السبت، 7 مايو 2022

كتاب :34. و35 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 34 و35.

   كتاب :34. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)=

101 - باب إِرْدَافِ الرَّجُلِ خَلْفَ الرَّجُلِ
5967- حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل فقال: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك قال: هل تدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق  الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك فقال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق العباد على الله أن لا يعذبهم" .
قوله: "باب إرداف الرجل خلف الرجل" ذكر فيه حديث معاذ بن جبل وقد تقدم في الجهاد، وأحيل بشرحه على هذا المكان واللائق به كتاب الرقاق فقد ذكره فيه بهذا السند والمتن تاما فليشرح هناك، والمقصود منه هنا من الإرداف واضح. ووقع في شرح ابن بطال "باب" بلا ترجمة. وقال: كان ينبغي له أن يورده مع حديث أسامة في "باب الارتداف" وقد عرف جوابه، وقوله: "كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم: "الردف والرديف الراكب خلف الراكب بإذنه، وردف كل شيء هو مؤخره، وأصله من الركوب على الردف وهو العجز، ولهذا قيل للراكب الأصلي ركب صدر الدابة، وردفت الرجل إذا ركبت وراءه وأردفته إذا أركبته وراءك. وقد أفرد ابن منده أسماء من أردفه النبي صلى الله عليه وسلم خلفه فبلغوا ثلاثين نفسا.

3 - باب إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ خَلْفَ الرَّجُلِ
5968- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ وَإِنِّي لَرَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ يَسِيرُ وَبَعْضُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَثَرَتْ النَّاقَةُ فَقُلْتُ الْمَرْأَةَ فَنَزَلْتُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا أُمُّكُمْ" فَشَدَدْتُ الرَّحْلَ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا دَنَا أَوْ رَأَى الْمَدِينَةَ قَالَ: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ" .
قوله: "باب إرداف المرأة خلف الرجل ذا محرم" كذا للأكثر، والنصب على الحال ولبعضهم ذي محرم على الصفة. واقتصر النسفي على "خلف الرجل" فلم يذكر ما بعده. قوله: "أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وإني لرديف أبي طلحة وهو يسير وبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عثرت الناقة فقلت المرأة فنزلت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها أمكم، فشددت الرحل" كذا في هذه الرواية وظاهره أن الذي قال ذلك وفعله هو أنس، وقد تقدم في أواخر الجهاد من وجه آخر عن يحيي بن أبي إسحاق وفيه أن الذي فعل ذلك أبو طلحة وأن الذي قال: "المرأة" رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظه أنه "أقبل هو وأبو طلحة ومع النبي صلى الله عليه وسلم صفية يردفها على راحلته، فلما كان ببعض الطريق عثرت الدابة فصرع النبي صلى الله عليه وسلم والمرأة، وأن أبا طلحة أحسبه قال اقتحم عن بعيره فقال: " يا نبي الله هل أصابك من شيء؟ قال: لا، ولكن عليك المرأة" . فألقى أبو طلحة ثوبه على وجهه فقصد قصدها فألقى ثوبه عليها، فقامت المرأة فشد لهما على راحلتهما فركبا" الحديث. وفي أخرى عن يحيى بن أبي إسحاق أيضا: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وقد أردف صفية بنت حيي، فعثرت ناقته" فساقه نحوه. فيستفاد من هاتين الطريقتين تسمية المرأة، وأن الذي تولى شد الرحل وغير ذلك مما ذكر هو أبو طلحة لا أنس، والاختلاف فيه على يحيى بن  أبي إسحاق رواية عن أنس، فقال شعبة عنه ما في هذا الباب. وقال عبد الوارث وبشر بن المفضل كلاهما عنه ما أشرت إليه في الجهاد، وهو المعتمد فإن القصة واحدة ومخرج الحديث واحد واتفاق اثنين أولى من انفراد واحد، ولا سيما أن أنسا كان إذا ذاك يصغر عن تعاطي ذلك الأمر، وإن كان لا يمتنع أن يساعد عمه أبا طلحة على شيء من ذلك، والله أعلم. فقد يرتفع الإشكال بهذا. وفي الحديث أنه لا بأس للرجل أن يتدارك المرأة الأجنبية إذا سقطت أو كادت تسقط فيعينها على التخلص مما يخشى عليها.

(10/399)


103 - باب الإسْتِلْقَاءِ وَوَضْعِ الرِّجْلِ عَلَى الأُخْرَى
5969- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ "أَنَّهُ أَبْصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْطَجِعُ فِي الْمَسْجِدِ رَافِعاً إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى".
قوله: "باب الاستلقاء ووضع الرجل على الأخرى" وجه دخول هذه الترجمة في كتاب اللباس من جهة أن الذي يفعل ذلك لا يأمن من الانكشاف، ولا سيما الاستلقاء يستدعي النوم، والنائم لا يتحفظ، فكأنه أشار إلى أن من فعل ذلك ينبغي له أن يتحفظ لئلا ينكشف. حديث عباد بن تميم عن عمه وهو عبد الله بن زيد، وفيه ثبوت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وزاد عند الإسماعيلي في روايته في آخر الحديث: "وإن أبا بكر كان يفعل ذلك وعمر وعثمان" وكأنه لم يثبت عنده النهي عن ذلك، وهو فيما أخرجه مسلم من حديث جابر رفعه: " لا يستلقين أحدكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى " أو ثبت لكنه رآه منسوخا، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى.
" خاتمة ": اشتمل كتاب اللباس من الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث واثنين وعشرين حديثا، المعلق منها وما أشبهه ستة وأربعون حديثا، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى مائة واثنان وثمانون حديثا، والخالص أربعون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة " ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار" وحديث الزبير في لبس الحرير، وحديث أم سلمة في شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أنس "كان لا يرد الطيب"، وحديث أبي هريرة في لعن الواصلة، وحديثه "لا تشمن"، وحديث عائشة في نقض الصور، وحديث ابن عمر في وعد جبريل ومنه "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" وقد أخرجه مسلم من حديث عائشة، وحديث: "صاحب الدابة أحق بصدرها " على أنه لم يصرح برفعه وهو مرفوع على ما بينته. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم تسعة عشر أثرا والله أعلم.

(10/399)


كتاب الأدب
باب البر والصلة، وقول الله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا}
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 - كِتَاب الأَدَبِ
1 – باب البرِّ والصِّلةِ، وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً}
5970- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَيْزَارٍ أَخْبَرَنِي قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي".
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الأدب". حذف بعضهم لفظ البر والصلة وبعضهم البسملة، واقتصر النسفي على قوله كتاب البر والصلة الخ. ووقع في أول "الأدب المفرد للبخاري" باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} وكتاب الأدب المفرد يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح وفيه قليل من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة(1). والأدب استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك. وقيل: إنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي بذلك لأنه يدعى إليه. قوله: "باب البر والصلة، وقول الله سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} كذا للأكثر، وحذف بعضهم لفظ البر والصلة وبعضهم البسملة، واقتصر النسفي على قوله كتاب البر والصلة الخ. ووقع في أول "الأدب المفرد للبخاري" باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} وكتاب الأدب المفرد يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح وفيه قليل من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة. والأدب استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك. وقيل: إنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام، سمي بذلك لأنه يدعى إليه؛ وهذه الآية وقعت بهذا اللفظ في العنكبوت وفي الأحقاف لكن المراد هنا التي في العنكبوت. وقال ابن بطال: ذكر أهل التفسير أن هذه الآية التي في لقمان نزلت في سند بن أبي وقاص، كذا قال إنها التي في لقمان وليس كذلك، وقد أخرج مسلم من طريق مصعب بن سعد عن أبيه قال حلفت أم سعد لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه. قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، فأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، فنزلت: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} . وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا" كذا وقع عنده، وفيه انتقال من آية إلى آية، فإن في آية العنكبوت {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا - إلى – مَرْجِعُكُمْ} والمذكور عنده بعد قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى} الخ إنما هو في لقمان. وقد وقع عند الترمذي إلى قوله: {حُسْناً} الآية، فقط، ومثله عند أحمد لكن لم يقل "الآية"، ووقع في أخرى لأحمد {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ - وقرأ حتى بلغ - ِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وهذا القدر الأخير إنما هو في آية العنكبوت وأوله من آية لقمان، ويظهر لي أن الآيتين مما كانتا في الأصل ثابتتين فسقط بعضهما على بعض الرواة، والله أعلم. واسم أم سعد بن أبي وقاص حمنة - بفتح المهملة وسكون الميم بعدها نون - بنت سفيان بن أمية، وهي ابنة عم أبي سفيان بن حرب بن أمية، ولم أر في شيء من
ـــــــ
(1) وقد نشرته المطبعة السلفية بعناية وتخريج. ونشرت شرحا له مفيدا في مجلدين.

(10/400)


الأخبار أنها أسلمت. واقتضت الآية الوصية بالوالدين والأمر بطاعتهما ولو كانا كافرين، إلا إذا أمرا بالشرك فتجب معصيتهما في ذلك، ففيها بيان ما أجمل في غيرها، وكذا في حديث الباب، من الأمر ببرهما. قوله: "قال الوليد بن عيزار أخبرني" هو من تقديم اسم الراوي على الصيغة وهو جائز، وكان شعبة يستعمله كثيرا، ووقع لبعضهم "العيزار" بزيادة ألف ولام في أوله، وكذا تقدم في أوائل الصلاة مع كثير من فوائد الحديث ولله الحمد. وقال ابن التين: تقديم البر على الجهاد يحتمل وجهين: أحدهما: التعدية إلى نفع الغير، والثاني: أن الذي يفعله يرى أنه مكافأة على فعلهما، فكأنه يرى أن غيره أفضل منه، فنبهه على إثبات الفضيلة فيه. قلت: والأول ليس بواضح، ويحتمل أنه قدم لتوقف الجهاد عليه، إذ من بر الوالدين استئذانهما في الجهاد لثبوت النهي عن الجهاد بغير إذنهما كما يأتي قريبا.

(10/401)


2 - باب مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ
5971- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ" .
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ... مِثْلَهُ.
قوله: "باب من أحق الناس بحسن الصحبة" الصحبة والصحابة مصدران بمعنى، وهو المصاحبة أيضا. قوله: "حدثنا جرير" هو ابن عبد الحميد. قوله: "عمارة بن القعقاع بن شبرمة" بضم المعجمة والراء بينهما موحدة كذا للأكثر ووقع عند النسفي وكذا لأبي ذر عن الحموي والمستملي: "عن عمارة بن القعقاع وابن شبرمة" بزيادة واو والصواب حذفها فإن رواية ابن شبرمة قد علقها المصنف عقب رواية عمارة وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق زهير بن حرب عن جرير عن عمارة حسب. قوله: "جاء رجل" يحتمل أنه معاوية بن حيدة بفتح المهملة وسكون التحتانية، وهو جد بهز بن حكيم، فقد أخرج المصنف في "الأدب المفرد" من حديثه "قال قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك" الحديث. وأخرجه أبو داود والترمذي. قوله: "فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟" في رواية محمد بن فضيل عن عمارة عند مسلم: "بحسن الصحبة" وعنده في رواية شريك عن عمارة وابن شبرمة جميعا عن أبي زرعة قال مثل رواية جرير، وزاد: "فقال نعم وأبيك لتنبأن" وقد أخرجه ابن ماجه من هذا الوجه مطولا وزاد فيه حديث: "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح" وأخرجه أحمد من طريق شريك فقال في أوله: "يا رسول الله نبئني بأحق الناس مني صحبة" ووجدته في النسخة بلفظ: "فقال نعم والله" بدل "وأبيك" فلعلها تصحفت، وقوله: "وأبيك" لم يقصد به القسم وإنما هي كلمة تجري لإرادة تثبيت الكلام، ويحتمل أن يكون ذلك وقع قبل النهي عن الحلف بالآباء. قوله: "قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك" كذا للجميع بالرفع ووقع عند مسلم من هذا الوجه وعند المصنف في "الأدب المفرد" من وجه آخر بالنصب، وفي آخر "ثم أباك" والأول ظاهر ويخرج الثاني على

(10/401)


إضمار فعل. ووقع صريحا عند المصنف في "الأدب المفرد" كما سأنبه عليه، وهكذا وقع تكرار الأم ثلاثا وذكر الأب في الرابعة، وصرح بذلك في الرواية يحيى بن أيوب ولفظه: "ثم عاد الرابعة فقال: بر أباك" وكذا وقع في رواية بهز بن حكيم وزاد في آخره ثم "الأقرب فالأقرب" وله شاهد من حديث خداش أبي سلامة رفعه: "أوصي امرءا بأمه، أوصى امرءا بأمه، أوصي امرءا بأمه، أوصي امرءا بأبيه، أوصي امرءا بمولاه الذي يليه، وإن كان عليه فيه أذى يؤذيه" أخرجه ابن ماجه والحاكم، قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فسوى بينهما في الوصاية، وخص الأم بالأمور الثلاثة. قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة. وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك والصواب الأول. قلت: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحا في ذلك فقد ذكره ابن بطال قال: سئل مالك طلبني أبي فمنعتني أمي، قال: أطع أباك ولا تعص أمك قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برهما سواء، كذا قال وليست الدلالة على ذلك بواضحة، قال: وسئل الليث يعني عن المسألة بعينها فقال: أطع أمك فإن لها ثلثي البر، وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر ذكر الأم فيه إلا مرتين. وقد وقع كذلك في رواية محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عند مسلم في الباب، ووقع كذلك في حديث المقدام بن معدي كرب فيما أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" وأحمد وابن ماجه وصححه الحاكم ولفظه: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب" وكذا وقع في حديث بهز بن حكيم كما تقدم، وكذا في آخر رواية محمد بن فضيل المذكورة عند مسلم بلفظ: "ثم أدناك فأدناك" وفي حديث أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة "انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: أمك وأباك، ثم أختك وأخاك، ثم أدناك أدناك" أخرجه الحاكم هكذا، وأصله عند أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وابن حبان، والمراد بالدنو القرب إلى البار. قال عياض: تردد بعض العلماء في الجد والأخ، والأكثر على تقديم الجد. قلت: وبه جزم الشافعية، قالوا: يقدم الجد ثم الأخ، ثم يقدم من أدلى بأبوين على من أدلى بواحد، ثم تقدم القرابة من ذوي الرحم، ويقدم منهم المحارم على من ليس بمحرم، ثم سائر العصبات، ثم المصاهرة ثم الولاء، ثم الجار. وسيأتي الكلام على حكمه بعد. وأشار ابن بطال إلى أن الترتيب حيث لا يمكن إيصال البر دفعة واحدة وهو واضح، وجاء ما يدل على تقديم الأم في البر مطلقا، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث عائشة "سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها. قلت: فعلى الرجل؟ قال: أمه" ومؤيد تقديم الأم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي " كذا أخرجه الحاكم وأبو داود. فتوصلت لاختصاصها به وباختصاصه بها في الأمور الثلاثة. قوله: "وقال ابن شبرمة ويحيى بن أيوب حدثنا أبو زرعة مثله" أما ابن شبرمة فهو عبد الله الفقيه المشهور

(10/402)


الكوفي، وهو ابن عم عمارة بن القعقاع المذكور قبل، وطريقه هذه وصلها المؤلف في "الأدب المفرد" قال: "حدثنا سليمان بن حرب حدثنا وهيب بن خالد عن ابن شبرمة سمعت أبا زرعة" فذكر بلفظ: "قيل: يا رسول الله من أبر" والباقي مثل رواية جرير سواء لكن على سياق مسلم، وأما يحيى بن أيوب فهو حفيد أبي زرعة بن عمرو بن جرير شيخه في هذا الحديث ولهذا يقال له الجريري، وطريقه هذه وصلها المؤلف أيضا في "الأدب المفرد" وأحمد كلاهما من طريق عبد الله هو ابن المبارك "أنبأنا يحيى بن أيوب حدثنا أبو زرعة" فذكره بلفظ: "أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تأمرني؟ فقال: بر أمك ثم عاد" الحديث وكذا هو في "كتاب البر والصلة لابن المبارك" ونقل المحاسبي الإجماع على أن الأم مقدمة في البر على الأب.

(10/403)


3 - باب لاَ يُجَاهِدُ إِلاَّ بِإِذْنِ الأَبَوَيْنِ
5972- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ قَالاَ حَدَّثَنَا حَبِيبٌ قَالَ ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُجَاهِدُ. قَالَ: لَكَ أَبَوَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ" .
قوله: "باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين" ذكر فيه حديث عبد الله بن عمرو وقد تقدم شرحه في كتاب الجهاد. حبيب المذكور في السند هو حبيب بن أبي ثابت، وسفيان في الطريقين هو الثوري، وترجم له هناك في الجهاد بإذن الأبوين، ووقع عند أحمد من حديث أبي سعيد "هاجر رجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل باليمن أبواك؟ قال: نعم قال: أذنا لك؟ قال: لا قال: ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك وإلا فبرهما" وقوله: "ففيهما فجاهد" أي إن كان لك أبوان فابلغ جهدك في برهما والإحسان إليهما، فإن ذلك يقوم لك مقام قتال العدو.

(10/403)


4 - باب لاَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ
5973- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فيسب أمّه" .
قوله: "باب لا يسب الرجل والديه" أي ولا أحدهما، أي لا يتسبب إلى ذلك. قوله: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" سيأتي بعد باب عد العقوق في أكبر الكبائر، والمذكور هنا فرد من أفراد العقوق، وإن كان التسبب إلى لعن الوالد من أكبر الكبائر فالتصريح بلعنه أشد، وترجم بلفظ السب وساقه بلفظ اللعن إشارة إلى ما وقع في بقية الحديث، وقد وقع أيضا في بعض طرقه وهو في "الأدب المفرد" من طريق عروة بن عياض سمع عبد الله بن عمرو يقول: "من الكبائر عند الله أن يسب الرجل والده" وقد أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" من طريق سفيان الثوري ومسلم من طريق يزيد بن الهاد كلاهما عن سعد بن إبراهيم بلفظ: "من الكبائر شتم الرجل" وفي رواية المصنف "أن يشتم الرجل والديه". قوله: "قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟" هو استبعاد من السائل، لأن الطبع المستقيم يأبى ذلك، فبين في الجواب أنه وإن لم يتعاط السب بنفسه في الأغلب

(10/403)


5 - باب إِجَابَةِ دُعَاءِ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ
5974- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا فَقَالَ أَحَدُهُمْ اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالْحِلاَبِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفَرَجَ اللَّهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ وَقَالَ الثَّانِي اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَلَقِيتُهَا بِهَا فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفْتَحْ الْخَاتَمَ فَقُمْتُ عَنْهَا اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً وَقَالَ الْآخَرُ اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيراً بِفَرَقِ أَرُزٍّ فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ أَعْطِنِي حَقِّي فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَراً وَرَاعِيَهَا فَجَاءَنِي فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي فَقُلْتُ اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَهْزَأْ بِي فَقُلْتُ إِنِّي لاَ أَهْزَأُ بِكَ فَخُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرَاعِيَهَا فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ" .

(10/404)


قوله: "باب إجابة دعاء من بر والديه" ذكر فيه قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم فم الغار حتى ذكروا أعمالهم الصالحة ففرج عنهم، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإجارة. وقوله في هذه الرواية: "على فم غارهم" في رواية الكشميهني: "باب" بدل "فم" وقوله: "فأطبقت" تقدم توجيهه في أواخر أحاديث الأنبياء. ووقع هنا في رواية الكشميهني: "فتطابقت". وقوله: "نأى" أي بعد، والشجر بمعجمة وجيم للأكثر وفي رواية الكشميهني بالمهملتين، والأول أولى فإن في الخبر أنه رجع بعد أن ناما ينتظر استيقاظهما إلى الصباح حتى انتبها من قبل أنفسهما، وإنما قال: "بعد بي الشجر" أي لطلب المرعى. وقوله: "فرجة يرون منها السماء" في رواية: "حتى رأوا" ووقع هنا للحموي: وقص الحديث بطوله، وساقه الباقون. وقوله: يحب الرجال النساء، في رواية الكشميهني: "الرجل" بالإفراد. وقوله: "تلك البقر" في رواية الكشميهني: "ذلك البقر" في الموضعين، والإشارة فيه إلى الجنس.

(10/405)


6 - باب عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ. قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5975- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْمُسَيَّبِ عَنْ وَرَّادٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ وَمَنْعاً وَهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ
5976- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لاَ يَسْكُتُ" .
5977- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَبَائِرَ أَوْ سُئِلَ عَنْ الْكَبَائِرِ فَقَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالَ قَوْلُ الزُّورِ أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ قَالَ شُعْبَةُ وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ" .
قوله: "باب" بالتنوين. قوله: "عقوق الوالدين من الكبائر، قاله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم" كذا في رواية أبي ذر "عمر" بضم العين، وللأصيلي عمرو بفتحها، وكذا هو في بعض النسخ عن أبي ذر وهو المحفوظ، وسيأتي في كتاب الأيمان والنذور موصولا من رواية الشعبي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس" ولابن عمر حديث في العاق أخرجه النسائي والبزار وصححه ابن حبان والحاكم بلفظ: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان" وأخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أيضا نحو حديث ابن عمر هذا لكن

(10/405)


قال: "الديوث" بدل "المنان" والديوث بمهملة ثم تحتانية وآخره مثلثة بوزن فروج وقع تفسيره في نفس الخبر أنه الذي يقر الخبث في أهله، والعقوق بضم العين المهملة مشتق من العق وهو القطع، والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد، وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلا وتركا واستحبابها في المندوبات، وفروض الكفاية كذلك، ومنه تقديمهما عبد تعارض الأمرين وهو كمن دعته أمه ليمرضها مثلا بحيث يفوت عليه فعل واجب إن استمر عندها ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها وغير ذلك لو تركها وفعله وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة كالصلاة أول الوقت أو في الجماعة. حديث المغيرة بن شعبة. قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر، والمسيب هو ابن رافع، ووراد هو كاتب المغيرة بن شعبة، والسند كله كوفيون. ووقع التصريح بسماع منصور له من المسيب في الدعوات، وقد تقدم في الاستقراض من رواية عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور كالذي هنا، وذكر المزي في "الأطراف" أن في رواية منصور عن المسيب عند البخاري ذكر عقوق الأمهات فقط، وليس كما قال بل هو بتمامه في الموضعين، لكنه في الأصل طرف من حديث مطول سيأتي في القدر من طريق عبد الملك بن عمير. وفي الرقاق من طريق الشعبي كلاهما عن وراد أن معاوية كتب إلى المغيرة أن اكتب إلي بحديث سمعته، فذكر الحديث في التهليل عقب الصلوات، قال: وكان ينهى، فذكر ما هنا، وسيأتي في الدعوات أوله فقط من رواية قتيبة عن جرير دون ما في آخره. والحاصل أنه فرقه من حديث جرير عن منصور في موضعين، ويحتمل أنه كان عند شيخه هكذا، وتقدم في الزكاة من طريق أخرى عن الشعبي مقتصرا على الذي هنا أيضا. قوله: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات" تقدم في الاستقراض الإشارة إلى حكمة اختصاص الأم بالذكر، وهو من تخصيص الشيء بالذكر إظهارا لعظم موقعه. والأمهات جمع أمهة وهي لمن يعقل، بخلاف لفظ الأم فإنه أعم. قوله: "ومنعا وهات" وقع في رواية غير أبي ذر وفي الاستقراض "ومنع" بغير تنوين، وهي في الموضعين بسكون النون مصدر منع يمنع، وسيأتي ما يتعلق به في الكلام على "قيل وقال" وأما هات فبكسر المثناة فعل أمر من الإيتاء قال الخليل: أصل هات آت فقلبت الألف هاء. والحاصل من النهي منع ما أمر بإعطائه وطلب ما لا يستحق أخذه، ويحتمل أن يكون النهي عن السؤال مطلقا كما سيأتي بسط القول فيه قريبا، ويكون ذكره هنا مع ضده ثم أعيد تأكيدا للنهي عنه، ثم هو محتمل أن يدخل في النهي ما يكون خطابا لاثنين كما ينهى الطالب عن طلب ما لا يستحقه وينهى المطلوب منه عن إعطاء ما لا يستحقه الطالب لئلا يعينه على الإثم. قوله: "ووأد البنات" بسكون الهمزة هو دفن البنات بالحياة، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهة فيهن، ويقال إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي، وكان بعض أعدائه أغار عليه فأسر بنته فاتخذها لنفسه ثم حصل بينهم صلح فخير ابنته فاختارت زوجها. فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب في ذلك، وكان من العرب فريق ثان يقتلون أولادهم مطلقا، إما نفاسة منه على ما ينقصه من ماله، وإما من عدم ما ينفقه عليه، وقد ذكر الله أمرهم في القرآن في عدة آيات، وكان صعصعة بن ناجية التميمي أيضا وهو جد الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة أول من فدى الموءودة، وذلك أنه كان يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك فيفدي الولد منه بمال يتفقان عليه، وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله:

(10/406)


وجدي الذي منع الوائدا ... ت وأحيا الوئيد فلم يوأد
وهذا محمول على الفريق الثاني، وقد بقي كل من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام ولهما صحبة، وإنما خص البنات بالذكر لأنه كان الغالب من فعلهم، لأن الذكور مظنة القدرة على الاكتساب. وكانوا في صفة الوأد على طريقين: أحدهما أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تطلق بجانب حفيرة، فإذا وضعت ذكرا أبقته وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة، وهذا أليق بالفريق الأول. ومنهم من كان إذا صارت البنت سداسية قال لأمها: طيبيها وزينيها لأزور بها أقاربها، ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر فيقول لها انظري فيها ويدفعها من خلفها ويطمها، وهذا اللائق بالفريق الثاني، والله أعلم. قوله: " وكره لكم قيل وقال " في رواية الشعبي "وكان ينهى عن قيل وقال" كذا للأكثر في جميع المواضع بغير تنوين، ووقع في رواية الكشميهني هنا "قيلا وقالا" والأول أشهر، وفيه تعقب على من زعم أنه جائز ولم تقع به الرواية، قال الجوهري: قيل وقال اسمان، يقال كثير القيل والقال، كذا جزم بأنهما اسمان، وأشار إلى الدليل على ذلك بدخول الألف واللام عليهما. وقال ابن دقيق العيد: لو كانا اسمين بمعنى واحد كالقول لم يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة، فأشار إلى ترجيح الأول. وقال المحب الطبري في قيل وقال ثلاثة أوجه: أحدها: أنهما مصدران للقول، تقول قلت قولا وقيلا وقالا والمراد في الأحاديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام لأنها تؤول إلى الخطأ، قال: وإنما كرره للمبالغة في الزجر عنه، ثانيها: إرادة حكاية أقاويل الناس والبحث عنها ليخبر عنها فيقول: قال فلان كذا وقيل كذا، والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه، وإما لشيء مخصوص منه وهو ما يكرهه المحكي عنه. ثالثها: أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين كقوله: قال فلان كذا وقال فلان كذا، ومحل كراهة ذلك أن يكثر من ذلك بحيث لا يؤمن مع الإكثار من الزلل، وهو مخصوص بمن ينقل ذلك من غير تثبت، ولكن يقلد من سمعه ولا يحتاط له. قلت: ويؤيد ذلك الحديث الصحيح "كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع" أخرجه مسلم، وفي "شرح المشكاة" قوله: قيل وقال من قولهم قيل كذا وقال كذا، وبناؤهما على كونهما فعلين محكيين متضمنين للضمير والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خلوهن من الضمير، ومنه قوله: "إنما الدنيا قيل وقال" وإدخال حرف التعريف عليهما في قوله: ما يعرف القال القيل لذلك. قوله: "وكثرة السؤال " تقدم في كتاب الزكاة بيان الاختلاف في المراد منه وهل هو سؤال المال، أو السؤال عن المشكلات والمعضلات، أو أعم من ذلك؟ وأن الأولى حمله على العموم. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان، أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله، فإن ذلك مما يكره المسئول غالبا. وقد ثبت النهي عن الأغلوطات أخرجه أبو داود من حديث معاوية. وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر جدا، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ وأما ما تقدم في اللعان فكره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وكذا في التفسير في قوله تعالى: { لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فذلك خاص بزمان نزول الوحي، ويشير إليه حديث: "أعظم الناس جرما عند الله من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" وثبت أيضا ذم السؤال للمال ومدح من لا يحلف فيه كقوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وتقدم في الزكاة حديث: "لا تزال المسألة بالعبد حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم" وفي صحيح مسلم: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي

(10/407)


فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو جائحة" وفي السنن قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله" وفي سنن أبي داود "إن كنت لا بد سائلا فاسأل الصالحين" وقد اختلف العلماء في ذلك، والمعروف عند الشافعية أنه جائز لأنه طلب مباح فأشبه العارية، وحملوا الأحاديث الواردة على من سأل من الزكاة الواجبة ممن ليس من أهلها، لكن قال النووي في "شرح مسلم": اتفق العلماء على النهي عن السؤال من غير ضرورة. قال: واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين أصحهما التحريم لظاهر الأحاديث. والثاني: يجوز مع الكراهة بشروط ثلاثة: أن لا يلح ولا يذل نفسه زيادة على ذل نفس السؤال، ولا يؤذي المسئول. فإن فقد شرط من ذلك حرم. وقال الفكهاني: يتعجب ممن قال بكراهة السؤال مطلقا مع وجود السؤال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ثم السلف الصالح من غير نكير، فالشارع لا يقر على مكروه. قلت: لعل من كره مطلقا أراد أنه خلاف الأولى، ولا يلزم من وقوعه أن تتغير صفته ولا من تقريره أيضا، وينبغي حمل حال أولئك على السداد؛ وأن السائل منهم غالبا ما كان يسأل إلا عند الحاجة الشديدة. وفي قوله: "من غير نكير" نظر ففي الأحاديث الكثيرة الواردة في ذم السؤال كفاية في إنكار ذلك.
" تنبيه ": جميع ما تقدم فيما سأل لنفسه، وأما إذا سأل لغيره فالذي يظهر أيضا أنه يختلف باختلاف الأحوال.
قوله: "وإضاعة المال" تقدم في الاستقراض أن الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعا سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه، لأن الله تعالى جعل المال قياما لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح، إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقا أخرويا أهم منه. والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه: الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعا فلا شك في منعه، والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعا فلا شك في كونه مطلوبا بالشرط المذكور، والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذ النفس، فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف. والثاني: ما لا يليق به عرفا، وهو ينقسم أيضا إلى قسمين: أحدهما: ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف قال: لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له. قال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال اهـ. وقد صرح بالمنع القاضي حسين فقال في كتاب قسم الصدقات: هو حرام، وتبعه الغزالي، وجزم به الرافعي في الكلام على المغارم، وصحح في باب الحجر من الشرح وفي المحرر أنه ليس بتبذير، وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموما لذاته، لكنه يفضي غالبا إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس، وما أدى إلى المحذور فهو محذور. وقد تقدم في كتاب الزكاة البحث في جواز التصدق بجميع المال وأن ذلك يجوز لمن عرف من نفسه الصبر على المضايقة، وجزم الباجي من المالكية بمنع استيعاب جميع المال بالصدقة قال: ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا، ولا بأس به إذا وقع نادرا لحادث يحدث كضيف أو عيد أو وليمة. ومما لا خلاف في كراهته مجاوزة الحد في الإنفاق على البناء زيادة على قدر الحاجة، ولا سيما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة ومنه احتمال الغبن الفاحش في البياعات بغير سبب. وأما إضاعة المال في المعصية فلا يختص بارتكاب الفواحش، بل يدخل فيها سوء القيام على الرقيق والبهائم حتى يهلكوا، ودفع مال من لم يؤنس منه الرشد إليه، وقسمه مالا

(10/408)


ينتفع بجزئه كالجوهرة النفيسة. وقال السبكي الكبير في "الحلبيات": الضابط في إضاعة المال أن لا يكون لغرض ديني ولا دنيوي، فإن انتفيا حرم قطعا، وإن وجد أحدهما وجودا له بال وكان الإنفاق لائقا بالحال ولا معصية فيه جاز قطعا. وبين الرتبتين وسائط كثيرة لا تدخل تحت ضابط. فعلى المفتي أن يرى فيما تيسر منها رأيه، وأما ما لا يتيسر فقد تعرض له؛ فالإنفاق في المعصية حرام كله، ولا نظر إلى ما يحصل في مطلوبه من قضاء شهوة ولذة حسنة. وأما إنفاقه في الملاذ المباحة فهو موضع الاختلاف، فظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} أن الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف. ثم قال: ومن بذل مالا كثيرا في غرض يسير تافه عده العقلاء مضيعا، بخلاف عكسه، والله أعلم. قال الطيبي: هذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق، وهو تتبع جميع الأخلاق الحميدة والخلال الجميلة. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن شاهين الواسطي، وخالد هو ابن عبد الله الطحان، والجريري بضم الجيم هو سعيد بن إياس، وهو ممن اختلط ولم أر من صرح بأن سماع خالد منه قبل الاختلاط ولا بعده، لكن تقدم في الشهادات من طريق بشر بن المفضل ويأتي في استتابة المرتدين من رواية إسماعيل بن علية كلاهما عن الجريري، وإسماعيل ممن سمع من الجريري قبل اختلاطه، وبين في الشهادات تصريح الجريري في رواية إسماعيل عنه بتحديث عبد الرحمن بن أبي بكرة له به. قوله: "ألا أنبئكم" في رواية بشر بن المفضل عن الجريري في الاستئذان " ألا أخبركم". قوله: "بأكبر الكبائر ثلاثا" أي قالها ثلاث مرات على عادته في تكرير الشيء ثلاث مرات تأكيدا لينبه السامع على إحضار قلبه وفهمه للخبر الذي يذكره وفهم بعضهم منه أن المراد بقوله: "ثلاثا" عدد الكبائر وهو بعيد، ويؤيد الأول أن أول رواية إسماعيل بن علية في استتابة المرتدين "أكبر الكبائر الإشراك، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور ثلاثا" وقد اختلف السلف فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر، ومنها صغائر، وشذت طائفة منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني فقال: ليس في الذنوب صغيرة بل كل ما نهى الله عنه كبيرة، ونقل ذلك عن ابن عباس، وحكاه القاضي عياض عن المحققين، واحتجوا بأن كل مخالفة لله فهي بالنسبة إلى جلاله كبيرة اهـ. ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية فقال: انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال القبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا وكلها كبائر، قالوا: ولا ذنب عندنا يغفر واجبا باجتناب ذنب آخر بل كل ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . وأجابوا عن الآية التي احتج أهل القول الأول بها وهي قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} أن المراد الشرك. وقد قال الفراء: من قرأ: {كَبَائِرَ} فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} ولم يرسل إليهم غير نوح، قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة اهـ. قال النووي: قد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة إلى القول الأول. وقال الغزالي في "البسيط" إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه. قلت: قد حقق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة واختاره وبين أنه لا يخالف ما قاله الجمهور. فقال في "الإرشاد": المرضي عندنا أن كل ذنب يعصى الله به كبيرة، فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران ولو كان في حق الملك لكان كبيرة، والرب أعظم من عصي، فكل ذنب

(10/409)


بالإضافة إلى مخالفته عظيم، ولكن الذنوب وإن عظمت فهي متفاوتة في رتبها. وظن بعض الناس أن الخلاف لفظي فقال: التحقيق أن للكبيرة اعتبارين: فبالنسبة إلى مقايسة بعضها لبعض فهي تختلف قطعا، وبالنسبة إلى الآمر الناهي فكلها كبائر اهـ. والتحقيق أن الخلاف معنوي، وإنما جرى إليه الأخذ بظاهر الآية، والحديث الدال على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر كما تقدم، والله أعلم. وقال القرطبي: ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله عز وجل عنه كبيرة لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فجعل في المنهيات صغائر وكبائر، وفرق بينهما في الحكم إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطا باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن؟ قلت: ويؤيده ما سيأتي عن ابن عباس في تفسير اللمم، لكن النقل المذكور عنه أخرجه إسماعيل القاضي والطبري بسند صحيح على شرط الشيخين إلى ابن عباس فالأولى أن يكون المراد بقوله: "نهى الله عنه" محمولا على نهي خاص وهو الذي قرن به وعيد كما قيد في الرواية الأخرى عن ابن عباس فيحمل مطلقه على مقيده جمعا بين كلاميه. وقال الطيبي: الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان، فلا بد من أمر يضافان إليه وهو أحد ثلاثة أشياء: الطاعة أو المعصية أو الثواب. فأما الطاعة فكل ما تكفره الصلاة مثلا هو من الصغائر، وكل ما يكفره الإسلام أو الهجرة فهو من الكبائر. وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا أو عقابا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة وأما الثواب ففاعل المعصية إذا كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة، فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية اهـ. وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب يخصص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها. لكن يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلا ليس كبيرة، كأنه وإن ورد الوعيد فيه أو العقاب لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل ولده أشد، فالصواب ما قاله الجمهور وأن المثال المذكور وما أشبهه ينقسم إلى كبيرة وأكبر، والله أعلم. قال النووي: واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا، فروي عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، قال: وجاء نحو هذا عن الحسن البصري. وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار في الآخرة أو أوجب فيه حدا في الدنيا. قلت: وممن نص على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى، ومن الشافعية الماوردي ولفظه: الكبيرة ما وجبت فيه الحدود، أو توجه إليها الوعيد. والمنقول عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به، إلا أن فيه انقطاعا. وأخرج من وجه آخر متصل لا بأس برجاله أيضا عن ابن عباس قال: كل ما توعد الله عليه بالنار كبيرة.
وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخرى، منها قول إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكثراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة. وقول الحليمي: كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه. وقال الرافعي: هي ما أوجب الحد. وقيل: ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة. هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر اهـ كلامه. وقد استشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص بكونه كبيرة لا حد فيه كالعقوق، وأجاب بعض الأئمة بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة. وقال ابن: عبد السلام في "القواعد": لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من

(10/410)


الاعتراض، والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها. قلت: وهو ضابط جيد. وقال القرطبي في "المفهم": الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة، وكلام ابن الصلاح يوافق ما نقل أولا عن ابن عباس، وزاد إيجاب الحد، وعلى هذا يكثر عدد الكبائر. فأما ما ورد النص الصريح بكونه كبيرة فسيأتي القول فيه في الكلام على حديث أبي هريرة " اجتنبوا السبع الموبقات" في كتاب استتابة المرتدين، ونذكر هناك ما ورد في الأحاديث زيادة على السبع المذكورات مما نص على كونها كبيرة أو موبقة. وقد ذهب آخرون إلى أن الذنوب التي لم ينص على كونها كبيرة مع كونها كبيرة لا ضابط لها، فقال الواحدي: ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة، كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم، والله أعلم.
" فصل " قوله: "أكبر الكبائر" ليس على ظاهره من الحصر بل "من" فيه مقدرة، فقد ثبت في أشياء أخر أنها من أكبر الكبائر، منها حديث أنس في قتل النفس وسيأتي بيانه في الذي بعده، وحديث ابن مسعود "أي الذنب أعظم" فذكر فيه الزنا بحليلة الجار وسيأتي بعد أبواب، وحديث عبد الله بن أنيس الجهني مرفوعا قال: "من أكبر الكبائر - فذكر منها - اليمين الغموس" أخرجه الترمذي بسند حسن، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد، وحديث أبي هريرة رفعه: "إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم " أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن، وحديث بريدة رفعه: "من أكبر الكبائر - فذكر منها - منع فضل الماء ومنع الفحل" أخرجه البزار بسند ضعيف، وحديث ابن عمر رفعه: "أكبر الكبائر سوء الظن بالله" أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف، ويقرب منه حديث أبي هريرة مرفوعا: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي" الحديث وقد تقدم قريبا في كتاب اللباس، وحديث عائشة "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" أخرجه الشيخان، وتقدم قريبا حديث عبد الله بن عمرو "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل أباه" ولكنه من جملة العقوق، قال ابن دقيق العيد: يستفاد من قوله: "أكبر الكبائر" انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويستنبط منه أن في الذنوب صغائر، لكن فيه نظر، لأن من قال كل ذنب كبيرة فالكبائر والذنوب عنده متواردان على شيء واحد، فكأنه قيل: ألا أنبئكم بأكبر الذنوب؟ قال ولا يلزم من كون الذي ذكر أنه أكبر الكبائر استواؤها فإن الشرك بالله أعظم من جميع ما ذكر معه. قوله: "الإشراك بالله" قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يراد به مطلق الكفر، ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، لا سيما في بلاد العرب، فذكر تنبيها على غيره من أصناف الكفر. ويحتمل أن يراد به خصوصه إلا أنه يرد على هذا الاحتمال أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم من الشرك وهو التعطيل فيترجح الاحتمال الأول على هذا. قوله: "وعقوق الوالدين" تقدم الكلام عليه قريبا، وذكر قبله في حديث أنس الآتي بعده قتل النفس والمراد قتلها بغير حق. قوله: "وكان متكئا فجلس" في رواية بشر بن المفضل عن الجريري في الشهادات "وجلس وكان متكئا" وأما في الاستئذان فكالأول. قوله: " فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت" هكذا في هذه الطريق، ووقع في رواية بشر بن المفضل " فقال ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت" أي تمنيناه يسكت إشفاقا عليه لما رأوا من انزعاجه في ذلك. وقال ابن دقيق العيد: اهتمامه صلى الله عليه وسلم بشهادة الزور يحتمل أن يكون لأنها أسهل وقوعا على الناس، والتهاون

(10/411)


بها أكثر، ومفسدتها أيسر وقوعا، لأن الشرك ينبو عنه المسلم، والعقوق ينبو عنه الطبع، وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة فحسن الاهتمام بها، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها. قال: وأما عطف الشهادة على القول فينبغي أن يكون تأكيدا للشهادة لأنا لو حملناه على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة وليس كذلك، وإذا كان بعض الكذب منصوصا على عظمه كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} . وفي الجملة فمراتب الكذب متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده، قال: وقد نص الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة، والغيبة تختلف بحسب القول المغتاب به، فالغيبة بالقذف كبيرة ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة أو الهيئة مثلا، والله أعلم. وقال غيره: يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام، لأن كل شهادة زور قول زور بغير عكس، ويحتمل قول الزور على نوع خاص منه. قلت: والأولى ما قاله الشيخ، ويؤيده وقوع الشك في ذلك في حديث أنس الذي بعده، فدل على أن المراد شيء واحد. وقال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررا منها ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله. وزعم بعضهم أن المراد بشهادة الزور في هذا الحديث الكفر. فإن الكافر شاهد بالزور وهو ضعيف، وقيل: المراد من يستحل شهادة الزور وهو بعيد، والله أعلم. قوله: "عبيد الله بن أبي بكر" أي ابن أنس بن مالك، ووقع كذلك في الشهادات من رواية وهب بن جرير وعبد الملك بن إبراهيم عن شعبة. قوله: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر" كذا في هذه الرواية بالشك، وجزم في الرواية التي في الشهادات بالثاني قال: سئل الخ. ووقع في الديات عن عمر وهو ابن مرزوق عن شعبة عن ابن أبي بكر "سمع أنسا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله " الحديث وكذا رويناه في "كتاب الإيمان لابن منده" وفي "كتاب القضاة للنقاش" من طريق أبي عامر العقدي عن شعبة وقد علق البخاري في الشهادات طريق أبي عامر ولم يسق لفظه، وهذا موافق لحديث أبي بكرة في أن المذكورات من أكبر الكبائر لا من الكبائر المطلقة. قوله: "فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور الخ" هذا ظاهره أنه خص أكبر الكبائر بقول الزور، ولكن الرواية التي أشرت إليها قبل تؤذن بأن الأربعة المذكورات مشتركات في ذلك. قوله: "أو قال شهادة الزور، قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور" قلت: ووقع الجزم بذلك في رواية وهب بن جرير وعبد الملك بن إبراهيم في الشهادات، قال قتيبة "وشهادة الزور" ولم يشك. ولمسلم من رواية خالد بن الحارث عن شعبة "وقول الزور" ولم يشك أيضا. وفي هذا الحديث والذي قبله استحباب إعادة الموعظة ثلاثا لتفهم، وانزعاج الواعظ في وعظه ليكون أبلغ في الوعي عنه والزجر عن فعل ما ينهى عنه، وفيه غلظ أمر شهادة الزور لما يترتب عليها من المفاسد وإن كانت مراتبها متفاوتة، وقد تقدم بيان شيء من أحكامها في كتاب الشهادات، وضابط الزور وصف الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل؛ وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها، وقد يضاف إلى الفعل ومنه "لابس ثوبي زور" ومنه تسمية الشعر الموصول زورا كما تقدم في اللباس، وتقدم بيان الاختلاف في المراد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} وأن الراجح أن المراد به في الآية الباطل والمراد لا يحضرونه، وفيه التحريض على مجانبة كبائر الذنوب ليحصل تكفير الصغائر بذلك كما وعد الله عز وجل، وفيه إشفاق التلميذ على شيخه إذا رآه منزعجا وتمني عدم غضبه لما

(10/412)


يترتب على الغضب من تغير مزاجه، والله أعلم.

(10/413)


7 - باب صِلَةِ الْوَالِدِ الْمُشْرِكِ
5978- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي أَخْبَرَتْنِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: " أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آصِلُهَا قَالَ نَعَمْ" قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا {لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} .
قوله: "باب صلة الوالد المشرك" ذكر فيه حديث أسماء بنت أبي بكر "أتتني أمي وهي راغبة" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الهبة. حديث أسماء بنت أبي بكر "أتتني أمي وهي راغبة" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الهبة، وتقدم بيان الاختلاف في قوله: "راغبة" هل هو بالميم أو الموحدة، قال الطيبي: الذي تحرر أن قولها: "راغبة" إن كان بلا قيد فالمراد راغبة في الإسلام لا غير، وإذا قرنت بقوله مشركة أو في عهد قريش فالمراد راغبة في صلتي، وإن كانت الرواية: "راغمة" بالميم فمعناه كارهة للإسلام. قلت: أما التي بالموحدة فيتعين حمل المطلق فيه على المقيد فإنه حديث واحد في قصة واحدة، ويتعين القيد من جهة أخرى، وهي أنها لو جاءت راغبة في الإسلام لم تحتج أسماء أن تستأذن في صلتها لشيوع التألف على الإسلام من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره فلا يحتاج إلى استئذانه في ذلك.

(10/413)


8 - باب صِلَةِ الْمَرْأَةِ أُمَّهَا وَلَهَا زَوْجٌ
5979- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَ: "قَدِمَتْ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ابْنِهَا فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا قَالَ نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ".
5980- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ".
قوله: "باب صلة المرأة أمها ولها زوج" ذكر فيه حديثين: أحدهما: حديث أبي سفيان في قصة هرقل، أورد منها طرفا وهو قول أبي سفيان "يأمرنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة" وقد تقدم شرحه مستوفى في أول الصحيح، وذكرت كثيرا من فوائده أيضا في تفسير آل عمران، والمراد منه هنا ذكر الصلة فيؤخذ حكم الترجمة من عمومها. الثاني: حديث أسماء بنت أبي بكر المشار إليه في الباب قبله أورده معلقا فقال: "وقال الليث حدثني هشام" وهو ابن عروة، وقد وقع لنا موصولا في "مستخرج أبي نعيم" إلى الليث، ووقع لنا بعلو في "جزء أبي الجهم العلاء بن موسى" عن الليث. قال ابن بطال: فقه الترجمة من حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لأسماء أن تصل أمها ولم يشترط في ذلك مشاورة زوجها، قال: وفيه حجة لمن أجاز للمرأة أن تتصرف في مالها بدون إذن زوجها

(10/413)


9 - باب صِلَةِ الأَخِ الْمُشْرِكِ
5981- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: "سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ رَأَى عُمَرُ حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ وَالْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِذَا جَاءَكَ الْوُفُودُ قَالَ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا بِحُلَلٍ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ فَقَالَ كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ قَالَ إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا وَلَكِنْ تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ".
قوله: "باب صلة الأخ المشرك" ذكر فيه حديث ابن عمر "رأى عمر حلة سيراء تباع" الحديث، وقد تقدم شرحه في كتاب اللباس. وقوله فيه: "ولكن تبيعها" وقع في رواية الكشميهني: "لتبيعها".

(10/414)


10 - باب فَضْلِ صِلَةِ الرَّحِمِ
5982- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ عُثْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ". ح
5983- وحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ الْقَوْمُ مَا لَهُ مَا لَهُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرَبٌ مَا لَهُ" . فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ ذَرْهَا قَالَ كَأَنَّهُ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ" .
قوله: "باب فضل صلة الرحم" بفتح الراء وكسر الحاء المهملة، يطلق على الأقارب وهم من بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا، سواء كان ذا محرم أم لا. وقيل: هم المحارم فقط، والأول هو المرجح لأن الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام وليس كذلك. حديث أبي أيوب الأنصاري "قال قيل: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة" أورده من وجهين، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "أرب ماله" وفيه: "تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم " وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الزكاة.

(10/414)


11 - باب إِثْمِ الْقَاطِعِ
5984- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: "إِنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ" .
قوله: "باب إثم القاطع" أي قاطع الرحم. قوله: "لا يدخل الجنة قاطع" كذا أورده من طريق عقيل: وكذا عند مسلم من رواية مالك ومعمر كلهم عن الزهري؛ وقد أخرجه المصنف في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن صالح عن الليث وقال فيه: "قاطع رحم" وأخرجه مسلم والترمذي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري كرواية مالك، قال سفيان: يعني قاطع رحم. وذكر ابن بطال أن بعض أصحاب سفيان رواه عنه كرواية عبد الله بن صالح فأدرج التفسير، وقد ورد بهذا اللفظ من طريق الأعمش عن عطية عن أبي سعيد أخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام" ومن طريق أبي حريز بمهملة وراء ثم زاي بوزن عظيم واسمه عبد الله بن الحسين قاضي سجستان عن أبي بردة عن أبي موسى رفعه: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مصدق بسحر، ولا قاطع رحم" أخرجه ابن حبان والحاكم. ولأبي داود من حديث أبي بكرة رفعه: " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" وللمصنف في "الأدب المفرد" من حديث أبي هريرة رفعه: "إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة جمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم " وللطبراني من حديث ابن مسعود "إن أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم" وللمصنف في "الأدب المفرد" من حديث ابن أبي أوفى رفعه: "إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع الرحم" وذكر الطيبي أنه يحتمل أن يراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم ولا ينكرون عليه، ويحتمل أن يراد بالرحمة المطر وأنه يحبس عن الناس عموما بشؤم التقاطع.

(10/415)


12 - باب مَنْ بُسِطَ لَهُ فِي الرِّزْقِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ
5985- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" .
5986- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في رجاء فليصل رحمه".
قوله: "باب من بسط له في الرزق لصلة الرحم" أي لأجل صلة رحمه. قوله: "محمد بن معن" أي ابن محمد بن معن بن نضلة بنون مفتوحة ومعجمة ساكنة ابن عمرو، ولنضلة جده الأعلى صحبة، وهو قليل الحديث موثق ليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وكذا أبوه لكن له موضع آخر أو موضعان. قوله: "سعيد هو ابن أبي سعيد" المقبري. قوله: "من سره أن يبسط له في رزقه" في حديث أنس "من أحب" وللترمذي وحسنه من وجه آخر عن أبي هريرة "إن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر" وعند أحمد بسند رجاله ثقات عن عائشة مرفوعا: "صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الإعمار" وأخرج

(10/415)


عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" والبزار وصححه الحاكم من حديث علي نحو حديثي الباب قال: "ويدفع عنه ميتة السوء" ولأبي يعلى من حديث أنس رفعه: "إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر، ويدفع بهما ميتة السوء" فجمع الأمرين، لكن سنده ضعيف. وأخرج المؤلف في "الأدب المفرد" من حديث ابن عمر بلفظ: "من اتقى ربه ووصل رحمه نسئ له في عمره، وثري ماله، وأحبه أهله". قوله: "وينسأ" بضم أوله وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة أي يؤخر. قوله: "في أثره" أي في أجله، وسمي الأجل أثرا لأنه يتبع العمر، قال زهير:
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أثر مشيه في الأرض، فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر، قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} والجمع بينهما من وجهين: أحدهما: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في النمر بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غيره ذلك. ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر. وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت. ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح.
وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى. ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلا: إن عمر فلان مائة مثلا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها. وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة. ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق. والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب، فإن الأثر ما يتبع الشيء، فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور. وقال الطيبي: الوجه الأول أظهر، وإليه يشير كلام صاحب "الفائق" قال: ويجوز أن يكون المعنى أن الله يبقى أثر واصل الرحم في الدنيا طويلا فلا يضمحل سريعا كما يضمحل أثر قاطع الرحم. ولما أنشد أبو تمام قوله في بعض المراثي:
توفيت الآمال بعد محمد ... وأصبح في شغل عن السفر السفر
قال له أبو دلف: لم يمت من قيل فيه هذا الشعر. ومن هذه المادة قول الخليل عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} وقد ورد في تفسيره وجه ثالث، فأخرج الطبراني في "الصغير" بسند ضعيف عن أبي الدرداء قال: "ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصل رحمه أنسيء له في أجله، فقال: إنه ليس زيادة في عمره، قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} الآية، ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده". وله في "الكبير" من حديث أبي مشجعة الجهني رفعه: "إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر ذرية صالحة" الحديث. وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله. وقال غيره في أعم من ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعلمه ونحو ذلك.

(10/416)


13 - باب مَنْ وَصَلَ وَصَلَهُ اللَّهُ
5987- حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ قَالَ سَمِعْتُ عَمِّي سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَهُوَ لَكِ" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} .
5988- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَقَالَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ" .
5989- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرَّحِمُ شِجْنَةٌ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ" .
قوله: "باب من وصل وصله الله" أي من وصل رحمه. قوله: "عبد الله" هو ابن المبارك، ومعاوية هو ابن أبي مزرد بضم الميم وفتح الزاي وتشديد الراء بعدها مهملة، تقدم ضبطه وتسميته في أول الزكاة، ولمعاوية بن أبي مزرد في هذا الباب حديث آخر وهو ثالث أحاديث الباب من طريق عائشة. قوله: "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ" تقدم تأويل فرغ في تفسير القتال، قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المراد بالخلق جميع المخلوقات، ويحتمل أن يكون المراد به المكلفين. وهذا القول يحتمل أن يكون بعد خلق السماوات والأرض وإبرازها في الوجود، ويحتمل أن يكون بعد خلقها كتبا في اللوح المحفوظ ولم يبرز بعد إلا اللوح والقلم، ويحتمل أن يكون بعد انتهاء خلق أرواح بني آدم عند قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} لما أخرجهم من صلب آدم عليه السلام مثل الذر. قوله: "قامت الرحم فقالت " قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون بلسان الحال ويحتمل أن يكون بلسان المقال قولان مشهوران، والثاني أرجح. وعلى الثاني فهل تتكلم كما هي أو بخلق الله لها عند كلامها حياة وعقلا؟ قولان أيضا مشهوران، والأول أرجح لصلاحية القدرة العامة لذلك، ولما في الأولين من تخصيص عموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل، ولما يلزم منه من حصر قدرة القادر التي لا يحصرها شيء. قلت: وقد تقدم في تفسير القتال حمل عياض له على المجاز، وأنه من باب ضرب المثل، وقوله أيضا يجوز أن يكون الذي نسب إليه القول ملكا يتكلم على لسان الرحم، وتقدم أيضا ما يتعلق بزيادة في هذا الحديث من وجه آخر عن معاوية بن أبي مزرد وهي قوله: "فأخذت بحقو الرحمن " ووقع في حديث ابن عباس عند الطبراني "إن الرحم أخذت بحجزة الرحمن" وحكى

(10/417)


شيخنا في "شرح الترمذي" أن المراد بالحجزة هنا قائمة العرش، وأيد ذلك بما أخرجه مسلم من حديث عائشة "إن الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش" وتقدم أيضا ما يتعلق بقوله: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة" في تفسير القتال، ووقع في رواية حبان بن موسى عن ابن المبارك بلفظ: "هذا مكان" بدل "مقام" وهو تفسير المراد أخرجه النسائي. قوله: "أصل من وصلك وأقطع من قطعك" في ثاني أحاديث الباب من وجه آخر عن أبي هريرة "من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته" قال ابن أبي جمرة: الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه، وإنما خاطب الناس بما يفهمون، ولما كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبة الوصال وهو القرب منه وإسعافه بما يريد ومساعدته على ما يرضيه، وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى، عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده. قال: وكذا القول في القطع، هو كناية عن حرمان الإحسان. وقال القرطبي: وسواء قلنا إنه يعني القول المنسوب إلى الرحم على سبيل المجاز أو الحقيقة أو إنه على جهة التقدير والتمثيل كأن يكون المعنى: لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت كذا، ومثله {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً} الآية، وفي آخرها {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} فمقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره فأدخله في حمايته، وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله، وإن من يطلبه الله بشيء من ذمته يدركه ثم يكبه على وجهه في النار" أخرجه مسلم. قوله: "حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثنا عبد الله بن دينار" لسليمان في هذا المعنى ثلاثة أحاديث: أحدها: هذا، والآخر: الحديث الذي قبله - وقد سبق من طريقه في تفسير القتال ويأتي في التوحيد. قوله: "الرحم شجنة" بكسر المعجمة وسكون الجيم بعدها نون، وجاء بضم أوله وفتحه رواية ولغة. وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة، والشجن بالتحريك واحد الشجون وهي طرق الأودية، ومنه قولهم: "الحديث ذو شجون" أي يدخل بعضه في بعض. وقوله: "من الرحمن" أي أخذ اسمها من هذا الاسم كما في حديث عبد الرحمن بن عوف في السنن مرفوعا: "أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي" والمعنى أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها؛ فالقاطع لها منقطع من رحمة الله. وقال الإسماعيلي: معنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن فلها به علقة، وليس معناه أنها من ذات الله تعالى الله عن ذلك. قال القرطبي: الرحم التي توصل عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين وتجب مواصلتها بالتوادد والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة. وأما الرحم الخاصة فتزيد للنفقة على القريب وتفقد أحوالهم والتغافل عن زلاتهم. وتتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك كما في الحديث الأول من كتاب الأدب "الأقرب فالأقرب" وقال ابن أبي جمرة: تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء. والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارا أو فجارا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم، ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى. قوله: "فقال الله" زاد الإسماعيلي في روايته: "لها" وهذه الفاء عاطفة على شيء محذوف، وأحسن ما يقدر له ما في الحديث الذي قبله " فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله الخ". حديث عائشة، وهو

(10/418)


بلفظ حديث أبي هريرة الذي قبله إلا أنه بلفظ الغيبة. وفي الأحاديث الثلاثة تعظيم أمر الرحم، وأن صلتها مندوب مرغب فيه وأن قطعها من الكبائر لورود الوعيد الشديد فيه. واستدل به على أن الأسماء توقيفية، وعلى رجحان القول الصائر إلى أن المراد بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أسماء جميع الأشياء سواء كانت من الذوات أو من الصفات، والله أعلم.

(10/419)


14 - باب تُبَلُّ الرَّحِمُ بِبَلاَلِهَا
5990- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَاراً غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ: "إِنَّ آلَ أَبِي -قَالَ عَمْرٌو فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بَيَاضٌ- لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ" زَادَ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلاَهَا" يَعْنِي أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بِبَلاَهَا كَذَا وَقَعَ وَبِبَلاَلِهَا أَجْوَدُ وَأَصَحُّ وَبِبَلاَهَا لاَ أَعْرِفُ لَهُ وَجْهاً".
قوله: "باب" هو بالتنوين "تبل الرحم ببلالها" بضم أوله بالمثناة، ويجوز بفتح أوله بالتحتانية، والمراد المكلف. قوله: "حدثني" لغير أبي ذر "حدثنا" وعمرو بن عباس بالموحدة والمهملة هو أبو عثمان الباهلي البصري ويقال له الأهوازي، أصله من إحداهما وسكن الأخرى، وهو من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، وانفرد به عن الستة. وحديث الباب قد حدث به أحمد ويحيى بن معين وغيرهما من شيوخ البخاري عن ابن مهدي، لكن ناسب تخريجه عنه كون صحابيه سميه وهو عمرو بن العاص، ومحمد بن جعفر شيخه هو غندر وهو بصري، ولم أر الحديث المذكور عند أحمد من أصحاب شعبة إلا عنده، إلا ما أخرجه الإسماعيلي من رواية وهب بن حفص عن عبد الملك بن إبراهيم الجعدي عن شعبة، ووهب بن حفص كذبوه. قوله: "أن عمرو بن العاص قال" عند مسلم عن أحمد وعند الإسماعيلي عن يحيى بن معين كلاهما عن غندر بلفظ: "عن عمرو بن العاص" ووقع في رواية بيان بن بشر عن قيس "سمعت عمرو بن العاص" وستأتي الإشارة إليها في الكلام على الطريق المعلقة، وليس لقيس بن أبي حازم في الصحيحين عن عمرو بن العاص غير هذا الحديث، ولعمرو في الصحيحين حديثان آخران حديث: "أي الرجال أحب إليك" وقد مضى في المناقب، وحديث: "إذا اجتهد الحاكم" وسيأتي في الاعتصام، وله آخر معلق عند البخاري مضى في المبعث النبوي، وآخر مضى في التيمم، وعند مسلم حديث آخر في السحور، وهذا جميع ما له عندهما من الأحاديث المرفوعة. قوله: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهارا" يحتمل أن يتعلق بالمفعول أي كان المسموع في حالة الجهر، ويحتمل أن يتعلق بالفاعل أي أقول ذلك جهارا، وقوله: "غير سر" تأكيد لذلك لدفع توهم أنه جهر به مرة وأخفاه أخرى، والمراد أنه لم يقل ذلك خفية بل جهر به وأشاعه. قوله: "إن آل أبي" كذا للأكثر بحذف ما يضاف إلى أداة الكنية، وأثبته المستملي في روايته لكن كنى عنه فقال: "آل أبي فلان" وكذا هو في روايتي مسلم والإسماعيلي، وذكر القرطبي أنه وقع في أصل مسلم موضع " فلان" بياض ثم كتب بعض الناس فيه: "فلان" على سبيل الإصلاح، وفلان كناية عن اسم علم، ولهذا وقع لبعض رواته "إن آل أبي يعني فلان" ولبعضهم

(10/419)


"إن آل أبي فلان" بالجزم. قوله: "قال عمرو" هو ابن عباس شيخ البخاري فيه. قوله: "في كتاب محمد بن جعفر" أي غندر شيخ عمرو فيه. قوله: "بياض" قال عبد الحق في كتاب "الجمع بين الصحيحين": إن الصواب في ضبط هذه الكلمة بالرفع، أي وقع في كتاب محمد بن جعفر موضع أبيض يعني بغير كتابة، وفهم منه بعضهم أنه الاسم المكني عنه في الرواية فقرأه بالجر على أنه في كتاب محمد بن جعفر إن آل أبي بياض، وهو فهم سيء ممن فهمه لأنه لا يعرف في العرب قبيلة يقال لها آل أبي بياض، فضلا عن قريش، وسياق الحديث مشعر بأنهم من قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم وهي قريش، بل فيه إشعار بأنهم أخص من ذلك لقوله: "إن لهم رحما" وأبعد من حمله على بني بياضة وهم بطن من الأنصار لما فيه من التغيير أو الترخيم على رأي، ولا يناسب السياق أيضا. وقال ابن التين: حذفت التسمية لئلا يتأذى بذلك المسلمون من أبنائهم. وقال النووي: هذه الكناية من بعض الرواة، خشي أن يصرح بالاسم فيترتب عليه مفسدة إما في حق نفسه، وإما في حق غيره، وإما معا. وقال عياض: إن المكنى عنه هنا هو الحكم بن أبي العاص. وقال ابن دقيق العيد: كذا وقع مبهما في السياق، وحمله بعضهم على بني أمية ولا يستقيم مع قوله آل أبي، فلو كان آل بني لأمكن، ولا يصح تقدير آل أبي العاص لأنهم أخص من بني أمية والعام لا يفسر بالخاص. قلت: لعل مراد القائل أنه أطلق العام وأراد الخاص، وقد وقع في رواية وهب بن حفص التي أشرت إليها "أن آل بني" لكن وهب لا يعتمد عليه، وجزم الدمياطي في حواشيه بأنه آل أبي العاص بن أمية، ثم قال ابن دقيق العيد: إنه رأى في كلام ابن العربي في هذا شيئا يراجع منه. قلت: قال أبو بكر بن العربي في "سراج المريدين": كان في أصل حديث عمرو بن العاص "أن آل أبي طالب" فغير "آل أبي فلان" كذا جزم به، وتعقبه بعض الناس وبالغ في التشنيع ونسبه إلى التحامل على آل أبي طالب، ولم يصب هذا المنكر فإن هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربي موجودة في "مستخرج أبي نعيم" من طريق الفضل بن الموفق عن عنبسة بن عبد الواحد بسند البخاري عن بيان بن بشر عن قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص رفعه: "إن لبني أبي طالب رحما أبلها ببلاها" وقد أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه أيضا لكن أبهم لفظ طالب، وكأن الحامل لمن أبهم هذا الموضع ظنهم أن ذلك يقتضي نقصا في آل أبي طالب؛ وليس كما توهموه كما سأوضحه إن شاء الله تعالى. قوله: "ليسوا بأوليائي" كذا للأكثر وفي نسخة من رواية أبي ذر "بأولياء" فنقل ابن التين عن الداودي أن المراد بهذا النفي من لم يسلم منهم، أي فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض، والمنفي على هذا المجموع لا الجميع. وقال الخطابي: الولاية المنفية ولاية القرب والاختصاص لا ولاية الدين، ورجح ابن التين الأول وهو الراجح، فإن من جملة آل أبي طالب عليا وجعفر أو هما من أخص الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم لما لهما من السابقة والقدم في الإسلام ونصر الدين، وقد استشكل بعض الناس صحة هذا الحديث لما نسب إلى بعض رواته من النصب وهو الانحراف عن علي وآل بيته، قلت: أما قيس بن أبي حازم فقال يعقوب بن شيبة تكلم أصحابنا في قيس فمنهم من رفع قدره وعظمه وجعل الحديث عنه من أصح الأسانيد حتى قال ابن معين: هو أوثق من الزهري ومنهم من حمل عليه وقال: له أحاديث مناكير، وأجاب من أطراه بأنها غرائب وإفراده لا يقدح فيه. ومنهم من حمل عليه في مذهبه وقال: كان يحمل على علي ولذلك تجنب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيين، وأجاب من أطراه بأنه كان يقدم عثمان على علي. قلت: والمعتمد عليه أنه ثقة ثبت مقبول الرواية، وهو من كبار

(10/420)


التابعين، سمع من أبي بكر الصديق فمن دونه، وقد روي عنه حديث الباب إسماعيل بن أبي خالد وبيان بن بشر وهما كوفيان ولم ينسبا إلى، النصب، لكن الراوي عن بيان وهو عنبسة بن عبد الواحد أموي قد نسب إلى شيء من النصب، وأما عمرو بن العاص وإن كان بينه وبين علي ما كان فحاشاه أن يتهم، وللحديث محل صحيح لا يستلزم نقصا في مؤمني آل أبي طالب، وهو أن المراد بالنفي المجموع كما تقدم، ويحتمل أن يكون المراد بآل أبي طالب أبو طالب نفسه وهو إطلاق سائغ كقوله في أبي موسى: " إنه أوتي مزمارا من مزامير آل داود" وقوله صلى الله عليه وسلم "آل أبي أوفى" وخصه بالذكر مبالغة في الانتفاء ممن لم يسلم لكونه عمه وشقيق أبيه وكان القيم بأمره ونصره وحمايته، ومع ذلك فلما لم يتابعه على دينه انتفى من موالاته. قوله: "إنما وليي الله وصالح المؤمنين" كذا للأكثر بالإفراد وإرادة الجملة، وهو اسم جنس، ووقع في رواية البرقاني "وصالحو المؤمنين" بصيغة الجمع، وقد أجاز بعض المفسرين أن الآية التي في التحريم كانت في الأصل {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ} لكن حذقت الواو من الخط على وفق النطق، وهو مثل قوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} وقال النووي: معنى الحديث أن ولي من كان صالحا وإن بعد مني نسبه، وليس وليي من كان غير صالح وإن قرب مني نسبه. وقال القرطبي: فائدة الحديث انقطاع الولاية في الدين بين المسلم والكافر ولو كان قريبا حميما. وقال ابن بطال: أوجب في هذا الحديث الولاية بالدين ونفاها عن أهل رحمه إن لم يكونوا من أهل دينه، فدل ذلك على أن النسب يحتاج إلى الولاية التي يقع بها الموارثة بين المتناسبين، وأن الأقارب إذا لم يكونوا على دين واحد لم يكن بينهم توارث ولا ولاية، قال: ويستفاد من هذا أن الرحم المأمور بصلتها والمتوعد على قطعها هي التي شرع لها ذلك، فأما من أمر بقطعه من أجل الدين فيستثنى من ذلك، ولا يلحق بالوعيد من قطعه لأنه قطع من أمر الله بقطعه، لكن لو وصلوا بما يباح من أمر الدنيا لكان فضلا، كما دعا صلى الله عليه وسلم لقريش بعد أن كانوا كذبوه فدعا عليهم بالقحط ثم استشفعوا به فرق لهم لما سألوه برحمهم فرحمهم ودعا لهم. قلت: ويتعقب كلامه في موضعين: أحدهما: يشاركه فيه كلام غيره وهو قصره النفي على من ليس على الدين، وظاهر الحديث أن من كان غير صالح في أعمال الدين دخل في النفي أيضا لتقييده الولاية بقوله: { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} ، والثاني: أن صلة الرحم الكافر ينبغي تقييدها بما إذا أيس منه رجوعا عن الكفر، أو رجى أن يخرج من صلبه مسلم، كما في الصورة التي استدل بها وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لقريش بالخصب وعلل بنحو ذلك، فيحتاج من يترخص في صلة رحمه الكافر أن يقصد إلى شيء من ذلك، وأما من كان على الدين ولكنه مقصر في الأعمال مثلا فلا يشارك الكافر في ذلك. وقد وقع في "شرح المشكاة": المعنى أني لا أوالي أحدا بالقرابة، وإنما أحب الله تعالى لما له من الحق الواجب على العباد، وأحب صالح المؤمنين لوجه الله تعالى، وأوالي من أوالي بالإيمان والصلاح سواء كان من ذوي رحم أو لا، ولكن أرعى لذوي الرحم حقهم لصلة الرحم، انتهى. وهو كلام منقح. وقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} على أقوال: أحدها: الأنبياء أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن قتادة وأخرجه الطبري، وذكره ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري، وأخرجه النقاش عن العلاء بن زياد. الثاني: الصحابة أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، ونحوه في تفسير الكلبي قال: هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأشباههم ممن ليس بمنافق. الثالث: خيار المؤمنين أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك. الرابع: أبو بكر وعمر وعثمان أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري. الخامس: أبو بكر وعمر

(10/421)


أخرجه الطبري وابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا وسنده ضعيف، وأخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضا، وكذا هو في تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء بسنده عن ابن عباس موقوفا، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر ضعيف عنه كذلك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير وعبد الله بن بريدة ومقاتل بن حيان كذلك. السادس: أبو بكر خاصة ذكره القرطبي عن المسيب بن شريك. السابع: عمر خاصة أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد، وأخرجه ابن مردويه بسند واه جدا عن ابن عباس. الثامن: علي أخرجه ابن أبي حاتم بسند منقطع عن علي نفسه مرفوعا، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد قال: هو علي، وأخرجه ابن مردويه بسندين ضعيفين من حديث أسماء بنت عميس مرفوعا قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صالح المؤمنين علي بن أبي طالب" ومن طريق أبي مالك عن ابن عباس مثله موقوفا وفي سنده راو ضعيف، وذكره النقاش عن ابن عباس ومحمد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق. قلت: فإن ثبت هذا فقيه دفع توهم من توهم أن في الحديث المرفوع نقصا من قدر علي رضي الله عنه ويكون المنفي أبا طالب ومن مات من آله كافرا، والمثبت من كان منهم مؤمنا، وخص علي بالذكر لكونه رأسهم، وأشير بلفظ الحديث إلى لفظ الآية المذكورة ونص فيها على علي تنويها بقدره ودفعا لظن من يتوهم عليه في الحديث المذكور غضاضة، ولو تفطن من كنى عن أبي طالب لذلك لاستغنى عما صنع، والله أعلم. قوله: "وزاد عنبسة بن عبد الواحد" أي ابن أمية بن عبد الله بن سعيد بن العاص بن أبي أحيحة بمهملتين مصغرا وهو سعيد بن العاص بن أمية؛ وهو موثوق عندهم، وما له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق، وقد وصله البخاري في كتاب البر والصلة فقال: "حدثنا محمد بن عبد الواحد بن عنبسة حدثنا جدي" فذكره وأخرجه الإسماعيلي من رواية نهد بن سليمان عن محمد بن عبد الواحد المذكور وساقه بلفظ: "سمعت عمرو بن العاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي جهرا غير سر: إن بني أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله والذين آمنوا، ولكن لهم رحم" الحديث وقد قدمت لفظ رواية الفضل بن الموفق عن عنبسة من عند أبي نعيم وأنها أخص من هذا. قوله: "ولكن لها رحم أبلها ببلالها، يعني أصلها بصلتها" كذا لهم، لكن سقط التفسير من رواية النسفي، ووقع عند أبي ذر بعده "أبلها ببلائها" وبعده في الأصل: كذا وقع، وببلالها أجود وأصح. وببلاها لا أعرف له وجها، انتهى. وأظنه من قوله: "كذا وقع الخ" من كلام أبي ذر، وقد وجه الداودي فيما نقله ابن التين هذه الرواية على تقدير ثبوتها بأن المراد ما أوصله إليها من الأذى على تركهم الإسلام، وتعقبه ابن التين بأنه لا يقال في الأذى أبله، ووجهها بعضهم بأن البلاء بالمد يجيء بمعنى المعروف والإنعام، ولما كان الرحم مما يستحق المعروف أضيف إليها ذلك. فكأنه قال: أصلها بالمعروف اللائق بها. والتحقيق أن الرواية إنما هي "ببلالها" مشتق من أبلها، قال النووي: ضبطنا قوله: "ببلالها" بفتح الموحدة وبكسرها وهما وجهان مشهوران. وقال عياض: رويناه بالكسر، ورأيته للخطابي بالفتح. وقال ابن التين: هو بالفتح للأكثر ولبعضهم بالكسر. قلت: بالكسر أوجه، فإنه من البلال جمع بلل مثل جمل وجمال، ومن قاله بالفتح بناه على الكسر مثل قطام وحذام. والبلال بمعنى البلل وهو النداوة، وأطلق ذلك على الصلة كما أطلق اليبس على القطيعة، لأن النداوة من شأنها تجميع ما يحصل فيها وتأليفه، بخلاف اليبس فمن شأنه التفريق. وقال الخطابي وغيره: بللت الرحم بلا وبللا وبلالا أي نديتها بالصلة. وقد أطلقوا على الإعطاء الندى وقالوا في البخيل ما تندى كفه

(10/422)


بخير، فشبهت قطيعة الرحم بالحرارة ووصلها بالماء الذي يطفئ ببرده الحرارة، ومنه الحديث: "بلوا أرحامكم ولو بالسلام" وقال الطيبي وغيره: شبه الرحم بالأرض التي إذا وقع عليها الماء وسقاها حتى سقيها أزهرت ورؤيت فيها النضارة فأثمرت المحبة والصفاء، وإذا تركت بغير سقي يبست وبطلت منفعتها فلا تثمر إلا البغضاء والجفاء، ومنه قولهم سنة جماد أي لا مطر فيها، وناقة جماد أي لا لبن فيها. وجوز الخطابي أن يكون معنى قوله: "أبلها ببلالها" في الآخرة أي أشفع لها يوم القيامة. وتعقبه الداودي بأن سياق الحديث يؤذن بأن المراد ما يصلهم به في الدنيا، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: "لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا، فعم وخص - إلى أن قال - يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها" وأصله عند البخاري بدون هذه الزيادة. وقال الطيبي: في قوله: "ببلالها" مبالغة بديعة وهي مثل قوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} أي زلزالها الشديد الذي لا شيء فوقه، فالمعنى أبلها بما اشتهر وشاع بحيث لا أترك منه شيئا.

(10/423)


باب ليس الواصل بالمكافىء
...
15 - باب لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ
5991- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ وَالْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو وَفِطْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ سُفْيَانُ لَمْ يَرْفَعْهُ الأَعْمَشُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَهُ حَسَنٌ وَفِطْرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا" .
قوله: "باب ليس الواصل بالمكافئ" التعريف فيه للجنس. قوله: "سفيان" هو الثوري؛ والحسن بن عمرو الفقيمي بفاء وقاف مصغر، وفطر بكسر الفاء وسكون المهملة ثم راء هو ابن خليفة. قوله: "عن مجاهد" أي الثلاثة عن مجاهد، وعبد الله بن عمرو هو ابن العاص، وقوله: "قال سفيان" هو الراوي، وهو موصول بهذا الإسناد. وقوله: "لم يرفعه الأعمش ورفعه حسن وفطر" هذا هو المحفوظ عن الثوري، وأخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان الثوري عن الحسن بن عمرو وحده مرفوعا من رواية مؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن الحسن بن عمرو موقوفا وعن الأعمش مرفوعا، وتابعه أبو قرة موسى بن طارق عن الثوري على رفع رواية الأعمش، وخالفه عبد الرزاق عن الثوري فرفع رواية الحسن بن عمرو وهو المعتمد، ولم يختلفوا في أن رواية فطر بن خليفة مرفوعة. وقد أخرجه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن فطر وبشير بن إسماعيل كلاهما عن مجاهد مرفوعا، وأخرجه أحمد عن جماعة من شيوخه عن فطر مرفوعا وزاد في أول الحديث: "إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ" الحديث. قوله: "ليس الواصل بالمكافئ" أي الذي يعطي لغيره نظير ما أعطاه ذلك الغير، وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر موقوفا " ليس الوصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الوصل أن تصل من قطعك". قوله: "ولكن" قال الطيبي الرواية فيه بالتشديد ويجوز التخفيف. قوله: " الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها " أي الذي إذا منع أعطى، و"قطعت" ضبطت في بعض الروايات بضم أوله وكسر ثانيه على الباء للمجهول، وفي أكثرها بفتحتين، قال الطيبي: المعنى، ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافئ صاحبه بمثل فعله، ولكنه من يتفضل على صاحبه. وقال شيخنا في "شرح الترمذي" المراد

(10/423)


بالواصل في هذا الحديث الكامل، فإن في المكافأة نوع صلة، بخلاف من إذا وصله قريبه لم يكافئه فإن فيه قطعا بإعراضه عن ذلك، وهو من قبيل "ليس الشديد بالصرعة، وليس الغنى عن كثرة العرض" انتهى. وأقول: لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات: واصل ومكافئ وقاطع، فالواصل من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل. وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك يقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا، والله أعلم.

(10/424)


16 - باب مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ
5992- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أُمُوراً كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ هَلْ لِي فِيهَا مِنْ أَجْرٍ قَالَ حَكِيمٌ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ" وَيُقَالُ أَيْضاً عَنْ أَبِي الْيَمَانِ أَتَحَنَّثُ". وَقَالَ مَعْمَرٌ وَصَالِحٌ وَابْنُ الْمُسَافِرِ "أَتَحَنَّثُ" وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: التَّحَنُّثُ التَّبَرُّرُ وَتَابَعَهُمْ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ.
قوله: "باب من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم" أي هل يكون له في ذلك ثواب؟ وإنما لم يجزم بالحكم لوجود الاختلاف في ذلك. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل كتاب الزكاة، وتقدم البحث في ذلك في كتاب الإيمان في الكلام على حديث أبي سعيد الخدري "إذا أسلم العبد فحسن إسلامه" . قوله: "هل كان لي فيها من أجر؟" وهو تفسير رواية يونس بن يزيد عند مسلم: "هل لي فيها من شيء؟" ووقع في رواية صالح بن كيسان "أفيها أجر؟" وفي رواية ابن مسافر "هل لي فيها من أجر؟". قوله: "ويقال أيضا عن أبي اليمان أتحنت" كذا لأبي ذر، ووقع في رواية غيره: "وقال أيضا" وعلى هذا فهو من كلام البخاري وفاعل "قال" هو البخاري. قوله: "عن أبي اليمان أتحنت" يعني بالمثناة بدل المثلثة، يشير إلى ما أورده هو في "باب شراء المملوك من الحربي" في كتاب البيوع عن أبى اليمان بلفظ كنت أتحنت أو أتحنث بالشك، وكأنه سمعه منه بالوجهين؛ وتقدم في كتاب الزكاة ما صوبه عياض من ذلك. وقال ابن التين: "أتحنت" بالمثناة لا أعلم له وجها انتهى. ووقع عند الإسماعيلي: "أتجنب" بجيم وآخره موحدة فقال: قال البخاري "يقال أتجنب" قال الإسماعيلي: والتجنب تصحيف وإنما هو التحنث مأخوذ من الحنث وهو الإثم، فكأنه قال أتوقى ما يؤثم. قلت؛ وبهذا التأويل تقوى رواية: "أتجنب" بالجيم والموحدة ويكون التردد في اللفظتين وهما "أتحنث" بمهملة ومثلثة "وأتجنب" بجيم وموحدة والمعنى واحد، وهو توقي ما يوقع في الإثم، لكن ليس المراد توقي الإثم بل أعلى منه وهو تحصيل البر. قوله: "وقال معمر وصالح وابن المسافر أتحنث" يعني بالمثلثة، أما رواية معمر فوصلها المؤلف في الزكاة، وهي في "باب فمن تصدق في الشرك ثم أسلم" وعزاها المزي في "الأطراف" للصلاة، ولم أرها فيها، وأما رواية صالح وهو ابن كيسان فأخرجها مسلم، وأما رواية ابن المسافر فكذا وقع هنا بالألف واللام والمشهور فيه بحذفهما، وهو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر

(10/424)


الفهمي المصري أمير مصر، فوصلها الطبراني في "الأوسط" من طريق الليث بن سعد عنه. قوله: "وقال ابن إسحاق التحنث التبرر" هكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية فقال: "حدثني وهب بن كيسان قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول لعبيد بن عمير: حدثنا كيف كان بدء النبوة؟ قال فقال عبيد وأنا حاضر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث به قريش في الجاهلية، والتحنث التبرر" وقد تقدم التنبيه على ذلك في بدء الوحي في حديث عائشة في هذا المعنى: فكان يتحنث، وهو التعبد. ومضى التنبيه على ذلك في أول الكتاب. قوله: "وتابعه هشام بن عروة عن أبيه" في رواية الكشميهني: "وتابعهم" بصيغة الجمع، والأول أرجح فإن المراد بهذه المتابعة خصوص تفسير التحنث بالتبرر، ورواية هشام وصلها المؤلف في العتق من طريق أبي أسامة عنه ولفظه أن حكيم بن حزام قال، فذكر الحديث وفيه: "كنت أتحنث بها يعني أتبرر".

(10/425)


17 - باب مَنْ تَرَكَ صَبِيَّةَ غَيْرِهِ حَتَّى تَلْعَبَ بِهِ أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ مَازَحَهَا
5993- حَدَّثَنَا حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سَنَهْ سَنَهْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ قَالَتْ فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزَبَرَنِي أَبِي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دَعْهَا ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْلِي وَأَخْلِقِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا".
قوله: "باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به" أي ببعض جسده. قوله: "أو قبلها أو مازحها" قال ابن التين: ليس في الخبر المذكور في الباب للتقبيل ذكر، فيحتمل أن يكون لما لم ينهها عن مس جسده صار كالتقبيل، وإلى ذلك أشار ابن بطال، والذي يظهر لي أن ذكر المزح بعد التقبيل من العام بعد الخاص؛ وأن الممازحة بالقول والفعل مع الصغيرة إنما يقصد به التأنيس، والتقبيل من جملة ذلك. وحديث الباب عن أم خالد بنت خالد بن سعيد تقدم شرحه في "باب الخميصة السوداء" من كتاب اللباس، وعبد الله في هذا السند هو ابن المبارك، وخالد بن سعيد المذكور في السند تقدم بيان نسبه في كتاب الجهاد. قوله: "فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزبرني أبي" أي نهرني، والزبر بزاي وموحدة ساكنة هو الزجر والمنع وزنه ومعناه. قوله: "أبلي وأخلقي" تقدم ضبطه والاختلاف فيه. قوله: "ثم أبلي وأخلقي" قال الداودي يستفاد منه مجيء "ثم" للمقارنة، وأبي ذلك بعض النحاة فقالوا لا تأتي إلا للتراخي، كذا قال، وتعقبه ابن التين بأن قال ما علمت أن أحدا قال إن ثم للمقارنة، وإنما هي للترتيب بالمهلة وقال وليس في الحديث ما ادعاه من المقارنة لأن الإبلاء يقع بعد الخلق أو الخلف. قلت: لعل الداودي أراد بالمقارنة المعاقبة فيتجه كلامه بعض اتجاه. قوله: "قال عبد الله" هو ابن المبارك وهو متصل بالإسناد المذكور. قوله: "فبقي" أي الثوب المذكور، كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر "فبقيت" والمراد أم خالد. قوله: "حتى ذكر" كذا للأكثر بذال معجمة ثم كاف خفيفة مفتوحتين ثم راء وفيه اكتفاء، والتقدير ذكر الراوي زمنا طويلا. وقال الكرماني: المعنى صار شيئا مذكورا عند الناس بخروج بقائه عن العادة. قلت: وكأنه قرأه "ذكر" بضم أوله

(10/425)


لكن لم يقع عندنا في الرواية إلا بالفتح، ووقع في رواية أبي علي بن السكن "حتى ذكر دهرا" وهو يؤيد ما قدمته. وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني: "حتى دكن" بدال مهملة وكاف مكسورة ثم نون أي صار أدكن أي أسود، قال أهل اللغة، الدكن لون يضرب إلى السواد، وقد دكن الثوب بالكسر يدكن بفتح الكاف وبضمها مع الفتح، وقد جزم جماعة بأن رواية الكشميهني تصحيف. قوله: "يعني من بقائها" كذا للأصيلي والضمير للخميصة أو لأم خالد بحسب التوجيهين المتقدمين.

(10/426)


باب رحمة الولد وتقبله ومعانقته
...
18- باب رَحْمَةِ الْوَلَدِ وَتَقْبِيلِهِ وَمُعَانَقَتِهِ
وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ
5994- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: "كُنْتُ شَاهِداً لِابْنِ عُمَرَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ. فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنْ الدُّنْيَا" .
5995- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: "جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئاً فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْراً مِنْ النَّارِ" .
5996- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو قَتَادَةَ قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا".
5997- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِساً فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَداً فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ" .
5998- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ" .
5999- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّاً فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لاَ

(10/426)


وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا" .
قوله: "باب رحمة الولد وقبلته ومعانقته" قال ابن بطال: يجوز تقبيل الولد الصغير في كل عضو منه وكذا الكبير عند أكثر العلماء ما لم يكن عورة، وتقدم في مناقب فاطمة عليها السلام أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبلها، وكذا كان أبو بكر يقبل ابنته عائشة. قوله: "وقال ثابت عن أنس: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه" سقط هذا التعليق لأبي ذر عن غبر الكشميهني، وقد وصله المؤلف في الجنائز من طريق قريش بن حبان عن ثابت في حديث طويل. وإبراهيم هو ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية. حديث ابن عمر. قوله: "مهدي" هو ابن ميمون، وثبت ذلك في رواية أبي ذر. قوله: "ابن أبي يعقوب" هو محمد بن عبد الله الضبي البصري، وابن أبي نعم بضم النون وسكون المهملة هو عبد الرحمن، واسم أبيه لا يعرف، والسند كله إلى عبد الرحمن هذا بصريون، وهو كوفي عابد اتفقوا على توثيقه، وشذ ابن أبي خيثمة فحكى عن ابن معين أنه ضعفه. قوله: "كنت شاهدا لابن عمر" أي حاضرا عنده. قوله: "وسأله رجل" الجملة حالية، واسم الرجل السائل ما عرفته. قوله: "عن دم البعوض" تقدم في المناقب بلفظ: "الذباب" بضم المعجمة وموحدتين. قال الكرماني لعله سأل عنهما معا. قلت: أو أطلق الراوي الذباب على البعوض لقرب شبهه منه وإن كان في البعوض معنى زائد، قال الجاحظ: العرب تطلق على النحل والدبر وما أشبهه ذلك ذبابا. قوله: "وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني الحسين بن علي. قوله: "وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول" هي جملة حالية. قوله: "ريحانتاي" كذا للأكثر، ولأبي ذر عن المستملي والحموي "ريحاني" بكسر النون والتخفيف على الإفراد وكذا عند النسفي، ولأبي ذر عن الكشميهني: "ريحانتي" بزيادة تاء التأنيث، قال ابن التين: وهو وهم والصواب "ريحانتاي". قلت: كأنه قرأه بفتح المثناة وتشديد الياء الأخيرة على التثنية فجعله وهما، ويجوز أن يكون بكسر المثناة والتخفيف فلا يكون وهما، والمراد بالريحان هنا الرزق قاله ابن التين. وقال صاحب "الفائق": أي هما من رزق الله الذي رزقنيه، يقال سبحان الله وريحانه أي أسبح الله وأسترزقه، ويجوز أن يريد بالريحان المشموم يقال حباني بطاقة ريحان، والمعنى أنهما مما أكرمني الله وحباني به، لأن الأولاد يشمون ويقبلون فكأنهم من جملة الرياحين. وقوله: "من الدنيا" أي نصيبي من الريحان الدنيوي. وقال ابن بطال يؤخذ من الحديث أنه يجب تقديم ما هو أوكد على المرء من أمر دينه لإنكار ابن عمر على من سأله عن دم البعوض مع تركه الاستغفار من الكبيرة التي ارتكبها بالإعانة على قتل الحسين فوبخه بذلك، وإنما خصه بالذكر لعظم قدر الحسين ومكانه من النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. والذي يظهر أن ابن عمر لم يقصد ذلك الرجل بعينه بل أراد التنبيه على جفاء أهل العراق وغلبة الجهل عليهم بالنسبة لأهل الحجاز، ولا مانع أن يكون بعد ذلك أفتى السائل عن خصوص ما سأل عنه لأنه لا يحل له كتمان العلم إلا إن حمل على أن السائل كان متعنتا. ويؤيد ما قلته أنه ليس في القصة ما يدل على أن السائل المذكور كان ممن أعان على قتل الحسين، فإن ثبت ذلك فالقول ما قال ابن بطال والله أعلم. قوله: "عبد الله بن أبي بكر" أي ابن محمد بن عمرو بن حزم، ومضى في الزكاة من رواية ابن المبارك عن معمر "عبد الله بن أبي بكر بن حزم" فنسب أباه لجد أبيه وإدخال الزهري بينه وبين عروة رجلا مما يؤذن بأنه قليل التدليس، وقد أخرجه الترمذي مختصرا من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن معمر بإسقاط عبد الله بن أبي بكر من السند، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون الزهري سمعه من عروة مختصرا

(10/427)


وسمعه عنه مطولا وإلا فالقول ما قال ابن المبارك. قوله: "جاءتني امرأة ومعها بنتان" لم أقف على أسمائهن، وسقطت الواو لغير أبي ذر من قوله: "ومعها" وكذا هو في رواية ابن المبارك. قوله: "فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها" زاد معمر "ولم تأكل منها شيئا". قوله: "ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته" هكذا في رواية عروة. ووقع في رواية عراك بن مالك عن عائشة "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهن تمرة، ورفعت تمرة إلى فيها لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها، فأعجبني شأنها" الحديث أخرجه مسلم. وللطبراني من حديث الحسن بن علي نحوه، ويمكن الجمع بأن مرادها بقوله في حديث عروة فلم تجد عندي غير تمرة واحدة أي أخصها بها، ويحتمل أنها لم يكن عندها في أول الحال سوى واحدة فأعطتها ثم وجدت ثنتين، ويحتمل تعدد القصة. قوله: "من يلي من هذه البنات شيئا" كذا للأكثر بتحتانية مفتوحة أوله من الولاية، وللكشميهني بموحدة مضمومة من البلاء. وفي رواية الكشميهني أيضا: "بشيء" وقواه عياض وأيده برواية شعيب بلفظ: "من ابتلي" وكذا وقع في رواية معمر عند الترمذي، واختلف في المراد بالابتلاء هل هو نفس وجودهن أو ابتلي بما يصدر منهن، وكذلك هل هو على العموم في البنات، أو المراد من اتصف منهن بالحاجة إلى ما يفعل به. قوله: "فأحسن إليهن" هذا يشعر بأن المراد بقوله في أول الحديث: "من هذه" أكثر من واحدة، وقد وقع في حديث أنس عند مسلم: "من عال جاريتين " ولأحمد من حديث أم سلمة " من أنفق على ابنتين أو أختين أو ذاتي قرابة يحتسب عليهما" والذي يقع في أكثر الروايات بلفظ الإحسان وفي رواية عبد المجيد فصبر عليهن، ومثله في حديث عقبة بن عامر في "الأدب المفرد" وكذا وقع في ابن ماجه وزاد: "وأطعمهن وسقاهن وكساهن" وفي حديث ابن عباس عند الطبراني فأنفق عليهن وزوجهن وأحسن أدبهن وفي حديث جابر عند أحمد وفي الأدب المفرد "يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن" زاد الطبري فيه: "ويزوجهن" وله نحوه من حديث أبي هريرة في "الأوسط" وللترمذي وفي "الأدب المفرد" من حديث أبي سعيد " فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن" وهذه الأوصاف يجمعها لفظ: "الإحسان" الذي اقتصر عليه في حديث الباب، وقد اختلف في المراد بالإحسان هل يقتصر به على قدر الواجب أو بما زاد عليه؟ والظاهر الثاني، فإن عائشة أعطت المرأة التمرة فآثرت بها ابنتيها فوصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان بما أشار إليه من الحكم المذكور، فدل على أن من فعل معروفا لم يكن واجبا عليه أو زاد على قدر الواجب عليه عد محسنا، والذي يقتصر على الواجب وإن كان يوصف بكونه محسنا لكن المراد من الوصف المذكور قدر زائد، وشرط الإحسان أن يوافق الشرع لا ما خالفه، والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل لفاعله إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهن عنه بزوج أو غيره كما أشير إليه في بعض ألفاظ الحديث، والإحسان إلى كل أحد بحسب حاله، وقد جاء أن الثواب المذكور يحصل لمن أحسن لواحدة فقط ففي حديث ابن عباس المتقدم "فقال رجل من الأعراب: أو اثنتين؟ فقال: أو اثنتين" وفي حديث عوف بن مالك عند الطبراني "فقالت امرأة" وفي حديث جابر "وقيل" وفي حديث أبي هريرة "قلنا" وهذا يدل على تعدد السائلين، وزاد في حديث جابر "فرأى بعض القوم أن لو قال وواحدة لقال وواحدة" وفي حديث أبي هريرة "قلنا: وثنتين؟ قال: وثنتين. قلنا: وواحدة؟ قال: وواحدة" وشاهده حديث ابن مسعود رفعه: " من كانت له ابنة فأدبها وأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأوسع عليها من نعمة الله التي أوسع عليه" أخرجه الطبراني بسند واه. قوله:

(10/428)


"كن له سترا من النار" كذا في أكثر الأحاديث التي أشرت إليها، ووقع في رواية عبد المجيد "حجابا" وهو بمعناه. وفي الحديث تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالبا عن القيام بمصالح أنفسهن، بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال. قال ابن بطال: وفيه جواز سؤال المحتاج، وسخاء عائشة لكونها لم تجد إلا تمرة فآثرت بها، وأن القليل لا يمتنع التصدق به لحقارته، بل ينبغي للمتصدق أن يتصدق بما تيسر له قل أو كثر. وفيه جواز ذكر المعروف إن لم يكن على وجه الفخر ولا المنة. وقال النووي تبعا لابن بطال: إنما سماه ابتلاء لأن الناس يكرهون البنات، فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك، ورغب في إبقائهن وترك قتلهن بما ذكر من الثواب الموعود به من أحسن إليهن وجاهد نفسه في الصبر عليهن. وقال شيخنا في "شرح الترمذي": يحتمل أن يكون معنى الابتلاء هنا الاختبار، أي من اختبر بشيء من البنات لينظر ما يفعل أيحسن إليهن أو يسيء، ولهذا قيده في حديث أبي سعيد بالتقوى، فإن من لا يتقي الله لا يأمن أن يتضجر بمن وكله الله إليه، أو يقصر عما أمر بفعله، أولا يقصد بفعله امتثال أمر الله وتحصيل ثوابه والله أعلم. قوله: "وأمامة بنت أبي العاص" أي ابن الربيع، وهي ابنة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فإذا ركع وضع" كذا للأكثر بحذف المفعول، وللكشميهني: "وضعها" وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الصلاة في أبواب سترة المصلي، ووقع هنا بلفظ: "ركع" وهناك بلفظ: "سجد" ولا منافاة بينهما بل يحمل على أنه كان يفعل ذلك في حال الركوع والسجود، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة، وهو رحمة الولد، وولد الولد ولد. ومن شفقته صلى الله عليه وسلم ورحمته لأمامة أنه كان إذا ركع أو سجد يخشى عليها أن تسقط فيضعها بالأرض وكأنها كانت لتعلقها به لا تصبر في الأرض فتجزع من مفارقته، فيحتاج أن يحملها إذا قام. واستنبط منه بعضهم عظم قدر رحمة الولد لأنه تعارض حينئذ المحافظة على المبالغة في الخشوع والمحافظة على مراعاة خاطر الولد فقدم الثاني، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لبيان الجواز. قوله: "أن أبا هريرة قال" كذا في رواية شعيب، ووقع عند مسلم من رواية سفيان بن عيينة ومعمر فرقهما كلاهما عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. قوله: "وعنده الأقرع بن حابس" الجملة حالية، وقد تقدم نسب الأقرع في تفسير سورة الحجرات، وهو من المؤلفة، وممن حسن إسلامه. قوله: "إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا" زاد الإسماعيلي في روايته: "ما قبلت إنسانا قط". قوله: "من لا يرحم لا يرحم" هو بالرفع فيهما على الخبر. وقال عياض: هو للأكثر. وقال أبو البقاء "من" موصولة ويجوز أن تكون شرطية فيقرأ بالجزم فيهما، قال السهيلي: جعله على الخبر أشبه بسياق الكلام، لأنه سيق للرد على من قال: "إن لي عشرة من الولد الخ" أي الذي يفعل هذا الفعل لا يرحم، ولو كانت شرطية لكان في الكلام بعض انقطاع لأن الشرط وجوابه كلام مستأنف. قلت: وهو أولى من جهة أخرى لأن يصير من نوع ضرب المثل، ورجح بعضهم كونها موصولة لكون الشرط إذا أعقبه نفي ينفى غالبا بلم، وهذا لا يقتضي ترجيحا إذا كان المقام لائقا بكونها شرطية. وأجاز بعض شراح "المشارق" الرفع في الجزءين والجزم فيهما والرفع في الأولى والجزم في الثاني وبالعكس فيحصل أربعة أوجه، واستبعد الثالث، ووجه بأنه يكون في الثاني بمعنى النهي أي لا ترحموا من لا يرحم الناس، وأما الرابع فظاهر وتقديره من لا يكن من أهل الرحمة فإنه لا يرحم، ومثله قول الشاعر:
فقلت له احمل فوق طوقك إنها ... مطوقة من يأتها لا يضيرها

(10/429)


وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأقرع إشارة إلى أن تقبيل الولد وغيره من الأهل المحارم وغيرهم من الأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة لا للذة والشهوة، وكذا الضم والشم والمعانقة. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة، ووقع في رواية الإسماعيلي: "عن هشام بن عروة عن أبيه". قوله: "جاء أعرابي" يحتمل أن يكون هو الأقرع المذكور في الذي قبله، ويحتمل أن يكون قيس بن عاصم التميمي ثم السعدي، فقد أخرج أبو الفرج الأصبهاني في "الأغاني" ما يشعر بذلك ولفظه: "عن أبي هريرة أن قيس بن عاصم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم" فذكر قصة فيها "فهل إلا أن تنزع الرحمة منك" فهذا أشبه بلفظ حديث عائشة. ووقع نحو ذلك لعيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري أخرجه أبو يعلى في مسنده بسند رجاله ثقات إلى أبي هريرة قال: "دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يقبل الحسن والحسين فقال: أتقبلهما يا رسول الله؟ إن لي عشرة فما قبلت أحدا منهم" ويحتمل أن يكون وقع ذلك لجميعهم فقد وقع في رواية مسلم: "قدم ناس من الأعراب فقالوا". قوله: "تقبلون الصبيان" كذا للأكثر بحذف أداة الاستفهام، وثبتت في رواية الكشميهني. قوله: "فما نقبلهم" وفي رواية الإسماعيلي: "فوالله ما نقبلهم" وعند مسلم: "فقال: نعم. قالوا: لكنا والله ما نقبل". قوله: "أو أملك" هو بفتح الواو والهمزة الأولى للاستفهام الإنكاري ومعناه النفي، أي لا أملك، أي لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه. ووقع عند مسلم بحذف الاستفهام وهي مرادة، وعند الإسماعيلي: "وما أملك" وله في أخرى "ما ذنبي إن كان الخ". قوله: "أن نزع" بفتح الهمزة في الروايات كلها مفعول أملك وحكى بعض شراح "المصابيح" كسر الهمزة على أنها شرط والجزاء محذوف، وهو من جنس ما تقدم، أي إن نزع الله الرحمة من قلبك لا أملك لك ردها إليه. ووقع في قصة عيينة "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم لا يرحم" . قوله: "حدثنا ابن أبي مريم" هو سعيد، ومدار هذا الحديث في الصحيحين عليه. وأبو غسان هو محمد بن مطرف، والإسناد منه فصاعدا مدنيون. قوله: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي" في رواية الكشميهني: "بسبي" وبضم قاف "قدم" وهذا السبي هو سبي هوازن. قوله: "فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي" كذا للمستملي والسرخسي بسكون المهملة من تحلب وضم اللام وثديها بالنصب وتسقي بفتح المثناة وبقاف مكسورة، وللباقين "قد تحلب" بفتح الحاء وتشديد اللام أي تهيأ لأن يحلب، وثديها بالرفع ففي رواية الكشميهني بالإفراد وللباقين "ثدياها" بالتثنية، وللكشميهني: "بسقي" بكسر الموحدة وفتح المهملة وسكون القاف وتنوين التحتانية وللباقين "تسعى" بفتح العين المهملة من السعي وهو المشي بسرعة. وفي رواية مسلم عن الحلواني وابن عسكر كلاهما عن ابن أبي مريم "تبتغي" بموحدة ساكنة ثم مثناة مفتوحة ثم غين معجمة من الابتغاء وهو الطلب، قال عياض: وهو وهم، والصواب ما في رواية البخاري. وتعقبه النووي بأن كلا من الروايتين صواب، فهي ساعية وطالبة لولدها. وقال القرطبي: لا خفاء بحسن رواية: "تسعى" ووضوحها، ولكن لرواية تبتغي وجها وهو تطلب ولدها، وحذف المفعول للعلم به، فلا يغلط الراوي مع هذا التوجيه. قوله: "إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها" كذا للجميع ولمسلم، وحذف منه شيء بينته رواية الإسماعيلي ولفظه: "إذا وجدت صبيا أخذته فأرضعته فوجدت صبيا فأخذته فألزمته بطنها" وعرف من سياقه أنها كانت فقدت صبيها وتضررت باجتماع اللبن في ثديها، فكانت إذا وجدت صبيا أرضعته ليخف عنها، فلما وجدت صبيها بعينه أخذته فالتزمته. ولم أقف على اسم هذا الصبي ولا على اسم أمه. قوله: "أترون؟"

(10/430)


بضم المثناة أي أتظنون؟ قوله: "قلنا لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه" أي لا تطرحه طائعة أبدا. وفي رواية الإسماعيلي: "فقلنا لا والله الخ". قوله: "لله" بفتح أوله لام تأكيد، وصرح بالقسم في رواية الإسماعيلي فقال: "والله لله أرحم الخ". قوله: "بعباده" كأن المراد بالعباد هنا من مات على الإسلام، ويؤيده ما أخرجه أحمد والحاكم من حديث أنس قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبي على الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني، وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال: ولا الله بطارح حبيبه في النار" فالتعبير بحبيبه يخرج الكافر. وكذا من شاء إدخاله ممن لم يتب من مرتكبي الكبائر. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لفظ العبد علم ومعناه خاص بالمؤمنين، وهو كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فهي عامة من جهة الصلاحية وخاصة بمن كتبت له قال: ويحتمل أن يكون المراد أن رحمة الله لا يشبهها شيء لمن سبق له منها نصيب من أي العباد كان حتى الحيوانات. وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله وحده، وأن كل من فرض أن فيه رحمة ما حتى يقصد لأجلها فالله سبحانه وتعالى أرحم منه، فليقصد العاقل لجاجته من هو أشد له رحمة، قال: وفي الحديث جواز نطر النساء المسبيات، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن النظر إلى المرأة المذكورة، بل في سياق الحديث ما يقتضي إذنه في النظر إليها. وفيه ضرب المثل بما يدرك بالحواس لما لا يدرك بها لتحصيل معرفة الشيء على وجهه، وإن كان الذي ضرب به المثل لا يحاط بحقيقته لأن رحمة الله لا تدرك بالعقل، ومع ذلك فقربها النبي صلى الله عليه وسلم للسامعين بحال المرأة المذكورة. وفيه جواز ارتكاب أخف الضررين، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه المرأة عن إرضاع للأطفال الذين أرضعتهم مع احتمال أن يكبر بعضهم فيتزوج بعض من أرضعته المرأة معه، لكن لما كانت حالة الإرضاع ناجزة، وما يخشى من المحرمية متوهم اغتفر. قلت: ولفظ الصبي بالتذكير في الخبر ينازع في ذلك، قال: وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وقد يستدل به على عكس ذلك، فأما الأول فمن جهة أن الأطفال لولا أنهم كان بهم ضرورة إلى الإرضاع قي تلك الحالة ما تركها النبي صلى الله عليه وسلم ترضع أحدا منهم، وأما الثاني وهو أقوى فلأنه أقرها على إرضاعهم من قبل أن تتبين الضرورة ا هـ ملخصا، ولا يخفي ما فيه.

(10/431)


باب جعل الله الرحمة في مائة جزء
...
19 - باب جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ
6000- حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ الْبَهْرَانِيُّ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءاً وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ" .
[الحديث 6000 – طرفه في: 6469]
قوله: "باب" بالتنوين "جعل الله الرحمة في مائة جزء" هكذا ترجم ببعض الحديث. وفي رواية النسفي "باب من الرحمة" وللإسماعيلي: "باب" بغير ترجمة. قوله: "البهراني" بفتح الموحدة وسكون الهاء نسبة إلى قبيلة من قضاعة

(10/431)


ينتهي نسبهم إلى بهر ابن عمرو بن الحاف بن قضاعة، نزل أكثرهم حمص في الإسلام. قوله: " جعل الله الرحمة في مائة جزء" قال الكرماني كان المعنى يتم بدون الظرف فلعل "في" زائدة أو متعلقة بمحذوف، وفيه نوع مبالغة إذ جعلها مظروفا لها معنى بحيث لا يفوت منها شيء. وقال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون سبحانه وتعالى لما من على خلقه بالرحمة جعلها في مائة وعاء فأهبط منها واحدا للأرض. قلت: خلت أكثر الطرق عن الظرف كرواية سعيد المقبري عن أبي هريرة الآتية في الرقاق "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة" ولمسلم من رواية عطاء عن أبي هريرة "إن لله مائة رحمة" وله من حديث سلمان " إن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات والأرض، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض" وقال القرطبي: يجوز أن يكون معنى "خلق" اخترع وأوجد، ويجوز أن يكون بمعنى قدر، وقد ورد خلق بمعنى قدر في لغة العرب فيكون المعنى أن الله أظهر تقديره لذلك يوم أظهر تقدير السماوات والأرض. وقوله: "كل رحمة تسع طباق الأرض" المراد بها التعظيم والتكثير، وقد ورد التعظيم بهذا اللفظ في اللغة والشرع كثيرا. قوله: "فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا" في رواية عطاء "وأخر عنده تسعة وتسعين رحمة" وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم: "وخبأ عنده مائة إلا واحدة". قوله: "وأنزل في الأرض جزءا واحدا" في رواية المقبري "وأرسل في خلقه كلهم رحمة" وفي رواية عطاء "أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والأنس والبهائم" وفي حديث سلمان "فجعل منها في الأرض واحدة" قال القرطبي هذا نص في أن الرحمة يراد بها متعلق الإرادة لا نفس الإرادة، وأنها راجعة إلى المنافع والنعم. قوله: "فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" في رواية عطاء "فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها" وفي حديث سلمان " فيها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض" قال ابن أبي جمرة: خص الفرس بالذكر لأنها أشد الحيوان المألوف الذي يعاين المخاطبون حركته مع ولده، ولما في الفرس من الخفة والسرعة في التنقل. ومع ذلك تتجنب أن يصل الضرر منها إلى ولدها. ووقع في حديث سلمان عند مسلم في آخره من الزيادة "فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة مائة" وفيه إشارة إلى أن الرحمة التي في الدنيا بين الخلق تكون فيهم يوم القيامة يتراحمون بها أيضا، وصرح بذلك المهلب فقال: الرحمة التي خلقها الله لعباده وجعلها في نفوسهم في الدنيا هي التي يتغافرون بها يوم القيامة التبعات بينهم. قال: ويجوز أن يستعمل الله تلك الرحمة فيهم فيرحمهم بها سوى رحمته التي وسعت كل شيء وهي التي من صفة ذاته ولم يزل موصوفا بها، فهي التي يرحمهم بها زائدا على الرحمة التي خلقها لهم، قال: ويجوز أن تكون الرحمة التي أمسكها عند نفسه هي التي عند ملائكته المستغفرين لمن في الأرض، لأن استغفارهم لهم دال على أن في نفوسهم الرحمة لأهل الأرض. قلت: وحاصل كلامه أن الرحمة رحمتان، رحمة من صفة الذات وهي لا تتعدد، ورحمة من صفة الفعل وهي المشار إليها هنا. ولكن ليس في شيء من طرق الحديث أن التي عند الله رحمة واحدة بل اتفقت جميع الطرق على أن عنده تسعة وتسعين رحمة، وزاد في حديث سلمان أنه يكملها يوم القيامة مائة بالرحمة التي في الدنيا، فتعدد الرحمة بالنسبة للخلق. وقال القرطبي: مقتضى هذا الحديث أن الله علم إن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع، فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد انتظمت به مصالحهم وحصلت به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي فبلغت مائة وكلها للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} فإن رحيما

(10/432)


من أبنية المبالغة التي لا شيء فوقها، ويفهم من هذا أن الكفار لا يبقى لهم حظ من الرحمة لا من جنس رحمات الدنيا ولا من غيرها إذا كمل كل ما كان في علم الله من الرحمات للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الآية. وقال الكرماني: الرحمة هنا عبارة عن القدرة المتعلقة بإيصال الخير، والقدرة في نفسها غير متناهية، والتعليق غير متناه، لكن حصره في مائة على سبيل التمثيل تسهيلا للفهم وتقليلا لما عند الخلق وتكثيرا لما عند الله سبحانه وتعالى، وأما مناسبة هذا العدد الخاص فحكى القرطبي عن بعض الشراح أن هذا العدد الخاص أطلق لإرادة التكثير والمبالغة فيه، وتعقبه بأنه لم تجر عادة العرب بذلك في المائة وإنما جرى في السبعين، كذا قال. وقال ابن أبي جمرة: ثبت أن نار الآخرة تفضل نار الدنيا بتسع وستين جزءا فإذا قوبل كل جزء برحمة زادت الرحمات ثلاثين جزءا، فيؤخذ منه أن الرحمة في الآخرة أكثر من النقمة فيها. ويؤيده قوله: "غلبت رحمتي غضبي" . قلت: لكن تبقى مناسبة خصوص هذا العدد، فيحتمل أن تكون مناسبة هذا العدد الخاص لكونه مثل عدد درج الجنة، والجنة هي محل الرحمة، فكان كل رحمة بإزاء درجة، وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى، فمن نالته منها رحمة واحدة كان أدنى أهل الجنة منزلة، وأعلاهم منزلة من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة. وقال ابن أبي جمرة: في الحديث إدخال السرور على المؤمنين، لأن العادة أن النفس يكمل فرحها بما وهب لها إذا كان معلوما مما يكون موعودا. وفيه الحث على الإيمان، واتساع الرجاء في رحمات الله تعالى المدخرة. قلت: وقد وقع في آخر حديث سعيد المقبري في الرقاق "فلو يعلم الكافر بكل ما عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة" وأفرده مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى.

(10/433)


20 - باب قَتْلِ الْوَلَدِ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ
6001- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ" وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الْآيَةَ".
قوله: "باب قتل الولد خشية أن يأكل معه" تقدير الكلام: قتل المرء ولده الخ فالضمير يعود للمقدر في قوله قتل الولد. ووقع لأبي ذر عن المستملي والكشميهني: "باب أي الذنب أعظم" وعند النسفي "باب من الرحمة". حديث ابن مسعود "أي الذنب أعظم" الحديث، سيأتي شرحه مستوفى في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(10/433)


21 - باب وَضْعِ الصَّبِيِّ فِي الْحِجْرِ
6002- حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام قال أخبرني أبي عن عائشة "أن النبي

(10/433)


22 - باب وَضْعِ الصَّبِيِّ عَلَى الْفَخِذِ
6003- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَارِمٌ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ يُحَدِّثُهُ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا" وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ التَّيْمِيُّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مِنْهُ شَيْءٌ قُلْتُ حَدَّثْتُ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي عُثْمَانَ فَنَظَرْتُ فَوَجَدْتُهُ عِنْدِي مَكْتُوباً فِيمَا سَمِعْتُ".
قوله: "باب وضع الصبي على الفخذ" هذه الترجمة أخص من التي قبلها، وذكر فيه حديث أسامة بن زيد. قوله: "عن أبيه" هو سليمان بن طرخان التيمي، وأبو تميمة هو طريف؛ بمهملة بوزن عظيم ابن مجالد بالجيم الهجيمي بالجيم مصغر. قوله: "فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر" استشكله الداودي فيما نقله ابن التين فقال: لا أدري ذلك وقع في وقت واحد لأن أسامة أكبر من الحسن، ثم أخذ يستدل على ذلك، والأمر فيه أوضح من أن يحتاج إلى دليل فإن أكثر ما قيل في عمر الحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين وأما أسامة فكان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، وقد أمره على الجيش الذي اشتمل على عدد كثير من كبار المسلمين كعمر كما تقدم بيانه في ترجمته في المناقب، وصرح جماعة بأنه كان عند موت النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وذكر الواقدي في المغازي عن محمد بن الحسن بن أسامة عن أهله قالوا: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسامة ابن تسع عشرة سنة" فيحتمل أن يكون ذلك وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة مراهق والحسن ابن سنتين مثلا ويكون إقعاده أسامة في حجره لسبب اقتضى ذلك كمرض مثلا أصاب أسامة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لمحبته فيه ومعزته عنده يمرضه بنفسه، فيحتمل أن يكون أقعده في تلك الحالة، وجاء الحسن ابن ابنته فأقعده على الفخذ الأخرى وقال معتذرا عن ذلك "إني أحبهما " والله أعلم. قوله: "وعن علي قال حدثنا يحيى حدثنا سليمان" أما علي فهو علي بن عبد الله المديني، وأما يحيى فهو ابن سعيد القطان، وأما سليمان فهو التيمي المذكور قبل، ثم هو معطوف على السند الذي قبله وهو قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" فيكون من رواية البخاري عن علي، ولكنه عبر عنه بصيغة عن فقال: "حدثنا عبد الله بن محمد الخ وعن علي الخ" ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله: "حدثنا عارم" فيكون من رواية البخاري عن شيخه بواسطة قرينه عبد الله بن محمد، ولا يستغرب ذلك من رواية الأقران ولا من البخاري فقد حدث بالكثير عن كثير من شيوخه ويدخل أحيانا بينهم الواسطة، وقد حدث عن عارم بالكثير بغير واسطة منها ما سيأتي قريبا من "باب قول النبي

(10/434)


صلى الله عليه وسلم يسروا ولا تعسروا" وأدخل هنا بينه وبين عبد الله بن محمد الجعفي، ووقع في بعض النسخ في آخر هذا الحديث: "قيل لأبي عبد الله: من يقول عن علي؟ فقال: حدثنا عبد الله بن محمد" انتهى فإن كان محفوظا صح الاحتمال الأخير وبالله التوفيق. قوله: "قال التيمي" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "فوقع في قلبي منه شيء" يعني شك هل سمعه من أبي تميمة عن أبي عثمان أو سمعه من أبي عثمان بغير واسطة، وفي السند على الأول ثلاثة بصريون من التابعين في نسق من سليمان التيمي فصاعدا، وليس لأبي تميمة في البخاري إلا هذا الحديث وآخر سيأتي في كتاب الأحكام من روايته عن جندب البجلي. قوله: "فوجدته عندي مكتوبا فيما سمعت" أي من أبي عثمان، فكأنه سمعه من أبي تميمة عن أبي عثمان ثم لقي أبا عثمان فسمعه منه أو كان سمعه من أبي عثمان فثبته فيه أبو تميمة، وانتزع منه بعضهم جواز الاعتماد في تحديثهم على خطه ولو لم يتذكر السماع، ولا حجة فيه لاحتمال التذكر في هذه الحالة، وقد ذكر ابن الصلاح المسألة ونقل الخلاف فيها، والراجح في الرواية الاعتماد.

(10/435)


23 - باب حُسْنُ الْعَهْدِ مِنْ الإِيمَانِ
6004- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ - وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي بِثَلاَثِ سِنِينَ - لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِي فِي خُلَّتِهَا مِنْهَا".
قوله: "باب حسن العهد من الإيمان" قال أبو عبيد: العهد هنا رعاية الحرمة. وقال عياض: هو الاحتفاظ بالشيء والملازمة له. وقال الراغب: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال. وعهد الله تارة يكون بما ركزه في العقل وتارة بما جاءت به الرسل، وتارة بما يلتزمه المكلف ابتداء كالنذر، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} وأما لفظ: "العهد" فيطلق بالاشتراك بإزاء معان أخرى، منها الزمان والمكان واليمين والذمة والصحة والميثاق والإيمان والنصيحة والوصية والمطر ويقال له العهاد أيضا. قوله: "عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة" قد تقدم شرحه في ترجمة خديجة من كتاب المناقب. وقوله: "على خديجة" يريد من خديجة فأقام "على" مقام "من" وحروف الجر تتناوب في رأي. أو "على" سببية أي بسبب خديجة. وقوله فيه: "ولقد أمره ربه الخ" تقدم شرحه هناك أيضا، ولكن أورده هناك من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وقوله فيه: "وإن كان ليذبح الشاة ثم ليهدي في خلتها منها" أي من الشاة المذبوحة، وزاد في رواية الليث عن هشام في فضل خديجة ما يسعهن، وقد تقدم هناك بيان الاختلاف في ضبط هذه اللفظة، وإن مخففة من الثقيلة، وخلتها بضم المعجمة أي خلائلها. وقال الخطابي: الخلة مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجماعة، تقول: رجل خلة وامرأة خلة وقوم خلة، ويحتمل أن يكون فيه محذوف تقديره: إلى أهل خلتها، أي أهل صداقتها، والخلة الصداقة والخليل الصديق. قلت: وقع في رواية مسلم من هذا الوجه بلفظ: "ثم نهديها إلى خلائلها" وسبق في المناقب من وجه آخر عن هشام بن عروة "وإلى أصدقائها" وللبخاري في "الأدب المفرد" من حديث أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي

(10/435)


بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة".
" تنبيه ": جرى البخاري على عادته في الاكتفاء بالإشارة دون التصريح، فإن لفظ الترجمة قد ورد في حديث يتعلق بخديجة رضي الله عنها أخرجه الحاكم والبيهقي في "الشعب" من طريق صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: "جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان" وأخرجه البيهقي أيضا من طريق مسلم بن جنادة عن حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مثله بمعنى القصة وقال: غريب. ومن طريق أبي سلمة عن عائشة نحوه وإسناده ضعيف.

(10/436)


باب فضب من يعول يتيما
...
24 - باب فَضْلِ مَنْ يَعُولُ يَتِيماً
6005- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى" .
قوله: "باب فضل من يعول يتيما" أي يربيه وينفق عليه. قوله: "عبد العزيز بن أبي حازم" أي سلمة بن دينار. قوله: "أنا وكافل اليتيم" أي القيم بأمره ومصالحه، زاد مالك من مرسل صفوان بن سليم "كافل اليتيم له أو لغيره" ووصله البخاري في "الأدب المفرد" والطبراني من رواية أم سعيد بنت مرة الفهرية عن أبيها، ومعنى قوله له بأن يكون جدا أو عما أو أخا أو نحو ذلك من الأقارب، أو يكون أبو المولود قد مات فتقوم أمه مقامه أو ماتت أمه فقام أبوه في التربية مقامها. وأخرج البزار من حديث أبي هريرة موصولا "من كفل يتيما ذا قرابة أو لا قرابة له " وهذه الرواية تفسر المراد بالرواية التي قبلها. قوله: "وأشار بإصبعيه السبابة" في رواية الكشميهني: "السباحة" بمهملة بدل الموحدة الثانية، والسباحة هي الأصبع التي تلي الإبهام سميت بذلك لأنها يسبح بها في الصلاة فيشار بها في التشهد لذلك، وهي السبابة أيضا لأنها يسب بها الشيطان حينئذ. قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك. قلت: قد تقدم الحديث في كتاب اللعان وفيه: "وفرج بينهما" أي بين السبابة والوسطى، وفيه إشارة إلى أن بين درجة النبي صلى الله عليه وسلم وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة والوسطى، وهو نظير الحديث الآخر "بعثت أنا والساعة كهاتين " الحديث، وزعم بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك استوت إصبعاه في تلك الساعة ثم عادتا إلى حالهما الطبيعية الأصلية تأكيدا لأمر كفالة اليتيم. قلت: ومثل هذا لا يثبت بالاحتمال، ويكفي في إثبات قرب المنزلة من المنزلة أنه ليس بين الوسطى والسبابة إصبع أخرى، وقد وقع في رواية لأم سعيد المذكورة عند الطبراني " معي في الجنة كهاتين" يعني المسبحة والوسطى "إذا اتقى" ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حالة دخول الجنة، لما أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة رفعه: "أنا أول من يفتح باب الجنة فإذا امرأة تبادرني فأقول: من أنت فتقول: أنا امرأة تأيمت على أيتام لي" ورواته لا بأس بهم، وقوله: "تبادرني" أي لتدخل معي أو تدخل في أثري، ويحتمل أن يكون المراد بمجموع الأمرين: سرعة الدخول، وعلو المنزلة. وقد أخرج أبو داود من حديث عوف بن مالك رفعه: "أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة: امرأة ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى ماتوا أو بانوا" فهذا

(10/436)


فيه قيد زائد وتقييد في الرواية التي أشرت إليها بقوله: "اتقي الله" أي فيما يتعلق باليتيم المذكور. وقد أخرج الطبراني في "المعجم الصغير" من حديث جابر "قلت يا رسول الله مم أضرب منه يتيمي؟ قال: مم كنت ضاربا منه ولدك غير واق مالك بماله" وقد زاد في رواية مالك المذكور "حتى يستغني عنه" فيستفاد منه أن للكفالة المذكورة أمدا. قال شيخنا في "شرح الترمذي" لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي أو منزلة النبي لكون النبي شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومعلما ومرشدا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه، ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه، فظهرت مناسبة ذلك اهـ ملخصا.

(10/437)


25 - باب السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ
6006- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ" .
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... مِثْلَهُ.
قوله: "باب الساعي على الأرملة" أي في مصالحها. ذكر فيه حديث أبي هريرة ذكره موصولا وحديث صفوان بن سليم مرسلا كلاهما من رواية مالك، وقد تقدم شرحه في كتاب النفقات.

(10/437)


26 - باب السَّاعِي عَلَى الْمِسْكِينِ
6007- حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وأحسبه قال كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر" .
قوله: "باب الساعي على المسكين" ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور قبله مقتصرا عليه دون المرسل، ووقع في هذه الرواية: "كالمجاهد في سبيل الله" وأحسبه قال يشك القعنبي وهو رواية عن مالك "كالقائم لا يفتر" ولفظ الرواية التي قبلها لإسماعيل بن أبي أويس عن مالك "كالمجاهد أو كالذي يصوم" الحديث، وقد تقدم بيان ذلك واضحا في كتاب النفقات.

(10/437)


27 - باب رَحْمَةِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ
6008- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا وَسَأَلَنَا عَمَّنْ

(10/437)


28- باب الْوَصَاةِ بِالْجَارِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إِلَى قَوْلِهِ {مُخْتَالاً فَخُوراً}

(10/440)


6014- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ" .
6015- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ" .
قوله: "باب الوصاة بالجار" بفتح الواو وتخفيف الصاد المهملة مع المد لغة في الوصية، وكذا الوصاية بإبدال الهمزة ياء وهما بمعنى، لكن الأول من أوصيت والثاني من وصيت.
" تنبيه ": وقع في شرح شيخنا ابن الملقن هنا بسملة وبعدها كتاب البر والصلة ولم أر ذلك في شيء من الروايات التي اتصلت لنا، ويؤيد ما عندنا أن أحاديث صلة الرحم تقدمت وأحاديث بر الوالدين قبلها والوصية بالجار وما يتعلق بها ذكرت هنا وتلاها باقي أبواب الأدب وقوله هنا بعد الباب: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} يؤيد ذلك لأنه بوب على ترتيب ما في هذه الآية، فبدأ ببر الوالدين وثني بذي القربى وثلث بالجار وربع بالصاحب. ولم يقع ذلك أيضا في مستخرج الإسماعيلي ولا أبي نعيم. قوله: "وقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية" كذا لأبي ذر وللباقين بعد قوله: {إِحْسَاناً} إلى قوله: {مُخْتَالاً فَخُوراً} وللنسفي وقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية، والمراد من هذه الآية هنا قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} وثبت للنسفي البسملة قبل الباب وكأنه للانتقال إلى نوع غير الذي قبله، ورأيت في شرح شيخنا سراج الدين بن الملقن كتاب البر والصلة ولم أره لغيره، والجار القريب من بينهما قرابة والجار الجنب بخلافه وهذا قول الأكثر، وأخرجه الطبري بسند حسن عن ابن عباس، وقيل الجار القريب المسلم والجار الجنب غيره وأخرجه أيضا الطبري عن نوف البكالي أحد التابعين، وقيل: الجار القريب المرأة والجنب الرفيق في السفر. ثم ذكر فيه حديثين: الحديث الأول: حديث عائشة. قوله: "أبو بكر بن محمد" أي ابن عمرو بن حزم، وعمرة هي أمه، والسند كله كوفيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق، وقد سمع يحيى بن سعيد وهو الأنصاري من عمرة كثيرا وربما دخل بينهما واسطة مثل هذا، وروايته عن أبي بكر المذكور من الأقران. قوله: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" أي يأمر عن الله بتوريث الجار من جاره. واختلف في المراد بهذا التوريث فقيل: يجعل له مشاركة في المال بفرض سهم يعطاه مع الأقارب، وقيل: المراد أن ينزل منزلة من يرث بالبر والصلة، والأول أظهر فإن الثاني استمر، والخبر مشعر بأن التوريث لم يقع. ويؤيده ما أخرجه البخاري من حديث جابر نحو حديث الباب بلفظ: "حتى ظننت أنه يجعل له ميراثا" وقال ابن أبي جمرة: الميراث على قسمين حسي ومعنوي، فالحسي هو المراد هنا، والمعنوي ميراث العلم، ويمكن أن يلحظ هنا أيضا فإن حق الجار على الجار أن يعلمه ما يحتاج إليه والله أعلم. واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب دارا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد، وعكسه

(10/441)


من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك، فيعطي كل حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوي، وقد حمله عبد الله بن عمرو أحد من روى الحديث على العموم، فأمر لما ذبحت له شاة أن يهدى منها لجاره اليهودي، أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وحسنه، وقد وردت الإشارة إلى ما ذكرته في حديث مرفوع أخرجه الطبراني من حديث جابر رفعه: "الجيران ثلاثة: جار له حق وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق مسلم له رحم له حق الجوار والإسلام والرحم" قال القرطبي: الجار يطلق ويراد به الداخل في الجوار، ويطلق ويراد به المجاور في الدار وهو الأغلب، والذي يظهر أنه المراد به في الحديث الثاني لأن الأول كان يرث ويورث، فإن كان هذا الخبر صدر قبل نسخ التوريث بين المتعاقدين فقد كان ثابتا فكيف يترجى وقوعه؟ وإن كان بعد النسخ فكيف يظن رجوعه بعد رفعه؟ فتعين أن المراد به المجاور في الدار. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة كالهدية، والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك. وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية. وقد نفى صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يأمن جاره بوائقه كما في الحديث الذي يليه، وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار وأن إضراره من الكبائر. قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح. والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه ويبين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضا ويستر عليه زلله عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فبه وإلا فيهجره قاصدا تأديبه على ذلك مع إعلامه بالسبب ليكف، وسيأتي القول في حد الجار في "باب حق الجوار" قريبا انتهى ملخصا. قوله: "عمر بن محمد" أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وذكر لفظه مثل لفظ حديث عائشة، وقد روي هذا المتن أيضا أبو هريرة وهو في صحيح ابن حبان، وعبد الله بن عمرو بن العاص وهو عند أبي داود والترمذي، وأبو أمامة وهو عند الطبراني. ووقع عنده في حديث عبد الله بن عمرو أن ذلك كان في حجة الوداع، وله في لفظ: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" فأفاد أنه وقع لعبد الله بن عمرو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نظير ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل ولأحمد من حديث رجل من الأنصار "خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به قائم ورجل مقبل عليه، فجلست حتى جعلت أرثي له من طول القيام، فذكرت له ذلك فقال: "أتدري من هذا؟ قلت لا. قال: هذا جبريل" فذكر مثل حديث ابن عمر سواء. وأخرج عبد بن حميد نحوه من حديث جابر فأفاد سبب الحديث، ولم أر في شيء من طرقه بيان لفظ وصية جبريل، إلا أن الحديث يشعر بأنه بالغ في تأكيد حق الجار. وقال ابن أبي جمرة: يستفاد من الحديث أن من أكثر من شيء من أعمال البر يرجى له الانتقال إلى ما هو أعلى منه، وأن الظن إذا كان في طريق الخير جاز ولو لم يقع المظنون، بخلافه ما إذا كان في طريق الشر. وفيه جواز الطمع في الفضل إذا توالت النعم. وفيه جواز التحدث بما يقع في النفس من أمور الخير. والله أعلم.

(10/442)


29 - باب إِثْمِ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ. يُوبِقْهُنَّ: يُهْلِكْهُنَّ. مَوْبِقاً: مَهْلِكاً
6016- حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ" . تَابَعَهُ شَبَابَةُ وَأَسَدُ بْنُ مُوسَى وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ الأَسْوَدِ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قوله: "باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه" البوائق بالموحدة والقاف جمع بائقة وهي الداهية والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يوافي بغتة. قوله: "يوبقهن يهلكهن، موبقا مهلكا" هما أثران قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} قال: يهلكهن. وقال في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} أي متوعدا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} أي مهلكا. قوله: "عن سعيد" هو المقبري، ووقع منسوبا غير مسمى عند الإسماعيلي عن محمد بن يحيى بن سليمان عن عاصم بن علي شيخ البخاري فيه، وأخرجه أبو نعيم من طريق عمر بن حفص ومن طريق إبراهيم الحربي كلاهما عن عاصم بن علي مسمى منسوبا قال: "عن سعيد المقبري". قوله: "عن أبي شريح" هو الخزاعي، ووقع كذلك عند أبي نعيم واسمه على المشهور خويلد وقيل عمرو وقيل: هانئ وقيل: كعب. قوله: "والله لا يؤمن" وقع تكريرها ثلاثا صريحا، ووقع عند أحمد "والله لا يؤمن ثلاثا" وكأنه اختصار من الراوي، ولأبي يعلى من حديث أنس "ما هو بمؤمن" وللطبراني من حديث كعب بن مالك "لا يدخل الجنة" ولأحمد نحوه عن أنس بسند صحيح. قوله: "قيل: يا رسول الله ومن؟" هذه الواو يحتمل أن تكون زائدة أو استئنافية أو عاطفة على شيء مقدر أي عرفنا ما المراد مثلا ومن المحدث عنه، ووقع لأحمد من حديث ابن مسعود أنه السائل عن ذلك، وذكره المنذري في ترغيبه بلفظ: "قالوا يا رسول الله لقد خاب وخسر من هو" وعزاه للبخاري وحده، وما رأيته فيه بهذه الزيادة ولا ذكرها الحميدي في الجمع. قوله: "قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه" في حديث أنس "من لم يأمن" وفي حديث كعب "من خاف" زاد أحمد والإسماعيلي: "قالوا: وما بوائقه؟ قال: شره" وعند المنذري هذه الزيادة للبخاري ولم أرها فيه.
" تنبيه ": في المتن جناس بليغ وهو من جناس التحريف، وهو قوله: "لا يؤمن ولا يأمن" فالأول من الإيمان والثاني من الأمان. قوله: "تابعه شبابة وأسد بن موسى" يعني عن ابن أبي ذئب في ذكر أبي شريح، فأما رواية شبابة وهو ابن سوار المدايني فأخرجها الإسماعيلي، وأما رواية أسد بن موسى وهو الأموي المعروف بأسد السنة فأخرجها الطبراني في "مكارم الأخلاق". قوله: "وقال حميد بن الأسود وعثمان بن عمر وأبو بكر بن عياش وشعيب بن إسحاق عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة" يعني اختلف أصحاب ابن أبي ذئب عليه في صحابي هذا الحديث فالثلاثة الأول قالوا فيه عن أبي شريح، والأربعة قالوا عن أبي هريرة. وقد نقل أبو معين الرازي عن أحمد أن من سمع من ابن أبي ذئب بالمدينة فإنه يقول عن أبي هريرة، ومن سمع منه ببغداد فإنه يقول عن أبي شريح قلت: ومصداق ذلك أن ابن وهب وعبد العزيز الدراوردي وأبا عمرو العقدي وإسماعيل بن أبي أويس وابن

(10/443)


أبي فديك ومعن بن عيسى إنما سمعوا من ابن أبي ذئب بالمدينة وقد قالوا كلهم فيه: "عن أبي هريرة" وقد أخرجه الحاكم من رواية ابن وهب ومن رواية إسماعيل ومن رواية الدراوردي، وأخرجه الإسماعيلي من رواية معن والعقدي وابن أبي فديك وأما حميد بن الأسود وأبو بكر بن عياش اللذان علقه البخاري من طريقهما فهما كوفيان وسماعهما من ابن أبي ذئب أيضا بالمدينة لما حجا، وأما عثمان بن عمر فهو بصري وقد أخرج أحمد الحديث عنه كذلك، وأما رواية شعيب بن إسحاق فهو شامي وسماعه من ابن أبي ذئب أيضا بالمدينة، وقد أخرجه أحمد أيضا عن إسماعيل بن عمر فقال: "عن أبي هريرة" وإسماعيل واسطي. وممن سمعه ببغداد من ابن أبي ذئب يزيد بن هارون وأبو داود الطيالسي وحجاج بن محمد وروح بن عبادة وآدم بن أبي إياس وقد قالوا كلهم "عن أبي شريح" وهو في مسند الطيالسي كذلك، وعند الإسماعيلي من رواية يزيد، وعند الطبراني من رواية آدم، وعند أحمد من رواية حجاج وروح بن عبادة، ويزيد واسطي سكن بغداد، وأبو داود وروح بصريان وحجاج بن محمد مصيصي، وآدم عسقلاني، وكانوا كلهم يقدمون بغداد ويطلبون بها الحديث، وإذا تقرر ذلك فالأكثر قالوا فيه: "عن أبي هريرة" فكان ينبغي ترجيحهم. ويؤيده أن الراوي إذا حدث في بلده كان أتقن لما يحدثه به في حال سفره، ولكن عارض ذلك أن سعيدا المقبري مشهور بالرواية عن أبي هريرة فمن قال عنه: "عن أبي هريرة" سلك الجادة، فكانت مع من قال عنه: "عن أبي شريح" زيادة علم ليست عند الآخرين، وأيضا فقد وجد معنى الحديث من رواية الليث عن سعيد المقبري عن أبي شريح كما سيأتي بعد باب، فكانت فيه تقوية لمن رآه عن ابن أبي ذئب فقال فيه: "عن أبي شريح" ومع ذلك فصنيع البخاري يقتضي تصحيح الوجهين، وإن كانت الرواية عند أبي شريح أصح. وقد أخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة ذاهلا عن الذي أورده البخاري بل وعن تخريج مسلم له من وجه آخر عن أبي هريرة فقال بعد تخريجه: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ وإنما أخرجاه من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" وتعقبه شيخنا في أماليه بأنهما لم يخرجا طريق أبي الزناد ولا واحد منهما. وإنما أخرج مسلم طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة باللفظ الذي ذكره الحاكم. قلت: وعلى الحاكم تعقب آخر وهو أن مثل هذا لا يستدرك لقرب اللفظين في المعنى، قال ابن بطال: في هذا الحديث تأكيد حق الجار لقسمه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتكريره اليمين ثلاث مرات، وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل ومراده الإيمان الكامل، ولا شك أن العاصي غير كامل الإيمان. وقال النووي عن نفي الإيمان في مثل هذا جوابان: أحدهما: أنه في حق المستحل، والثاني: أن معناه ليس مؤمنا كاملا اهـ. ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يجازي مجازاة المؤمن بدخول الجنة من أول وهلة مثلا، أو أن هذا خرج مخرج الزجر والتغليظ، وظاهره غير مراد، والله أعلم. وقال ابن أبي جمرة: إذا أكد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه وأمر بحفظه وإيصال الخير إليه وكف أسباب الضرر عنه فينبغي له أن يراعي حق الحافظين اللذين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات، فقد جاء أنهما يسران بوقوع الحسنات ويحزنان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات والمواظبة على اجتناب المعصية، فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران اهـ ملخصا.

(10/444)


30 - باب لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا
6017- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ" .
قوله: "باب لا تحقرن جارة لجارتها" كذا حذف المفعول اكتفاء بشهرة الحديث. وأورد فيه حديث أبي هريرة في ذلك، واتفق أن هذا الحديث ورد من طريق سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة والحديث قبله من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة ليس بينهما واسطة، وكل من الطريقين صحيح لأن سعيدا أدرك أبا هريرة وسمع منه أحاديث وسمع من أبيه عن أبي هريرة أشياء كان يحدث بها تارة عن أبي هريرة بلا واسطة، وقد ذكر البخاري بعضها وبين الاختلاف على سعيد فيها، وهي محمولة على أنه سمعها من أبي هريرة واستثبت أباه فيها، فكان يحدث بها تارة عن أبيه عن أبي هريرة وتارة عنه بلا واسطة، ولم يكن مدلسا، وإلا لحدث بالجميع عن أبي هريرة والله أعلم. وبقية المتن " ولو فرسن شاة " بكسر الفاء وسكون الراء وكسر المهملة ثم نون: حافر الشاة. وقد تقدم شرحه مستوفى في "كتاب الهبة" والكلام على إعراب يا نساء المسلمات، وحاصله أن فيه اختصارا. لأن المخاطبين يعرفون المراد منه، أي لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئا ولو أنها تهدي لها ما لا ينتفع به في الغالب، ويحتمل أن يكون من باب النهي عن الشيء أمر بضده، وهو كناية عن التحابب والتوادد، فكأنه قال: لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير، وخص النهي بالنساء لأنهن موارد المودة والبغضاء، ولأنهن أسرع انفعالا في كل منهما. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون النهي للمعطية، ويحتمل أن يكون للمهدي إليها. قلت: ولا يتم حمله على المهدي إليها إلا بجعل اللام في قوله لجارتها بمعنى من ولا يمتنع حمله على المعنيين.

(10/445)


31 - باب مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ
6018- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ" .
6019- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ قَالَ وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ" .
[الحديث 6019 – طرفاه في: 6135، 6476]
قوله: "باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره" ذكر فيه حديثا لأبي هريرة في ذلك وآخر لأبي شريح. قوله: "أبو الأحوص" هو سلام بالتشديد ابن سليم، وأبو حصين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم، وأبو

(10/445)


صالح هو ذكوان. قوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " المراد بقوله يؤمن الإيمان الكامل، وخصه بالله واليوم الآخر إشارة إلى المبدأ والمعاد، أي من آمن بالله الذي خلقه وآمن بأنه سيجازيه بعمله فليفعل الخصال المذكورات. قوله: "فلا يؤذ جاره" في حديث أبي شريح "فليكرم جاره" وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة من طريق الأعمش عن أبي صالح بلفظ: "فليحسن إلى جاره" وقد ورد تفسير الإكرام والإحسان للجار وترك أذاه في عدة أحاديث أخرجها الطبراني من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأبو الشيخ في "كتاب التوبيخ" من حديث معاذ بن جبل "قالوا يا رسول الله ما حق الجار على الجار؟ قال: إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنيته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده" وألفاظهم متقاربة، والسياق أكثره لعمرو بن شعيب. وفي حديث بهز بن حكيم "وإن أعوز سترته" وأسانيدهم واهية لكن اختلاف مخارجها يشعر بأن الحديث أصلا. ثم الأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فرض عين وقد يكون فرض كفاية وقد يكون مستحبا، ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق. قوله: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" زاد في حديث أبي شريح "جائزته. قال: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام" الحديث وسيأتي شرحه بعد نيف وخمسين بابا في "باب إكرام الضيف" إن شاء الله تعالى. قوله: " ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" بضم الميم ويجوز كسرها، وهذا من جوامع الكلم لأن القول كله إما خير وإما شر وإما آيل إلى أحدهما؛ فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها، فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إلى الشر فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت. وقد أخرج الطبراني والبيهقي في "الزهد" من حديث أبي أمامة نحو حديث الباب بلفظ: "فليقل خيرا ليغنم، أو ليسكت عن شر ليسلم" واشتمل حديث الباب من الطريقين على أمور ثلاثة تجمع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية، أما الأولان فمن الفعلية، وأولهما يرجع إلى الأمر بالتخلي عن الرذيلة والثاني يرجع إلى الأمر بالتحلي بالفضيلة، وحاصله من كان حامل الإيمان فهو متصف بالشفقة على خلق الله قولا بالخير وسكوتا عن الشر وفعلا لما ينفع أو تركا لما يضر، وفي معنى الأمر بالصمت عدة أحاديث: منها حديث أبي موسى وعبد الله بن عمرو بن العاص "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه" وقد تقدما في كتاب الإيمان، وللطبراني عن ابن مسعود "قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل" فذكر فيها " أن يسلم المسلمون من لسانك" ولأحمد وصححه ابن حبان من حديث البراء رفعه في ذكر أنواع من البر "قال فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير" وللترمذي من حديث ابن عمر "من صمت نجا" وله من حديثه "كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسي القلب" وله من حديث سفيان الثقفي "قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي؟ قال: هذا. وأشار إلى لسانه" وللطبراني مثله من حديث الحارث بن هشام وفي حديث معاذ عند أحمد والترمذي والنسائي: "أخبرني بعمل يدخلني الجنة" فذكر الوصية بطولها وفي آخرها " ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا. وأشار إلى لسانه " الحديث. وللترمذي من حديث عقبة بن عامر "قلت: يا رسول

(10/446)


الله ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك" .

(10/447)


32 - باب حَقِّ الْجِوَارِ فِي قُرْبِ الأَبْوَابِ
6020- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَاباً" .
قوله: "باب حق الجوار في قرب الأبواب" ذكر فيه حديث عائشة "قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابا" وقد تقدم الكلام على سنده مستوفي في كتاب الشفعة. وقوله: "أقربهما" أي أشدهما قربا. قيل: الحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها فيتشوف لها بخلاف الأبعد وأن الأقرب أسرع إجارة لما يقع لجاره من المهمات ولا سيما في أوقات الغفلة. وقال ابن أبي جمرة: الإهداء إلى الأقرب مندوب، لأن الهدية في الأصل ليست واجبة فلا يكون الترتيب فيها واجبا. ويؤخذ من الحديث أن الأخذ في العمل بما هو أعلى أولى، وفيه تقديم العلم على العمل. واختلف في حد الجوار: فجاء عن علي رضي الله عنه "من سمع النداء فهو جار" وقيل: "من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار" وعن عائشة "حد الجوار أربعون دارا من كل جانب" وعن الأوزاعي مثله. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" مثله عن الحسن، وللطبراني بسند ضعيف عن كعب بن مالك مرفوعا: "ألا إن أربعين دارا جار" وأخرج ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب "أربعون دارا عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه" وهذا يحتمل كالأولى، ويحتمل أن يريد التوزيع فيكون من كل جانب عشرة.

(10/447)


33 - باب كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ
6021- حدثنا علي بن عياش حدثنا أبو غسان قال حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل معروف صدقة" .
6022- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ أَوْ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ" .
قوله: "باب كل معروف صدقة" أورد فيه حديث جابر بهذا اللفظ، وقد أخرج مسلم من حديث حذيفة وقد أخرجه الدار قطني والحاكم من طريق عبد الحميد بن الحسن الهلالي عن ابن المنكدر مثله وزاد في آخره: " وما أنفق الرجل على أهله كتب له به صدقة، وما وقى به المرء عرضه فهو صدقة" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من طريق محمد بن المنكدر عن أبيه كالأول وزاد: ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تلقي من دلوك

(10/447)


34 - باب طِيبِ الْكَلاَمِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ"
6023- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: "ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ". قَالَ شُعْبَةُ: أَمَّا مَرَّتَيْنِ فَلاَ أَشُكُّ ثُمَّ قَالَ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ" .
قوله: "باب طيب الكلام" أصل الطيب ما تستلذه الحواس، ويختلف باختلاف متعلقه، قال ابن بطال: طيب الكلام من جليل عمل البر لقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية، والدفع قد يكون بالقول كما يكون

(10/448)


بالفعل. قوله: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: الكلمة الطيبة صدقة" هو طرف من حديث أورده المصنف موصولا في كتاب الصلح وفي كتاب الجهاد، وقد تقدم الكلام عليه هناك في "باب من أخذ بالركاب" قال ابن بطال: وجه كون الكلمة الطيبة صدقة أن إعطاء المال يفرح به قلب الذي يعطاه ويذهب ما في قلبه، وكذلك الكلام الطيب فاشتبها من هذه الحيثية. ذكر المصنف حديث عدي بن حاتم، وفيه: " اتقوا النار ولو بشق تمرة؛ فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة" وقوله: "أخبرني عمرو" كذا لهم وهو ابن مرة، وقد تقدم الحديث من طريق شعبة عنه في كتاب الزكاة مع شرحه، وخيثمة شيخ عمرو هو ابن عبد الرحمن، وتقدم الحديث مبسوطا في علامات النبوة.

(10/449)


35 - باب الرِّفْقِ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ
6024- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: "دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ قَالَتْ عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ قَالَتْ: فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَهْلاً يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ" .
6025- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَعْرَابِيّاً بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامُوا إِلَيْهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُزْرِمُوهُ ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ" .
قوله: "باب الرفق في الأمر كله" الرفق بكسر الراء وسكون الفاء بعدها قاف هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف. حديث عائشة في قصة اليهود لما قالوا السام عليكم، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان، وقوله: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" في حديث عمره عن عائشة عند مسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" والمعنى أنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده، وقيل: المراد يثيب عليه ما لا يثيب على غيره، والأول أوجه. وله في حديث شريح بن هانئ عنها "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شأنه" وفي حديث أبي الدرداء "من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير" الحديث، وأخرجه الترمذي وصححه وابن خزيمة. وفي حديث جرير عند مسلم: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله" وقوله فيه: "عن صالح" هو ابن كيسان. حديث أنس في قصة الذي بال في المسجد، وقد تقدم مشروحا في كتاب الطهارة، وقوله: "لا تزرموه" بضم أوله وسكون الزاي وكسر الراء من الإزرام، أي لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم البول إذا انقطع وأزرمته قطعته، وكذلك يقال في الدمع.

(10/449)


36 - باب تَعَاوُنِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضاً
6026- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي جَدِّي

(10/449)


37 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً}
كِفْلٌ: نَصِيبٌ. قَالَ أَبُو مُوسَى: كِفْلَيْنِ: أَجْرَيْنِ بِالْحَبَشِيَّةِ
6028- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ قَالَ: اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ" .
قوله: "باب قول الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} " كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: {مُقِيتاً} وقد عقب المصنف الحديث المذكور قبله بهذه الترجمة إشارة إلى أن الأجر على الشفاعة ليس على العموم بل مخصوص بما تجوز فيه الشفاعة وهي الشفاعة الحسنة، وضابطها ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه كما دلت عليه الآية، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن مجاهد قال: هي في شفاعة الناس بعضهم لبعض، وحاصله أن من

(10/451)


شفع لأحد في الخير كان له نصيب من الأجر ومن شفع له بالباطل كان له نصيب من الوزر، وقيل: الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمن والسيئة الدعاء عليه. قوله: "كفل نصيب" هو تفسير أبي عبيدة. وقال الحسن وقتادة: الكفل الوزر والإثم. وأراد المصنف أن الكفل يطلق ويراد به النصيب، ويطلق ويراد به الأجر، وأنه في آية النساء بمعنى الجزاء، وفي آية الحديد بمعنى الأجر. ثم ذكر حديث أبي موسى، وقد أشرت إلى ما فيه في الذي قبله. ووقع فيه: "إذا أتاه صاحب الحاجة" وعند الكشميهني: "صاحب حاجة". قوله: "قال أبو موسى: كفلين أجرين بالحبشية" وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبي موسى الأشعري في قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} قال: ضعفين بالحبشية أجرين.

(10/452)


38 - باب لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً
6029- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ سَمِعْتُ مَسْرُوقاً قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ح وحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حِينَ قَدِمَ مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْكُوفَةِ فَذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَمْ يَكُنْ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً وَقَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَخْيَرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ خُلُقاً ".
6030- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ يَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَالَ: مَهْلاً يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ" .
6031- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا أَبُو يَحْيَى هُوَ فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلاَلِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّاباً وَلاَ فَحَّاشاً وَلاَ لَعَّاناً كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ" .
[الحديث 6031 – طرفه في: 6046]
6032- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ " أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشاً إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ" .
[الحديث 6032 – طرفاه في: 6054، 6131]

(10/452)


قوله: "باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفاحشا" كذا للأكثر، وللكشميهني: "ولا متفحشا" بالتشديد كما في لفظ حديث عبد الله بن عمرو في الباب، ووقع في بعضها بلفظ: "متفاحشا" والفحش كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، ويدخل في القول والفعل، والصفة، يقال طويل فاحش الطول إذا أفرط في طوله، لكن استعماله في القول أكثر. والمتفحش بالتشديد الذي يتعمد ذلك ويكثر منه ويتكلفه. وأغرب الداودي فقال: الفاحش الذي يقول الفحش، والمتفحش الذي يستعمل الفحش ليضحك الناس. حديث عبد الله بن عمرو، أورده من طريق شعبة عن سليمان وهو الأعمش سمعت أبا وائل، ومن طريق جرير عن الأعمش عن شقيق بن سلمة وهو أبو وائل المذكور، وقد تقدم المتن بتمامه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء في معناه، وفيه أيضا قوله: "إن من خيركم أحسنكم أخلاقا" ووقع هنا للكشميهني: "إن خيركم" وتبين بالرواية الأخرى أن "من" مرادة فيه. ووقع للأكثر "أخيركم" بوزن أفضلكم ومعناه وهي على الأصل، والرواية الأخرى بمعناها، يقال فلان خير من فلان أي أفضل منه، وقد أخرج أحمد والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أسامة رفعه: "إن الله لا يحب كل فحاش متفحش". حديث عائشة في قصة اليهود، وقد تقدم قريبا في "باب الرفق" وأن شرحه يأتي في الاستئذان، ووقع هنا "يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش" وقد حكى عياض عن بعض شيوخه أن عين العنف مثلثة والمشهور ضمها. حديث أنس: قوله: "سبابا" بالمهملة وموحدتين الأولى ثقيلة. قوله: "كان يقول لأحدنا عند المعتبة" بفتح الميم وسكون المهملة وكسر المثناة الفوقية - ويجوز فتحها - بعدها موحدة وهي مصدر عتب عليه يعتب عتبا وعتابا ومعتبة ومعاتبة، قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة. قوله: "ما له ترب جبينه" قال الخطابي: يحتمل أن يكون المعنى خر لوجهه فأصاب التراب جبينه ويحتمل أن يكون دعاء له بالعبادة كأن يصلي فيترب جبينه، والأول أشبه لأن الجبين لا يصلي عليه، قال ثعلب: الجبينان يكتنفان الجبهة ومنه قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي ألقاه على جبينه. قلت: وأيضا فالثاني بعيد جدا، لأن هذه الكلمة استعملها العرب قبل أن يعرفوا وضع الجبهة بالأرض في الصلاة. وقال الداودي: قوله ترب جبينه كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم، وهي من التراب، أي سقط جبينه للأرض، وهو كقولهم رغم أنفه، ولكن لا يراد معنى قوله ترب جبينه، بل هو نظير ما تقدم في قوله تربت يمينك، أي أنها كلمة تجري على اللسان ولا يراد حقيقتها. حديث عائشة. قوله: "حدثنا عمرو بن عيسى" هو أبو عثمان الضبعي البصري، ثقة مستقيم الحديث قاله ابن حبان وما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في كتاب الصلاة. وشيخه محمد بن سواء هو أبو الخطاب السدوسي البصري، ثقة أيضا، له عند البخاري هذا الحديث وآخر في المناقب. وشيخه روح بن القاسم مشهور كثير الحديث وقد تابعه عن محمد بن المنكدر سفيان بن عيينة كما سيأتي في "باب اغتياب أهل الفساد" وفي "باب المداراة" ومعمر عند مسلم وسياق روح أتم. قوله: "عن عروة عن عائشة" في رواية ابن عيينة "سمعت عروة أن عائشة أخبرته". قوله: "أن رجلا" قال ابن بطال هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له الأحمق المطاع، ورجا النبي صلى الله عليه وسلم بإقباله عليه تألفه ليسلم قومه لأنه كان رئيسهم، وكذا فسره به عياض ثم القرطبي والنووي جازمين بذلك، ونقله ابن التين عن الداودي لكن احتمالا لا جزما، وقد أخرجه عبد الغني بن سعيد في "المبهمات" من طريق عبد

(10/453)


الله بن عبد الحكم عن مالك أنه بلغه عن عائشة "استأذن عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بئس ابن العشيرة" الحديث، وأخرجه ابن بشكوال في "المبهمات" من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلا. وأخرج عبد الغني أيضا من طريق أبي عامر الخراز عن أبي يزيد المدني عن عائشة قالت: "جاء مخرمة بن نوفل يستأذن، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته قال: بئس أخو العشيرة" الحديث وهكذا وقع لنا في أواخر الجزء الأول من "فوائد أبي إسحاق الهاشمي" وأخرجه الخطيب، فيحمل على التعدد. وقد حكى المنذر في مختصره القولين فقال: هو عيينة، وقيل مخرمة. وأما شيخنا ابن الملقن فاقتصر على أنه مخرمة وذكر أنه نقله من حاشية بخط الدمياطي فقصر، لكنه حكى بعد ذلك عن ابن التين أنه جوز أنه عيينة قال: وصرح به ابن بطال. قوله: "بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة" في رواية معمر "بئس أخو القوم وابن القوم" وهي بالمعني، قال عياض المراد بالعشيرة الجماعة أو القبيلة. وقال غيره العشيرة الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده. قوله: "فلما جلس تطلق" بفتح الطاء المهملة وتشديد اللام أي أبدى له طلاقة وجهه، يقال وجهه طلق وطليق أي مسترسل منبسط غير عبوس، ووقع في رواية ابن عامر "بش في وجهه" ولأحمد من وجه آخر عن عائشة "واستأذن آخر فقال نعم أخو العشيرة" فلما دخل لم يهش له ولم ينبسط كما فعل بالآخر، فسألته فذكر الحديث. قال الخطابي: جمع هذا الحديث علما وأدبا، وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله، وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته. قلت: وظاهر كلامه أن يكون هذا من جملة الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته، وإنما الذي يمكن أن يختص به النبي صلى الله عليه وسلم أن يكشف له عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطلعه المغتر على حاله فيذم الشخص بحضرته ليتجنبه المغتر ليكون نصيحة، بخلاف غير النبي صلى الله عليه وسلم فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه. وقال القرطبي: في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى. ثم قال تبعا لعياض: والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد الله تعالى. وقال عياض: لم يكن عيينة والله أعلم حينئذ أسلم. فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرفه باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه فيكون ما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم من جملة علامات النبوة، وأما إلانة القول له بعد أن دخل فعلى سبيل التألف له. ثم ذكر نحو ما تقدم. وهذا الحديث أصل في المداراة، وفي جواز غيبة أهل الكفر والفسق ونحوهم والله أعلم. قوله: "متى عهدتني فاحشا" في رواية الكشميهني: "فحاشا" بصيغة المبالغة. قوله: "من تركه

(10/454)


الناس" في رواية عيينة "من تركه أو ودعه الناس" قال المازري: ذكر بعض النحاة أن العرب أماتوا مصدر يدع وماضيه، والنبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وقد نطق بالمصدر في قوله: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات" وبماضيه في هذا الحديث. وأجاب عياض بأن المراد بقولهم أماتوه أي تركوا استعماله إلا نادرا، قال: ولفظ أماتوه يدل عليه ويؤيد ذلك أنه لم ينقل في الحديث إلا في هذين الحديثين مع شك الراوي في حديث الباب مع كثرة استعمال ترك ولم يقل أحد من النحاة إنه لا يجوز. قوله: "اتقاء شره" أي قبح كلامه، لأن المذكور كان من جفاة العرب. وقال القرطبي: في هذا الحديث إشارة إلى أن عيينة المذكور ختم له بسوء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اتقى فحشه وشره، أخبر أن من يكون كذلك يكون شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة. قلت: ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال، فإن الحديث ورد بلفظ العموم فمن اتصف بالصفة المذكورة فهو الذي يتوجه عليه الوعيد، وشرط ذلك أن يموت على ذلك، ومن أين له أن عيينة مات على ذلك؟ واللفظ المذكور يحتمل لأن يقيد بتلك الحالة التي قيل فيها ذلك، وما المانع أن يكون تاب وأناب؟ وقد كان عيينة ارتد في زمن أبي بكر وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر، وله مع عمر قصة ذكرت في تفسير الأعراف، ويأتي شرحها في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى، وفيها ما يدل على جفائه. والحديث الذي فيه أنه "أحمق مطاع" أخرجه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: "جاء عيينة بن حصن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال: من هذه؟ قال: أم المؤمنين: قال ألا أنزل لك عن أجمل منها. فغضبت عائشة وقالت: من هذا؟ قال: هذا أحمق" ووصله الطبراني من حديث جرير وزاد فيه: اخرج فاستأذن، قال: إنها يمين علي أن لا أستأذن على مضري. وعلى تقدير أن يسلم له ذلك وللقاضي قبله في عيينة لا يسلم له ذلك في مخرمة بن نوفل وسيأتي في "باب المداراة" ما يدل على أن تفسير المبهم هنا بمخرمة هو الراجح.

(10/455)


39 - باب حُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ الْبُخْلِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ.
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ فَرَجَعَ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ
6033- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ: لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْراً أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ" .
6034- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِراً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ: لاَ".

(10/455)


6035- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "كُنَّا جُلُوساً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يُحَدِّثُنَا إِذْ قَالَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً" .
6036- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ فَقَالَ الْقَوْمُ هِيَ الشَّمْلَةُ فَقَالَ سَهْلٌ هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْسُوكَ هَذِهِ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا فَقَالَ: "نَعَمْ" فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَمَهُ أَصْحَابُهُ قَالُوا مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مُحْتَاجاً إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَلُ شَيْئاً فَيَمْنَعَهُ فَقَالَ رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا".
6037- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ" .
6038- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ سَمِعَ سَلاَمَ بْنَ مِسْكِينٍ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتاً يَقُولُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ وَلاَ لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ أَلاَ صَنَعْتَ؟".
قوله: "باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل" جمع في هذه الترجمة بين هذه الأمور الثلاثة لأن السخاء من جملة محاسن الأخلاق، بل هو من معظمها والبخل ضده، فأما الحسن فقال الراغب: هو عبارة عن كل مرغوب فيه إما من جهة العقل وإما من جهة العرض وإما من جهة الحسن، وأكثر ما يقال في عرف العامة فيما يدرك بالبصر، وأكثر ما جاء في الشرع فيما يدرك بالبصيرة، انتهى ملخصا. وأما الخلق فهو بضم الخاء واللام ويجوز سكونها، قال الراغب: الخلق والخلق يعني بالفتح وبالضم في الأصل بمعنى واحد كالشرب والشرب، لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة انتهى. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي" أخرجه أحمد وصححه ابن حبان. وفي حديث علي الطويل في دعاء الافتتاح عند مسلم: "واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت " وقال القرطبي في "المفهم": الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل العفو والحلم والجود والصبر وتحمل الأذى والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتوادد ولين الجانب ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك،

(10/456)


وأما السخاء فهو بمعنى الجود، وهو بذل ما يقتنى بغير عوض، وعطفه على حسن الخلق من عطف الخاص على العام، وإنما أفرد للتنويه به. وأما البخل فهو منع ما يطلب مما يقتنى، وشره ما كان طالبه مستحقا ولا سيما إن كان من غير مال المسئول. وأشار بقوله: "وما يكره من البخل" إلى أن بعض ما يجوز انطلاق اسم البخل عليه قد لا يكون مذموما. قوله: "وقال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس" تقدم موصولا في كتاب الإيمان، وتقدم شرحه في كتاب الصيام، وفيه بيان السبب في أكثرية جوده في رمضان. قوله: "وقال أبو ذر لما بلغه مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه الخ" كذا للأكثر بتكرير قال. وفي رواية الكشميهني: "وكان أبو ذر الخ " وهي أولى، وهذا طرف من قصة إسلام أبي ذر، وقد تقدمت موصولة مطولة في المبعث النبوي مشروحة والغرض منه هنا قوله: "ويأمر بمكارم الأخلاق" والمكارم جمع مكرمة بضم الراء وهي من الكرم، قال الراغب: وهو اسم الأخلاق، وكذلك الأفعال المحمودة، قال ولا يقال للرجل كريم حتى يظهر ذلك منه، ولما كان أكرم الأفعال ما يقصد به أشرف الوجوه، وأشرفها ما يقصد به وجه الله تعالى، وإنما يحصل ذلك من المتقي قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وكل فائق في بابه يقال له كريم. حديث أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس" أي أحسنهم خلقا وخلقا "وأجود الناس" أي أكثرهم بذلا لما يقدر عليه "وأشجع الناس" أي أكثرهم إقداما مع عدم الفرار، وقد تقدم شرح الحديث المذكور في كتاب الهبة، واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاث من جوامع الكلم لأنها أمهات الأخلاق، فإن في كل إنسان ثلاث قوى: أحدها: الغضبية وكمالها الشجاعة، ثانيها: الشهوانية وكمالها الجود، ثالثها: العقلية وكمالها النطق بالحكمة. وقد أشار أنس إلى ذلك بقوله: "أحسن الناس" لأن الحسن يشمل القول والفعل، ويحتمل أن يكون المراد بأحسن الناس حسن الخلقة وهو تابع لاعتدال المزاج الذي يتبع صفاء النفس الذي منه جودة القريحة التي تنشأ عنها الحكمة قاله الكرماني، وقوله: "فزع أهل المدينة" أي سمعوا صوتا في الليل فخافوا أن يهجم عليهم عدو، وقوله: "فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، قد سبق الناس إلى الصوت" أي أنه سبق فاستكشف الخبر فلم يجد ما يخاف منه فرجع يسكنهم. وقوله: "لم تراعوا" هي كلمة تقال عند تسكين الروع تأنيسا، وإظهارا للرفق بالمخاطب. حديث جابر. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "عن ابن المنكدر" في رواية الإسماعيلي من طريق أبي الوليد الطيالسي ومن طريق عبد الله وهو ابن المبارك كلاهما عن سفيان "سمعت محمد بن المنكدر". قوله: "ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا" كذا للجميع، وكذا في "الأدب المفرد" من طريق ابن عيينة سمعت ابن المنكدر، ووقع في رواية الإسماعيلي من الطريقين المذكورين، وكذا عند مسلم من طريق سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر بلفظ: "ما سئل شيئا قط فقال لا" قال الكرماني: معناه ما طلب منه شيء من أمر الدنيا فمنعه، قال الفرزدق: "ما قال لا قط إلا في تشهده" قلت: وليس المراد أنه يعطي ما يطلب منه جزما، بل المراد أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده أعطاه إن كان الإعطاء سائغا وإلا سكت. وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية أخرجه ابن سعد ولفظه: "إذا سئل فأراد أن يفعل قال نعم، وإذا لم يرد أن يفعل سكت" وهو قريب من حديث أبي هريرة الماضي في الأطعمة "ما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه" وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: معناه لم يقل "لا" منعا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارا كما في قوله تعالى: {قُلْتَ لا أَجِدُ

(10/457)


مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} ولا يخفى الفرق بين قول لا أجد ما أحملكم وبين لا أجملكم. قلت: وهو نظير ما تقدم في حديث أبي موسى الأشعري لما سأل الأشعريون الحملان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما عندي ما أحملكم" لكن يشكل على ما تقدم أن في حديث الأشعري المذكور أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم فقال: "والله لا أحملكم" فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر بما إذا سئل ما ليس عنده والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة أو من حال السائل، كأن يكون لم يعرف العادة، فلو اقتصر في جوابه على السكوت مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلا ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل، والسر في الجمع بين قوله: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ} وقوله: "والله لا أحملكم" أن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودا عنده، والثاني أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا أو بالاستيهاب إذ لا اضطرار حينئذ إلى ذلك، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الأيمان والنذور. وفهم بعضهم من لازم عدم قول "لا" إثبات "نعم" ورتب عليه أنه يلزم منه تحريم البخل، لأن من القواعد أنه صلى الله عليه وسلم إذا واظب على شيء كان ذلك علامة وجوبه، والترجمة تقتضي أن البخل مكروه. وأجيب بأنه إذا تم هذا البحث حملت الكراهة على التحريم، لكنه لا يتم لأن الذي يحرم من البخل ما يمنع الواجب سلمنا أنه يدل على الوجوب لكن على من هو في مقام النبوة، إذ مقابله نقص منزه عنه الأنبياء فيختص الوجوب بالنبي صلى الله عليه وسلم، والترجمة تتضمن أن من البخل ما يكره، ومقابله أن منه ما يحرم كما أن فيه ما يباح بل ويستحب بل ويجب، فلذلك اقتصر المصنف على قوله يكره. حديث مسروق "كنا جلوسا عند عبد الله بن عمرو بن العاص" ورجاله إلى الصحابة كوفيون، وقد دخلها كما تقدم صريحا في هذا الحديث في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "لم يكن فاحشا" تقدم شرحه في الباب المذكور وهو الحديث السادس عشر منه، وقوله فيه: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقا" في رواية الكشميهني: "أحسنكم" ووقع في الرواية الماضية "إن من خياركم" وهي مرادة هنا. وقد أخرج أبو يعلى من حديث أنس رفعه: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة رفعه: "إن من أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا " ولأحمد بسند رجاله ثقات من حديث جابر بن سمرة نحوه بلفظ: "أحسن الناس إسلاما" وللترمذي من حديث جابر رفعه: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولأحمد والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أبي ثعلبة نحوه وقال: "أحاسنكم أخلاقا" وسياقه أتم، وللبخاري في الأدب المفرد وابن حبان والحاكم والطبراني من حديث أسامة بن شريك "قالوا: يا رسول الله من أحب عباد الله إلى الله؟ قال: أحسنهم خلقا" وفي رواية عنه "ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: خلق حسن" ومن الأحاديث الصحيحة في حسن الخلق حديث النواس بن سمعان رفعه: "البر حسن الخلق" أخرجه مسلم والبخاري في "الأدب المفرد"، وحديث أبي الدرداء رفعه: "ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان وزاد الترمذي فيه وهو عند البزار "وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة" وأخرجه أبو داود وابن حبان أيضا والحاكم من حديث عائشة نحوه، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" والحاكم من حديث أبي هريرة، وأخرجه الطبراني من حديث أنس نحوه، وأحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو. وأخرج الترمذي وابن حبان وصححاه وهو عند البخاري في "الأدب المفرد" من

(10/458)


حديث أبي هريرة "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: تقوى الله وحسن الخلق" وللبزار بسند حسن من حديث أبي هريرة رفعه: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" والأحاديث في ذلك كثيرة. وحكى ابن بطال تبعا للطبري خلافا: هل حسن الخلق غريزة، أو مكتسب؟ وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث ابن مسعود "إن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم" الحديث وهو عند البخاري في "الأدب المفرد" وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في كتاب القدر. وقال القرطبي في "المفهم" الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محمودا وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفا فيرتاض صاحبه حني يقوى. قلت: وقد وقع في حديث الأشج العصري عند أحمد والنسائي والبخاري في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة. قال: يا رسول الله، قديما كانا في أو حديثا؟ قال: قديما. قال: الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما" فترديده السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي، وما هو مكتسب. حديث سهل بن سعد في قصة البردة التي سأل الصحابي لتكون كفنه، والغرض منه قولهم للذي طلبها: "سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه" وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الجنائز، وفي قولهم: "سألته إياها" استعمال ثاني الضميرين منفصلا وهو المتعين هنا فرارا من الاستثقال، إذ لو قاله متصلا فإنه يصير هكذا سألتموها، قال ابن مالك: والأصل أن لا يستعمل المنفصل إلا عند تعذر المتصل؛ لأن الاتصال أخصر وأبين، لكن إذا اختلف الضميران وتقاربا فالأحسن الانفصال نحو هذا، فإن اختلفا في الرتبة جاز الاتصال والانفصال مثل أعطيتكه وأعطيتك إياه. حديث أبي هريرة "يتقارب الزمان" وسيأتي شرحه في كتاب الفتن وقوله فيه: "وينقص العمل" وقع في رواية الكشميهني: "وينقص العلم" وهو المعروف في هذا الحديث وللآخر وجه. وقوله فيه: "ويلقى الشح" وهو مقصود الباب وهو أخص من البخل فإنه بخل مع حرص. واختلف في ضبط "يلقى" فالأكثر على أنه بسكون اللام أي يوضع في القلوب فيكثر، وهو على هذا بالرفع، وقيل: بفتح اللام وتشديد القاف أي يعطي القلوب الشح، وهو على هذا بالنصب حكاه صاحب "المطالع" وقال الحميدي: لم تضبط الرواة هذا الحرف، ويحتمل أن يكون "تلقى" بالتشديد أي يتلقى ويتواصى به ويدعوه إليه من قوله: "وما يلقاها إلا الصابرون" أي ما يعلمها وينبه عليها، قال ولو قيل: يلقى مخففة لكان بعيدا لأنه لو ألقي لترك وكان مدحا والحديث مساق للذم، ولو كان بالفاء بمعنى يوجد لم يستقم لأنه لم يزل موجودا. اهـ. وقد ذكرت توجيه القاف. حديث أنس. قوله: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين" تقدم نظيره في الوليمة من وجه آخر عن أنس، ومثله عند أحمد وغيره عن ثابت عن أنس، وكذا هو في معظم الروايات، ووقع عند مسلم من طريق إسحاق بن طلحة عن أنس "والله لقد خدمته تسع سنين" ولا مغايرة بينهما لأن ابتداء خدمته له كان بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وبعد تزويج أمه أم سليم بأبي طلحة، فقد مضى في الوصايا من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي" الحديث وفيه: "إن أنسا غلام كيس فليخدمك، قال فخدمته في السفر والحضر" وأشار بالسفر إلى ما وقع في المغازي وغيرها من طريق عمرو بن أبي عمرو عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من أبي طلحة لما أراد الخروج إلى خيبر من يخدمه فأحضر له أنسا" فأشكل هذا على الحديث الأول لأن

(10/459)


بين قدومه المدينة وبين خروجه إلى خيبر ست سنين وأشهرا. وأجيب بأنه طلب من أبي طلحة من يكون أسن من أنس وأقوى على الخدمة في السفر فعرف أبو طلحة من أنس القوة على ذلك فأحضره، فلهذا قال أنس في هذه الرواية: "خدمته في الحضر والسفر" وإنما تزوجت أم سليم بأبي طلحة بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أشهر؛ لأنها بادرت إلى الإسلام ووالد أنس حي فعرف بذلك فلم يسلم وخرج في حاجة له فقتله عدو له، وكان أبو طلحة قد تأخر إسلامه فاتفق أنه خطبها فاشترطت عليه أن يسلم فأسلم أخرجه ابن سعد بسند حسن، فعلى هذا تكون مدة خدمة أنس تسع سنين وأشهرا، فألغى الكسر مرة وجبره أخرى. وقوله في هذا الحديث: "والله ما قال لي أف قط" قال الراغب: أصل الأف كل مستقذر من وسخ كقلامة الظفر وما يجري مجراها، ويقال ذلك لكل مستخف به، ويقال أيضا عند تكره الشيء وعند التضجر من الشيء، واستعملوا منها الفعل كأففت بفلان، وفي أف عدة لغات: الحركات الثلاث بغير تنوين وبالتنوين، ووقع في رواية مسلم هنا "أفا" بالنصب والتنوين وهي موافقة لبعض القراءات الشاذة كما سيأتي، وهذا كله مع ضم الهمزة والتشديد، وعلى ذلك اقتصر بعض الشراح، وذكر أبو الحسن الرماني فيها لغات كثيرة فبلغها تسعا وثلاثين ونقلها ابن عطية وزاد واحدة أكملها أربعين، وقد سردها أبو حيان في "البحر" واعتمد على ضبط القلم. ولخص ضبطها صاحبه الشهاب السمين ولخصته منه، وهي الستة المقدمة، وبالتخفيف كذلك ستة أخرى، وبالسكون مشددا ومخففا، وبزيادة هاء ساكنة في آخره مشددا ومخففا، وأفي بالإمالة وبين بين وبلا إمالة الثلاثة بلا تنوين، وأفو بضم ثم سكون وأفي بكسر ثم سكون. فذلك ثنتان وعشرون، وهذا كله مع ضم الهمزة ويجوز كسرها وفتحها، فأما بكسرها ففي إحدى عشرة: كسر الفاء وضمها ومشددا مع التنوين وعدمه أربعة ومخففا بالحركات الثلاث مع التنوين وعدمه ستة، وأفي بالإمالة والتشديد، وأفا بفتح الهمزة ففي ست بفتح الفاء وكسرها مع التنوين وعدمه أربعة وبالسكون وبألف مع التشديد، والتي زادها ابن عطية أفاه بضم أوله وزيادة ألف وهاء ساكنة، وقرئ من هذه اللغات ست كلها بضم الهمزة، فأكثر السبعة بكسر الفاء مشددا بغير تنوين، ونافع وحفص كذلك لكن بالتنوين، وابن كثير وابن عامر بالفتح والتشديد بلا تنوين، وقرأ أبو السماك كذلك لكن بضم الفاء، وزيد بن علي بالنصب والتنوين، وعن ابن عباس بسكون الفاء. قلت: وبقي من الممكن في ذلك أفي كما مضى لكن بفتح الفاء وسكون الياء، وأفيه بزيادة هاء، وإذا ضممت هاتين إلى التي زادها ابن عطية وأضفتها إلى ما بدئ به صارت العدة خمسا وعشرين كلها بضم الهمزة، فإذا استعملت القياس في اللغة كان الذي بفتح الهمزة كذلك وبكسرها كذلك فتكمل خمسا وسبعين. قوله: "ولا لم صنعت ولا ألا صنعت" بفتح الهمزة والتشديد بمعنى هلا. وفي رواية مسلم من هذا الوجه "لشيء مما يصنعه الخادم" وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة "ما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا، ولشيء تركته هلا فعلت كذا وكذا" وفي رواية عبد العزيز بن صهيب "ما قال لشيء صنعته لم صنعت هذا كذا، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا كذا" ويستفاد من هذا ترك العتاب على ما فات، لأن هناك مندوحة عنه باستئناف الأمر به إذا احتيج إليه، وفائدة تنزيه اللسان عن الزجر والذم واستئلاف خاطر الخادم بترك معاتبته، وكل ذلك في الأمور التي تتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا فلا يتسامح فيها لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(10/460)


40 - باب كَيْفَ يَكُونُ الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ؟
6039- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ قَالَتْ كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ قَامَ إِلى الصَّلاَةِ".
قوله: "باب" بالتنوين "كيف يكون الرجل في أهله؟" ذكر فيه حديث عائشة "كان في مهنة أهله" وقد تقدم شرحه في أبواب صلاة الجماعة من كتاب الصلاة. قوله: "في مهنة أهله" المهنة بكسر الميم وبفتحها، وأنكر الأصمعي الكسر وفسرها هناك بخدمة أهله، وبينت أن التفسير من قول الراوي عن شعبة، وأن جماعة رووه عن شعبة بدونها، وكذا أخرجه ابن سعد في الترجمة النبوية عن وهب بن جرير وعفان وأبي قطن كلهم عن شعبة بدونها؛ لكن وقع عنده عن أبي النضر عن شعبة في آخره: "يعني بالمهنة في خدمة أهله" وقد وقع في حديث آخر لعائشة أخرجه أحمد وابن سعد وصححه ابن حبان من رواية هشام بن عروة عن أبيه "قلت لعائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم" وفي رواية لابن حبان: "ما يعمل أحدكم في بيته" وله ولأحمد من رواية الزهري عن عروة عن عائشة "يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويرقع دلوه" وله من طريق معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة بلفظ: "ما كان إلا بشرا من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه" وأخرجه الترمذي في الشمائل والبزار وقال: وروي عن يحيى عن القاسم عن عائشة، وروي عن يحيي عن حميد المكي عن مجاهد عن عائشة. وفي رواية حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عند أبي سعد "كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلا من رجالكم إلا أنه كان بساما" قال ابن بطال: من أخلاق الأنبياء التواضع، والبعد عن التنعم، وامتهان النفس ليستن بهم ولئلا يخلدوا إلى الرفاهية المذمومة، وقد أشير إلى ذمها بقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} .

(10/461)


41 - باب الْمِقَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
6040- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ ".
قوله: "باب المقة من الله" أي ابتداؤها من الله. المقة بكسر الميم وتخفيف القاف هي المحبة، وقد ومق يمق، والأصل الومق والهاء فيه عوض عن الواو، كعدة ووعد وزنة ووزن. وهذه الترجمة لفظ زيادة وقعت في نحو حديث الباب في بعض طرقه، لكنها على غير شرط البخاري فأشار إليها في الترجمة كعادته، أخرجه أحمد والطبراني وابن أبي شيبة من طريق محمد بن سعد الأنصاري عن أبي ظبية بمعجمة عن أبي أمامة مرفوعا قال: "المقة من الله والصيت من السماء، فإذا أحب الله عبدا" الحديث. وللبزار من طريق أبي وكيع الجراح بن مليح عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه: "ما من عبد إلا وله صيت في السماء، فإن كان حسنا وضع في الأرض وإن كان سيئا

(10/461)


وضع في الأرض" والصيت بكسر الصاد المهملة وسكون التحتانية بعدها مثناة أصله الصوت كالريح من الروح، والمراد به الذكر الجميل، وربما قيل لضده لكن بقيد. قوله: "أبو عاصم" هو النبيل، وهو من كبار شيوخ البخاري وربما روى عنه بواسطة مثل هذا، فقد علقه في بدء الخلق لأبي عاصم وقد نبهت عليه ثم. قوله: "عن نافع" هو مولى ابن عمر، قال البزار بعد أن أخرجه عن عمرو بن علي الفلاس شيخ البخاري فيه: لم يروه عن نافع إلا موسى بن عقبة، ولا عن موسى إلا ابن جريج. قلت: وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثوبان عند أحمد والطبراني في "الأوسط" وأبو أمامة عند أحمد، ورواه عن أبي هريرة أبو صالح عند المصنف في التوحيد وأخرجه مسلم والبزار. قوله: "إذا أحب الله العبد" وقع في بعض طرقه بيان سبب هذه المحبة والمراد بها، ففي حديث ثوبان "إن العبد ليلتمس مرضاة الله تعالى فلا يزال كذلك حتى يقول: يا جبريل إن عبدي فلانا يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي غلبت عليه" الحديث أخرجه أحمد والطبراني في "الأوسط" ويشهد له حديث أبي هريرة الآتي في الرقاق ففيه: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" الحديث. قوله: "إن الله يحب فلانا فأحبه" بفتح الموحدة المشددة ويجوز الضم، ووقع في حديث ثوبان "فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، وتقوله حملة العرش". قوله: " فينادي جبريل في أهل السماء الخ " في حديث ثوبان أهل السماوات السبع. قوله: "ثم يوضع له القبول في أهل الأرض" زاد الطبراني في حديث ثوبان "ثم يهبط إلى الأرض، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} وثبتت هذه الزيادة في آخر هذا الحديث عند الترمذي وابن حاتم من طريق سهيل عن أبيه، وقد أخرج مسلم إسنادها ولم يسق اللفظ، وزاد مسلم فيه: "وإذا أبغض عبدا دعا جبريل" فساقه على منوال الحب وقال في آخره: "ثم يوضع له البغضاء في الأرض" ونحوه في حديث أبي أمامة عند أحمد، وفي حديث ثوبان عند الطبراني "وإن العبد يعمل بسخط الله فيقول الله يا جبريل إن فلانا يستسخطني" فذكر الحديث على منوال الحب أيضا وفيه: "فيقول جبريل: سخطة الله على فلان" وفي آخره مثل ما في الحب "حتى يقوله أهل السماوات السبع، ثم يهبط إلى الأرض" وقوله: "يوضع له القبول" هو من قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أي رضيها، قال المطرزي: القبول مصدر لم أسمع غيره بالفتح؛ وقد جاء مفسرا في رواية القعنبي "فيوضع له المحبة" والقبول الرضا بالشيء وميل النفس إليه. وقال ابن القطاع: قبل الله منك قبولا والشيء والهدية أخذت. والخبر صدق، وفي التهذيب: عليه قبول إذا كانت العين تقبله، والقبول من الريح الصبا لأنها تستقبل الدبور، والقبول أن يقبل العفو والعافية وغير ذلك، وهو اسم للمصدر أميت الفعل منه. وقال أبو عمرو بن العلاء: القبول بفتح القاف لم أسمع غيره، يقال فلان عليه قبول إذا قبلته النفس، وتقبلت الشيء قبولا. ونحوه لابن الأعرابي وزاد: قبلته قبولا بالفتح والضم، وكذا قبلت هديته عن اللحياني. قال ابن بطال: في هذه الزيادة رد على ما يقوله القدرية إن الشر من فعل العبد وليس من خلق الله انتهى. والمراد بالقبول في حديث الباب قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه والرضا عنه، ويؤخذ منه أن محبة قلوب الناس علامة محبة الله، ويؤيده ما تقدم في الجنائز "أنتم شهداء الله في الأرض" والمراد بمحبة الله إرادة الخير للعبد وحصول الثواب له، وبمحبة الملائكة استغفارهم له وإرادتهم خير الدارين له وميل قلوبهم إليه لكونه مطيعا لله محبا له، ومحبة العباد له اعتقادهم فيه الخير وإرادتهم دفع الشر عنه ما أمكن، وقد تطلق محبة الله تعالى للشيء على إرادة إيجاده وعلى إرادة تكميله، والمحبة التي في هذا الباب من القبيل الثاني، وحقيقة المحبة

(10/462)


عند أهل المعرفة من المعلومات التي لا تحد وإنما يعرفها من قامت به وجدانا لا يمكن التعبير عنه، والحب على ثلاثة أقسام: إلهي وروحاني وطبيعي، وحديث الباب يشتمل على هذه الأقسام الثلاثة، فحب الله العبد حب إلهي، وحب جبريل والملائكة له حب روحاني، وحب العباد له حب طبيعي.

(10/463)


42 - باب الْحُبِّ فِي اللَّهِ
6041- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَجِدُ أَحَدٌ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا" .
قوله: "باب الحب في الله" ذكر فيه حديث أنس "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإيمان، وبيان أن هذه الترجمة أول حديث أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي أمامة ولفظه: "الحب في الله والبغض في الله من الإيمان" وأن له طرقا أخرى. قوله: " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق أبيه وأمه وولده وزوجه وجميع الناس، لأن الهدى من الضلال والخلاص من النار إنما كان بالله على لسان رسوله، ومن علامات محبته نصر دينه بالقول والفعل والذب عن شريعته والتخلق بأخلاقه، والله أعلم.

(10/463)


باب قول الله تعالى: {ياأيها الذين أمنوا لا يسخر قوما من قوما عسى أن يكونوا خيرا منهم ..}
...
43 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}
6042- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الأَنْفُسِ وَقَالَ بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ أَوْ الْعَبْدِ ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا" . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَوُهَيْبٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ "جَلْدَ الْعَبْدِ".
6043- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم بِمِنًى: " أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ بَلَدٌ حَرَامٌ أَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا" .
قوله: "باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} الآية" كذا لأبي ذر والنسفي، وسقطت الآية لغيرهما وزاد {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} . وذكر فيه حديثين: أحدهما:

(10/463)


باب ما ينهى عن السباب واللعن
...
44 - باب مَا يُنْهَى مِنْ السِّبَابِ وَاللَّعْنِ
6044- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" تَابَعَهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ
6045- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ أَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ الدِّيلِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ وَلاَ يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ" .
6046- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلاَ لَعَّاناً وَلاَ سَبَّاباً كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ ".
6047- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ

(10/464)


غَيْرِ الإِسْلاَمِ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِناً فَهُوَ كَقَتْلِهِ وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ" .
6048- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي لاَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ" فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَقَالَ أَتُرَى بِي بَأْسٌ؟ أَمَجْنُونٌ أَنَا؟ اذْهَبْ".
6049- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَ النَّاسَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَإِنَّهَا رُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْراً لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ" .
6050- حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ هُوَ ابْنُ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: "رَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْداً وَعَلَى غُلاَمِهِ بُرْداً فَقُلْتُ لَوْ أَخَذْتَ هَذَا فَلَبِسْتَهُ كَانَتْ حُلَّةً وَأَعْطَيْتَهُ ثَوْباً آخَرَ فَقَالَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلاَمٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: "أَسَابَبْتَ فُلاَناً؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. قُلْتُ عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ قَالَ نَعَمْ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلاَ يُكَلِّفُهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ" .
قوله: "باب ما ينهى من السباب واللعن" في رواية غير أبي ذر والنسفي "عن" بدل "من" وهي أولى، وفي الأول حذف تقديره ما ينهى عنه. والسباب بكسر المهملة وتخفيف الموحدة تقدم بيانه مع شرح الحديث الأول في كتاب الإيمان، وهو محتمل لأن يكون على ظاهر لفظه من التفاعل، ويحتمل أن يكون بمعنى السب وهو الشتم وهو نسبة الإنسان إلى عيب ما، وعلى الأول فحكم من بدأ منهما أن الوزر عليه حتى يعتدي الثاني كما ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة وصحح ابن حبان من حديث العرباض بن سارية قال: "المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان". قوله: "تابعه محمد بن جعفر عن شعبة" وصله أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر وهو غندر بهذا الإسناد لكن قال فيه: "عن شعبة عن زبيد ومنصور" وزاد فيه زبيدا وهو بالزاي والموحدة مصغر، ومعنى اللعن الدعاء بالإبعاد من رحمة الله تعالى. قوله: "عن الحسين" هو ابن ذكوان المعلم، والإسناد إلى أبي

(10/465)


ذر بصريون وقد دخلها هو أيضا. وفي رواية مسلم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث "حدثنا أبي حدثنا الحسين المعلم". قوله: "عن أبي ذر" في رواية الإسماعيلي من وجهين "عن أبي معمر" شيخ البخاري فيه بالسند إلى أبي الأسود أن أبا ذر حدثه. قوله: "لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كما قال" وفي رواية للإسماعيلي: "إلا حار عليه" وفي أخرى "إلا ارتدت عليه" يعني رجعت عليه و"حار" بمهملتين أي رجع، وهذا يقتضي أن من قال لآخر أنت فاسق أو قال له أنت كافر فإن كان ليس كما قال كان هو المستحق للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال لم يرجع عليه شيء لكونه صدق فيما قال، ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقا ولا كافرا أن لا يكون آثما في صورة قوله له أنت فاسق بل في هذه الصورة تفصيل: إن قصد نصحه أو نصح غيره ببيان حاله جاز، وإن قصد تعييره وشهرته بذلك ومحض أذاه لم يجز، لأنه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعظته بالحسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف لأنه قد يكون سببا لإغرائه وإصراره على ذلك الفعل كما في طبع كثير من الناس من الأنفة، ولا سيما إن كان الآمر دون المأمور في المنزلة. ووقع في رواية مسلم بلفظ: "ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه" ذكره في أثناء حديث في ذم من ادعى إلى غير أبيه، وقد تقدم صدره في مناقب قريش بالإسناد المذكور هنا، فهو حديث واحد فرقه البخاري حديثين، وسيأتي هذا المتن في "باب من أكفر أخاه بغير تأويل" من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر بلفظ فقد باء بها أحدهما وهو بمعنى رجع أيضا، قال النووي: اختلف في تأويل هذا الرجوع فقيل رجع عليه الكفر إن كان مستحلا، وهذا بعيد من سياق الخبر، وقيل: محمول على الخوارج لأنهم يكفرون المؤمنين هكذا نقله عياض عن مالك وهو ضعيف. لأن الصحيح عند الأكثرين أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم. قلت: ولما قاله مالك وجه، وهو أن منهم من يكفر كثيرا من الصحابة ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالإيمان فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة لا من مجرد صدور التكفير منهم بتأويل كما سيأتي إيضاحه في "باب من أكفر أخاه بغير تأويل" والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم، وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم. وقيل: معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره، وهذا لا بأس به. وقيل: يخشى عليه أن يؤول به ذلك إلى الكفر كما قيل: المعاصي بريد الكفر فيخاف على من أدامها وأصر عليها سوء الخاتمة، وأرجح من الجميع أن من قال ذلك لمن يعرف منه الإسلام ولم يقم له شبهة في زعمه أنه كافر فإنه يكفر بذلك كما سيأتي تقريره، فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر، فكأنه كفر نفسه لكونه كفر من هو مثله، ومن لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام، ويؤيده أن في بعض طرقه: "وجب الكفر على أحدهما" وقال القرطبي: حيث جاء الكفر في لسان الشرع فهو جحد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية، وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم وترك شكر المنعم والقيام بحقه كما تقدم تقريره في كتاب الإيمان في "باب كفر دون كفر" وفي حديث أبي سعيد "يكفرن الإحسان ويكفرن العشير" قال وقوله باء بها أحدهما أي رجع بإثمها ولازم ذلك، وأصل البوء اللزوم، ومنه: "أبوء بنعمتك" أي ألزمها نفسي وأقر بها قال: والهاء في قوله: "بها" راجع إلى التكفيرة الواحدة التي هي أقل ما يدل عليها لفظ كافر، ويحتمل أن يعود إلى الكلمة. والحاصل أن المقول له إن كان كافرا كفرا شرعيا فقد صدق القائل وذهب بها المقول له، وإن لم يكن رجعت

(10/466)


للقائل معرة ذلك القول وإثمه، كذا اقتصر على هذا التأويل في رجع، وهو من أعدل الأجوبة، وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء بسند جيد رفعه: "إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلا وإلا رجعت إلى قائلها" وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بسند حسن وآخر عند أبي داود والترمذي عن ابن عباس ورواته ثقات، ولكنه أعل بالإرسال. حديث أنس تقدم شرحه في "باب حسن الخلق". حديث ثابت بن الضحاك وقد اشتمل على خمسة أحكام وسيأتي في "باب من أكفر أخاه بغير تأويل" بتمامه إلا خصلة واحدة منها، ويأتي كذلك في الأيمان والنذور، ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى، ويؤخذ حكم ما يتعلق بتكفير من كفر المسلم من الذي قبله. وقوله: "لعن المسلم كقتله" أي لأنه إذا لعنه فكأنه دعا عليه بالهلاك. حديث سليمان بن صرد بضم الصاد وفتح الراء بعدها دال مهملات، وهو ابن الجون بن أبي الجون الخزاعي، صحابي شهير يقال كان اسمه يسار بتحتانية ومهملة فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، ويكنى أبا المطرف، وقتل في سنة خمس وستين وله ثلاث وتسعون سنة. قوله: "استب رجلان" لم أعرف أسماءهما ووقع في صفة إبليس من وجه آخر عن الأعمش بهذا السند "كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان". قوله: "حتى انتفخ وجهه" في الرواية المذكورة "فاحمر وجهه وانتفخت أوداجه" وفي رواية مسلم: "تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه" وقد تقدم تفسير الودج في صفة إبليس، وفي حديث معاذ بن جبل عند أحمد وأصحاب السنن "حتى أنه ليخيل إلي أن أنفه ليتمزع من الغضب". قوله: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد" في الرواية المذكورة " لو قال أعوذ بالله من الشيطان" وفي رواية مسلم: "الرجيم" ومثله في حديث معاذ ولفظه: "إني لأعلم كلمة لو يقولها هذا الغضبان لذهب عنه الغضب: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم" . قوله: "فانطلق إليه الرجل" في رواية مسلم: "فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية المتقدمة "فقالوا له" فدلت هذه الرواية على أن الذي خاطبه منهم واحد وهو معاذ بن جبل كما بينته رواية أبي داود ولفظه: "قال فجعل معاذ يأمره، فأبى وضحك وجعل يزداد غضبا". قوله: "وقال تعوذ بالله" في الرواية المذكورة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعوذ بالله" وهو بالمعنى فإنه صلى الله عليه وسلم أرشده إلى ذلك، وليس في الخبر أنه أمرهم أن يأمروه بذلك، لكن استفادوا ذلك من طريق عموم الأمر بالنصيحة للمسلمين. قوله: "أترى بي بأس" بضم التاء أي أتظن، ووقع "بأس" هنا بالرفع للأكثر وفي بعضها "بأسا" بالنصب وهو أوجه. قوله: "أمجنون أنا" في الرواية المذكورة "وهل بي من جنون؟" قوله: "اذهب" هو خطاب من الرجل للرجل الذي أمره بالتعوذ أي امض في شغلك. وأخلق بهذا المأمور أن يكون كافرا أو منافقا، أو كان غلب عليه الغضب حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج الغضب بهذا الجواب السيء، وقيل: إنه كان من جفاة الأعراب وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون، ولم يعلم أن الغضب نوع من شر الشيطان ولهذا يخرج به عن صورته ويزين إفساد ما له كتقطيع ثوبه وكسر آنيته أو الإقدام على من أغضبه ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال، وقد أخرج أبو داود من حديث عطية السعدي رفعه: "إن الغضب من الشيطان" الحديث. حديث عبادة بن الصامت في ذكر ليلة القدر وقد تقدم في أواخر الصيام مشروحا وأورده هنا لقوله فيه: "فتلاحى" أي تنازع، والتلاحي بالمهملة أي التجادل والتنازع، وهو يفضي في الغالب إلى المساببة

(10/467)


وتقدم أن الرجلين هما كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد. حديث أبي ذر "ساببت رجلا" وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان وأن الرجل المذكور هو بلال المؤذن، وكان اسم أمه حمامة بفتح المهملة وتخفيف الميم. وقوله: "إنك امرؤ فيك جاهلية" التنوين للتقليل، والجاهلية ما كان قبل الإسلام، ويحتمل أن يراد بها هنا الجهل أي إن فيك جهلا. وقوله: "قلت على ساعتي هذه من كبر السن" أي هل في جاهلية أو جهل وأنا شيخ كبير؟ وقوله: "هم إخوانكم" أي العبيد أو الخدم حتى يدخل من ليس في الرق منهم، وقرينة قوله: "تحت أيديكم" ترشد إليه، ويؤخذ منه المبالغة في ذم السب واللعن لما فيه من احتقار المسلم، وقد جاء الشرع بالتسوية بين المسلمين في معظم الأحكام، وأن التفاضل الحقيقي بينهم إنما هو بالتقوى، فلا يفيد الشريف النسب نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى، وينتفع الوضيع النسب بالتقوى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .

(10/468)


3 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ.
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟" وَمَا لاَ يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ.
6051- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِي الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا قَصُرَتْ الصَّلاَةُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ فَقَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ قَالُوا بَلْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ" .
قوله: "باب ما يجوز من ذكر الناس" أي بأوصافهم "نحو قولهم الطويل والقصير. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يقول ذو اليدين، وما لا يراد به شين الرجل" هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الألقاب وما لا يعجب الرجل أن يوصف به مما هو فيه. وحاصله أن اللقب إن كان مما يعجب الملقب ولا إطراء فيه مما يدخل في نهي الشرع فهو جائز أو مستحب، وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا إن تعين طريقا إلى التعريف به حيث يشتهر به ولا يتميز عن غيره إلا بذكره، ومن ثم أكثر الرواة من ذكر الأعمش والأعرج ونحوهما وعارم وغندر وغيرهم، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لما سلم في ركعتين من صلاة الظهر فقال: "أكما يقول ذو اليدين؟" وقد أورده المصنف في الباب ولم يذكر هذه الزيادة. وقال في سياق الرواية التي أوردها "وفي القوم رجل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه ذا اليدين" وأما الرواية التي علقها في الباب فوصلها في "باب تشبيك الأصابع" في أوائل كتاب الصلاة من طريق ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة ولكن لفظه: "أكما يقول ذو اليدين؟" وقد أخرجه مسلم من طريق أيوب عن ابن سيرين بلفظ: "ما يقول ذو اليدين؟" وهو المطابق للتعليق المذكور، وإلى ما ذهب إليه البخاري من التفصيل في ذلك ذهب الجمهور، وشذ قوم فشددوا حتى نقل عن الحسن البصري أنه كان يقول: أخاف أن يكون قولنا حميدا الطويل غيبة، وكأن

(10/468)


البخاري لمح بذلك حيث ذكر قصة ذي اليدين وفيها "وفي القوم رجل في يديه طول" قال ابن المنير أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا إن كان للبيان والتمييز فهو جائز وإن كان للتنقيص لم يجز، قال: وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها فأشارت بيدها أنها قصيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغتبتيها" وذلك أنها لم تفعل هذا بيانا إنما قصدت الإخبار عن صفتها فكان كالاغتياب انتهى. الحديث المذكور أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب الغيبة" وابن مردويه في "التفسير" و(1) في(1) من طريق حبان بن مخارق عن عائشة وهو(1) .
ـــــــ
(1) كذا بياض بالأصل

(10/469)


46 - باب الْغِيبَةِ. وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
6052- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِداً يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا هَذَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِداً وَعَلَى هَذَا وَاحِداً ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا" .
قوله: "باب الغيبة وقول الله تعالى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية" هكذا اكتفى بذكر الآية المصرحة بالنهي عن الغيبة ولم يذكر حكمها كما ذكر حكم النميمة بعد بابين حيث جزم بأن النميمة من الكبائر، وقد اختلف في حد الغيبة وفي حكمها، فأما حدها فقال الراغب: هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك. وقال الغزالي: حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه. وقال ابن الأثير في النهاية: الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه. وقال النووي في "الأذكار" تبعا للغزالي: ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز. قال النووي: وممن يستعمل التعريض في ذلك كثير من الفقهاء في التصانيف وغيرها كقولهم قال بعض من يدعي العلم أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو نحو ذلك مما يفهم السامع المراد به، ومنه قولهم عند ذكره: الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة. وتمسك من قال: إنها لا يشترط فيها غيبة الشخص بالحديث المشهور الذي أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رفعه: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكرهه. قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" وله شاهد مرسل عن المطلب بن عبد الله عند مالك، فلم يقيد ذلك بغيبة الشخص فدل على أن لا فرق بين أن يقول ذلك في غيبته أو في حضوره، والأرجح اختصاصها بالغيبة مراعاة لاشتقاقها؛ وبذلك جزم أهل اللغة. قال ابن التين: الغيبة ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب. وكذا قيده الزمخشري وأبو نصر القشيري في

(10/469)


التفسير وابن خميس في جزء له مفرد في الغيبة والمنذري وغير واحد من العلماء من آخرهم الكرماني قال: الغيبة أن تتكلم خلف الإنسان بما يكرهه لو سمعه وكان صدقا. قال: وحكم الكناية والإشارة مع النية كذلك. وكلام من أطلق منهم محمول على المقيد في ذلك. وقد وقع في حديث سليم بن جابر(1) والحديث سيق لبيان صفتها واكتفي باسمها على ذكر محلها. نعم المواجهة بما ذكر حرام لأنه داخل في السب والشتم، وأما حكمها فقال النووي في "الأذكار": الغيبة والنميمة محرمتان بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك. وذكر في "الروضة" تبعا للرافعي أنها من الصغائر، وتعقبه جماعة. ونقل أبو عبد الله القرطبي في تفسيره الإجماع على أنها من الكبائر لأن حد الكبيرة صادق عليها لأنها مما ثبت الوعيد الشديد فيه. وقال الأذرعي لم أر من صرح بأنها من الصغائر إلا صاحب العدة(2) والغزالي. وصرح بعضهم بأنها من الكبائر. وإذا لم يثبت الإجماع فلا أقل من التفصيل، فمن اغتاب وليا لله أو عالما ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلا. وقد قالوا: ضابطها ذكر الشخص بما يكره، وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه، وقد يشتد تأذيه بذلك وأذى المسلم محرم. وذكر النووي من الأحاديث الدالة على تحريم الغيبة حديث أنس رفعه: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" أخرجه أبو داود وله شاهد عن ابن عباس عند أحمد وحديث سعيد بن زيد رفعه: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" أخرجه أبو داود، وله شاهد عند البزار وابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة، وعند أبي يعلى من حديث عائشة، ومن حديث أبي هريرة رفعه: "من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب له يوم القيامة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا، فيأكله ويكلح ويصيح" سنده حسن. وفي "الأدب المفرد" عن ابن مسعود قال: "ما التقم أحد لقمة شرا من اغتياب مؤمن" الحديث، وفيه أيضا وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة ماعز ورجمه في الزنا "وإن رجلا قال لصاحبه انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم كلا من جيفة هذا الحمار - لحمار ميت - فما نلتما من عرض هذا الرجل أشد من أكل هذه الجيفة" وأخرج أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" بسند حسن عن جابر قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهاجت ريح منتنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين" وهذا الوعيد في هذه الأحاديث يدل على أن الغيبة من الكبائر، لكن تقييده في بعضها بغير حق قد يخرج الغيبة بحق لما تقرر أنها ذكر المرء بما فيه. حديث ابن عباس قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين يعذبان" الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، وليس فيه ذكر الغيبة بل فيه يمشي بالنميمة، قال ابن التين: إنما ترجم بالغيبة وذكر النميمة لأن الجامع بينهما ذكر ما يكرهه المقول فيه يظهر الغيب. وقال الكرماني: الغيبة نوع من النميمة لأنه لو سمع المنقول عنه ما نقل عنه لغمه. قلت: الغيبة قد توجد في بعض صور النميمة، وهو أن يذكره في غيبته بما فيه مما يسوؤه قاصدا بذلك الإفساد، فيحتمل أن تكون قصة الذي كان يعذب في قبره كانت كذلك، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما رد في بعض طرقه بلفظ الغيبة صريحا، وهو ما أخرجه هو في "الأدب المفرد" من حديث جابر قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتى على قبرين - فذكر فيه نحو حديث الباب وقال فيه - أما أحدهما فكان يغتاب الناس" الحديث. وأخرج أحمد والطبراني بإسناد صحيح عن أبي بكرة قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما
ـــــــ
(1) بياض بأصله.
(2) في نسخة العمدة.

(10/470)


يعذبان، وما يعذبان في كبير وبكى - وفيه - وما يعذبان إلا في الغيبة والبول" ولأحمد والطبراني أيضا من حديث يعلى بن شبابة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر يعذب صاحبه فقال: إن هذا كان يأكل لحوم الناس ثم دعا بجريدة رطبة" الحديث، ورواته موثقون. ولأبي داود الطيالسي عن ابن عباس بسند جيد مثله. وأخرجه الطبراني وله شاهد عن أبي أمامة عند أبي جعفر الطبري في التفسير. وأكل لحوم الناس يصدق على النميمة والغيبة. والظاهر اتحاد القصة، ويحتمل التعدد، وتقدم بيان ذلك واضحا في كتاب الطهارة.

(10/471)


47 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ ...".
6053- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ" .
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم خير دور الأنصار" ذكر فيه أول حديث أبي أسيد الساعدي، وقد تقدم في المناقب بتمامه وقي إيراده هذه الترجمة هنا إشكال، لأن هذا ليس من الغيبة أصلا إلا إن أخذ من أن المفضل عليهم يكرهون ذلك فيستثنى ذلك من عموم قوله: "ذكرك أخاك بما يكره" ويكون محل الزجر إذا لم يترتب عليه حكم شرعي، فأما ما يترتب عليه حكم شرعي فلا يدخل في الغيبة ولو كرهه المحدث عنه، ويدخل في ذلك ما يذكر لقصد النصيحة من بيان غلط من يخشى أن يقلد أو يغتر به في أمر ما، فلا يدخل ذكره بما يكره من ذلك في الغيبة المحرمة كما سيأتي، وإليه يشير ما ترجم به المصنف عقب هذا. حديث أبي أسيد الساعدي، وقد تقدم في المناقب بتمامه. قال ابن التين: في حديث أبي أسيد دليل على جواز المفاضلة بين الناس لمن يكون عالما بأحوالهم لينبه على فضل الفاضل ومن لا يلحق بدرجته في الفضل، فيمتثل أمره بتنزيل الناس منازلهم، وليس ذلك بغيبة.

(10/471)


48 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ اغْتِيَابِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالرِّيَبِ
6054- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الْكَلاَمَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلاَمَ؟ قَالَ: أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ" .
قوله: "باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد" ذكر فيه حديث عائشة في قوله: "بئس أخو العشيرة" وقد تقدم شرحه قريبا في "باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا". وقد نوزع في كون ما وقع من ذلك غيبة، وإنما هو نصيحة ليحذر السامع، وإنما لم يواجه المقول فيه بذلك لحسن خلقه صلى الله عليه وسلم، ولو واجه المقول فيه بذلك لكان حسنا، ولكن حصل القصد بدون مواجهة. والجواب أن المراد أن صورة الغيبة موجودة فيه وإن لم يتناول الغيبة المذمومة شرعا، وغايته أن تعريف الغيبة المذكور أولا هو اللغوي، وإذا استثني منه ما ذكر كان ذلك تعريفها الشرعي. قوله في الحديث: "إن شر الناس" استئناف كلام كالتعليل لتركه مواجهته بما ذكره في غيبته، ويستنبط منه

(10/471)


باب الغيبة من الكبائر
...
49 - باب النَّمِيمَةُ مِنْ الْكَبَائِرِ
6055- حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبِيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْضِ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا فَقَالَ: يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا بِكِسْرَتَيْنِ أَوْ ثِنْتَيْنِ فَجَعَلَ كِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا وَكِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا فَقَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا" .
قوله: "باب النميمة من الكبائر" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر وحده. حديث ابن عباس في قصة القبرين، وهو ظاهر فيما ترجم به، لقوله في سياقه "وإنه لكبير" وقد تقدم القول فيه في كتاب الطهارة، وقد صحح ابن حبان من حديث أبي هريرة بلفظ: "وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه ويمشي بينهم بالنميمة". "لطيفة": أبدى بعضهم للجمع بين هاتين الخصلتين مناسبة، وهي أن البرزخ مقدمة الآخرة، وأول ما يقضي فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة ومن حقوق العباد الدماء، ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة بنشر الفتن التي يسفك بسببها الدماء.

(10/472)


باب ما يكره من الغيبة
...
50 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ النَّمِيمَةِ.
وَقَوْلِهِ تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} يَهْمِزُ وَيَلْمِزُ وَيَعِيبُ وَاحِدٌ
6056- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: "كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ رَجُلاً يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ".
قوله: "باب ما يكره من النميمة" كأنه أشار بهذه الترجمة إلى بعض القول المنقول على جهة الإفساد يجوز إذا كان المقول فيه كافرا مثلا، كما يجوز التجسس في بلاد الكفار ونقل ما يضرهم. قوله: "وقوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} " قال الراغب همز الإنسان اغتيابه، والنم إظهار الحديث بالوشاية، وأصل النميمة الهمس والحركة. قوله: "{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} يهمز ويلمز ويعيب واحد" كذا للأكثر بكسر العين المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة، ووقع في رواية الكشميهني ويغتاب بغين معجمة ساكنة ثم مثناة وأظنه تصحيفا، والهمزة الذي يكثر منه الهمز

(10/472)


51 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
6057- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" قَالَ أَحْمَدُ: أَفْهَمَنِي رَجُلٌ إِسْنَادَهُ.
قوله: "باب قول الله تعالى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} " قال الراغب: الزور الكذب، قيل له ذلك لكونه مائلا عن الحق، والزور بفتح الزاي الميل. وكان موقع هذه الترجمة للإشارة إلى أن القول المنقول بالنميمة لما كان أعم من أن يكون صدقا أو كذبا فالكذب فيه أقبح. قوله: "حدثنا أحمد بن يونس" هو أحمد بن عبد الله بن يونس نسب إلى جده، وقد تقدم حديث الباب في أوائل الصيام أخرجه عن آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب بالسند والمتن

(10/473)


وتقدم شرحه هناك، وقوله هنا في آخره: "قال أحمد أفهمني رجل إسناده" أحمد هو ابن يونس المذكور. والمعنى أنه لما سمع الحديث من ابن أبي ذئب لم يتيقن إسناده من لفظ شيخه فأفهمه إياه رجل كان معه في المجلس، وقد خالف أبو داود رواية البخاري فأخرج الحديث المذكور عن أحمد بن يونس هذا لكن قال في آخر: "قال أحمد فهمت إسناده من ابن أبي ذئب، وأفهمني الحديث رجل إلى جنبه أراه ابن أخيه" وهكذا أخرجه الإسماعيلي عن إبراهيم بن شريك عن أحمد بن يونس، وهذا عكس ما ذكره البخاري، فإن مقتضى روايته أن المتن فهمه أحمد من شيخه ولم يفهم الإسناد منه بخلاف ما قال أبو داود وإبراهيم بن شريك، فيحمل على أن أحمد بن يونس حدث به على الوجهين. وخبط الكرماني هنا فقال: قال أفهمني أي كنت نسيت هذا الإسناد فذكرني رجل إسناده، ووجه الخبط نسبته إلى أحمد بن يونس نسيان الإسناد وأن التذكير وقع له من الرجل بعد ذلك، وليس كذلك، بل أراد أنه لما سمعه من ابن أبي ذئب خفي عنه بعض لفظه أما على رواية البخاري فمن الإسناد، وأما على رواية أبي داود فمن المتن، وكان الرجل بجنبه فكأنه استفهمه عما خفي عليه منه فأفهمه، فلما كان بعد ذلك وتصدى للتحديث به أخبر بالواقع ولم يستجز أن يسنده عن ابن أبي ذئب بغير بيان. وقد وقع مثل ذلك لكثير من المحدثين، وعقد الخطيب لذلك بابا في كتاب "الكفاية" وانظر إلى قوله: "أفهمني رجل إلى جنبه" أي إلى جنب ابن أبي ذئب. ثم قال الكرماني: وأراد رجل عظيم والتنوين يدل عليه والغرض مدح شيخه ابن أبي ذئب أو رجل آخر غيره أفهمني اهـ. ولم يتعين أنه تعظيم للرجل الذي أفهمه من مجرد قوله رجل، بل الذي فيه أنه إنما نسي اسمه فعبر عنه برجل أو كنى عن اسمه عمدا، وأما مدح شيخه فليس في السياق ما يقتضيه. قلت: وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة المخزومي، وكان له أخوان المغيرة وطالوت، ولم أقف على اسم ابن أخيه المذكور ولا على تعيين أبيه أيهما هو، قال ابن التين: ظاهر الحديث أن من اغتاب في صومه فهو مفطر، وإليه ذهب بعض السلف، وذهب الجمهور إلى خلافه، لكن معنى الحديث أن الغيبة من الكبائر وأن إثمها لا يفي له بأجر صومه فكأنه في حكم المفطر. قلت: وفي كلامه مناقشة لأن حديث الباب لا ذكر للغيبة فيه، وإنما فيه قول الزور والعمل به والجهل، ولكن الحكم والتأويل في كل ذلك ما أشار إليه والله أعلم. وقوله فيه: "فليس لله حاجة" هو مجاز عن عدم قبول الصوم.

(10/474)


52 - باب مَا قِيلَ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ
6058- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ" .
قوله: "باب ما قيل في ذي الوجهين" أورد فيه حديث أبي هريرة وفيه تفسيره وهو من جملة صور التمام. قوله: "تجد من شرار الناس" كذا وقع في رواية الكشميهني: "شرار" بصيغة الجمع، وأخرجه الترمذي من طريق أبي معاوية عن الأعمش بلفظ: "إن من شر الناس" وقد تقدم في أوائل المناقب في طريق عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عنه عن أبي هريرة بلفظ: "تجدون شر الناس" وأخرجه مسلم من هذا الوجه ومن رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عنه بلفظ: "تجدون من شر الناس ذا الوجهين" وأخرجه أبو داود من رواية سفيان بن عيينة

(10/474)


عن أبي الزناد عن الأعرج عنه بلفظ: "من شر الناس ذو الوجهين" ولمسلم من رواية مالك عن أبي الزناد "إن من شر الناس ذا الوجهين" وسيأتي في الأحكام من طريق عراك بن مالك عنه بلفظ: " إن شر الناس ذو الوجهين" وهو عند مسلم أيضا، وهذه الألفاظ متقاربة والروايات التي فيها "شر الناس" محمولة على الرواية التي فيها "من شر الناس" ووصفه بكونه شر الناس أو من شر الناس مبالغة في ذلك، ورواية: "أشر الناس" بزيادة الألف لغة في شر يقال خير وأخير وشر وأشر بمعنى ولكن الذي بالألف أقل استعمالا، ويحتمل أن يكون المراد بالناس من ذكر من الطائفتين المتضادتين خاصة، فإن كل طائفة منهما مجانبة للأخرى ظاهرا فلا يتمكن من الاطلاع على أسرارها إلا بما ذكر من خداعه الفريقين ليطلع على أسرارهم فهو شرهم كلهم. والأولى حمل الناس على عمومه فهو أبلغ في الذم، وقد وقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبي شهاب عن الأعمش بلفظ: "من شر خلق الله ذو الوجهين" قال القرطبي: إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق، إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس. وقال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين، وهي مداهنة محرمة. قال: فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود. وقال غيره: الفرق بينهما أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليه ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح. ويؤيد هذه التفرقة رواية الإسماعيلي من طريق ابن نمير عن الأعمش "الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء" وقال ابن عبد البر: حمله على ظاهره جماعة وهو أولى، وتأوله قوم على أن المراد به من يرائي بعمله فيري الناس خشوعا واستكانة ويوهمهم أنه يخشى الله حتى يكرموه وهو في الباطن بخلاف ذلك، قال: وهذا محتمل لو اقتصر في الحديث على صدره فإنه داخل في مطلق ذي الوجهين، لكن بقية الحديث ترد هذا التأويل وهي قوله: "يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" قلت: وقد اقتصر في رواية الترمذي على صدر الحديث، لكن دلت بقية الروايات على أن الراوي اختصره، فإنه عند الترمذي من رواية الأعمش، وقد ثبت هنا من رواية الأعمش بتمامه، ورواية ابن نمير التي أشرت إليها هي التي ترد التأويل المذكور صريحا، وقد رواه البخاري في "الأدب المفرد" من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: "لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا". وأخرج أبو داود من حديث عمار بن ياسر قال: "قال رسول الله صلى الله علبه وسلم: من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار" وفي الباب عن أنس أخرجه ابن عبد البر بهذا اللفظ، وهذا يتناول الذي حكاه ابن عبد البر عمن ذكره بخلاف حديث الباب فإنه فسر من يتردد بين طائفتين من الناس، والله أعلم.

(10/475)


53 - باب مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يُقَالُ فِيهِ
6059- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ" .
قوله: "باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه" قد تقدمت الإشارة إلى أن المذموم من نقلة الأخبار من يقصد

(10/475)


الإفساد، وأما من يقصد النصيحة ويتحرى الصدق ويجتنب الأذى فلا، وقل من يفرق بين البابين، فطريق السلامة في ذلك لمن يخشى عدم الوقوف على ما يباح من ذلك مما لا يباح الإمساك عن ذلك. حديث ابن مسعود في إخباره النبي صلى الله عليه وسلم بقول القائل "هذه قسمة ما أريد بها وجه الله" سيأتي شرحه مستوفى في "باب الصبر على الأذى" إن شاء الله تعالى. وقوله في هذه الرواية فتمعر وجهه بالعين المهملة أي تغير من الغضب، وللكشميهني فتمغر بالغين المعجمة أي صار لونه لون المغرة، وأراد البخاري بالترجمة بيان جواز النقل على وجه النصيحة، لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن مسعود نقله ما نقل، بل غضب من قول المنقول عنه، ثم حلم عنه وصبر على أذاه ائتساء بموسى عليه السلام وامتثالا لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .

(10/476)


54 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّمَادُحِ
6060- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: " سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ فَقَالَ أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ ".
6061- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْراً. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ يَقُولُهُ مِرَاراً إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحاً لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللَّهُ وَلاَ يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَداً قَالَ وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ وَيْلَكَ" .
قوله: "باب ما يكره من التمادح" هو تفاعل من المدح أي المبالغ، والتمدح التكلف والممادحة أي مدح كل من الشخصين الآخر، وكأنه ترجم ببعض ما يدل عليه الخبر لأنه أعم من أن يكون من الجانبين أو من جانب واحد، ويحتمل أن لا يريد حمل التفاعل فيه على ظاهره، وقد ترجم له في الشهادات "ما يكره من الإطناب في المدح". حديث أبي موسى قال فيه حدثنا محمد بن الصباح بفتح المهملة وتشديد الموحدة وآخره حاء مهملة هو البزار، ووقع هنا في رواية أبي ذر "محمد بن صباح" بغير ألف ولام، وتقدم الكل في الشهادات بهذا الحديث بعينه، وأخرجه مسلم عنه فقال: "حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح" وهذا الحديث هما اتفق الشيخان على تخريجه عن شيخ واحد، ومما ذكره البخاري بسنده ومتنه في موضعين ولم يتصرف في متنه ولا إسناده وهو قليل في كتابه، وقد أخرجه أحمد في مسنده عن محمد بن الصباح. وقال عبد الله بن أحمد بعد أن أخرجه عن أبيه عنه: قال عبد الله وسمعته أنا من محمد بن الصباح فذكره، وإسماعيل بن زكريا شيخه هو الخلقاني بضم المعجمة وسكون اللام بعدها قاف، وبريدة بموحدة وراء يكنى أبا بردة مثل كنية جده وهو شيخه فيه، وقوله عن بريد في رواية الإسماعيلي: "حدثنا بريد" قوله: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل" لم أقف على اسمهما صريحا، ولكن أخرج أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" من حديث محجن بن الأدرع الأسلمي قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي" فذكر

(10/476)


حديثا قال فيه: " فدخل المسجد فإذا رجل يصلي، فقال لي من هذا؟ فأثنيت عليه خيرا، فقال: اسكت لا تسمعه فتهلكه" وفي رواية له "فقلت يا رسول الله هذا فلان وهذا وهذا" وفي أخرى له "هذا فلان وهو من أحسن أهل المدينة صلاة، أو من أكثر أهل المدينة" الحديث. والذي أثنى عليه محجن يشبه أن يكون هو عبد الله ذو النجادين المزني، فقد ذكرت في ترجمته في الصحابة ما يقرب ذلك. قوله: "ويطريه" بضم أوله وبالطاء المهملة من الإطراء وهو المبالغة في المدح، وسأذكر ما ورد في بيان ما وقع من ذلك في الحديث الذي بعده. قوله: "في المدحة" بكسر الميم، وفي نسخة مضت في الشهادات "في المدح" بفتح الميم بلا هاء، وفي أخرى "في مدحه" بفتح الميم وزيادة الضمير والأول هو المعتمد. قوله: "لقد أهلكتم - أو قطعتم - ظهر الرجل" كذا فيه بالشك، وكذا لمسلم، وسيأتي في حديث أبي بكرة الذي بعده بلفظ: "قطعت عنق صاحبك" وهما بمعنى، والمراد بكل منهما الهلاك لأن من يقطع عنقه يقتل ومن يقطع ظهره يهلك. قوله: "عن خالد" هو الحذاء وصرح به مسلم في روايته من طريق غندر عن شعبة. قوله: "أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا" وفي رواية غندر "فقال: يا رسول الله ما من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه في كذا وكذا" لعله يعني الصلاة لما سيأتي. قوله: "ويحك" هي كلمة رحمة وتوجع، وويل كلمة عذاب، وقد تأتي موضع ويح كما سأذكره. قوله: "قطعت عنق صاحبك يقوله مرارا" في رواية يزيد بن زريع عن خالد الحذاء التي مضت في الشهادات "ويحك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك، مرارا" وبين في رواية وهيب التي سأنبه عليها بعد أنه قال ذلك ثلاثا. قوله: "إن كان أحدكم" في رواية يزيد بن زريع "وقال إن كان" قوله: "لا محالة" أي لا حيلة له في ترك ذلك وهي بمعنى لا بد والميم زائدة، ويحتمل أن يكون من الحول أي القوة والحركة. قوله: "فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى" بضم أوله أي يظن ووقع في رواية يزيد بن زريع "إن كان يعلم ذلك" وكذا في رواية وهيب. قوله: "والله حسيبه" بفتح أوله وكسر ثانيه وبعد التحتانية الساكنة موحدة أي كافيه، ويحتمل أن يكون هنا فعيل من الحساب أي محاسبة على عمله الذي يعلم حقيقته، وهي جملة اعتراضية. وقال الطيبي: هي من تتمة المقول، والجملة الشرطية حال من فاعل فليقل، والمعنى فليقل أحسب أن فلانا كذا إن كان يحسب ذلك منه والله يعلم سره لأنه هو الذي يجازيه، ولا يقل أتيقن ولا أتحقق جازما بذلك. قوله: "ولا يزكي على الله أحد" كذا لأبي ذر عن المستملي والسرخسي بفتح الكاف على البناء للمجهول وفي رواية الكشميهني: "ولا يزكي" بكسر الكاف على البناء للفاعل وهو المخاطب أولا المقول له فليقل، وكذا في أكثر الروايات. وفي رواية غندر "ولا أزكي" بهمزة بدل التحتانية أي لا أقطع على عاقبة أحد ولا على ما في ضميره لكون ذلك مغيبا عنه، وجيء بذلك بلفظ الخبر ومعناه النهي أي لا تزكوا أحدا على الله لأنه أعلم بكم منكم. قوله: "قال وهيب عن خالد" يعني بسنده المتقدم "ويلك" أي وقع في روايته ويلك بدل ويحك، وستأتي رواية وهيب موصولة في "باب ما جاء في قول الرجل ويلك" ويأتي شرح هذه اللفظة هناك. قال ابن بطال: حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالا على ما وصف به، ولذلك تأول العلماء في الحديث الآخر "احثوا في وجوه المداحين التراب" أن المراد من يمدح الناس في وجوههم بالباطل. وقال عمر: المدح هو الذبح. قال: وأما من مدح بما فيه فلا يدخل في النهي، فقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجه مادحه ترابا. انتهى ملخصا.

(10/477)


فأما الحديث المشار إليه فأخرجه مسلم من حديث المقداد، وللعلماء فيه خمسة أقوال: أحدها: هذا وهو حمله على ظاهره واستعمله المقداد راوي الحديث. والثاني: الخيبة والحرمان كقولهم لمن رجع خائبا رجع وكفه مملوءة ترابا. والثالث: قولوا له بفيك التراب، والعرب تستعمل ذلك لمن تكره قوله. والرابع: أن ذلك يتعلق بالممدوح كأن يأخذ ترابا فيبذره بين يديه يتذكر بذلك مصيره إليه فلا يطغي بالمدح الذي سمعه. والخامس المراد بحثو التراب في وجه المادح إعطاؤه ما طلب لأن كل الذي فوق التراب تراب، وبهذا جزم البيضاوي وقال: شبه الإعطاء بالحثي على سبيل الترشيح والمبالغة في التقليل والاستهانة، قال الطيبي: ويحتمل أن يراد رفعه عنه وقطع لسانه عن عرضه بما يرضيه من الرضخ، والدافع قد يدفع خصمه بحثي التراب على وجهه استهانة به. وأما الأثر عن عمر فورد مرفوعا أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث معاوية "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" فذكره بلفظ: "إياكم والتمادح فإنه الذبح" وإلى لفظ هذه الرواية رمز البخاري في الترجمة، وأخرجه البيهقي في "الشعب" مطولا وفيه: "وإياكم والمدح فإنه من الذبح" وأما ما مدح به النبي صلى الله عليه وسلم فقد أرشد مادحيه إلى ما يجوز من ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم" الحديث، وقد تقدم بيانه في أحاديث الأنبياء، وقد ضبط العلماء المبالغة الجائزة من المبالغة الممنوعة بأن الجائزة يصحبها شرط أو تقريب، والممنوعة بخلافها، ويستثنى من ذلك ما جاء عن المعصوم فإنه لا يحتاج إلى قيد كالألفاظ التي وصف النبي صلى الله عليه وسلم بها بعض الصحابة مثل قوله لابن عمرو "نعم العبد عبد الله" وغير ذلك وقال الغزالي في "الإحياء" آفة المدح في المادح أنه قد يكذب وقد يرائي الممدوح بمدحه ولا سيما إن كان فاسقا أو ظالما، فقد جاء في حديث أنس رفعه: "إذا مدح الفاسق غضب الرب" أخرجه أبو يعلى وابن أبي الدنيا في الصمت، وفي سنده ضعف، وقد يقول ما لا يتحققه مما لا سبيل له إلى الاطلاع عليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "فليقل أحسب" وذلك كقوله إنه ورع ومتق وزاهد، بخلاف ما لو قال: رأيته يصلي أو يحج أو يزكي فإنه يمكنه الاطلاع على ذلك، ولكن تبقى الآفة على الممدوح، فإنه لا يأمن أن يحدث فيه المدح كبرا أو إعجابا أو يكله على ما شهره به المادح فيفتر عن العمل، لأن الذي يستمر في العمل غالبا هو الذي يعد نفسه مقصرا، فإن سلم المدح من هذه الأمور لم يكن به بأس، وربما كان مستحبا، قال ابن عيينة: من عرف نفسه لم يضره المدح. وقال بعض السلف: إذا مدح الرجل في وجهه فليقل: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون، أخرجه البيهقي في "الشعب".

(10/478)


55 - باب مَنْ أَثْنَى عَلَى أَخِيهِ بِمَا يَعْلَمُ
وَقَالَ سَعْدٌ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلاَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ
6062- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذَكَرَ فِي الإِزَارِ مَا ذَكَرَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ إِزَارِي يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ قَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ".
قوله: "باب من أثنى على أخيه بما يعلم" أي فهو جائز ومستثنى من الذي قبله، والضابط أن لا يكون في المدح

(10/478)


مجازفة، ويؤمن على الممدوح الإعجاب والفتنة كما تقدم. قوله: "وقال سعد" هو ابن أبي وقاص، وتقدم الحديث المذكور موصولا في مناقب عبد الله من كتاب المناقب. ذكر المصنف حديث ابن عمر موصولا في قصة جر الإزار "فقال أبو بكر: إن إزاري يسقط من أحد شقيه، قال: إنك لست منهم " وقد تقدم أبسط من هذا في كتاب اللباس، وفي لفظ: "إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء" وهذا من جملة المدح، لكنه لما كان صدقا محضا وكان الممدوح يؤمن معه الإعجاب والكبر مدح به، ولا يدخل ذلك في المنع، ومن جملة ذلك الأحاديث المتقدمة في مناقب الصحابة ووصف كل واحد منهم بما وصف به من الأوصاف الجميلة كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر " ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك" وقوله للأنصاري " عجب الله من صنعكما " وغير ذلك من الأخبار.

(10/479)


باب قول الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يظكم لعلكم تذكرون}
...
56 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} وَتَرْكِ إِثَارَةِ الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ
6063- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي ذَاتَ يَوْمٍ: " يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِي أَمْرٍ اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلاَنِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيَّ وَالْآخَرُ عِنْدَ رَأْسِي فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي مَا بَالُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ يَعْنِي مَسْحُوراً قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ قَالَ وَفِيمَ قَالَ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْرِجَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلاَ تَعْنِي تَنَشَّرْتَ؟ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَمَّا أَنَا فَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرّاً" قَالَتْ وَلَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ".
قوله: "باب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} الآية" كذا لأبي ذر والنسفي، وساق الباقون إلى {تَذَكَّرُونَ} وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق أبي الضحى قال: "قال شتير بن شكل لمسروق: حدث يا أبا عائشة وأصدقك. قال: هل سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ما في القرآن آية أجمع لحلال وحرام وأمر ونهي من هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} ؟ قال نعم" وسنده صحيح. قوله: "وقوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} " أي إن أثم البغي على الباغي إما عاجلا وإما آجلا. قوله: "وقوله: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} " كذا في رواية كريمة والأصيلي على وفق التلاوة، وكذا في رواية النسفي وأبي ذر وللباقين "ومن بغي عليه" وهو سبق قلم إما من المصنف وإما ممن بعده، كما أن المطابق للتلاوة إما من المصنف وإما من إصلاح من بعده، وإذا لم تتفق الروايات على شيء فمن جزم بأن الوهم من المصنف فقد تحامل عليه. قال

(10/479)


الراغب: البغي مجاوزة القصد في الشيء. فمنه ما يحمد ومنه ما يذم، فالمحمود مجاوزة العدل الذي هو الإتيان بالمأمور بغير زيادة فيه ولا نقصان منه إلى الإحسان وهو الزيادة عليه، ومنه الزيادة على الفرض بالتطوع المأذون فيه، والمذموم مجاوزة العدل إلى الجور والحق إلى الباطل والمباح إلى الشبهة، ومع ذلك فأكثر ما يطلق البغي على المذموم قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقال تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} وإذا أطلق البغي وأريد به المحمود يزاد فيه غالبا التاء كما قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} وقال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} وقال غيره: البغي الاستعلاء بغير حق، ومنه بغي الجرح إذا فسد. قوله: "وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر" ثم ذكر فيه حديث عائشة في قصة الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ابن بطال: وجه الجمع بين الآيات المذكورة وترجمة الباب مع الحديث أن الله لما نهى عن البغي، وأعلم أن ضرر البغي إنما هو راجع إلى الباغي، وضمن النصر لمن بغي عليه كان حق من بغي عليه أن يشكر الله على إحسانه إليه بأن يعفو عمن بغى عليه، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقب الذي كاده بالسحر مع قدرته على ذلك. انتهى ملخصا. ويحتمل أن يكون مطابقة الترجمة للآيات والحديث أنه صلى الله عليه وسلم ترك استخراج السحر خشية أن يثور على الناس منه شر فسلك مسلك العدل في أن لا يحصل لمن لم يتعاط السحر من آثر الضرر الناشئ عن السحر شر، وسلك مسلك الإحسان في ترك عقوبة الجاني كما سبق. وقال ابن التين: يستفاد من الآية الأولى أن دلالة الاقتران ضعيفة، لجمعه تعالى بين العدل والإحسان في أمر واحد، والعدل واجب والإحسان مندوب. قلت: وهو مبني على تفسير العدل والإحسان، وقد اختلف السلف في المراد بهما في الآية فقيل: العدل لا إله إلا الله، والإحسان الفرائض. وقيل: العدل لا إله إلا الله، والإحسان الإخلاص. وقيل: العدل خلع الأنداد، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. وهو بمعنى الذي قبله. وقيل: العدل الفرائض، والإحسان النافلة. وقيل: العدل العبادة، والإحسان الخشوع فيها. وقيل: العدل الإنصاف، والإحسان التفضل. وقيل: العدل امتثال المأمورات، والإحسان اجتناب المنهيات. وقيل: العدل بذل الحق، والإحسان ترك الظلم. وقيل: العدل استواء السر والعلانية، والإحسان فضل العلانية. وقيل: العدل البذل، والإحسان العفو. وقيل: العدل في الأفعال، والإحسان في الأقوال. وقيل غير ذلك. وأقر بها لكلامه الخامس والسادس. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: العدل بن العبد وربه بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، وبين العبد وبين نفسه بمزيد الطاعات وتوقي الشبهات الشهوات، وبين العبد وبين غيره بالإنصاف. انتهى ملخصا. وقال الراغب: العدل ضربان مطلق يقتضي العقل حسنه ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا ولا يوصف بالاعتداء بوجه، نحو أن تحسن لمن أحسن إليك وتكف الأذى عمن كف أذاه عنك. وعدل يعرف بالشرع ويمكن أن يدخله النسخ ويوصف بالاعتداء مقابلة كالقصاص وأرش الجنايات وأخذ مال المرتد، ولذا قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية، وهذا النحو هو المعنى بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} فإن العدل هو المساواة في المكافأة في خير أو شر، والإحسان مقابلة الخير بأكثر منه والشر بالترك أو بأقل منه. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "مطبوب، يعني مسحورا" هذا التفسير مدرج في الخبر، وقد بينت ذلك عند شرح الحديث في كتاب الطب، وكذا قوله: "فهلا" تعني تنشرت. ومن قال هو مأخوذ من النشرة أو من نشر الشيء بمعنى إظهاره. وكيف يجمع بين قولها "فأخرج" وبين

(10/480)


قولها في الرواية الأخرى "هلا استخرجته" وأن حاصله أن الإخراج الواقع كان لأصل السحر والاستخراج المنفي كان لأجزاء السحر. وقوله في آخره: "حليف ليهود" وقع في رواية الكشميهني هنا "لليهود" بزيادة لام

(10/481)


باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر وقوله تعالى: {من شر حاسد إذا حسد}
...
57 - باب مَا يُنْهَى عَنْ التَّحَاسُدِ وَالتَّدَابُرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}
6064- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً" .
6065- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ" .
[الحديث 6065 – طرفه في: 6076]
قوله: "باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر" كذا للأكثر، وعند الكشميهني وحده "من" بدل "عن". وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} أشار بذكر هذه الآية إلى أن النهي عن التحاسد ليس مقصورا على وقوعه بين اثنين فصاعدا، بل الحسد مذموم ومنهي عنه ولو وقع من جانب واحد، لأنه إذا ذم مع وقوعه مع المكافأة فهو مذموم مع الإفراد بطريق الأولى. قوله: "بشر بن محمد" هو المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "إياكم والظن" قال الخطابي وغيره ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تناط به الأحكام غالبا، بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بغير دليل، وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يمكن دفعها، وما لا يقدر عليه لا يكلف به، ويؤيده حديث: "تجاوز الله للأمة عما حدثت به أنفسها" وقد تقدم شرحه. وقال القرطبي: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم رجلا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، ولذلك عطف عليه قوله: "ولا تجسسوا" وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع، فنهى عن ذلك، وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} ، فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان أبحث لأتحقق، قيل له "ولا تجسسوا" فإن قال تحققت من غير تجسس قيل له "ولا يغتب بعضكم بعضا" وقال عياض: استدل بالحديث قوم على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي، وحمله المحققون على ظن مجرد عن الدليل ليس مبنيا على أصل ولا تحقيق نظر. وقال النووي: ليس المراد في الحديث بالظن ما يتعلق بالاجتهاد الذي يتعلق بالأحكام أصلا، بل الاستدلال به لذلك ضعيف أو باطل. وتعقب بأن ضعفه ظاهر وأما بطلانه فلا، فإن اللفظ صالح لذلك، ولا سيما إن حمل على ما ذكره القاضي عياض وقد قربه في "المفهم" وقال: الظن الشرعي الذي هو تغليب أحد الجانبين أو هو بمعنى اليقين ليس مرادا من الحديث ولا من الآية. فلا يلتفت لمن استدل بذلك على إنكار الظن الشرعي. وقال ابن عبد البر: احتج به بعض الشافعية على من قال بسد الذريعة في البيع فأبطل بيع العينة، ووجه

(10/481)


الاستدلال النهي عن الظن بالمسلم شرا، فإذا باع شيئا حمل على ظاهره الذي وقع العقد به ولم يبطل بمجرد توهم أنه سلك به مسلك الحيلة، ولا يخفى ما فيه. وأما وصف الظن بكونه أكذب الحديث، مع أن تعمد الكذب الذي لا يستند إلى ظن أصلا أشد من الأمر الذي يستند إلى الظن، فللإشارة إلى أن الظن المنهي عنه هو الذي لا يستند إلى شيء يجوز الاعتماد عليه فيعتمد عليه ويجعل أصلا ويجزم به، فيكون الجازم به كاذبا؛ وإنما صار أشد من الكاذب لأن الكذب في أصله مستقبح مستغنى عن ذمه، بخلاف هذا فإن صاحبه بزعمه مستند إلى شيء فوصف بكونه أشد الكذب مبالغة في ذمه والتنفير منه، وإشارة إلى أن الاغترار به أكثر من الكذب المحض لخفائه غالبا ووضوح الكذب المحض. قوله: "فإن الظن أكذب الحديث" قد استشكلت تسمية الظن حديثا، وأجيب بأن المراد عدم مطابقة الواقع سواء كان قولا أو فعلا، ويحتمل أن يكون المراد ما ينشأ عن الظن فوصف الظن به مجازا. قوله: " ولا تحسسوا ولا تجسسوا" إحدى الكلمتين بالجيم والأخرى بالحاء المهملة، وفي كل منهما حذف إحدى التاءين تخفيفا، وكذا في بقية المناهي التي في حديث الباب، والأصل تتحسسوا، قال الخطابي معناه لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوها، قال الله تعالى حاكيا عن يعقوب عليه السلام {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} وأصل هذه الكلمة التي بالمهملة من الحاسة إحدى الحواس الخمس، وبالجيم من الجس بمعنى اختيار الشيء باليد وهي إحدى الحواس، فتكون التي بالحاء أعم. وقال إبراهيم الحربي: هما بمعنى واحد. وقال ابن الأنباري: ذكر الثاني للتأكيد كقولهم بعدا وسخطا، وقيل بالجيم البحث عن عوراتهم وبالحاء استماع حديث القوم، وهذا رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أحد صغار التابعين. وقيل بالجيم البحث عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر، وبالحاء البحث عما يدرك بحاسة العين والأذن ورجح هذا القرطبي، وقيل بالجيم تتبع الشخص لأجل غيره وبالحاء تتبعه لنفسه وهذا اختيار ثعلب، ويستثنى من النهي عن التجسس ما لو تعين طريقا إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلا كأن يخبر ثقة بأن فلانا خلا بشخص ليقتله ظلما، أو بامرأة ليزني بها، فيشرع في هذه الصورة التجسس والبحث عن ذلك حذرا من فوات استدراكه، نقله النووي عن "الأحكام السلطانية" للماوردي واستجاده، وأن كلامه: ليس للمحتسب أن يبحث عما لما يظهر من المحرمات ولو غلب على الظن استسرار أهلها بها إلا هذه الصورة. قوله: "ولا تحاسدوا" الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها أعم من أن يسعى في ذلك أو لا، فإن سعى كان باغيا، وإن لم يسع في ذلك ولا أظهره ولا تسبب في تأكيد أسباب الكراهة التي نهي المسلم عنها في حق المسلم نظر: فإن كان المانع له من ذلك العجز بحيث لو تمكن لفعل فهذا مأزور، وإن كان المانع له من ذلك التقوى ففد يعذر لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية فيكفيه في مجاهدتها أن لا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها، وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية رفعه: "ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة والظن والحسد. قيل: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قالا: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ " وعن الحسن البصري قال: ما من آدمي إلا وفيه الحسد. فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء. قوله: "ولا تدابروا" قال الخطابي: لا تتهاجروا فيهجر أحدكم أخاه، مأخوذ من تولية الرجل الآخر دبره إذا أعرض عنه حين يراه. وقال ابن عبد البر: قيل للإعراض مدابرة لأن من أبغض أعرض ومن أعرض ولى دبره، والمحب بالعكس. وقيل معناه لا يستأثر أحدكم على الآخر، وقيل للمستأثر مستدبر لأنه يولى دبره حين يستأثر بشيء دون الآخر وقال المازري: معنى

(10/482)


التدابر المعاداة يقول دابرته أي عاديته. وحكى عياض أن معناه لا تجادلوا ولكن تعاونوا، والأول أولى. وقد فسره مالك في "الموطأ" بأخص منه فقال إذ ساق حديث الباب عن الزهري بهذا السند: ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام، يدبر عنه بوجهه. وكأنه أخذه من بقية الحديث: "يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" فإنه يفهم أن صدور السلام منهما أو من أحدهما يرفع ذلك الإعراض، وسيأتي مزيد لهذا في "باب الهجرة" ويؤيده ما أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في "زيادات كتاب البر والصلة" لابن المبارك بسند صحيح عن أنس قال: التدابر التصارم. قوله: "ولا تباغضوا" أي لا تتعاطوا أسباب البغض، لأن البغض لا يكتسب ابتداء. وقيل المراد النهي عن الأهواء المضلة المقتضية للتباغض. قلت: بل هو لأعم من الأهواء، لأن تعاطي الأهواء ضرب من ذلك، وحقيقة التباغض أن يقع بين اثنين وقد يطلق إذا كان من أحدهما، والمذموم منه ما كان في غير الله تعالى، فإنه واجب فيه ويثاب فاعله لتعظيم حق الله ولو كانا أو أحدهما عند الله من أهل السلامة، كمن يؤديه اجتهاده إلى اعتقاد ينافي الآخر فيبغضه على ذلك وهو معذور عند الله. قوله: "وكونوا عباد الله إخوانا" بلفظ المنادي المضاف، زاد مسلم في آخره من رواية أبي صالح عن أبي هريرة "كما أمركم الله" ومثله عنده من طريق قتادة عن أنس، وهذه الجملة تشبه التعليل لما تقدم، كأنه قال إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخوانا ومفهومه إذا لم تتركوها تصيروا أعداء، ومعنى كونوا إخوانا اكتسبوا ما تصيرون به إخوانا مما سبق ذكره وغير ذلك من الأمور المقتضية لذلك إثباتا ونفيا، وقوله: "عباد الله" بحذف حرف النداء، وفيه إشارة إلى أنكم عبيد الله فحقكم أن تتواخوا بذلك، قال القرطبي: المعنى كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة، ولعل قوله في الرواية الزائدة "كما أمركم الله" أي بهذه الأوامر المقدم ذكرها فإنها جامعة لمعاني الأخوة، ونسبتها إلى الله لأن الرسول مبلغ عن الله، وقد أخرج أحمد بسند حسن عن أبي أمامة مرفوعا: "لا أقول إلا ما أقول" ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "كما أمركم الله" الإشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فإنه خبر عن الحالة التي شرعت للمؤمنين، فهو بمعنى الأمر، قال ابن عبد البر: تضمن الحديث تحريم بغض المسلم والإعراض عنه وقطيعته بعد صحبته بغير ذنب شرعي، والحسد له على ما أنعم به عليه، وأن يعامله معاملة الأخ النسيب، وأن لا ينقب عن معايبه، ولا فرق في ذلك بين الحاضر والغائب، وقد يشترك الميت مع الحي في كثير من ذلك.
" تنبيه ": وقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن همام في هذا الحديث من الزيادة "ولا تنافسوا" وكذا وقعت في حديث أبي هريرة من رواية الأعرج وبين الاختلاف فيها في الباب الذي بعده، ووقع عند مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة في آخره: "كما أمركم الله" وقد نبهت عليها. ولمسلم أيضا من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فيه: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" وأفرد هذه الزيادة في البيوع من وجه آخر، ومثله من رواية أبي سعيد مولى عامر بن كريز عن أبي هريرة وزاد بعد قوله: "إخوانا": "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه، التقوى هاهنا ويشير إلى صدره" وزاد في رواية أخرى من هذه الطريق "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" وقد أفردها أيضا من وجه آخر عن أبي هريرة، وزاد البخاري من رواية جعفر بن ربيعة عن الأعرج فيه زيادة سأذكرها في الباب الذي بعده. وهذه الطريق من رواية مولى عامر

(10/483)


أجمع ما وقفت عليه من طرق هذا الحديث عن أبي هريرة، وكأنه كان يحدث به أحيانا مختصرا وطورا بتمامه، وقد فرقه بعض الرواة أحاديث، وممن وقع عنده بعضه مفرقا ابن ماجه في كتاب الزهد من كتابه وهو حديث عظيم اشتمل على جمل من الفوائد والآداب المحتاج إليها. حديث أنس: قوله: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا" هكذا اقتصر الحفاظ من أصحاب الزهري عنه على هذه الثلاثة، وزاد عبد الرحمن بن إسحاق عنه فيه: "ولا تنافسوا" ذكر ذلك ابن عبد البر في "التمهيد" والخطيب في "المدرج" قال: وهكذا قال سعيد بن أبي مريم عن مالك عن ابن شهاب، وقد قال الخطيب وابن عبد البر: خالف سعيد جميع الرواة عن مالك في "الموطأ" وغيره فإنهم لم يذكروا هذه الكلمة في حديث أنس، وإنما هي عندهم في حديث مالك عن أبي الزناد، أي الحديث الذي يلي هذا، فأدرجها ابن أبي مريم في إسناد حديث أنس، وكذا قال حمزة الكناني: لا أعلم أحدا قالها عن مالك في حديث أنس غير سعيد، وسيأتي الكلام على حكم التهاجر، والتنبيه على زيادة وقعت في آخر حديث أنس هذا بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى.

(10/484)


48 - باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا}
6066- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً".
قوله: "باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا} " كذا للجميع، إلا أن لفظ: "باب" سقط من رواية أبي ذر. حديث أبي هريرة من رواية مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عنه فقط، وزعم ابن بطال وتبعه ابن التين أن البخاري أورد فيه حديث أنس - أي المذكور في الباب الذي قبله - ثم حكى ابن بطال عن المهلب أن مطابقته للترجمة من جهة أن البغض والحسد ينشآن عن سوء الظن، قال ابن التين: وذلك أنهما يتأولان أفعال من يبغضانه ويحسدانه على أسوأ التأويل. اهـ. والذي وقفت عليه في النسخ التي وقعت لنا كلها أن حديث أنس في الباب الذي قبله ولا إشكال فيه. قوله فيه "ولا تناجشوا" كذا في جميع النسخ التي وقفت عليها من البخاري بالجيم والشين المعجمة، من النجش وهو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، وقد تقدم بيانه وحكمه في كتاب البيوع، والذي في جميع الروايات عن مالك بلفظ: "ولا تنافسوا" بالفاء والسين المهملة، وكذا أخرجه الدار قطني في "الموطآت" من طريق ابن وهب ومعن وابن القاسم وإسحاق بن عيسى بن الطباع وروح بن عبادة ويحيي بن يحيى التميمي والقعنبي ويحيى بن بكير ومحمد بن الحسن ومحمد بن جعفر الوركاني وأبي مصعب وأبي حذافة كلهم عن مالك، وكذا ذكره ابن عبد البر من رواية يحيى بن يحيي الليثي وغيره عن مالك، وكذا أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى التميمي، وكذلك أخرجه مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ولكنه أخرج من طريق الأعمش عن أبي صالح بلفظ: "ولا تناجشوا" كما وقع عند البخاري ومن طريق أبي سعيد مولى عامر بن كريز كذلك فاختلف فيها على أبي هريرة ثم أبي صالح عنه، فلا يمتنع أن يختلف فيها على مالك، إلا أني ما وجدت ما يعضد رواية عبد الله بن يوسف هذه، ويبعد أن يجتمع الجميع على

(10/484)


شيء وينفرد واحد بخلافه ويكون محفوظا، ولم أر الحديث في نسختي من "مستخرج الإسماعيلي" أصلا فلا أدري سقط عليه أو سقط من النسخة، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من رواية الوركاني عن مالك ووقع فيه عنده ولا تنافسوا كالجماعة، ولكنه قال في آخره: أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك ولم ينبه على هذه اللفظة، فما أدري هل وقع في نسخته على وفاق الجماعة أو على ما عندنا ولم يعتن ببيان ذلك، ولم أر من نبه على هذا الموضع حتى أن الحميدي ساقه من البخاري وحده من رواية جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة، وهذه الطريق قد مضت في أوائل النكاح، وليس فيها هذه اللفظة المختلف فيها ولكن فيها بعد قوله إخوانا "ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" قال: وأخرجه البخاري أيضا من حديث مالك فساقه بهذا السند والمتن بتمامه دون اللفظة التي أتكلم عليها وقال: هكذا أخرجه البخاري في الأدب، وأغفله أبو مسعود، ولكنه ذكر أنه أخرجه من رواية شعيب عن أبي الزناد، ولم أجد ذلك فيه إلا من رواية شعيب عن الزهري عن أنس، قال الحميدي: وأخرجه البخاري من رواية همام عن أبي هريرة نحوه، ومن رواية طاوس عن أبي هريرة مثل رواية الأعرج سواء. قلت: ورواية طاوس تأتي في الفرائض. قال الحميدي: وقد أخرجه مسلم أيضا من رواية مالك عن أبي الزناد فساقه وفيه: "ولا تنافسوا" قال: فهو متفق عليه من رواية مالك لا من أفراد البخاري وكأنه استدرك ذلك على نفسه، والغرض من ذلك أن الحميدي مع تتبعه واعتنائه لم ينبه على ما وقع في هذه اللفظة من الاختلاف، وكذا أغفل ابن عبد البر التنبيه عليها، وهي على شرطه في "التمهيد" وكذلك الدار قطني، ولو تفطن لها لساقها في "غرائب مالك" كعادته في أنظارها، ولكنه لم يتعرض لها فلعلها من تغيير بعض الرواة بعد البخاري. والله أعلم.

(10/485)


59 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الظَّنِّ
6067- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا أَظُنُّ فُلاَناً وَفُلاَناً يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئاً" . قَالَ اللَّيْثُ: كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ.
[الحديث 6067 – طرفه في: 6068]
6068- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بِهَذَا "وَقَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا أَظُنُّ فُلاَناً وَفُلاَناً يَعْرِفَانِ دِينَنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ" .
قوله: "باب ما يجوز من الظن" كذا للنسفي، ولأبي ذر عن الكشميهني، وكذا في ابن بطال. وفي رواية القابسي والجرجاني "ما يكره" وللباقين "ما يكون" والأول أليق بسياق الحديث. قوله: "ما أظن فلانا وفلانا" لم أقف على تسميتهما، وقد ذكر الليث في الرواية الأولى أنهما كانا منافقين. قوله: "يعرفان من ديننا شيئا" وفي الرواية الأخرى "يعرفان ديننا الذي نحن عليه". قال الداودي: تأويل الليث بعيد، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف جميع المنافقين، كذا قال. وقال غيره: الحديث لا يطابق الترجمة لأن في الترجمة إثبات الظن وفي الحديث نفي الظن. والجواب أن النفي في الحديث لظن النفي لا لنفي الظن فلا تنافي بينه وبين الترجمة، وحاصل الترجمة أن مثل هذا الذي

(10/485)


وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه، لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين، والنهي إنما هو عن الظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه، وقد قال ابن عمر: إنا كنا إذا فقدنا الرجل في عشاء الآخرة أسأنا به الظن، ومعناه أنه لا يغيب إلا لأمر سيء إما في بدنه وإما في دينه.

(10/486)


باب ستر المسلم على نفسه
...
60 - باب سَتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ
6069- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ" .
6070- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى. قَالَ: "يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. وَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ" .
قوله: "باب ستر المؤمن على نفسه" أي إذا وقع منه ما يعاب فيشرع له ويندب له. قوله: "عبد العزيز بن عبد الله" هو الأويسي. قوله: "عن ابن أخي ابن شهاب" هو محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري، ووقع في رواية لأبي نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن عبد العزيز شيخ البخاري فيه: "حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن عبد الله ابن أخي ابن شهاب" وقد روى إبراهيم بن سعد عن الزهري نفسه الكبير، وربما أدخل بينهما واسطة مثل هذا. قوله: "عن ابن شهاب" في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه أخرجه مسلم والإسماعيلي. قوله: "كل أمتي معافى " بفتح الفاء مقصور اسم مفعول من العافية وهو إما بمعنى عفا الله عنه وإما سلمه الله وسلم منه. قوله: " إلا المجاهرين" كذا هو للأكثر وكذا في رواية مسلم ومستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم بالنصب. وفي رواية النسفي "إلا المجاهرون" بالرفع وعليها شرح ابن بطال وابن التين وقال: كذا وقع، وصوابه عند البصريين بالنصب، وأجاز الكوفيون الرفع في الاستثناء المنقطع، كذا قال. وقال ابن مالك "إلا" على هذا بمعنى لكن، وعليها خرجوا قراءة ابن كثير وأبي عمرو {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} أي لكن امرأتك {أنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} وكذلك هنا المعنى: لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون، فالمجاهرون مبتدأ والخبر محذوف. وقال الكرماني: حق الكلام النصب إلا أن يقال العفو بمعنى الترك وهو نوع من النفي، ومحصل الكلام كل واحد من الأمة يعفى عن ذنبه ولا يؤاخذ به إلا الفاسق المعلن اهـ. واختصره من كلام الطيبي فإنه قال: كتب في نسخة "المصابيح" المجاهرون بالرفع وحقه النصب، وأجاب بعض شراح المصابيح بأنه مستثنى من قوله معافى وهو في معنى النفي، أي كل أمتي لا ذنب عليهم إلا المجاهرون. وقال الطيبي: الأظهر أن يقال المعنى:

(10/486)


كل أمتي يتركون في الغيبة إلا المجاهرون، والعفو بمعنى الترك وفيه معنى النفي كقوله: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} والمجاهر الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدث بها، وقد ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به اهـ. والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من جاهر بكذا بمعنى جهر به. والنكتة في التعبير بفاعل إرادة المبالغة، ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة والمراد الذي يجاهر بعضهم بعضا بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكد الاحتمال الأول. قوله: "وإن من المجاهرة" كذا لابن السكن والكشميهني وعليه شرح ابن بطال، وللباقين "المجانة" بدل المجاهرة. ووقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد "وإن من الإجهار" كذا عند مسلم. وفي رواية له "الجهار" وفي رواية الإسماعيلي: "الإهجار" وفي رواية لأبي نعيم في المستخرج "وإن من الهجار" فتحصلنا على أربعة أشهرها الجهار ثم تقديم الهاء وبزيادة ألف قبل كل منهما، قال الإسماعيلي: لا أعلم أني سمعت هذه اللفظة في شيء من الحديث، يعني إلا في هذا الحديث. وقال عياض: وقع للعذري والسجزي في مسلم الإجهار وللفارسي الإهجار وقال في آخره: وقال زهير الجهار، هذه الروايات من طريق ابن سفيان وابن أبي ماهان عن مسلم، وفي أخرى عن ابن سفيان في رواية زهير الهجار، قال عياض: الجهار والإجهار والمجاهرة كله صواب بمعنى الظهور والإظهار، ويقال جهر وأجهر بقوله وقراءته إذا أظهر وأعلن لأنه راجع لتفسير قوله أولا "إلا المجاهرون" قال وأما المجانة فتصحيف وإن كان معناها لا يبعد هنا، لأن الماجن هو الذي يستهتر في أموره وهو الذي لا يبالي بما قال وما قيل له. قلت: بل الذي يظهر رجحان هذه الرواية لأن الكلام المذكور بعده لا يرتاب أحد أنه من المجاهرة فليس في إعادة ذكره كبير فائدة، وأما الرواية بلفظ المجانة فتفيد معنى زائدا وهو أن الذي يجاهر بالمعصية يكون من جملة المجان، والمجانة مذمومة شرعا وعرفا، فيكون الذي يظهر المعصية قد ارتكب محذورين: إظهار المعصية وتلبسه بفعل المجان، قال عياض: وأما الإهجار فهو الفحش والخناء وكثرة الكلام، وهو قريب من معنى المجانة، يقال أهجر في كلامه، وكأنه أيضا تصحيف من الجهار أو الإجهار وإن كان المعنى لا يبعد أيضا هنا، وأما لفظ الهجار فبعيد لفظا ومعنى لأن الهجار الحبل أو الوتر تشد به يد البعير أو الحلقة التي يتعلم فيها الطعن ولا يصح له هنا معنى، والله أعلم. قلت: بل له معنى صحيح أيضا فأنه يقال هجر وأهجر إذا أفحش في كلامه فهو مثل جهر وأجهر، فما صح في هذا صح في هذا، ولا يلزم من استعمال الهجار بمعنى الحبل أو غيره أن لا يستعمل مصدرا من الهجر بضم الهاء. قوله: "البارحة" هي أقرب ليلة مضت من وقت القول، تقول لقيته البارحة، وأصلها من برح إذا زال. وورد في الأمر بالستر في الأمر حديث ليس على شرط البخاري وهو حديث ابن عمر رفعه: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله" الحديث أخرجه الحاكم، وهو في "الموطأ" من مرسل زيد بن أسلم، قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تذل أهلها، ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد ومن التعزير إن لم يوجب حدا، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك، وبهذا يعرف موقع إيراد حديث النجوى عقب حديث الباب، وقد استشكلت مطابقته للترجمة من جهة أنها معقودة لستر المؤمن على نفسه والذي في الحديث ستر الله على المؤمن، والجواب أن الحديث مصرح بذم من جاهر بالمعصية فيستلزم

(10/487)


مدح من يستتر، وأيضا فإن ستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه، فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربه فلم يستره، ومن قصد التستر بها حياء من ربه ومن الناس من الله عليه بستره إياه، وقيل إن البخاري يشير بذكر هذا الحديث في هذه الترجمة إلى تقوية مذهبه أن أفعال العباد مخلوقة لله. قوله: "عن صفوان بن محرز" في رواية شيبان عن قتادة "حدثنا صفوان" وتقدم التنبيه عليها في تفسير سورة هود، وصفوان مازني بصري وأبوه بضم أوله وسكون المهملة وكسر الراء ثم الزاي ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في بدء الخلق عنه عن عمران بن حصين وقد ذكرهما في عدة مواضع. قوله: "أن رجلا سأل ابن عمر" في رواية همام عن قتادة الماضية في المظالم عن صفوان قال: "بينما أنا أمشي مع ابن عمر آخذ بيده" وفي رواية سعيد وهشام عن قتادة في تفسير هود "بينما ابن عمر يطوف إذ عرض له رجل" ولم أقف على اسم السائل لكن يمكن أن يكون هو سعيد بن جبير فقد أخرج الطبراني من طريقه قال: "قلت لابن عمر حدثني" فذكر الحديث. قوله: "كيف سمعت" في رواية سعيد وهشام "فقال يا أبا عبد الرحمن" وهي كنية عبد الله بن عمر. قوله: "كيف سمعت رسول الله يقول في النجوى" هي ما تكلم به المرء يسمع نفسه ولا يسمع غيره، أو يسمع غيره سرا دون من يليه، قال الراغب: ناجيته إذا ساررته، وأصله أن تخلو في نجوة من الأرض، وقيل أصله من النجاة وهي أن تنجو بسرك من أن يطلع عليه، والنجوى أصله المصدر، وقد يوصف بها فيقال هو نجوى وهم نجوى، والمراد بها هنا المناجاة التي تقع من الرب سبحانه وتعالى يوم القيامة مع المؤمنين. وقال الكرماني: أطلق على ذلك النجوى لمقابلة مخاطبة الكفار على رءوس الأشهاد هناك. قوله: " يدنو أحدكم من ربه " في رواية سعيد بن أبي عروبة "يدنو المؤمن من ربه" أي يقرب منه قرب كرامة وعلو منزلة. قوله: "حتى يضع كنفه" بفتح الكاف والنون بعدها فاء أي جانبه، والكنف أيضا الستر وهو المراد هنا، والأول مجاز في حق الله تعالى كما يقال فلان في كنف فلان أي في حمايته وكلاءته. وذكر عياض أن بعضهم صحفه تصحيفا شنيعا فقال بالمثناة بدل النون ويؤيد الرواية الصحيحة أنه وقع في رواية سعيد بن جبير بلفظ: "يجعله في حجابه" زاد في رواية همام "وستره". قوله: " فيقول عملت كذا وكذا" في رواية همام فيقول: "أتعرف ذنب كذا وكذا" زاد في رواية سعيد وهشام " فيقرره بذنوبه" وفي رواية سعيد بن جبير "فيقول له أقرأ صحيفتك فيقرأ، ويقرره بذنب ذنب، ويقول أتعرف أتعرف". قوله: "فيقول نعم" زاد في رواية همام "أي رب" وفي رواية سعيد وهشام "فيقول أعرف". قوله: " ثم يقول إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" في رواية سعيد بن جبير "فيلتفت يمنة ويسرة فيقول: لا بأس عليك إنك في ستري لا يطلع على ذنوبك غيري" زاد همام وسعيد وهشام في روايتهم "فيعطى كتاب حسناته" ووقع في بعض روايات سعيد وهشام "فيطوى" وهو خطأ. وفي رواية سعيد بن جبير "اذهب فقد غفرتها لك " ووقع عند الثلاثة "وأما الكافر والمنافق" ولبعضهم "الكفار والمنافقون" وفي رواية سعيد وهشام "وأما الكافر فينادي على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين" وقد تقدم في تفسير هود أن الأشهاد جمع شاهد مثل أصحاب وصاحب، وهو أيضا جمع شهيد كشريف وأشراف، قال المهلب: في الحديث تفضل الله على عباده بستره لذنوبهم يوم القيامة، وأنه يغفر ذنوب من شاء منهم، بخلاف قول من أنفذ الوعيد على أهل الإيمان لأنه لم يستثن في هذا الحديث ممن يضع عليه كنفه وستره أحدا إلا الكفار والمنافقين فإنهم الذين

(10/488)


ينادي عليهم على رءوس الأشهاد باللعنة. قلت: قد استشعر البخاري هذا فأورد في كتاب المظالم هذا الحديث ومعه حديث أبي سعيد "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة" الحديث، فدل هذا الحديث على أن المراد بالذنوب في حديث ابن عمر ما يكون بين المرء وربه سبحانه وتعالى دون مظالم العباد، فمقتضى الحديث أنها تحتاج إلى المقاصصة، ودل حديث الشفاعة أن بعض المؤمنين من العصاة يعذب بالنار ثم يخرج منها بالشفاعة كما تقدم تقريره في كتاب الإيمان، فدل مجموع الأحاديث على أن العصاة من المؤمنين في القيامة على قسمين: أحدهما من معصيته بينه وبين ربه، فدل حديث ابن عمر على أن هذا القسم على قسمين: قسم تكون معصيته مستورة في الدنيا فهذا الذي يسترها الله عليه في القيامة وهو بالمنطوق، وقسم تكون معصيته مجاهرة فدل مفهومه على أنه بخلاف ذلك. والقسم الثاني من تكون معصيته بينه وبين العباد فهم على قسمين أيضا: قسم ترجح سيئاتهم على حسناتهم فهؤلاء يقعون في النار ثم يخرجون بالشفاعة، وقسم تتساوى سيئاتهم وحسناتهم فهؤلاء لا يدخلون الجنة حتى يقع بينهم التقاص كما دل عليه حديث أبي سعيد، وهذا كله بناء على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة أن(1) يفعله باختياره، وإلا فلا يجب على الله شيء وهو يفعل في عباده ما يشاء.
ـــــــ
(1) هكذا بياض بالأصل.

(10/489)


61 - باب الْكِبْرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} مُسْتَكْبِرٌ فِي نَفْسِهِ. عِطْفُهُ: رَقَبَتُهُ
6071- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَيْسِيُّ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ" .
6072- وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: "إِنْ كَانَتْ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ" .
قوله: "باب الكبر" بكسر الكاف وسكون الموحدة ثم راء، قال الراغب: الكبر والتكبر والاستكبار متقارب، فالكبر الحالة التي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه. وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظم ذلك أن يتكبر على ربه بأن يمتنع من قبول الحق والإذعان له بالتوحيد والطاعة. والتكبر يأتي على وجهين: أحدهما أن تكون الأفعال الحسنة زائدة على محاسن الغير ومن ثم وصف سبحانه وتعالى بالمتكبر، والثاني أن يكون متكلفا لذلك متشبعا بما ليس فيه، وهو وصف عامة الناس نحو قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} والمستكبر مثله. وقال الغزالي: الكبر على قسمين: فإن ظهر على الجوارح يقال تكبر، وإلا قيل: في نفسه كبر. والأصل هو الذي في النفس وهو الاسترواح إلى رؤية النفس، والكبر يستدعي متكبرا عليه يرى نفسه فوقه ومتكبرا به، وبه ينفصل الكبر عن العجب، فمن لم يخلق إلا وحده يتصور أن يكون معجبا لا متكبرا. قوله: "وقال

(10/489)


مجاهد: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} مستكبرا في نفسه، عطفه رقبته" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في قوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال رقبته. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال مستكبرا في نفسه، ومن طريق قتادة قال: لاوي عنقه. ومن طريق السدي {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي معرض من العظمة. ومن طريق أبي صخير المدني قال: كان محمد بن كعب يقول: هو الرجل يقول هذا شيء ثنيت عليه رجلي، فالعطف هو الرجل، قال أبو صخر: والعرب تقول العطف العنق. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد أنها نزلت في النضر بن الحارث. حديث حارثة بن وهب وقد تقدم شرحه في تفسير سورة ن، والغرض منه وصف المستكبر بأنه من أهل النار. وقوله: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف" هو برفع كل لأن التقدير هم كل ضعيف الخ ولا يجوز أن يكون بدلا من أهل. حديث أنس: قوله: "وقال محمد بن عيسى" أي ابن أبي نجيح المعروف بابن الطباع بمهملة مفتوحة وموحدة ثقيلة، وهو أبو جعفر البغدادي نزيل أذنة بفتح الهمزة والمعجمة والنون، وهو ثقة عالم بحديث هشيم حتى قال علي بن المديني سمعت يحيي القطان وابن مهدي يسألانه عن حديث هشيم. وقال أبو حاتم: حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع الثقة المأمون، ورجحه على أخيه إسحاق بن عيسى وإسحاق أكثر من محمد. وقال أبو داود: كان يتفقه، وكان يحفظ نحو أربعين ألف حديث، ومات سنة أربع وعشرين ومائتين، وحدث عنه أبو داود بلا واسطة. وأخرج الترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجه من حديثه بواسطة، ولم أر له في البخاري سوى هذا الموضع وموضع آخر في الحج "قال محمد بن عيسى حدثنا" قال حماد ولم أر في شيء من نسخ البخاري تصريحه عنه بالتحديث، وقد قال أبو نعيم بعد تخريجه ذكره البخاري بلا رواية، وأما الإسماعيلي فإنه قال: قال البخاري قال محمد بن عيسى فذكره ولم يخرج له سندا، وقد ضاق مخرجه على أبي نعيم أيضا، فساقه في مستخرجه من طريق البخاري، وغفل عن كونه في مسند أحمد وأخرجه أحمد عن هشيم شيخ محمد بن عيسى فيه، وإنما عدل البخاري عن تخريجه عن أحمد بن حنبل لتصريح حميد في رواية محمد بن عيسى بالتحديث، فإنه عنده عن هشيم "أنبأنا حميد عن أنس" وحميد مدلس، والبخاري يخرج له ما صرح فيه بالحديث. قوله: "فتنطلق به حيث شاءت" في رواية أحمد "فتنطلق به في حاجتها" وله من طريق علي بن زيد عن أنس "أن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت" وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه، والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الرفق والانقياد. وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ الإماء أي أمة كانت، وبقوله: "حيث شاءت" أي من الأمكنة. والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة على ذلك، وهذا دال على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم. وقد ورد في ذم الكبر ومدح التواضع أحاديث، من أصحها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقيل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: الكبر بطر الحق وغمط الناس" والغمط بفتح المعجمة وسكون الميم بعدها مهملة هو الازدراء والاحتقار، وقد أخرجه الحاكم بلفظ: "الكبر من بطر الحق وازدري الناس" والسائل المذكور يحتمل أن يكون ثابت بن قيس فقد روى الطبراني بسند حسن عنه أنه سأل عن

(10/490)


ذلك، وكذا أخرج من حديث سواد بن عمرو أنه سأل عن ذلك. وأخرج عبد بن حميد من حديث ابن عباس رفعه: "الكبر السفه عن الحق، وغمص الناس. فقال: يا نبي الله وما هو؟ قال: السفه أن يكون لك على رجل مال فينكره فيأمره رحل بتقوى الله فيأبى، والغمص أن يجيء شامخا بأنفه، وإذا رأى ضعفاء الناس وفقراءهم لم يسلم عليهم ولم يجلس إليهم محقرة لهم " وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو بريء من الكبر والغلول والدين دخل الجنة" وأخرج أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه: "من تواضع لله درجة رفعه الله درجة حتى يجعله الله في أعلى عليين، ومن تكبر على الله درجة وضعه الله درجة حتى يجعله في أسفل سافلين" وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر رفعه: " إياكم والكبر، فإن الكبر يكون في الرجل وإن عليه العباءة " ورواته ثقات، وحكى ابن بطال عن الطبري أن المراد بالكبر في هذه الأحاديث الكفر، بدليل قوله في الأحاديث "على الله" ثم قال: ولا ينكر أن يكون من الكبر ما هو استكبار على غير الله تعالى ولكنه غير خارج عن معنى ما قلناه، لأن معتقد الكبر على ربه يكون لخلق الله أشد استحقارا انتهى. وقد أخرج مسلم من حديث عياض بن حماد بكسر المهملة وتخفيف الميم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد" الحديث، والأمر بالتواضع نهي عن الكبر فإنه ضده، وهو أعم من الكفر وغيره واختلف في تأويل ذلك في حق المسلم فقيل: لا يدخل الجنة مع أول الداخلين، وقيل لا يدخلها بدون مجازاة، وقيل جزاؤه أن لا يدخلها ولكن قد يعفى عنه، وقيل ورد مورد الزجر والتغليظ، وظاهره غير مراد. وقيل: معناه لا يدخل الجنة حال دخولها وفي قلبه كبر، حكاه الخطابي، واستضعفه النووي فأجاد لأن الحديث سيق لذم الكبر وصاحبه لا للإخبار عن صفة دخول أهل الجنة الجنة قال الطيبي: المقام يقتضي حمل الكبر على من يرتكب الباطل، لأن تحرير الجواب إن كان استعمال الزينة لإظهار نعمة الله فهو جائز أو مستحب، وإن كان للبطر المؤدي إلى تسفيه الحق وتحقير الناس والصد عن سبيل الله فهو المذموم.

(10/491)


باب الهجرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث"
...
62 - باب الْهِجْرَةِ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ"
6073، 6074، 6075- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّهَا "أَنَّ عَائِشَةَ حُدِّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لاَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لاَ أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَداً فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتْ الْهِجْرَةُ فَقَالَتْ لاَ وَاللَّهِ لاَ أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَداً وَلاَ أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَقَالَ لَهُمَا أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالاَ السَّلاَمُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ أَنَدْخُلُ قَالَتْ عَائِشَةُ ادْخُلُوا قَالُوا كُلُّنَا؟ قَالَتْ: نَعَم ادْخُلُوا كُلُّكُمْ - وَلاَ تَعْلَمُ أَنَّ

(10/491)


مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ - فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إِلاَّ مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ وَيَقُولاَنِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنْ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنْ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ إِنِّي نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ فَلَمْ يَزَالاَ بِهَا حَتَّى كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا".
6076- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ"
6077- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ" .
[الحديث 6077 – طرفه في: 6237]
قوله: "باب الهجرة" بكسر الهاء وسكون الجيم، أي ترك الشخص مكالمة الأخر إذا تلاقيا، وهي في الأصل الترك فعلا كان أو قولا، وليس المراد بها مفارقة الوطن فإن تلك تقدم حكمها. قوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال" قد وصله في الباب عن أبي أيوب، وأراد هنا أن يبين أن عمومه مخصوص بمن هجر أخاه بغير موجب لذلك، قال النووي قال العلماء تحرم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنص وتباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عفي عنه في ذلك لأن الآدمي مجبول على الغضب، فسومح بذلك القدر ليرجع ويزول ذلك العارض. وقال أبو العباس القرطبي: المعتبر ثلاث ليال، حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار ألغي البعض وتعتبر ذلك ليلة اليوم، وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة. قلت: وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود، وقد مضى في "باب ما نهي عن التحاسد" في رواية شعيب في حديث أبي أيوب بلفظ: "ثلاثة أيام" فالمعتمد أن المرخص فيه ثلاثة أيام بلياليها، فحيث أطلقت الليالي أريد بأيامها وحيث أطلقت الأيام أريد بلياليها، ويكون الاعتبار مضي ثلاثة أيام بلياليها ملفقة، إذا ابتدئت مثلا من الظهر يوم السبت كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء، ويحتمل أن يلغي الكسر، ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة، والأول أحوط. فيه عن ثلاثة من الصحابة شيء مرفوع وباقيه عنهم وعن رابع موقوف. قوله: "حدثني عوف بن الطفيل وهو ابن أخي عائشة" كذا عند النسفي وأبي ذر، وعند غيرهما وكذا أخرجه أحمد عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه فقال: "عوف بن مالك بن الطفيل، وهو ابن أخي عائشة لأمها" وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق علي بن المديني من رواية الأوزاعي وصالح بن كيسان ومعمر ثلاثتهم عن الزهري، ففي رواية الأوزاعي عنه "حدثني

(10/492)


الطفيل بن الحارث وكان من أزد شنوءة وكان أخا لها من أمها أم رومان" وفي رواية صالح عنه "حدثني عوف بن الطفيل بن الحارث وهو ابن أخي عائشة لأمها" وفي رواية معمر "عوف بن الحارث بن الطفيل" قال علي بن المديني: هكذا اختلفوا والصواب عندي وهو المعروف عوف بن الحارث بن الطفيل بن سخبرة يعني بفتح المهملة والموحدة بينهما معجمة ساكنة، قال: والطفيل أبوه هو الذي روى عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عنه، يعني حديث: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان" أخرجه النسائي وابن ماجه، وكذا أخرج أحمد طريق معمر والأوزاعي. وقال إبراهيم الحربي في "كتاب النهي عن الهجران" بعد أن أورد من طريق معمر وشعيب وصالح والأوزاعي كما تقدم، ومن طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري عن عوف بن الحارث بن الطفيل، ومن طريق النعمان بن راشد عن الزهري عن عروة عن المسور: هذا وهم، قال: وكذا وهم الأوزاعي في قوله الطفيل بن الحارث وصالح في قوله عوف بن الطفيل بن الحارث، وأصاب معمر وعبد الرحمن بن خالد في قولهما عوف بن الحارث بن الطفيل، كذا قال، ثم قال: الذي عندي أن الحارث بن سخبرة الأزدي قدم مكة ومعه امرأته أم رومان بنت عامر الكنانية فخالف أبا بكر الصديق، ثم مات فخلف أبو بكر على أم رومان فولدت له عبد الرحمن وعائشة وكان لها من الحارث الطفيل بن الحارث فهو أخو عائشة لأمها، وولد الطفيل بن الحارث عوفا، وله عن عائشة رواية غير هذه، وهو الذي حدث عنه الزهري انتهى. فعلى هذا يكون الذي أصاب في تسميته ونسبه صالح بن كيسان، وأما معمر وعبد الرحمن بن خالد فقلباه، والأول هو الذي صوبه علي بن المديني. وقد اختلف على الأوزاعي، فالرواية التي ذكرها الحربي عنه هي رواية الوليد بن مسلم، وأخرجه الإسماعيلي من رواية ابن كثير عن الأوزاعي على وفق رواية معمر وابن خالد، وأما شعيب في رواية أحمد فقلب الحارث أيضا فسماه مالكا، وحذفه في رواية أبي ذر فأصاب وسكت عن تسمية جده، وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" رواية عبد الرحمن بن خالد كذلك. وإذا تحرر ذلك ظهر أن الذي جزم به ابن الأثير في "جامع الأصول" من أنه عوف بن مالك بن الطفيل ليس بجيد، والاختلاف المذكور كله في تحرير اسم الراوي هنا عن عائشة ونسبه إلا رواية النعمان بن راشد فإنها شاذة، لأنه قلب شيخ الزهري فجعله عروة بن الزبير والمحفوظ رواية الجماعة، على أن للخبر من رواية عروة أصلا كما تقدم في أوائل مناقب قريش لكنه من غير رواية الزهري عنه. قوله: "أن عائشة حدثت" كذا للأكثر بضم أوله وبحذف المفعول، ووقع في رواية الأصيلي: "حدثته" والأول أصح، ويؤيده أن في رواية الأوزاعي "أن عائشة بلغها"، ووقع في رواية معمر على الوجهين، ووقع في رواية صالح أيضا: "حدثته". قوله: "في بيع أو عطاء أعطته عائشة" في رواية الأوزاعي "في دار لها باعتها، فسخط عبد الله ابن الزبير بيع تلك الدار". قوله: "لتنتهين عائشة" زاد في رواية الأوزاعي "فقال: أما والله لتنتهين عائشة عن بيع رباعها" وهذا مفسر لما أبهم في رواية غيره، وكذا لما تقدم في مناقب قريش من طريق عروة قال: "كانت عائشة لا تمسك شيئا، فما جاءها من رزق الله تصدقت به" وهذا لا يخالف الذي هنا لأنه يحتمل أن تكون باعت الرباع لتتصدق بثمنها، وقوله: "لتنتهين أو لأحجرن عليها" هذا أيضا يفسر قوله في رواية عروة "ينبغي أن يؤخذ على يدها". قوله: "لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا" في رواية عبد الرحمن بن خالد "كلمة أبدا" وفي رواية معمر "بكلمة" وفي رواية الإسماعيلي من طريق الأوزاعي بدل قوله أبدا "حتى يفرق الموت بيني وبينه" قال

(10/493)


ابن التين: قولها "أن لا أكلم" تقديره علي نذر إن كلمته اهـ. ووقع في بعض الروايات بحذف "لا" وشرح عليها الكرماني وضبطها بالكسر بصيغة الشرط قال: وهو الموافق للرواية المتقدمة في مناقب قريش بلفظ: "لله علي نذر إن كلمته" فعلى هذا يكون النذر معلقا على كلامه لا أنها نذرت ترك كلامه ناجزا. قوله: "فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة" كذا للأكثر، ووقع في رواية السرخسي والمستملي: "حتى" بدل "حين" والأول الصواب، ووقع في رواية معمر على الصواب، زاد في رواية الأوزاعي "فطالت هجرتها إياه فنقصه الله بذلك في أمره كله، فاستشفع بكل جدير أنها تقبل عليه" في الرواية الأخرى عنه "فاستشفع عليها بالناس فلم تقبل" وفي رواية عبد الرحمن بن خالد "فاستشفع ابن الزبير بالمهاجرين" وقد أخرج إبراهيم الحربي من طريق حميد بن قيس بن عبد الله بن الزبير قال فذكر نحو هذه القصة قال: "فاستشفع إليها بعبيد بن عمير فقال لها: أين حديث أخبرتنيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصوم فوق ثلاث". قوله: "فقالت لا ولله لا أشفع" بكسر الفاء الثقيلة. قوله: "فيه أحدا" في رواية الكشميهني: "أبدا" بدل قوله: "أحدا" وجمع بين اللفظين في رواية عبد الرحمن بن خالد وكذا في رواية معمر. قوله: "ولا أتحنث إلى نذري" في رواية معمر "ولا أحنث في نذري" وفي رواية الأوزاعي "فقالت والله لا آثم فيه" أي في نذرها أو في ابن الزبير وتكون في سببية. قوله: "فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة" أما المسور فهو ابن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن زهرة بن كلاب، وأما عبد الرحمن فجده يغوث بفتح التحتانية وضم المعجمة وسكون الواو بعدها مثلثة وهو ابن وهيب بن عبد مناف بن زهرة، يجتمع مع المسور في عبد مناف بن زهرة، ووهيب وأهيب أخوان، ومات الأسود قبل الهجرة ولم يسلم، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن صغير فذكر في الصحابة، وله في البخاري غير هذا الموضع حديث عن أبي بن كعب سيأتي قريبا، ووقع في رواية عروة المتقدمة "فاستشفع إليها برجال من قريش وبأخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة" وقد بينت هناك معنى هذه الخؤولة وصفة قرابة بني زهرة برسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه وأمه. قوله: "أنشدكما بالله لما" بالتخفيف و"ما" زائدة ويجوز التشديد حكاه عياض، يعني ألا، أي لا أطلب إلا الإدخال عليها، ونظره بقوله تعالى: {لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} وقوله: {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} فقد قرنا بالوجهين. وفي رواية الكشميهني: "ألا أدخلتماني" زاد الأوزاعي فسألهما أن يشتملا عليه بأرديتهما. قوله: "فإنها" في رواية الكشميهني: "فإنه" والهاء ضمير الشأن. قوله: "لا يحل لها أن تنذر قطيعتي" لأنه كان ابن أختها وهي التي كانت تتولى تربيته غالبا. قوله: "فقالا السلام عليك ورحمة الله وبركاته" في رواية معمر "فقالا السلام على النبي ورحمة الله" فيحتمل أن تكون الكاف في الأول مفتوحة. قوله: "أندخل؟ قالت: نعم. قالوا: كلنا؟ قالت: نعم" في رواية الأوزاعي "قالا: ومن معنا؟ قالت: ومن معكما". قوله: "فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي" في رواية الأوزاعي "فبكى إليها وبكت إليه وقبلها" وفي روايته الأخرى عند الإسماعيلي: "وناشدها ابن الزبير الله والرحم". قوله: "ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عما قد علمت من الهجرة وإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال" في رواية معمر "أنه لا يحل" بحذف الواو وهو كالتفسير لما قبله ويؤيد ذلك ورود الحديث مرفوعا من طريق أخرى كحديثي أنس وأبي أيوب اللذين بعده، وهذا القدر هو المرفوع من الحديث، وهو هنا من مسند المسور وعبد الرحمن بن الأسود وعائشة جميعا فإنها أقرتهما على ذلك،

(10/494)


وقد غفل أصحاب الأطراف عن ذكره في مسند عبد الرحمن بن الأسود لكونه مرسلا، ولكن ذكروا أنظاره فيلزمهم من هذه الحيثية، وله عن عائشة طريق أخرى تقدم بيانها وأنها من رواية حميد بن قيس عن عبيد بن عمير عنها، وأخرجه أيضا أبو داود من طريق أخرى عن عائشة، وجاء المتن عن جماعة كثيرة من الصحابة يزيد بعضهم على بعض كما سأبينه بعد. "تنبيه": ادعى المحب الطبري أن الهجران المنهي عنه ترك السلام إذا التقيا، ولم يقع ذلك من عائشة في حق ابن الزبير، ولا يخفى ما فيه، فإنها حلفت أن لا تكلمه والحالف يحرص على أن لا يحنث، وترك السلام داخل في ترك الكلام، وقد ندمت على سلامها عليه فدل على أنها اعتقدت أنها حنثت. ويؤيده ما كانت تعتقه في نذرها ذلك. قوله: "فلما أكثروا على عائشة من التذكرة" أي التذكير بما جاء في فضل صلة الرحم والعفو وكظم الغيظ. قوله: "والتحريج" بحاء مهملة ثم الجيم أي الوقوع في الحرج وهو الضيق لما ورد في القطيعة من النهي. وفي رواية معمر "التخويف". قوله: "فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير" في رواية الأوزاعي "فكلمته بعدما خشي أن لا تكلمه، وقبلت منه بعد أن كادت أن لا تقبل منه". قوله: "وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة" في رواية الأوزاعي "ثم بعثت إلى اليمن بمال فابتيع لها به أربعون رقبة فأعتقتها كفارة لنذرها" ووقع في رواية عروة المتقدمة "فأرسل إليها بعشر رقاب فأعتقتهم" وظاهره أن عبد الله بن الزبير أرسل إليها بالعشرة أولا، ولا ينافي رواية الباب أن تكون هي اشترت بعد ذلك تمام الأربعين فأعتقتهم، وقد وقع في الرواية الماضية "ثم لم تزل حتى بلغت أربعين". قوله: "وكانت تذكر نذرها" في رواية الأوزاعي "قال عوف بن الحارث ثم سمعتها بعد ذلك تذكر نذرها ذلك" ووقع في رواية عروة أنها قالت: "وددت أني جعلت حين حلفت عملا فأعمله فأفرغ منه"، وبينت هناك ما يحتمله كلامها هذا. حديث الزهري عن أنس وعن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب، وقد تقدم حديث أنس في "باب التحاسد" وأراد بإيرادهما معا أنه عند الزهري على الوجهين، لأنه أخرج من طريق مالك عن شيخه، وأول حديث أبي أيوب عنه "لا يحل لرجل" كما علقه أولا وزاد فيه: "يلتقيان" وفي رواية الكشميهني: "فيلتقيان" بزيادة فاء. قوله: "عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب" هكذا اتفق أصحاب الزهري، وخالفهم عقيل فقال: "عن عطاء بن يزيد عن أبي" وخالفهم كلهم شبيب بن سعيد عن يونس عنه فقال: "عن عبيد الله أو عبد الرحمن عن أبي بن كعب" قال إبراهيم الحربي: أما شبيب فلم يضبط سنده، وقد ضبطه ابن وهب عن يونس فساقه على الصواب أخرجه مسلم، وأما عقيل فلعله سقط عليه لفظ أيوب فصار عن أبي فنسبه من قبل نفسه فقال ابن كعب فوهم في ذلك. قوله: "فوق ثلاث" ظاهره إباحة ذلك في الثلاث، وهو من الرفق، لأن الآدمي في طبعه الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، والغالب أنه يزول أو يقل في الثلاث. قوله: "فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" زاد الطبري من طريق أخرى عن الزهري "يسبق إلى الجنة" ولأبي داود بسند صحيح من حديث أبي هريرة "فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه، فإن رد عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجرة" ولأحمد والمصنف في "الأدب المفرد" وصححه ابن حبان من حديث هشام بن عامر "فإنهما ناكثان عن الحق ما داما على صرامهما، وأولهما فيئا يكون سبقه كفارة" فذكر نحو حديث أبي هريرة، وزاد في آخره: "فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعا". قوله: "وخيرهما الذي يبدأ

(10/495)


بالسلام" قال أكثر العلماء: تزول الهجرة بمجرد السلام ورده. وقال أحمد: لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولا. وقال أيضا: ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام. وكذا قال ابن القاسم وقال عياض: إذا اعتزل كلامه لم تقبل شهادته عليه عندنا ولو سلم عليه، يعني وهذا يؤيد قول ابن القاسم. قلت: ويمكن الفرق بأن الشهادة يتوقى فيها، وترك المكالمة يشعر بأن في باطنه عليه شيئا فلا تقبل شهادته عليه، وأما زوال الهجرة بالسلام عليه بعد تركه ذلك في الثلاث فليس بممتنع، واستدل للجمهور بما رواه الطبراني من طريق زيد بن وهب عن ابن مسعود في أثناء حديث موقوف وفيه: "ورجوعه أن يأتي فيسلم عليه" واستدل بقوله: "أخاه" على أن الحكم يختص بالمؤمنين. وقال النووي: لا حجة في قوله: "لا يحل لمسلم" لمن يقول الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، لأن التقييد بالمسلم لكونه الذي يقبل خطاب الشرع وينتفع به. وأما التقييد بالأخوة فدال على أن للمسلم أن يهجر الكافر من غير تقييد. واستدل بهذه الأحاديث على أن من أعرض عن أخيه المسلم وامتنع من مكالمته والسلام عليه أثم بذلك، لأن نفي الحل يستلزم التحريم، ومرتكب الحرام آثم. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث إلا لمن خاف من مكالمته ما يفسد عليه دينه أو يدخل منه على نفسه أو دنياه مضرة، فإن كان كذلك جاز، ورب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية. وقد استشكل على هذا ما صدر من عائشة في حق ابن الزبير قال ابن التين: إنما ينعقد النذر إذا كان في طاعة كلله علي أن أعتق أو أن أصلي، وأما إذا كان قي حرام أو مكروه أو مباح فلا نذر، وترك الكلام يفضي إلى التهاجر وهو حرام أو مكروه. وأجاب الطبري بأن المحرم إنما هو ترك السلام فقط، وإن الذي صدر من عائشة ليس فيه أنها امتنعت من السلام على ابن الزبير ولا من رد السلام عليه لما بدأها بالسلام، وأطال في تقرير ذلك وجعله نظير من كانا في بلدين لا يجتمعان ولا يكلم أحدهما الآخر وليسا مع ذلك متهاجرين، قال: وكانت عائشة لا تأذن لأحد من الرجال عليها إلا بإذن، ومن دخل كان بينه وبينها حجاب إلا إن كان ذا محرم منها، ومع ذلك لا يدخل عليها حجابها إلا بإذنها، فكانت في تلك المدة منعت ابن الزبير من الدخول عليها، كذا قال، ولا يخفى ضعف المأخذ الذي سلكه من أوجه لا فائدة للإطالة بها، والصواب ما أجاب به غيره أن عائشة رأت ابن الزبير ارتكب بما قال أمرا عظيما وهو قوله لأحجرن عليها، فإن فيه تنقيصا لقدرها ونسبة لها إلى ارتكاب ما لا يجوز من التبذير الموجب لمنعها من التصرف فيما رزقها الله تعالى، مع ما انضاف إلى ذلك من كونها أم المؤمنين وخالته أخت أمه ولم يكن أحد عندها في منزلته كما تقدم التصريح به في أوائل مناقب قريش، فكأنها رأت أن في ذلك الذي وقع منه نوع عقوق، والشخص يستعظم ممن يلوذ به ما لا يستعظمه من الغريب، فرأت أن مجازاته على ذلك بترك مكالمته، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه عقوبة لهم لتخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، ولم يمنع من كلام من تخلف عنها من المنافقين مؤاخذة للثلاثة لعظيم منزلتهم وازدراء بالمنافقين لحقارتهم، فعلى هذا يحمل ما صدر من عائشة. وقد ذكر الخطابي أن هجر الوالد ولده والزوج زوجته ونحو ذلك لا يتضيق بالثلاث، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم هجر نساءه شهرا، وكذلك ما صدر من كثير من السلف في استجازتهم ترك مكالمة بعضهم بعضا مع علمهم بالنهي عن المهاجرة. ولا يخفى أن هنا مقامين أعلى وأدنى، فالأعلى اجتناب الإعراض جملة فيبذل السلام والكلام والمواددة بكل طريق، والأدنى الاقتصار على السلام دون غيره، والوعيد الشديد إنما هو لمن يترك المقام الأدنى، وأما الأعلى فمن تركه

(10/496)


من الأجانب فلا يلحقه اللوم، بخلاف الأقارب فإنه يدخل فيه قطيعة الرحم، وإلى هذا أشار ابن الزبير في قوله: "فإنه لا يحل لها قطيعتي" أي إن كانت هجرتي عقوبة على ذنبي فليكن لذلك أمد، وإلا فتأييد ذلك يفضي إلى قطيعة الرحم، وقد كانت عائشة علمت بذلك لكنها تعارض عندها هذا والنذر الذي التزمته، فلما وقع من اعتذار ابن الزبير واستشفاعه ما وقع رجح عندها ترك الإعراض عنه، واحتاجت إلى التكفير عن نذرها بالعتق الذي تقدم ذكره، ثم كانت بعد ذلك يعرض عندها شك في أن التكفير المذكور لا يكفيها فتظهر الأسف على ذلك إما ندما على ما صدر منها من أصل النذر المذكور وإما خوفا من عاقبة ترك الوفاء به، والله أعلم.

(10/497)


63 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى
وَقَالَ كَعْبٌ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا". وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً.
6078- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لاَعْرِفُ غَضَبَكِ وَرِضَاكِ. قَالَتْ: قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّكِ إِذَا كُنْتِ رَاضِيَةً قُلْتِ بَلَى وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ سَاخِطَةً قُلْتِ لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ. قَالَتْ: قُلْتُ أَجَلْ لَسْتُ أُهَاجِرُ إِلاَّ اسْمَكَ" .
قوله: "باب ما يجوز من الهجران لمن عصى" أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز، لأن عموم النهي مخصوص بمن لم يكن لهجره سبب مشروع، فتبين هنا السبب المسوغ للهجر وهو لمن صدرت منه معصية، فيسوغ لمن اطلع عليها منه هجره عليها ليكف عنها. قوله: "وقال كعب" أي ابن مالك الأنصاري "حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، وذكر خمسين ليلة" وهذا طرف من الحديث الطويل، وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر المغازي. حديث عائشة "إني لأعرف غضبك ورضاك" وقد تقدم شرحه في باب غيرة النساء ووجدهن في كتاب النكاح، قال المهلب: غرض البخاري في هذا الباب أن يبين صفة الهجران الجائز، وأنه يتنوع بقدر الجرم، فمن كان من أهل العصيان يستحق الهجران بترك المكالمة كما في قصة كعب وصاحبيه، وما كان من المغاضبة بين الأهل والإخوان فيجوز الهجر فيه بترك التسمية مثلا أو بترك بسط الوجه مع عدم هجر السلام والكلام. وقال الكرماني: لعله أراد قياس هجران من يخالف الأمر على هجران اسم من يخالف الأمر الطبيعي. وقال الطبري: قصة كعب بن مالك أصل هو هجران أهل المعاصي، وقد استشكل كون هجران الفاسق أو المبتدع مشروعا ولا يشرع هجران الكافر وهو أشد جرما منهما لكونهما من أهل التوحيد في الجملة، وأجاب ابن بطال بأن لله أحكاما فيها مصالح للعباد وهو أعلم بشأنها وعليهم التسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنه تعبد لا يعقل معناه. وأجاب غيره بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران باللسان. فهجران الكافر بالقلب وبترك التودد والتعاون والتناصر، لا سيما إذا كان حربيا وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم فإنه ينزجر بذلك غالبا، ويشترك كل من الكافر والعاصي في مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة، والأمر المعروف والنهي عن المنكر، وإنما المشروع ترك المكالمة بالموادة ونحوها. قال

(10/497)


عياض: إنما اغتفرت مغاضبة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم مع ما في ذلك من الحرج - لأن الغضب على النبي صلى الله عليه وسلم معصية كبيرة - لأن الحامل لها على ذلك الغيرة التي جبلت عليها النساء، وهي لا تنشأ إلا عن فرط المحبة، فلما كان الغضب لا يستلزم البغض اغتفر، لأن البغض هو الذي يفضي إلى الكفر أو المعصية، وقد دل قولها "لا أهجر إلا اسمك" على أن قلبها مملوء بمحبته صلى الله عليه وسلم. قوله: "أجل" بوزن نعم ومعناه. وقال الأخفش: إلا أن نعم أحسن من أجل في جواب الاستفهام، وأجل أحسن من نعم في التصديق. قلت: وهي في هذا الحديث على وفق ما قال.

(10/498)


باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة أو عشيا
...
64 - باب هَلْ يَزُورُ صَاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً
6079- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِمَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ؟ قَالَ: إِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي بِالْخُرُوجِ ".
قوله: "باب هل يزور صاحبه كل يوم، أو بكرة وعشيا" قيل: العشي من الزوال إلى العتمة. وقيل: إلى الفجر. فقال ابن فارس: العشاء بالفتح والمد الطعام وبالكسر من الزوال إلى العتمة، والعشي من الزوال إلى الفجر. قوله: "هشام" هو ابن يوسف. قوله: "عن معمر وقال الليث حدثني عقيل" وفي بعض النسخ "ح وقال الليث" وهذا التعليق سبق مطولا في "باب الهجرة إلى المدينة" موصولا عن يحيى بن بكير عن الليث. قوله: "قال ابن شهاب فأخبرني عروة" كأن هذا سياق معمر، وكأنه كان عنده قبل قوله: "لم أعقل أبوي" كلام آخر فعطف هذا عليه. وقد وقع عند أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب "قال وأخبرني" كذا رأيته فيه بالواو، وأما رواية عقيل فلفظه في "باب الهجرة إلى المدينة" عن ابن شهاب "أخبرني عروة عن عائشة قالت: "لم أعقل الخ" وقد استشكل كون أبي بكر كان يحوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يتكلف المجيء إليه وكان يمكنه هو أن يفعل ذلك، وأجاب ابن التين بأنه لم يكن يجيء إلى أبي بكر لمجرد الزيارة بل لما يتزايد عنده من علم الله، ولم يتضح لي هذا الجواب، ويحتمل أن يقال: إنه ليس في الخير ما يمنع أن أبا بكر كان يجيء إليه صلى الله عليه وسلم في الليل والنهار أكثر من مرتين، ويحتمل أن يقال: كان سبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء إلى بيت أبي بكر يأمن من أذى المشركين بخلاف ما لو جاء أبو بكر إليه. ويحتمل أن يكون منزل أبي بكر كان بين بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبين المسجد فكان يمر به والمقصود المسجد وكان يشهده كلما مر به، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى بطوله في "باب الهجرة إلى المدينة" وكأن البخاري رمز بالترجمة إلى توهين الحديث المشهور "زر غبا تزدد حبا" وقد ورد من طرق كثرها غرائب لا يخلو واحد منها من مقال، وقد جمع طرقه أبو نعيم وغيره، وجاء من حديث علي وأبي ذر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأبي برزة وعبد الله بن عمر وأنس وجابر وحبيب بن مسلمة ومعاوية بن حيدة، وقد جمعتها في جزء مفرد، وأقوى طرقه ما أخرجه الحاكم في "تاريخ نيسابور" والخطيب في "تاريخ بغداد" والحافظ أبو محمد بن

(10/498)


السقاء في فوائده من طريق أبي عقيل يحيى بن حبيب بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي ثابت عن جعفر بن عون عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأبو عقيل كوفي مشهور بكنيته، قاله ابن أبي حاتم: سمع منه أبي وهو صدوق، وذكر ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ وأغرب. قلت: واختلف عليه في رفعه ووقفه، وقد رفعه أيضا يعقوب بن شيبة عن جعفر بن عون رويناه في "فوائد أبي محمد بن السقاء" أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جده يعقوب، واختلف فيه على جعفر بن عون فرواه عبد بن حميد في تفسيره عنه عن أبي حبان الكلبي عن عطاء عن عبيد بن عمير موقوفا في قصة له مع عائشة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: "دخلت أنا وعبيد على عائشة فقالت: يا عبيد بن عمير ما يمنعك أن تزورنا؟ قال: قول الأول زر غبا تزدد حبا. فقال عند الله بن عمير: دعونا من بطالتكم هذه وأخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث في صلاته صلى الله عليه وسلم: "وذكر أبو عبيد في الأمثال بأنه من أمثال العرب، وكان هذا الكلام شائعا في المتقدمين، فرويناه في فوائد أبي محمد السقاء قال انشدونا لهلال بن العلاء:
الله يعلم أنني ... لك أخلص الثقلين قلبا
لكن لقول نبينا ... زوروا على الأيام غبا
ولقوله من زار غـ ... با منكم يزداد حبا
قلت: وكان يمكنه أن يوجز فيقول:
لكن لقول نبينا ... من زار غبا زاد حبا
وقد أنشدونا لأبي محمد بن هارون القرطبي راوي الموطأ:
أقل زيارة الإخوا ... ن تزدد عندهم قربا
فإن المصطفى قد قا ... ل زر غبا تزد حبا
قلت: ولا منافاة بين هذا الحديث وحديث الباب لأن عمومه يقبل التخصيص فيحمل على من ليست له خصوصية مودة ثابتة فلا ينقص كثرة زيارته من منزلته. قال ابن بطال: الصديق الملاطف لا يزيده كثرة الزيارة إلا محبة، بخلاف غيره.

(10/499)


65 - باب الزِّيَارَةِ. وَمَنْ زَارَ قَوْماً فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ
وَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ عِنْدَهُ
6080- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ طَعَاماً فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَمَرَ بِمَكَانٍ مِنْ الْبَيْتِ فَنُضِحَ لَهُ عَلَى بِسَاطٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُمْ".
قوله: "باب الزيارة" أي مشروعيتها "ومن زار قوما فطعم عندهم" أي من تمام الزيارة أن يقدم. للزائر ما حضر، قاله ابن بطال، وهو مما يثبت المودة ويزيد في المحبة. قلت: وقد ورد في ذلك حديث أخرجه الحاكم

(10/499)


وأبو يعلى من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير قال: "دخل على جابر نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقدم إليهم خبزا وخلا فقال: كلوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم الإدام الخل، إنه هلاك بالرجل أن يدخل إليه النفر من إخوانه فيحتقر ما في بيته أن يقدمه إليهم، وهلاك بالقوم أن يحتقروا ما قدم إليهم". وورد في فضل الزيارة أحاديث: منها عند الترمذي وحسنه وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رفعه: "من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا " وله شاهد عند البزار من حديث أنس بسند جيد، وعند مالك وصححه ابن حبان من حديث معاذ بن جبل مرفوعا: "حقت محبتي للمتزاورين في" الحديث وأخرجه أحمد بسند صحيح من حديث عتبان بن مالك، وعند الطبراني من حديث صفوان بن عسال رفعه: "من زار أخاه المؤمن خاض في الرحمة حتى يرجع". قوله: "وزار سلمان أبا الدرداء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأكل عنده" هو طرف من حديث لأبي جحيفة تقدم مستوفى مشروحا في كتاب الصيام. قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي. قوله: "زار أهل بيت من الأنصار" هم أهل عتبان بن مالك كما مضى من وجه آخر عن أنس بن سيرين بأتم من هذا السياق وأوله "قال رجل من الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم إني لا أستطيع الصلاة معك، وصنع طعاما" الحديث، وأورده في صلاة الضحى وقصة عتبان وطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته قد تقدمت في الصلاة أيضا مطولة. وفيها أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى في بيته تأخر حتى أكل عندهم، وفيه قصة مالك بن الدخشم، ووقع له صلى الله عليه وسلم نحو القصة التي في هذا الباب في بيت أبي طلحة كما سيأتي في "باب كنية الصبي" من طريق أبي التياح عن أنس، فإن فيه ذكر البساط ونضحه، لكن ليس فيه ذكر الطعام، نعم في رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته، وفيه ذكر نضح الحصير والصلاة بهم لكن ليس في أوله القصة التي في رواية أنس بن سيرين عن أنس أن الرجل قالا "لا أستطيع الصلاة معك" فإن هذا القدر مختص بقصة عتبان، فتعين الحمل عليه، ووهم من رجح أنه بيت أبي طلحة، وفي الحديث استحباب الزيارة ودعاء الزائر لمن زاره وطعم عنده.

(10/500)


66 - باب مَنْ تَجَمَّلَ لِلْوُفُودِ
6081- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: "قَالَ لِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَا الإِسْتَبْرَقُ قُلْتُ مَا غَلُظَ مِنْ الدِّيبَاجِ وَخَشُنَ مِنْهُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ رَأَى عُمَرُ عَلَى رَجُلٍ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِ هَذِهِ فَالْبَسْهَا لِوَفْدِ النَّاسِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ فَقَالَ إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فَمَضَى مِنْ ذَلِكَ مَا مَضَى ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْهِ بِحُلَّةٍ فَأَتَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ وَقَدْ قُلْتَ فِي مِثْلِهَا مَا قُلْتَ قَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتُصِيبَ بِهَا مَالاً فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ لِهَذَا الْحَدِيثِ".
قوله: "باب من تجمل للوفود" أي حسن هيئته بالملبوس ونحوه لمن يقدم عليه، والوفود جمع وافد وهو من يقدم على من له أمر أو سلطان زائرا أو مسترفدا والمراد من قول عمر "للوفود" من كان يرد على النبي صلى الله عليه وسلم ممن يرسلهم قبائلهم يبايعون لهم على الإسلام ويتعلمون أمور الدين حتى يعلموهم، وإنما أورد الترجمة بصورة

(10/500)


الاستفهام لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عمر، فالظاهر أنه إنما أنكر لبس الحرير بقرينة قوله: "إنما يلبس هذه" ولم ينكر أصل التجمل، لكنه محتمل مع ذلك. حديث ابن عمر في قصة حلة عطارد، وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب اللباس. وعبد الصمد في سنده هو ابن عبد الوارث. وقوله: "وخشن" بفتح الخاء وضم الشين المعجمتين للأكثر، ولبعضهم بالمهملتين، وشاهد الترجمة منه قول عمر "تجمل بها للوفود" وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وقد اعترضها الداودي فقال: كان ينبغي أن يقول التجمل للوفود لأنه لا يقال فعل كذا إلا لمن صدر منه الفعل، وليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وجوابه أن معنى الترجمة من فعل ذلك متمسكا بما دل عليه الحديث المذكور، وقوله في آخر الحديث: "وكان ابن عمر يكره العلم في الثوب لهذا الحديث" قال الخطابي: مذهب ابن عمر في هذا مذهب الورع، وكان ابن عباس يقول في روايته: "إلا علما في ثوب" وذلك لأن مقدار العلم لا يقع عليه اسم اللبس، قال: ولو أن رجلا حلف لا يلبس غزل فلانة فأخذ ثوبا فنسج فيه من غزلها ومن غزل غيرها وكان الذي من غزلها لو انفرد لم يبلغ إذا نسج أنه يحصل منه شيء مما يقع على مثله اسم اللبس لم يحنث، كذا قال، وقد تقدم في كتاب اللباس من رواية أبي عثمان عن عمر في النهي عن لبس الحرير، "إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع" وتقدم شرح ذلك مستوفى هناك.

(10/501)


67 - باب الإِخَاءِ وَالْحِلْفِ.
وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: "آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ". وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ "لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ".
6082- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" .
6083- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: "قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ؟ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِي دَارِي".
قوله: "باب الإخاء والحلف" بكسر المهملة وسكون اللام وبفتح المهملة وكسر اللام هو المعاهدة، وقد تقدم بيانها في أوائل الهجرة. قوله: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء" هو طرف من الحديث الذي أشرت إليه في الباب الذي قبله، وقد تقدم في "باب الهجرة إلى المدينة" أنه صلى الله عليه وسلم آخى بين الصحابة. وأخرج أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن أنس قال: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين ابن مسعود والزبير" والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة، وذكر غير واحد أنه آخى صلى الله عليه وسلم بين أصحابه مرتين مرة بين المهاجرين فقط ومرة بين المهاجرين والأنصار. قوله: "وقال عبد الرحمن بن عوف: لما قدمنا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة" هذا طرف من حديث تقدم موصولا في فضائل الأنصار، وقدمت شيئا يتعلق به في أبواب الوليمة. قوله: "حدثنا إسماعيل بن زكريا" لمحمد بن الصباح فيه شيخ آخر، فإن مسلما أخرجه عنه عن حفص بن غياث عن عاصم. قوله: "عاصم" هو ابن سليمان الأحول. قوله: "قلت لأنس بن مالك أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام فقال: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري" ووقع في رواية أبي داود من رواية سفيان بن عيينة

(10/501)


عن عاصم قال: "سمعت أنس بن مالك يقول حالف" فذكره بلفظ المهاجرين بدل قريش، فقيل له أليس قال لا حلف في الإسلام؟ قال: قد حالف فذكر مثله وزاد مرتين أو ثلاثا، وأخرجه مسلم بنحوه مختصرا، وعرف من رواية الباب تسمية السائل عن ذلك، وذكره الصنف في الاعتصام مختصرا خاليا عن السؤال وزاد في آخره: "وقنت شهرا يدعو على أحياء من بني سليم" وحديث القنوت من طريق عاصم مضى في الوتر وغيره. وأما الحديث المسئول عنه فهو حديث صحيح أخرجه مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" وأخرجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه(1) وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن أبي أوفى نحوه باختصار. وأخرج أيضا أحمد وأبو يعلى وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا: "شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه" وحلف المطيبين كان قبل المبعث بمدة، ذكره ابن إسحاق وغيره، وكان جمع من قريش اجتمعوا فتعاقدوا على أن ينصروا المظلوم وينصفوا بين الناس ونحو ذلك من خلال الخير، واستمر ذلك بعد المبعث، ويستفاد من حديث عبد الرحمن بن عوف أنهم استمروا على ذلك في الإسلام، وإلى ذلك الإشارة في حديث جبير بن مطعم. وتضمن جواب أنس إنكار صدر الحديث لأن فيه نفي الحلف وفيما قاله هو إثباته، ويمكن الجمع بأن المنفي ما كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف ولو كان ظالما ومن أخذ الثأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها ومن التوارث ونحو ذلك، والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم والقيام في أمر الدين ونحو ذلك من المستحبات الشرعية كالمصادقة والمواددة وحفظ العهد، وقد تقدم حديث ابن عباس في نسخ التوارث بين المتعاقدين، وذكر الداودي أنهم كانوا يورثون الحليف السدس دائما فنسخ ذلك. وقال ابن عيينة: حمل العلماء قول أنس "حالف" على المؤاخاة. قلت: لكن سياق عاصم عنه يقتضي أنه أراد المحالفة حقيقة، وإلا كان الجواب مطابقا، وترجمة البخاري طاهرة في المغايرة بينهما وتقدم في الهجرة إلى المدينة "باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه" وذكر الحديثين المذكورين هنا أولا ولم يذكر حديث الحلف، وتقدم ما يتعلق بالمؤاخاة هناك. قال النووي: المنفي حلف التوارث وما يمنع منه الشرع، وأما التحالف على طاعة الله ونصر المظلوم والمؤاخاة في الله تعالى فهو أمر مرغب فيه.
ـــــــ
(1) بياض بالأصل

(10/502)


68 - باب التَّبَسُّمِ وَالضَّحِكِ
وَقَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم: "أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكْتُ".
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى.
6084- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَبَتَّ طَلاَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ فَجَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلاَثِ تَطْلِيقَاتٍ فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ لِهُدْبَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا قَالَ وَأَبُو بَكْرٍ

(10/502)


جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ لِيُؤْذَنَ لَهُ فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي أَبَا بَكْرٍ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلاَ تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّبَسُّمِ ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لاَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ" .
6085- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ فَقَالَ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَقَالَ عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللاَتِي كُنَّ عِنْدِي لَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَقَالَ أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَمْ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ إِنَّكَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِيهٍ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكاً فَجّاً إِلاَّ سَلَكَ فَجّاً غَيْرَ فَجِّكَ".
6086- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّائِفِ قَالَ: " إِنَّا قَافِلُونَ غَداً إِنْ شَاءَ اللَّهُ" فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نَبْرَحُ أَوْ نَفْتَحَهَا. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ قَالَ فَغَدَوْا فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالاً شَدِيداً وَكَثُرَ فِيهِمْ الْجِرَاحَاتُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا قَافِلُونَ غَداً إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ فَسَكَتُوا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". قَالَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِالْخَبَرِ كُلِّهِ
6087- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلَكْتُ وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ أَعْتِقْ رَقَبَةً قَالَ لَيْسَ لِي قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لاَ أَسْتَطِيعُ قَالَ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً قَالَ لاَ أَجِدُ فَأُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْعَرَقُ الْمِكْتَلُ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ؟ تَصَدَّقْ بِهَا. قَالَ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي؟ وَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنَّا؟ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ فَأَنْتُمْ إِذاً" .
6088- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ

(10/503)


فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً قَالَ أَنَسٌ فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ".
6089- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: "مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي".
6090- "وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِياً مَهْدِيّاً" .
6091- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ "أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ. فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ أَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَبِمَ شَبَهُ الْوَلَدِ؟" .
6092- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعاً قَطُّ ضَاحِكاً حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ".
6093- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ ح وقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ قَحَطَ الْمَطَرُ فَاسْتَسْقِ رَبَّكَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَمَا نَرَى مِنْ سَحَابٍ فَاسْتَسْقَى فَنَشَأَ السَّحَابُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ مُطِرُوا حَتَّى سَالَتْ مَثَاعِبُ الْمَدِينَةِ فَمَا زَالَتْ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا تُقْلِعُ ثُمَّ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ غَرِقْنَا فَادْعُ رَبَّكَ يَحْبِسْهَا عَنَّا فَضَحِكَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَصَدَّعُ عَنْ الْمَدِينَةِ يَمِيناً وَشِمَالاً يُمْطَرُ مَا حَوَالَيْنَا وَلاَ يُمْطِرُ مِنْهَا شَيْءٌ يُرِيهِمْ اللَّهُ كَرَامَةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجَابَةَ دَعْوَتِهِ" .
قوله: "باب التبسم والضحك" قال أهل اللغة: التبسم مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك وهي الثنايا والأنياب وما يليها وتسمى النواجذ. قوله:

(10/504)


"وقالت فاطمة أسرَّ إلي النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت" هو من طرف من حديث لعائشة عن فاطمة عليها السلام مر بتمامه وشرحه في الوفاة النبوية. قوله: "وقال ابن عباس: إن الله هو أضحك وأبكى" أي خلق في الإنسان الضحك والبكاء، وهذا طرف من حديث لابن عباس تقدم في الجنائز، وأشار فيه ابن عباس - بجواز البكاء بغير نياحة - إلى قوله تعالى في سورة النجم {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ثم ذكر في الباب تسعة أحاديث تقدم أكثرها وفي جميعها ذكر التبسم أو الضحك، وأسبابها مختلفة لكن أكثرها للتعجب، وبعضها للإعجاب، وبعضها للملاطفة. حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة، والغرض منه قولها فيه: "وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم" وقد مر شرحه مستوفى في كتاب الصلاة، وقوله فيه: "وابن سعيد بن العاص جالس" وقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني "وسعيد بن العاص" والصواب الأول وهو خالد وقد وقع مسمى فيما مضى. حديث سعد "استأذن عمر" تقدم شرحه مستوفى في مناقب عمر، والغرض منه قوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال: أضحك الله سنك" ويستفاد منه ما يقال للكبير إذا ضحك، وإسماعيل شيخه فيه هو ابن أبي أويس كما جزم به المزي. وقال أبو علي الجياني: لعله ابن أبى أويس. قلت: وقد تقدم في فضائل الأنصار حديث قال فيه البخاري "حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد" وإسماعيل هذا هو ابن أبي أويس جزما، وهو يؤيد ما جزم به المزي. حديث عمرو هو ابن دينار عن أبي العباس وهو الشاعر عن عبد الله بن عمر. كذا للأكثر بضم العين، وللحموي وحده هنا "عمرو" بفتحها والصواب الأول، وقد تقدم بيانه في غزوة الطائف مع شرح الحديث، والغرض منه هنا قوله: "فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقوله فيه: "لا نبرح أو نفتحها" قال ابن التين: ضبطناه بالرفع والصواب النصب، لأن "أو" إذا كانت بمعنى "حتى" أو "إلى إن" نصبت وهي هنا كذلك. قوله: "قال الحميدي حدثنا سفيان بالخبر كله" تقدم بيان من وصله في غزوة الطائف، ووقع في رواية الكشميهني: "حدثنا سفيان كله بالخبر" والمعني أنه ذكر بصريح الأخبار في جميع السند لا بالعنعنة. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل وإبراهيم هو ابن سعد. قوله: "حدثنا ابن شهاب" هذا إنما سمعه إبراهيم بن سعد من الزهري، وقد سبق في الحديث الثاني أنه روى عنه بواسطة صالح بن كيسان بينهما. وقصة المجامع في رمضان تقدم شرحها في كتاب الصيام، وقوله فيه: "قال إبراهيم" هو ابن سعد وهو موصول بالسند المذكور، وقوله: "والعرق المكتل" فيه بيان لما أدرجه غيره فجعل تفسير العرق من نفس الحديث، والغرض منه قوله: "فضحك حتى بدت نواجذه" والنواجذ جمع ناجذة بالنون والجيم والمعجمة هي الأضراس، ولا تكاد تظهر إلا عند المبالغة في الضحك، ولا منافاة بينه وبين حديث عائشة ثامن أحاديث الباب: "ما رأيته صلى الله عليه وسلم مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته" لأن المثبت مقدم على النافي قاله ابن بطال، وأقوى منه أن الذي نفته غير الذي أثبته أبو هريرة، ويحتمل أن يريد بالنواجذ الأنياب مجازا أو تسامحا وبالأنياب مرة(1) فقد تقدم في الصيام في هذا الحديث بلفظ: "حتى بدت أنيابه" والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه أو الإفراط فيه لأنه يذهب الوقار، قال ابن بطال: والذي ينبغي أن يقتدى به من فعله ما واظب عليه من ذلك،
ـــــــ
(1) لعل هنا سقطا، تمامه: "فعبر بالنواجذ مرة وبالأنياب مرة الخ".

(10/505)


فقد روى البخاري في "الأدب المفرد" وابن ماجه من وجهين عن أبي هريرة رفعه: "لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب" . قوله: "مالك" قال الدار قطني لم أر هذا الحديث عند أحد من رواة الموطأ إلا عند يحيى بن بكير ومعن بن عيسى، ورواه جماعة من رواة الموطأ عن مالك لكن خارج الموطأ، وزاد ابن عبد البر أنه رواه في الموطأ أيضا مصعب بن عبد الله الزبيري وسليمان بن صرد. قلت: ولم يخرجه البخاري إلا من رواية مالك، وأخرجه مسلم أيضا من رواية الأوزاعي ومن رواية همام ومن رواية عكرمة بن عمار كلهم عن إسحاق بن أبي طلحة، وساقه على لفظ مالك وبين بعض غيره. قوله: "كنت أمشي" في رواية الأوزاعي "أدخل المسجد". قوله: "وعليه برد" في رواية الأوزاعي "رداء". قوله: "نجراني" بفتح النون وسكون الجيم نسبة إلى نجران بلد معروف بين الحجاز واليمن، وتقدم في أواخر المغازي. قوله: "غليظ الحاشية" في رواية الأوزاعي "الصنفة" بفتح المهملة وكسر النون بعدها فاء وهي طرف الثوب مما يلي طرته. قوله: "فأدركه أعرابي" زاد همام "من أهل البادية" وفي رواية الأوزاعي "فجاء أعرابي من خلفه". قوله: "فجبذ" بفتح الجيم والموحدة بعدها ذال معجمة. وفي رواية الأوزاعي "فجذب" وهي بمعنى جبذ. قوله: "جبذة شديدة" في رواية عكرمة "حتى رجع النبي صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي". قوله: "قال أنس فنظرت إلى صفحة عاتق" في رواية مسلم: "عنق" وكذا عند جميع الرواة عن مالك، وكذا في رواية الأوزاعي. قوله: "أثرت فيها" في رواية الكشميهني: "بها" وكذا لمسلم من رواية مالك. وفي رواية همام "حتى انشق البرد وذهبت حاشيته في عنقه" وزاد أن ذلك وقع من الأعرابي لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجرته، ويجمع بأنه لقيه خارج المسجد فأدركه لما كاد يدخل فكلمه أو مسك بثوبه لما دخل، فلما كاد يدخل الحجرة خشي أن يفوته فجبذه. قوله: "مر لي" في رواية الأوزاعي "أعطنا". قوله: "فضحك" في رواية الأوزاعي "فتبسم ثم قال مروا له" وفي رواية همام "وأمر له بشيء" وفي الحديث بيان حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى في النفس والمال والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل من الصفح والإغضاء والدفع بالتي هي أحسن. حديث جرير وهو ابن عبد الله البجلي، وابن نمير هو محمد بن عبد الله بن نمير، وابن إدريس هو عبد الله، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، والجميع كوفيون، والغرض منه قوله: "ولا رآني إلا تبسم" وتقدم في المناقب بلفظ: "إلا ضحك" وهما متقاربان، والتبسم أوائل الضحك كما تقدم، وبقية شرحه هناك. حديث أم سلمة في سؤال أم سليم "هل على المرأة من غسل" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الطهارة، والغرض منه قوله: "فضحكت أم سلمة" لوقوع ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها ضحكها وإنما أنكر عليها إنكارها احتلام المرأة. قوله: "عمرو" هو ابن الحارث المصري، وأبو النضر هو سالم. قوله: "مستجمعا قط ضاحكا" في رواية الكشميهني: "مستجمعا ضحكا" أي مبالغا في الضحك لم يترك منه شيئا، يقال استجمع السيل: اجتمع من كل موضع، واستجمعت للمرء أموره: اجتمع له ما يحبه، فعلى هذا قوله: "ضاحكا" منصوب على التمييز وإن كان مشتقا مثل لله دره فارسا أي ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكا تاما مقبلا بكليته على الضحك، واللهوات بفتح اللام والهاء جمع لهاة وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم، وهذا القدر المذكور طرف من حديث تقدم بتمامه وشرحه في تفسير سورة الأحقاف. حديث أنس في قصة الذي طلب الاستقاء ثم

(10/506)


الاستصحاء والغرض منه ضحكه صلى الله عليه وسلم عند قول القائل "غرقنا" أورده من وجهين عن قتادة، وساقه هنا على لفظ سعيد بن أبي عروبة، وساقه في الدعوات على لفظ أبي عوانة، ومحمد بن محبوب شيخه هو أبو عبد الله البنائي البصري، وهو غير محمد بن الحسن الذي لقيه محبوب، ووهم من وحدهما كشيخنا ابن الملقن فإنه جزم بذلك وعم أن البخاري روى عنه هنا وروى عن رجل عنه، وليس كذلك بل هما اثنان أحدهما في عداد شيوخ الآخر، وشيخ البخاري اسمه محمد واسم أبيه محبوب والآخر اسمه محمد واسم أبيه الحسن ومحبوب لقب محمد لا لقب الحسن، وقد أخرج له البخاري في كتاب الأحكام حديثا واحدا قال فيه: "حدثنا محبوب بن الحسن" وسبب الوهم أنه وقع في بعض الأسانيد "حدثنا محمد بن الحسن محبوب" فظنوا أنه لقب الحسن وليس كذلك.

(10/507)


69 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وَمَا يُنْهَى عَنْ الْكَذِبِ
6094- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقاً وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً" .
6095- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ" .
6096- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي قَالاَ الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ بِالْكَذْبَةِ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
قوله: "باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وما ينهى عن الكذب" قال الراغب أصل الصدق والكذب في القول ماضيا كان أو مستقبلا وعدا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في الخبر، وقد يكونان في غيره كالاستفهام والطلب، والصدق مطابقة القول الضمير والمخبر عنه، فإن انخرم شرط لم يكن صدقا، بل إما أن يكون كذبا أو مترددا بينهما على اعتبارين، كقول المنافق: محمد رسول الله فإنه يصح أن يقال صدق لكون المخبر عنه كذلك، يصح أن يقال كذب لمخالفة قوله لضميره. والصديق من كثر منه الصدق، وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق في الاعتقاد ويحصل نحو صدق ظني، وفي الفعل نحو صدق في القتال، ومنه {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} اهـ ملخصا. وقال ابن التين: اختلف في قوله: {مَعَ الصَّادِقِينَ} فقيل: معناه مثلهم.

(10/507)


وقيل: منهم. قلت: وأظن المصنف لمح بذكر الآية إلى قصة كعب بن مالك وما أداه صدقه في الحديث إلى الخير الذي ذكره في الآية بعد أن وقع له ما وقع من ترك المسلمين كلامه تلك المدة حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت ثم من الله عليه بقبول توبته. وقال في قصته: ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي أن لا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا. وقال الغزالي: الكذب من قبائح الذنوب، وليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر، ولذلك يؤذن فيه حيث يتعين طريقا إلى المصلحة. وتعقب بأنه يلزم أن يكون الكذب - إذا لم ينشأ عنه ضرر - مباحا، وليس كذلك، ويمكن الجواب بأنه يمنع من ذلك حسما للمادة فلا يباح منه إلا ما يترتب عليه مصلحة، فقد أخرج البيهقي في "الشعب" بسند صحيح عن أبي بكر الصديق قال: "الكذب بجانب الإيمان" وأخرجه عنه مرفوعا وقال: الصحيح موقوف. وأخرج البزار من حديث سعد بن أبي وقاص رفعه قال: "يطبع المؤمن على كل شيء، إلا الخيانة والكذب" وسنده قوي، وذكر الدار قطني في "العلل" أن الأشبه أنه موقوف، وشاهد المرفوع من مرسل صفوان بن سليم في الموطأ قال ابن التين: ظاهره يعارض حديث ابن مسعود، والجمع بينهما حمل حديث صفوان على المؤمن الكامل. قوله: "جرير" هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وأما جرير المذكور في ثالث أحاديث الباب فهو ابن حازم. قوله: "إن الصدق يهدي" بفتح أوله من الهداية وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، هكذا وقع أول الحديث من رواية منصور عن أبي وائل، ووقع في أوله من رواية الأعمش عن أبي وائل عند مسلم وأبي داود والترمذي "عليكم بالصدق فإن الصدق" وفيه: "وإياكم والكذب فإن الكذب الخ". قوله: "إلى البر" بكسر الموحدة أصله التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات كلها، ويطلق على العمل الخالص الدائم. قوله: "وإن البر يهدي إلى الجنة" قال ابن بطال: مصداقه في كتاب الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} . قوله: "وإن الرجل ليصدق" زاد في رواية الأعمش "ويتحرى الصدق" وكذا زادها في الشق الثاني. قوله: "حتى يكون صديقا" في رواية الأعمش "حتى يكتب عند الله صديقا" قال ابن بطال: المراد أنه يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة في الصدق. قوله: "وإن الكذب يهدي إلى الفجور" قال الراغب: أصل الفجر الشق، فالفجور شق ستر الديانة، ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي، وهو اسم جامع للشر. قوله: "وإن الرجل ليكذب حتى يكتب" في رواية الكشميهني: "يكون" وهو وزن الأول، والمراد بالكتابة الحكم عليه بذلك وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض، وقد ذكره مالك بلاغا عن ابن مسعود وزاد فيه زيادة مفيدة ولفظه: "لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين" قال النووي قال العلماء: في هذا الحديث حث على تحري الصدق وهو قصده والاعتناء به وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فيعرف به. قلت: والتقييد بالتحري وقع في رواية أبي الأحوص عن منصور بن المعتمر عند مسلم ولفظه: "وإن العبد ليتحرى الصدق " وكذا قال في الكذب، وعنده أيضا في رواية الأعمش عن شقيق وهو أبو وائل وأوله عنده "عليكم بالصدق" وفيه: "وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق" وقال فيه: "وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب " فذكره، وفي هذه الزيادة إشارة إلى أن من توقى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق صار له الصدق سجية حتى يستحق الوصف به، وكذلك عكسه، وليس المراد أن الحمد والذم فيهما يختص بمن يقصد إليهما

(10/508)


فقط، إن كان الصادق في الأصل ممدوحا والكاذب مذموما. ثم قال النووي: وأعلم أن الموجود في نسخ البخاري ومسلم في بلادنا وغيرها أنه ليس في متن الحديث إلا ما ذكرناه قاله القاضي عياض، وكذا نقله الحميدي، ونقل أبو مسعود عن كتاب مسلم في حديث ابن مثنى وابن بشار زيادة وهي "إن شر الروايا روايا الكذب، لأن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا يعد الرجل صبيه ثم يخلفه" فذكر أبو مسعود أن مسلما روى هذه الزيادة في كتابه، وذكرها أيضا أبو بكر البرقاني في هذا الحديث، قال الحميدي: وليست عندنا في كتاب مسلم، والروايا جمع رواية بالتشديد وهو ما يتروى فيه الإنسان قبل قوله أو فعله، وقيل هو جمع رواية أي للكذب والهاء للمبالغة. قلت: لم أر شيئا من هذا في "الأطراف لأبي مسعود" ولا في "الجمع بين الصحيحين للحميدي" فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين. حديث أبي هريرة "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب" الحديث وتقدم شرحه في كتاب الإيمان، وطرفا من حديث سمرة في المنام الطويل المقدم ذكره وشرحه في كتاب الجنائز، وفيه: "الذي رأيته يشق شدقه الكذاب" قال ابن بطال: إذا كرر الرجل الكذب حتى استحق اسم المبالغة بالوصف بالكذب لم يكن من صفات كملة المؤمنين بل من صفات المنافقين، يعني فلهذا عقب البخاري حديث ابن مسعود بحديث أبي هريرة. قلت: وحديث أبي هريرة المذكور هنا في صفة المنافق يشمل الكذب في القول والفعل، والقصد الأول في حديثه والثاني في أمارته والثالث في وعده. أخبر في حديث سمرة بعقوبة الكاذب بأنه يشق شدقه وذلك في موضع المعصية وهو فمه الذي كذب به. قلت: ومناسبته للحديث الأول أن عقوبة الكاذب أطلقت في الحديث الأول بالنار فكان في حديث سمرة بيانها. قوله في حديث سمرة "قالا الذي رأيته يشق شدقه فكذاب" هكذا وقع بالفاء واستشكل بأن الموصول الذي يدخل خبره الفاء يشترط أن يكون مبهما عاما، وأجاب ابن مالك بأنه نزل المعين المبهم منزلة العام إشارة إلى اشتراك من يتصف في العقاب المذكور، والله أعلم.

(10/509)


70 - باب فِي الْهَدْيِ الصَّالِحِ
6097- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ أَحَدَّثَكُمْ الأَعْمَشُ سَمِعْتُ شَقِيقاً قَالَ: "سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلّاً وَسَمْتاً وَهَدْياً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَبْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ لاَ نَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ إِذَا خَلاَ".
6098- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُخَارِقٍ سَمِعْتُ طَارِقاً قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 6098 – طرفه في: 7277]
قوله: "باب الهدي الصالح" بفتح الهاء وسكون الدال هو الطريقة الصالحة، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من وجهين من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رفعه: "الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة" وفي الطريق الأخرى "جزء من سبعين جزءا من النبوة" وأخرجه أبو داود وأحمد باللفظ الأول وسنده حسن، وأخرجه الطبراني من وجه آخر

(10/509)


عن ابن عباس بلفظ: "خمسة وأربعين" وسنده ضعيف، وستأتي الإشارة إلى طريق الجمع بين هذه الروايات في التعبير في شرح حديث الرؤيات الصالحة، قال التوربشتي: الاقتصاد على ضربين: أحدهما ما كان متوسطا بين محمود ومذموم كالتوسط بين الجور والعدل، وهذا المراد بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} ، وهذا محمود ومذموم بالنسبة، والثاني متوسط بين طرفي الإفراط والتفريط كالجود فإنه متوسط بين الإسراف والبخل، وكالشجاعة فإنها متوسطة بين التهور والجبن، وهذا هو المراد في الحديث. قوله: "حدثني إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه ونص البخاري لفظه، ولكنه حذف من آخره قول أبي أسامة وهو ثابت في مسند إسحاق فقال في آخر الحديث: "فأقر به أبو أسامة وقال نعم" وشقيق هو أبو وائل. قوله: "دلا" يفتح المهملة وتشديد اللام هو حسن الحركة في المشي والحديث وغيرهما، ويطلق أيضا على الطريق. قوله: "وسمتا" بفتح المهملة وسكون الميم هو حسن المنظر في أمر الدين، ويطلق أيضا على القصد في الأمر وعلى الطريق والجهة. قوله: "وهديا" قال أبو عبيد: الهدي والدل متقاربان، يقال في السكينة والوقار وفي الهيبة والمنظر والشمائل قال: والسمت يكون في حسن الهيئة والمنظر من جهة الخير والدين لا من جهة الجمال والزينة، ويطلق على الطريق، وكلاهما جيد بأن يكون له هيئة أهل الخير على طريقة أهل الإسلام. قوله: "لابن أم عبد" بفتح اللام وهي تأكيد بعد التأكيد بأن المكسورة التي في أول الحديث وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود، ووقع في رواية محمد بن عبيد عن الأعمش عند الإسماعيلي بلفظ: "عبد الله بن مسعود" وفي الحديث فضيلة لابن مسعود جليلة لشهادة حذيفة له بأنه أشد الناس شبها برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الخصال، وفيه توقى حذيفة حيث قال: "من حين يخرج إلى أن يرجع" فإنه اقتصر في الشهادة له بذلك على ما يمكنه مشاهدته، وإنما قال: "لا أدري ما يصنع في أهله" لأنه جوز أن يكون إذا خلا يكون في انبساطه لأهله يزيد أو ينقص عن هيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله، ولم يرد بذلك إثبات نقص في حق عبد الله رضي الله عنه. وقد أخرج أبو عبيد في "غريب الحديث" أن أصحاب عبد الله بن مسعود كانوا ينظرون إلى سمته وهديه ودله فيتشبهون به، فكأن الحامل لهم على ذلك حديث حذيفة. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق زيد بن وهب "سمعت ابن مسعود قال: اعلموا أن حسن الهدي في أخر الزمان خير من بعض العمل" وسنده صحيح، ومثله لا يقال من قبل الرأي، فكأن ابن مسعود لأجل هذا كان يحرص على حسن الهدي، وقد استشكل الداودي الشارح بقول حذيفة في ابن مسعود قول مالك "كان عمر أشبه الناس بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشبه الناس بعمر ابنه عبد الله، وبعبد الله ابنه سالم" قال الداودي: وقول حذيفة يقدم على قول مالك، ويمكن الجمع باختلاف متعلق الشبه بحمل شبه ابن مسعود بالسمت وما ذكر معه، وقول مالك بالقوة في الدين ونحوها، ويحتمل أن تكون مقالة حذيفة وقعت بعد موت عمر، يؤيد قول مالك ما أخرج البخاري في "كتاب رفع اليدين" عن جابر قال: "لم يكن أحد منهم ألزم لطريق النبي صلى الله عليه وسلم من عمر" وفي السنن ومستدرك. الحاكم عن عائشة قالت: "ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة عليها السلام" قلت: ويجمع بالحمل في هذا على النساء. وأخرج أحمد عن عمر "من سره أن ينظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود". قلت: ويجمع بالحمل على من بعد الصحابة، وعن عبد الرحمن بن حبير بن نفير "حج عمرو بن الأسود فرآه ابن عمر يصلي فقال: ما رأيت أشبه صلاة

(10/510)


ولا هديا ولا خشوعا ولا لبسة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل" انتهى. وعمرو المذكور(1). قوله: "عن مخارق" هو ابن عبد الله ويقال ابن خليفة الأحمسي وطارق هو ابن شهاب الأحمسي. قوله: "قال قال عبد الله" في رواية الإسماعيلي: "كان عبد الله يقول" وعبد الله هو ابن مسعود؛ وجزم ابن بطال بأن عبد الله هذا هو ابن عمر فوهم في ذلك. قوله: "إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد" هو بفتح الهاء كما في الترجمة وروي بضمها ضد الضلال، زاد أبو خليفة عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه في آخره: وشر الأمور محدثاتها "وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين" أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" وسيأتي في كتاب الاعتصام من وجه آخر عن ابن مسعود وفيه هذه الزيادة بلفظها وسأذكر شرحها هناك إن شاء الله تعالى. هكذا رأيت هذا الحديث في جميع الطرق موقوفا، وقد ورد بعضه مرفوعا من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود أخرجه أصحاب السنن، وجاء أكثره مرفوعا من حديث جابر أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد وابن ماجه وغيرهم من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جابر بألفاظ مختلفة، منها لأحمد عن يحيى القطان عن جعفر به "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته بعد التشهد: إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد" قال يحيي ولا أعلمه إلا قال: "وشر الأمور محدثاتها" الحديث، وفي لفظ لمسلم من طريق عبد الوهاب الثقفي عن جعفر بن محمد في أثناء حديث قال فيه: "ويقول: أما بعد إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" الحديث.
ـــــــ
(1) بياض بالأصل، كأنه محل ترجمة عمرو.

(10/511)


71 - باب الصَّبْرِ عَلَى الأَذَى
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
6099- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَيْسَ أَحَدٌ أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَداً وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ".
[الحديث 6099 – طرفه في: 7378]
6100- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ شَقِيقاً يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ قُلْتُ أَمَّا أَنَا لاَقُولَنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَسَارَرْتُهُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَغَضِبَ حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ" .
قوله: "باب الصبر في الأذى" أي حبس النفس عن المجازاة على الأذى قولا أو فعلا، وقد يطلق على الحلم "وقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} " قال بعض أهل العلم: الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ويقال فيها؛ ولهذا شق على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة،

(10/511)


لكنه حلم عن القائل فصبر لما علم من جزيل ثواب الصابرين وأن الله تعالى يأجره بغير حساب، والصابر أعظم أجرا من المنفق لأن حسنته مضاعفة إلى سبعمائة، والحسنة في الأصل بعشر أمثالها إلا من شاء أن يزيده، وقد تقدم في أوائل الإيمان حديث ابن مسعود "الصبر نصف الإيمان" وقد ورد في الصبر على الأذى حديث ليس على شرط البخاري، وهو ما أخرجه ابن ماجه يسند حسن عن ابن عمر رفعه: "المؤمن الذي يخالط الناس يصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " وأخرجه الترمذي من حديث صحابي لم يسم. قوله: حديث أبي موسى "ليس أحد أو ليس شيء" هو شك من الراوي، وقد أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد بسند البخاري وقال فيه: "أحد" بغير شك. قوله: "أصبر على أذى" هو بمعنى الحلم، أو أطلق الصبر لأنه بمعنى الحبس والمراد به حبس العقوبة على مستحقها عاجلا وهذا هو الحلم. قوله: "على أذى سمعه من الله" قد بينه في بقية الحديث، وهو أنهم يشركون به ويرزقهم، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. قوله: "قال عبد الله" هو ابن مسعود ووقع في رواية سفيان عن الأعمش الماضية في "باب من أخبر صاحبه بما يعلم" بلفظ: "عن ابن مسعود". قوله: "قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما" في رواية شعبة عن الأعمش أنها قسمه غنائم حنين. وفي رواية منصور عن ابن أبي وائل "لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل وأعطى ناسا من أشراف العرب" وقد تقدم إيضاح ذلك في غزوة حنين. قوله: "فقال رجل من الأنصار" تقدمت تسميته في غزوة حنين والرد على من زعم أنه حرقوص بن زهير. قوله: "والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله" قد تقدم في غزوة حنين من وجه آخر بلفظ: "ما أراد" على البناء للفاعل وفي رواية منصور "ما عدل فيها" وهو بضم أوله على البناء للمجهول. قوله: "قلت أما لأقولن" قال ابن التين: هي بتخفيف الميم ووقع في رواية: "أما" بتشديدها وليس ببين. قلت: وقع للكشميهني: "أم" بغير ألف وهو يؤيد التخفيف، ويوجه التشديد على أن في الكلام حذفا تقديره أما إذ قلت ذلك لأقولن. قوله: "فشق ذلك عليه وتغير وجهه" قد تقدم قبل بأكثر من عشرة أبواب بلفظ: "فتمعر وجهه" وهو بالعين المهملة ويجوز بالمعجمة. قوله: "حتى وددت أني لم أكن" في رواية أن بفتح وتخفيف. قوله: "ثم قال: قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر" في رواية شعبة عن الأعمش " يرحم الله موسى قد أوذي " فذكره وزاد في رواية منصور "فقال فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى" الحديث. وفي هذا الحديث جواز إخبار الإمام وأهل الفضل بما يقال فيهم مما لا يليق بهم ليحذروا القائل وفيه بيان ما يباح من الغيبة والنميمة لأن صورتهما موجودة في صنيع ابن مسعود هذا ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قصد ابن مسعود كان نصح النبي صلى الله عليه وسلم وإعلامه بمن يطعن فيه ممن يظهر الإسلام ويبطن النفاق ليحذر منه، وهذا جائز كما يجوز التجسس على الكفار ليؤمن من كيدهم، وقد ارتكب الرجل المذكور بما قال إثما عظيما فلم يكن له حرمة. وفيه أن أهل الفضل قد يغضبهم ما يقال فيهم مما ليس فيهم، ومع ذلك فيتلقون ذلك بالصبر والحلم كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بموسى عليه السلام، وأشار بقوله: "قد أوذي موسى" إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} قد حكي في صفة أذاهم له ثلاث قصص: إحداها قولهم هو آدر، وقد تقدم ضبط ذلك وشرحه في قصة موسى من أحاديث الأنبياء. ثانيها: في قصة موت هارون، وقد أوضحته أيضا في قصة موسى ثالثها: في قصته مع قارون حيث أمر البغي أن تزعم أن موسى

(10/512)


راودها حتى كان ذلك سبب هلاك: قارون، وقد تقدم ذلك في قصة قارون في آخر أخبار موسى من أحاديث الأنبياء.

(10/513)


72 - باب مَنْ لَمْ يُوَاجِهْ النَّاسَ بِالْعِتَابِ
6101- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئاً فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لاَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً" .
[الحديث 6601 – طرفه في: 7301]
6102- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ هُوَ ابْنُ أَبِي عُتْبَةَ مَوْلَى أَنَسٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَإِذَا رَأَى شَيْئاً يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ".
قوله: "باب من لم يواجه الناس بالعتاب" أي حياء منهم. قوله: "مسلم" هو ابن صبيح أبو الضحى، ووهم من زعم أنه ابن عمران البطين، وقد أخرجه مسلم من طريق جرير عن الأعمش فقال: "عن أبي الضحى" ومن طريق حفص بن غياث التي أخرجها البخاري من طريقه فقال نحو جرير، ومن طريق عيسى بن يونس عن الأعمش كذلك، ومن طريق معاوية عن الأعمش عن مسلم. قوله: "صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فترخص فيه" في رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش "رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أمر". قوله: "فتنزه عنه قوم" في رواية مسلم من طريق جرير عن الأعمش "فبلغ ذلك ناسا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا". قوله: "فخطب" في رواية أبي معاوية "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بأن الغضب في وجهه". قوله: " ما بال أقوام" في رواية جرير "ما بال رجال" قال ابن بطال: هذا لا ينافي الترجمة، لأن المراد بها المواجهة مع التعيين كأن يقول ما بالك يا فلان تفعل كذا، وما بال فلان يفعل كذا. فأما مع الإبهام فلم تحصل المواجهة وإن كانت صورتها موجودة وهي مخاطبة من فعل ذلك، لكنه لما كان من جملة المخاطبين ولم يميز عنهم صار كأنه لم يخاطب. قوله: "يتنزهون عن الشيء أصنعه" في رواية جرير " بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه" وفي رواية أبي معاوية "يرغبون عما رخص لي فيه". قوله: "فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية" جمع بين القوة العلمية والقوة العملية، أي أنهم توهموا أن رغبتهم عما أفعل أقرب لهم عند الله، وليس كذلك إذ هو أعلمهم بالقربة وأولاهم بالعمل بها. وقد تقدم معنى هذا الحديث في كتاب الإيمان في رواية هشام بن عروة عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون" الحديث، وفيه: "فيغضب ثم يقول إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" وقد أوضحت شرحه هناك وذكرت فيه أن الحديث من أفراد هشام عن أبيه عروة عن عائشة، وطريق مسروق هذه متابعة جيدة لأصل هذا الحديث، قال ابن بطال: كان النبي صلى الله عليه وسلم رفيقا بأمته فلذلك خفف عنهم العتاب، لأنهم فعلوا ما يجوز لهم من الأخذ بالشدة، ولو كان ذلك حراما لأمرهم بالرجوع إلى فعله. قلت: أما المعاتبة فقد حصلت

(10/513)


منه لهم بلا ريب، وإنما لم يميز الذي صدر منه ذلك سترا عليه، فحصل منه الرفق من هذه الحيثية لا بترك العتاب أصلا. وأما استدلاله يكون ما فعلوه غير حرام فواضح من جهة أنه لم يلزمهم بفعل ما فعله هو. وفي الحديث الحث على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذم التعمق والتنزه عن المباح، وحسن العشرة عند الموعظة، والإنكار والتلطف في ذلك، ولم أعرف أعيان القوم المشار إليهم في هذا الحديث، ولا الشيء الذي ترخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجدت ما يمكن أن يعرف به ذلك وهو ما أخرجه مسلم في كتاب الصيام من وجه آخر عن عائشة "أن رجلا قال: يا رسول الله إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله وقال : إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" ونحو هذا في حديث أنس المذكور في كتاب النكاح "أن ثلاثة رهط سألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر" الحديث وفيه قولهم "وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وفيه قولهم "والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء". حديث أبي سعيد يأتي في "باب الحياء" بعد أربعة أبواب، وقد تقدم شرحه أيضا في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم". قال ابن بطال: يستفاد منه الحكم بالدليل، لأنهم جزموا بأنهم كانوا يعرفون ما يكرهه بتغير وجهه، ونظيره أنهم كانوا يعرفون أنه يقرأ في الصلاة باضطراب لحيته كما تقدم في موضعه.

(10/514)


73 - باب مَنْ كَفَّرَ أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ
6103- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالاَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا" وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
6104- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْ