لكن كان المستدعي في مكان يحتاج معه إلى الإذن في العادة، وإلا لم يحتج إلى استئناف إذن. وقال ابن التين: لعل الأول فيمن علم أنه ليس عنده من يستأذن لأجله، والثاني بخلافه. قال: والاستئذان على كل حال أحوط. وقال غيره: إن حضر صحبة الرسول أغناه استئذان الرسول, ويكفيه سلام الملاقاة، وإن تأخر عن الرسول احتاج إلى الاستئذان. وبهذا جمع الطحاوي، واحتج بقوله في الحديث الثاني "فأقبلوا فاستأذنوا" فدل على أن أبا هريرة لم يكن معهم وإلا لقال فأقبلنا، كذا قال.

(11/32)


15 - باب التَّسْلِيمِ عَلَى الصِّبْيَانِ
6247- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَيَّارٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ"
قوله: "باب التسليم على الصبيان" سقط لفظ: "باب" لأبي ذر وكأنه ترجم بذلك للرد على من قال لا يشرع لأن الرد فرض وليس الصبي من أهل الفرض. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أشعث قال: كان الحسن لا يرى التسليم على الصبيان، وعن ابن سيرين أنه كان يسلم على الصبيان ولا يسمعهم. قوله: "عن سيار" بفتح المهملة وتشديد التحتانية هو أبو الحكم مشهور باسمه وكنيته معا فيجيء غالبا هكذا عن سيار أبي الحكم، وهو عنزي بفتح المهملة والنون بعدها زاي واسطي من طبقة الأعمش، وتقدمت وفاته على وفاة شيخه ثابت البناني بسنة وقيل أكثر، وليس له في الصحيحين عن ثابت إلا هذا الحديث. وقال البزار: لم يسند سيار عن ثابت غيره. قلت: ورواية شعبة عنه من رواية الأقران، وقد حدث شعبة عن ثابت نفسه بعدة أحاديث، وكأنه لم يسمع هذا منه فأدخل بينهما واسطة. وقد روى شعبة أيضا عن آخر اسمه سيار وهو ابن سلامة أبو المنهال وليس هو المراد هنا، ولم نقف له على رواية عن ثابت. وأخرج النسائي حديث الباب من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت

(11/32)


بأتم من سياقه ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار فيسلم على صبيانهما ويمسح على رءوسهم ويدعو لهم" وهو مشعر بوقوع ذلك منه غير مرة، بخلاف سياق الباب حيث قال: "مر على صبيان فسلم عليهم" فإنها تدل على أنها واقعة حال، ولم أقف على أسماء الصبيان المذكورين، وأخرجه مسلم والنسائي وأبو داود من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت بلفظ: "غلمان" بدل صبيان، ووقع لابن السني وأبي نعيم في "عمل يوم وليلة" من طريق عثمان بن مطر عن ثابت بلفظ: "فقال السلام عليكم يا صبيان" وعثمان واه. ولأبي داود من طريق حميد عن أنس "انتهى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام في الغلمان فسلم علينا، فأرسلني برسالة" الحديث، وسيأتي في "باب حفظ السر" وللبخاري في "الأدب المفرد" نحوه من هذا الوجه ولفظه: "ونحن صبيان فسلم علينا، وأرسلني في حاجة، وجلس في الطريق ينتظرني حتى رجعت" قال ابن بطال: في السلام على الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة. وفيه طرح الأكابر رداء الكبر وسلوك التواضع ولين الجانب. قال أبو سعيد المتولي في "التتمة" من سلم على صبي لم يجب عليه الرد لأن الصبي ليس من أهل الفرض، وينبغي لوليه أن يأمره بالرد ليتمرن على ذلك، ولو سلم على جمع فيهم صبي فرد الصبي دونهم لم يسقط عنهم الفرض، وكذا قال شيخه القاضي حسين، ورده المستظهري. وقال النووي: الأصح لا يجزئ، ولو ابتدأ الصبي بالسلام وجب على البالغ الرد على الصحيح. قلت: ويستثنى من السلام على الصبي ما لو كان وضيئا وخشي من السلام عليه الافتتان فلا يشرع ولا سيما إن كان مراهقا منفردا.

(11/33)


باب تسليم الرجال على النساء , و النساء على الرجال
...
16 - باب تَسْلِيمِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ
6248- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قَالَ "كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قُلْتُ وَلِمَ قَالَ كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ وَمَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلاَّ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
6249- حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ قَالَتْ قُلْتُ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَرَى مَا لاَ نَرَى تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
تَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَقَالَ يُونُسُ وَالنُّعْمَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ "وَبَرَكَاتُهُ"
قوله: "باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال" أشار بهذه الترجمة إلى رد ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير: بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء والنساء على الرجال. وهو مقطوع أو معضل. والمراد بجوازه أن يكون عند أمن الفتنة. وذكر في الباب حديثين يؤخذ الجواز منهما. وورد فيه حديث ليس على شرطه، وهو حديث أسماء بنت يزيد "مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا" حسنه الترمذي وليس على شرط البخاري فاكتفى بما هو على شرطه. وله شاهد من حديث جابر عند أحمد. وقال الحليمي: كان

(11/33)


النبي صلى الله عليه وسلم للعصمة مأمونا من الفتنة، فمن وثق من نفسه بالسلامة فليسلم وإلا فالصمت أسلم. وأخرج أبو نعيم في "عمل يوم وليلة" من حديث واثلة مرفوعا: "يسلم الرجال على النساء ولا تسلم النساء على الرجال" وسنده واه ومن حديث عمرو بن حريث مثله موقوفا عليه وسنده جيد، وثبت في مسلم حديث أم هانئ "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فسلمت عليه". قوله: "ابن أبي حازم" هو عبد العزيز، واسم أبي حازم سلمة بن دينار. قوله: "كنا نفرح يوم الجمعة" في رواية الكشميهني بيوم بزيادة موحدة في أوله، وتقدم في الجمعة من وجه آخر عن أبي حازم بلفظ: "كنا نتمنى يوم الجمعة" وذكر سبب الحديث ثم قال في آخره: "كنا نفرح بذلك". قوله: "قلت لسهل ولم"؟ بكسر اللام للاستفهام، والقائل هو أبو حازم راوي الحديث والمجيب هو سهل. قوله: "كانت لنا عجوز" في الجمعة "امرأة" ولم أقف على اسمها. قوله: "ترسل إلى بضاعة" بضم الموحدة على المشهور وحكى كسرها وبتخفيف المعجمة وبالعين المهملة وذكره بعضهم بالصاد المهملة. قوله: "قال ابن مسلمة نخل بالمدينة" القائل هو عبد الله بن مسلمة شيخ البخاري فيه وهو القعنبي، وفسر بضاعة بأنها نخل بالمدينة، والمراد بالنخل البستان، ولذلك كان يؤتي منها بالسلق، وقد تقدم في كتاب الجمعة أنه كانت مزرعة للمرأة المذكورة، وفسرها غيره بأنها دور بني ساعدة، وبها بئر مشهورة وبها مال من أموال المدينة، كذا قال عياض ومراده بالمال البستان وقال الإسماعيلي: في هذا الحديث بيان أن بئر بضاعة بئر بستان، فيدل على أن قول أبي سعيد في حديثه يعني الذي أخرجه أصحاب السنن أنها كانت تطرح فيها خرق الحيض وغيرها أنها كانت تطرح في البستان فيجريها المطر ونحوه إلى البئر. قلت: وذكر أبو داود "السنن" أنه رأى بئر بضاعة وزرعها ورأى ماءها وبسط ذلك في كتاب الطهارة من سننه، وادعى الطحاوي أنها كانت سيحا وروى ذلك عن الواقدي، وليس هذا موضع استيعاب ذلك. قوله: "في قدر" في رواية الكشميهني في القدر "وتكركر" أي تطحن كما تقدم في الجمعة، قال الخطابي: الكركرة الطحن والجش. وأصله الكر، وضوعف لتكرار عود الرحى في الطحن مرة أخرى، وقد تكون الكركرة بمعنى الصوت كالجرجرة، والكركرة أيضا شدة الصوت للضحك حتى يفحش وهو فوق القرقرة. قوله: "حبات من شعير" بين في الرواية التي في الجمعة أنها قبضة، وقد تقدمت بقية شرحه هناك. قوله: "ابن مقاتل" هو محمد وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام" تقدم شرحه في المناقب، وحكى ابن التين أن الداودي اعترض فقال: لا يقال للملائكة رجال، ولكن الله ذكرهم بالتذكير. والجواب أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم على صورة الرجل، كما تقدم في بدء الوحي وقال ابن بطال عن المهلب: سلام الرجال على النساء والنساء على الرجال جائز إذا أمنت الفتنة، وفرق المالكية بين الشابة والعجوز سدا للذريعة، ومنع منه ربيعة مطلقا. وقال الكوفيون: لا يشرع للنساء ابتداء السلام على الرجال لأنهن منعن من الأذان والإقامة والجهر بالقراءة، قالوا ويستثنى المحرم فيجوز لها السلام على محرمها. قال المهلب: وحجة مالك حديث سهل في الباب، فإن الرجال الذين كانوا يزورونها وتطعمهم لم يكونوا من محارمها انتهى. وقال المتولي: إن كان للرجل زوجة أو محرم أو أمة فكالرجل مع الرجل، وإن كانت أجنبية نظر: إن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لم يشرع السلام لا ابتداء ولا جوابا، فلو ابتدأ أحدهما كره للآخر الرد، وإن كانت عجوزا لا يفتتن بها جاز. وحاصل الفرق بين هذا وبين المالكية التفصيل في الشابة بين الجمال وعدمه، فإن الجمال مظنة الافتتان,

(11/34)


بخلاف مطلق الشابة. فلو اجتمع في المجلس رجال ونساء جاز السلام من الجانبين عند أمن الفتنة. قوله: "تابعه شعيب. وقال يونس والنعمان عن الزهري: وبركاته" أما متابعة شعيب فوصلها المؤلف في الرقاق، وأما زيادة يونس وهو ابن يزيد فتقدم في الحديث بتمامه موصولا في كتاب المناقب، وأما متابعة النعمان وهو ابن رشد فوصلها الطبراني في الكبير، ووقعت لنا بعلو في "جزء هلال الحفار" قال الإسماعيلي: قد أخرجنا فيه من حديث ابن المبارك "وبركاته" وكان ساقه من طريق أبي إبراهيم البناني ومن طريق حبان بن موسى كلاهما عن ابن المبارك وكذا قال عقيل وعبيد الله بن أبي زياد عن الزهري.

(11/35)


17 - باب إِذَا قَالَ مَنْ ذَا فَقَالَ أَنَا
6250- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ "قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي فَدَقَقْتُ الْبَابَ فَقَالَ مَنْ ذَا فَقُلْتُ أَنَا فَقَالَ أَنَا أَنَا كَأَنَّهُ كَرِهَهَا"
قوله: "باب إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر، وكأنه لم يجزم بالحكم لأن الخبر ليس صريحا في الكراهة. قوله: "عن محمد بن المنكدر" في رواية الإسماعيلي: "عن أحمد بن محمد بن منصور وغيره عن علي بن الجعد شيخ البخاري فيه عن شعبة أخبرني محمد بن المنكدر عن جابر". قوله: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي" تقدم بيانه في كتاب البيوع من وجه آخر مطولا. قوله: "فدققت" بقافين للأكثر، وللمستملي والسرخسي "فدفعت" بفاء وعين مهملة. وفي رواية الإسماعيلي: "فضربت الباب" وهي تؤيد رواية فدققت بالقافين، وله من وجه آخر وهي عند مسلم: "استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم" ولمسلم في أخرى "دعوت النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "فقلت: أنا. فقال: أنا أنا. كأنه كرهها" وفي رواية لمسلم: "فخرج وهو يقول أنا أنا" وفي أخرى "كأنه كره ذلك" ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة "كره ذلك" بالجزم. قال المهلب: إنما كره قول أنا لأنه ليس فيه بيان إلا أن كان المستأذن ممن يعرف المستأذن عليه صوته ولا يلتبس بغيره، والغالب الالتباس. وقيل إنما كره ذلك لأن جابرا لم يستأذن بلفظ السلام، وفيه نظر لأنه ليس في سياق حديث جابر أنه طلب الدخول، وإنما جاء في حاجته فدق الباب ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم بمجيئه، فلذلك خرج له. وقال الداودي إنما كرهه لأنه أجابه بغير ما سأله عنه، لأنه لما ضرب الباب عرف أن ثم ضاربا، فلما قال أنا كأنه أعلمه أن ثم ضاربا فلم يزده على ما عرف من ضرب الباب، قال: وكان هذا قبل نزول آية الاستئذان. قلت: وفيه نظر لأنه لا تنافي بين القصة وبين ما دلت عليه الآية، ولعله رأى أن الاستئذان ينوب عن ضرب الباب وفيه نظر لأن الداخل قد يكون لا يسمع الصوت بمجرده فيحتاج إلى ضرب الباب ليبلغه صوت الدق فيقرب أو يخرج فيستأذن عليه حينئذ، وكلامه الأول سبقه إليه الخطابي فقال: قوله: "أنا" لا يتضمن الجواب ولا يفيد العلم بما استعمله وكان حق الجواب أن يقول أنا جابر ليقع تعريف الاسم الذي وقعت المسألة عنه. وقد أخرج المصنف في "الأدب المفرد" وصححه الحاكم من حديث بريدة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المسجد وأبو موسى يقرأ. قال فجئت فقال: من هذا؟ قلت: أنا بريدة" وتقدم حديث أم هانئ "جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أنا أم هانئ" الحديث في صلاة الضحى، قال

(11/35)


النووي: إذا لم يقع التعريف إلا بأن يكني المرء نفسه لم يكره ذلك، وكذا لا بأس أن يقول: أنا الشيخ فلان أو القارئ فلان أو القاضي فلان إذا لم يحصل التمييز إلا بذلك.وذكر ابن الجوزي أن السبب في كراهة قول "أنا" أن فيها نوعا من الكبر، كأن قائلها يقول أنا الذي لا أحتاج أذكر اسمي ولا نسبي.
وتعقبه مغلطاي بأن هذا لا يتأتى في حق جابر في مثل هذا المقام. وأجيب بأنه ولو كان كذلك فلا يمنع من تعليمه ذلك لئلا يستمر عليه ويعتاده والله أعلم. قال ابن العربي: في حديث جابر مشروعية دق الباب، ولم يقع في الحديث بيان هل كان بآلة أو بغير آلة. قلت: وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" من حديث أنس "أن أبواب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير" وأخرجه الحاكم في "علوم الحديث" من حديث المغيرة بن شعبة، وهذا محمول منهم على المبالغة في الأدب، وهو حسن لمن قرب محله من بابه، أما من بعد عن الباب بحيث لا يبلغه صوت القرع بالظفر فيستحب أن يقرع بما فوق ذلك بحسبه.وذكر السهيلي أن السبب في قرعهم بابه بالأظافير أن بابه لم يكن فيه حلق فلأجل ذلك فعلوه، والذي يظهر أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك توقيرا وإجلالا وأدبا.

(11/36)


باب من رد فقال : عليك السلام . وقالت عائشة : وعلية السلام وحمة الله وبركاته.....
...
18 - باب مَنْ رَدَّ فَقَالَ عَلَيْكَ السَّلاَمُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَدَّ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى آدَمَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ" .
6251- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ فَقَالَ وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ فَارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ :" إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ فِي الأَخِيرِ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا" .
6252- حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا"
قوله: "باب من رد فقال: عليك السلام" يحتمل أن يكون أشار إلى من قال: لا يقدم على لفظ السلام شيء، بل يقول في الابتداء والرد: السلام عليك، أو من قال لا يقتصر على الإفراد بل يأتي بصيغة الجمع، أو من قال لا يحذف الواو بل يجيب بواو العطف فيقول: "وعليك السلام"، أو من قال يكفي في الجواب أن يقتصر على "عليك" بغير لفظ السلام، أو من قال لا يقتصر على "عليك السلام" بل يزيد "ورحمة الله". وهذه خمسة

(11/36)


مواضع جاءت فيها آثار تدل عليها، فأما الأول فيؤخذ من الحديث الماضي "أن السلام اسم الله" فينبغي أن لا يقدم على اسم الله شيء، نبه عليه ابن دقيق العيد، ونقل عن بعض الشافعية أن المبتدئ لو قال: "عليك السلام" لم يجزئ. وذكر النووي عن المتولي أن من قال في الابتداء "وعليكم السلام" لا يكون سلاما ولا يستحق جوابا، وتعقبه بالرد فإنه يشرع بتقديم لفظ عليكم، قال النووي فلو أسقط الواو فقال عليكم السلام قال الواحدي فهو سلام، ويستحق الجواب، وإن كان قلب اللفظ المعتاد. هكذا جعل النووي الخلاف في إسقاط الواو وإثباتها، والمتبادر أن الخلاف في تقديم عليكم على السلام كما يشعر به كلام الواحدي. قال النووي: ويحتمل وجهين كالوجهين في التحلل بلفظ عليكم السلام، والأصح الحصول. ثم ذكر حديث أبي جري وقد تقدم الكلام عليه في الباب الأول، وأما الثاني فأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق معاوية بن قرة قال: قال لي أبي قرة بن إياس المزني الصحابي: إذا مر بك الرجل فقال السلام عليكم، فلا تقل وعليك السلام فتخصه وحده، فإنه ليس وحده. وسنده صحيح. ومن فروع هذه المسألة لو وقع الابتداء بصيغة الجمع فإنه لا يكفي الرد بصيغة الإفراد، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم فلا يكون امتثل الرد بالمثل فضلا عن الأحسن، نبه عليه ابن دقيق العيد. وأما الثالث فقال النووي: اتفق أصحابنا أن المجيب لو قال: "عليك" بغير واو لم يجزئ، وإن قال بالواو فوجهان. وأما الرابع فأخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن عباس أنه كان إذا سلم عليه يقول: "وعليك ورحمة الله" وقد ورد مثل ذلك في أحاديث مرفوعة سأذكرها في "باب كيف الرد على أهل الذمة". وأما الخامس فتقدم الكلام عليه في الباب الأول. قوله: "وقالت عائشة: وعليه السلام ووحمة الله وبركاته" هذا طرف من حديث تقدم ذكره قريبا في "باب تسليم الرجال والنساء" وفيه بيان من زاد فيه: "وبركاته". قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: رد الملائكة على آدم السلام عليك ورحمة الله" هذا طرف من الحديث الآخر الذي تقدم في أول كتاب الاستئذان، وجزم المصنف بهذا اللفظ مما يقوي رواية الأكثر بخلاف رواية الكشميهني. قوله: "عبيد الله" هو ابن عمر بن حفص العمري. قوله: "عن أبي هريرة" قد قال فيه بعض الرواة "عن أبيه عن أبي هريرة" وهي رواية يحيى القطان المذكورة في آخر الباب، وبينت في كتاب الصلاة أي الروايتين أرجح. قوله: "أن رجلا دخل المسجد" الحديث في قصة المسيء صلاته، والغرض منه قوله فيه: "ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: وعليك السلام، ارجع" وتقدم في الصلاة بلفظ: "فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أخرى "فقال وعليك" وسقط ذلك أصلا من الرواية الآتية في الأيمان والنذور، وقد تقدم ما فيه مع بقية شرحه مستوفى في "باب أمر الذي لا يتم ركوعه بالإعادة" من كتاب الصلاة. قوله: "وقال أبو أسامة في الأخير: حتى تستوي قائما" وصل المصنف رواية أبي أسامة هذه في كتاب الأيمان والنذور كما سيأتي، وقد بينت في صفة الصلاة النكتة في اقتصار البخاري على هذه اللفظة من هذا الحديث. وحاصله أنه وقع هنا في الأخير "ثم ارفع حتى تطمئن جالسا" فأراد البخاري أن يبين أن راويها خولف فذكر رواية أبي أسامة مشيرا إلى ترجيحها. وأجاب الداودي عن أصل الإشكال بأن الجالس قد يسمى قائما لقوله تعالى: {مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً}. وتعقبه ابن التين بأن التعليم إنما وقع لبيان ركعة واحدة والذي يليها هو القيام، يعني فيكون قوله حتى تستوي قائما هو المعتمد، وفيه نظر لأن الداودي عرف ذلك وجعل القيام محمولا على الجلوس واستدل بالآية، والإشكال إنما وقع في قوله في الرواية الأخرى "حتى تطمئن جالسا"

(11/37)


وجلسة الاستراحة على تقدير أن تكون مرادة لا تشرع الطمأنينة فيها، فلذلك احتاج الداودي إلى تأويله، لكن الشاهد الذي أتى به عكس المراد، والمحتاج إليه هنا أن يأتي بشاهد يدل على أن القيام قد يسمى جلوسا، وفي الجملة المعتمد للترجيح كما أشار إليه البخاري وصرح به البيهقي، وجوز بعضهم أن يكون المراد به التشهد والله أعلم. قوله في الطريق الأخيرة "قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثم ارفع حتى تطمئن جالسا" هكذا اقتصر على هذا القدر من الحديث، وساقه في كتاب الصلاة بتمامه.

(11/38)


19 - باب إِذَا قَالَ فُلاَنٌ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ
6253- حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا قال سمعت عامرا يقول حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن "أن عائشة رضي الله عنها حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ثم إن جبريل يقرئك السلام قالت وعليه السلام ورحمة الله"
قوله: "باب إذا قال فلان يقرئك السلام" في رواية الكشميهني: "يقرأ عليك السلام" وهو لفظ حديث الباب وقد تقدم شرحه في مناقب عائشة؛ وتقدم شرح هذه اللفظة وهي "اقرأ السلام" في كتاب الإيمان، قال النووي: في هذا الحديث مشروعية إرسال السلام، ويجب على الرسول تبليغه لأنه أمانة، وتعقب بأنه بالوديعة أشبه، والتحقيق أن الرسول إن التزمه أشبه الأمانة وإلا فوديعة والودائع إذا لم تقبل لم يلزمه شيء. قال: وفيه إذا أتاه شخص بسلام من شخص أو في ورقة وجب الرد على الفور، ويستحب أن يرد على المبلغ كما أخرج النسائي عن رجل من بني تميم أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم سلام أبيه، فقال له "وعليك وعلى أبيك السلام" وقد تقدم في المناقب أن خديجة لما بلغها النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل سلام الله عليها قالت: "إن الله هو السلام ومنه السلام، وعليك وعلى جبريل السلام" ولم أر في شيء من طرق حديث عائشة أنها ردت على النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه غير واجب، وقد ورد بلفظ الترجمة حديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم من حديث أنس "أن فتى من أسلم قال: يا رسول الله إني أريد الجهاد، فقال ائت فلانا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ويقول: ادفع إلي ما تجهزت به".

(11/38)


20 - باب التَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ
6254- حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال أخبرني أسامة بن زيد ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية وأردف وراءه أسامة بن زيد وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج وذلك قبل وقعة بدر حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي كلاهما بردائه ثم قال لا تغبروا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي بن

(11/38)


21 - باب مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى مَنْ اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَلَمْ يَرُدَّ سَلاَمَهُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ تَوْبَتُهُ وَإِلَى مَتَى تَتَبَيَّنُ تَوْبَةُ الْعَاصِي؟ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو لاَ تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الْخَمْرِ
6255- حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلاَمِنَا وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ أَمْ لاَ حَتَّى كَمَلَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً وَآذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ"
قوله: "باب من لم يسلم على من اقترف ذنبا، ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته، وإلى متى تتبين توبة العاصي"؟ أما الحكم الأول فأشار إلى الخلاف فيه، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على الفاسق ولا المبتدع. قال النووي: فإن اضطر إلى السلام بأن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يسلم سلم، وكذا قال ابن العربي، وزاد: وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال الله رقيب عليكم. وقال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، وخالف في ذلك جماعة كما تقدم في الباب قبله. وقال ابن وهب يجوز ابتداء السلام على كل أحد ولو كان كافرا، واحتج بقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} وتعقب بأن الدليل أعم من الدعوى. وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة، ككثرة المزاح واللهو وفحش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء ونحو ذلك، وحكى ابن رشد قال قال مالك: لا يسلم على أهل الأهواء. قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم والتبري منهم. وأما الحكم الثاني فاختلف فيه أيضا فقيل: يستبرأ حاله سنة وقيل ستة أشهر وقيل خمسين يوما كما في قصة كعب، وقيل ليس لذلك حد محدود بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق مدعاه في توبته، ولكن لا يكفي ذلك في ساعة ولا يوم، ويختلف ذلك باختلاف الجناية والجاني. وقد اعترض الداودي على من حده بخمسين ليلة أخذا من قصة كعب فقال: لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين، وإنما أخر كلامهم إلى أن أذن الله فيه؛ يعني فتكون واقعة.

(11/40)


حال لا عموم فيها. وقال النووي: وأما المبتدع ومن اقترف ذنبا عظيما ولم يتب منه فلا يسلم عليهم ولا يرد عليهم السلام كما قال جماعة من أهل العلم، واحتج البخاري لذلك بقصة كعب بن مالك انتهى. والتقييد بمن لم يتب جيد لكن في الاستدلال لذلك بقصة كعب نظر، فإنه ندم على ما صدر منه وتاب، ولكن أخر الكلام معه حتى قبل الله توبته، وقضيته أن لا يكلم حتى تقبل توبته، ويمكن الجواب بأن الاطلاع على القبول في قصة كعب كان ممكنا، وأما بعده فيكفي ظهور علامة الندم والإقلاع وأمارة صدق ذلك. قوله: "اقترف" أي اكتسب وهو تفسير الأكثر. وقال أبو عبيدة الاقتراف التهمة. قوله: "وقال عبد الله بن عمرو: لا تسلموا على شربة الخمر" بفتح الشين المعجمة والراء بعدها موحدة جمع شارب، قال ابن التين: لم يجمعه اللغويون كذلك وإنما قالوا شارب وشرب مثل صاحب وصحب انتهى. وقد قالوا فسقة وكذبة في جمع فاسق وكاذب، وهذا الأثر وصله البخاري في "الأدب المفرد" من طريق حبان بن أبي جبلة بفتح الجيم والموحدة عن عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ: "لا تسلموا على شراب الخمر" وبه إليه قال: "لا تعودوا شراب الخمر إذا مرضوا" وأخرج الطبري عن علي موقوفا نحوه، وفي بعض النسخ من الصحيح "وقال عبد الله بن عمر" بضم العين وكذا ذكره الإسماعيلي. وأخرج سعيد بن منصور بسند ضعيف عن ابن عمر "لا تسلموا على من شرب الخمر ولا تعودوهم إذا مرضوا ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا" وأخرجه ابن عدي بسند أضعف منه عن ابن عمر مرفوعا. قوله: "حدثنا ابن بكير" هو يحيى بن عبد الله بن بكير، وذكر قطعا يسيرة من حديث كعب بن مالك في قصة توبته في غزوة تبوك، وقد ساقه في المغازي بطوله عن يحيى بن بكير بهذا الإسناد. وقوله: "وآتى" هو بمد الهمزة فعل مضارع من الإتيان، وبين قوله: "عن كلامنا" وبين هذه الجملة كلام كثير آخره: "فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد" وفي الحديث أيضا قصته مع أبي قتادة وتسوره عليه الحائط وامتناع أبي قتادة من رد السلام عليه ومن جوابه له عما سأله عنه. واقتصر البخاري على القدر الذي ذكره لحاجته إليه هنا، وفيه ما ترجم به من ترك السلام تأديبا وترك الرد أيضا، وهو مما يخص به عموم الأمر بإفشاء السلام عند الجمهور، وعكس ذلك أبو أمامة فأخرج الطبري بسند جيد عنه أنه كان لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه، فقيل له، فقال: إنا أمرنا بإفشاء السلام، وكأنه لم يطلع على دليل الخصوص. واستثنى ابن مسعود ما إذا احتاج لذلك المسلم لضرورة دينية أو دنيوية كقضاء حق المرافقة، فأخرج الطبري بسند صحيح عن علقمة قال: "كنت ردفا لابن مسعود، فصحبنا دهقان، فلما انشعبت له الطريق أخذ فيها، فأتبعه عبد الله بصره فقال: السلام عليكم. فقلت: ألست تكره أن يبدؤوا بالسلام؟ قال: نعم ولكن حق الصحبة. وبه قال الطبري حمل عليه سلام النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مجلس فيه أخلاط من المسلمين والكفار، وقد تقدم الجواب عنه في الباب الذي قبله.

(11/41)


باب كيف الرد على أهل الذمة بالسلام ؟
...
22 - باب كَيْفَ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ السَّلاَمُ
6356- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ

(11/41)


مَا قَالُوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فَقَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ "
6257- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ السَّامُ عَلَيْكَ فَقُلْ وَعَلَيْكَ "
[الحديث 6257- طرفه في: 6928]
6258- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ"
[الحديث 6258- طرفه في: 6926]
قوله: "باب كيف الرد على أهل الذمة بالسلام"؟ في هذه الترجمة إشارة إلى أنه لا منع من رد السلام على أهل الذمة فلذلك ترجم بالكيفية، ويؤيده قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} فإنه يدل على أن الرد يكون وفق الابتداء إن لم يكن أحسن منه كما تقدم تقريره، ودل الحديث على التفرقة في الرد على المسلم والكافر، قال ابن بطال: قال قوم رد السلام على أهل الذمة فرض لعموم الآية، وثبت عن ابن عباس أنه قال: "من سلم عليك فرد عليه ولو كان مجوسيا" وبه قال الشعبي وقتادة، ومنع من ذلك مالك والجمهور. وقال عطاء: الآية مخصوصة بالمسلمين فلا يرد السلام على الكافر مطلقا، فإن أراد منع الرد بالسلام وإلا فأحاديث الباب ترد عليه. قوله: "أن عائشة قالت" كذا قال صالح بن كيسان مثله كما تقدم في الأدب. وقال سفيان عن الزهري عن عروة "عن عائشة قالت" وسيأتي في استتابة المرتدين. قوله: "دخل رهط من اليهود" لم أعرف أسماءهم، لكن أخرج الطبراني بسند ضعيف عن زيد بن أرقم قال: "بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من اليهود يقال له ثعلبة بن الحارث فقال: السام عليك يا محمد. فقال: وعليكم. فإن كان محفوظا احتمل أن يكون أحد الرهط المذكورين، وكان هو الذي باشر الكلام عنهم كما جرت العادة من نسبة القول إلى جماعة والمباشر له واحد منهم، لأن اجتماعهم ورضاهم به في قوة من شاركه في النطق. قوله: "فقالوا السام عليك" كذا في الأصول بألف ساكنة، وسيأتي في الكلام على الحديث الثاني أنه جاء بالهمز، وقد تقدم تفسير السوم بالموت في كتاب الطب، وقيل هو الموت العاجل. قوله: "ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة" في رواية ابن أبي مليكة عن عائشة كما تقدم في أوائل الأدب "فقالت عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم" ولمسلم من طريق أخرى عنها "بل عليكم السام والذام" بالذال المعجمة وهو لغة في الذم ضد المدح يقال ذم بالتشديد وذام بالتخفيف وذيم بتحتانية ساكنة. وقال عياض: لم يختلف الرواة أن الذام في هذا الحديث بالمعجمة، ولو روى بالمهملة من الدوام لكان له وجه ولكن كان يحتاج لحذف الواو ليصير صفة للسام، وقد حكى ابن الأعرابي الدام لغة في الدائم، قال ابن بطال: فسر أبو عبيد السام بالموت وذكر الخطابي أن قتادة تأوله على خلاف ذلك، ففي رواية عبد الوارث بن سعيد عن سعيد بن أبي عروبة قال: كان قتادة يقول تفسير السام عليكم تسامون دينكم وهو -يعني السام- مصدر سئمه سآمة وسآما مثل رضعه رضاعة ورضاعا. قال ابن بطال: ووجدت هذا الذي فسره قتادة مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه بقي بن مخلد في تفسيره من

(11/42)


طريق سعيد عن قتادة عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس مع أصحابه إذ أتى يهودي فسلم عليه فردوا عليه فقال: هل تدرون ما قال؟ سلم يا رسول الله، قال: قال سام عليكم" أي تسامون دينكم. قلت: يحتمل أن يكون قوله أي تسامون دينكم تفسير قتادة كما بينته رواية عبد الوارث التي ذكرها الخطابي، وقد أخرج البزار وابن حبان في صحيحه من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس "مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فسلم عليهم فرد عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل تدرون ما قال؟ قالوا نعم سلم علينا. قال فإنه قال السام عليكم" أي تسامون دينكم، ردوه علي، فردوه فقال كيف قلت قال السام عليكم. فقال إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليكم ما قلتم" لفظ البزار وفي رواية ابن حبان: "أن يهوديا سلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدرون" والباقي نحوه ولم يذكر قوله: "ردوه إلخ" وقال في آخره: "فإذا سلم عليكم رجل من أهل الكتاب فقولوا وعليك". قوله: "واللعنة" يحتمل أن تكون عائشة فهمت كلامهم بفطنتها فأنكرت عليهم وظنت أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أنهم تلفظوا بلفظ السلام فبالغت في الإنكار عليهم، ويحتمل أن يكون سبق لها سماع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديثي ابن عمر وأنس في الباب، وإنما أطلقت عليهم اللعنة إما لأنها كانت ترى جواز لعن الكافر المعين باعتبار الحالة الراهنة لا سيما إذا صدر منه ما يقتضي التأديب، وإما لأنها تقدم لها علم بأن المذكورين يموتون على الكفر فأطلقت اللعن ولم تقيده بالموت، والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يتعود لسانها بالفحش، أو أنكر عليها الإفراط في السب، وقد تقدم في أوائل الأدب في "باب الرفق" ما يتعلق بذلك، وسيأتي الكلام على جواز لعن المشرك المعين الحي في "باب الدعاء على المشركين" من كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. قوله: "مهلا يا عائشة" تقدم بشرحه في "باب الرفق" من كتاب الأدب. قوله: "فقد قلت عليكم" وكذا في رواية معمر وشعيب عن الزهري عند مسلم بحذف الواو، وعنده في رواية سفيان، وعند النسائي من رواية أخرى عن الزهري بإثبات الواو. قال المهلب: في هذا الحديث جواز انخداع الكبير للمكايد ومعارضته من حيث لا يشعر إذا رجي رجوعه. قلت: في تقييده بذلك نظر، لأن اليهود حينئذ كانوا أهل عهد، فالذي يظهر أن ذلك كان لمصلحة التآلف. قوله: "عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر" يأتي في استتابة المرتدين من وجه آخر بلفظ: "حدثني عبد الله ابن دينار سمعت ابن عمر". قوله: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك، فقل: وعليك" هكذا هو في جميع نسخ البخاري، وكذا أخرجه في "الأدب المفرد" عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك، والذي عند جميع رواة الموطأ بلفظ: "فقل عليك" ليس فيه الواو، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق يحيى بن بكير، ومن طريق عبد الله بن نافع كلاهما عن مالك بإثبات الواو، وفيه نظر فإنه في الموطأ عن يحيى بن بكير بغير واو، ومقتضى كلام ابن عبد البر أن رواية عبد الله بن نافع بغير واو لأنه قال: لم يدخل من رواة الموطأ عن مالك الواو. قلت: لكن وقع عند الدار قطني في "الموطآت" من طريق روح بن عبادة عن مالك بلفظ: "فقل وعليكم" بالواو وبصيغة الجمع، قال الدار قطني: القول الأول أصح يعني عن مالك. قلت: أخرجه الإسماعيلي من طريق روح ومعن وقتيبة ثلاثتهم عن مالك بغير واو وبالإفراد كرواية الجماعة، وأخرجه البخاري في استتابة المرتدين من طريق يحيى القطان عن مالك والثوري جميعا عن عبد الله بن دينار بلفظ: "قل عليك" بغير واو، لكن وقع في رواية السرخسي وحده "فقل عليكم" بصيغة الجمع بغير واو أيضا، وأخرجه مسلم والنسائي من

(11/43)


طريق عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري وحده بلفظ: "فقولوا وعليكم" بإثبات الواو بصيغة الجمع، وأخرجه مسلم والنسائي من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار بغير واو، وفي نسخة صحيحة من مسلم بإثبات الواو، وأخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن ابن دينار بلفظ: "إذا سلم عليكم اليهودي والنصراني فإنما يقول السام عليكم فقل: عليكم" بغير واو وبصيغة الجمع. وأخرجه أبو داود من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار مثل ابن مهدي عن الثوري. وقال بعده وكذا رواه مالك والثوري عن عبد الله بن دينار قال فيه: "وعليكم" قال المنذري في الحاشية: حديث مالك أخرجه البخاري وحديث الثوري أخرجه البخاري ومسلم وهذا يدل على أن رواية مالك عندهما بالواو، فأما أبو داود فلعله حمل رواية مالك على رواية الثوري أو اعتمد رواية روح بن عبادة عن مالك، وأما المنذري فتجوز في عزوه للبخاري لأنه عنده بصيغة الإفراد، ولحديث ابن عمر هذا سبب أذكره في الذي بعده. الحديث أورده من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس حدثنا أنس بن مالك يعني جده بلفظ: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" كذا رواه مختصرا، ورواه قتادة عن أنس أتم منه أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق شعبة عنه بلفظ: "إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إن أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم؟ قال قولوا: وعليكم" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق همام عن قتادة بلفظ: "مر يهودي فقال السام عليكم، فرد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام فقال قال السام عليكم، فأخذ اليهودي فاعترف فقال: ردوا عليه" وأخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق شيبان نحو رواية همام وقال في آخره: "ردوه. فردوه، فقال: أقلت: السام عليكم؟ قال: نعم، فقال عند ذلك: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم" وتقدم في الكلام على حديث عائشة من وجه آخر عن قتادة بزيادة فيه، وسيأتي في استتابة المرتدين من طريق هشام بن زيد بن أنس "سمعت أنس بن مالك يقول: مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: السام عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك. ثم قال: أتدرون ماذا يقول؟ قال: السام عليك. قالوا: يا رسول الله ألا نقتله، قال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" وفي رواية الطيالسي أن القائل ألا نقتله عمر. والجمع بين هذه الروايات أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأتمها سياقا رواية هشام بن زيد هذه، وكأن بعض الصحابة لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن اليهود تقول ذلك سألوا حينئذ عن كيفية الرد عليهم كما رواه شعبة عن قتادة، ولم يقع هذا السؤال في رواية هشام بن زيد، ولم تختلف الرواة عن أنس في لفظ الجواب وهو "وعليكم" بالواو وبصيغة الجمع. قال أبو داود في السنن وكذا رواية عائشة وأبي عبد الرحمن الجهني وأبي بصرة. قال المنذري: أما حديث عائشة فمتفق عليه. قلت: هو أول أحاديث الباب قال: وأما حديث أبي عبد الرحمن فأخرجه ابن ماجه، وأما حديث أبي بصرة فأخرجه النسائي. قلت: ما حديث واحد اختلف فيه على يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير، فقال عبد الحميد بن جعفر: عن أبي بصرة، أخرجه النسائي والطحاوي. وقال ابن إسحاق: عن أبي عبد الرحمن، أخرجه أحمد وابن ماجه والطحاوي أيضا. وقد قال بعض أصحاب ابن إسحاق عنه مثل ما قال عبد الحميد أخرجه الطحاوي، والمحفوظ قول الجماعة، ولفظ النسائي: "فإن سلموا عليكم فقولوا وعليكم" وقد اختلف العلماء في إثبات الواو وإسقاطها في الرد على أهل الكتاب لاختلافهم في أي الروايتين أرجح. فذكر ابن عبد البر عن ابن حبيب لا يقولها بالواو لأن فيها تشريكا، وبسط ذلك أن الواو في مثل هذا التركيب يقتضي تقرير الجملة الأولى

(11/44)


وزيادة الثانية عليها كمن قال زيد كاتب فقلت وشاعر فإنه يقتضي ثبوت الوصفين لزيد، قال وخالفه جمهور المالكية. وقال بعض شيوخهم: يقول عليكم السلام بكسر السين يعني الحجارة، ووهاه ابن عبد البر بأنه لم يشرع لنا سب أهل الذمة. ويؤيد إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة لما سبتهم. وذكر ابن عبد البر عن ابن طاوس قال: يقول علاكم السلام، بالألف أي ارتفع. وتعقبه. وذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز أن يقال في الرد عليهم "عليكم السلام" كما يرد على المسلم، واحتج بعضهم بقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} وحكاه الماوردي وجها عن بعض الشافعية لكن لا يقول ورحمة الله، وقيل يجوز مطلقا، وعن ابن عباس وعلقمة يجوز ذلك عند الضرورة، وعن الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد تركوا. وعن طائفة من العلماء: لا يرد عليهم السلام أصلا. وعن بعضهم التفرقة بين أهل الذمة وأهل الحرب. والراجح من هذه الأقوال كلها ما دل عليه الحديث ولكنه مختص بأهل الكتاب. وقد أخرج أحمد بسند جيد عن حميد بن زادويه وهو غير حميد الطويل في الأصح عن أنس "أمرنا أن لا نزيد على أهل الكتاب على: وعليكم" ونقل ابن بطال عن الخطابي نحو ما قال ابن حبيب فقال، رواية من روى عليكم بغير واو أحسن من الرواية بالواو لأن معناه رددت ما قلتموه عليكم، وبالواو يصير المعنى علي وعليكم لأن الواو حرف التشريك انتهى. وكأنه نقله من "معالم السنن للخطابي" فإنه قال فيه هكذا يرويه عامة المحدثين وعليكم بالواو، وكان ابن عيينة يرويه بحذف الواو وهو الصواب، وذلك أنه بحذفها يصير قولهم بعينه مردودا عليهم، وبالواو يقع الاشتراك والدخول فيما قالوه انتهى. وقد رجع الخطابي عن ذلك فقال في الإعلام من شرح البخاري لما تكلم على حديث عائشة المذكور في كتاب الأدب من طريق ابن أبي مليكة عنها نحو حديث الباب وزاد في آخره: "أو لم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في" قال الخطابي ما ملخصه: إن الداعي إذا دعا بشيء ظلما فإن الله لا يستجيب له ولا يجد دعاؤه محلا في المدعو عليه انتهى. وله شاهد من حديث جابر قال: "سلم ناس من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم. قال وعليكم. قالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: بلى قد رددت عليهم فنجاب عليهم ولا يجابون فينا" أخرجه مسلم والبخاري في "الأدب المفرد" من طريق ابن جريج أخبرني أنه سمع جابرا. وقد غفل عن هذه المراجعة من عائشة وجواب النبي صلى الله عليه وسلم لها من أنكر الرواية بالواو، وقد تجاسر بعض من أدركناه فقال في الكلام على حديث أنس في هذا الباب: الرواية الصحيحة عن مالك بغير واو، وكذا رواه ابن عيينة وهي أصوب من التي بالواو، لأنه بحذفها يرجع الكلام عليهم وبإثباتها يقع الاشتراك انتهى. وما أفهمه من تضعيف الرواية بالواو وتخطئتها من حيث المعنى مردود عليه بما تقدم. وقال النووي: الصواب أن حذف الواو وإثباتها ثابتان جائزان وبإثباتها أجود ولا مفسدة فيه وعليه أكثر الروايات، وفي معناها وجهان: أحدهما أنهم قالوا عليكم الموت فقال وعليكم أيضا أي نحن وأنتم فيه سواء كلنا نموت. والثاني أن الواو للاستئناف لا للعطف والتشريك والتقدير: وعليكم ما تستحقونه من الذم. وقال البيضاوي: في العطف شيء مقدر، والتقدير وأقول عليكم ما تريدون بنا أو ما تستحقون، وليس هو عطفا على "عليكم" في كلامهم. وقال القرطبي: قيل الواو للاستئناف وقيل زائدة، وأولى الأجوبة أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا. وحكى ابن دقيق العيد عن ابن رشد تفصيلا يجمع الروايتين إثبات الواو وحذفها فقال: من تحقق أنه قال السام أو السلام بكسر السين فليرد عليه بحذف الواو

(11/45)


ومن لم يتحقق منه فليرد بإثبات الواو. فيجتمع من مجموع كلام العلماء في ذلك ستة أقوال. وقال النووي تبعا لعياض: من فسر السام بالموت فلا يبعد ثبوت الواو ومن فسرها بالسآمة فإسقاطها هو الوجه. قلت: بل الرواية بإثبات الواو ثابتة وهي ترجح التفسير بالموت، وهو أولى من تغليط الثقة. واستدل بقوله: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب" بأنه لا يشرع للمسلم ابتداء الكافر بالسلام حكاه الباجي عن عبد الوهاب، قال الباجي: لأنه بين حكم الرد ولم يذكر حكم الابتداء، كذا قال، ونقل ابن العربي عن مالك: لو ابتدأ شخصا بالسلام وهو يظنه مسلما فبان كافرا كان ابن عمر يسترد منه سلامه. وقال مالك: لا. قال ابن العربي: لأن الاسترداد حينئذ لا فائدة له لأنه لم يحصل له منه شيء لكونه قصد السلام على المسلم. وقال غيره له فائدة وهو إعلام الكافر بأنه ليس أهلا للابتداء بالسلام. قلت: ويتأكد إذا كان هناك من يخشى إنكاره لذلك أو اقتداؤه به إذا كان الذي سلم ممن يقتدي به. واستدل به على أن هذا الرد خاص بالكفار فلا يجزئ في الرد على المسلم، وقيل: إن أجاب بالواو أجزأ وإلا فلا. وقال ابن دقيق العيد التحقيق أنه كاف في حصول معنى السلام لا في امتثال الأمر في قوله :{فحيوا بأحسن منها أو ردوها} وكأنه أراد الذي بغير واو، وأما الذي بالواو فقد ورد في عدة أحاديث: منها في الطبراني عن ابن عباس "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلام عليكم فقال وعليك ورحمة الله" وله في الأوسط عن سلمان "أتى رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك". قلت: لكن لما اشتهرت هذه الصيغة للرد على غير المسلم ينبغي ترك جواب المسلم بها وإن كانت مجزئة في أصل الرد، والله أعلم.

(11/46)


23 - باب مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ مَنْ يُحْذَرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ
6259- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ حَدَّثَنِي حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ "عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَكُلُّنَا فَارِسٌ فَقَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُلْنَا أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِي مَعَكِ قَالَتْ مَا مَعِي كِتَابٌ فَأَنَخْنَا بِهَا فَابْتَغَيْنَا فِي رَحْلِهَا فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا قَالَ صَاحِبَايَ مَا نَرَى كِتَابًا قَالَ قُلْتُ لَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لاَجَرِّدَنَّكِ قَالَ فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ مِنِّي أَهْوَتْ بِيَدِهَا إِلَى حُجْزَتِهَا وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْ الْكِتَابَ قَالَ فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ مَا بِي إِلاَّ أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا غَيَّرْتُ وَلاَ بَدَّلْتُ أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلاَّ وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ قَالَ صَدَقَ فَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا قَالَ فَقَالَ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ قَالَ فَقَالَ يَا عُمَرُ

(11/46)


وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ قَالَ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"
قوله: "باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره" كأنه يشير إلى أن الأثر الوارد في النهي عن النظر في كتاب الغير يخص منه ما يتعين طريقا إلى دفع مفسدة هي أكثر من مفسدة النظر، والأثر المذكور أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بلفظ: "من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فكأنما ينظر في النار" وسنده ضعيف. حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة وقد تقدم شرحه في تفسير سورة الممتحنة. ويوسف بن بهلول شيخه فيه بضم الموحدة وسكون الهاء شيخ كوفي أصله من الأنبار، ولم يرو عنه من الستة إلا البخاري، وما له في الصحيح إلا هذا الحديث، وقد أورده من طرق أخرى في المغازي والتفسير، منها في المغازي عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الله بن إدريس بالسند المذكور هنا، وبقية رجال الإسناد كلهم كوفيون أيضا. قال ابن التين: معنى بهلول الضحاك وسمى به ولا يفتح أوله لأنه ليس في الكلام فعلول بالفتح. وقال المهلب: في حديث على هتك ستر الذنب، وكشف المرأة العاصية، وما روي أنه لا يجوز النظر في كتاب أحد إلا بإذنه إنما هو في حق من لم يكن متهما على المسلمين، وأما من كان متهما فلا حرمة له. وفيه أنه يجوز النظر إلى عورة المرأة للضرورة التي لا يجد بدا من النظر إليها. وقال ابن التين: قول عمر دعني أضرب عنقه مع قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولوا له إلا خيرا يحمل على أنه لم يسمع ذلك أو كان قوله قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. ويحتمل أن يكون عمر لشدته في أمر الله حمل النهي على ظاهره من منع القول السيئ له ولم ير ذلك مانعا من إقامة ما وجب عليه من العقوبة للذنب الذي ارتكبه، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه صادق في اعتذاره، وأن الله عفا عنه.

(11/47)


24 - باب كَيْفَ يُكْتَبُ الْكِتَابُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ
6260- حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة "أن ابن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في نفر من قريش وكانوا تجارا بالشام فأتوه فذكر الحديث قال ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد.."
قوله: "باب كيف يكتب إلى أهل الكتاب" ذكر فيه طرفا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وهو واضح فيما ترجم له. قال ابن بطال: فيه جواز كتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أهل الكتاب، وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه. قال: وفيه حجة لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة، قلت: في جواز السلام على الإطلاق نظر، والذي يدل عليه الحديث السلام المقيد مثل ما في الخبر: السلام على من اتبع الهدى، أو السلام على من تمسك بالحق أو نحو ذلك. وقد تقدم نقل الخلاف في ذلك في أوائل كتاب الاستئذان.

(11/47)


25 - باب بِمَنْ يُبْدَأُ فِي الْكِتَابِ
6261- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نَجَرَ خَشَبَةً فَجَعَلَ الْمَالَ فِي جَوْفِهَا وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَحِيفَةً مِنْ فُلاَنٍ إِلَى فُلاَنٍ"
قوله: "باب بمن يبدأ في الكتاب" أي بنفسه أو بالمكتوب إليه؟ ذكر فيه طرفا من حديث الرجل من بني إسرائيل الذي اقترض ألف دينار، وكأنه لما لم يجد فيه حديثا على شرطه مرفوعا اقتصر على هذا، وهو على قاعدته في الاحتجاج بشرع من قبلنا إذا وردت حكايته في شرعنا ولم ينكر، ولا سيما إذا سيق مساق المدح لفاعله، والحجة فيه كون الذي عليه الدين كتب في الصحيفة من فلان إلى فلان وكان يمكنه أن يحتج بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل المشار إليه قريبا لكن قد يكون تركه لأن بداءة الكبير بنفسه إلى الصغير والعظيم إلى الحقير هو الأصل، وإنما يقع التردد فيما هو بالعكس أو المساوي. وقد أورد في "الأدب المفرد" من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن كبراء آل زيد بن ثابت هذه الرسالة لعبد الله معاوية أمير المؤمنين لزيد بن ثابت سلام عليك "وأورد عن ابن عمر نحو ذلك، وعند أبي داود من طريق ابن سيرين عن أبي العلاء بن الحضرمي عن العلاء أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ بنفسه. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن أيوب "قرأت كتابا من العلاء بن الحضرمي إلى محمد رسول الله وعن نافع كان ابن عمر يأمر غلمانه إذا كتبوا إليه أن يبدءوا بأنفسهم. وعن نافع كان عمال عمر إذا كتبوا إليه بدءوا بأنفسهم. قال المهلب: السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه. وعن معمر عن أيوب أنه كان ربما بدأ باسم الرجل قبله إذا كتب إليه. وسئل مالك عنه فقال: لا بأس به وقال. هو كما لو أوسع له في المجلس. فقيل له إن أهل العراق يقولون لا تبدأ بأحد قبلك ولو كان أباك أو أمك أو أكبر منك، فعاب ذلك عليهم. قلت: والمنقول عن ابن عمر كان في أغلب أحواله، وإلا فقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن نافع كانت لابن عمر حاجة إلى معاوية فأراد أن يبدأ بنفسه فلم يزالوا به حتى كتب، بسم الله الرحمن الرحيم إلى معاوية. وفي رواية زيادة أما بعد، بعد البسملة وأخرج فيه أيضا من رواية عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك يبايعه "بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن عمر سلام عليك إلخ" وقد ذكر في كتاب الاعتصام طرفا منه، ويأتي التنبيه عليه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال الليث" تقدم في الكفالة بيان من وصله. قوله: "أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل أخذ خشبة" كذا أورده مختصرا، وأورده في الكفالة وغيرها مطولا قوله: "وقال عمر بن أبي سلمة" أي ابن عبد الرحمن بن عوف" وعمر هذا مدني قدم واسط، وهو صدوق فيه ضعف، وليس له عند البخاري سوى هذا الموضع المعلق، وقد وصله البخاري في "الأدب المفرد" قال: "حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عمر" فذكر مثل اللفظ المعلق هنا. وقد رويناه في الجزء الثالث من "حديث أبي طاهر المخلص" مطولا فقال: "حدثنا البغوي حدثنا أحمد بن منصور

(11/48)


حدثنا موسى" وقد ذكرت فوائده عند شرحه من كتاب الكفالة. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية الكشميهني: "سمع أبا هريرة" وكذا للنسفي والأصيلي وكريمة. قوله: "نجر" كذا للأكثر بالجيم وللكشميهني بالقاف، قال ابن التين: قيل في قصة صاحب الخشبة إثبات كرامات الأولياء، وجمهور الأشعرية على إثباتها، وأنكرها الإمام أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية والشيخان أبو محمد بن أبي زيد وأبو الحسن القابسي من المالكية. قلت: أما الشيرازي فلا يحفظ عنه ذلك. وإنما نقل ذلك عن أبي إسحاق الإسفرايني، وأما الآخران فإنما أنكرا ما وقع معجزة مستقلة لنبي من الأنبياء كإيجاد ولد عن غير والد والإسراء إلى السماوات السبع بالجسد في اليقظة، وقد صرح إمام الصوفية أبو القاسم القشيري في رسالته بذلك، وبسط هذا يليق بموضع آخر، وعسى أن يتيسر ذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(11/49)


26 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ
6262- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ "أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَجَاءَ فَقَالَ قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ قَالَ خَيْرِكُمْ فَقَعَدَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ قَالَ فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ فَقَالَ لَقَدْ حَكَمْتَ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْمَلِكُ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَفْهَمَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ إِلَى حُكْمِكَ"
قوله: "عن سعد بن إبراهيم عن أبي أمامة بن سهل" تقدم بيان الاختلاف في ذلك في غزوة بني قريظة من كتاب المغازي مع شرح الحديث، ومما لم يذكر هناك أن الدار قطني حكى في "العلل" أن أبا معاوية رواه عن عياض بن عبد الرحمن عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جده، والمحفوظ عن سعد عن أبي أمامة عن أبي سعيد. قوله: "على حكم سعد" هو ابن معاذ كما وقع التصريح به فيما تقدم. قوله في آخره "قال أبو عبد الله" هو البخاري "أفهمني بعض أصحابي عن أبي الوليد" يعني شيخه في هذا الحديث بسنده هذا "من قول أبي سعيد إلى حكمك" يعني من أول الحديث إلى قوله فيه: "على حكمك" وصاحب البخاري في هذا الحديث يحتمل أن يكون محمد بن سعد كاتب الواقدي فإنه أخرجه في الطبقات عن أبي الوليد بهذا السند، أو ابن الضريس فقد أخرجه البيهقي في "الشعب" من طريق محمد بن أيوب الرازي عن أبي الوليد، وشرحه الكرماني على وجه آخر فقال، قوله: "إلى حكمك" أي قال البخاري سمعت أنا من أبي الوليد بلفظ: "على حكمك" وبعض أصحابي نقلوا لي عنه بلفظ: "إلى" بصيغة الانتهاء بدل حرف الاستعلاء. كذا قال، قال ابن بطال، في هذا الحديث أمر الإمام الأعظم بإكرام الكبير من المسلمين، ومشروعية إكرام أهل الفضل في مجلس الإمام الأعظم والقيام فيه لغيره من أصحابه، وإلزام الناس كافة بالقيام إلى الكبير منهم. وقد منع من ذلك قوم واحتجوا بحديث أبي أمامة قال: "خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا له فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم بعضهم لبعض"

(11/49)


وأجاب عنه الطبري بأنه حديث ضعيف مضطرب السند فيه من لا يعرف، واحتجوا أيضا بحديث عبد الله بن بريدة أن أباه دخل على معاوية فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما وجبت له النار" وأجاب عنه الطبري بأن هذا الخبر إنما فيه نهي من يقام له عن السرور بذلك، لا نهي من يقوم له إكراما له. وأجاب عنه ابن قتيبة بأن معناه من أراد أن يقوم الرجال على رأسه كما يقام بين يدي ملوك الأعاجم، وليس المراد به نهي الرجل عن القيام لأخيه إذا سلم عليه. واحتج ابن بطال للجواز بما أخرجه النسائي من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى فاطمة بنته قد أقبلت رحب بها ثم قام فقبلها ثم أخذ بيدها حتى يجلسها في مكانه. قلت: وحديث عائشة هذا أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن حبان والحاكم وأصله في الصحيح كما مضى في المناقب وفي الوفاة النبوية لكن ليس فيه ذكر القيام. وترجم له أبو داود "باب القيام" وأورد معه فيه حديث أبي سعيد، وكذا صنع البخاري في "الأدب المفرد" وزاد معهما حديث كعب بن مالك في قصة توبته وفيه: "فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول" وقد أشار إليه في الباب الذي يليه، وحديث أبي أمامة المبدأ به أخرجه أبو داود وابن ماجه، وحديث ابن بريدة أخرجه الحاكم من رواية حسين المعلم عن عبد الله ابن بريدة عن معاوية فذكره وفيه: "ما من رجل يكون على الناس فيقوم على رأسه الرجال يحب أن يكثر عنده الخصوم فيدخل الجنة" وله طريق أخرى عن معاوية أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والمصنف في "الأدب المفرد" من طريق أبي مجلز قال: "خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار" هذا لفظ أبي داود؛ وأخرجه أحمد من رواية حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز وأحمد عن إسماعيل بن علية عن حبيب مثله وقال: "العباد" بدل "الرجال" ومن رواية شعبة عن حبيب مثله وزاد فيه: "ولم يقم ابن الزبير وكان أرزنهما، قال: فقال مه" فذكر الحديث وقال فيه: "من أحب أن يتمثل له عباد الله قياما" وأخرجه أيضا عن مروان بن معاوية عن حبيب بلفظ: "خرج معاوية فقاموا له" وباقيه كلفظ حماد. وأما الترمذي فإنه أخرجه من رواية سفيان الثوري عن حبيب، ولفظه: "خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه فقال اجلسا" فذكر مثل لفظ حماد، وسفيان وإن كان من رجال الحفظ إلا أن العدد الكثير وفيهم مثل شعبة أولى بأن تكون روايتهم محفوظة من الواحد، وقد اتفقوا على أن ابن الزبير لم يقم، وأما إبدال ابن عامر بابن صفوان فسهل لاحتمال الجمع بأن يكونا معا وقع لهما ذلك، ويؤيده الإتيان فيه بصيغة الجمع وفي رواية مروان بن معاوية المذكور، وقد أشار البخاري في "الأدب المفرد" إلى الجمع المنقول عن ابن قتيبة فترجم أولا "باب قيام الرجل لأخيه" وأورد الأحاديث الثلاثة التي أشرت إليها، ثم ترجم "باب قيام الرجل للرجل القاعد" و "باب من كره أن يقعد ويقوم له الناس" وأورد فيهما، حديث جابر "اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فلما سلم قال" إن كدتم لتفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا" وهو حديث صحيح أخرجه مسلم، وترجم البخاري أيضا قيام الرجل للرجل تعظيما، وأورد فيه حديث معاوية من طريق أبي مجلز، ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس ولو كان في شغل نفسه، فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها فتتلقاه

(11/50)


وتنزع ثيابه وتقف حتى يجلس فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس فلا فإن هذا فعل الجبابرة وقد أنكره عمر بن عبد العزيز. وقال الخطابي في حديث الباب: "جواز إطلاق السيد" على الخير الفاضل، وفيه أن قيام المرءوس للرئيس الفاضل والإمام العادل والمتعلم للعالم مستحب، وإنما يكره لمن كان بغير هذه الصفات. ومعنى حديث: "من أحب أن يقام له" أي بأن يلزمهم بالقيام له صفوفا على طريق الكبر والنخوة، ورجح المنذري ما تقدم من الجمع عن ابن قتيبة والبخاري وأن القيام المنهي عنه أن يقام عليه وهو جالس، وقد رد ابن القيم في "حاشية السنن" على هذا القول بأن سياق حديث معاوية يدل على خلاف ذلك، وإنما يدل على أنه كره القيام له لما خرج تعظيما، ولأن هذا لا يقال له القيام للرجل وإنما هو القيام على رأس الرجل أو عند الرجل، قال: والقيام ينقسم إلى ثلاث مراتب: قيام على رأس الرجل وهو فعل الجبابرة، وقيام إليه عند قدومه ولا بأس به، وقيام له عند رؤيته وهو المتنازع فيه. قلت: وورد في خصوص القيام على رأس الكبير الجالس ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" عن أنس قال: "إنما هلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهم قعود" ثم حكى المنذري قول الطبري، وأنه قصر النهي على من سره القيام له لما في ذلك من محبة التعاظم ورؤية منزلة نفسه، وسيأتي ترجيح النووي لهذا القول، ثم نقل المنذري عن بعض من منع ذلك مطلقا أنه رد الحجة بقصة سعد بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالقيام لسعد لينزلوه عن الحمار لكونه كان مريضا، قال: وفي ذلك نظر. قلت: كأنه لم يقف على مستند هذا القائل، وقد وقع في مسند عائشة عند أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة وقصة سعد بن معاذ ومجيئه مطولا وفيه: "قال أبو سعيد فلما طلع قال النبي صلى الله عليه وسلم " قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه" وسنده حسن، وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه، وقد احتج به النووي في كتاب القيام ونقل عن البخاري ومسلم وأبي داود أنهم احتجوا به، ولفظ مسلم: لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثا أصح من هذا، وقد اعترض عليه الشيخ أبو عبد الله بن الحاج فقال ما ملخصه: لو كان القيام المأمور به لسعد هو المتنازع فيه لما خص به الأنصار، فإن الأصل في أفعال القرب التعميم، ولو كان القيام لسعد على سبيل البر والإكرام لكان هو صلى الله عليه وسلم أول من فعله وأمر به من حضر من أكابر الصحابة، فلما لم يأمر به ولا فعله ولا فعلوه دل ذلك على أن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع، وإنما هو لينزلوه عن دابته لما كان فيه من المرض كما جاء في بعض الروايات، ولأن عادة العرب أن القبيلة تخدم كبيرها فلذلك خص الأنصار بذلك دون المهاجرين مع أن المراد بعض الأنصار لا كلهم وهم الأوس منهم لأن سعد بن معاذ كان سيدهم دون الخزرج، وعلى تقدير تسليم أن القيام المأمور به حينئذ لم يكن للإعانة فليس هو المتنازع فيه، بل لأنه غائب قدم والقيام للغائب إذا قدم مشروع قال: ويحتمل أن يكون القيام المذكور إنما هو لتهنئته بما حصل له من تلك المنزلة الرفيعة من تحكيمه والرضا بما يحكم به، والقيام لأجل التهنئة مشروع أيضا. ثم نقل عن أبي الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه: الأول محظور وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين إليه، والثاني مكروه وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، لكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة. والثالث جائز، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة. والرابع مندوب وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه، أو إلى من تجددت له

(11/51)


نعمة فيهنئه بحصولها أو مصيبة فيعزيه بسببها. وقال التوربشتي في "شرح المصابيح" معنى قوله: "قوموا إلى سيدكم" أي إلى إعانته وإنزاله من دابته، ولو كان المراد التعظيم لقال: قوموا لسيدكم. وتعقبه الطيبي بأنه لا يلزم من كونه ليس للتعظيم أن لا يكون للإكرام، وما اعتل به من الفرق بين إلى واللام ضعيف لأن إلى في هذا المقام أفخم من اللام كأنه قيل قوموا وامشوا إليه تلقيا وإكراما، وهذا مأخوذ من ترتب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية، فإن قوله سيدكم علة للقيام له، وذلك لكونه شريفا علي القدر. وقال البيهقي: القيام على وجه البر والإكرام جائز كقيام الأنصار لسعد وطلحة لكعب، ولا ينبغي لمن يقام له أن يعتقد استحقاقه لذلك حتى إن ترك القيام له حنق عليه أو عاتبه أو شكاه قال أبو عبد الله وضابط ذلك أن كل أمر ندب الشرع المكلف بالمشي إليه فتأخر حتى قدم المأمور لأجله فالقيام إليه يكون عوضا عن المشي الذي فات، واحتج النووي أيضا بقيام طلحة لكعب بن مالك. وأجاب ابن الحاج بأن طلحة إنما قام لتهنئته ومصافحته ولذلك لم يحتج به البخاري للقيام، وإنما أورده في المصافحة، ولو كان قيامه محل النزاع لما انفرد به، فلم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قام له ولا أمر به ولا فعله أحد ممن حضر، وإنما انفرد طلحة لقوة المودة بينهما على ما جرت به العادة أن التهنئة والبشارة ونحو ذلك تكون على قدر المودة والخلطة، بخلاف السلام فإنه مشروع على من عرفت ومن لم تعرف. والتفاوت في المودة يقع بسبب التفاوت في الحقوق وهو أمر معهود. قلت: ويحتمل أن يكون من كان لكعب عنده من المودة مثل ما عند طلحة لم يطلع على وقوع الرضا عن كعب واطلع عليه طلحة، لأن ذلك عقب منع الناس من كلامه مطلقا، وفي قول كعب "لم يقم إلي من المهاجرين غيره: "إشارة إلى أنه قام إليه غيره من الأنصار ثم قال ابن الحاج: وإذا حمل فعل طلحة على محل النزاع لزم أن يكون من حضر من المهاجرين قد ترك المندوب، ولا يظن بهم ذلك. واحتج النووي بحديث عائشة المتقدم في حق فاطمة. وأجاب عنه ابن الحاج باحتمال أن يكون القيام لها لأجل إجلاسها في مكانه إكراما لها لا على وجه القيام المنازع فيه، ولا سيما ما عرف من ضيق بيوتهم وقلة الفرش فيها، فكانت إرادة إجلاسه لها في موضعه مستلزمة لقيامه. وأمعن في بسط ذلك. واحتج النووي أيضا بما أخرجه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فجلس عليه ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام فأجلسه بين يديه. واعترضه ابن الحاج بأن هذا القيام لو كان محل النزاع لكان الوالدان أولى به من الأخ، وإنما قام للأخ إما لأن يوسع له في الرداء أو في المجلس. واحتج النووي أيضا بما أخرجه مالك في قصة عكرمة بن أبي جهل أنه لما فر إلى اليمن يوم الفتح ورحلت امرأته إليه حتى أعادته إلى مكة مسلما فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحا وما عليه رداء، وبقيام النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم جعفر من الحبشة فقال: ما أدري بأيهما أنا أسر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر، وبحديث عائشة "قدم زيد بن حارثة المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم في بيتي فقرع الباب فقام إليه فأعتنقه وقبله" وأجاب ابن الحاج بأنها ليست من محل النزاع كما تقدم. واحتج أيضا بما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا فإذا قام قمنا قياما حتى نراه قد دخل". وأجاب ابن الحاج بأن قيامهم كان لضرورة الفراغ ليتوجهوا إلى أشغالهم، ولأن بيته كان بابه في المسجد والمسجد لم يكن واسعا إذ ذاك فلا يتأتى أن يستووا قياما إلا وهو قد دخل. كذا قال. والذي يظهر لي في الجواب أن يقال: لعل سبب تأخيرهم حتى يدخل لما يحتمل عندهم من أمر يحدث له حتى لا يحتاج إذا تفرقوا أن يتكلف استدعاءهم. ثم

(11/52)


راجعت سنن أبي داود فوجدت في آخر الحديث ما يؤيد ما قلته، وهو قصة الأعرابي الذي جبذ رداءه صلى الله عليه وسلم فدعا رجلا فأمره أن يحمل له على بعيره تمرا وشعيرا، وفي آخره: "ثم التفت إلينا فقال: انصرفوا رحمكم الله تعالى" ثم احتج النووي بعمومات تنزيل الناس منازلهم وإكرام ذي الشيبة وتوقير الكبير. واعترضه ابن الحاج بما حاصله أن القيام على سبيل الإكرام داخل في العمومات المذكورة، لكن محل النزاع قد ثبت النهي عنه فيخص من العمومات. واستدل النووي أيضا بقيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف واعترضه ابن الحاج بأنه كان بسبب الذب عنه في تلك الحالة من أذى من يقرب منه من المشركين، فليس هو من محل النزاع. ثم ذكر النووي حديث معاوية وحديث أبي أمامة المتقدمين، وقدم قبل ذلك ما أخرجه الترمذي عن أنس قال: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك" قال الترمذي حسن صحيح غريب، وترجم له "باب كراهية قيام الرجل للرجل" وترجم لحديث معاوية "باب كراهية القيام للناس" قال النووي: وحديث أنس أقرب ما يحتج به، والجواب عنه من وجهين: أحدهما أنه خاف عليهم الفتنة إذا أفرطوا في تعظيمه فكره قيامهم له لهذا المعنى كما قال: "لا تطروني" ولم يكره قيام بعضهم لبعض، فإنه قد قام لبعضهم وقاموا لغيره بحضرته فلم ينكر عليهم بل أقره وأمر به. ثانيهما أنه كان بينه وبين أصحابه من الأنس وكمال الود والصفاء ما لا يحتمل زيادة بالإكرام بالقيام، فلم يكن في القيام مقصود، وإن فرض للإنسان صاحب بهذه الحالة لم يحتج إلى القيام. واعترض ابن الحاج بأنه لا يتم الجواب الأول إلا لو سلم أن الصحابة لم يكونوا يقومون لأحد أصلا، فإذا خصوه بالقيام له دخل في الإطراء، لكنه قرر أنهم يفعلون ذلك لغيره فكيف يسوغ لهم أن يفعلوا مع غيره ما لا يؤمن معه الإطراء ويتركوه في حقه؟ فإن كان فعلهم ذلك للإكرام فهو أولى بالإكرام لأن المنصوص على الأمر بتوقيره فوق غيره، فالظاهر أن قيامهم لغيره إنما كان لضرورة قدوم أو تهنئة أو نحو ذلك من الأسباب المتقدمة لا على صورة محل النزاع، وأن كراهته لذلك إنما هي في صورة محل النزاع أو للمعنى المذموم في حديث معاوية. قال: والجواب عن الثاني أنه لو عكس فقال: إن كان الصاحب لم تتأكد صحبته له ولا عرف قدره فهو معذور بترك القيام بخلاف من تأكدت صحبته له وعظمت منزلته منه وعرف مقداره لكان متجها فإنه يتأكد في حقه مزيد البر والإكرام والتوقير أكثر من غيره، قال: ويلزم على قوله أن من كان أحق به وأقرب منه منزلة كان أقل توقيرا له ممن بعد لأجل الأنس وكمال الود، والواقع في صحيح الأخبار خلاف ذلك كما وقع في قصة السهو وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وقد كلمه ذو اليدين مع بعد منزلته منه بالنسبة إلى أبي بكر وعمر، قال: ويلزم على هذا أن خواص العالم والكبير والرئيس لا يعظمونه ولا يوقرونه لا بالقيام ولا بغيره؛ بخلاف من بعد منه، وهذا خلاف ما عليه عمل السلف والخلف انتهى كلامه. وقال النووي في الجواب عن حديث معاوية: إن الأصح والأولى، بل الذي لا حاجة إلى ما سواه، أن معناه زجر المكلف أن يجب قيام الناس له. قال: وليس فيه تعرض للقيام بمنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه. قال: والمنهي عنه محبة القيام، فلو لم يخطر بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا لوم عليه، فإن أحب ارتكب التحريم سواء قاموا أو لم يقوموا. قال: فلا يصح الاحتجاج به لترك القيام. فإن قيل: فالقيام سبب للوقوع في المنهي عنه، قلنا: هذا فاسد، لأنا قدمنا أن الوقوع في المنهي عنه يتعلق بالمحبة خاصة انتهى ملخصا. ولا يخفى ما فيه. واعترضه ابن الحاج بأن الصحابي الذي تلقى ذلك

(11/53)


من صاحب الشرع قد فهم منه النهي عن القيام الموقع للذي يقام له في المحذور، فصوب فعل من امتنع من القيام دون من قام، وأقروه على ذلك، وكذا قال ابن القيم في حواشي السنن: في سياق حديث معاوية رد على من زعم أن النهي إنما هو في حق من يقوم الرجال بحضرته، لأن معاوية إنما روى الحديث حين خرج فقاموا له. ثم ذكر ابن الحاج من المفاسد التي تترتب على استعمال القيام أن الشخص صار لا يتمكن فيه من التفصيل بين من يستحب إكرامه وبره كأهل الدين والخير والعلم. أو يجوز كالمستورين، وبين من لا يجوز كالظالم المعلن بالظلم أو يكره كمن لا يتصف بالعدالة وله جاه، فلولا اعتياد القيام ما احتاج أحد أن يقوم لمن يحرم إكرامه أو يكره، بل جر ذلك إلى ارتكاب النهي لما صار يترتب على الترك من الشر. وفي الجملة متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام. ونقل ابن كثير في تفسيره عن بعض المحققين التفصيل فيه فقال: المجذور أن يتخذ ديدنا كعادة الأعاجم كما دل عليه حديث أنس، وأما إن كان لقادم من سفر أو لحاكم في محل ولايته فلا بأس به. قلت: ويلتحق بذلك ما تقدم في أجوبة ابن الحاج كالتهنئة لمن حدثت له نعمة أو لإعانة العاجز أو لتوسيع المجلس أو غير ذلك والله أعلم. وقد قال الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه وعلى سبيل الإكرام لا يكره. وهذا تفصيل حسن. قال ابن التين: قوله في هذه الرواية: "حكمت فيهم بحكم الملك" ضبطناه في رواية القابسي بفتح اللام أي جبريل فيما أخبر به عن الله. وفي رواية الأصيلي بكسر اللام أي بحكم الله أي صادفت حكم الله.

(11/54)


27 - باب الْمُصَافَحَةِ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي
6263-حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ "عَنْ قَتَادَةَ قَالَ قُلْتُ لِأَنَسٍ أَكَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَعَمْ"
6264- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"
قوله: "باب المصافحة" هي مفاعلة من الصفحة والمراد بها الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد، وقد أخرج الترمذي بسند ضعيف من حديث أبي أمامة رفعه: "تمام تحيتكم بينكم المصافحة" وأخرج المصنف في "الأدب المفرد" وأبو داود بسند صحيح من طريق حميد عن أنس رفعه: "قد أقبل أهل اليمن وهم أول من حيانا بالمصافحة" وفي "جامع ابن وهب" من هذا الوجه "وكانوا أول من أظهر المصافحة". قوله: "وقال ابن مسعود: علمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهد وكفى بين كفيه" سقط هذا التعليق من رواية أبي ذر وحده وثبت للباقين، وسيأتي موصولا في الباب الذي بعده. قوله: "وقال كعب بن مالك دخلت المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إلى طلحة بن عبيد الله

(11/54)


يهرول حتى صافحني وهنأني" هو طرف من قصة كعب بن مالك الطويل في غزوة تبوك في قصة توبته، وقد تقدمت الإشارة إليه في الباب الذي قبله، وجاء ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي ذر كما سيأتي في أثناء "باب المعانقة". قوله: "عن قتادة قلت لأنس بن مالك: أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم" زاد الإسماعيلي في روايته عن همام "قال قتادة وكان الحسن يعني البصري يصافح" وجاء من وجه آخر عن أنس "قيل يا رسول الله الرجل يلقي أخاه أينحني له؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم" أخرجه الترمذي وقال حسن. قال ابن بطال: المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحبها مالك بعد كراهته. وقال النووي: المصافحة سنة مجمع عليها عند التلاقي. وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن البراء رفعه: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا" وزاد فيه ابن السني "وتكاشرا بود ونصيحة" وفي رواية لأبي داود، وحمدا الله واستغفراه، وأخرجه أبو بكر الروياني في مسنده من وجه آخر عن البراء "لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصافحني، فقلت: يا رسول الله كنت أحسب أن هذا من زي العجم، فقال: نحن أحق بالمصافحة" فذكر نحو سياق الخبر الأول. وفي مرسل عطاء الخراساني في الموطأ "تصافحوا يذهب الغل" ولم نقف علنه موصولا، واقتصر ابن عبد البر على شواهده من حديث البراء وغيره، قال النووي: وأما تخصيص المصافحة بما بعد صلاتي الصبح والعصر فقد مثل ابن عبد السلام في "القواعد" البدعة المباحة منها. قال النووي: وأصل المصافحة سنة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال لا يخرج ذلك عن أصل السنة. قلت: للنظر فيه مجال، فإن أصل صلاة النافلة سنة مرغب فيها، ومع ذلك فقد كره المحققون تخصيص وقت بها دون وقت، ومنهم من أطلق تحريم مثل ذلك كصلاة الرغائب التي لا أصل لها، ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية والأمرد الحسن. قوله: "أخبرني حيوة" بفتح المهملة والواو بينهما تحتانية ساكنة وآخرها هاء تأنيث هو ابن شريح المصري. قوله: "سمع جده عبد الله بن هشام" أي ابن زهرة بن عثمان من بني تميم بن مرة. قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب" كذا اختصره، وكذا أورده في مناقب عمر بن الخطاب، وساقه بتمامه في الأيمان والنذور، وسيأتي البحث فيه هناك. وأغفل المزي ذكره هنا. ولم يقع في رواية النسفي أيضا. وذكره الإسماعيلي هنا من رواية رشدين بن سعد وابن لهيعة جميعا عن زهرة بن معبد بتمامه، وأسقطه من كتاب الأيمان والنذور. وابن لهيعة ورشدين لميسا من شرط الصحيح، ولم يقع لأبي نعيم أيضا من طريق ابن وهب عن حيوة، فأخرجه في الأيمان والنذور بتمامه من طريق البخاري. وأخرج القدر المختصر هنا من رواية أبي زرعة وهب الله بن راشد عن زهرة بن معبد، ووهب الله هذا مختلف فيه، وليس من رجال الصحيح، ووجه إدخال هذا الحديث في المصافحة أن الأخذ باليد يستلزم التقاء صفحة اليد بصفحة اليد غالبا ومن ثم أفردها بترجمة تلي هذه لجواز وقوع الأخذ باليد من غير حصول المصافحة، قال ابن عبد البر: روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة، وذهب إلى هذا سحنون وجماعة، وقد جاء عن مالك جواز المصافحة، وهو الذي يدل عليه صنيعه في الموطأ، وعلى جوازه جماعة العلماء سلفا وحلفا، والله أعلم.

(11/55)


28 - باب الأَخْذِ بِالْيَد وَصَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ابْنَ الْمُبَارَكِ بِيَدَيْهِ

(11/55)


6265- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَيْفٌ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا السَّلاَمُ يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب الأخذ باليد" كذا في رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي، وللباقين "باليدين" وفي نسخة "باليمين" وهو غلط.وسقطت هذه الترجمة وأثرها وحديثها من رواية النسفي.قوله: "وصافح حماد بن زيد ابن المبارك بيديه" وصله غنجار في "تاريخ بخاري" من طريق إسحاق بن أحمد بن خلف قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول سمع أبي من مالك، ورأى حماد بن زيد يصافح ابن المبارك بكلتا يديه. وذكر البخاري في "التاريخ" في ترجمة أبيه نحوه وقال في ترجمة عبد الله بن سلمة المرادي حدثني أصحابنا يحيى وغيره عن أبي إسماعيل بن إبراهيم قال: رأيت حماد بن زيد وجاءه ابن المبارك بمكة فصافحه بكلتا يديه، ويحيى المذكور هو ابن جعفر البيكندي، وقد أخرج الترمذي من حديث ابن مسعود رفعه: "من تمام التحية الأخذ باليد" وفي سنده ضعف، وحكى الترمذي عن البخاري أنه رجح أنه موقوف على عبد الرحمن بن يزيد النخعي أحد التابعين. وأخرج ابن المبارك في "كتاب البر والصلة" من حديث أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرجل لا ينزع يده حتى يكون هو الذي ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون هو الذي يصرفه". قوله: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى بين كفيه التشهد" كذا عنده بتأخير المفعول عن الجملة الحالية. وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة الآتي التنبيه عليها بتقديم المفعول وهو لفظ التشهد. قوله في آخره "وهو بين ظهرانينا" بفتح النون وسكون التحتانية ثم نون أصله ظهرنا والتثنية باعتبار المتقدم عنه والمتأخر أي كائن بيننا والألف والنون زيادة للتأكيد ولا يجوز كسر النون الأولى قاله الجوهري وغيره. قوله: "فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي صلى الله عليه وسلم" هكذا جاء في هذه الرواية، وقد تقدم الكلام على حديث التشهد هذا في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة من رواية شقيق بن سلمة عن ابن مسعود وليست فيه هذه الزيادة، وتقدم شرحه مستوفى وأما هذه الزيادة فظاهرها أنهم كانوا يقولون "السلام عليك أيها النبي" بكاف الخطاب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تركوا الخطاب وذكروه بلفظ الغيبة فصاروا يقولون "السلام على النبي" وأما قوله في آخره: "يعني على النبي" فالقائل "يعني" هو البخاري، وإلا فقد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده ومصنفه عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال في آخره: "فلما قبض صلى الله عليه وسلم قلنا السلام على النبي" وهكذا أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم من طريق أبي بكر، وقد أشبعت القول في هذا عند شرح الحديث المذكور، قال ابن بطال: الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة وذلك مستحب عند العلماء، وإنما اختلفوا في تقبيل اليد فأنكره مالك وأنكر ما روى فيه، وأجازه آخرون واحتجوا بما روى عن عمر أنهم "لما رجعوا من الغزو حيث فروا قالوا نحن الفرارون، فقال: بل أنتم العكارون أنا فئة المؤمنين، قال فقبلنا يده" قال: "وقبل أبو لبابة وكعب بن مالك وصاحباه يد النبي صلى الله عليه وسلم حين تاب الله

(11/56)


عليهم" ذكره الأبهري، وقبل أبو عبيدة يد عمر حين قدم، وقبل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين أخذ ابن عباس بركابه، قال الأبهري: وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه التكبر والتعظم، وأما إذا كانت على وجه القربة إلى الله لدينه أو لعلمه أو لشرفه فإن ذلك جائز. قال ابن بطال: وذكر الترمذي من حديث صفوان بن عسال "أن يهوديين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات" الحديث وفي آخره: "فقبلا يده ورجله" قال الترمذي حسن صحيح قلت: حديث ابن عمر أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود، وحديث أبي لبابة أخرجه البيهقي في "الدلائل" وابن المقري، وحديث كعب وصاحبيه أخرجه ابن المقري، وحديث أبي عبيدة أخرجه سفيان في جامعه، وحديث ابن عباس أخرجه الطبري وابن المقري، وحديث صفوان أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وصححه الحاكم. وقد جمع الحافظ أبو بكر بن المقري جزءا في تقبيل اليد سمعناه، أورد فيه أحاديث كثيرة وآثارا، فمن جيدها حديث الزارع العبدي وكان في وقد عبد القيس قال: "فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله" أخرجه أبو داود، ومن حديث مزيدة العصري مثله، ومن حديث أسامة بن شريك قال: "قمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده" وسنده قوي ومن حديث جابر "أن عمر قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل يده" ومن حديث بريدة في قصة الأعرابي والشجرة فقال: "يا رسول الله ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك فأذن له" وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من رواية عبد الرحمن بن رزين قال: "أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفا له ضخمة كأنها كف بعير فقمنا إليها فقبلناها" وعن ثابت أنه قبل يد أنس. وأخرج أيضا أن عليا قبل يد العباس ورجله، وأخرجه ابن المقري؛ وأخرج من طريق أبي مالك الأشجعي قال: قلت لابن أبي أوفى ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فناولنيها فقبلتها. قال النووي: تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك من الأمور الدينية لا يكره بل يستحب، فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدنيا فمكروه شديد الكراهة وقال أبو سعيد المتولي: لا يجوز.

(11/57)


29 - باب الْمُعَانَقَةِ وَقَوْلِ الرَّجُلِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ
6266- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَلِيًّا يَعْنِي ابْنَ أَبِي طَالِبٍ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ النَّاسُ يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ فَقَالَ أَلاَ تَرَاهُ أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ الثَّلاَثِ عَبْدُ الْعَصَا وَاللَّهِ إِنِّي لاَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيُتَوَفَّى فِي وَجَعِهِ وَإِنِّي لاَعْرِفُ فِي وُجُوهِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَوْتَ فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَسْأَلَهُ فِيمَنْ يَكُونُ الأَمْرُ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا أَمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا قَالَ عَلِيٌّ وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا

(11/57)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَمْنَعُنَا لاَ يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا وَإِنِّي لاَ أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا"
قوله: "باب المعانقة وقول الرجل كيف أصبحت" كذا للأكثر، وسقط لفظ: "المعانقة" وواو العطف من رواية النسفي ومن رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي وضرب عليها الدمياطي في أصله. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه كما بينته في الوفاة النبوية. وقال الكرماني لعله ابن منصور لأنه روى عن بشر بن شعيب في "باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم".قلت: وهو استدلال على الشيء بنفسه لأن الحديث المذكور هناك وهنا واحد والصيغة في الموضعين واحدة فكان حقه إن قام الدليل عنده على أن المراد بإسحاق هناك ابن منصور أن يقول هنا كما تقدم بيانه في الوفاة النبوية. قوله: "وحدثنا أحمد بن صالح" هو إسناد آخر إلى الزهري يرد على من ظن انفراد شعيب به، وقد بينت هناك أن الإسماعيلي أخرجه أيضا من رواية صالح بن كيسان، ولم أستحضر حينئذ رواية يونس هذه، فهم على هذا ثلاثة من حفاظ أصحاب الزهري رووه عنه، وسياق المصنف على لفظ أحمد بن صالح هذا، وسياقه هناك على لفظ شعيب، والمعنى متقارب وقد ذكرت شرحه هناك. قال ابن بطال عن المهلب: ترجم للمعانقة ولم يذكرها في الباب، وإنما أراد أن يدخل فيه معانقة النبي صلى الله عليه وسلم للحسن الحديث الذي تقدم ذكره في "باب ما ذكر من الأسواق" في كتاب البيوع فلم يجد له سندا غير السند الأول فمات قبل أن يكتب فيه شيئا فبقي الباب فارغا من ذكر المعانقة، وكان بعده "باب قول الرجل كيف أصبحت" وفيه حديث علي، فلما وجد ناسخ الكتاب الترجمتين متواليتين ظنهما واحدة إذ لم يجد بينهما حديثا. وفي الكتاب مواضع من الأبواب فارغة لم يدرك أن يتمها بالأحاديث، منها في كتاب الجهاد انتهى، وفي جزمه بذلك نظر، والذي يظهر أنه أراد ما أخرجه في "الأدب المفرد" فإنه ترجم فيه: "باب المعانقة" وأورد فيه حديث جابر أنه بلغه حديث عن رجل من الصحابة قال: "فابتعت بعيرا فشددت إليه رحلي شهرا حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس فبعثت إليه فخرج، فاعتنقني واعتنقته" الحديث فهذا أولى بمراده. وقد ذكر طرفا منه في كتاب العلم معلقا فقال: "ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر في حديث واحد" وتقدم الكلام على سنده هناك. وأما جزمه بأنه لم يجد لحديث أبي هريرة سندا آخر ففيه نظر لأنه أورده في كتاب اللباس بسند آخر وعلقه في مناقب الحسن فقال: وقال نافع بن جبير عن أبي هريرة، فذكر طرفا منه، فلو كان أراد ذكره لعلق منه موضع حاجته أيضا بحذف أكثر السند أو بعضه كأن يقول: وقال أبو هريرة، أو قال عبيد الله بن أبي يزيد عن نافع بن جبير عن أبي هريرة، وأما قوله إنهما ترجمتان خلت الأولى عن الحديث فضمهما الناسخ فإنه محتمل - ولكن في الجزم به نظر. وقد ذكرت في المقدمة عن أبي ذر راوي الكتاب ما يؤيد ما ذكره من أن بعض من سمع الكتاب كان يضم بعض التراجم إلى بعض ويسد البياض وهي قاعدة يفزع إليها عند العجز عن تطبيق الحديث على الترجمة، ويؤيده إسقاط لفظ المعانقة من رواية من ذكرنا، وقد ترجم في الأدب "باب كيف أصبحت" وأورد فيه حديث ابن عباس المذكور وأفرد باب المعانقة عن هذا الباب وأورد فيه حديث جابر كما ذكرت، وقوى ابن التين ما قال ابن بطال بأنه وقع عنده في رواية: "باب المعانقة" قول الرجل كيف أصبحت بغير واو فدل على أنهما ترجمتان. وقد أخذ ابن جماعة كلام ابن بطال جازما به واختصره وزاد عليه فقال: ترجم بالمعانقة ولم يذكرها وإنما ذكرها في كتاب البيوع، وكأنه ترجم ولم

(11/58)


يتفق له حديث يوافقه في المعنى ولا طريق آخر لسند معانقة الحسن، ولم ير أن يرويه بذلك السند لأنه ليس من عادته إعادة السند الواحد، أو لعله أخذ المعانقة من عادتهم عند قولهم كيف أصبحت فاكتفى بكيف أصبحت لاقتران المعانقة به عادة. قلت: وقد قدمت الجواب عن الاحتمالين الأولين، وأما الاحتمال الأخير فدعوى العادة تحتاج إلى دليل وقد أورد البخاري في "الأدب المفرد" في "باب كيف أصبحت" حديث محمود بن لبيد "أن سعد بن معاذ لما أصيب أكحله كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: كيف أصبحت" الحديث، وليس فيه للمعانقة ذكر، وكذلك أخرج النسائي من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: "دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أصبحت؟ فقال: صالح من رجل لم يصبح صائما" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن أبي عمر نحوه. وأخرج البخاري أيضا في "الأدب المفرد" من حديث جابر قال: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم كيف أصبحت؟ قال بخير" الحديث. ومن حديث مهاجر الصائغ "كنت أجلس إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا قيل له كيف أصبحت؟ قال: لا نشرك بالله" ومن طريق أبي الطفيل قال: "قال رجل لحذيفة: كيف أصبحت، أو كيف أمسيت يا أبا عبد الله؟ قال: أحمد الله" ومن طريق أنس أنه "سمع عمر سلم عليه رجل فرد ثم قال له: كيف أنت؟ قال أحمد الله. قال هذا الذي أردت منك" وأخرج الطبراني في "الأوسط" نحو هذا من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا، فهذه عدة أخبار لم تقترن فيها المعانقة بقول كيف أصبحت ونحوها بل ولم يقع في حديث الباب أن اثنين تلاقيا فقال أحدهما للآخر كيف أصبحت حتى يستقيم الحمل على العادة في المعانقة حينئذ، وإنما فيه أن من حضر باب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأوا خروج علي من عند النبي صلى الله عليه وسلم سألوه عن حاله في مرضه فأخبرهم، فالراجح أن ترجمة المعانقة كانت خالية من الحديث كما تقدم، وقد ورد في المعانقة أيضا حديث أبي ذر أخرجه أحمد وأبو داود من طريق رجل من عنزة لم يسم قال: "قلت لأبي ذر هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه. قال: ما لقيته قط إلا صافحني، وبعث إلي ذات يوم فلم أكن في أهلي، فلما جئت أخبرت أنه أرسل إلي فأتيته وهو على سريره فالتزمني، فكانت أجود وأجود" ورجاله ثقات، إلا هذا الرجل المبهم. وأخرج الطبراني في "الأوسط" من حديث أنس "كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا" وله في الكبير "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي أصحابه لم يصافحهم حتى يسلم عليهم" قال ابن بطال: اختلف الناس في المعانقة، فكرهها مالك، وأجازها ابن عيينة. ثم ساق قصتهما في ذلك من طريق سعيد بن إسحاق وهو مجهول عن علي بن يونس الليثي المدني وهو كذلك، وأخرجها ابن عساكر في ترجمة جعفر من تاريخه من وجه آخر عن علي بن يونس قال: استأذن سفيان بن عيينة على مالك فأذن له فقال: السلام عليكم فردوا عليه، ثم قال: السلام خاص وعام، السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السلام يا أبا محمد ورحمة الله وبركاته. ثم قال: لولا أنها بدعة لعانقتك. قال قد عانق من هو خير منك قال جعفر؟ قال: نعم.قال: ذاك خاص قال: ما عمه يعمنا. ثم ساق سفيان الحديث عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: "لما قدم جعفر من الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث. قال الذهبي في "الميزان ": هذه الحكاية باطلة، وإسنادها مظلم. قلت: والمحفوظ عن ابن عيينة بغير هذا الإسناد، فأخرج سفيان بن عيينة في جامعه عن الأجلح عن الشعبي "أن جعفرا لما قدم تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل جعفرا بين عيينة" وأخرج البغوي في "معجم الصحابة" من حديث عائشة "لما قدم جعفر استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل ما بين عينيه" وسنده

(11/59)


موصول لكن في سنده محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير وهو ضعيف. وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: "قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه فاعتنقه وقبله" قال الترمذي: حديث حسن. وأخرج قاسم بن أصبغ" عن أبي الهيثم بن التيهان أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه فاعتنقه وقبله" وسنده ضعيف. قال المهلب: في أخذ العباس بيد علي جواز المصافحة والسؤال عن حال العليل كيف أصبح، وفيه جواز اليمين على غلبة الظن، وفيه أن الخلافة لم تذكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أصلا لأن العباس حلف أنه يصير مأمورا لا آمرا لما كان يعرف من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم بها إلى غيره، وفي سكوت علي دليل على علم علي بما قال العباس، قال: وأما قول علي لو صرح النبي صلى الله عليه وسلم بصرفها عن بني عبد المطلب لم يمكنهم أحد بعده منها فليس كما ظن، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" وقيل له لو أمرت عمر فامتنع ثم لم يمنع ذلك عمر من ولايتها بعد ذلك. قلت: وهو كلام من لم يفهم مراد علي. وقد قدمت في شرح الحديث في الوفاة النبوية بيان مراده، وحاصله أنه إنما خشي أن يكون منع النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الخلافة حجة قاطعة بمنعهم منها على الاستمرار تمسكا بالمنع الأول لو رده بمنع الخلافة نصا، وأما منع الصلاة فليس فيه نص على منع الخلافة وإن كان في التنصيص على إمامة أبي بكر في مرضه إشارة إلى أنه أحق بالخلافة فهو بطريق الاستنباط لا النص، ولولا قرينة كونه في مرض الموت ما قوى، وإلا فقد استناب في الصلاة قبل ذلك غيره في أسفاره والله أعلم. وأما ما استنبطه أولا ففيه نظر، لأن مستند العباس في ذلك الفراسة وقرائن الأحوال، ولم ينحصر ذلك في أن معه من النبي صلى الله عليه وسلم النص على منع علي من الخلافة، وهذا بين من سياق القصة، وقد قدمت هناك أن في بعض طرق هذا الحديث أن العباس قال لعلي بعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم: ابسط يدك أبايعك فيبايعك الناس فلم يفعل، فهذا دال على أن العباس لم يكن عنده في ذلك نص والله أعلم. وقول العباس في هذه الرواية لعلي "ألا تراه: أنت والله بعد ثلاث إلخ" قال ابن التين: الضمير في تراه للنبي صلى الله عليه وسلم وتعقب بأن الأظهر أنه ضمير الشأن وليست الرؤية هنا الروية البصرية، وقد وقع في سائر الروايات "ألا ترى" بغير ضمير. وقوله: "لو لم تكن الخلافة فينا آمرناه" قال ابن التين: فهو بمد الهمزة أي شاورناه، قال وقرأناه بالقصر من الأمر. قلت: وهو المشهور. والمراد سألناه، لأن صيغة الطلب كصيغة الأمر، ولعله أراد أنه يؤكد عليه في السؤال حتى يصير كأنه آمر له بذلك. وقال الكرماني: فيه دلالة على أن الأمر لا يشترط فيه العلو ولا الاستعلاء. وحكى ابن التين عن الداودي أن أول ما استعمل الناس "كيف أصبحت" في زمن طاعون عمواس، وتعقبه بأن العرب كانت تقوله قبل الإسلام. وبأن المسلمين قالوه في هذا الحديث. قلت: والجواب حمل الأولية على ما وقع في الإسلام، لأن الإسلام جاء بمشروعية السلام للمتلاقيين، ثم حدث السؤال عن الحال، وقل من صار يجمع بينهما، والسنة البداءة بالسلام، وكأن السبب فيه ما وقع من الطاعون فكانت الداعية متوفرة على سؤال الشخص من صديقه عن حاله فيه ثم كثر ذلك حتى اكتفوا به عن السلام، ويمكن الفرق بين سؤال الشخص عمن عنده ممن عرف أنه متوجع وبين سؤال من حاله يحتمل الحدوث.

(11/60)


باب من أجاب بلبيك و سعديك
...
30 - باب مَنْ أَجَابَ بِلَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ
6267- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا همام عن قتادة عن أنس "عن معاذ قال أنا رديف النبي

(11/60)


صلى الله عليه وسلم فقال:" يا معاذ قلت لبيك وسعديك قال مثله ثلاثا هل تدري ما حق الله على العباد قلت لا قال حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثم سار ساعة فقال يا معاذ قلت لبيك وسعديك قال هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم حدثنا هدبة حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس عن معاذ.. بهذا"
6268- حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا زيد بن وهب "حدثنا والله أبو ذر بالربذة قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء استقبلنا أحد فقال يا أبا ذر ما أحب أن أحدا لي ذهبا يأتي علي ليلة أو ثلاث عندي منه دينار إلا أرصده لدين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا وأرانا بيده ثم قال يا أبا ذر قلت لبيك وسعديك يا رسول الله قال الأكثرون هم الأقلون إلا من قال هكذا وهكذا ثم قال لي مكانك لا تبرح يا أبا ذر حتى أرجع فانطلق حتى غاب عني فسمعت صوتا فخشيت أن يكون عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأردت أن أذهب ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبرح فمكثت قلت يا رسول الله سمعت صوتا خشيت أن يكون عرض لك ثم ذكرت قولك فقمت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذاك جبريل أتاني فأخبرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة قلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قلت لزيد إنه بلغني أنه أبو الدرداء فقال أشهد لحدثنيه أبو ذر بالربذة قال الأعمش وحدثني أبو صالح عن أبي الدرداء نحوه وقال أبو شهاب عن الأعمش يمكث عندي فوق ثلاث"
قوله: "باب من أجاب بلبيك وسعديك" ذكر فيه حديث أنس عن معاذ قال: "أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا معاذ، قلت: لبيك وسعديك" وقد تقدم شرح هاتين الكلمتين في كتاب الحج وتقدم شرح بعض حديث معاذ في كتاب العلم وفي الجهاد ويأتي مستوفى في كتاب الرقاق، وكذلك حديث أبي ذر المذكور في الباب بعده وقوله فيه: "قلت لزيد" أي ابن وهب، والقائل هو الأعمش وهو موصول بالإسناد المذكور، وقد بين في الرواية التي تليها أن الأعمش رواه عن أبي صالح عن أبي الدرداء، وقوله: "وقال أبو شهاب عن الأعمش" يعني عن زيد بن وهب عن أبي ذر كما تقدم موصولا في كتاب الاستقراض، والمراد أنه أتى بقوله: "يمكث عندي فوق ثلاث" بدل قوله في رواية هذا الباب: "تأتي على ليلة أو ثلاث عندي منه دينار" وبقية سياق الحديث سواء إلا الكلام الأخير في سؤال الأعمش زيد بن وهب إلى آخره، وقوله: "أرصده" بضم أوله، وقوله: "فقمت" أي أقمت في موضعي وهو كقوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} وقد ورد ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم فأخرج النسائي وصححه ابن حبان من حديث محمد بن حاطب قال: "انطلقت بي أمي إلى رجل جالس فقالت له: يا رسول الله قال: لبيك وسعديك"

(11/61)


قلت: وأمه هي أم جميل بالجيم بنت المحلل بمهملة ولامين الأولى ثقيلة.

(11/62)


باب لايقيم الرجل للرجل من مجلسه
...
31 - باب لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ
6269- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ"
قوله: "باب لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه" هكذا ترجم بلفظ الخبر وهو خبر معناه النهي، وقد رواه ابن وهب بلفظ النهي "لا يقم" وكذا رواه ابن الحسن، ورواه القاسم بن يزيد وطاهر بن مدرار بلفظ: "لا يقيمن" وكذا وقع في رواية الليث عند مسلم بلفظ النهي الموكد، وكذا عنده من رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه. قوله: "حدثنا إسماعيل بن عبد الله" هو ابن أبي أويس" وهذا الحديث ليس في الموطأ إلا عند ابن وهب ومحمد بن الحسن، وقد أخرجه الدار قطني من رواية إسماعيل وابن وهب وابن الحسن والوليد بن مسلم والقاسم بن يزيد وطاهر بن مدرار كلهم عن مالك، وأخرجه الإسماعيلي من رواية القاسم بن يزيد الجرمي وعبد الله بن وهب جميعا عن مالك؛ وضاق على أبي نعيم فأخرجه من طريق البخاري نفسه، وقد تقدم في كتاب الجمعة من رواية ابن جريج عن نافع، ويأتي في الباب الذي يليه من رواية عبد الله بن عمر العمري عن نافع وسياقه أتم ويأتي شرحه فيه.

(11/62)


باب { إذا قيل تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم....}
...
32 - باب {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجْالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشِزُوا فَانْشِزُوا} الْآيَةَ
6270- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ مَكَانَهُ"
قوله: "باب إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا" كذا لأبي ذر، وزاد غيره { وإذا قيل انشزوا فانشزوا} الآية. اختلف في معنى الآية فقيل إن ذلك خاص بمجلس النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن بطال قال بعضهم: هو مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة عن مجاهد وقتادة قلت: لفظ الطبري عن قتادة "كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأوه مقبلا ضيقوا مجلسهم، فأمرهم الله تعالى أن يوسع بعضهم لبعض". قلت: لا يلزم من كون الآية نزلت في ذلك الاختصاص. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان بفتح المهملة والتحتانية الثقيلة قال: "نزلت يوم الجمعة أقبل جماعة من المهاجرين والأنصار من أهل بدر فلم يجدوا مكانا، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم ناسا ممن تأخر إسلامه فأجلسهم في أماكنهم، فشق ذلك عليهم، وتكلم المنافقون في ذلك، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا}" وعن الحسن البصري: المراد بذلك مجلس القتال، قال: ومعنى قوله: {انْشُزُوا} انهضوا للقتال.وذهب الجمهور إلى أنها عامة في كل مجلس من مجالس الخير، وقوله: {فَافْسَحُوا

(11/62)


33 - باب مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَوْ بَيْتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ أَصْحَابَهُ أَوْ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ لِيَقُومَ النَّاسُ
6271- حدثنا الحسن بن عمر حدثنا معتمر سمعت أبي يذكر عن أبي مجلز "عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا الناس طعموا ثم جلسوا يتحدثون قال فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام معه من الناس وبقى ثلاثة وإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقوا قال فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فأرخى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ -إلى قوله- إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً}

(11/64)


قوله: "باب من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن أصحابه، أو تهيأ للقيام ليقوم الناس" ذكر فيه حديث أنس في قصة زواج زينب بنت جحش ونزول آية الحجاب، وفيه: "فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام معه من الناس وبقي ثلاثة" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في تفسير سورة الأحزاب. قال ابن بطال: فيه أنه لا ينبغي لأحد أن يدخل بيت غيره إلا بإذنه، وأن المأذون له لا يطيل الجلوس بعد تمام ما أذن له فيه لئلا يؤذي أصحاب المنزل ويمنعهم من التصرف في حوائجهم. وفيه أن من فعل ذلك حتى تضرر به صاحب المنزل أن لصاحب المنزل أن يظهر التثاقل به وأن يقوم بغير إذن حتى يتفطن له، وأن صاحب المنزل إذا خرج من منزله لم يكن للمأذون له في الدخول أن يقيم إلا بإذن جديد، والله أعلم.

(11/65)


34 - باب الِاحْتِبَاءِ بِالْيَدِ وَهُوَ الْقُرْفُصَاءُ
6272- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ "ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا..."
قوله: "باب الاحتباء باليد وهو" وقع في رواية الكشميهني: "وهي" "القرفصاء" بضم القاف والفاء بينهما راء ساكنة ثم صاد مهملة ومد. وقال الفراء: إن ضممت القاف والفاء مددت وإن كسرت قصرت، والذي فسر به البخاري الاحتباء أخذه من كلام أبي عبيدة فإنه قال: القرفصاء جلسة المحتبى، ويدير ذراعيه ويديه على ساقيه. وقال عياض: قيل هي الاحتباء، وقيل جلسة الرجل المستوفز، وقيل جلسة الرجل على أليتيه. قال: وحديث قيلة يدل عليه لأن فيه: "وبيده عسيب نخلة" فدل على أنه لم يحتب بيديه. قلت: ولا دلالة فيه على نفي الاحتباء فإنه تارة يكون باليدين وتارة بثوب، فلعله في الوقت الذي رأته قيلة كان محتبيا بثوبه، وقد قال ابن فارس وغيره: الاحتباء أن يجمع ثوبه ظهره وركبتيه. قلت: وحديث قيلة وهي بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها لام أخرجه أبو داود والترمذي في "الشمائل" والطبراني وطوله بسند لا بأس به أنها قالت. فذكر الحديث وفيه: "قالت فجاء رجل قال السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله، وعليه أسمال مليتين قد كانتا بزعفران فنفضتا، وبيده عسيب نخلة مقشرة قاعدا القرفصاء. قالت: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق، فقال له جليسه: يا رسول الله أرعدت المسكينة، فقال ولم ينظر إلي: يا مسكينة عليك السكينة، فذهب عني ما أجد من الرعب" الحديث. وقوله فيه: "وعليه أسمال" بمهملة جمع سمل بفتحتين وهو الثوب البالي و "مليتين" بالتصغير تثنية ملاءة وهي الرداء. وقيل القرفصاء الاعتماد على عقبيه ومس أليتيه بالأرض، والذي يتحرر من هذا كله أن الاحتباء قد يكون بصورة القرفصاء، لا أن كل احتباء قرفصاء والله أعلم. قوله: "حدثني محمد بن أبي غالب" هو القومسي بضم القاف وسكون الواو وبالسين المهملة، نزل بغداد، وهو من صغار شيوخ البخاري ومات قبله بست سنين، وليس له عنده سوى هذا الحديث وحديث آخر في كتاب التوحيد. ولهم شيخ آخر يقال له محمد بن أبي غالب الواسطي نزيل بغداد، قال أبو نصر الكلاباذي سمع من هشيم ومات قبل القومسي بست وعشرين سنة. قوله: "محمد بن فليح عن أبيه" هو فليح بن سليمان المدني، وقد نزل البخاري في حديثه هذا درجتين لأنه سمع الكثير من أصحاب فليح مثل يحيى بن صالح ونزل في حديث إبراهيم بن المنذر درجة

(11/65)


لأنه سمع منه الكثير وأخرج عنه بغير واسطة. قوله: "بفناء الكعبة" بكسر الفاء ثم نون ثم مد أي جانبها من قبل الباب. قوله: "محتبيا بيده هكذا" كذا وقع عنده مختصرا، ورويناه في الجزء السادس من "فوائد أبي محمد بن صاعد" عن محمود بن خالد عن أبي غزية وهو بفتح المعجمة وكسر الزاي وتشديد التحتانية وهو محمد بن موسى الأنصاري القاضي عن فليح نحوه وزاد: "فأرانا فليح موضع يمينه على يساره موضع الرسغ" وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أبي موسى محمد بن المثنى عن أبي غزية بسند آخر قال: "حدثنا إبراهيم بن سعد عن عمر بن محمد بن زيد عن نافع" فذكر نحو حديث الباب دون كلام فليح، وأخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن أبي غزية عن فليح ولم يذكر كلام فليح أيضا، والذي يظهر أن لأبي غزية فيه شيخين، وأبو غزية ضعفه ابن معين وغيره، ووقع عند أبي داود من حديث أبي سعيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس احتبى بيديه" زاد البزار "ونصب ركبتيه" وأخرج البزار أيضا من حديث أبي هريرة بلفظ: "جلس عند الكعبة فضم رجليه فأقامهما واحتبى بيديه" ويستثنى من الاحتباء باليدين ما إذا كان في المسجد ينتظر الصلاة فاحتبى بيديه فينبغي أن يمسك إحداهما بالأخرى كما وقعت الإشارة إليه في هذا الحديث من وضع إحداهما على رسغ الأخرى، ولا يشبك بين أصابعه في هذه الحالة، فقد ورد النهي عن ذلك عند أحمد من حديث أبي سعيد بسند لا بأس به والله أعلم. وتقدمت مباحث التشبيك في المسجد في أبواب المساجد من كتاب الصلاة. وقال ابن بطال: لا يجوز للمحتبى أن يصنع بيديه شيئا ويتحرك لصلاة أو غيرها لأن عورته تبدو إلا إذ كان عليه ثوب يستر عورته فيجوز، وهذا بناء على أن الاحتباء قد يكون باليدين فقط وهو المعتمد، وفرق الداودي فيما حكاه عنه ابن التين بين الاحتباء والقرفصاء فقال: الاحتباء أن يقيم رجليه ويفرج بين ركبيته ويدير عليه ثوبا ويعقده، فإن كان عليه قميص أو غيره فلا ينهى عنه، وإن لم يكن عليه شيء فهو القرفصاء. كذا قال والمعتمد ما تقدم.

(11/66)


باب من اتكأ بين أصحابه
...
35 - باب مَنْ اتَّكَأَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ
قَالَ خَبَّابٌ "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً قُلْتُ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ"
6273-حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ "عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ"
6274- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ مِثْلَهُ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ"
قوله: "باب من اتكأ بين يدي أصحابه" قيل: الاتكاء الاضطجاع، وقد مضى في حديث عمر في كتاب الطلاق "وهو متكئ على سرير" أي مضطجع، بدليل قوله: "قد أثر السرير في جنبه" كذا قال عياض، وفيه نظر لأنه يصح مع عدم تمام الاضطجاع، وقد قال الخطابي: كل معتمد على شيء متمكن منه فهو متكئ، وإيراد البخاري حديث خباب المعلق يشير به إلى أن الاضطجاع اتكاء وزيادة. وأخرج الدارمي والترمذي وصححه هو

(11/66)


وأبو عوانة وابن حبان عن جابر بن سمرة "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم متكئا على وسادة" ونقل ابن العربي عن بعض الأطباء أنه كره الاتكاء، وتعقبه بأن فيه راحة كالاستناد والاحتباء. قوله: "وقال خباب" بفتح المعجمة وتشديد الموحدة وآخره موحدة أيضا هو ابن الأرت الصحابي، وهذا القدر المعلق طرف من حديث له تقدم موصولا في علامات النبوة. حديث أبي بكرة في أكبر الكبائر وأورده من طريقين لقوله فيه: "وكان متكئا فجلس" وقد تقدمت الإشارة إليه في أوائل كتاب الأدب، وورد في مثل ذلك حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة لما قال: "أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: ذلك الأبيض المتكئ" قال المهلب: يجوز للعالم والمفتي والإمام الاتكاء في مجلسه بحضرة الناس لألم يجده في بعض أعضائه أو لراحة يرتفق بذلك ولا يكون ذلك في عامة جلوسه.

(11/67)


36 - باب مَنْ أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ لِحَاجَةٍ أَوْ قَصْدٍ
6275- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ"
قوله: "باب من أسرع في مشيه لحاجة" أي لسبب من الأسباب، وقوله: "أو قصد" أي لأجل قصد شيء معروف، والقصد هنا بمعنى المقصود، أي أسرع لأمر المقصود. حديث عقبة بن الحارث، قال ابن بطال: فيه جواز إسراع الإمام في حاجته، وقد جاء أن إسراعه عليه الصلاة والسلام في دخوله إنما كان لأجل صدقة أحب أن يفرقها في وقته. قلت: وهذا الذي أشار إليه متصل في حديث عقبة بن الحارث المذكور كما تقدم واضحا في كتاب الزكاة، فإنه أخرجه هناك بالإسناد الذي ذكره هنا تاما، وتقدم أيضا في صلاة الجماعة. وقال في الترجمة "لحاجة أو قصد" لأن الظاهر من السياق أنه كان لتلك الحاجة الخاصة فيشعر بأن مشيه لغير الحاجة كان على هينته، ومن ثم تعجبوا من إسراعه، فدل على أنه وقع على غير عادته. فحاصل الترجمة أن الإسراع في المشي إن كان لحاجة لم يكن به بأس، وإن كان عمدا لغير حاجة فلا. وقد أخرج ابن المبارك في كتاب الاستئذان بسند مرسل أن مشية النبي صلى الله عليه وسلم كانت مشية السوقي لا العاجز ولا الكسلان. وأخرج أيضا: "كان ابن عمر يسرع في المشي ويقول هو أبعد من الزهو، وأسرع في الحاجة". قال غيره: وفيه اشتغال عن النظر إلى ما لا ينبغي التشاغل به. وقال ابن العربي: المشي على قدر الحاجة هو السنة إسراعا وبطئا، لا التصنيع فيه ولا التهور.

(11/67)


37 - باب السَّرِيرِ
6276- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَسْطَ السَّرِيرِ وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ تَكُونُ لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ فَأَسْتَقْبِلَهُ فَأَنْسَلُّ انْسِلاَلًا"
قوله: "باب السرير" بمهملات وزن عظيم معروف. ذكر الراغب أنه مأخوذ من السرور لأنه في الغالب لأولى

(11/67)


38 - باب مَنْ أُلْقِيَ لَهُ وِسَادَةٌ
6277- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ ح و حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ "قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ زَيْدٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَحَدَّثَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي فَدَخَلَ عَلَيَّ فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ وَصَارَتْ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَقَالَ لِي " أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خَمْسًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ سَبْعًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تِسْعًا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِحْدَى عَشْرَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لاَ صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ شَطْرَ الدَّهْرِ صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ"
6278- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَدِمَ الشَّأْمَ ح و حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ "ذَهَبَ عَلْقَمَةُ إِلَى الشَّأْمِ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي جَلِيسًا فَقَعَدَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ مِمَّنْ أَنْتَ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي كَانَ لاَ يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ يَعْنِي حُذَيْفَةَ أَلَيْسَ فِيكُمْ أَوْ كَانَ فِيكُمْ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي عَمَّارًا أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالْوِسَادِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ كَيْفَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَأُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قَالَ { وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} فَقَالَ مَا زَالَ هَؤُلاَءِ حَتَّى كَادُوا يُشَكِّكُونِي وَقَدْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب من ألقي له وسادة" ألقى بضم أوله على البناء للمجهول، وذكره لأن التأنيث ليس حقيقيا. ويقال وسادة ووساد وهي بكسر الواو وتقولها هذيل بالهمز بدل الواو ما يوضع عليه الرأس وقد يتكأ عليه وهو المراد هنا. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن شاهين الواسطي؛ وخالد شيخه هو ابن عبد الله الطحان، وقوله: "وحدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وعمرو بن عون من شيوخ البخاري وقد أخرج عنه في الصلاة وغيرها.

(11/68)


بغير واسطة، وشيخه هو الطحان المذكور، وشيخه خالد هو ابن مهران الحذاء، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد الثاني درجة، وقد تقدم هذا الحديث عن إسحاق بن شاهين بهذا الإسناد في كتاب الصلاة، وتقدمت مباحث المتن في الصيام، وساقه المصنف هنا على لفظ عمرو بن عون، وهذا هو السر في إيراده له من هذا الوجه النازل حتى لا تتمحض إعادته بسند واحد على صفة واحدة، وقد أطرد له هذا الصنيع إلا في مواضع يسيرة إما ذهولا وإما لضيق المخرج. قوله: "أخبرني أبو المليح" بوزن عظيم اسمه عامر وقيل زيد بن أسامة الهذلي. قوله: "دخلت مع أبيك زيد" هذا الخطاب لأبي قلابة واسمه عبد الله بن زيد، ولم أر لزيد ذكرا إلا في هذا الخبر، وهو ابن عمرو وقيل ابن عامر بن ناتل بنون ومثناة ابن مالك بن عبيد الجرمي. قوله: "فألقيت له وسادة" قال المهلب فيه إكرام الكبير، وجواز زيارة الكبير تلميذه وتعليمه في منزله ما يحتاج إليه في دينه، وإيثار التواضع وحمل النفس عليه، وجواز رد الكرامة حيث لا يتأذى بذلك من تردد عليه. قوله: "حدثنا يحيى بن جعفر" هو البيكندي، ويزيد هو ابن هارون، ومغيرة هو ابن مقسم، وإبراهيم هو النخعي، وقد تقدم الحديث في مناقب عمار مشروحا، وقوله فيه: "ارزقني جليسا" في رواية سليمان بن حرب عن شعبة في مناقب عمار "جليسا صالحا" وكذا في معظم الروايات وقوله: "أو ليس فيكم صاحب السواك والوساد" في رواية الكشميهني: "الوسادة" يعني أن ابن مسعود كان يتولى أمر سواك رسول الله صلى الله عليه وسلم ووساده، ويتعاهد خدمته في ذلك بالإصلاح وغيره، وقد تقدم في المناقب بزيادة "والمطهرة" وتقدم الرد على الداودي في زعمه أن المراد أن ابن مسعود لم يكن في ملكه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سوى هذه الأشياء الثلاثة، وقد قال ابن التين هنا: المراد أنه لم يكن له سواهما جهازا وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه إياهما، وليس ذلك مراد أبي الدرداء، بل السياق يرشد إلى أنه أراد وصف كل واحد من الصحابة بما كان اختص به من الفضل دون غيره من الصحابة، وقضية ما قاله الداودي هناك وابن التين هنا أن يكون وصفه بالتقلل، وتلك صفة كانت لغالب من كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضلاء الصحابة والله أعلم. وقوله فيه: "أليس فيكم أو كان فيكم" هو شك من شعبة، وقد رواه إسرائيل عن مغيرة. بلفظ: "وفيكم" وهي في مناقب عمار، ورواه أبو عوانة عن مغيرة بلفظ: "أو لم يكن فيكم" وهي في مناقب ابن مسعود. قوله: "الذي أجاره الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الشيطان يعني عمارا" في رواية إسرائيل "الذي أجاره الله من الشيطان" يعني على لسان رسوله. وفي رواية أبي عوانة "ألم يكن فيكم الذي أجير من الشيطان" وقد تقدم بيان المراد بذلك في المناقب، ويحتمل أن يكون أشير بذلك إلى ما جاء عن عمار أن كان ثابتا، فإن الطبراني أخرج من طريق الحسن البصري قال: كان عمار يقول قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والإنس، أرسلني إلى بئر بدر فلقيت الشيطان في صورة إنسي فصارعني فصرعته الحديث. وفي سنده الحكم بن عطية مختلف فيه، والحسن لم يسمع من عمار.

(11/69)


39 - باب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
6279- حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن أبي حازم "عن سهل بن سعد قال: كنا نقيل ونتغدى بعد الجمعة"
قوله: "باب القائلة بعد الجمعة" أي بعد صلاة الجمعة، وهي النوم في وسط النهار عند الزوال وما قاربه من قبل

(11/69)


أو بعد، قيل لها قائلة لأنها يحصل فيها ذلك، وهي فاعلة بمعنى مفعولة مثل {عيشة راضية} ويقال لها أيضا القيلولة. وأخرج ابن ماجه وابن خزيمة من حديث ابن عباس رفعه استعينوا على صيام النهار بالسحور، وعلى قيام الليل بالقيلولة وفي سنده زمعة بن صالح وفيه ضعف، وقد تقدم شرح حديث سهل المذكور في الباب في أواخر كتاب الجمعة، وفيه إشارة إلى أنهم كانت عادتهم ذلك في كل يوم، وورود الأمر بها في الحديث الذي أخرجه الطبراني في "الأوسط" من حديث أنس رفعه قال: "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل" وفي سنده كثير بن مروان وهو متروك. وأخرج سفيان بن عيينة في جامعه من حديث خوات بن جبير رضي الله عنه موقوفا قال: "نوم أول النهار حرق، وأوسطه خلق، وآخره حمق" وسنده صحيح.

(11/70)


40 - باب الْقَائِلَةِ فِي الْمَسْجِدِ
6180- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا دُعِيَ بِهَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ فَقَالَتْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِإِنْسَانٍ انْظُرْ أَيْنَ هُوَ فَجَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ فَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ قُمْ أَبَا تُرَابٍ قُمْ أَبَا تُرَابٍ"
قوله: "باب القائلة في المسجد" ذكر فيه حديث علي في سبب تكنيته أبا تراب، وقد تقدم في أواخر كتاب الأدب، والغرض منه قول فاطمة عليها السلام "فغاضبني فخرج فلم يقل عندي" وهو بفتح أوله وكسر القاف. قوله: "هو في المسجد راقد" قال المهلب: فيه جواز النوم في المسجد من غير ضرورة إلى ذلك، وعكسه غيره وهو الذي يظهر من سياق القصة.

(11/70)


41 - باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَقَالَ عِنْدَهُمْ
6281- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ "عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ قَالَ فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ قَالَ فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَيَّ أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ قَالَ فَجُعِلَ فِي حَنُوطِهِ"
6282-6283- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ

(11/70)


42 - باب الْجُلُوسِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ
6284- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ "عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَالِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِ الإِنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ وَالْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ"
تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
قوله: "باب الجلوس كيف ما تيسر" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر. حديث أبي سعيد في النهي عن لبستين وبيعتين، وقد تقدم شرحه في ستر العورة من كتاب الصلاة وفي كتاب البيوع، قال المهلب: هذه الترجمة قائمة من دليل الحديث، وذلك أنه نهى عن حالتين ففهم منه إباحة غيرهما مما تيسر من الهيئات والملابس إذا ستر العورة. قلت: والذي يظهر لي أن المناسبة تؤخذ من جهة العدول عن النهي عن هيئة الجلوس إلى النهي عن لبستين يستلزم كل منهما انكشاف العورة، فلو كانت الجلسة مكروهة لذاتها لم يتعرض لذكر اللبس، فدل على أن النهي عن جلسة تفضي إلى كشف العورة وما لا يفضي إلى كشف العورة يباح في كل صورة، ثم ادعى المهلب أن النهي عن هاتين اللبستين خاص بحالة الصلاة لكونهما لا يستران العورة في الخفض والرفع، وأما الجالس في غير الصلاة فإنه لا يصنع شيئا ولا يتصرف بيديه فلا تنكشف عورته فلا حرج عليه، قال: وقد سبق في باب الاحتباء أنه صلى الله عليه وسلم احتبى. قلت: وغفل رحمه الله عما وقع من التقييد في نفس الخبر، فإن فيه: "والاحتباء في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء" وتقدم في "باب اشتمال الصماء" من كتاب اللباس وفيه: "والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه" وستر العورة مطلوب في كل حالة وإن تأكد في حالة الصلاة لكونها قد تبطل بتركه، ونقل ابن بطال عن ابن طاوس أنه كان يكره التربع ويقول هي جلسة مملكة، وتعقب بما أخرجه مسلم والثلاثة من حديث جابر بن سمرة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس" ويمكن الجمع. قوله: "تابعه معمر ومحمد بن أبي حفص وعبد الله بن بديل عن الزهري" أما متابعة معمر فوصلها المؤلف في البيوع، وأما متابعة محمد بن أبي حفص فهي عند أبي أحمد بن عدي في نسخة أحمد بن حفص النيسابوري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن محمد بن أبي حفص، وأما متابعة عبد الله بن بديل فأظنها في "الزهريات" جمع الذهلي، والله أعلم.

(11/79)


43 - باب مَنْ نَاجَى بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ وَمَنْ لَمْ يُخْبِرْ بِسِرِّ صَاحِبِهِ فَإِذَا مَاتَ أَخْبَرَ بِهِ
6285-6286- حدثنا موسى عن أبي عوانة حدثنا فراس عن عامر عن مسروق "حدثتني عائشة أم المؤمنين قالت إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعا لم تغادر منا واحدة فأقبلت فاطمة عليها السلام

(11/79)


44 - باب الِاسْتِلْقَاءِ
6287- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا الزهري قال أخبرني عباد بن تميم عن عمه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مستلقيا واضعا إحدى رجليه على الأخرى"

(11/80)


قوله: "باب الاستلقاء" هو الاضطجاع على القفا سواء كان معه نوم أم لا. وقد تقدمت هذه الترجمة وحديثها في آخر كتاب اللباس قبيل كتاب الأدب، وتقدم بيان الحكم في أبواب المساجد من كتاب الصلاة، وذكرت هناك قول من زعم أن النهي عن ذلك منسوخ وأن الجمع أولى، وأن محل النهي حيث تبدو العورة والجواز حيث لا تبدو، وهو جواب الخطابي ومن تبعه. ونقلت قول من ضعف الحديث الوارد في ذلك وزعم أنه لم يخرج في الصحيح، وأوردت عليه بأنه غفل عما في كتاب اللباس من الصحيح والمراد بذلك صحيح مسلم، وسبق القلم هناك فكتبت صحيح البخاري وقد أصلحته في أصلي، ولحديث عبد الله بن زيد في الباب شاهد من حديث أبي هريرة صححه ابن حبان.

(11/81)


باب لايتناجى اثنان دون الثالث
...
45 - باب لاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى -إلى قوله- وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ -إلى قوْله- وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
6288- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةٌ فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ"
قوله: "باب لا يتناجى اثنان دون الثالث" أي لا يتحدثان سرا، وسقط لفظ باب من رواية أبي ذر. قوله: "وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا} - إلى قوله: {الْمُؤْمِنُونَ} كذا لأبي ذر، وساق في رواية الأصيلي وكريمة الآيتين بتمامهما، وأشار بإيراد هاتين الآيتين إلى أن التناجي الجائز المأخوذ من مفهوم الحديث مقيد بأن لا يكون في الإثم والعدوان. قوله: "وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً - إلى قوله: بِمَا تَعْمَلُونَ} كذا لأبي ذر، وساق في رواية الأصيلي وكريمة الآيتين أيضا. وزعم ابن التين أنه وقع عنده {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} قال: والتلاوة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ}. قلت: ولم أقف في شيء من نسخ الصحيح على ما ذكره ابن التين. وقوله تعالى: {قَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أخرج الترمذي عن علي أنها منسوخة. وأخرج سفيان بن عيينة في جامعه عن عاصم الأحول قال: لما نزلت كان لا يناجي النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا تصدق، فكان أول من ناجاه على بن أبي طالب فتصدق بدينار، ونزلت الرخصة {إِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الآية. وهذا مرسل رجاله ثقات. وجاء مرفوعا على غير هذا السياق عن علي أخرجه الترمذي وابن حبان وصححه وابن مردويه من طريق علي بن علقمة عنه قال: "لما نزلت هذه الآية قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقول؟ دينار، قلت: لا يطيقونه، قال: في نصف دينار، قلت: لا يطيقونه. قال فكم؟ قلت: شعيرة قال: إنك لزهيد. قال: فنزلت أأشفقتم الآية، قال علي: فبي خفف عن هذه الأمة" وأخرج ابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص له شاهدا. قوله: "عن نافع" كذا أورده هنا عن مالك عن نافع؛ ولمالك فيه شيخ آخر عن ابن عمر، وفيه قصة سأذكرها بعد باب إن شاء الله تعالى. قوله: "إذا كانوا ثلاثة" كذا للأكثر بنصب ثلاثة على.

(11/81)


أنه الخبر، ووقع في رواية لمسلم: "إذا كان ثلاثة" بالرفع على أن كان تامة. قوله: "فلا يتناجى اثنان دون الثالث" كذا للأكثر بألف مقصورة ثابتة في الخط صورة ياء وتسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين، وهو بلفظ الخبر ومعناه النهي. وفي بعض النسخ بجيم فقط بلفظ النهي وبمعناه، زاد أيوب عن نافع كما سيأتي بعد باب "فإن ذلك يحزنه" وبهذه الزيادة تظهر مناسبة الحديث للآية الأولى من قوله: "ليحزن الذين آمنوا" وسيأتي بسطه بعد أبواب.

(11/82)


46 - باب حِفْظِ السِّرِّ
6289- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ "سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرًّا فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ وَلَقَدْ سَأَلَتْنِي أُمُّ سُلَيْمٍ فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ"
قوله: "باب حفظ السر" أي ترك إفشائه. قوله: "معتمر بن سليمان" هو التيمي. قوله: "أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم سرا" في رواية ثابت عن أنس عند مسلم أثناء حديث: "فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي فلما جئت قالت ما حبسك" ولأحمد وابن سعد من طريق حميد عن أنس فأرسلني في رسالة فقالت أم سليم ما حبسك. قوله: "فما أخبرت به أحدا بعده ولقد سألتني أم سليم" في رواية ثابت فقالت: "ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تخبر بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا" وفي رواية حميد عن أنس "فقالت احفظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ثابت "والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت". قال بعض العلماء: كأن هذا السر يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو كان من العلم ما وسع أنسا كتمانه. وقال ابن بطال: الذي عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه منه مضرة، وأكثرهم يقول: إنه إذا مات لا يلزم من كتمانه ما كان يلزم في حياته إلا أن يكون عليه فيه غضاضة قلت: الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يباح، وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك وإلى ما يكره مطلقا وقد يحرم وهو الذي أشار إليه ابن بطال، وقد يجب كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه أن يفعل ذلك. ومن الأحاديث الواردة في حفظ السر حديث أنس "احفظ سري تكن مؤمنا" أخرجه أبو يعلى والخرائطي، وفيه على ابن زيد وهو صدوق كثير الأوهام، وقد أخرج أصله الترمذي وحسنه؛ ولكن لم يسق هذا المتن بل ذكر بعض الحديث ثم قال: وفي الحديث طول. وحديث: "إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه ما يكره" أخرجه عبد الرزاق من مرسل أبي بكر بن حزم. وأخرج القضاعي في "مسند الشهاب" من حديث علي مرفوعا: "المجالس بالأمانة" وسنده ضعيف. ولأبي داود من حديث جابر مثله وزاد: "إلا ثلاثة مجالس: ما سفك فيه دم حرام، أو فرج حرم أو اقتطع فيه مال بغير حق" وحديث جابر رفعه: "إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة" أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي، وله شاهد من حديث أنس عند أبي يعلى.

(11/82)


47 - باب إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَلاَ بَأْسَ بِالْمُسَارَّةِ وَالْمُنَاجَاةِ
6290- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قال النبي

(11/82)


48 - باب طُولِ النَّجْوَى
وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ
6292- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ وَرَجُلٌ يُنَاجِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى"
قوله: "باب طول النجوى {وإذ هم نجوى} مصدر من ناجيت فوصفهم بها والمعنى يتناجون" هذا التفسير في رواية المستملى وحده، وقد تقدم بيانه في تفسير الآية في سورة "سبحان"، وتقدم منه أيضا في تفسير سورة يوسف في قوله تعالى: {خَلَصُوا نَجِيّاً}. حديث أنس "أقيمت الصلاة ورجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث وعبد العزيز راويه عن أنس هو ابن صهيب، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في "باب الإمام تعرض له الحاجة" وهو قبيل صلاة الجماعة. قوله: "حتى نام أصحابه" تقدم هناك بلفظ: "حتى نام بعض القوم" فيحمل الإطلاق في حديث الباب على ذلك.

(11/85)


باب لاتترك النار فى البيت عند النوم
...
49 - باب لاَ تُتْرَكُ النَّارُ فِي الْبَيْتِ عِنْدَ النَّوْمِ
6293- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ"
6294- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ "عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ اللَّيْلِ فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ"
6295- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ كَثِيرٍ هُوَ ابْنُ شِنْظِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ "عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَمِّرُوا الْآنِيَةَ وَأَجِيفُوا الأَبْوَابَ وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ"
قوله: "باب لا تترك النار في البيت عند النوم" بضم أول "تترك" ومثناة فوقانية على البناء للمجهول وبفتحة ومثناة تحتانية بصيغة النهي المفرد. ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول حديث ابن عمر في النهي عن ذلك. الثاني حديث أبي موسى وفيه بيان حكمة النهي وهي خشية الاحتراق. الثالث حديث جابر وفيه بيان علة الخشية المذكورة. فأما حديث ابن عمر فقوله في السند "ابن عيينة عن الزهري" وقع في رواية الحميدي "عن سفيان حدثنا الزهري ".

(11/85)


باب غلق الابواب بلليل
...
50 - باب غلقِ الأَبْوَابِ بِاللَّيْلِ
6296- حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ وَغَلِّقُوا الأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الأَسْقِيَةَ وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ قَالَ هَمَّامٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرُضُهُ"
قوله: "باب غلق الأبواب بالليل" في رواية الأصيلي والجرجاني وكذا لكريمة عن الكشميهني: "إغلاق" وهو الفصيح. وقال عياض هو الصواب. قلت: لكن الأول ثبت في لغة نادرة. قوله: "همام" هو ابن يحيى، وعطاء هو ابن أبي رباح. قوله: "أطفئوا المصابيح بالليل" تقدم شرحه في الذي قبله. قوله: "وأغلقوا الأبواب" في رواية المستملي والسرخسي "وغلقوا" بتشديد اللام، وتقدم في الباب الذي قبله بلفظ: "أجيفوا" بالجيم والفاء وهي بمعنى أغلقوا وتقدم شرحها في "باب ذكر الجن" وكذا بقية الحديث. قال ابن دقيق العيد: في الأمر بإغلاق الأبواب من المصالح الدينية والدنيوية حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد ولا سيما الشياطين، وأما قوله: "فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا" فإشارة إلى أن الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد الشيطان عن الاختلاط بالإنسان، وخصه بالتعليل تنبيها على ما يخفى مما لا يطلع عليه إلا من جانب النبوة، قال: واللام في الشيطان للجنس إذ ليس المراد فردا بعينه، وقوله في هذه الرواية: "وخمروا الطعام والشراب" قال همام: وأحسبه قال: "ولو بعود يعرضه" وهو بضم الراء بعدها ضاد معجمة، وقد تقدم الجزم بذلك عن عطاء في رواية ابن جريج في الباب المذكور، ولفظه: "وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه" وزاد في كل من الأوامر المذكورة "واذكر اسم الله تعالى" وتقدم في "باب شرب اللبن" من كتاب الأشربة بيان الحكمة في ذلك، وقد حمله ابن بطال على عمومه وأشار إلى استشكاله فقال: أخبر صلى الله عليه وسلم أن الشيطان لم يعط قوة على شيء من ذلك، وإن كان أعطى ما هو أعظم منه وهو ولوجه في الأماكن التي لا يقدر الآدمي أن يلج فيها. قلت: والزيادة التي أشرت إليها قبل ترفع الإشكال، وهو أن ذكر اسم الله يحول بينه وبين فعل هذه الأشياء.ومقتضاه أنه يتمكن من كل ذلك إذا لم يذكر اسم الله، ويؤيده ما أخرجه مسلم والأربعة عن جابر رفعه: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم" وقد تردد ابن دقيق العيد في ذلك فقال في شرح الإمام: يحتمل أن يؤخذ قوله: "فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا" على عمومه،

(11/87)


ويحتمل أن يخص بما ذكر اسم الله عليه، ويحتمل أن يكون المنع لأمر يتعلق بجسمه، ويحتمل أن يكون لمانع من الله بأمر خارج عن جسمه، قال: والحديث يدل على منع دخول الشيطان الخارج، فأما الشيطان الذي كان داخلا فلا يدل الخبر على خروجه، قال: فيكون ذلك لتخفيف المفسدة لا رفعها، ويحتمل أن تكون التسمية عند الإغلاق تقتضي طرد من في البيت من الشياطين، وعلى هذا فينبغي أن تكون التسمية من ابتداء الإغلاق إلى تمامه. واستنبط منه بعضهم مشروعية غلق الفم عند التثاؤب لدخوله في عموم الأبواب مجازا.

(11/88)


51 - باب الْخِتَانِ بَعْدَ الْكِبَرِ وَنَتْفِ الإِبْطِ
6297- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ"
6298- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ مُخَفَّفَةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَقَالَ بِالْقَدُّومِ وَهُوَ مَوْضِعٌ مُشَدَّدٌ"
6299- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ "سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ قَالَ وَكَانُوا لاَ يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ "
6300- وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا خَتِينٌ"
قوله: "باب الختان بعد الكبر" بكسر الكاف وفتح الموحدة. قال الكرماني: وجه مناسبة هذه الترجمة بكتاب الاستئذان أن الختان يستدعي الاجتماع في المنازل غالبا. قوله: "الفطرة خمس" تقدم شرحه في أواخر كتاب اللباس، وكذلك حكم الختان. واستدل ابن بطال على عدم وجوبه بأن سلمان لما أسلم لم يؤمر بالاختتان، وتعقب باحتمال أن يكون ترك لعذر أو لأن قصته كانت قبل إيجاب الختان أو لأنه كان مختتنا. ثم لا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع، وقد ثبت الأمر لغيره بذلك. قوله: "اختتن إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين سنة" تقدم بيان ذلك والاختلاف في سنة حين اختتن وبيان قدر عمره في شرح الحديث المذكور في ترجمة إبراهيم عليه السلام، وذكرت هناك أنه وقع في الموطأ من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة موقوفا على أبي هريرة أن إبراهيم أول من اختتن وهو ابن عشرين ومائة، واختتن بالقدوم، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، ورويناه.

(11/88)


في "فوائد ابن السماك" من طريق أبي أويس عن أبي الزناد بهذا السند مرفوعا، وأبو أويس فيه لين، وأكثر الروايات على ما وقع في حديث الباب أنه عليه السلام اختتن وهو ابن ثمانين سنة، وقد حاول الكمال بن طلحة في جزء له في الختان الجمع بين الروايتين فقال: نقل في الحديث الصحيح أنه اختتن لثمانين. وفي رواية أخرى صحيحة أنه اختتن لمائة وعشرين، والجمع بينهما أن إبراهيم عاش مائتي سنة منها ثمانين سنة غير مختون ومنها مائة وعشرين وهو مختون، فمعنى الحديث الأول اختتن لثمانين مضت من عمره، والثاني لمائة وعشرين بقيت من عمره. وتعقبه الكمال بن العديم في جزء سماه "الملحة في الرد على ابن طلحة" بأن في كلامه وهما من أوجه: أحدها تصحيحه لرواية مائة وعشرين وليست بصحيحة، ثم أوردها من رواية الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعة وتعقبه بتدليس الوليد، ثم أورده من "فوائد ابن المقري" من رواية جعفر بن عون عن يحيى بن سعيد به موقوفا، ومن رواية علي بن مسهر وعكرمة بن إبراهيم كلاهما عن يحيى بن سعيد كذلك. ثانيها قوله في كل منهما لثمانين لمائة وعشرين، ولم يرد في طريق من الطرق باللام وإنما ورد بلفظ اختتن وهو ابن ثمانين وفي الأخرى وهو ابن مائة وعشرين، وورد الأول أيضا بلفظ: "على رأس ثمانين" ونحو ذلك. ثالثها أنه صرح في أكثر الروايات أنه عاش بعد ذلك ثمانين سنة، فلا يوافق الجمع المذكور أن المائة وعشرين هي التي بقيت من عمره. ورابعها أن العرب لا تزال تقول خلون إلى النصف فإذا تجاوزت النصف قالوا بقين، والذي جمع به ابن طلحة يقع بالعكس، ويلزم أن يقول فيما إذا مضى من الشهر عشرة أيام لعشرين بقين وهذا لا يعرف في استعمالهم. ثم ذكر الاختلاف في سن إبراهيم وجزم بأنه لا يثبت منها شيء. منها قول هشام بن الكلبي عن أبيه قال: دعا إبراهيم الناس إلى الحج ثم رجع إلى الشام فمات به وهو ابن مائتي سنة. وذكر أبو حذيفة البخاري أحد الضعفاء في "المبتدأ" بسند له ضعيف أن إبراهيم عاش مائة وخمسا وسبعين سنة. وأخرج ابن أبي الدنيا من مرسل عبيد بن عمير في وفاة إبراهيم وقصته مع ملك الموت ودخوله عليه في صورة شيخ فأضافه، فجعل يضع اللقمة في فيه فتتناثر ولا تثبت في فيه، فقال له: كم أتى عليك؟ قال: مائة وإحدى وستون سنة. فقال إبراهيم في نفسه وهو يومئذ ابن ستين ومائة: ما بقي أن أصير هكذا إلا سنة واحدة فكره الحياة، فقبض ملك الموت حينئذ روحه برضاه. فهذه ثلاثة أقوال مختلفة يتعسر الجمع بينها، لكن أرجحها الرواية الثالثة. وخطر لي بعد أنه يجوز الجمع بأن يكون المراد بقوله: "وهو ابن ثمانين" أنه من وقت فارق قومه وهاجر من العراق إلى الشام، وأن الرواية الأخرى "وهو ابن مائة وعشرين" أي من مولده، أو أن بعض الرواة رأى مائة وعشرين فظنها إلا عشرين أو بالعكس، والله أعلم. قال المهلب: ليس اختتان إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين مما يوجب علينا مثل فعله، إذ عامة من يموت من الناس لا يبلغ الثمانين، وإنما اختتن وقت أوحى الله إليه بذلك وأمره به، قال: والنظر يقتضي أنه لا ينبغي الاختتان إلا قرب وقت الحاجة إليه لاستعمال العضو في الجماع، كما وقع لابن عباس حيث قال: "كانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك" ثم قال: والاختتان في الصغر لتسهيل الأمر على الصغير لضعف عضوه وقلة فهمه. قلت: يستدل بقصة إبراهيم عليه السلام لمشروعية الختان حتى لو أخر لمانع حتى بلغ السن المذكور لم يسقط طلبه، وإلى ذلك أشار البخاري بالترجمة، وليس المراد أن الختان يشرع تأخيره إلى الكبر حتى يحتاج إلى الاعتذار عنه. وأما التعليل الذي ذكره من طريق النظر ففيه نظر، فإن حكمة الختان لم تنحصر في تكميل ما يتعلق بالجماع بل

(11/89)


ولما يخشى من انحباس بقية البول في الغرلة ولا سيما للمستجمر فلا يؤمن أن يسيل فينجس الثوب أو البدن، فكانت المبادرة لقطعها عند بلوغ السن الذي يؤمر به الصبي بالصلاة أليق الأوقات، وقد بينت الاختلاف في الوقت الذي يشرع فيه فيما مضى. قوله: "واختتن بالقدوم مخففة" ثم أشار إليه من طريق أخرى مشددة وزاد: "وهو موضع" وقد قدمت بيانه في شرح الحديث المذكور في ترجمة إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء، وأشرت إليه أيضا في أثناء اللباس. وقال المهلب: القدوم بالتخفيف الآلة كقول الشاعر على خطوب مثل نحت القدوم وبالتشديد الموضع، قال: وقد يتفق لإبراهيم عليه السلام الأمران يعني أنه اختتن بالآلة وفي الموضع. قلت: وقد قدمت الراجح من ذلك هناك، وفي المتفق للجوزقي بسند صحيح عن عبد الرزاق قال: القدوم القرية. وأخرج أبو العباس السراج في تاريخه عن عبيد الله بن سعيد عن يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "اختتن إبراهيم بالقدوم" فقلت ليحيى: ما القدوم؟ قال الفأس. قال الكمال بن العديم في الكتاب المذكور. الأكثر على أن القدوم الذي اختتن به إبراهيم هو الآلة، يقال بالتشديد والتخفيف والأفصح التخفيف، ووقع في روايتي البخاري بالوجهين، وجزم النضر بن شميل أنه اختتن بالآلة المذكورة، فقيل له: يقولون قدوم قرية بالشام، فلم يعرفه وثبت على الأول. وفي صحاح الجوهري: القدوم الآلة والموضع بالتخفيف معا. وأنكر ابن السكيت التشديد مطلقا. ووقع في متفق البلدان للحازمي: قدوم قرية كانت عند حلب وكانت مجلس إبراهيم. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الرحيم" هو البغدادي المعروف بصاعقة، وشيخه عباد بن موسى هو الختلي بضم المعجمة وتشديد المثناة الفوقانية وفتحها بعدها لام من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجة بالنسبة لإسماعيل بن جعفر فإنه أخرج الكثير عن إسماعيل بن جعفر بواسطة واحدة كقتيبة وعلي بن حجر، ونزل فيه درجتين بالنسبة لإسرائيل فإنه أخرج عنه بواسطة واحدة كعبد الله بن موسى ومحمد بن سابق. قوله: "أنا مختون" أي وقع له الختان، يقال صبي مختون ومختتن وختين بمعنى. قوله: "وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك" أي حتى يبلغ الحلم، قال الإسماعيلي: لا أدري من القائل "وكانوا يختنون" أهو أبو إسحاق أو إسرائيل أو من دونه، وقد قال أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "قبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر" وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وأنا قد ناهزت الاحتلام" قال: والأحاديث عن ابن عباس في هذا مضطربة. قلت: وفي كلامه نظر، أما أولا فلأن الأصل أن الذي يثبت في الحديث معطوفا على ما قبله فهو مضاف إلى من نقل عنه الكلام السابق حتى يثبت أنه من كلام غيره. ولا يثبت الإدراج بالاحتمال. وأما ثانيا فدعوى الاضطراب مردودة مع إمكان الجمع أو الترجيح، فإن المحفوظ الصحيح أنه ولد بالشعب وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة، وبذلك قطع أهل السير وصححه ابن عبد البر وأورد بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: "ولدت وبنو هاشم في الشعب" وهذا لا ينافي قوله: "ناهزت الاحتلام" أي قاربته ولا قوله: "وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك" لاحتمال أن يكون أدرك فختن قبل الوفاة النبوية وبعد حجة الوداع، وأما قوله: "وأنا ابن عشر" فمحمول على إلغاء الكسر، وروى أحمد من طريق أخرى عن ابن عباس أنه كان حينئذ ابن خمس عشرة، ويمكن رده إلى رواية ثلاث عشرة بأن يكون ابن ثلاث عشرة وشيء وولد في أثناء السنة فجبر الكسرين بأن يكون ولد مثلا في شوال فله من السنة الأولى ثلاثة.

(11/90)


أشهر فأطلق عليها سنة وقبض النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع فله من السنة الأخيرة ثلاثة أخرى وأكمل بينهما ثلاث عشرة، فمن قال ثلاث عشرة ألغى الكسرين ومن قال خمس عشرة جبرهما والله أعلم. قوله: "وقال ابن إدريس" هو عبد الله وأبوه هو ابن يزيد الأودي، وشيخه أبو إسحاق هو السبيعي. قوله: "قبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ختين" أي مختون كقتيل ومقتول، وهذا الطريق وصله الإسماعيلي من طريق عبد الله بن إدريس.

(11/91)


52 - باب كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
6301- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللاَتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ"
قوله: "باب كل لهو باطل إذا شغله" أي شغل اللاهي به "عن طاعة الله" أي كمن النهي بشيء من الأشياء مطلقا سواء كان مأذونا في فعله أو منهيا عنه كمن اشتغل بصلاة نافلة أو بتلاوة أو ذكر أو تفكر في معاني القرآن مثلا حتى خرج وقت الصلاة المفروضة عمدا فإنه يدخل تحت هذا الضابط، وإذا كان هذا في الأشياء المرغب فيها المطلوب فعلها فكيف حال ما دونها، وأول هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن خزيمة والحاكم من حديث عقبة بن عامر رفعه: "كل ما يلهو به المرء المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله" الحديث. وكأنه لما لم يكن على شرط المصنف استعمله لفظ ترجمة، واستنبط من المعنى ما قيد به الحكم المذكور. وإنما أطلق على الرمي أنه لهو لإمالة الرغبات إلى تعليمه لما فيه من صورة اللهو لكن المقصود من تعلمه الإعانة على الجهاد، وتأديب الفرس إشارة إلى المسابقة عليها، وملاعبة الأهل للتأنيس ونحوه، وإنما أطلق على ما عداها البطلان من طريق المقابلة لا أن جميعها من الباطل المحرم. قوله: "ومن قال لصاحبه تعال أقامرك" أي ما يكون حكمه. قوله: "وقوله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} الآية" كذا في رواية أبي ذر والأكثر؛ وفي رواية الأصيلي وكريمة "ليضل عن سبيل الله" الآية. وذكر ابن بطال أن البخاري استنبط تقييد اللهو في الترجمة من مفهوم قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فإن مفهومه أنه إذا اشتراه لا ليضل لا يكون مذموما، وكذا مفهوم الترجمة أنه إذا لم يشغله اللهو عن طاعة الله لا يكون باطلا. لكن عموم هذا المفهوم يخص بالمنطوق، فكل شيء نص على تحريمه مما يلهي يكون باطلا سواء شغل أو لم يشغل، وكأنه رمز إلى ضعف ما ورد في تفسير اللهو في هذه الآية بالغناء. وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة رفعه: "لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن" الحديث، وفيه: "وفيهن أنزل الله {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية، وسنده ضعيف. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود موقوفا أنه فسر اللهو في هذه الآية بالغناء، وفي سنده ضعف أيضا. حديث أبي هريرة وفيه: "ومن قال لصاحبه تعال أقامرك" الحديث. وأشار بذلك إلى أن القمار من جملة اللهو، ومن دعا إليه دعا إلى المعصية، فلذلك أمر بالتصدق ليكفر عنه تلك المعصية، لأن من دعا إلى معصية وقع بدعائه إليها في

(11/91)


معصية. وقال الكرماني: وجه تعلق هذا الحديث بالترجمة والترجمة بالاستئذان أن الداعي إلى القمار لا ينبغي أن يؤذن له في دخول المنزل، ثم لكونه يتضمن اجتماع الناس، ومناسبة بقية حديث الباب للترجمة أن الحلف باللات لهو يشغل عن الحق بالخلق فهو باطل انتهى. ويحتمل أن يكون لما قدم ترجمة ترك السلام على من اقترف ذنبا أشار إلى ترك الإذن لمن يشتغل باللهو عن الطاعة، وقد تقدم شرح حديث الباب في تفسير سورة والنجم، قال مسلم في صحيحه. بعد أن أخرج هذا الحديث: هذا الحرف "تعال أقامرك" لا يرويه أحد إلا الزهري، وللزهري نحو تسعين حرفا لا يشاركه فيها غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد. قلت: وإنما قيد التفرد بقوله: "تعال أقامرك" لأن لبقية الحديث شاهدا من حديث سعد بن أبي وقاص يستفاد منه سبب حديث أبي هريرة أخرجه النسائي بسند قوي قال: "كنا حديثي عهد الجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وانفث عن شمالك وتعوذ بالله ثم لا تعد" فيمكن أن يكون المراد بقوله في حديث أبي هريرة "فليقل لا إله إلا الله" إلى آخر الذكر المذكور إلى قوله: "قدير" ويحتمل الاكتفاء بلا إله إلا الله لأنها كلمة التوحيد، والزيادة المذكورة في حديث سعد تأكيد.

(11/92)


باب ماجاء في البناء
...
53 - باب مَا جَاءَ فِي الْبِنَاءِ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَانِ
6302- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَيْتُ بِيَدِي بَيْتًا يُكِنُّنِي مِنْ الْمَطَرِ وَيُظِلُّنِي مِنْ الشَّمْسِ مَا أَعَانَنِي عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ"
6303- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو "قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَلاَ غَرَسْتُ نَخْلَةً مُنْذُ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سُفْيَانُ فَذَكَرْتُهُ لِبَعْضِ أَهْلِهِ قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ بَنَى قَالَ سُفْيَانُ قُلْتُ فَلَعَلَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ"
قوله: "باب ما جاء في البناء" أي من منع وإباحة. والبناء أعم من أن يكون بطين أو مدر أو بخشب أو من قصب أو من شعر. قوله: "قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة إذا تطاول رعاة البهم في البنيان" كذا للأكثر بضم الراء وبهاء تأنيث في آخره. وفي رواية الكشميهني: "رعاء" بكسر الراء وبالهمز مع المد، وقد تقدم هذا الحديث موصولا مطولا مع شرحه في كتاب الإيمان، وأشار بإيراد هذه القطعة إلى ذم التطاول في البنيان، وفي الاستدلال بذلك نظر، وقد ورد في ذم تطويل البناء صريحا ما أخرج ابن أبي الدنيا من رواية عمارة ابن عامر "إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع نودي يا فاسق إلى أين؟" وفي سنده ضعف مع كونه موقوفا. وفي ذم البناء مطلقا حديث خباب رفعه قال: "يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب" أو قال: "البناء" أخرجه الترمذي وصححه وأخرج له شاهدا عن أنس بلفظ: "إلا البناء فلا خير فيه" وللطبراني من حديث جابر رفعه: "إذا أراد الله

(11/92)


بعبد شرا خضر له في اللبن والطين حتى يبني" ومعنى "خضر" بمعجمتين حسن، وزنا ومعنى. وله شاهد في "الأوسط" من حديث أبي بشر الأنصاري بلفظ: "إذا أراد الله بعبد سوءا أنفق ماله في البنيان" وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطا فقال: الأمر أعجل من ذلك" وصححه الترمذي وابن حبان، وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن وما يقي البرد والحر، وقد أخرج أبو داود أيضا من حديث أنس رفعه: "أما أن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا، إلا ما لا" أي إلا ما لا بد منه، ورواته موثقون إلا الراوي عن أنس وهو أبو طلحة الأسدي فليس بمعروف، وله شاهد عن واثلة عند الطبراني. قوله: "حدثنا إسحاق هو ابن سعيد" كذا في الأصل وسعيد المذكور هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي، ونسب كذلك عند الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه، وعمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق وإسحاق بن سعيد يقال له السعيدي سكن مكة. وقد روي هذا الحديث عن والده وهو المراد بقوله: "عن سعيد". قوله: "رأيتني" بضم المثناة كأنه استحضر الحالة المذكورة فصار لشدة علمه بها كأنه يرى نفسه يفعل ما ذكر. قوله: "مع النبي صلى الله عليه وسلم" أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "يكنني" بضم أوله وكسر الكاف وتشديد النون من أكن إذا وقى، وجاء بفتح أوله من كن. وقال أبو زيد الأنصاري: كننته وأكننته بمعنى أي سترته وأسررته. وقال الكسائي كننته صنته وأكننته أسررته. قوله: "ما أعانني عليه أحد من خلق الله" هو تأكيد لقوله: "بنيت بيدي" وإشارة إلى خفة مؤنته. ووقع في رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني بكسر المهملة وتشديد الميم عن إسحاق بن سعيد السعيدي بهذا السند عند الإسماعيلي وأبي نعيم في المستخرجين "بيتا من شعر"، واعترض الإسماعيلي على البخاري بهذه الزيادة فقال أدخل هذا الحديث في البناء بالطين والمدر والخبر إنما هو في بيت الشعر، وأجيب بأن راوي الزيادة ضعيف عندهم، وعلى تقدير ثبوتها فليس في الترجمة تقييد بالطين والمدر. قوله: "قال عمرو" هو ابن دينار. قوله: "لبنة" بفتح اللام وكسر الموحدة مثل كلمة، ويجوز كسر أوله وسكون الموحدة. قوله: "ولا غرست نخلة" قال الداودي: ليس الغرس كالبناء، لأن من غرس ونيته طلب الكفاف أو لفضل ما ينال منه ففي ذلك الفضل لا الإثم. قلت: لم يتقدم للإثم في الخبر ذكر حتى يعترض به، وكلامه يوهم أن في البناء كله الإثم، وليس كذلك بل فيه التفصيل، وليس كل ما زاد منه على الحاجة يستلزم الإثم، ولا شك أن في الغرس من الأجر من أجل ما يؤكل منه ما ليس في البناء، وإن كان في بعض البناء ما يحصل به الأجر مثل الذي يحصل به النفع لغير الباني فإنه يحصل للباني به الثواب، والله سبحانه وتعالى أعلم. قوله: "فذكرته لبعض أهله" لم أقف على تسميته، والقائل هو سفيان. قوله: "قال والله لقد بنى" زاد الكشميهني في روايته: "بيتا". قوله: "قال سفيان قلت فلعله قال قبل" أي قال ما وضعت لبنة إلخ قيل أن يبنى الذي ذكرت، وهذا اعتذار حسن من سفيان راوي الحديث، ويحتمل أن يكون ابن عمر نفى أن يكون بنى بيده بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان في زمنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، والذي أثبته بعض أهله كان بنى بأمره فنسبه إلى فعله مجازا، ويحتمل أن يكون بناؤه بيتا من قصب أو شعر، ويحتمل أن يكون الذي نفاه ابن عمر ما زاد على حاجته، والذي أثبته بعض أهله بناء بيت لا بد له منه أو إصلاح ما وهي من بيته، قال ابن بطال: يؤخذ من جواب سفيان أن العالم إذا جاء عنه قولان مختلفان أنه ينبغي لسامعهما أن يتأولهما على وجه ينفي عنهما التناقض تنزيها له عن الكذب انتهى. ولعل سفيان فهم من قول بعض أهل ابن

(11/93)


عمر الإنكار على ما رواه له عن عمرو بن دينار عن ابن عمر، فبادر سفيان إلى الانتصار لشيخه ولنفسه وسلك الأدب مع الذي خاطبه بالجمع الذي ذكره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الاستئذان من الأحاديث المرفوعة على خمسة وثمانين حديثا، المعلق منها وما في معناه اثنا عشر حديثا والبقية موصولة، المكرر منه فيه وفيما مضى خمسة وستون حديثا والخالص عشرون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث لأبي هريرة "رسول الرجل إذنه" وحديث أنس في المصافحة، وحديث ابن عمر في الاحتباء، وحديثه في البناء، وحديث ابن عباس في ختانه. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة آثار. والله أعلم.

(11/94)


كتاب الدعوات
مدخل
...
80 - كِتَاب الدَّعَوَاتِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب الدعوات" بفتح المهملتين جمع دعوة بفتح أوله وهي المسألة الواحدة، والدعاء الطلب، والدعاء إلى الشيء الحث على فعله ودعوت فلانا سألته ودعوته استغثته ويطلق أيضا على رفعة القدر كقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ} كذا قال الراغب، ويمكن رده إلى الذي قبله، ويطلق الدعاء أيضا على العبادة، والدعوى بالقصر الدعاء كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} والادعاء كقوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} وقال الراغب: الدعاء على التسمية كقوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وقال الراغب: الدعاء والنداء واحد، لكن قد يتجرد النداء عن الاسم والدعاء لا يكاد يتجرد. وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في "شرح الأسماء الحسنى" ما ملخصه: جاء الدعاء في القرآن على وجوه: منها العبادة "ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك" ومنها الاستغاثة "وادعوا شهداءكم"، ومنها السؤال "ادعوني أستجب لكم"، ومنها القول "دعواهم فيها سبحانك اللهم" والنداء "يوم يدعوكم"، والثناء "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن". قوله: "وقول الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى قوله: "داخرين" وهذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على التفويض.وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة لقوله: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي" واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية أخرجه الأربعة وصححه الترمذي والحاكم. وشذت طائفة فقالوا: المراد بالدعاء في الآية ترك الذنوب، وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر "الحج عرفه" أي معظم الحج وركنه الأكبر، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أنس رفعه: "الدعاء مخ العبادة" وقد تواردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالترغيب في الدعاء والحث عليه كحديث أبي هريرة رفعه: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان

(11/94)


والحاكم وحديثه رفعه: "من لم يسأل الله يغضب عليه" أخرجه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وابن ماجه والبزار والحاكم كلهم من رواية أبي صالح الخوزي بضم الخاء المعجمة وسكون الواو ثم زاي عنه، وهذا الخوزي مختلف فيه ضعفه ابن معين وقواه أبو زرعة، وظن الحافظ ابن كثير أنه أبو صالح السمان فجزم بأن أحمد تفرد بتخريجه، وليس كما قال فقد جزم شيخه المزي في "الأطراف" بما قلته. ووقع في رواية البزار والحاكم عن أبي صالح الخوزي "سمعت أبا هريرة" قال الطيبي: معنى الحديث أن من لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه والله يحب أن يسأل انتهى. ويؤيده حديث ابن مسعود رفعه: "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" أخرجه الترمذي، وله من حديث ابن عمر رفعه: "إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء" وفي سنده لين، وقد صححه مع ذلك الحاكم. وأخرج الطبراني في الدعاء بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة مرفوعا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء" وقال الشيخ تقي الدين السبكي: الأولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك "عن عبادتي" فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارا ومن فعل ذلك كفر، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه. قلت: وقد دلت الآية الآتية قريبا في السورة المذكورة أن الإجابة مشترطة بالإخلاص، وهو قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال الطيبي: معنى حديث النعمان أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي، إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} حيث عبر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار، ووضع عبادتي موضع دعائي وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان. وحكى القشيري في "الرسالة" الخلاف في المسألة فقال: اختلف أي الأمرين أولى: الدعاء أو السكوت والرضا؟ فقيل: الدعاء، وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة، لما فيه من إظهار الخضوع والافتقار. وقيل السكوت والرضا أولى لما في التسليم من الفضل. قلت: وشبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قدر له فدعاؤه إن كان على وفق المقدور فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاندة. والجواب عن الأول أن الدعاء من جملة العبادة لما فيه من الخضوع والافتقار، وعن الثاني أنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا ما قدر الله تعالى كان إذعانا لا معاندة، وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفا على الدعاء لأن الله خالق الأسباب ومسبباتها، قال وقالت طائفة: ينبغي أن يكون داعيا بلسانه راضيا بقلبه، قال: والأولى أن يقال إذا وجد في قلبه إشارة الدعاء فالدعاء أفضل وبالعكس. قلت: القول الأول أعلى المقامات أن يدعو بلسانه ويرضى بقلبه، والثاني لا يتأتى من كل أحد بل ينبغي أن يختص به الكمل. قال القشيري: ويصح أن يقال ما كان لله أو للمسلمين فيه نصيب فالدعاء أفضل، وما كان للنفس فيه حظ فالسكوت أفضل، وعبر ابن بطال ن هذا القول لما حكاه بقوله: يستحب أن يدعو لغيره ويترك لنفسه، وعمدة من أول الدعاء في الآية بالعبادة أو غيرها قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} وإن كثيرا من الناس يدعو فلا يستجاب له، فلو كانت على ظاهرها لم يتخلف. والجواب عن ذلك أن كل داع يستجاب له، لكن تتنوع

(11/95)


الإجابة: فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه. وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة ابن الصامت رفعه: "ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها" ولأحمد من حديث أبي هريرة "إما أن يعجلها له، وإما أن يدخرها له" وله في حديث أبي سعيد رفعه: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" وصححه الحاكم. وهذا شرط ثان للإجابة، ولها شروط أخرى منها أن يكون طيب المطعم والملبس لحديث: "فأنى يستجاب لذلك" وسيأتي بعد عشرين بابا من حديث أبي هريرة، ومنها ألا يكون يستعجل لحديث: "يستجاب لأحدكم ما لم يقل دعوت فلم يستجب لي" أخرجه مالك.

(11/96)


1 - باب لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ
6304- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ"
[الحديث 6304- طرفه في: 7474]
6305- وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ قَالَ مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي "عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤْلًا أَوْ قَالَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فَاسْتُجِيبَ فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
قوله: "باب لكل نبي دعوة مستجابة" كذا لأبي ذر وسقط لفظ: "باب" لغيره فصار من جملة الترجمة الأولى. ومناسبتها للآية الإشارة إلى أن بعض الدعاء لا يستجاب عينا. قوله: "إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "مستجابة" كذا لأبي ذر ولم أرها عند الباقين ولا في شيء من نسخ الموطأ. قوله: "يدعو بها" زاد في رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة "فيعجل كل نبي دعوته" وفي حديث أنس ثاني حديثي الباب: "فاستجيب له". قوله: "وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" وفي رواية أبي سلمة عن أبي هريرة الآتية في التوحيد "فأريد إن شاء الله أن أختبئ" وزيادة "إن شاء الله" في هذا للتبرك. ولمسلم: من رواية أبي صالح عن أبي هريرة "وإني اختبأت" وفي حديث أنس "فجعلت دعوتي" وزاد: "يوم القيامة" وزاد أبو صالح "فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا" وقوله: "من مات" في محل نصب على المفعولية و "لا يشرك بالله" في محل نصب على الحال، والتقدير شفاعتي نائلة من مات غير مشرك، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤخرها ثم عزم ففعل ورجا وقوع ذلك فأعلمه الله به فجزم به، وسيأتي تتمة الكلام على الشفاعة وأنواعها في أول كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. وقد استشكل ظاهر الحديث بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم، وظاهره أن لكل نبي دعوة مستجابة فقط، والجواب أن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة. وقيل معنى قوله: "لكل نبي دعوة" أي أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى، وقيل لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنها

(11/96)


ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب، وقيل لكل منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه كقول نوح "لا تذر على الأرض" وقول زكريا "فهب لي من لدنك وليا يرثني" وقول سليمان "وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي" حكاه ابن التين. وقال بعض شراح "المصابيح" ما لفظه: اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة، والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا فلم أدع فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم، والمراد بالأمة أمة الدعوة لا أمة الإجابة. وتعقبه الطيبي1 بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء من العرب ودعا على أناس من قريش بأسمائهم ودعا على رعل وذكوان ودعا على مضر، قال: والأولى أن يقال إن الله جعل لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته فنالها كل منهم في الدنيا، وأما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فبقي تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة، وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم وإنما أراد ردعهم ليتوبوا. وأما جزمه أولا بأن جميع أدعيتهم مستجابة ففيه غفلة عن الحديث الصحيح "سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة" الحديث: قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضا دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره ممن تقدم. وقال ابن الجوزي: هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين. وقال النووي: فيه كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم، فجعل دعوته في أهم أوقات حاجتهم. وأما قوله: "فهي نائلة" ففيه دليل لأهل السنة أن من مات غير مشرك لا يخلد في النار، ولو مات مصرا على الكبائر. قوله: "وقال معتمر" هو ابن سليمان التيمي، كذا للأكثر وبه جزم الإسماعيلي والحميدي، لكن عند الأصيلي وكريمة في أوله "قال لي خليفة حدثنا معتمر" فعلى هذا هو متصل، وقد وصله أيضا مسلم عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر. قوله: "لكل نبي سأل سؤلا أو قال لكل نبي دعوة" هكذا وقع بالشك، ولم يسق مسلم لفظه بل أحال به على طريق قتادة عن أنس، وقد أخرجه ابن منده في كتاب الإيمان من طريق محمد بن عبد الأعلى به، ومن طريق الحسن بن الربيع ومسدد وغيرهما عن معتمر بالشك، ولفظه: "كل نبي قد سأل سؤلا أو قال لكل نبي دعوة قد دعا بها" الحديث ولفظ قتادة عند مسلم: "لكل نبي دعوة لأمته" فذكره ولم يشك.

(11/97)


2 - باب أَفْضَلِ الِاسْتِغْفَارِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
6306- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ الْعَدَوِيُّ "قَالَ حَدَّثَنِي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يقُولَ اللَّهُمَّ

(11/97)


أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ قَالَ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"
[الحديث 6306- طرفه في 6323]
قوله: "باب أفضل الاستغفار" سقط لفظ: "باب" لأبي ذر. ووقع في شرح ابن بطال بلفظ: "فضل الاستغفار" وكأنه لما رأى الآيتين في أول الترجمة وهما دالتان على الحث على الاستغفار ظن أن الترجمة لبيان فضيلة الاستغفار، ولكن حديث الباب يؤيد ما وقع عند الأكثر، وكأن المصنف أراد إثبات مشروعية الحث على الاستغفار بذكر الآيتين. ثم بين بالحديث أولى ما يستعمل من ألفاظه، وترجم بالأفضلية. ووقع الحديث بلفظ السيادة وكأنه أشار إلى أن المراد بالسيادة الأفضلية ومعناها الأكثر نفعا لمستعمله، ومن أوضح ما وقع في فضل الاستغفار ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث يسار وغيره مرفوعا: "من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان فر من الزحف" قال أبو نعيم الأصبهاني: هذا يدل على أن بعض الكبائر تغفر ببعض العمل الصالح، وضابطه الذنوب التي لا توجب على مرتكبها حكما في نفس ولا مال، ووجه الدلالة منه أنه مثل بالفرار من الزحف وهو من الكبائر، فدل على أن ما كان مثله أو دونه يغفر إذا كان مثل الفرار من الزحف، فإنه لا يوجب على مرتكبه حكما في نفس ولا مال. قوله: "وقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً الآية } كذا رأيت في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر، وسقطت الواو من رواية غيره وهو الصواب. فإن التلاوة {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} وساق غير أبي ذر الآية إلى قوله تعالى: {أنهارا} وكأن المصنف لمح بذكر هذه الآية إلى أثر الحسن البصري: إن رجلا شكى إليه الجدب فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر جفاف بستانه فقال استغفر الله، وشكى إليه آخر عدم الولد فقال استغفر الله، ثم تلا عليهم هذه الآية. وفي الآية حث على الاستغفار وإشارة إلى وقوع المغفرة لمن استغفر وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من جود كفيك ما علمتني الطلبا
قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} واختلف في معنى قوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ} فقيل إن قوله: {فَاسْتَغْفَرُوا} تفسير للمراد بالذكر، وقيل هو على حذف تقديره ذكروا عقاب الله، والمعنى تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم فاستغفروا لذنوبهم أي لأجل ذنوبهم وقد ورد في حديث حسن صفة الاستغفار المشار إليه في الآية أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان من حديث علي بن أبي طالب قال: "حدثني أبو بكر الصديق رضي الله عنهما وصدق أبو بكر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر فيحسن الطهور ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له" ثم تلا: {وَالَّذِينَ إِذَا

(11/98)


فَعَلُوا فَاحِشَةً} الآية. وقوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} فيه إشارة إلى أن من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب. وورد في فضل الاستغفار والحث عليه آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة منها حديث أبي سعيد رفعه: "قال إبليس: يا رب لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الله تعالى: وعزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني" أخرجه أحمد، وحديث أبي بكر الصديق رفعه: "ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة" أخرجه أبو داود والترمذي وذكر السبعين للمبالغة، وإلا ففي حديث أبي هريرة الآتي في التوحيد مرفوعا: "أن عبدا أذنب ذنبا فقال رب إني أذنبت ذنبا فاغفر لي فغفر له" الحديث وفي آخره: "علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، اعمل ما شئت فقد غفرت لك". قوله: "حدثنا الحسين" هو ابن ذكوان المعلم، ووقع عند النسائي من رواية غندر حدثنا الحسين المعلم، وكذا عند الإسماعيلي من طريق يحيى القطان عن حسين المعلم.قوله: "حدثنا عبد الله بن بريدة" أي ابن الحصيب الأسلمي. قوله: "حدثنا بشير" بالموحدة ثم المعجمة مصغر، وقد تابع حسينا على ذلك ثابت البناني وأبو العوام عن بريدة ولكنهما لم يذكرا بشير بن كعب بل قالا عن ابن بريدة عن شداد أخرجه النسائي، وخالفهم الوليد بن ثعلبة فقال: عن ابن بريدة عن أبيه أخرجه الأربعة إلا الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم لكن لم يقع في رواية الوليد أول الحديث، قال النسائي حسين المعلم أثبت من الوليد بن ثعلبة وأعلم بعبد الله بن بريدة وحديثه أولى بالصواب. قلت: كأن الوليد سلك الجادة، لأن جل رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه، وكأن من صححه جوز أن يكون عن عبد الله بن بريدة على الوجهين، والله أعلم. قوله: "حدثني شداد بن أوس" أي ابن ثابت بن المنذر بن حرام بمهملتين الأنصاري ابن أخي حسان بن ثابت الشاعر، وشداد صحابي جليل نزل الشام وكنيته أبو يعلى. واختلف في صحبة أبيه وليس لشداد في البخاري إلا هذا الحديث الواحد. قوله: "سيد الاستغفار" قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعا لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد، وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في الأمور. قوله: "أن يقول" أي العبد، وثبت في رواية أحمد والنسائي: "إن سيد الاستغفار أن يقول العبد" وللترمذي من رواية عثمان بن ربيعة عن شداد "ألا أدلك على سيد الاستغفار" وفي حديث جابر عند النسائي: "تعلموا سيد الاستغفار". قوله: "لا إله إلا أنت خلقتني" كذا في نسخة معتمدة بتكرير أنت، وسقطت الثانية من معظم الروايات، ووقع عند الطبراني من حديث أبي أمامة "من قال حين يصبح: اللهم لك الحمد لا إله إلا أنت" والباقي نحو حديث شداد وزاد فيه: "آمنت لك مخلصا لك ديني".قوله: "وأنا عبدك" قال الطيبي: يجوز أن تكون مؤكدة، ويجوز أن تكون مقدرة، أي أنا عابد لك، ويؤيده عطف قوله: "وأنا على عهدك". قوله: "وأنا على عهدك" سقطت الواو في رواية النسائي، قال الخطابي: يريد أنا على ما عهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك. ويحتمل أن يريد أنا مقيم على ما عهدت إلى من أمرك ومتمسك به ومنتجز وعدك في المثوبة والأجر. واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى. وقال ابن بطال: قوله: "وأنا على عهدك ووعدك" يريد العهد الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية. وبالوعد ما قال على لسان نبيه

(11/99)


"أن من مات لا يشرك بالله شيئا وأدى ما افترض عليه أن يدخله الجنة" . قلت: وقوله وأدى ما افترض علي زيادة ليست بشرط في هذا المقام لأنه جعل المراد بالعهد الميثاق المأخوذ في عالم الذر وهو التوحيد خاصة، فالوعد هو إدخال من مات على ذلك الجنة. قال وفي قوله: "ما استطعت" إعلام لأمته أن أحدا لا يقدر على الإتيان بجميع ما يجب عليه لله. ولا الوفاء بكمال الطاعات والشكر على النعم، فرفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم. وقال الطيبي: يحتمل أن يراد بالعهد والوعد ما في الآية المذكورة، كذا قال: والتفريق بين العهد والوعد أوضح. قوله: "أبوء لك بنعمتك علي" سقط لفظ لك من رواية النسائي، وأبوء بالموحدة والهمز ممدود معناه أعترف. ووقع في رواية عثمان بن ربيعة عن شداد "وأعترف بذنوبي" وأصله البواء ومعناه اللزوم، ومنه بوأه الله منزلا إذا أسكنه فكأنه ألزمه به. قوله: "وأبوء لك بذنبي" أي أعترف أيضا، وقيل معناه أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عني. وقال الطيبي: اعترف أولا بأنه أنعم عليه، ولم يقيده لأنه يشمل أنواع الإنعام، ثم اعترف بالتقصير وأنه لم يقم بأداء شكرها، ثم بالغ فعده ذنبا مبالغة في التقصير وهضم النفس. قلت: ويحتمل أن يكون قوله: "أبوء لك بذنبي" أعترف بوقوع الذنب مطلقا ليصح الاستغفار منه، لا أنه عد ما قصر فيه من أداء شكر النعم ذنبا. قوله: "فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له، وقد وقع صريحا في حديث الإفك الطويل وفيه: "العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه". قوله: "من قالها موقنا بها" أي مخلصا من قلبه مصدقا بثوابها. وقال الداودي يحتمل أن يكون هذا من قوله إن الحسنات يذهبن السيئات ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء وغيره، لأنه بشر بالثواب ثم بشر بأفضل منه فثبت الأول وما زيد عليه، وليس يبشر بالشيء ثم يبشر بأقل منه مع ارتفاع الأول، ويحتمل أن يكون ذلك ناسخا وأن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما يغفر له به ذنوبه، أو يكون ما فعله من الوضوء وغيره لم ينتقل منه بوجه ما، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء. كذا حكاه ابن التين عنه، وبعضه يحتاج إلى تأمل. قوله: "ومن قالها من النهار" في رواية النسائي: "فإن قالها حين يصبح" وفي رواية عثمان بن ربيعة "لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح، أو حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يمسي". قوله: "فهو من أهل الجنة" في رواية النسائي: "دخل الجنة" وفي رواية عثمان بن ربيعة "إلا وجبت له الجنة" قال ابن أبي جمرة: جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أنه يسمى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو، وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى. وهذا القدر الذي يكني عنه بالحقيقة. فلو اتفق أن العبد خالف حتى يجري عليه ما قدر عليه وقامت الحجة عليه ببيان المخالفة لم يبق إلا أحد أمرين: إما العقوبة بمقتضى العدل أو العفو بمقتضى الفضل، انتهى ملخصا. أيضا: من شروط الاستغفار صحة النية، والتوجه والأدب، فلو أن أحدا حصل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد لكن أخل بالشروط هل يستويان؟ فالجواب أن الذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة، والله أعلم

(11/100)


3 - باب اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
6307- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ "قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَاللَّهِ إِنِّي لاَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً"
قوله: "باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم" أي وقوع الاستغفار منه.أو التقدير مقدار استغفاره في كل يوم، ولا يحمل على الكيفية لتقدم بيان الأفضل وهو لا يترك الأفضل.قوله: "قال: قال أبو هريرة" في رواية يونس بن يزيد عن الزهري "أخبرني أبو سلمة أنه سمع أبا هريرة" أخرجه النسائي. قوله: "والله إني لأستغفر الله" فيه القسم على الشيء تأكيدا له وإن لم يكن عند السامع فيه شك. قوله: "لأستغفر الله وأتوب إليه" ظاهره أنه يطلب المغفرة ويعزم على التوبة" ويحتمل أن يكون المراد يقول هذا اللفظ بعينه، ويرجح الثاني ما أخرجه النسائي بسند جيد من طريق مجاهد عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة" وله من رواية محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "إنا كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة" . قوله: "أكثر من سبعين مرة" وقع في حديث أنس "إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة"، فيحتمل أن يريد المبالغة ويحتمل أن يريد العدد بعينه. وقوله: "أكثر" مبهم فيحتمل أن يفسر بحديث ابن عمر المذكور وأنه يبلغ المائة. وقد وقع في طريق أخرى عن أبي هريرة من رواية معمر عن الزهري بلفظ: "إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" لكن خالف أصحاب الزهري في ذلك. نعم أخرج النسائي أيضا من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة بلفظ: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة" وأخرج النسائي أيضا من طريق عطاء عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة" وله في حديث الأغر المزني رفعه مثله، وهو عنده وعند مسلم بلفظ: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة" قال عياض: المراد بالغين فترات عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه، فإذا فتر عنه لأمر ما عد ذلك ذنبا فاستغفر عنه. وقيل هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس، وقيل هو السكينة التي تغشى قلبه والاستغفار لإظهار العبودية لله والشكر لما أولاه، وقيل هي حالة خشية وإعظام والاستغفار شكرها، ومن ثم قال المحاسبي: خوف المتقربين خوف إجلال وإعظام.وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي: لا يعتقد أن الغين في حالة نقص، بل هو كمال أو تتمة كمال. ثم مثل ذلك بجفن العين حين يسبل ليدفع القذى عن العين مثلا فإنه يمنع العين من الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال. هذا محصل كلامه بعبارة طويلة، قال: فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم متعرضة للأغيرة الثائرة من أنفاس الأغيار فدعت الحاجة إلى الستر على حدقة بصيرته صيانة لها ووقاية عن ذلك انتهى. وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية. وأجيب بعدة أجوبة: منها ما تقدم في تفسير الغين، ومنها قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر فلم يعصموا من الصغائر. كذا قال، وهو مفرع على خلاف المختار، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضا. ومنها قول ابن بطال: الأنبياء أشد الناس اجتهادا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة,

(11/101)


فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير انتهى. ومحصل جوابه أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الذي يجب لله تعالى، ويحتمل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة، أو لمخاطبة الناس والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه ومشاهدته ومراقبته، فيرى ذلك ذنبا بالنسبة إلى المقام العلى وهو الحضور في حظيرة القدس. ومنها أن استغفاره تشريع لأمته، أو من ذنوب الأمة فهو كالشفاعة لهم. وقال الغزالي في "الإحياء" كان صلى الله عليه وسلم دائم الترقي، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها دونها فاستغفر من الحالة السابقة، وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقا بحسب تعدد الأحوال، وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك. وقال الشيخ السهروردي: لما كان روح النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل في الترقي إلى مقامات القرب يستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس فكانت خطأ النفس تقصر عن مداهما في العروج، فاقتضت الحكمة إبطاء حركة القلب لئلا تنقطع علاقة النفس عنه فيبقى العباد محرومين، فكان صلى الله عليه وسلم يفزع إلى الاستغفار لقصور النفس عن شأو ترقي القلب، والله أعلم.

(11/102)


4 - باب التَّوْبَةِ
قَالَ قَتَادَةُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا الصَّادِقَةُ: النَّاصِحَةُ
6308- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ "حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ ثُمَّ قَالَ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ" تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَجَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ سَمِعْتُ الْحَارِثَ وَقَالَ شُعْبَةُ وَأَبُو مُسْلِمٍ اسْمُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ كُوفِيٌّ قَائِدُ الأَعْمَشِ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ"
6309- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا هُدْبَةُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلاَةٍ"
قوله: "باب التوبة" أشار المصنف بإيراد هذين البابين -وهما الاستغفار ثم التوبة- في أوائل كتاب الدعاء إلى أن الإجابة تسرع إلى من لم يكن متلبسا بالمعصية، فإذا قدم التوبة والاستغفار قبل الدعاء كان أمكن لإجابته.

(11/102)


وما ألطف قول ابن الجوزي، إذ سئل أأسبح أو أستغفر؟ فقال: الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور. والاستغفار استفعال من الغفران وأصله الغفر وهو إلباس الشيء ما يصونه عما يدنسه، وتدنيس كل شيء يحسبه والغفران من الله للعبد أن يصونه عن العذاب، والتوبة ترك الذنب على أحد الأوجه.وفي الشرع ترك الذنب لقبحه، والندم على فعله، والعزم على عدم العود، ورد المظلمة إن كانت أو طلب البراءة من صاحبها، وهي أبلغ ضروب الاعتذار، لأن المعتذر إما أن يقول لا أفعل فلا يقع الموقع عند من اعتذر له لقيام احتمال أنه فعل، لا سيما إن ثبت ذلك عنده عنه، أو يقول فعلت لأجل كذا ويذكر شيئا يقيم عذره وهو فوق الأول، أو يقول فعلت ولكن أسأت وقد أقلعت وهذا أعلاه انتهى من كلام الراغب ملخصا.وقال: القرطبي في "المفهم": اختلفت عبارات المشايخ فيها، فقائل يقول إنها الندم، وآخر يقول إنها العزم على أن لا يعود، وآخر يقول الإقلاع عن الذنب، ومنهم من يجمع بين الأمور الثلاثة وهو أكملها غير أنه مع ما فيه غير مانع ولا جامع. أما أولا فلأنه قد يجمع الثلاثة ولا يكون تائبا شرعا، إذ قد يفعل ذلك شحا على ماله أو لئلا يعيره الناس به؛ ولا تصح التوبة الشرعية إلا بالإخلاص، ومن ترك الذنب لغير الله لا يكون تائبا اتفاقا. وأما ثانيا فلأنه يخرج منه من زنى مثلا ثم جب ذكره فإنه لا يتأتى منه غير الندم على ما مضى، وأما العزم على عدم العود فلا يتصور منه، قال: وبهذا اغتر من قال إن الندم يكفي في حد التوبة، وليس كما قال لأنه لو ندم ولم يقلع وعزم على العود لم يكن تائبا اتفاقا، قال: وقال بعض المحققين هي اختيار ترك ذنب سبق حقيقة أو تقديرا لأجل الله، قال: وهذا أسد العبارات وأجمعها، لأن التائب لا يكون تاركا للذنب الذي فرغ لأنه غير متمكن من عينه لا تركا ولا فعلا، وإنما هو متمكن من مثله حقيقة، وكذا من لم يقع منه ذنب إنما يصح منه اتقاء ما يمكن أن يقع لا ترك مثل ما وقع فيكون متقيا لا تائبا، قال: والباعث على هذا تنبيه إلهي لمن أراد سعادته لقبح الذنب وضرره، لأنه سم مهلك يفوت على الإنسان سعادة الدنيا والآخرة، ويحجبه عن معرفة الله تعالى في الدنيا وعن تقريبه في الآخرة. قال: ومن تفقد نفسه وجدها مشحونة بهذا السم، فإذا وفق انبعث منه خوف هجوم الهلاك عليه فيبادر بطلب ما يدفع به عن نفسه ضرر ذلك، فحينئذ ينبعث منه الندم على ما سبق والعزم على ترك العود عليه، قال: ثم اعلم أن التوبة إما من الكفر وإما من الذنب، فتوبة الكافر مقبولة قطعا، وتوبة العاصي مقبولة بالوعد الصادق، ومعنى القبول الخلاص من ضرر الذنوب حتى يرجع كمن لم يعمل. ثم توبة العاصي إما من حق الله وإما من حق غيره، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك على ما تقدم، غير أن منه ما لم يكتف الشرع فيه بالترك فقط بل أضاف إليه القضاء أو الكفارة، وحق غير الله يحتاج إلى إيصالها لمستحقها وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب، لكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذله الوسع في ذلك فعفو الله مأمول، فإنه يضمن التبعات ويبدل السيئات حسنات، والله أعلم. قلت: حكى غيره عن عبد الله بن المبارك في شروط التوبة زيادة فقال: الندم، والعزم على عدم العود؛ ورد المظلمة، وأداء ما ضيع من الفرائض، وأن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيذيبه بالهم والحزن حتى ينشأ له لحم طيب، وأن يذيق نفسه ألم الطاعة كما أذاقها لذة المعصية. قلت: وبعض هذه الأشياء مكملات. وقد تمسك من فسر التوبة بالندم بما أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهما من حديث ابن مسعود رفعه: "الندم توبة" ولا حجة فيه لأن المعنى الحض عليه وأنه الركن الأعظم في التوبة لا أنه التوبة نفسها، وما يؤيد

(11/103)


اشتراط كونها لله تعالى وجود الندم على الفعل ولا يستلزم الإقلاع عن أصل تلك المعصية، كمن قتل ولده مثلا وندم لكونه ولده، وكمن بذل مالا في معصية ثم ندم على نقص ذلك المال مما عنده. واحتج من شرط في صحة التوبة من حقوق العباد أن يرد تلك المظلمة بأن من غصب أمة فزنى بها لا تصح توبته إلا بردها لمالكها، وأن من قتل نفسا عمدا لا تصح توبته إلا بتمكين نفسه من ولي الدم ليقتص أو يعفو. قلت: وهذا من جهة التوبة من الغصب ومن حق المقتول واضح، ولكن يمكن أن تصح التوبة من العود إلى الزنا وإن استمرت الأمة في يده، ومن العود إلى القتل وإن لم يمكن من نفسه. وزاد بعض من أدركناه في شروط التوبة أمورا أخرى: منها أن يفارق موضع المعصية، وأن لا يصل في آخر عمره إلى الغرغرة، وأن لا تطلع الشمس من مغربها، وأن لا يعود إلى ذلك الذنب، فإن عاد إليه بان أن توبته باطلة. قلت: والأول مستحب، والثاني والثالث داخلان في حد التكليف والرابع الأخير عزى للقاضي أبي بكر الباقلاني. ويرده الحديث الآتي بعد عشرين بابا وقد أشرت إليه في "باب فضل الاستغفار" وقد قال الحليمي في تفسير التواب في الأسماء الحسنى: أنه العائد على عبده بفضل رحمته، كلما رجع لطاعته وندم على معصيته فلا يحبط عنه ما قدمه من خير ولا يحرمه ما وعد به الطائع من الإحسان. وقال الخطابي: التواب الذي يعود إلى القبول كلما عاد العبد إلى الذنب وتاب. قوله: "وقال قتادة توبة نصوحا: الصادقة الناصحة" وصله عبد بن حميد من طريق شيبان عن قتادة مثله، وقيل سميت ناصحة لأن العبد ينصح نفسه فيها، فذكرت بلفظ المبالغة. وقرأ عاصم "نصوحا" بضم النون أي ذات نصح. وقال الراغب: النصح تحرى قول أو فعل فيه صلاح، تقول: نصحت لك الود أي أخلصته، ونصحت الجلد أي خطته، والناصح الخياط، والنصاح الخيط، فيحتمل أن يكون قوله: "توبة نصوحا" مأخوذا من الإخلاص أو من الإحكام، وحكى القرطبي المفسر أنه اجتمع له من أقوال العلماء في تفسير التوبة النصوح ثلاثة وعشرون قولا: الأول قول عمر "أن يذنب الذنب ثم لا يرجع" وفي لفظ "ثم لا يعود فيه" أخرجه الطبري بسند صحيح عن ابن مسعود مثله، وأخرجه أحمد مرفوعا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زر بن حبيش عن أبي بن كعب أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أن يندم إذا أذنب فيستغفر ثم لا يعود إليه" وسنده ضعيف جدا. الثاني: أن يبغض الذنب ويستغفر منه كلما ذكره، أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري. الثالث قول قتادة المذكور قبل. الرابع أن يخلص فيها. الخامس أن يصير من عدم قبولها على وجل. السادس أن لا يحتاج معها إلى توبة أخرى. السابع أن يشتمل على خوف ورجاء ويدمن الطاعة. الثامن مثله وزاد: وأن يهاجر من أعانه عليه. التاسع أن يكون ذنبه بين عينيه. العاشر أن يكون وجها بلا قفا كما كان في المعصية قفا بلا وجه. ثم سرد بقية الأقوال من كلام الصوفية بعبارات مختلفة ومعان مجتمعة ترجع إلى ما تقدم، وجميع ذلك من المكملات لا من شرائط الصحة، والله أعلم. قوله: "حدثنا أحمد بن يونس" هو ابن عبد الله بن يونس نسب إلى جده واشتهر بذلك، وأبو شهاب شيخه اسمه عبد ربه بن نافع الحناط بالمهملة والنون وهو أبو شهاب الحناط الصغير، وأما أبو شهاب الحناط الكبير فهو في طبقة شيوخ هذا واسمه موسى بن نافع، وليسا أخوين وهما كوفيان، وكذا بقية رجال هذا السند. قوله: "عن عمارة بن عمير" فذكر المصنف تصريح الأعمش بالتحديث وتصريح شيخه عمارة. وفي رواية أبي أسامة المعلقة بعد هذا، وعمارة تيمي من بني تيم اللات ابن ثعلبة كوفي من طبقة الأعمش، وشيخه الحارث ابن سويد تيمي أيضا، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق

(11/104)


أولهم الأعمش وهو من صغار التابعين، وعمارة من أوساطهم، والحارث من كبارهم. قوله: "حديثين أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه قال إن المؤمن" فذكره إلى قوله: "فوق أنفه" ثم قال: "لله أفرح بتوبة عبده" هكذا وقع في هذه الرواية غير مصرح برفع أحد الحديثين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال النووي: قالوا المرفوع "لله أفرح إلخ" والأول قول ابن مسعود، وكذا جزم ابن بطال بأن الأول هو الموقوف والثاني هو المرفوع وهو كذلك، ولم يقف ابن التين على تحقيق ذلك فقال: أحد الحديثين عن ابن مسعود والآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزد في الشرح على الأصل شيئا، وأغرب الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة في مختصره فأفرد أحد الحديثين من الأخر وعبر في كل منهما بقوله: "عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم" وليس ذلك في شيء من نسخ البخاري، ولا التصريح برفع الحديث الأول إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من نسخ كتب الحديث إلا ما قرأت في شرح مغلطاي أنه روى مرفوعا من طريق وهاها أبو أحمد الجرجاني يعني ابن عدي، وقد وقع بيان ذلك في الرواية المعلقة، وكذا وقع البيان في رواية مسلم مع كونه لم يسق حديث ابن مسعود الموقوف ولفظه من طريق جرير عن الأعمش عن عمارة عن الحارث قال: "دخلت على ابن مسعود أعوده وهو مريض فحدثنا بحديثين: حديثا عن نفسه، وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لله أشد فرحا" الحديث. قوله: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه" قال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب المؤمن منور، فإذا رأي من نفسه ما يخالف ما ينور به قلبه عظم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة. وحاصله أن المؤمن يغلب عليه الخوف لقوة ما عنده من الإيمان فلا يأمن العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح ويخشى من صغير عمله السيئ. قوله: "وأن الفاجر يرى ذنوبه كذباب" في رواية أبي الربيع الزهراني عن أبي شهاب عند الإسماعيلي: "يرى ذنوبه كأنها ذباب مر على أنفه" أي ذنبه سهل عنده لا يعتقد أنه يحصل له بسببه كبير ضرر، كما أن ضرر الذباب عنده سهل، وكذا دفعه عنه. والذباب بضم المعجمة وموحدتين الأولى خفيفة بينهما ألف جمع ذبابة وهي الطير المعروف. قوله: "فقال به هكذا" أي نحاه بيده أو دفعه، هو من إطلاق القول على الفعل قالوا وهو أبلغ. قوله: "قال أبو شهاب" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "بيده على أنفه" هو تفسير منه لقوله: "فقال به" قال المحب الطبري: إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته، لأنه على يقين من الذنب وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله فلذلك قل خوفه واستهان بالمعصية. وقال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب الفاجر مظلم فوقوع الذنب خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية إذا وعظ يقول هذا سهل، قال: ويستفاد من الحديث أن قلة خوف المؤمن ذنوبه وخفته عليه يدل على فجوره، قال: والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب كون الذباب أخف الطير وأحقره؛ وهو مما يعاين ويدفع بأقل الأشياء، قال: وفي ذكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذنب عنده. لأن الذباب قلما ينزل على الأنف وإنما يقصد غالبا العين، قال: وفي إشارته بيده تأكيد للخفة أيضا لأنه بهذا القدر اليسير يدفع ضرره، قال: وفي الحديث ضرب المثل بما يمكن، وإرشاد إلى الحض على محاسبة النفس، واعتبار العلامات الدالة على بقاء نعمة الإيمان، وفيه أن الفجور أمر قلبي كالإيمان، وفيه دليل لأهل السنة لأنهم لا يكفرون بالذنوب، ورد على الخوارج وغيرهم ممن يكفر بالذنوب.

(11/105)


وقال ابن بطال: يؤخذ منه أنه ينبغي أن يكون المؤمن عظيم الخوف من الله تعالى من كل ذنب صغيرا كان أو كبيرا، لأن الله تعالى قد يعذب على القليل فإنه لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى. قوله: "ثم قال: لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا" في رواية أبي الربيع المذكورة "بتوبة عبده المؤمن" وعند مسلم من رواية جرير، ومن رواية أبي أسامة "لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن" وكذا عنده من حديث أبي هريرة، وإطلاق الفرح في حق الله مجاز عن رضاه، قال الخطابي: معنى الحديث أن الله أرضى بالتوبة وأقبل لها، والفرح الذي يتعارفه الناس بينهم غير جائز على الله، وهو كقوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي راضون. وقال ابن فورك: الفرح في اللغة السرور. ويطلق على البطر، ومنه "إن الله لا يحب الفرحين" وعلى الرضا، فإن كل من يسر بشيء ويرضى به يقال في حقه فرح به. قال ابن العربي: كل صفة تقتضي التغير لا يجوز أن يوصف الله بحقيقتها، فإن ورد شيء من ذلك حمل على معنى يليق به، وقد يعبر عن الشيء بسببه أو ثمرته الحاصلة عنه، فإن من فرح بشيء جاد لفاعله بما سأل وبذل له ما طلب، فعبر عن عطاء الباري وواسع كرمه بالفرح. وقال ابن أبي جمرة: كنى عن إحسان الله للتائب وتجاوزه عنه بالفرح لأن عادة الملك إذا فرح بفعل أحد أن يبالغ في الإحسان إليه. وقال القرطبي في "المفهم": هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله توبة عبده التائب، وأنه يقبل عليه بمغفرته ويعامله معاملة من يفرح بعمله، ووجه هذا المثل أن العاصي حصل بسبب معصيته في قبضة الشيطان وأسره وقد أشرف على الهلاك، فإذا لطف الله به ووفقه للتوبة خرج من شؤم تلك المعصية وتخلص من أسر الشيطان ومن المهلكة التي أشرف عليها فأقبل الله عليه بمغفرته وبرحمته، وإلا فالفرح الذي هو من صفات المخلوقين محال على الله تعالى لأنه اهتزاز وطرب يجده الشخص من نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به نقصانه ويسد به خلته، أو يدفع به عن نفسه ضررا أو نقصا، وكل ذلك محال على الله تعالى فإنه الكامل بذاته الغني بوجوده الذي لا يلحقه نقص ولا قصور، لكن هذا الفرح له عندنا ثمرة وفائدة وهو الإقبال على الشيء المفروح به وإحلاله المحل الأعلى، وهذا هو الذي يصح في حقه تعالى، فعبر عن ثمرة الفرح بالفرح على طريقة العرب في تسمية الشيء باسم ما جاوره أو كان منه بسبب، وهذا القانون جار في جميع ما أطلقه الله تعالى على صفة من الصفات التي لا تليق به، وكذا ما ثبت بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وبه مهلكة" كذا في الروايات التي وقفت عليها من صحيح البخاري بواو مفتوحة ثم موحدة خفيفة مكسورة ثم هاء ضمير، ووقع عند الإسماعيلي في رواية أبي الربيع عن أبي شهاب بسند البخاري فيه: "بدوية" بموحدة مكسورة ودال مفتوحة ثم واو ثقيلة مكسورة ثم تحتانية مفتوحة ثم هاء تأنيث، وكذا في جميع الروايات خارج البخاري عند مسلم وأصحاب السنن والمسانيد وغيرهم. وفي رواية لمسلم: "في أرض دوية مهلكة" وحكى الكرماني أنه وقع في نسخة من البخاري "وبيئة" وزن فعيلة من الوباء ولم أقف أنا على ذلك في كلام غيره، ويلزم عليه أن يكون وصف المذكر وهو المنزل بصفة المؤنث في قوله: "وبيئة مهلكة" وهو جائز على إرادة البقعة، والدوية هي القفر والمفازة، وهي الداوية بإشباع الدال، ووقع كذلك في رواية لمسلم وجمعها داوي قال الشاعر "أروع خراج من الداوي". قوله: "مهلكة" بفتح الميم واللام بينهما هاء ساكنة يهلك من حصل بها، وفي بعض النسخ بضم الميم وكسر اللام من الرباعي أي تهلك هي من يحصل بها. قوله: "عليها طعامه وشرابه" زاد أبو معاوية عن الأعمش "وما يصلحه" أخرجه الترمذي وغيره. قوله: "وقد ذهبت

(11/106)


راحلته" في رواية أبي معاوية "فأضلها فخرج في طلبها" وفي رواية جرير عن الأعمش عند مسلم: "فطلبها". قوله: "حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله" شك من أبي شهاب، واقتصر جرير على ذكر العطش، ووقع في رواية أبي معاوية "حتى إذا أدركه الموت".قوله: "قال أرجع" بهمزة قطع بلفظ المتكلم.قوله: "إلى مكاني فرجع فنام" في رواية جرير "أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت" وفي رواية أبي معاوية "أرجع إلى مكاني الذي أضللنها فيه فأموت فيه، فرجع إلى مكانه فغلبته عينه". قوله: "فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده" في رواية جرير "فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده طعامه وشرابه" وزاد أبو معاوية في روايته: "وما يصلحه". قوله: "تابعه أبو عوانة" هو الوضاح، وجرير هو ابن عبد الحميد "عن الأعمش" فأما متابعة أبي عوانة فوصلها الإسماعيلي من طريق يحيى بن حماد عنه، وأما متابعة جرير فوصلها مسلم وقد ذكرت اختلاف لفظها. قوله: "وقال أبو أسامة" هو حماد بن أسامة "حدثنا الأعمش حدثنا عمارة حدثنا الحارث" يعني عن ابن مسعود بالحديثين، ومراده أن هؤلاء الثلاثة وافقوا أبا شهاب في إسناد هذا الحديث، إلا أن الأولين عنعناه، وصرح فيه أبو أسامة، ورواية أبي أسامة وصلها مسلم أيضا وقال مثل حديث جرير.قوله: "وقال شعبة وأبو مسلم" زاد المستملي في روايته عن الفربري "اسمه عبيد الله" أي بالتصغير كوفي قائد الأعمش. قلت: واسم أبيه سعيد بن مسلم كوفي ضعفه جماعة، لكن لما وافقه شعبة ترخص البخاري في ذكره، وقد ذكره في تاريخه وقال: في حديثه نظر وقال العقيلي: يكتب حديثه وينظر فيه، ومراده أن شعبة وأبا مسلم خالفا أبا شهاب ومن تبعه في تسمية شيخ الأعمش فقال الأولون عمارة. وقال هذان إبراهيم التيمي، وقد ذكر الإسماعيلي أن محمد بن فضيل وشجاع بن الوليد وقطبة بن عبد العزيز وافقوا أبا شهاب على قوله عمارة عن الحارث، ثم ساق رواياتهم، وطريق قطبة عند مسلم أيضا. قوله: "وقال أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمارة عن الأسود عن عبد الله وعن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله" يعني أن أبا معاوية خالف الجميع فجعل الحديث عند الأعمش عن عمارة بن عمير وإبراهيم التيمي جميعا، لكنه عند عمارة عن الأسود وهو ابن يزيد النخعي، وعند إبراهيم التيمي عن الحارث ابن سويد، وأبو شهاب ومن تبعه جعلوه عند عمارة عن الحارث بن سويد، ورواية أبي معاوية لم أقف عليها في شيء من السنن والمسانيد على هذين الوجهين، فقد أخرجه الترمذي عن هناد بن السري والنسائي عن محمد بن عبيد والإسماعيلي من طريق أبي همام ومن طريق أبي كريب ومن طريق محمد بن طريف كلهم عن أبي معاوية كما قال أبو شهاب ومن تبعه، وأخرجه النسائي عن أحمد بن حرب الموصلي عن أبي معاوية فجمع بين الأسود والحارث بن سويد. وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي كريب، ولم أره من رواية أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي، وإنما وجدته عند النسائي من رواية علي بن مسهر عن الأعمش كذلك، وفي الجملة فقد اختلف فيه على عمارة في شيخه هل هو الحارث بن سويد أو الأسود، وتبين مما ذكرته أنه عنده عنهما جميعا، واختلف على الأعمش في شيخه هل هو عمارة أو إبراهيم التيمي، وتبين أيضا أنه عنده عنهما جميعا، والراجح من الاختلاف كله ما قال أبو شهاب ومن تبعه، ولذلك اقتصر عليه مسلم، وصدر به البخاري كلامه فأخرجه موصولا، وذكر الاختلاف معلقا كعادته في الإشارة إلى أن مثل هذا الخلاف ليس بقادح، والله أعلم. "تنبيه": ذكر مسلم من حديث البراء لهذا الحديث المرفوع سببا وأوله "كيف تقولون في رجل انفلتت منه راحلته بأرض

(11/107)


قفر ليس بها طعام ولا شراب وعليها له طعام وشراب فطلبها حتى شق عليه" فذكر معناه. وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة مختصرا "ذكروا الفرح عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجل يجد ضالته فقال: لله أشد فرحا" الحديث. قوله: "حدثني إسحاق" قال أبو علي الجياني: يحتمل أن يكون ابن منصور، فإن مسلما أخرج عن إسحاق ابن منصور عن حبان بن هلال حديثا غير هذا. قلت: وتقدم في البيوع في "باب البيعان بالخيار" في رواية أبي علي بن شبوية "حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا حبان بن هلال" فذكر حديثا غير هذا، وهذا مما يقوى ظن أبي علي، والله أعلم. وحبان بفتح المهملة ثم الموحدة الثقيلة، وهمام هو ابن يحيى، وقد نزل البخاري في حديثه في السند الأول ثم علاه بدرجة في السند الثاني، والسبب في ذلك أنه وقع في السند النازل تصرخ قتادة بتحديث أنس له، ووقع في السند العالي بالعنعنة. قوله: "سقط على بعيره" أي صادفه وعثر عليه من غير قصد فظفر به، ومنه قولهم "على الخبير سقطت" وحكى الكرماني أن في رواية: "سقط إلى بعيره" أي انتهى إليه والأول أولى. قوله: "وقد أضله" أي ذهب منه بغير قصده، قال ابن السكيت: أضللت بعيري أي ذهب مني، وضللت بعيري أي لم أعرف موضعه. قوله: "بفلاة" أي مفازة. إلى هنا انتهت رواية قتادة: وزاد إسحاق بن أبي طلحة عن أنس فيه عند مسلم: "فانفلت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، فبينا هو كذلك إذا بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح" قال عياض: فيه أن ما قاله الإنسان من مثل هذا في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به، وكذا حكايته عنه على طريق علمي وفائدة شرعية لا على الهزل والمحاكاة والعبث، ويدل على ذلك حكاية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولو كان منكرا ما حكاه والله أعلم. قال ابن أبي حمزة: وفي حديث ابن مسعود من الفوائد جواز سفر المرء وحده لأنه لا يضرب الشارع المثل إلا بما يجوز، ويحمل حديث النهي على الكراهة جمعا، ويظهر من هذا الحديث حكمة النهي. قلت: والحصر الأول مردود، وهذه القصة تؤكد النهي. قال: وفيه تسمية المفازة التي ليس فيها ما يؤكل ولا يشرب مهلكة. وفيه أن من ركن إلى ما سوى الله يقطع به أحوج ما يكون إليه، لأن الرجل ما نام في الفلاة وحده إلا ركونا إلى ما معه من الزاد، فلما اعتمد على ذلك خانه، لولا أن الله لطف به وأعاد عليه ضالته قال بعضهم:
من سره أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا
قال: وفيه أن فرح البشر وغمهم إنما هو على ما جرى به أثر الحكمة من العوائد، يؤخذ من ذلك أن حزن المذكور إنما كان على ذهاب راحلته لخوف الموت من أجل فقد زاده، وفرحه بها إنما كان من أجل وجدانه ما فقد مما تنسب الحياة إليه في العادة، وفيه بركة الاستسلام لأمر الله، لأن المذكور لما أيس من وجدان راحلته استسلم للموت فمن الله عليه برد ضالته. وفيه ضرب المثل بما يصل إلى الأفهام من الأمور المحسوسة، والإرشاد إلى الحض على محاسبة النفس، واعتبار العلامات الدالة على بقاء نعمة الإيمان.

(11/108)


5 - باب الضَّجْعِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ
6310- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ

(11/108)


عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَجِيءَ الْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنَهُ"
قوله: "باب الضجع على الشق الأيمن" الضجع بفتح أوله وسكون الجيم مصدر؛ يقال ضجع الرجل يضجع ضجعا وضجوعا فهو ضاجع والمعنى وضع جنبه بالأرض. وفي رواية باب الضجعة وهو بكسر أوله لأن المراد الهيئة ويجوز الفتح أي المرة.حديث عائشة في اضطجاعه صلى الله عليه وسلم بعد ركعتي الفجر، وقد مضى شرحه في كتاب الصلاة، وترجم له "باب الضجع على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر" قال ابن التين: أصل اضطجع اضتجع بمثناة فأبدلوها طاء، ومنهم من أبقاها ولم يدغموا الضاد فيها، وحكى المازني الضجع بلام ساكنة قبل الضاد كراهة للجمع بين الضاد والطاء في النطق لثقله فجعل بدلها اللام.وذكر المصنف هذا الباب والذي بعده توطئة لما يذكر بعدهما من القول عند النوم.

(11/109)


6 - باب إِذَا بَاتَ طَاهِرًا
6311- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ مَنْصُورًا عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ "حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ وَقُلْ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ فَقُلْتُ أَسْتَذْكِرُهُنَّ وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ قَالَ لاَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ"
قوله: "باب إذا بات طاهرا" زاد أبو ذر في روايته: "وفضله" وقد ورد في هذا المعنى عدة أحاديث ليست على شرطه، منها حديث معاذ رفعه: "ما من مسلم يبيت على ذكر وطهارة فيتعار من الليل فيسأل الله خيرا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وأخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة نحوه وأخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر رفعه: "من بات طاهرا بات في شعاره ملك فلا يستيقظ إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك فلان" وأخرج الطبراني في "الأوسط" من حديث ابن عباس نحوه بسند جيد. قوله: "معتمر" هو ابن سليمان التيمي، ومنصور هو ابن المعتمر.قوله: "عن سعد بن عبيدة" كذا قال الأكثر، وخالفهم إبراهيم بن طهمان فقال: "عن منصور عن الحكم عن سعد بن عبيدة" زاد في الإسناد الحكم أخرجه النسائي، وقد سأل ابن أبي حاتم عنه أباه فقال: هذا خطأ ليس فيه الحكم. قلت: فهو من المزيد في متصل الأسانيد. قوله: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا لأبي ذر وأبي زيد المروزي، وسقط لفظ: "لي" من رواية الباقين. وفي رواية أبي إسحاق في الباب الذي يليه "أمر رجلا" وفي أخرى له "أوصى رجلا" وفي رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق الآتية كتاب التوحيد عن البراء "قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا فلان إذا أويت إلى فراشك" الحديث

(11/109)


وأخرجه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق عن البراء "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ألا أعلمك كلمات تقول إذ أويت إلى فراشك" . قوله: "إذا أتيت مضجعك" أي إذا أردت أن تضطجع، ووقع صريحا كذلك في رواية أبي إسحاق المذكورة، ووقع في رواية فطر بن خليفة عن سعد بن عبيدة عند أبي داود والنسائي: "إذا أويت إلى فراشك وأنت طاهر فتوسد يمينك" الحديث نحو حديث الباب وسنده جيد، ولكن ثبت ذلك في أثناء حديث آخر سأشير إليه في شرح حديث حذيفة الأتي في الباب بعده، وللنسائي من طريق الربيع بن البراء بن عازب قال قال البراء فذكر الحديث بلفظ: "من تكلم بهؤلاء الكلمات حين يأخذ جنبه من مضجعه بعد صلاة العشاء" فذكر نحو حديث الباب. قوله: "فتوضأ وضوءك للصلاة" الأمر فيه للندب.وله فوائد: منها أن يبيت على طهارة لئلا يبغته الموت فيكون على هيئة كاملة، ويؤخذ منه الندب إلى الاستعداد للموت بطهارة القلب لأنه أولى من طهارة البدن. وقد أخرج عبد الرزاق من طريق مجاهد قال: "قال لي ابن عباس: لا تبيتن إلا على وضوء، فإن الأرواح نبعث على ما قبضت عليه" ورجاله ثقات إلا أبا يحيى القتات هو صدوق فيه كلام. ومن طريق أبي مراية العجلي قال "من أوى إلى فراشه طاهرا ونام ذاكرا كان فراشه مسجدا وكان في صلاة وذكر حتى يستيقظ" ومن طريق طاوس نحوه.ويتأكد ذلك في حق المحدث ولا سيما الجنب وهو أنشط للعود، وقد يكون منشطا للغسل فيبيت على طهارة كاملة. ومنها أن يكون أصدق لرؤياه وأبعد من تلعب الشيطان به.قال الترمذي: ليس في الأحاديث ذكر الوضوء عند النوم إلا في هذا الحديث. قوله: "ثم اضطجع على شقك" بكسر المعجمة وتشديد القاف أي الجانب، وخص الأيمن لفوائد: منها أنه أسرع إلى الانتباه، ومنها أن القلب متعلق إلى جهة اليمين فلا يثقل بالنوم، ومنها قال ابن الجوزي: هذه الهيئة نص الأطباء على أنها أصلح للبدن، قالوا يبدأ بالاضطجاع على الجانب الأيمن ساعة ثم ينقلب إلى الأيسر لأن الأول سبب لانحدار الطعام، والنوم على اليسار يهضم لاشتمال الكبد على المعدة. "تنبيه": هكذا وقع في رواية سعد بن عبيدة وأبي إسحاق عن البراء، ووقع في رواية العلاء بن المسيب عن أبيه عن البراء من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه كما سيأتي قريبا "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن" ثم قال: الحديث فيستفاد مشروعية هذا الذكر من قوله صلى الله عليه وسلم ومن فعله، ووقع عند النسائي من رواية حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة عن البراء وزاد في أوله "ثم قال: بسم الله اللهم أسلمت نفسي إليك" ووقع عند الخرائطي في "مكارم الأخلاق" من وجه آخر عن البراء بلفظ: "كان إذا أوى إلى فراشه قال: اللهم أنت ربي ومليكي وإلهي لا إله إلا أنت، إليك وجهت وجهي" الحديث. قوله: "وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك" كذا لأبي ذر وأبي زيد ولغيرهما: "أسلمت نفسي" قيل الوجه والنفس هنا بمعنى الذات والشخص، أي أسلمت ذاتي وشخصي لك، وفيه نظر للجمع بينهما في رواية أبي إسحاق عن البراء الآتية بعد باب ولفظه "أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك ووجهت وجهي إليك" وجمع بينهما أيضا في رواية العلاء بن المسيب وزاد خصلة رابعة ولفظه: "أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري وألجأت ظهري إليك" فعلى هذا فالمراد بالنفس هنا الذات وبالوجه القصد، وأبدى القرطبي هذا احتمالا بعد جزمه بالأول. قوله: "أسلمت" أي استسلمت وانقدت، والمعنى جعلت نفسي منقادة لك تابعة لحكمك إذ لا قدرة لي على تدبيرها ولا على جلب ما ينفعها إليها ولا دفع ما يضرها عنها، وقوله: "وفوضت أمري إليك" أي توكلت عليك في أمري كله؛ وقوله: "وألجأت" أي اعتمدت في أموري عليك لتعينني على ما ينفعني، لأن من

(11/110)


استند إلى شيء تقوى به واستعان به، وخصه بالظهر لأن العادة جرت أن الإنسان يعتمد بظهره إلى ما يستند إليه، وقوله: "رغبة ورهبة إليك" أي رغبة في رفدك وثوابك "ورهبة" أي خوفا من غضبك ومن عقابك. قال ابن الجوزي: أسقط "من" مع ذكر الرهبة وأعمل "إلى" مع ذكر الرغبة وهو على طريق الاكتفاء كقول الشاعر "وزججن الحواجب والعيونا" والعيون لا تزجج، لكن لما جمعهما في نظم حمل أحدهما على الآخر في اللفظ، وكذا قال الطيبي، ومثل بقوله: "متقلدا سيفا ورمحا". قلت: ولكن ورد في بعض طرقه بإثبات "من" ولفظه: "رهبة منك ورغبة إليك" أخرجه النسائي وأحمد من طريق حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة. قوله: "لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك" أصل ملجأ بالهمز ومنجا بغير همز ولكن لما جمعا جاز أن يهمزا للازدواج، وأن يترك الهمز فيهما، وأن يهمز المهموز ويترك الآخر، فهذه ثلاثة أوجه، ويجوز التنوين مع القصر فتصير خمسة. قال الكرماني: هذان اللفظان إن كانا مصدرين يتنازعان في "منك" وإن كانا ظرفين فلا، إذ اسم المكان لا يعمل، وتقديره لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك ولا منجا منك إلا إليك. وقال الطيبي: في نظم هذا الذكر عجائب لا يعرفها إلا المتقن من أهل البيان، فأشار بقوله: "أسلمت نفسي" إلى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه، وبقوله: "وجهت وجهي" إلى أن ذاته مخلصة له بريئة من النفاق، وبقوله: "فوضت أمري" إلى أن أموره الخارجة والداخلة مفوضة إليه لا مدبر لها غيره، وبقوله: "ألجأت ظهري" إلى أنه بعد التفويض يلتجئ إليه مما يضره ويؤذيه من الأسباب كلها. قال: وقوله رغبة ورهبة منصوبان على المفعول له على طريق اللف والنشر، أي فوضت أموري إليك رغبة وألجأت ظهري إليك رهبة. قوله: "آمنت بكتابك الذي أنزلت" يحتمل أن يريد به القرآن، ويحتمل أن يريد اسم الجنس فيشمل كل كتاب أنزل. قوله: "ونبيك الذي أرسلت" وقع في رواية أبي زيد المروزي "أرسلته وأنزلته" في الأول بزيادة الضمير فيهما. قوله: "فإن مت مت على الفطرة" في رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق الآتية في التوحيد "من ليلتك" وفي رواية المسيب بن رافع "من قالهن ثم مات تحت ليلته" قال الطيبي: فيه إشارة إلى وقوع ذلك قبل أن ينسلخ النهار من الليل وهو تحته، أو المعنى بالتحت أي مت تحت نازل ينزل عليك في ليلتك، وكذا معنى "من" في الرواية الأخرى أي من أجل ما يحدث ليلتك، وقوله: "على الفطرة" أي على الدين القويم ملة إبراهيم، فإنه عليه السلام أسلم واستسلم، قال الله تعالى عنه "جاء ربه بقلب سليم" وقال عنه "أسلمت لرب العالمين" وقال: "فلما أسلما" وقال ابن بطال وجماعة: المراد بالفطرة هنا دين الإسلام، وهو بمعنى الحديث الآخر "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" قال القرطبي في "المفهم": كذا قال الشيوخ وفيه نظر، لأنه إذا كان قائل هذه الكلمات المقتضية للمعاني التي ذكرت من التوحيد والتسليم والرضا إلى أن يموت كمن يقول لا إله إلا الله ممن لم يخطر له شيء من هذه الأمور فأين فائدة هذه الكلمات العظيمة وتلك المقامات الشريفة؟ ويمكن أن يكون الجواب أن كلا منهما وإن مات على الفطرة فبين الفطرتين ما بين الحالتين، ففطرة الأول فطرة المقربين وفطرة الثاني فطرة أصحاب اليمين. قلت: وقع في رواية حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة في آخره عند أحمد بدل قوله: مات على الفطرة "بنى له بيت في الجنة" وهو يؤيد ما ذكره القرطبي، ووقع في آخر الحديث في التوحيد من طريق أبي إسحاق عن البراء "وإن أصبحت أصبت خيرا" وكذا لمسلم

(11/111)


والترمذي من طريق ابن عيينة عن أبي إسحاق "فإن أصبحت أصبحت وقد أصبت خيرا" وهو عند مسلم من طريق حصين عن سعد بن عبيدة ولفظه: "وإن أصبح أصاب خيرا" أي صلاحا في المال وزيادة في الأعمال.قوله: "فقلت" كذا لأبي ذر وأبي زيد المروزي، ولغيرهما: "فجعلت أستذكرهن" أي أتحفظهن. ووقع في رواية الثوري عن منصور الماضية في آخر كتاب الوضوء "فرددتها" أي رددت تلك الكلمات لأحفظهن. ولمسلم من رواية جرير عن منصور "فرددتهن لأستذكرهن". قوله: "وبرسولك الذي أرسلت، قال: لا. وبنبيك الذي أرسلت" في رواية جرير عن منصور "فقال قل وبنبيك" قال القرطبي تبعا لغيره: هذا حجة لمن لم يجز نقل الحديث بالمعنى، وهو الصحيح من مذهب مالك، فإن لفظ النبوة والرسالة مختلفان في أصل الوضع، فإن النبوة من النبأ وهو الخبر فالنبي في العرف هو المنبأ من جهة الله بأمر يقتضي تكليفا، وأن أمر بتبليغه إلى غيره فهو رسول، وإلا فهو نبي غير رسول، وعلى هذا فكل نبي رسول بلا عكس، فإن النبي والرسول اشتركا في أمر عام وهو النبأ وافترقا في الرسالة، فإذا قلت: فلان رسول تضمن أنه نبي رسول، وإذا قلت: فلان نبي لم يستلزم أنه رسول، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يجمع بينهما في اللفظ لاجتماعهما فيه حتى يفهم من كل واحد منهما من حيث النطق ما وضع له وليخرج عما يكون شبه التكرار في اللفظ من غير فائدة، فإنه إذا قال: "ورسولك" فقد فهم منه أنه أرسله، فإذا قال: "الذي أرسلت" صار كالحشو الذي لا فائدة فيه، بخلاف قوله: "ونبيك الذي أرسلت" فلا تكرار فيه لا متحققا ولا متوهما، انتهى كلامه. وقوله صار كالحشو متعقب لثبوته في أفصح الكلام كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ - أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} ومن غير هذا اللفظ "يوم ينادي المنادي" إلى غير ذلك، فالأولى حذف هذا الكلام الأخير والاقتصار على قوله: "ونبيك الذي أرسلت" في هذا المقام أفيد من قوله ورسولك الذي أرسلت لما ذكر، والذي ذكره في الفرق بين الرسول والنبي مقيد بالرسول البشري، وإلا فإطلاق الرسول كما في اللفظ هنا يتناول الملك كجبريل مثلا فيظهر لذلك فائدة أخرى وهي تعين البشري دون الملك فيخلص الكلام من اللبس. وأما الاستدلال به على منع الرواية بالمعنى ففيه نظر، لأن شرط الرواية بالمعنى أن يتفق اللفظان في المعنى المذكور، وقد تقرر أن النبي والرسول متغايران لفظا ومعنى فلا يتم الاحتجاج بذلك. قيل وفي الاستدلال بهذا الحديث لمنع الرواية بالمعنى مطلقا نظر، وخصوصا إبدال الرسول بالنبي وعكسه إذا وقع في الرواية، لأن الذات المحدث عنها واحدة، فالمراد يفهم بأي صفة وصف بها الموصوف إذا ثبتت الصفة له، وهذا بناء على أن السبب في منع الرواية بالمعنى أن الذي يتسجيز ذلك قد يظن يوفى بمعنى اللفظ الآخر ولا يكون كذلك في نفس الأمر كما عهد في كثير من الأحاديث، فالاحتياط الإتيان باللفظ، فعلى هذا إذا تحقق بالقطع أن المعنى فيهما متحد لم يضر، بخلاف ما إذا اقتصر على الظن ولو كان غالبا. وأولى ما قيل في الحكمة في رده صلى الله عليه وسلم على من قال الرسول بدل النبي أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به، وهذا اختيار المازري قال: فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه. وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ولعله أوحى إليه بهذه الكلمات فيتعين أداؤها بحروفها. وقال النووي: في الحديث ثلاث سنن إحداها الوضوء عند النوم، وإن كان متوضئا كفاه لأن المقصود النوم على طهارة. ثانيها النوم على اليمين. ثالثها الختم بذكر الله. وقال الكرماني: هذا الحديث يشتمل على الإيمان

(11/112)


بكل ما يجب الإيمان به إجمالا من الكتب والرسل من الإلهيات والنبويات، وعلى إسناد الكل إلى الله من الذوات والصفات والأفعال، لذكر الوجه والنفس والأمر وإسناد الظهر مع ما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه، وهذا كله بحسب المعاش، وعلى الاعتراف بالثواب والعقاب خيرا وشرا وهذا بحسب المعاد. "تنبيه": وقع عند النسائي في رواية عمرو بن مرة عن سعد بن عبيدة في أصل الحديث: "آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت" وكأنه لم يسمع من سعد بن عبيدة الزيادة التي في آخره فروي بالمعنى، وقد وقع في رواية أبي إسحاق عن البراء نظير ما في رواية منصور عن سعد بن عبيدة أخرجه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق، وفي آخره: "قال البراء: فقلت وبرسولك الذي أرسلت، فطعن بيده في صدري ثم قال: ونبيك الذي أرسلت". وكذا أخرج النسائي من طريق فطر بن خليفة عن أبي إسحاق ولفظه: "فوضع يده في صدري" نعم أخرج الترمذي من حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اضطجع أحدكم على يمينه ثم قال" فذكر نحو الحديث، وفي آخره: "أؤمن بكتابك الذي أنزلت وبرسلك الذي أرسلت" هكذا فيه بصيغة الجمع. وقال: حسن غريب. فإن كان محفوظا فالسر فيه حصول التعميم الذي دلت عليه صيغة الجمع صريحا فدخل فيه جميع الرسل من الملائكة والبشر فأمن اللبس، ومنه قوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} والله أعلم.

(11/113)


باب مايقول إذا نام
...
7 - باب مَا يَقُولُ إِذَا نَامَ
6312- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا قَامَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"
6313- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالاَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "سَمِعت الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلًا ح" و حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ "عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى رَجُلًا فَقَالَ إِذَا أَرَدْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلْ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لاَ مَلْجَا وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ"
قوله: "باب ما يقول إذا نام" سقطت هذه الترجمة لبعضهم وثبتت للأكثر. قوله: "سفيان" هو الثوري، وعبد الملك هو ابن عمير، وثبت في رواية أبي ذر وأبي زيد المروزي عن عبد الملك بن عمير. قوله: "إذا أوى إلى فراشه" أي دخل فيه، وفي الطريق الآتية قريبا "إذا أخذ مضجعه" وأوى بالقصر. وأما قوله: "الحمد لله الذي آوانا" فهو بالمد ويجوز فيه القصر، والضابط في هذه اللفظة أنها مع اللزوم تمد في الأفصح ويجوز القصر، وفي التعدي بالعكس. قوله: "باسمك أموت وأحيا" أي بذكر اسمك أحيا ما حييت وعليه أموت. وقال القرطبي:

(11/113)


قوله: "باسمك أموت" يدل على أن الاسم هو المسمى، وهو كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي سبح ربك، هكذا قال جل الشارحين، قال: واستفدت من بعض المشايخ معنى آخر وهو أن الله تعالى سمي نفسه بالأسماء الحسنى ومعانيها ثابتة له فكل ما صدر في الوجود فهو صادر عن تلك المقتضيات، فكأنه قال باسمك المحيي أحيا وباسمك المميت أموت انتهى ملخصا. والمعنى الذي صدرت به أليق، وعليه فلا يدل ذلك على أن الاسم غير المسمى ولا عينه، ويحتمل أن يكون لفظ الاسم هنا زائدا كما في قول الشاعر:
"إلى الحول ثم اسم السلام عليكما". قوله: "وإذا قام قال الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا" قال أبو إسحاق الزجاج: النفس التي تفارق الإنسان عند النوم هي التي للتمييز، والتي تفارقه عند الموت هي التي للحياة وهي التي يزول معها التنفس، وسمي النوم موتا لأنه يزول معه العقل والحركة تمثيلا وتشبيها قاله في النهاية، ويحتمل أن يكون المراد بالموت هنا السكون كما قالوا ماتت الريح أي سكنت، فيحتمل أن يكون أطلق الموت على النائم بمعنى إرادة سكون حركته لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} قاله الطيبي: قال: وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل والسؤال والهرم والمعصية والجهل.
وقال القرطبي في "المفهم": "النوم والموت يجمعهما انقطاع تعلق الروح بالبدن" وذلك قد يكون ظاهرا وهو النوم ولذا قيل النوم أخو الموت، وباطنا وهو الموت، فإطلاق الموت على النوم يكون مجازا لاشتراكهما في انقطاع تعلق الروح بالبدن. وقال الطيبي: الحكمة في إطلاق الموت على النوم أن انتفاع الإنسان بالحياة إنما هو لتحري رضا الله عنه وقصد طاعته واجتناب سخطه وعقابه، فمن نام زال عنه هذا الانتفاع فكان كالميت فحمد الله تعالى على هذه النعمة وزوال ذلك المانع، قال: وهذا التأويل موافق للحديث الآخر الذي فيه: "وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" وينتظم معه قوله: "وإليه النشور" أي وإليه المرجع في نيل الثواب بما يكتسب في الحياة. قلت: والحديث الذي أشار إليه سيأتي مع شرحه قريبا. قوله: "وإليه النشور" أي البعث يوم القيامة والإحياء بعد الإماتة، يقال نشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم فحيوا. قوله: "تنشرها تخرجها" كذا ثبت هذا في رواية السرخسي وحده، وقد أخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بذلك وذكرها بالزاي من أنشره إذا رفعه بتدريج وهي قراءة الكوفيين وابن عامر. وأخرج من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: ننشرها أي نحييها، وذكرها بالراء من أنشرها أي أحياها ومنه {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} وهي قراءة أهل الحجاز وأبي عمرو قال: والقراءتان متقاربتان في المعنى؛ وقرئ في الشاذ بفتح أوله بالراء وبالزاي أيضا وبضم التحتانية معهما أيضا. قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "سمعت البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا ح. وحدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن البراء بن عازب" كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي "عن أبي إسحاق سمعت البراء" والأول أصوب وإلا لكان موافقا للرواية الأولى من كل جهة، ولأحمد عن عفان عن شعبة "أمر رجلا من الأنصار" وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفي في الباب قبله. "تنبيهان": الأول لشعبة في هذا الحديث شيخ آخر أخرجه النسائي من طريق غندر عنه عن مهاجر أبي الحسن عن البراء، وغندر من أثبت الناس في شعبة ولكن لا يقدح ذلك في رواية الجماعة عن شعبة، فكأن لشعبة فيه شيخين الثاني وقع في رواية شعبة عن أبي إسحاق في هذا الحديث عن البراء "لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك" وهذا القدر من الحديث مدرج لم يسمعه

(11/114)


أبو إسحاق من البراء وإن كان ثابتا في غير رواية أبي إسحاق عن البراء، وقد بين ذلك إسرائيل عن جده أبي إسحاق، وهو من أثبت الناس فيه، أخرجه النسائي من طريقه فساق الحديث بتمامه ثم قال. كان أبو إسحاق يقول: "لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك" لم أسمع هذا من البراء سمعتهم يذكرونه عنه، وقد أخرجه النسائي أيضا من وجه آخر عن أبي إسحاق عن هلال بن يساف عن البراء.

(11/115)


باب وضع ليد تحت الخد اليمنى
...
8 - باب وَضْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى تَحْتَ الْخَدِّ الأَيْمَنِ
6314- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ "عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"
حديث حذيفة المذكور في الباب الذي قبله وفيه: "وضع يده تحت خده" قال الإسماعيلي: ليس فيه ذكر اليمنى وإنما ذلك وقع في رواية شريك ومحمد بن جابر عن عبد الملك بن عمير. قلت: جرى البخاري على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث وطريق شريك هذه أخرجها أحمد من طريقه، وفي الباب عن البراء أخرجه النسائي من طريق أبي خيثمة والثوري عن أبي إسحاق عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن وقال: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك" وسنده صحيح.وأخرجه أيضا بسند صحيح عن حفصة وزاد: "يقول ذلك ثلاثا".

(11/115)


9 - باب النَّوْمِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ
6315- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا الْعَلاَءُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي "عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَهُنَّ ثُمَّ مَاتَ تَحْتَ لَيْلَتِهِ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ"
قوله: "باب النوم على الشق الأيمن" تقدمت فوائد هذه الترجمة قريبا، وبين النوم والضجع عموم وخصوص وجهي. قوله: "العلاء بن المسيب عن أبيه" هو ابن رافع الكاهلي ويقال الثعلبي بمثلثة ثم مهملة يكنى أبا العلاء، وكان من ثقات الكوفيين، وما لولده العلاء في البخاري إلا هذا الحديث وآخر تقدم في غزوة الحديبية وهو ثقة، قال الحاكم: له أوهام. "تنبيه": وقع في "مستخرج أبي نعيم" في هذا الموضع ما نصه "لتسترهبوهم من الرهبة. ملكوت ملك مثل رهبوت ورحموت، تقول: ترهب خير من أن ترحم" انتهى ولم أره لغيره هنا. وقد تقدم قوله: "استرهبوهم من الرهبة" في تفسير سورة الأعراف وباقيه تقدم في تفسير الأنعام، وتكلمت عليه هناك

(11/115)


10 - باب الدُّعَاءِ إِذَا انْتَبَهَ بِاللَّيْلِ
6316- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ كُرَيْبٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى حَاجَتَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الْقِرْبَةَ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ فَصَلَّى فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَتَّقِيهِ فَتَوَضَّأْتُ فَقَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَتَتَامَّتْ صَلاَتُهُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ فَآذَنَهُ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا قَالَ كُرَيْبٌ وَسَبْعٌ فِي التَّابُوتِ فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ فَذَكَرَ عَصَبِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعَرِي وَبَشَرِي وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ"
6317- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ"
قوله: "باب الدعاء إذا انتبه من الليل" رواية الكشميهني: "بالليل" ووقع عندهم في أول التهجد في أواخر كتاب الصلاة بالعكس. ذكر فيه حديثين عن ابن عباس. قوله: "عن سفيان" هو الثوري، وسلمة هو ابن كهيل. قوله: "بت عند ميمونة" تقدم شرحه مضموما إلى ما في ثاني حديثي الباب في أول أبواب الوتر دون ما في آخره من الدعاء فأحلت به على ما هنا. وقوله فيه: "فغسل وجهه" كذا لأبي ذر، ولغيره: "غسل" بغير فاء. وقوله: "شناقها" بكسر المعجمة وتخفيف النون ثم قاف هو رباط القربة يشد عنقها فشبه بما يشنق به، وقيل هو ما تعلق به، ورجح أبو عبيد الأول. قوله: "وضوءا بين وضوءين" قد فسره بقوله: "لم يكثر وقد أبلغ" وهو يحتمل أن يكون قلل من الماء مع التثليث أو اقتصر على دون الثلاث، ووقع في رواية شعبة عن سلمة عند مسلم: "وضوءا حسنا" ووقع عند الطبراني من طريق منصور بن معتمر عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه في هذه القصة "وإلى جانبه مخضب من برام مطبق عليه سواك فاستن به ثم توضأ". قوله: "أتقيه" بمثناة ثقيلة وقاف

(11/116)


مكسورة كذا للنسفي وطائفة، قال الخطابي: أي ارتقبه. وفي رواية بتخفيف النون وتشديد القاف ثم موحدة من التنقيب وهو التفتيش. وفي رواية القابسي "أبغيه" بسكون الموحدة بعدها معجمة مكسورة ثم تحتانية أي أطلبه، وللأكثر "أرقبه" وهي أوجه. قوله: "فتتامت" بمثناتين أي تكاملت، وهي رواية شعبة عن سلمة عند مسلم. قوله: "فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ" في رواية مسلم ثم نام حتى نفخ وكنا نعرفه إذا نام بنفخه". قوله: "وكان يقول في دعائه" فيه إشارة إلى أن دعاءه حينئذ كان كثيرا، وكان هذا من جملته، وقد ذكر في ثاني حديثي الباب قوله: "اللهم أنت نور السماوات والأرض إلخ" ووقع في رواية شعبة عن سلمة "فكان يقول في صلاته وسجوده" وسأذكر أن في رواية الترمذي زيادة في هذا الدعاء طويلة، ووقع عند مسلم أيضا في رواية علي ابن عبد الله بن عباس عن أبيه أنه قال الذكر الآتي في الحديث الثاني أول ما قام قبل أن يدخل في الصلاة. وقال هذا الدعاء المذكور في الحديث الأول وهو ذاهب إلى صلاة الصبح، فأفاد أن الحديثين في قصة واحدة وأن تفريقهما صنيع الرواة.وفي رواية الترمذي التي سيأتي التنبيه عليها أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين فرغ من صلاته، ووقع عند البخاري في "الأدب المفرد" من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي فقضى صلاته يثنى على الله بما هو أهله، ثم يكون آخر كلامه اللهم اجعل في قلبي نورا الحديث". ويجمع بأنه كان يقول ذلك عند القرب من فراغه. قوله: "اللهم اجعل في قلبي نورا إلخ" قال الكرماني: التنوين فيها للتعظيم أي نورا عظيما كذا قال، وقد اقتصر في هذه الرواية على ذكر القلب والسمع والبصر والجهات الست وقال في آخره: "واجعل لي نورا". ولمسلم عن عبد الله بن هاشم عن عبد الرحمن بن مهدي بسند حديث الباب: "وعظم لي نورا" بتشديد الظاء المعجمة. ولأبى يعلى عن أبى خيثمة عن عبد الرحمن "وأعظم لي نورا" أخرجه الإسماعيلي، وأخرجه أيضا من رواية بندار عن عبد الرحمن. وكذا لأبي عوانة من رواية أبي حذيفة عن سفيان ولمسلم في رواية شعبة عن سلمة "واجعل لي نورا" أو قال: "واجعلني نورا" هذه رواية غندر عن شعبة. وفي رواية النضر عن شعبة "واجعلني" ولم يشك. وللطبراني في الدعاء من طريق المنهال بن عمرو عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه في آخره: "واجعل لي يوم القيامة نورا".قوله: "قال كريب: وسبع في التابوت" قلت: حاصل ما في هذه الرواية عشرة، وقد أخرجه مسلم من طريق عقيل عن سلمة بن كهيل "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسع عشرة كلمة حدثنيها كريب فحفظت منها ثنتي عشرة ونسيت ما بقي" فذكر ما في رواية الثوري هذه وزاد: "وفي لساني نورا" بعد قوله: "في قلبي" وقال في آخره: "واجعل لي في نفسي نورا وأعظم لي نورا" وهاتان ثنتان من السبع التي ذكر كريب أنها في التابوت مما حدثه بعض ولد العباس. وقد اختلف في مراده بقوله التابوت فجزم الدمياطي في حاشيته بأن المراد به الصدر الذي هو وعاء القلب، وسبق ابن بطال والداودي إلى أن المراد بالتابوت الصدر، وزاد ابن بطال: كما يقال لمن يحفظ العلم: علمه في التابوت مستودع. وقال النووي تبعا لغيره: المراد بالتابوت الأضلاع وما تحويه من القلب وغيره تشبيها بالتابوت الذي يحرز فيه المتاع، يعني سبع كلمات في قلبي ولكن نسيتها، قال: وقيل المراد سبعة أنوار كانت مكتوبة في التابوت الذي كان لبني إسرائيل فيه السكينة. وقال ابن الجوزي يريد بالتابوت الصندوق أي سبع مكتوبة في صندوق عنده لم يحفظها في ذلك الوقت. قلت: ويؤيده ما وقع عند أبي عوانة من طريق أبي حذيفة عن الثوري بسند حديث الباب: "قال كريب وستة

(11/117)


عندي مكتوبات في التابوت" وجزم القرطبي في "المفهم" وغير واحد بأن المراد بالتابوت الجسد أي أن السبع المذكورة تتعلق بجسد الإنسان بخلاف أكثر ما تقدم فإنه يتعلق بالمعاني كالجهات الست وإن كان السمع والبصر من الجسد، وحكى ابن التين عن الداودي أن معنى قوله: "في التابوت" أي في صحيفة في تابوت عند بعض ولد العباس، قال: والخصلتان العظم والمخ. وقال الكرماني: لعلهما الشحم والعظم، كذا قالا وفيه نظر، سأوضحه. قوله: "فلقيت رجلا من ولد العباس" قال ابن بطال: ليس كريب هو القائل "فلقيت رجلا من ولد العباس" وإنما قاله سلمة بن كهيل الراوي عن كريب. قلت: هو محتمل، وظاهر رواية أبي حذيفة أن القائل هو كريب، قال ابن بطال: وقد وجدت الحديث من رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال فذكر الحديث مطولا، وظهرت منه معرفة الخصلتين اللتين نسيهما فإن فيه: "اللهم اجعل في عظامي نورا وفي قبري نورا ". قلت: بل الأظهر أن المراد بهما اللسان والنفس وهما اللذان زادهما عقيل في روايته عند مسلم وهما من جملة الجسد، وينطبق عليه التأويل الأخير للتابوت، وبذلك جزم القرطبي في "المفهم" ولا ينافيه ما عداه، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي من طريق داود بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده "سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلة حين فرغ من صلاته يقول: اللهم إني أسألك رحمة من عندك" فساق الدعاء بطوله وفيه: "اللهم اجعل لي نورا في قبري" ثم ذكر القلب ثم الجهات الست والسمع والبصر ثم الشعر والبشر ثم اللحم والدم والعظام ثم قال في آخره: "اللهم عظم لي نورا وأعطني نورا واجعلني نورا" قال الترمذي غريب. وقد روى شعبة وسفيان عن سلمة عن كريب بعض هذا الحديث ولم يذكروه بطوله انتهى. وأخرج الطبري من وجه آخر عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه في آخره: "وزدني نورا. قالها ثلاثا" وعند ابن أبي عاصم في كتاب الدعاء من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن عن كريب في آخر الحديث: "وهب لي نورا على نور" ويجتمع من اختلاف الروايات كما قال ابن العربي خمس وعشرون خصلة. قوله: "فذكر عصبي" بفتح المهملتين وبعدهما موحدة قال ابن التين هي أطناب المفاضل، وقوله: "وبشري" بفتح الموحدة والمعجمة: ظاهر الجسد. قوله: "وذكر خصلتين" أي تكملة السبعة، قال القرطبي: هذه الأنوار التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن حملها على ظاهرها فيكون سأل الله تعالى أن يجعل له في كل عضو من أعضائه نورا يستضيء به يوم القيامة في تلك الظلم هو ومن تبعه أو من شاء الله منهم، قال والأولى أن يقال: هي مستعارة للعلم والهداية كما قال تعالى: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} ثم قال: والتحقيق في معناه أن النور مظهر ما نسب إليه، وهو يختلف بحسبه: فنور السمع مظهر للمسموعات، ونور البصر كاشف للمبصرات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات. قال الطيبي: معنى طلب النور للأعضاء عضوا عضوا أن يتحلى بأنوار المعرفة والطاعات ويتعرى عما عداهما، فإن الشياطين تحيط بالجهات الست بالوساوس فكان التخلص منها بالأنوار السادة لتلك الجهات. قال: وكل هذه الأمور راجعة إلى الهداية والبيان وضياء الحق، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - إلى قوله تعالى- نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} انتهى ملخصا. وكان في بعض ألفاظه ما لا يليق بالمقام فحذفته. وقال الطيبي أيضا: خص السمع والبصر والقلب بلفظ: "لي" لأن القلب مقر الفكرة في آلاء الله، والسمع والبصر مسارح آيات الله المصونة، قال: وخص اليمين والشمال بعن إيذانا بتجاوز الأنوار عن قلبه وسمعه وبصره إلى من عن يمينه

(11/118)


وشماله من أتباعه، وعبر عن بقية الجهات بمن يشمل استنارته وإنارته من الله والخلق. وقوله في آخره: "واجعل لي نورا" هي فذلكة لذلك وتأكيد له. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "كان إذا قام من الليل يتهجد" تقدم شرحه مستوفي في أوائل التهجد، وقوله في آخره: "لا إله إلا أنت أو لا إله غيرك" شك من الراوي. ووقع في رواية للطبراني في آخره: "ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".

(11/119)


11 - باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ الْمَنَامِ
6318- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى "عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم شَكَتْ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تَجِدْهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ قَالَ فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْتُ أَقُومُ فَقَالَ مَكَانَكِ فَجَلَسَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ فَهَذَا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ وَعَنْ شُعْبَةَ عَنْ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ التَّسْبِيحُ أَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ"
قوله: "باب التكبير والتسبيح عند المنام" أي والتحميد. قوله: "عن الحكم" هو ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغر فقيه الكوفة. وقوله: "عن ابن أبي ليلى" هو عبد الرحمن. وقوله: "عن علي" قد وقع في النفقات "عن بدل بن المحبر عن شعبة أخبرني الحكم سمعت عبد الرحمن ابن أبي ليلى أنبأنا علي". قوله: "إن فاطمة شكت ما تلقى في يدها من الرحى" زاد بدل في روايته: "مما تطحن" وفي رواية القاسم مولى معاوية عن علي عند الطبراني "وأرته أثرا في يدها من الرحى" وفي زوائد عبد الله بن أحمد في مسند أبيه وصححه ابن حبان من طريق محمد بن سيرين عن عبيدة بن عمرو عن علي "اشتكت فاطمة مجل يدها" وهو بفتح الميم وسكون الجيم بعدها لام معناه التقطيع. وقال الطبري: المراد به غلظ اليد، وكل من عمل عملا بكفه فغلظ جلدها قيل مجلت كفه. وعند أحمد من رواية هبيرة بن يريم عن علي "قلت لفاطمة لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألتيه خادما، فقد أجهدك الطحن والعمل" وعنده وعند ابن سعد من رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن علي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوجه فاطمة" فذكر الحديث وفيه: "فقال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي "وقوله: "سنوت" بفتح المهملة والنون أي استقيت من البئر فكنت مكان السانية وهي الناقة، وعند أبي داود من طريق أبي الورد بن ثمامة عن علي بن أعبد عن علي قال: "كانت عندي فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فجرت بالرحى حتى أثرت بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في عنقها، وقمت البيت حتى اغبرت ثيابها "وفي رواية له "وخبزت حتى تغير وجهها". قوله: "فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما" أي جارية تخدمها، ويطلق أيضا على الذكر. وفي رواية السائب "وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي إليه فاستخدميه" أي اسأليه خادما. وزاد في رواية يحيى القطان عن شعبة كما تقدم في النفقات "وبلغها أنه جاءه رقيق" وفي رواية بدل "وبلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسبي". قوله: "فلم

(11/119)


تجده" في رواية القطان "فلم تصادفه" وفي رواية بدل فلم توافقه وهي بمعنى تصادفه. وفي رواية أبي الورد "فأتته فوجدت عنده حداثا" بضم المهملة وتشديد الدال وبعد الألف مثلثة أي جماعة يتحدثون "فاستحيت فرجعت" فيحمل على أن المراد أنها لم تجده في المنزل بل في مكان آخر كالمسجد وعنده من يتحدث معه. قوله: "فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته" في رواية القطان" أخبرته عائشة" زاد غندر عن شعبة في المناقب "بمجيء فاطمة "وفي رواية بدل" فذكرت ذلك عائشة له" وفي رواية مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عند جعفر الفريابي في "الذكر" والدار قطني في "العلل" وأصله في مسلم: "حتى أتت منزل النبي صلى الله عليه وسلم فلم توافقه، فذكرت ذلك له أم سلمة بعد أن رجعت فاطمة" ويجمع بأن فاطمة التمسته في بيتي أم المؤمنين، وقد وردت القصة من حديث أم سلمة نفسها أخرجها الطبري في تهذيبه من طريق شهر بن حوشب عنها قالت: "جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة" فذكرت الحديث مختصرا. وفي رواية السائب "فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما جاء بك يا بنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت، فقلت: ما فعلت؟ قالت: استحييت". قلت: وهذا مخالف لما في الصحيح، ويمكن الجمع بأن تكون لم تذكر حاجتها أولا على ما في هذه الرواية، ثم ذكرتها ثانيا لعائشة لما لم تجده، ثم جاءت هي وعلي على ما في رواية السائب فذكر بعض الرواة ما لم يذكر بعض. وقد اختصره بعضهم، ففي رواية مجاهد الماضية في النفقات "أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما فقال: ألا أخبرك ما هو خير لك منه" وفي رواية هبيرة "فقالت انطلق معي، فانطلقت معها فسألناه فقال: ألا أدلكما" الحديث. ووقع عند مسلم من حديث أبي هريرة "أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما وشكت العمل فقال: ما ألفيته عندنا" وهو بالفاء أي ما وجدته، ويحمل على أن المراد ما وجدته عندنا فاضلا عن حاجتنا إليه لما ذكر من إنفاق أثمان السبي على أهل الصفة. قوله: "فجاءنا وقد أخذنا مضاجعا" زاد في رواية السائب "فأتيناه جميعا، فقلت بأبي يا رسول الله، والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري. وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا فقال: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم" وقد أشار المصنف إلى هذه الزيادة في فرض الخمس وتكلمت على شرحها هناك. ووقع في رواية عبيدة بن عمرو عن علي عند ابن حبان من الزيادة "فأتانا وعلينا قطيفة إذا لبسناها طولا خرجت منها جنوبنا وإذا لبسناها عرضا خرجت منها رءوسنا وأقدامنا" وفي رواية السائب "فرجعا فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفة لهما إذا غطيا رءوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رءوسهما". قوله: "فذهبت أقوم" وافقه غندر. وفي رواية القطان "فذهبنا نقوم" وفي رواية بدل "لنقوم" وفي رواية السائب "فقاما". قوله: "فقال مكانك" وفي رواية غندر "مكانكما" وهو بالنصب أي الزما مكانكما. وفي رواية القطان وبدل "فقال على مكانكما" أي استمرا على ما أنتما عليه. قوله: "فجلس بيننا" في رواية غندر "فقعد" بدل جلس. وفي رواية القطان "فقعد بيني وبينها" وفي رواية عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى عند النسائي، "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضع قدمه بيني وبين فاطمة". قوله: "حتى وجدت برد قدميه" هكذا هنا بالتثنية وكذا في رواية غندر وعند مسلم أيضا. وفي رواية القطان بالإفراد. وفي رواية بدل كذلك بالإفراد للكشميهني. وفي رواية للطبري "فسخنتهما" وفي رواية عطاء عن مجاهد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عند جعفر في الذكر وأصله في مسلم من الزيادة "فخرج حتى أتى منزل فاطمة وقد دخلت هي وعلي في اللحاف

(11/120)


فلما استأذن هما أن يلبسا فقال: كما أنتما، إني أخبرت أنك جئت تطلبين، فما حاجتك؟ قالت: بلغني أنه قدم عليك خدم، فأحببت أن تعطيني خادما يكفيني الخبز والعجن فإنه قد شق علي، قال: فما جئت تطلبين أحب إليك أو ما هو خير منه؟ قال علي: فغمزتها فقلت قولي ما هو خير منه أحب إلي، قال: فإذا كنتما على مثل حالكما الذي أنتما عليه فذكر التسبيح. وفي رواية علي بن أعبد "فجلس عند رأسها فأدخلت رأسها في اللفاع حياء من أبيها" ويحمل على أنه فعل ذلك أولا، فلما تآنست به دخل معهما في الفراش مبالغة منه في التأنيس، وزاد في رواية علي بن أعبد "فقال ما كان حاجتك أمس؟ فسكتت مرتين، فقلت: أنا والله أحدثك يا رسول الله فذكرته له" ويجمع بين الروايتين بأنها أولا استحيت فتكلم علي عنها، فأنشطت للكلام فأكملت القصة. واتفق غالب الرواة على أنه صلى الله عليه وسلم جاء إليهما. ووقع في رواية شبث وهو بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة ابن ربعي عن علي عند أبي داود وجعفر في الذكر والسياق له "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فانطلق علي وفاطمة حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أتى بكما، قال علي: شق علينا العمل. فقال: ألا أدلكما" وفي لفظ جعفر "فقال علي لفاطمة: ائت أباك فاسأليه أن يخدمك، فأتت أباها حين أمست فقال: ما جاء بك يا بنية؟ قالت: جئت أسلم عليك. واستحيت. حتى إذا كانت القابلة قال: ائت أباك" فذكر مثله "حتى إذا كانت الليلة الثالثة قال لها علي: امشي فخرجا معا" الحديث، وفيه: "ألا أدلكما على خير لكما من حمر النعم" وفي مرسل علي بن الحسين عند جعفر أيضا: "إن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما وبيدها أثر الطحن من قطب الرحى، فقال: إذا أويت إلى فراشك" الحديث. فيحتمل أن تكون قصة أخرى. فقد أخرج أبو داود من طريق أم الحكم أو ضباعة بنت الزبير أي ابن عبد المطلب قالت: "أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيا، فذهبت أنا وأختي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم نشكو إليه ما نحن فيه، وسألناه أن يأمر لنا بشيء من السبي فقال: سبقكن يتامى بدر" فذكر قصة التسبيح إثر كل صلاة ولم يذكر قصة التسبيح عند النوم، فلعله علم فاطمة في كل مرة أحد الذكرين. وقد وقع في تهذيب الطبري من طريق أبي أمامة عن علي في قصة فاطمة من الزيادة "فقال اصبري يا فاطمة، إن خير النساء التي نفعت أهلها". قوله: "فقال ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم" في رواية بدل "خير مما سألتماه" وفي رواية غندر "مما سألتماني" وللقطان نحوه. وفي رواية السائب "ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ فقالا: بلى. فقال: كلمات علمنيهن جبريل". قوله: "إذا أويتما إلى فراشكما أو أخذتما مضاجعكما" هذا شك من سليمان بن حرب، وكذا في رواية القطان، وجزم بدل وغندر بقوله: "إذا أخذتما مضاجعكما" ولمسلم من رواية معاذ عن شعبة "إذا أخذتما مضاجعكما من الليل" وجزم في رواية السائب بقوله: "إذا أويتما إلى فراشكما" وزاد في رواية: "تسبحان دبر كل صلاة عشرا وتحمدان عشرا وتكبران عشرا "وهذه الزيادة ثابتة في رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أصحاب السنن الأربعة في حديث أوله "خصلتان لا يحصيهما عبد إلا دخل الجنة" وصححه الترمذي وابن حبان، وفيه ذكر ما يقال عند النوم أيضا. ويحتمل إن كان حديث السائب عن علي محفوظا أن يكون على ذكر القصتين اللتين أشرت إليهما قريبا معا. ثم وجدت الحديث في "تهذيب الآثار" للطبري فساقه من رواية حماد بن سلمة عن عطاء كما ذكرت، ثم ساقه من طريق شعبة عن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا وفاطمة إذا أخذا مضاجعهما بالتسبيح والتحميد والتكبير" فساق الحديث فظهر أن الحديث في قصة علي وفاطمة، وأن من لم يذكرهما من الرواة

(11/121)


اختصر الحديث، وأن رواية السائب إنما هي عن عبد الله بن عمرو، وأن قول من قال فيه عن علي لم يرد الرواية عن علي وإنما معناه عن قصة علي وفاطمة كما في نظائره. قوله: "فكبرا أربعا وثلاثين وسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين" كذا هنا بصيغة الأمر والجزم بأربع في التكبير. وفي رواية بدل مثله ولفظه: "فكبرا الله" ومثله للقطان لكن قدم التسبيح وأخر التكبير ولم يذكر الجلالة. وفي رواية عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى وفي رواية السائب كلاهما مثله، وكذا في رواية هبيرة عن علي وزاد في آخره: "فتلك مائة باللسان وألف في الميزان" وهذه الزيادة ثبتت أيضا في رواية هبيرة وعمارة بن عبد معا عن علي عند الطبراني. وفي رواية السائب كما مضى، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم كالأول لكن قال تسبحين بصيغة المضارع. وفي رواية عبيدة بن عمرو "فأمرنا عند منامنا بثلاث وثلاثين وثلاث وثلاثين وأربع وثلاثين من تسبيح وتحميد وتكبير" وفي رواية غندر للكشميهني مثل الأول، وعن غير الكشميهني: "تكبران" بصيغة المضارع وثبوت النون، وحذفت في نسخة وهي إما على أن إذا تعمل عمل الشرط وإما حذفت تخفيفا. وفي رواية مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في النفقات بلفظ: "تسبحين الله عند منامك" وقال في الجميع "ثلاثا وثلاثين" ثم قال في آخره قال سفيان رواية إحداهن أربع" وفي رواية النسائي عن قتيبة عن سفيان "لا أدري أيها أربع وثلاثون" وفي رواية الطبري من طريق أبي أمامة الباهلي عن علي في الجميع "ثلاثا وثلاثين. واختماها بلا إله إلا الله" وله من طريق محمد بن الحنفية عن علي "وكبراه وهللاه أربعا وثلاثين" وله من طريق أبي مريم عن علي "احمدا أربعا وثلاثين" وكذا له في حديث أم سلمة، وله من طريق هبيرة أن التهليل أربع وثلاثون ولم يذكر التحميد، وقد أخرجه أحمد من طريق هبيرة كالجماعة وما عدا ذلك شاذ. وفي رواية عطاء عن مجاهد عند جعفر وأصله عند مسلم: "أشك أيها أربع وثلاثون غير أني أظنه التكبير" وزاد في آخره: "قال علي فما تركتها بعد فقالوا له: ولا ليلة صفين؟ فقال: ولا ليلة صفين" وفي رواية القاسم مولى معاوية عن علي "فقيل لي" وفي رواية عمرو ابن مرة "فقال له رجل" وكذا في رواية هبيرة، ولمسلم في رواية من طريق مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى "قلت ولا ليلة صفين" وفي رواية جعفر الفريابي في الذكر من هذا الوجه "قال عبد الرحمن: قلت ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين" وكذا أخرجه مطين في مسند علي من هذا الوجه، وأخرجه أيضا من رواية زهير ابن معاوية عن أبي إسحاق "حدثني هبيرة وهانئ بن هانئ وعمارة بن عبد أنهم سمعوا عليا يقول" فذكر الحديث وفي آخره: "فقال له رجل قال زهير أراه الأشعث بن قيس: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين" وفي رواية السائب فقال له ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟ فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق. نعم: ولا ليلة صفين، وللبزار من طريق محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب "فقال له عبد الله بن الكواء" والكواء بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد وكان من أصحاب علي لكنه كان كثير التعنت في السؤال. وقد وقع في رواية زيد بن أبي أنيسة عن الحكم بسند حديث الباب: "فقال ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟ فقال: ويحك ما أكثر ما تعنتني، لقد أدركتها من السحر" وفي رواية علي بن أعبد "ما تركتهن منذ سمعتهن إلا ليلة صفين فإني ذكرتها من آخر الليل فقلتها" وفي رواية له وهي عند جعفر أيضا في الذكر "إلا ليلة صفين فإني أنسيتها حتى ذكرتها من آخر الليل" وفي رواية شبث بن ربعي مثله وزاد: "فقلتها" ولا اختلاف فإنه نفى أن يكون قالها أول الليل وأثبت أنه قالها في آخره، وأما الاختلاف في تسمية السائل فلا يؤثر لأنه محمول على التعدد بدليل قوله

(11/122)


في الرواية الأخرى "فقالوا" وفي هذا تعقب على الكرماني حيث فهم من قول علي "ولا ليلة صفين" أنه قالها من الليل فقال: مراده أنه لم يشتغل مع ما كان فيه من الشغل بالحرب عن قول الذكر المشار إليه، فإن في قول علي "فأنسيتها" التصريح بأنه نسيها أول الليل وقالها في آخره. والمراد بليلة صفين الحرب التي كانت بين علي ومعاوية بصفين، وهي بلد معروف بين العراق والشام، وأقام الفريقان بها عدة أشهر، وكانت بينهم وقعات كثيرة، لكن لم يقاتلوا في الليل إلا مرة واحدة وهي ليلة الهرير بوزن عظيم، سميت بذلك لكثرة ما كان الفرسان يهرون فيها، وقتل بين الفريقين تلك الليلة عدة آلاف، وأصبحوا وقد أشرف علي وأصحابه على النصر فرفع معاوية وأصحابه المصاحف، فكان ما كان من الاتفاق على التحكيم وانصراف كل منهم إلى بلاده. واستفدنا من هذه الزيادة أن تحديث علي بذلك كان بعد وقعة صفين بمدة، وكانت صفين سنة سبع وثلاثين، وخرج الخوارج على علي عقب التحكيم في أول سنة ثمان وثلاثين وقتلهم بالنهروان، وكل ذلك مشهور مبسوط في تاريخ الطبري وغيره "فائدة": زاد أبو هريرة في هذه القصة مع الذكر المأثور دعاء آخر ولفظه عند الطبري في تهذيبه من طريق الأعمش عن أبي صالح عنه "جاءت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما فقال: ألا أدلك على ما هو خير من خادم؟ تسبحين" فذكره وزاد: "وتقولين: "اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، أعوذ بك من شر كل ذي شر، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر" وقد أخرجه مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه لكن فرقه حديثين. وأخرجه الترمذي من طريق الأعمش لكن اقتصر على الذكر الثاني ولم يذكر التسبيح وما معه. قوله: "وعن شعبة عن خالد" هو الحذاء" عن ابن سيرين" هو محمد "قال التسبيح أربع وثلاثون" هذا موقوف على ابن سيرين، وهو موصول بسند حديث الباب. وظن بعضهم أنه من رواية ابن سيرين بسنده إلى علي وأنه ليس من كلامه، وذلك أن الترمذي والنسائي وابن حبان أخرجوا الحديث المذكور من طريق ابن عون عن ابن سيرين عن عبيدة بن عمرو عن علي، لكن الذي ظهر لي أنه من قول ابن سيرين موقوف عليه، إذ لم يتعرض المصنف لطريق ابن سيرين عن عبيدة، وأيضا فإنه ليس في روايته عن عبيدة تعيين عدد التسبيح وقد أخرجه القاضي يوسف في كتاب الذكر عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه بسنده هذا إلى ابن سيرين من قوله فثبت ما قلته ولله الحمد. ووقع في مرسل عروة عند جعفر أن التحميد أربع، واتفاق الرواة على أن الأربع للتكبير أرجح، قال ابن بطال: هذا نوع من الذكر عند النوم، ويمكن أن يكون صلى الله عليه وسلم كان يقول جميع ذلك عند النوم وأشار لأمته بالاكتفاء ببعضها إعلاما منه أن معناه الحض والندب لا الوجوب. وقال عياض: جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أذكار عند النوم مختلفة بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات، وفي كل فضل، قال ابن بطال: وفي هذا الحديث حجة لمن فضل الفقر على الغنى لقوله: "ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم" فعلمهما الذكر، فلو كان الغني أفضل من الفقر لأعطاهما الخادم وعلمهما الذكر فلما منعهما الخادم وقصرهما على الذكر علم أنه إنما اختار لهما الأفضل عند الله. قلت: وهذا إنما يتم أن لو كان عنده صلى الله عليه وسلم من الخدام فضلة، وقد صرح في الخبر أنه كان محتاجا إلى بيع ذلك الرقيق لنفقته على أهل الصفة، ومن ثم قال عياض: لا وجه لمن استدل به على أن الفقير أفضل من الغني، وقد اختلف في معنى الخيرية في الخبر فقال

(11/123)


عياض: ظاهره أنه أراد أن يعلمهما أن عمل الآخرة أفضل من أمور الدنيا على كل حال، وإنما اقتصر على ذلك لما لم يمكنه إعطاء الخادم، ثم علمهما إذ فاتهما ما طلباه ذكرا يحصل لهما أجرا أفضل مما سألاه. وقال القرطبي: إنما أحالهما على الذكر ليكون عوضا عن الدعاء عند الحاجة، أو لكونه أحب لابنته ما أحب لنفسه من إيثار الفقر وتحمل شدته بالصبر عليه تعظيما لأجرها. وقال المهلب: علم صلى الله عليه وسلم ابنته من الذكر ما هو أكثر نفعا لها في الآخرة، وآثر أهل الصفة لأنهم كانوا وقفوا أنفسهم لسماع العلم وضبط السنة على شبع بطونهم لا يرغبون في كسب مال ولا في عيال، ولكنهم اشتروا أنفسهم من الله بالقوت. ويؤخذ منه تقديم طلبة العلم على غيرهم في الخمس. وفيه ما كان عليه السلف الصالح من شظف العيش وقلة الشيء وشدة الحال. وأن الله حماهم الدنيا مع إمكان ذلك صيانة لهم من تبعاتها، وتلك سنة أكثر الأنبياء والأولياء. وقال إسماعيل القاضي: في هذا الحديث أن للإمام أن يقسم الخمس حيث رأى، لأن السبي لا يكون إلا من الخمس، وأما الأربعة أخماس فهو حق الغانمين انتهى. وهو قول مالك وجماعة، وذهب الشافعي وجماعة إلى أن لآل البيت سهما من الخمس، وقد تقدم بسط ذلك في فرض الخمس في أواخر الجهاد. ثم وجدت في تهذيب الطبري من وجه آخر ما لعله يعكر على ذلك، فساق من طريق أبي أمامة الباهلي عن علي قال: "أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق، أهداهم له بعض ملوك الأعاجم، فقلت لفاطمة: ائت أباك فاستخدميه" فلو صح هذا لأزال الإشكال من أصله، لأنه حينئذ لا يكون للغانمين فيه شيء. وإنما هو من مال المصالح يصرفه الإمام حيث يراه. وقال المهلب: فيه حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من إيثار الآخرة على الدنيا إذا كانت لهم قدرة على ذلك. قال: وفيه جواز دخول الرجل على ابنته وزوجها بغير استئذان وجلوسه بينهما في فراشهما، ومباشرة قدميه بعض جسدهما. قلت: وفي قوله بغير استئذان نظر، لأنه ثبت في بعض طرقه أنه استأذن كما قدمته من رواية عطاء عن مجاهد في الذكر لجعفر، وأصله عند مسلم، وهو في "العلل" للدار قطني أيضا بطوله. وأخرج الطبري في تهذيبه من طريق أبي مريم "سمعت عليا يقول: إن فاطمة كانت تدق الدرمك بين حجرين حتى مجلت يداها" فذكر الحديث، وفيه: "فأتانا وقد دخلنا فراشنا فلما استأذن علينا تخششنا لنلبس علينا ثيابنا، فلما سمع ذلك قال: كما أنتما في لحافكما". ودفع بعضهم الاستدلال المذكور لعصمته صلى الله عليه وسلم فلا يلحق به غيره ممن ليس بمعصوم. وفي الحديث منقبة ظاهرة لعلي وفاطمة عليهما السلام. وفيه بيان إظهار غاية التعطف والشفقة على البنت والصهر ونهاية الاتحاد برفع الحشمة والحجاب حيث لم يزعجهما عن مكانهما فتركهما على حالة اضطجاعهما، وبالغ حتى أدخل رجله بينهما ومكث بينهما حتى علمهما ما هو الأولى بحالهما من الذكر عوضا عما طلباه من الخادم، فهو من باب تلقي المخاطب بغير ما يطلب إيذانا بأن الأهم من المطلوب هو التزود للمعاد والصبر على مشاق الدنيا والتجافي عن دار الغرور. وقال الطيبي: فيه دلالة على مكانة أم المؤمنين من النبي صلى الله عليه وسلم حيث خصتها فاطمة بالسفارة بينها وبين أبيها دون سائر الأزواج. قلت: ويحتمل أنها لم ترد التخصيص بل الظاهر أنها قصدت أباها في يوم عائشة في بيتها فلما لم تجده ذكرت حاجتها لعائشة، ولو اتفق أنه كان يوم غيرها من الأزواج لذكرت لها ذلك، وقد تقدم أن في بعض طرقه أن أم سلمة ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا، فيحتمل أن فاطمة لما لم تجده في بيت عائشة مرت على بيت أم سلمة فذكرت لها ذلك، ويحتمل أن يكون تخصيص هاتين من الأزواج لكون باقيهن كن حزبين كل حزب يتبع واحدة من هاتين كما تقدم صريحا في كتاب الهبة. وفيه أن من واظب

(11/124)


على هذا الذكر عند النوم لم يصبه إعياء لأن فاطمة شكت التعب من العمل فأحالها صلى الله عليه وسلم على ذلك، كذا أفاده ابن تيمية، وفيه نظر ولا يتعين رفع التعب بل يحتمل أن يكون من واظب عليه لا يتضرر بكثرة العمل ولا يشق عليه ولو حصل له التعب، والله أعلم.

(11/125)


12 - باب التَّعَوُّذِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَنَامِ
6319- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ نَفَثَ فِي يَدَيْهِ وَقَرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ"
قوله: "باب التعوذ والقراءة عند النوم" ذكر فيه حديث عائشة في قراءة المعوذات. حديث عائشة في قراءة المعوذات، وقد تقدم شرحه في كتاب الطب، وبينت اختلاف الرواة في أنه كان يقول ذلك دائما أو بقيد الشكوى، وأنه ثبت عن عائشة أنه يفيد الأمران معا لما في رواية عقيل عن الزهري بلفظ: "كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة" وبينت فيه أن المراد بالمعوذات الإخلاص والفلق والناس، وأن ذلك وقع صريحا في رواية عقيل المذكورة وأنها تعين أحد الاحتمالات الماضي ذكرها ثمة، وفيها كيفية مسح جسده بيديه، وقد ورد في القراءة عند النوم عدة أحاديث صحيحة: منها حديث أبي هريرة في قراءة آية الكرسي وقد تقدم في الوكالة وغيرها، وحديث ابن مسعود الآيتان من آخر سورة البقرة وقد تقدم في فضائل القرآن، وحديث فروة بن نوفل عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنوفل اقرأ قل يا أيها الكافرون في كل ليلة ونم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك" أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وابن حبان والحاكم، وحديث العرباض بن سارية "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ويقول فيهن آية خير من ألف آية" أخرجه الثلاثة، وحديث جابر رفعه: "كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل وتبارك" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وحديث شداد بن أوس رفعه: "ما من امرئ مسلم يأخذ مضجعه فيقرأ سورة من كتاب الله إلا بعث الله ملكا يحفظه من كل شيء يؤذيه حتى يهب" أخرجه أحمد والترمذي، وورد في التعوذ أيضا عدة أحاديث: منها حديث أبي صالح عن رجل من أسلم رفعه: "لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق لم يضرك شيء" وفيه قصة. ومنهم من قال عن أبي صالح عن أبي هريرة أخرجه أبو داود وصححه الحاكم. وحديث أبي هريرة "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذ أحدنا مضجعه أن يقول: اللهم رب السماوات ورب الأرض" الحديث، وفي لفظ: "اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان الرجيم وشركه" أخرجه أبو داود والترمذي، وحديث على رفعه: "كان يقول عند مضجعه: اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته" أخرجه أبو داود والنسائي، قال ابن بطال: في حديث عائشة رد على من منع استعمال العوذ والرقي إلا بعد وقوع المرض انتهى، وقد تقدم تقرير ذلك والبحث فيه في كتاب الطب

(11/125)


باب حدثنا أحمد بن يونس
...
13 – باب 6320- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي

(11/125)


14 - باب الدُّعَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ
6321- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ وَأَبِي سَلَمَةَ

(11/128)


ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ"
قوله: "باب الدعاء نصف الليل" أي بيان فضل الدعاء في ذلك الوقت على غيره إلى طلوع الفجر، قال ابن بطال: هو وقت شريف، خصه الله بالتنزيل فيه، فيتفضل على عباده بإجابة دعائهم، وإعطاء سؤلهم، وغفران ذنوبهم، وهو وقت غفلة وخلوة واستغراق في النوم واستلذاذ له، ومفارقة اللذة والدعة صعب، لا سيما أهل الرفاهية وفي زمن البرد. وكذا أهل التعب ولا سيما في قصر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه والتضرع إليه مع ذلك دل على خلوص نيته وصحة رغبته فيما عند ربه، فلذلك نبه الله عباده على الدعاء في هذا الوقت الذي تخلو فيه النفس من خواطر الدنيا وعلقها، ليستشعر العبد الجد والإخلاص لربه. قوله: "يتنزل ربنا" كذا للأكثر هنا بوزن يتفعل مشددا، وللنسفي والكشميهني: "ينزل" بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر الزاي. قوله: "حين يبقى ثلث الليل" قال ابن بطال: ترجم بنصف الليل وساق في الحديث أن التنزل يقع ثلث الليل، لكن المصنف عول على ما في الآية وهي قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} فأخذ الترجمة من دليل القرآن، وذكر النصف فيه يدل على تأكيد المحافظة على وقت التنزل قبل دخوله ليأتي وقت الإجابة والعبد مرتقب له مستعد للقائه. وقال الكرماني: لفظ الخبر "حين يبقى ثلث الليل" وذلك يقع في النصف الثاني انتهى. والذي يظهر لي أن البخاري جرى على عادته فأشار إلى الرواية التي وردت بلفظ النصف، فقد أخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن محمد بن عمر، وعن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "ينزل الله إلى السماء الدنيا نصف الليل الأخير أو ثلث الليل الآخر" وأخرجه الدار قطني في كتاب الرؤيا من رواية عبيد الله العمري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة نحوه، ومن طريق حبيب بن أبي ثابت عن الأغر عن أبي هريرة بلفظ: "شطر الليل" من غير تردد، وسأستوعب ألفاظه في التوحيد إن شاء الله تعالى. وقال أيضا: النزول محال على الله لأن حقيقته الحركة من جهة العلو إلى السفل، وقد دلت البراهين القاطعة على تنزيهه على ذلك فليتأول ذلك بأن المراد نزول ملك الرحمة ونحوه أو يفوض مع اعتقاد التنزيه، وقد تقدم شرح الحديث في الصلاة في "باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل" من أبواب التهجد؛ ويأتي ما بقي منه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(11/129)


15 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخَلاَءِ
6322- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ"
قوله: "باب الدعاء عند الخلاء" أي عند إرادة الدخول. حديث أنس وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، وفيه ذكر من رواه بلفظ: "إذا أراد أن يدخل".

(11/129)


16 - باب مَا يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ:
6323- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ "عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ إِذَا قَالَ حِينَ يُمْسِي فَمَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِذَا قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ مِثْلَهُ"
6324- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"
6325- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الحُرِّ "عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"
[6225- طرفه في: 7395]
قوله: "باب ما يقول إذا أصبح" ذكر فيه ثلاثة أحاديث. وقد ورد فيما يقال عند الصباح عدة أحاديث: منها حديث أنس رفعه: "من قال حين يصبح: "اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك، أعتق الله ربعه من النار، ومن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار" الحديث رواه الثلاثة وحسنه الترمذي. وحديث أبي سلام عمن خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعه: "من قال إذا أصبح وإذا أمسى: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا إلا كان حقا على الله أن يرضيه" أخرجه أبو داود وسنده قوي. وهو عند الترمذي بنحوه من حديث ثوبان

(11/130)


بسند ضعيف، وحديث عبد الله بن غنام البياضي رفعه: "من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه" الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان، وحديث أنس "قال النبي صلى الله عليه وسلم: لفاطمة: ما منعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح في شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين" أخرجه النسائي والبزار.

(11/131)


17 - بَاب الدُّعَاءِ فِي الصَّلاَةِ
6326- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو "عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ " قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ إِنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6327- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أُنْزِلَتْ فِي الدُّعَاءِ"
6328- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلاَةِ السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ الصَّالِحِينَ فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ صَالِحٍ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الثَّنَاءِ مَا شَاءَ"
قوله "باب الدعاء في الصلاة" ذكر فيه ثلاثة أحاديث وهي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص "عن أبي بكر الصديق أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي" وقد تقدم الكلام عليه في "باب الدعاء قبيل السلام" في أواخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة بما فيه كفاية. قوله: "وقال عمرو" هو ابن الحارث "عن يزيد" هو ابن أبي حبيب وهو المذكور في السند الأول، وأبو الخير هو مرثد بفتح الميم والمثلثة بينهما راء مهملة. قوله: "قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم" وصله في التوحيد من رواية عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث ولفظه:" أن أبا بكر قال: يا رسول الله" وقد بينت ذلك في شرحه. قال الطبري: في حديث أبي بكر دلالة على رد قول من زعم أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من لا خطيئة له ولا ذنب، لأن الصديق من أكبر أهل الإيمان. وقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت" . وقال الكرماني: هذا الدعاء من الجوامع، لأن فيه الاعتراف بغاية التقصير وطلب غاية الإنعام، فالمغفرة ستر الذنوب ومحوها، والرحمة إيصال

(11/131)


الخيرات، ففي الأول طلب الزحزحة عن النار وفي الثاني طلب إدخال الجنة وهذا هو الفوز العظيم. وقال ابن أبي حمزة ما ملخصه: في الحديث مشروعية الدعاء في الصلاة، وفضل الدعاء المذكور على غيره، وطلب التعليم من الأعلى وإن كان الطالب يعرف ذلك النوع، وخص الدعاء بالصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وفيه أن المرء ينظر في عبادته إلى الأرفع فيتسبب في تحصيله. وفي تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر هذا الدعاء إشارة إلى إيثار أمر الآخرة على أمر الدنيا، ولعله فهم ذلك من حال أبي بكر وإيثاره أمر الآخرة قال: وفي قوله: "ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت" أي ليس لي حيلة في دفعه فهي حالة افتقار، فأشبه حال المضطر الموعود بالإجابة، وفيه هضم النفس والاعتراف بالتقصير، وتقدمت بقية فوائده هناك. حديث عائشة في قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ} قال: أنزلت في الدعاء، وقد تقدم شرحه في تفسير سبحان، وعلي شيخه هو ابن سلمة كما أشرت إليه في تفسير المائدة. حديث عبد الله وهو ابن مسعود في التشهد، وقد تقدم شرحه في أواخر صفة الصلاة، وأخذ الترجمة من هذه الأحاديث إلا أن الأول نص في المطلوب، والثاني يستفاد منه صفة من صفات الداعي وهي عدم الجهر والمخافتة فيسمع نفسه ولا يسمع غيره، وقيل للدعاء صلاة لأنها لا تكون إلا بدعاء فهو من تسمية بعض الشيء باسم كله. والثالث فيه الأمر بالدعاء في التشهد وهو من جملة الصلاة، والمراد بالثناء الدعاء، فقد تقدم في باب التشهد بلفظ: "فليتخير من الدعاء ما شاء". وقد ورد الأمر بالدعاء في السجود في حديث أبي هريرة رفعه: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء" وورد الأمر أيضا بالدعاء في التشهد في حديث أبي هريرة وفي حديث فضالة بن عبيد عند أبي داود والترمذي وصححه، وفيه أنه أمر رجلا بعد التشهد أن يثنى على الله بما هو أهله ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء، ومحصل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من المواضع التي كان يدعو فيها داخل الصلاة ستة مواطن: الأول عقب تكبيرة الإحرام ففيه حديث أبي هريرة في الصحيحين "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" الحديث الثاني في الاعتدال ففيه حديث ابن أبي أوفى عند مسلم أنه كان يقول بعد قوله من شيء بعد "اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد". الثالث في الركوع وفيه حديث عائشة "كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" أخرجاه. الرابع في السجود وهو أكثر ما كان يدعو فيه وقد أمر به فيه. الخامس بين السجدتين "اللهم اغفر لي" السادس في التشهد وسيأتي، وكان أيضا يدعو في القنوت وفي حال القراءة إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب استعاذ.

(11/132)


18 - باب الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلاَةِ
6329- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ قَالَ "كَيْفَ ذَاكَ قَالُوا صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ قَالَ أَفَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَتَسْبِقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ وَلاَ يَأْتِي أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ بِهِ إِلاَّ مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ تُسَبِّحُونَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْرًا

(11/132)


وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ سُمَيٍّ وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلاَنَ عَنْ سُمَيٍّ وَرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ وَرَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
6330- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ "كَتَبَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ إِذَا سَلَّمَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ سَمِعْتُ الْمُسَيَّبَ"
قوله: "باب الدعاء بعد الصلاة" أي المكتوبة، وفي هذه الترجمة رد على من زعم أن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع، متمسكا بالحديث الذي أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن الحارث عن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم لا يثبت إلا قدر ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" . والجواب أن المراد بالنفي المذكور نفي استمراره جالسا على هيئته قبل السلام إلا بقدر أن يقول ما ذكر، فقد ثبت أنه "كان إذا صلى أقبل على أصحابه" فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل بوجهه على أصحابه. قال ابن القيم في "الهدي النبوي": وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة سواء الإمام والمنفرد والمأموم فلم يكن ذلك من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أصلا، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وخص بعضهم ذلك بصلاتي الفجر والعصر، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا من السنة بعدهما، قال: وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها، قال، وهذا اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه مناجيه، فإذا سلم منها انقطعت المناجاة وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه وهو مقبل عليه ثم يسأل إذا انصرف عنه؟ ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحب لمن أتى بها أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يفرغ منها ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية وهي الذكر لا لكونه دبر المكتوبة. قلت: وما ادعاه من النفي مطلقا مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "يا معاذ إني والله لأحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم، وحديث أبي بكرة في قول "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر، كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهن دبر كل صلاة" أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم، وحديث سعد الآتي في "باب التعوذ من البخل" قريبا، فإن في بعض طرقه المطلوب. وحديث زيد بن أرقم "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في دبر كل صلاة: اللهم ربنا ورب كل شيء" الحديث أخرجه أبو داود والنسائي، وحديث صهيب رفعه: "كان يقول إذا انصرف من الصلاة: اللهم أصلح لي ديني" الحديث أخرجه النسائي وصححه ابن حبان وغير ذلك. فإن قيل: المراد بدبر كل صلاة قرب آخرها وهو التشهد، قلنا قد ورد الأمر بالذكر دبر كل صلاة، والمراد به بعد السلام إجماعا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه.

(11/133)


وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة "قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات" وقال حسن. وأخرج الطبري من رواية جعفر بن محمد الصادق قال: "الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة كفضل المكتوبة على النافلة" وفهم كثير ممن لقيناه من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقا، وليس كذلك فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلي القبلة وإيراده بعد السلام، وأما إذا انتقل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ. ثم ذكر المصنف حديث أبي هريرة في التسبيح بعد الصلاة، وحديث المغيرة في قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وقد ترجم في أواخر الصلاة "باب الذكر بعد التشهد" وأورد فيه هذين الحديثين، وتقدم شرحهما هناك مستوفى، ومناسبة هذه الترجمة لهما أن الذاكر يحصل له ما يحصل للداعي إذا شغله الذكر عن الطلب كما في حديث ابن عمر رفعه: "يقول الله تعالى من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين" أخرجه الطبراني بسند لين، وحديث أبي سعيد بلفظ: "من شغله القرآن وذكرى عن مسألتي" الحديث أخرجه الترمذي وحسنه. وقوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه أو ابن منصور، ويزيد هو ابن هارون، وورقاء هو ابن عمر اليشكري، وسمي هو مولى أبي صالح. قوله: "تابعه عبيد الله بن عمر" هو العمري "عن سمي" يعني في إسناده، وفي أصل الحديث لا في العدد المذكور، وقد بينت هناك عند شرحه أن ورقاء خالف غيره في قوله عشرا وإن الكل قالوا "ثلاثا وثلاثين" وأن منهم من قال المجموع هذا القدر. قلت: قد ورد بالذكر العشر في حديث عبد الله بن عمرو وجماعة، وحديث عبيد الله بن عمر تقدم موصولا هناك، وأغرب الكرماني فقال لما جاء هناك بلفظ الدرجات فقيدها بالعلا وقيد أيضا زيادة في الأعمال من الصوم والحج والعمرة زاد في عدة الأذكار، يعني ولما خلت هذه الرواية من ذلك نقص العدد، ثم قال: على أن مفهوم العدد لا اعتبار به انتهى. وكلا الجوابين متعقب: أما الأول فمخرج الحديثين واحد وهو من رواية سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة، وإنما اختلف الرواة عنه في العدد المذكور في الزيادة والنقص، فإن أمكن الجمع وإلا فيؤخذ بالراجح. فإن استووا فالذي حفظ الزيادة مقدم. وأظن سبب الوهم أنه وقع في رواية ابن عجلان "يسبحون ويكبرون ويحمدون في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة" فحمله بعضهم على أن العدد المذكور مقسوم على الأذكار الثلاثة فروى الحديث بلفظ إحدى عشرة، وألغى بعضهم الكسر فقال عشر والله أعلم. وأما الثاني فمرتب على الأول، وهو لائق بما إذا اختلف مخارج الحديث أما إذا اتحد المخرج فهو من تصرف الرواة، فإذا أمكن الجمع وإلا فالترجيح.قوله: "ورواه ابن عجلان عن سمي ورجاء بن حيوة" وصله مسلم قال: "حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن عجلان" فذكره مقرونا برواية عبيد الله بن عمر كلاهما عن سمي عن أبي صالح به وفي آخره: "قال ابن عجلان: فحدثت به رجاء بن حيوة فحدثني بمثله عن أبي صالح عن أبي هريرة" ووصله الطبراني من طريق حيوة بن شريح عن محمد بن عجلان عن رجاء بن حيوة وسمي كلاهما عن أبي صالح به وفيه: "تسبحون الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدونه ثلاثا وثلاثين وتكبرونه أربعا وثلاثين" وقال في "الأوسط" لم يروه عن رجاء إلا ابن عجلان. قوله: "ورواه جرير" يعني ابن عبد الحميد "عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي الدرداء" وصله أبو يعلى في مسنده والإسماعيلي عنه عن أبي خيثمة عن جرير، ووصله النسائي من حديث جرير بهذا وفيه مثل ما في رواية ابن عجلان من تربيع التكبير،

(11/134)


وفي سماع أبي صالح من أبي الدرداء نظر، وقد بين النسائي الاختلاف فيه على عبد العزيز بن رفيع فأخرجه من رواية الثوري عنه عن أبي عمر الضبي عن أبي الدرداء، وكذا رواه شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي عمر لكن زاد أم الدرداء بين أبي الدرداء وبين أبي عمر أخرجه النسائي أيضا، ولم يوافق شريك على هذه الزيادة فقد أخرجه النسائي أيضا من رواية شعبة عن الحكم عن أبي عمر عن أبي الدرداء، ومن رواية زيد بن أبي أنيسة عن الحكم لكن قال: "عن عمر الضبي" فإن كان اسم أبي عمر عمر اتفقت الروايتان، لكن جزم الدار قطني بأنه لا يعرف اسمه فكأنه تحرف على الراوي والله أعلم. قوله: "ورواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة" وصله مسلم من رواية روح بن القاسم عن سهيل فساق الحديث بطوله لكن قال فيه: "تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، قال سهيل: إحدى عشرة وإحدى عشرة وإحدى عشرة فذلك كله ثلاث وثلاثون" وأخرجه النسائي من رواية الليث عن ابن عجلان عن سهيل بهذا السند بغير قصة، ولفظ آخر قال فيه: "من قال خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين تكبيرة وثلاثا وثلاثين تسبيحة وثلاثا وثلاثين تحميدة ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعني تمام المائة غفرت له خطاياه" أخرجه النسائي، وأخرجه أيضا من وجه آخر عن الليث عن ابن عجلان عن سهيل عن عطاء بن يزيد عن بعض الصحابة، ومن طريق زيد بن أبي أنيسة عن سهيل عن أبي عبيد عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة، وهذا اختلاف شديد على سهيل، والمعتمد في ذلك رواية سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة والله أعلم. ورواية أبي عبيد عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة أخرجها مالك في الموطأ لكن لم يرفعه، وأوردها مسلم من طريق خالد بن عبد الله وإسماعيل بن زكريا كلاهما عن سهيل عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك. قوله في حديث المغيرة "جرير" هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر. قوله: "في دبر كل صلاة" في رواية الحموي والمستملي: "في دبر صلاته". قوله: "وقال شعبة عن منصور قال سمعت المسيب" يعني ابن رافع بالسند المذكور وصله أحمد عن محمد ابن جعفر حدثنا شعبة به ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له" الحديث قال ابن بطال: في هذه الأحاديث الحض على الذكر في أدبار الصلوات" وأن ذلك يوازي إنفاق المال في طاعة الله لقوله: "تدركون به من سبقكم" وسئل الأوزاعي هل الذكر بعد الصلاة أفضل أم تلاوة القرآن؟ فقال: ليس شيء يعدل القرآن، ولكن كان هدى السلف الذكر. وفيها أن الذكر المذكور يلي الصلاة المكتوبة ولا يؤخر إلى أن يصلي الراتبة لما تقدم، والله أعلم.

(11/135)


باب قول الله تبارك وتعالى (وصل عليهم)
...
19- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} وَمَنْ خَصَّ أَخَاهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ نَفْسِهِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ
6331- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى سَلَمَةَ "حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَيَا عَامِرُ لَوْ أَسْمَعْتَنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ فَنَزَلَ يَحْدُو بِهِمْ يُذَكِّرُ "تَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا" وَذَكَرَ شِعْرًا غَيْرَ هَذَا وَلَكِنِّي لَمْ أَحْفَظْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا السَّائِقُ قَالُوا عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْلاَ مَتَّعْتَنَا

(11/135)


بِهِ فَلَمَّا صَافَّ الْقَوْمَ قَاتَلُوهُمْ فَأُصِيبَ عَامِرٌ بِقَائِمَةِ سَيْفِ نَفْسِهِ فَمَاتَ فَلَمَّا أَمْسَوْا أَوْقَدُوا نَارًا كَثِيرَةً
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذِهِ النَّارُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ قَالُوا عَلَى حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ فَقَالَ أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَكَسِّرُوهَا قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ أَوْ ذَاكَ"
6332- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ مُرَّةَ "سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلاَنٍ فَأَتَاهُ أَبِي فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى"
6333- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ "قَالَ سَمِعْتُ جَرِيرًا قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ وَهُوَ نُصُبٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ يُسَمَّى الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَصَكَّ فِي صَدْرِي فَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا قَالَ فَخَرَجْتُ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ أَحْمَسَ مِنْ قَوْمِي وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ فَانْطَلَقْتُ فِي عُصْبَةٍ مِنْ قَوْمِي فَأَتَيْتُهَا فَأَحْرَقْتُهَا ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا مِثْلَ الْجَمَلِ الأَجْرَبِ فَدَعَا لِأَحْمَسَ وَخَيْلِهَا"
6334- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ "قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَسٌ خَادِمُكَ قَالَ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ"
6335- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا فِي سُورَةِ كَذَا وَكَذَا"
6336- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ"
قوله: "باب قول الله تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} كذا للجمهور، ووقع في بعض النسخ زيادة: إن صلواتك سكن لهم، واتفقوا على أن المراد بالصلاة هنا الدعاء، وثالث أحاديث الباب يفسر ذلك، وتقدم في السورة قريبا من هذه الآية قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ

(11/136)


وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} وفسرت الصلوات هنا أيضا بالدعوات لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو لمن يتصدق.قوله: "ومن خص أخاه بالدعاء دون نفسه" في هذه الترجمة إشارة إلى رد ما جاء عن ابن عمر: أخرج ابن أبي شيبة والطبري من طريق سعيد بن يسار قال: ذكرت رجلا عند ابن عمر فترحمت عليه فلهز في صدري وقال لي: ابدأ بنفسك. وعن إبراهيم النخعي: كان يقال إذا دعوت فابدأ بنفسك، فإنك لا تدري في أي دعاء يستجاب لك. وأحاديث الباب ترد على ذلك، ويؤيدها ما أخرجه مسلم وأبو داود من طريق طلحة بن عبد الله ابن كريز عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رفعه: "ما من مسلم يدعو لأخيه ظهر الغيب إلا قال، الملك: ولك مثل ذلك" وأخرج الطبري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رفعه: "خمس دعوات مستجابات" وذكر فيها "ودعوة الأخ لأخيه" وأخرجه أيضا، هكذا استدل بهما ابن بطال، وفيه نظر لأن الدعاء لظهر الغيب ودعاء الأخ لأخيه أعم من أن يكون الداعي خصه أو ذكر نفسه معه، وأعم من أن يكون بدأ به أو بدأ بنفسه وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أبي بن كعب رفعه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه" وهو عند مسلم في أول قصة موسى والخضر ولفظه: "وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه" ويؤيد هذا القيد أنه صلى الله عليه وسلم دعا لغير نبي فلم يبدأ بنفسه كقوله في قصة هاجر الماضية في المناقب "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عينا معينا" وقد تقدم حديث أبي هريرة "اللهم أيده بروح القدس" يريد حسان بن ثابت وحديث ابن عباس "اللهم فقهه في الدين" وغير ذلك من الأمثلة، مع أن الذي جاء في حديث أبي لم يطرد فقد ثبت أنه دعا لبعض الأنبياء فلم يبدأ بنفسه كما مر في المناقب من حديث أبي هريرة "يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد" وقد أشار المصنف إلى الأول بسادس أحاديث الباب، وإلى الثاني بالذي بعده. وذكر المصنف فيه سبعة أحاديث: قوله: "وقال أبو موسى قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر، اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه" هذا طرف من حديث لأبي موسى تقدم بطوله موصولا في غزوة أوطاس من المغازي، وفيه قصة قتل أبي عامر وهو عم أبي موسى الأشعري، وفيه قول أبي موسى للنبي صلى الله عليه وسلم: "أن أبا عامر قال له: قل للنبي صلى الله عليه وسلم استغفر لي، قال فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر" وفيه: "فقلت: ولي فاستغفر، فقال: اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما" . قوله: "يحيى" هو ابن سعيد القطان. قوله: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فقال رجل من القوم" هو عمر بن الخطاب، وعامر هو ابن الأكوع عم سلمة راوي الحديث، وقد تقدم بيان ذلك كله في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وسبب قول عمر "لولا متعتنا به" وأن ذلك ورد مصرحا به في صحيح مسلم، وأما ابن عبد البر فأورده مورد الاستقراء فقال: "كانوا عرفوا أنه ما استرحم لإنسان قط في غزاة تخصه إلا استشهد، فلذا قال عمر لولا أمتعتنا بعامر" قوله: "وذكر شعرا غير هذا ولكني لم أحفظه" تقدم بيانه في المكان المذكور من طريق حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد، ويعرف منه أن القائل "وذكر شعرا" هو يحيى بن سعيد راويه، وأن الذاكر هو يزيد بن أبي عبيد. وقوله: "من هناتك" بفتح الهاء والنون جمع هنة، ويروى "هنيهاتك، وهنياتك" والمراد الأراجيز القصار، وتقدم شرح الحديث مستوفى هناك. قوله: "فلما أمسوا أوقدوا نارا كثيرة" الحديث في قصة الحمر الأهلية في رواية حاتم بن إسماعيل "فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم فيه" يعني خيبر وذكر الحديث بطوله

(11/137)


وقد تقدم شرحه. قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، وعمرو شيخ شعبة فيه هو ابن مرة، وابن أبي أوفى هو عبد الله.قوله: "صل على آل أبي أوفى" أي عليه نفسه وقيل عليه وعلى أتباعه، وسيأتي الكلام في الصلاة على غير الأنبياء بعد ثلاثة عشر بابا. قوله في حديث جرير وهو ابن عبد الله البجلي "وهو نصب" بضم النون وبصاد مهملة ثم موحدة هو الصنم، وقد تقدم بيان ذلك في تفسير سورة سأل، وقوله يسمى "الكعبة اليمانية" في رواية الكشميهني: "كعبة اليمانية" وهي لغة وقوله: "فخرجت في خمسين من قومي" في رواية الكشميهني: "فارسا" والقائل "وربما قال سفيان" هو علي بن عبد الله شيخ البخاري فيه، وسفيان هو ابن عيينة، وقد تقدم شرح هذا الحديث في أواخر المغازي. في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأنس أن يكثر ماله وولده، وسيأتي شرحه قريبا بعد ثمانية وعشرين بابا، وقد بين مسلم - في رواية سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس - أن ذلك كان في آخر دعائه لأنس ولفظه: "فقالت أمي يا رسول الله خويدمك ادع الله له، فدعا لي بكل خير، وكان في دعائه أن قال" فذكره. قال الداودي هذا يدل على بطلان الحديث الذي ورد "اللهم من آمن بي وصدق ما جئت به فأقلل له من المال والولد" الحديث قال: وكيف يصح ذلك وهو صلى الله عليه وسلم يخص على النكاح والتماس الولد. قلت: لا منافاة بينهما لاحتمال أن يكون ورد في حصول الأمرين معا، لكن يعكر عليه حديث الباب فيقال: كيف دعا لأنس وهو خادمه بما كرهه لغيره، ويحتمل أن يكون مع دعائه له بذلك قرنه بأن لا يناله من قبل ذلك ضرر، لأن المعنى في كراهية اجتماع كثرة المال والولد إنما هو لما يخشى من ذلك من الفتنة بهما، والفتنة لا يؤمن معها الهلكة. قوله: "عبدة" هو ابن سليمان. قوله: "رجلا يقرأ في المسجد" هو عباد بن بشر كما تقدم في الشهادات، وتقدم شرح المتن في فضائل القرآن. وقوله فيه: "لقد أذكرني كذا وكذا آية" قال الجمهور: يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينسى شيئا من القرآن بعد التبليغ لكنه لا يقر عليه، وكذا يجوز أن ينسى ما لا يتعلق بالإبلاغ، ويدل عليه قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} . قوله: "سليمان" هو ابن مهران الأعمش. قوله: "عن أبي وائل" هو شقيق بن سلمة وقد تقدم في الأدب من طريق حفص بن غياث عن الأعمش "سمعت شقيقا". قوله: "فقال رجل" هو معتب بمهملة ثم مثناة ثقيلة ثم موحدة، أو حرقوص كما تقدم بيانه في غزوة حنين هناك، والمراد منه هنا قوله: "يرحم الله موسى" فخصه بالدعاء فهو مطابق لأحد ركني الترجمة، وقوله: "وجه الله" أي الإخلاص له.

(11/138)


20 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ
6337- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلاَلٍ أَبُو حَبِيبٍ حَدَّثَنَا هَارُونُ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْخِرِّيتِ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ حَدِّثْ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلاَثَ مِرَارٍ وَلاَ تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ وَلاَ أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ فَتُمِلُّهُمْ وَلَكِنْ أَنْصِتْ فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ فَانْظُرْ السَّجْعَ مِنْ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ الِاجْتِنَابَ"

(11/138)


قوله: "باب ما يكره من السجع في الدعاء" السجع بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها عين مهملة هو موالاة الكلام على روي واحد، ومنه سجعت الحمامة إذا رددت صوتها، قاله ابن دريد. وقال الأزهري: هو الكلام المقفى من غير مراعاة وزن. قوله: "هارون المقرئ" هو ابن موسى النحوي. قوله: "حدثنا الزبير بن الخريت" بكسر المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة. قوله: "حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين" هذا إرشاد وقد بين حكمته. قوله: "ولا تمل الناس هذا القرآن" هو بضم أول تمل من الرباعي، والملل والسآمة بمعنى، وهذا القرآن منصوب على المفعولية، وقد تقدم في كتاب العلم حديث ابن مسعود "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة كراهة السامة علينا". قوله: "فلا ألفينك" بضم الهمزة وبالفاء أي لا أجدنك، والنون مثقلة للتأكيد، وهذا النهي بحسب الظاهر للمتكلم، وهو في الحقيقة للمخاطب وهو كقولهم لا أرينك هاهنا. وفيه كراهة التحديث عند من لا يقبل عليه؛ والنهي عن قطع حديث غيره، وأنه لا ينبغي نشر العلم عند من لا يحرص عليه ويحدث من يشتهي بسماعه لأنه أجدر أن ينتفع به. قوله: "فتملهم" يجوز في محله الرفع والنصب. قوله: "وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه" أي لا تقصد إليه ولا تشغل فكرك به لما فيه من التكلف المانع للخشوع المطلوب في الدعاء. وقال ابن التين: المراد بالنهي المستكره منه. وقال الداودي الاستكثار منه. قوله: "لا يفعلون إلا ذلك" أي ترك السجع. ووقع عند الإسماعيلي عن القاسم بن زكريا عن يحيى بن محمد شيخ البخاري بسنده فيه: "لا يفعلون ذلك" بإسقاط إلا، وهو واضح، وكذا أخرجه البزار في مسنده عن يحيى والطبراني عن البزار، ولا يرد على ذلك ما وقع في الأحاديث الصحيحة لأن ذلك كان يصدر من غير قصد إليه ولأجل هذا يجيء في غاية الانسجام كقوله صلى الله عليه وسلم في الجهاد "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب" وكقوله صلى الله عليه وسلم: "صدق وعده، وأعز جنده" الحديث وكقوله: "أعوذ بك من عين لا تدمع، ونفس لا تشبع، وقلب لا يخشع" وكلها صحيحة. قال الغزالي: المكروه من السجع هو المتكلف لأنه لا يلائم الضراعة والذلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازية لكنها غير متكلفة، قال الأزهري: وإنما كرهه صلى الله عليه وسلم لمشاكلته كلام الكهنة كما في قصة المرأة من هذيل. وقال أبو زيد وغيره: أصل السجع القصد المستوى، سواء كان في الكلام أم غيره.

(11/139)


باب ليعزم المسألة فإنه لامكره له
...
21 - باب لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ
6338- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ وَلاَ يَقُولَنَّ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي فَإِنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ"
[الحديث 6338- طرفه في: 7464]
6339- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لاَ مُستكْرِهَ لَهُ"
[الحديث 6339- طرفه في: 7477]

(11/139)


قوله: "باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له" المراد بالمسألة الدعاء، والضميران لله تعالى، أو الأول ضمير الشأن والثاني لله تعالى جزما.ومكره بضم أوله وكسر ثالثه. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو المعروف بابن علية، وعبد العزيز هو ابن صهيب، ونسب في رواية أبي زيد المروزي وغيره. قوله: "فليعزم المسألة" في رواية أحمد عن إسماعيل المذكور "الدعاء" ومعنى الأمر بالعزم الجد فيه، وأن يجزم بوقوع مطلوبه ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى، وإن كان مأمورا في جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة الله تعالى. وقيل: معنى العزم أن يحسن الظن بالله في الإجابة. قوله: "ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني" في حديث أبي هريرة المذكور بعده "اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت" وزاد في رواية همام عن أبي هريرة الآتية في التوحيد "اللهم ارزقني إن شئت" وهذه كلها أمثلة، ورواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم تتناول جميع ما يدعى به. ولمسلم من طريق عطاء بن ميناء عن أبي هريرة "ليعزم في الدعاء" وله من رواية العلاء "ليعزم وليعظم الرغبة" ومعنى قوله ليعظم الرغبة أي يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء والإلحاح فيه، ويحتمل أن يراد به الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير، ويؤيده ما في آخر هذه الرواية: "فإن الله لا يتعاظمه شيء" . قوله: "فإنه لا مستكره له" في حديث أبي هريرة "فإنه لا مكره له" وهما بمعنى، والمراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما الله سبحانه فهو منزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة. وقيل: المعنى أن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه، والأول أولى. وقد وقع في رواية عطاء بن ميناء "فإن الله صانع ما شاء" وفي رواية العلاء "فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه" قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له لأنه لا يفعل إلا ما شاءه، وظاهره أنه حمل النهي على التحريم، وهو الظاهر، وحمل النووي النهي في ذلك على كراهة التنزيه وهو أولى، ويؤيده ما سيأتي في حديث الاستخارة. قال ابن بطال: في الحديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة، ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما. وقد قال ابن عيينة: لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم في نفسه -يعني من التقصير- فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وقال الداودي: معنى قوله: "ليعزم المسألة" أن يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثنى، ولكن دعاء البائس الفقير. قلت: وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يكره وهو جيد.

(11/140)


22 - باب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَلْ
6340- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي"
قوله: "باب يستجاب للعبد" أي إذا دعا "ما لم يعجل" والتعبير بالعبد وقع في رواية أبي إدريس كما سأنبه عليه. قوله: "عن أبي عبيد" هو سعد بن عبيد. قوله: "مولى ابن أزهر" اسمه عبد الرحمن. قوله: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل" أي يجاب دعاؤه. وقد تقدم بيان ذلك في التفسير في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ} . قوله: "يقول دعوت فلم يستجب لي" في رواية غير أبي ذر "فيقول: "بزيادة فاء واللام منصوبة، قال ابن بطال: المعنى أنه يسأم

(11/140)


فيترك الدعاء فيكون كالمان بدعائه، أو أنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة فيصير كالمبخل للرب الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء. وقد وقع في رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة عند مسلم والترمذي "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل. قيل: وما الاستعجال؟ قال: يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء" ومعنى قوله يستحسر وهو بمهملات ينقطع. وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أنه يلازم الطلب ولا ييأس من الإجابة لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة، وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر رفعه: "من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة" الحديث أخرجه الترمذي بسند لين وصححه الحاكم فوهم، قال الداودي: يخشى على من خالف وقال قد دعوت فلم يستجب لي أن يحرم الإجابة وما قام مقامها من الادخار والتكفير انتهى. وقد قدمت في أول كتاب الدعاء الأحاديث الدالة على أن دعوة المؤمن لا ترد، وأنها إما أن تعجل له الإجابة، وإما أن تدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له في الآخرة خير مما سأل. فأشار الداودي إلى ذلك، وإلى ذلك أشار ابن الجوزي بقوله: أعلم أن دعاء المؤمن لا يرد، غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة أو يعوض بما هو أولى له عاجلا أو آجلا، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض. ومن جملة آداب الدعاء تحرى الأوقات الفاضلة كالسجود، وعند الأذان، ومنها تقديم الوضوء والصلاة، واستقبال القبلة، ورفع اليدين، وتقديم التوبة، والاعتراف بالذنب، والإخلاص، وافتتاحه بالحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسؤال بالأسماء الحسنى، وأدلة ذلك ذكرت في هذا الكتاب. وقال الكرماني ما ملخصه: الذي يتصور في الإجابة وعدمها أربع صور: الأولى عدم العجلة وعدم القول المذكور، الثانية وجودهما، الثالثة والرابعة عدم أحدهما ووجود الآخر، فدل الخير على أن الإجابة تختص بالصورة الأولى دون ثلاث، قال: ودل الحديث على أن مطلق قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} مقيد بما دل عليه الحديث. قلت: وقد أول الحديث المشار إليه قبل على أن المراد بالإجابة ما هو أعم من تحصيل المطلوب بعينه أو ما يقوم مقامه ويزيد عليه، والله أعلم.

(11/141)


23 - باب رَفْعِ الأَيْدِي فِي الدُّعَاءِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَقَالَ " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَشَرِيكٍ "سَمِعَا أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ"
قوله: "باب رفع الأيدي في الدعاء" أي على صفة خاصة، وسقط لفظ: "باب" لأبي ذر. قوله: "وقال أبو موسى" هو الأشعري "دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه" هذا طرف من حديثه الطويل في قصة قتل عمه أبي عامر الأشعري، وقد تقدم موصولا في المغازي في غزوة حنين، وأشرت إليه قبل بثلاثة أبواب في "باب قول الله تعالى وصل عليهم". قوله: "وقال ابن عمر رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: " اللهم إني أبرأ إليك مما"

(11/141)


صنع خالد" وهذا طرف من قصة غزوة بني جذيمة بجيم ومعجمة وزن عظيمة، وقد تقدم موصولا مع شرحه في المغازي بعد غزوة الفتح، وخالد المذكور هو ابن الوليد. قوله: "وقال الأويسي" هو عبد العزيز بن عبد الله، ومحمد بن جعفر أي ابن أبي كثير، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري. وهذا طرف أيضا من حديث أنس في الاستسقاء وقد تقدم هناك بهذا السند معلقا، ووصله أبو نعيم من رواية أبي زرعة الرازي قال حدثنا الأويسي به، وأورد البخاري قصة الاستسقاء مطولة من رواية شريك بن أبي نمر وحده عن أنس من طرق في بعضها "ورفع يديه" وليس في شيء منها "حتى رأيت بياض إبطيه" إلا هذا. وفي الحديث الأول رد من قال لا يرفع كذا إلا في الاستسقاء، بل فيه وفي الذي بعده رد على من قال لا يرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء أصلا، وتمسك بحديث أنس "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء" وهو صحيح، لكن جمع بينه وبين أحاديث الباب وما في معناها بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع وقد أشرت إلى ذلك في أبواب الاستسقاء، وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلا وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كل منهما "حتى يرى بياض إبطيه" بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره، وإما أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء، قال المنذري: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح. قلت: ولا سيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك، فإن فيه أحاديث كثيرة أفردها المنذري في جزء سرد منها النووي في "الأذكار" وفي "شرح المهذب" حملة. وعقد لها البخاري أيضا في "الأدب المفرد" بابا ذكر فيه حديث أبي هريرة "قدم الطفيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن دوسا عصت فادع الله عليها، فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: اللهم اهد دوسا" وهو في الصحيحين دون قوله: "ورفع يديه" وحديث جابر "أن الطفيل بن عمرو هاجر" فذكر قصة الرجل الذي هاجر معه وفيه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم وليديه فاغفر ورفع يديه" وسنده صحيح، وأخرجه مسلم. وحديث عائشة أنها "رأت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو رافعا يديه يقول: اللهم إنما أنا بشر" الحديث وهو صحيح الإسناد.ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك ما أخرجه المصنف في "جزء رفع اليدين": "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان" ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة في قصة الكسوف "فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رافع يديه يدعو" وعنده في حديث عائشة في الكسوف أيضا: "ثم رفع يديه يدعو" وفي حديثها عنده في دعائه لأهل البقيع "فرفع يديه ثلاث مرات" الحديث. ومن حديث أبي هريرة الطويل في فتح مكة "فرفع يديه وجعل يدعو" وفي الصحيحين من حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية "ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه يقول: اللهم هل بلغت" ومن حديث عبد الله بن عمرو "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قول إبراهيم وعيسى فرفع يديه وقال: اللهم أمتي" وفي حديث عمر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل، فأنزل الله عليه يوما، ثم سرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه ودعا" الحديث أخرجه الترمذي واللفظ له والنسائي والحاكم، وفي حديث أسامة "كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها، فتناوله بيده وهو رافع اليد الأخرى" أخرجه النسائي بسند جيد، وفي حديث قيس بن سعد عند أبي داود "ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول: اللهم صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة" الحديث وسنده جيد. والأحاديث في ذلك كثيرة: وأما ما أخرجه مسلم من حديث عمارة بن

(11/142)


رويبة براء وموحدة مصغر أنه "رأى بشر بن مروان يرفع يديه، فأنكر ذلك وقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يزيد على هذا يشير بالسبابة" فقد حكى الطبري عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره وقال: السنة أن الداعي يشير بإصبع واحدة، ورده بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة، وهو ظاهر في سياق الحديث فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها، وقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وغيرهما من حديث سلمان رفعه: "إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا" بكسر المهملة وسكون الفاء أي خالية وسنده جيد، قال الطبري: وكره رفع اليدين في الدعاء ابن عمر وجبير بن مطعم، ورأى شريح رجلا يرفع يديه داعيا فقال: من تتناول بهما لا أم لك؟ وساق الطبري ذلك بأسانيده عنهم. وذكر ابن التين عن عبد الله بن عمر بن غانم أنه نقل عن مالك أن رفع اليدين في الدعاء ليس من أمر الفقهاء، قال: وقال في "المدونة" ويختص الرفع بالاستسقاء ويجعل بطونهما إلى الأرض. وأما ما نقله الطبري عن ابن عمر فإنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين وقال: ليجعلهما حذو صدره، كذلك أسنده الطبري عنه أيضا. وعن ابن عباس أن هذه صفة الدعاء. وأخرج أبو داود والحاكم عنه من وجه آخر قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعا. وأخرج الطبري من وجه آخر عنه قال: يرفع يديه حتى يجاوز بهما رأسه. وقد صح عن ابن عمر خلاف ما تقدم أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق القاسم بن محمد "رأيت ابن عمر يدعو عند القاص يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه باطنهما مما يليه وظاهرهما مما يلي وجهه".

(11/143)


24 - باب الدُّعَاءِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ
6342- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا فَتَغَيَّمَتْ السَّمَاءُ وَمُطِرْنَا حَتَّى مَا كَادَ الرَّجُلُ يَصِلُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَلَمْ تَزَلْ تُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا فَقَدْ غَرِقْنَا فَقَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَقَطَّعُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَلاَ يُمْطِرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ"
قوله: "باب الدعاء غير مستقبل القبلة" ذكر فيه حديث قتادة عن أنس "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقام رجل فقال: يا رسول الله ادع الله أن يسقينا" الحديث. وفيه: "فقام ذلك الرجل أو غيره فقال: ادع الله أن يصرف عنا فقد غرقنا، فقال: اللهم حوالينا ولا علينا" الحديث، وقد تقدم شرحه في الاستسقاء، وفي بعض طرقه في الأول "فقال: اللهم اسقنا" ووجه أخذه من الترجمة من جهة أن الخطيب من شأنه أن يستدبر القبلة، وأنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا في المرتين استدار، وقد تقدم في الاستسقاء من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس في هذه القصة في آخره: "ولم يذكر أنه حول رداءه، ولا استقبل القبلة".

(11/143)


25 - باب الدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
6343- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي فَدَعَا وَاسْتَسْقَى ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ"
قوله: "باب الدعاء مستقبل القبلة" ذكر فيه حديث عبد الله بن زيد قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقى فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه". قال الإسماعيلي هذا الحديث مطابق للترجمة التي قبل هذا، يريد أنه قدم الدعاء قبل الاستسقاء، ثم قال: لكن لعل البخاري أراد أنه لما تحول وقلب رداءه دعا حينئذ أيضا، قلت: وهو كذلك، فأشار كعادته إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، وقد مضى في الاستسقاء من هذا الوجه بلفظ: "وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه" وترجم له "استقبال القبلة في الدعاء" والجمع بينه وبين حديث أنس أن القصة التي في حديث أنس كانت في خطبة الجمعة بالمسجد، والقصة التي في حديث عبد الله بن زيد كانت بالمصلى، وقد سقطت هذه الترجمة من رواية أبي زيد المروزي فصار حديثها من جملة الباب الذي قبله، ويسقط بذلك اعتراض الإسماعيلي من أصله. وقد ورد في استقبال القبلة في الدعاء من فعل النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث: منها حديث عمر عند الترمذي وقد قدمته في "باب رفع اليدين في الدعاء" ولمسلم والترمذي من حديث ابن عباس عن عمر "لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه" الحديث، وفي حديث ابن مسعود "استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فدعا على نفر من قريش" الحديث متفق عليه، وفي حديث عبد الرحمن بن طارق عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جاز مكانا من دار يعلى استقبل القبلة فدعا" أخرجه أبو داود والنسائي واللفظ له، وفي حديث ابن مسعود "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبر عبد الله ذي النجادين" الحديث وفيه: "فلما فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعا يديه" أخرجه أبو عوانة في صحيحه.

(11/144)


26 - باب دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ وَبِكَثْرَةِ مَالِهِ
6344- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَتْ أُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ خَادِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللَّهَ لَهُ قَالَ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ"
قوله: "باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر وبكثرة ماله" ذكر فيه حديث أنس "قالت أمي يا رسول الله خادمك أدع الله له، قال: اللهم أكثر ماله وولده"
حديث أنس "قالت أمي يا رسول الله خادمك أدع الله له، قال: اللهم أكثر ماله وولده" الحديث. وقد مضى قريبا، وذكره في عدة أبواب. وليس في شيء منها ذكر العمر، فقال بعض الشراح: مطابقة الحديث للترجمة أن الدعاء بكثرة الولد يستلزم حصول طول العمر، وتعقب بأنه لا ملازمة بينهما إلا بنوع من المجاز بأن يراد أن كثرة الولد في العادة تستدعي بقاء ذكر الولد ما بقي أولاده، فكأنه حي. والأولى في الجواب أنه أشار كعادته إلى ما ورد في بعض طرقه، فأخرج في

(11/144)


"الأدب المفرد" من وجه آخر عن أنس قال: "قالت أم سليم - وهي أم أنس - خويدمك ألا تدعو له؟ فقال: اللهم أكثر ماله وولده وأطل حياته واغفر له" فأما كثرة ولد أنس وماله فوقع عند مسلم في آخر هذا الحديث من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس "قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم"، وتقدم في حديث: "الطاعون شهادة لكل مسلم" في كتاب الطب قول أنس" أخبرتني ابنتي أمينة أنه دفن من صلبي إلى يوم مقدم الحجاج البصرة مائة وعشرون "وقال النووي في ترجمته: كان أكثر الصحابة أولادا. وقد قال ابن قتيبة في "المعارف": كان بالبصرة ثلاثة ما ماتوا حتى رأى كل واحد منهم من ولده مائة ذكر لصلبه: أبو بكرة وأنس وخليفة بن بدر، وزاد غيره رابعا وهو المهلب بن أبي صفرة. وأخرج الترمذي عن أبي العالية في ذكر أنس: وكان له بستان يأتي في كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك، ورجاله ثقات. وأما طول عمر أنس فقد ثبت في الصحيح أنه كان في الهجرة ابن تسع سنين وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل وقيل سنة ثلاث وله مائة وثلاث سنين قاله خليفة وهو المعتمد، وأكثر ما قيل في سنه أنه بلغ مائة وسبع سنين، وأقل ما قيل فيه تسعا وتسعين سنة.

(11/145)


27 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْكَرْبِ
6345- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ"
[الحديث 6345- أطرافه في 6346، 7421، 7431]
6346- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَقَالَ وَهْبٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ"
قوله: "باب الدعاء عند الكرب" بفتح الكاف وسكون الراء بعدها موحدة، هو ما يدهم المرء مما يأخذ بنفسه فيغمه ويحزنه. قوله: "هشام" وفي الطريق الثانية "هشام بن أبي عبد الله" وهو الدستوائي، وأبو العالية هو الرياحي بتحتانية ثم مهملة واسمه رفيع، وقد رواه قتادة عنه بالعنعنة وهو مدلس، وقد ذكر أبو داود في السنن في كتاب الطهارة عقب حديث أبي خالد الدالاني عن قتادة عن أبي العالية قال شعبة: إنما سمع قتادة من أبي العالية أربعة أحاديث: حديث يونس بن متى، وحديث ابن عمر في الصلاة، وحديث القضاة ثلاثة. وحديث ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون، وروى ابن أبي حاتم في "المراسيل" بسنده عن يحيى القطان عن شعبة قال: لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أحاديث فذكرها بنحوه ولم يذكر حديث ابن عمر، وكأن البخاري لم يعتبر

(11/145)


بهذا الحصر لأن شعبة ما كان يحدث عن أحد من المدلسين إلا بما يكون ذلك المدلس قد سمعه من شيخه، وقد حدث شعبة بهذا الحديث عن قتادة، وهذا هو السر في إيراده له معلقا في آخر الترجمة من رواية شعبة. وأخرج مسلم الحديث من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن أبا العالية حدثه، وهذا صريح في سماعه له منه. وأخرج البخاري أيضا من رواية قتادة عن أبي العالية غير هذا، وهو حديث رؤية موسى وغيره ليلة أسرى به. وأخرج مسلم أيضا. وقوله في هذا المعلق "وقال وهب" كذا للأكثر، وللمستملي وحده "وهيب" بالتصغير.وقال أبو ذر: الصواب الأول. قلت: ووقع في رواية أبي زيد المروزي "وهب بن جرير" أي ابن حازم فأزال الإشكال، ويؤيده أن البخاري أخرج الحديث المذكور في التوحيد من طريق وهيب بالتصغير وهو ابن خالد فقال: سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. فظهر أنه عند وهيب بالتصغير عن سعيد بالمهملة والدال، وعند وهب بسكون الهاء عن شعبة بالمعجمة والموحدة. قوله: "كان يدعو عند الكرب" أي عند حلول الكرب، وعند مسلم من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة "كان يدعو بهن ويقولهن عند الكرب" وله من رواية يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أبي الحارث عن أبي العالية "كان إذا حزبه أمر" وهو بفتح المهملة والزاي وبالموحدة أي هجم عليه أو غلبه، وفي حديث على عند النسائي وصححه الحاكم "لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات وأمرني إن نزل بي كرب أو شدة أن أقولها". قوله: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم" ووقع في الرواية التي بعدها بلفظ: "ورب الأرض ورب العرش الكريم" وقال في أوله "رب العرش الكريم" بدل "العظيم الحليم" ووقع جميع ما تضمنته هاتان الروايتان في رواية وهيب بن خالد التي أشرت إليها، لكن قال: "العليم الحليم" باللام بدل الظاء المعجمة، وكذا هو لمسلم من طريق معاذ بن هشام وقال: "العظيم" بدل "العليم". قوله: "رب العرش العظيم" نقل ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع العظيم، وكذا برفع الكريم في قوله: "رب العرش الكريم" على أنهما نعتان للرب، والذي ثبت في رواية الجمهور بالجر على أنه نعت للعرش، وكذا قرأ الجمهور في قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} و {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} بالرفع، وقرأ ابن محيصن بالجر فيهما، وجاء ذلك أيضا عن ابن كثير وعن أبي جعفر المدني، وأعرب بوجهين أحدهما ما تقدم والثاني أن يكون مع الرفع نعتا للعرش على أنه خبر لمبتدأ محذوف قطع عما قبله للمدح، ورجح لحصول توافق القراءتين، ورجح أبو بكر الأصم الأول لأن وصف الرب بالعظيم أولى من وصف العرش، وفيه نطر لأن وصف ما يضاف للعظيم بالعظيم أقوى في تعظيم العظيم، فقد نعت الهدهد عرش بلقيس بأنه عرش عظيم ولم ينكر عليه سليمان، قال العلماء: الحليم الذي يؤخر العقوبة مع القدرة، والعظيم الذي لا شيء يعظم عليه، والكريم المعطى فضلا، وسيأتي لذلك مزيد في شرح الأسماء الحسنى قريبا. وقال الطيبي: صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب، لأنه مقتضى التربية، وفيه التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية، والعظمة التي تدل على تمام القدرة، والحلم الذي يدل على العلم، إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية. ووقع في حديث على الذي أشرت إليه "لا إله إلا الله الكريم العظيم، سبحان الله تبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين" وفي لفظ: "الحليم الكريم" في الأول وفي لفظ: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم، لا

(11/146)


إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم" وفي لفظ: "لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحانه تبارك وتعالى رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين" أخرجها كلها النسائي. قال الطبري: معنى قول ابن عباس "يدعو" وإنما هو تهليل وتعظيم يحتمل أمرين: أحدهما أن المراد تقديم ذلك قبيل الدعاء كما ورد من طريق يوسف ابن عبد الله بن الحارث المذكورة وفي آخره: "ثم يدعو". قلت: وكذا هو عند أبي عوانة في مستخرجه من هذا الوجه، وعند عبد بن حميد من هذا الوجه "كان إذا حزبه أمر قال" فذكر الذكر المأثور وزاد: "ثم دعا" وفي "الأدب المفرد" من طريق عبد الله بن الحارث "سمعت ابن عباس" فذكره وزاد في آخره: "اللهم اصرف عني شره" قال الطبري: ويؤيد هذا ما روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب؛ وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء. كان على الرجاء. ثانيهما ما أجاب به ابن عيينة فيما حدثنا حسين بن حسن المروزي قال: "سألت ابن عيينة عن الحديث الذي فيه أكثر ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له" الحديث فقال سفيان: هو ذكر، وليس فيه دعاء، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عن ربه عز وجل. من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين" قال وقال أمية ابن أبي الصلت في مدح عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضك الثناء
قال سفيان: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال فكيف بالخالق؟ قلت: ويؤيد الاحتمال الثاني حديث سعد بن أبي وقاص رفعه: "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله تعالى له" أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم، وفي لفظ للحام "فقال رجل: أكانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ألا تسمع إلى قول الله تعالى: {كَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} . وقال ابن بطال: حدثني أبو بكر الرازي قال كنت بأصبهان عند أبي نعيم أكتب الحديث، وهناك شيخ يقال له أبو بكر بن علي عليه مدار الفتيا فسعى به عند السلطان فسجن، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر، فقال لي صلى الله عليه وسلم: قل لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه. قال فأصبحت فأخبرته فدعا به فلم يكن إلا قليلا حتى أخرج انتهى. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب "الفرج بعد الشدة" له من طريق عبد الملك بن عمير قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عثمان بن حيان أنظر الحسن بن الحسن فاجلده مائة جلدة وأوقفه للناس، قال فبعث إليه فجيء به فقام إليه علي بن الحسين فقال: يا ابن عم تكلم بكلمات الفرج يفرج الله عنك، فذكر حديث علي باللفظ الثاني، فقالها، فرفع إليه عثمان رأسه فقال: أرى وجه رجل كذب عليه، خلوا سبيله، فسأكتب إلى أمير المؤمنين بعذره فأطلق. وأخرج النسائي والطبري من طريق الحسن بن الحسن بن علي قال: لما زوج عبد الله بن جعفر ابنته قال لها إن نزل بك أمر فاستقبليه بأن تقولي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين. قال الحسن: فأرسل إلي الحجاج فقلتهن فقال: والله لقد أرسلت إليك وأنا أريد أن أقتلك، فلأنت اليوم أحب إلي من كذا وكذا. وزاد في لفظ: فسل حاجتك. ومما ورد من

(11/147)


28 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ
6347- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي سُمَيٌّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ" قَالَ سُفْيَانُ الْحَدِيثُ ثَلاَثٌ زِدْتُ أَنَا وَاحِدَةً لاَ أَدْرِي أَيَّتُهُنَّ هِيَ.
[الحديث 6347- طرفه في 6616]
قوله: "باب التعوذ من جهد البلاء" الجهد بفتح الجيم وبضمها المشقة، وتقدم ما فيه في حديث بدء الوحي أول الكتاب، والبلاء بالفتح مع المد ويجوز الكسر مع القصر. قوله: "سمي" بالمهملة مصغر هو مولى أبي بكر بن عبد الرحمن المخزومي. قوله: "كان يتعوذ" كذا للأكثر، ورواه مسدد عن سفيان بسنده هذا بلفظ الأمر "تعوذوا" وسيأتي في كتاب القدر، وكذا وقع في رواية الحسن بن علي الواسطي عن سفيان عند الإسماعيلي وأبي نعيم. قوله: "ودرك الشقاء" بفتح الدال والراء المهملتين ويجوز سكون الراء وهو الإدراك واللحاق، والشقاء بمعجمة ثم قاف هو الهلاك، ويطلق على السبب المؤدي إلى الهلاك. قوله: "قال سفيان" هو ابن عيينة راوي الحديث المذكور، وهو موصول بالسند المذكور. قوله: "الحديث ثلاث، زدت أنا واحدة لا أدري أيتهن" أي الحديث المرفوع المروي يشتمل على ثلاث جمل من الجمل الأربع؛ والرابعة زادها سفيان من قبل نفسه ثم خفي عليه تعيينها، ووقع عند الحميدي في مسنده عن سفيان "الحديث ثلاث من هذه الأربع" وأخرجه أبو عوانة والإسماعيلي وأبو نعيم من طريق الحميدي ولم يفصل ذلك بعض الرواة عن سفيان، وفي ذلك تعقب على الكرماني حيث اعتذر عن سفيان في جواب من استشكل جواز زيادته الجملة المذكورة في الحديث مع أنه لا يجوز الإدراج في الحديث فقال: يجاب عنه بأنه كان يميزها إذا حدث، كذا قال وفيه نظر، فسيأتي في القدر عن مسدد وأخرجه مسلم عن أبي خيثمة وعمرو الناقد والنسائي عن قتيبة والإسماعيلي من رواية العباس بن الوليد وأبو عوانة من رواية عبد الجبار بن العلاء وأبو نعيم من طريق سفيان بن وكيع كلهم عن سفيان بالخصال الأربعة بغير تمييز، إلا أن مسلما قال عن عمرو الناقد: قال سفيان أشك أني زدت واحدة منها. وأخرجه الجوزقي من طريق عبد الله بن هاشم عن سفيان فاقتصر على ثلاثة ثم قال: قال سفيان وشماتة الأعداء. وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان، وبين أن الخصلة المزيدة هي شماتة الأعداء، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق شجاع بن مخلد عن سفيان مقتصرا على الثلاثة دونها، وعرف من ذلك تعيين الخصلة المزيدة، ويجاب عن النظر بأن سفيان كان إذا حدث ميزها ثم طال الأمر فطرقه السهو عن تعيينها فحفظ بعض من سمع تعيينها منه قبل أن يطرقه السهو؛ ثم كان بعد أن خفي عليه

(11/148)


تعيينها يذكر كونها مزيدة مع إبهامها، ثم بعد ذلك إما أن يحمل الحال حيث لم يقع تمييزها لا تعيينا ولا إبهاما أن يكون ذهل عن ذلك أو عين أو ميز فذهل عنه بعض من سمع، ويترجح كون الخصلة المذكورة هي المزيدة بأنها تدخل في عموم كل واحدة من الثلاثة ثم كل واحدة من الثلاثة مستقلة، فإن كل أمر يكره يلاحظ فيه جهة المبدأ وهو سوء القضاء وجهة المعاد وهو درك الشقاء لأن شقاء الآخرة هو الشقاء الحقيقي وجهة المعاش وهو جهد البلاء وأما شماتة الأعداء فتقع لكل من وقع له كل من الخصال الثلاثة. وقال ابن بطال وغيره: جهد البلاء كل ما أصاب المرء من شدة مشقة وما لا طاقة له بحمله ولا يقدر على دفعه. وقيل المراد بجهد البلاء قلة المال وكثرة العيال كذا جاء عن ابن عمر. والحق أن ذلك فرد من أفراد جهد البلاء. وقيل هو ما يختار الموت عليه، قال: ودرك الشقاء يكون في أمور الدنيا وفي أمور الآخرة، وكذلك سوء القضاء عام في النفس والمال والأهل والولد والخاتمة والمعاد، قال: والمراد بالقضاء هنا المقضي، لأن حكم الله كله حسن لا سوء فيه. وقال غيره: القضاء الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل، قال ابن بطال: وشماتة الأعداء ما ينكأ القلب ويبلغ من النفس أشد مبلغ، وإنما تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تعليما لأمته، فإن الله تعالى كان آمنه من جميع ذلك، وبذلك جزم عياض. قلت: ولا يتعين ذلك، بل يحتمل أن يكون استعاذ بربه من وقوع ذلك بأمته، ويؤيده رواية مسدد المذكورة بصيغة الأمر كما قدمته. وقال النووي: شماتة الأعداء فرحهم ببلية تنزل بالمعادي، قال: وفي الحديث دلالة لاستحباب الاستعاذة من الأشياء المذكورة، وأجمع على ذلك العلماء في جميع الأعصار والأمصار، وشذت طائفة من الزهاد. قلت: وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل كتاب الدعوات. وفي الحديث أن الكلام المسجوع لا يكره إذا صدر عن غير قصد إليه ولا تكلف، قاله ابن الجوزي، قال: وفيه مشروعية الاستعاذة، ولا يعارض ذلك كون ما سبق في القدر لا يرد لاحتمال أن يكون مما قضى، فقد يقضي على المرء مثلا بالبلاء ويقضي أنه إن دعا كشف، فالقضاء محتمل للدافع والمدفوع، وفائدة الاستعاذة والدعاء إظهار العبد فاقته لربه وتضرعه إليه، وقد تقدم ذلك مبسوطا في أوائل كتاب الدعوات.

  29 - باب دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى
6348- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ " أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ لَنْ يُقْبَضَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى قُلْتُ إِذًا لاَ يَخْتَارُنَا وَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ قَالَتْ فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى"
قوله: "باب" كذا للأكثر بغير ترجمة، ذكر فيه حديث عائشة في الوفاة النبوية، وفيه قوله صلى الله عليه  وسلم: "الرفيق الأعلى" وقد تقدم شرحه في أواخر المغازي، وتعلقه بما قبله من جهة أن فيه إشارة إلى حديث عائشة أنه كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، وقضية سياقها هنا أنه لم يتعوذ في مرض موته بذلك، بل تقدم في الوفاة النبوية من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة "فذهبت أعوده فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى". قوله: "أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم أن عائشة رضي الله عنها قالت" لم أقف على تعيين أحد منهم صريحا، وقد روى أصل الحديث المذكور عن عائشة ابن أبي مليكة وذكوان مولى عائشة وأبو سلمة بن عبد الرحمن والقاسم بن محمد، فيمكن أن يكون الزهري عناهم أو بعضهم. 

 30 - باب الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ
6349- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ" أَتَيْتُ خَبَّابًا وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعًا قَالَ لَوْلاَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ"
6350- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ قَالَ "أَتَيْتُ خَبَّابًا وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعًا فِي بَطْنِهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لَوْلاَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ"
6351- حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ "عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي"
قوله: "باب الدعاء بالموت والحياة" في رواية أبي زيد المروزي وبالحياة وهو أوضح. حديث خباب، ويحيى في سنده هو ابن سعيد القطان، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وإنما أعاده عن محمد بن المثنى بعد أن أورده عن مسدد وكلاهما يرويه عن يحيى القطان لما في رواية محمد بن المثنى من الزيادة وهي قوله: "في بطنه فسمعته يقول" وباقي سياقهما سواء، ووقعت الزيادة المذكورة عند الكشميهني وحده في رواية مسدد وهي غلط، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي في كتاب عيادة المرضى. حديث أنس "لا يتمنين أحدكم الموت" في رواية الكشميهني: "أحد منكم" وقد تقدم شرحه أيضا ه

=======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............