كتاب 20-فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) = ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وعقب كل حديث أطرافه كما ذكرها محمد فؤاد عبد الباقي] |
باب { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب
الموت ـ إلى قوله ـ و نحن له مسلمون }
...
14 - باب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} إلى قوله
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [133 البقرة]
3374- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ الْمُعْتَمِرَ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ قَالُوا يَا
نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ
نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ
اللَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ
تَسْأَلُونِي قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ
فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا".
قوله: "باب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ
قَالَ لِبَنِيهِ} الآية" أورد فيه حديث أبي هريرة "أكرم الناس يوسف نبي
الله ابن نبي الله" الحديث، ومناسبته لهذه الترجمة من جهة موافقة الحديث
الآية في سياق نسب يوسف عليه السلام، فإن الآية تضمنت أن يعقوب خاطب أولاده عند
موته محرضا لهم على الثبات على الإسلام. وقال له أولاده إنهم يعبدون إلهه وإله
آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ومن جملة أولاد يعقوب يوسف عليهم السلام، فنص
الحديث على نسب يوسف وأنه ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وزاد أن الأربعة أنبياء
في نسق. قوله: "حدثنا إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه الإمام المشهور.
قوله: "سمع المعتمر" أي أنه سمع المعتمر وهم يحذفون "أنه" خطا
كما يحذفون قال خطا ولا بد من ثبوتهما لفظا. وعبيد الله هو ابن عمر العمري. قوله:
"أكرمهم أتقاهم" هو موافق لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. قوله: "قالوا يا نبي الله ليس عن هذا نسألك، قال:
فأكرم الناس يوسف " الجواب الأول من جهة الشرف بالأعمال الصالحة، والثاني من
جهة الشرف بالنسب الصالح. قوله: "أفعن معادن العرب؟" أي أصولهم التي
ينسبون إليها ويتفاخرون بها، وإنما جعلت معادن لما فيها من الاستعداد المتفاوت، أو
شبههم بالمعادن لكونهم أوعية الشرف كما أن المعادن أوعية للجواهر. قوله:
(6/414)
باب { و لوطا إذ قال لقومه أتأتون
الفاحشة و أنتم تبصرون ، أإنكم لتأتوم الرجال شهوة من دون النساء ، با أنتم قوم
تجهلون . فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس
يتطهرون . فأنجي
...
15 - باب {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ . أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ
قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
. فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنْ
الْغَابِرِينَ . وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ
} [84-88 النمل]
3375- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِلُوطٍ
إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ".
قوله: "باب: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} إلى
قوله: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}" يقال إنه لوط بن هاران بن تارخ وهو
ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وقد قص الله تعالى قصته مع قومه في الأعراف وهود
والشعراء والنمل والصافات وغيرها وحاصلها أنهم ابتدعوا وطء الذكور فدعاهم لوط إلى
التوحيد إلى الإقلاع عن الفاحشة فأصروا على الامتناع، ولم يتفق أن يساعده منهم
أحد، وكانت مدائنهم تسمى سدوم وهي بغور زغر من البلاد الشامية، فلما أراد الله
إهلاكهم بعث جبريل وميكائيل وإسرافيل إلى إبراهيم فاستضافوه فكان ما قص الله في
سورة هود، ثم توجهوا إلى لوط فاستضافوه فخاف عليهم من قومه وأراد أن يخفي عليهم
خبرهم فنمت عليهم امرأته فجاءوا إليه وعاتبوه على كتمانه أمرهم وظنوا أنهم ظفروا
بهم، فأهلكهم الله على يد جبريل فقلب مدائنهم بعد أن خرج عنهم لوط بأهل بيته، إلا
امرأته فإنها تأخرت مع قومها أو خرجت مع لوط فأدركها العذاب، فقلب جبريل المدائن
بطرف جناحه فصار عاليها سافلها وصار مكانها بحيرة منتنة لا ينتفع بمائها ولا بشيء
مما حولها. قوله: "يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد" أي إلى
الله سبحانه وتعالى، ويشير صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ويقال إن قوم لوط لم يكن فيهم أحد
يجتمع معه في نسبه لأنهم من سدوم وهي من الشام وكان أصل إبراهيم ولوط من العراق،
فلما هاجر إبراهيم إلى الشام هاجر معه لوط، فبعث الله لوطا إلى أهل سدوم فقال: لو
أن لي منعة وأقارب وعشيرة لكنت أستنصر بهم عليكم ليدفعوا عن ضيفاني، ولهذا جاء في
بعض طرق هذا الحديث كما أخرجه أحمد من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال لوط: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن
شديد، قال فإنه كان يأوي إلى ركن شديد ولكنه عنى عشرته فما بعث الله نبيا إلاَّ
(6/415)
في ذروة من قومه" زاد ابن مردويه من هذا الوجه "ألم تر إلى قول شعيب: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}" وقيل معنى قوله: "لقد كان يأوي إلى ركن شديد" أي إلى عشيرته، لكنه لم يأو إليهم وأوى إلى الله انتهى. والأول أظهر لما بيناه. وقال النووي: يجوز أنه لما اندهش بحال الأضياف قال ذلك، أو أنه التجأ إلى الله في باطنه وأظهر هذا القول للأضياف اعتذارا، وسمى العشيرة ركنا لأن الركن يستند إليه ويمتنع به فشبههم بالركن من الجبل لشدتهم ومنعتهم، وسيأتي في الباب الذي بعده تفسير الركن بلفظ آخر.
(6/416)
16 - باب {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ
الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [62 الحجر]،
{بِرُكْنِهِ}: بِمَنْ مَعَهُ لِأَنَّهُمْ قُوَّتُهُ. {تَرْكَنُوا}: تَمِيلُوا. فَأَنْكَرَهُمْ
ونَكِرَهُمْ وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ. {يُهْرَعُونَ}: يُسْرِعُونَ. {دَابِرٌ}:
آخِرٌ. {صَيْحَةٌ}: هَلَكَةٌ. {لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: لِلنَّاظِرِينَ.
{لَبِسَبِيلٍ}: لَبِطَرِيقٍ.
3376- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
قوله: "باب {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ
مُنْكَرُونَ}" أي أنكرهم لوط. قوله: "بركنه بمن معه لأنهم قوته" هو
تفسير الفراء. وقال أبو عبيدة: فتولى بركنه وبجانبه سواء، إنما يعني ناحيته. وقال
في قوله: {أوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي عشيرة عزيزة منيعة. كذا أورد المصنف
هذه الجملة في قصة لوط، وهو وهم فإنها من قصة موسى والضمير لفرعون، والسبب في ذلك
أن ذلك وقع تلو قصة لوط حيث قال تعالى في آخر قصة لوط {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً
لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ثم قال عقب ذلك {وَفِي مُوسَى إِذْ
أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أو
ذكره استطرادا لقوله في قصة لوط {أوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}. قوله:
"تركنوا: تميلوا" قال أبو عبيدة في قوله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا} لا تعدلوا إليهم ولا تميلوا، تقول: ركنت إلى قولك أي أحببته
وقبلته، وهذه الآية لا تتعلق بقصة لوط أصلا. ثم ظهر لي أنه ذكر هذه اللفظة من أجل
مادة "ركن" بدليل إيراده، الكلمة الأخرى وهي "ولا تركنوا".
قوله: "فأنكرهم ونكرهم واستنكرهم واحد" قال أبو عبيدة: نكرهم وأنكرهم
واحد وكذلك استنكرهم، وهذا الإنكار من إبراهيم غير الإنكار من لوط، لأن إبراهيم
أنكرهم لما لم يأكلوا من طعامه، وأما لوط فأنكرهم لما لم يبالوا بمجيء قومه إليهم،
ولكن لها تعلق مع كونها لإبراهيم بقصة لوط. قوله: "يهرعون: يسرعون" قال
أبو عبيدة: يهرعون إليه أي يستحثون إليه، قال الشاعر بمعجلات نحوهم نهارع أي
نسارع. وقيل معناه يزعجون مع الإسراع. قوله: "دابر: آخر" قال أبو عبيدة
في تفسير قوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ} أي آخرهم. قوله: "صيحة: هلكة"
هو تفسير قوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ولم أعرف وجه دخوله هنا،
لكن لعله أشار إلى قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} فإنها تتعلق
بقوم لوط. قوله: "للمتوسمين: للناظرين" قال الفراء في قوله تعالى:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي للمتفكرين، ويقال للناظرين
المتفرسين. وقال أبو عبيدة أي المتبصرين المتثبتين. قوله: "لبسبيل:
لبطريق" هو تفسير أبي عبيدة؛ والضمير في قوله: {إِنَّهَا} يعود على مدائن قوم
لوط، وقيل يعود على الآيات. "تنبيهان": أحدهما هذه التفاسير وقعت في
رواية المستملي وحده. "ثانيهما": أورد المصنف عقب هذا قصة ثمود وصالح،
وقد قدمتها في مكانها عقب قصة عاد وهود، وكأن السبب في إيرادها أنه لما أورد
التفاسير من سورة الحجر كان آخرها قوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ، إِنَّ
(6/416)
فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} إلخ" فجاءت قصة ثمود وهم أصحاب الحجر في هذه السورة تالية لقصة قوم لوط وتخلل بينهما قصة أصحاب الأيكة مختصرة فأوردها من أوردها على ذلك، وقد قدمت الاعتذار على ذلك فيما مضى.
(6/417)
18 – باب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ
إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [133 البقرة]
3382- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ
الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ
السَّلاَم".
[الحديث 3382 – طرفاه في: 3390، 4688]
قوله: "باب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ}"
كذا ثبت هذه الترجمة هنا وهي مكررة كما سبق قريبا، والصواب أن حديثها تلو حديث
الباب الذي يليها وهي من قصة يوسف عليه السلام، وقوله: "أخبرنا عبد
الصمد" هو ابن عبد الوارث. قوله: "يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم" وفي رواية الطبراني من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه
"يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله" وله من حديث ابن عباس "قالوا
يا رسول الله من السيد؟ قال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله، قالوا: فما في
أمتك سيد؟ قال رجل أعطي مالا حلالا ورزق سماحة" وإسناده ضعيف.
(6/417)
باب قول الله تعالى { لقد كان في يوسف
و إخوته آيات للسائلين }
...
19 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [7 يوسف]: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ
وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}
3383- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ
هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ
اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا
نَسْأَلُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي النَّاسُ مَعَادِنُ
خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا
فَقُهُوا".
أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ
سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا.
3384- حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا:
"مُرِي أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَالَتْ إِنَّهُ رَجُلٌ أَسِيفٌ
مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ رَقَّ فَعَادَ فَعَادَتْ قَالَ شُعْبَةُ فَقَالَ فِي
الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ
...".
3385- حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ يَحْيَى الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي
(6/417)
باب قول الله تعالى { و أيوب إذ نادى
ربه أني مسنى الضر و أنت أرحم الراحمين }
...
20 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [83 الأنبياء]: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. {ارْكُضْ}: اضْرِبْ.
{ يَرْكُضُونَ} : يَعْدُونَ.
3391- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ
مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ
أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ بَلَى يَا رَبِّ وَلَكِنْ لاَ
غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ".
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} الآية"
يقال هو أيوب بن ساري بن رغوال بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وقيل: اسم أبيه موص
والباقي سواء، وقيل: موص بن رزاح بن عيص، وقيل: أيوب بن رزاح بن موص بن عيصو،
ومنهم من زاد بين موص وعيص ليقرن، وزعم بعض المتأخرين أنه من ذرية روم بن عيص ولا
يثبت ذلك، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام وأن أباه كان ممن آمن
بإبراهيم وعلى هذا فكان قبل موسى. وقال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل
ولم يصح في نسبة شيء إلا أن اسم أبيه امص والله أعلم. وقال الطبري: كان بعد شعيب.
وقال ابن أبي خيثمة: كان بعد سليمان، وكان عيصو تزوج بشمت بنت عمه إسماعيل فرزق
منها رغوال وهو بغين معجمة. قوله: "اركض: اضرب، يركضون: يعدون" روى ابن
جرير من طريق شعبة عن قتادة في قوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} قال: ضرب برجله الأرض
فإذا عينان تنبعان فشرب من إحداهما واغتسل من الأخرى. وقال الفراء في قوله تعالى:
{إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} أي يهربون. وأخرج الطبري من طريق مجاهد في قوله:
{لا تَرْكُضُوا} أي لا تفروا. قوله: "بينا أيوب" أصل "بينا"
بين أشبعت الفتحة، ويغتسل خبر المبتدأ والجملة في محل الجر بإضافة بين إليه
والعامل "خر عليه" أو هو مقدر وخر مفسر له، ووقع عند أحمد وابن حبان من
طريق بشير بن نهيك عن أبي هريرة "لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادا من
ذهب". قوله: "عريانا" تقدم القول فيه في كتاب الغسل. قوله:
"خر عليه" أي سقط عليه، وقوله: "رجل جراد" أي جماعة جراد،
والجراد اسم جمع واحده جرادة كتمر وتمرة، وحكى ابن سيده أنه يقال للذكر جراد
وللأنثى جرادة. قوله: "يحثي" بالمثلثة أي يأخذ بيديه جميعا. وفي رواية
بشير بن نهيك "يلتقط". قوله: "في ثوبه" في حديث ابن عباس عند
ابن أبي
(6/420)
حاتم "فجعل أيوب ينشر طرف ثوبه فيأخذ الجراد فيجعله فيه فكلما امتلأت ناحية نشر ناحية". قوله: "فناداه ربه" يحتمل أن يكون بواسطة أو بإلهام، ويحتمل أن يكون بغير واسطة. قوله: "قال بلى" أي أغنيتني. قوله: "ولكن لا غنى لي" بالقصر بغير تنوين وخبر لا قوله لي أو قوله عن بركتك. وفي رواية بشير بن نهيك "فقال ومن يشبع من رحمتك" أو قال: "من فضلك". وفي الحديث جواز الحرص على الاستكثار من الحلال في حق من وثق من نفسه بالشكر عليه، وفيه تسمية المال الذي يكون من هذه الجهة بركة، وفيه فضل الغني الشاكر، وسيأتي بقية مباحث هذه الخصلة الأخيرة في الرقاق إن شاء الله تعالى. واستنبط منه الخطابي جواز أخذ النثار في الأملاك، وتعقبه ابن التين فقال: هو شيء خص الله به نبيه أيوب، وهو بخلاف النثار فإنه من فعل الآدمي فيكره لما فيه من السرف، ورد عليه بأنه أذن فيه من قبل الشارع إن ثبت الخبر، ويستأنس فيه بهذه القصة والله أعلم. "تنبيه": لم يثبت عند البخاري في قصة أيوب شيء، فاكتفى بهذا الحديث الذي على شرطه. وأصح ما ورد في قصته ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن جريج وصححه ابن حبان والحاكم من طريق نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس "أن أيوب عليه السلام ابتلي فلبث في بلائه ثلاث عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه فكانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر: لقد أذنب أيوب ذنبا عظيما وإلا لكشف عنه هذا البلاء، فذكره الآخر لأيوب، يعني فحزن ودعا الله حينئذ فخرج لحاجته وأمسكت امرأته بيده فلما فرغ أبطأت عليه، فأوحي الله إليه أن اركض برجلك، فضرب برجله الأرض فنبعت عين فاغتسل منها فرجع صحيحا، فجاءت امرأته فلم تعرفه، فسألته عن أيوب فقال: إني أنا هو، وكان له أندران: أحدهما: للقمح والآخر: للشعير، فبعث الله له سحابة فأفرغت في أندر القمح الذهب حتى فاض، وفي أندر الشعير الفضة حتى فاض" . وروى ابن أبي حاتم نحوه من حديث ابن عباس وفيه: "فكساه الله حلة من حلل الجنة، فجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت: يا عبد الله هل أبصرت المبتلى الذي كان هنا، فلعل الذئاب ذهبت به؟ فقال: ويحك أنا هو" وروى ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير نحو حديث أنس، وفي آخره: "قال فسجد وقال: وعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف عني فكشف عنه" وعن الضحاك عن ابن عباس "رد الله على امرأته شبابها حتى ولدت له ستة وعشرين ولدا ذكرا" وذكر وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في "المبتدأ" قصة مطولة جدا وحاصلها أنه كان بحوران، وكان له البثنية سهلها وجبلها، وله أهل ومال كثير وولد، فسلب ذلك كله شيئا فشيئا وهو يصبر ويحتسب، ثم ابتلي في جسده بأنواع من البلاء حتى ألقي خارجا من البلد، فرفضه الناس إلا امرأته، فبلغ من أمرها أنها كانت تخدم بالأجرة وتطعمه إلى أن تجنبها الناس خشية العدوى فباعت إحدى ضفيرتها من بعض بنات الأشراف وكانت طويلة حسنة فاشترت له به طعاما طيبا، فلما أحضرته له حلف أن لا يأكله حتى تخبره من أين لها ذلك، فكشفت عن رأسها، فاشتد حزنه وقال حينئذ: {أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فعافاه الله تعالى، وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد أن أيوب أول من أصابه الجدري. ومن طريق الحسن أن إبليس أتى امرأته فقال لها: إن أكل أيوب ولم يسم عوفي فعرضت ذلك على أيوب فحلف ليضربنها مائة، فلما عوفي أمره الله أن يأخذ عرجونا فيه مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة، وقيل: بل قعد إبليس على الطريق في صورة طبيب فقال لها: إذا داويته فقال أنت شفيتني قنعت بذلك، فعرضت ذلك عليه فغضب وكان ما كان. وذكر الطبري أن اسمها ليا بنت يعقوب، وقيل: رحمة
(6/421)
بنت يوسف بن يعقوب، وقيل: بنت إفرائيم أو ميشا بن بوسف، وأفاد ابن خالويه أنه يقال لها أم زيد واختلف في مدة بلائه فقيل ثلاث عشرة سنة كما تقدم، وقيل ثلاث سنين وهذا قول وهب، وقيل: سبع سنين وهو عن الحسن وقتادة، وقيل: إن امرأته قالت له: ألا تدعو الله ليعافيك فقال: قد عشت صحيحا سبعين سنة أفلا أصبر سبع سنين؟ والصحيح ما تقدم أنه لبث في بلائه ثلاث عشرة سنة. وروى الطبري أن مدة عمره كانت ثلاثا وتسعين سنة فعلى هذا فيكون عاش بعد أن عوفي عشر سنين، والله أعلم.
(6/422)
باب { و اذكر في الكتاب موسى إنه كان
مخلصا و كان رسولا نبيا . و ناديناه من جانب الطور الأيمن و قربناه نجيا } كلمه
...
21 - باب [51 مريم]: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا
وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا . وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ
وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} كَلَّمَهُ {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ
هَارُونَ نَبِيًّا} يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَللْاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ نَجِيٌّ
وَيُقَالُ خَلَصُوا نَجِيًّا: اعْتَزَلُوا نَجِيًّا، وَالْجَمِيعُ أَنْجِيَةٌ
يَتَنَاجَوْنَ. {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ
إِيمَانَهُ} إلى {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [28 غافر]
3392- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي
عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قَالَ: "قَالَتْ عَائِشَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ
نَوْفَلٍ وَكَانَ رَجُلًا تَنَصَّرَ يَقْرَأُ الإِنْجِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ
فَقَالَ وَرَقَةُ مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ
الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى وَإِنْ أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ
نَصْرًا مُؤَزَّرًا".
النَّامُوسُ: صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي يُطْلِعُهُ بِمَا يَسْتُرُهُ عَنْ
غَيْرِهِ.
قوله: "باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا
وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} إلى قوله {نَجِيًّا} في رواية أبي ذر "قول الله
واذكر إلخ " وليس فيه: "باب" وساق في رواية كريمة إلى قوله:
{أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}. قوله: "يقال للواحد والاثنين" زاد
الكشميهني: والجمع نجي "ويقال خلصوا: اعتزلوا نجيا والجمع أنجية،
يتناجون" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {خَلَصُوا نَجِيّاً}: أي اعتزلوا نجيا
يتناجون، والنجي يقع لفظه على الواحد والجمع أيضا. وقد يجمع فيقال نجي وأنجية، قال
لبيد:
وشهدت أنجية الإفاقة عاليا ... كعبي وأرداف الملوك شهود
وموسى: هو ابن عمران بن لاهب بن عازر بن لاوي بن يعقوب عليه السلام لا اختلاف في
نسبه، ذكر السدي في تفسيره بأسانيده أن بدء أمر موسى أن فرعون رأى كأن نارا أقبلت
من بيت المقدس فأحرقت دور مصر وجميع القبط إلا دور بني إسرائيل، فلما استيقظ جمع
الكهنة والسحرة فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء يكون خراب مصر على يده، فأمر بقتل
الغلمان، فلما ولد موسى أوحي الله إلى أمه أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في
اليم، قالوا فكانت ترضعه، فإذا خافت عليه جعلته في تابوت وألقته في البحر وجعلت
الحبل عندها، فنسيت الحبل يوما فجرى به النيل حتى وقف على باب فرعون فالتقطه
الجواري فأحضروه عند امرأته، ففتحت التابوت فرأته
(6/422)
فأعجبها، فاستوهبته من فرعون فوهبه لها، فربته حتى كان من أمره ما كان. قوله: "تلقف: تلقم" هو تفسير أبي عبيدة قاله في سورة الأعراف. ثم أورد المصنف طرفا من حديث بدء الوحي، وقد تقدم شرحه بتمامه في أول الكتاب، والغرض منه قوله: "الناموس الذي أنزل على موسى". قوله: "الناموس صاحب السر الذي يطلعه بما يستره عن غيره" هو قول المصنف، وقد تقدم قول من خصه بسر الخير.
(6/423)
باب قول الله عز و جل { و هل أتاك حديث
موسى إذ رأى نارا ـ إلى قوله ـ بالوادي المقدس طوى }
...
22 - باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ [9-12 طه]: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى
إِذْ رَأَى نَاراً} إلى قوله: {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى }. {آنَسْتُ} :
أَبْصَرْتُ { نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: الْمُقَدَّسُ الْمُبَارَكُ. {طُوًى}: اسْمُ الْوَادِي. {سِيرَتَهَا}:
حَالَتَهَا. وَ {النُّهَى}: التُّقَى. {بِمَلْكِنَا}: بِأَمْرِنَا. {هَوَى}:
شَقِيَ. {فَارِغًا}: إِلاَّ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. {رِدْءاً}: كَيْ يُصَدِّقَنِي،
وَيُقَالُ: مُغِيثًا أَوْ مُعِينًا. {يَبْطُشُ} وَ { يَبْطِشُ}. {يَأْتَمِرُونَ}:
يَتَشَاوَرُونَ. وَالْجِذْوَةُ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنْ الْخَشَبِ لَيْسَ فِيهَا
لَهَبٌ. {سَنَشُدُّ}: سَنُعِينُكَ، كُلَّمَا عَزَّزْتَ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلْتَ
لَهُ عَضُدًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلَّمَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أَوْ فِيهِ
تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ فَهِيَ {عُقْدَةٌ}. {أَزْرِي}: ظَهْرِي.
{فَيُسْحِتَكُمْ}: فَيُهْلِكَكُمْ. {الْمُثْلَى}: تَأْنِيثُ الأَمْثَلِ، يَقُولُ: بِدِينِكُمْ
يُقَالُ خُذْ الْمُثْلَى خُذْ الأَمْثَلَ. {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا}: يُقَالُ هَلْ
أَتَيْتَ الصَّفَّ الْيَوْمَ يَعْنِي الْمُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ .
{فَأَوْجَسَ}: أَضْمَرَ خَوْفًا فَذَهَبَتْ الْوَاوُ مِنْ {خِيفَةً} لِكَسْرَةِ
الْخَاءِ. {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}: عَلَى جُذُوعِ. {خَطْبُكَ}: بَالُكَ.
{مِسَاسَ}: مَصْدَرُ مَاسَّهُ مِسَاسًا. {لَنَنْسِفَنَّهُ}: لَنُذْرِيَنَّهُ
{الضَّحَاءُ}: الْحَرُّ. {قُصِّيهِ}: اتَّبِعِي أَثَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَنْ
تَقُصَّ الْكَلاَمَ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ}. {عَنْ جُنُبٍ}: عَنْ بُعْدٍ،
وَعَنْ جَنَابَةٍ وَعَنْ اجْتِنَابٍ وَاحِدٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: {عَلَى قَدَرٍ}:
مَوْعِدٌ. {لاَ تَنِيَا}: لاَ تَضْعُفَا. {يَبَسًا}: يَابِسَا. {مِنْ زِينَةِ
الْقَوْمِ}: الْحُلِيِّ الَّذِي اسْتَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ.
{فَقَذَفْتُهَا}: أَلْقَيْتَهَا. {أَلْقَى}: صَنَعَ. {فَنَسِيَ مُوسَى}: هُمْ
يَقُولُونَهُ أَخْطَأَ الرَّبَّ أَنْ لاَ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ قَوْلًا فِي
الْعِجْلِ.
3393- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ "أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ
بِهِ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَإِذَا هَارُونُ قَالَ هَذَا هَارُونُ
فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ
الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ".
تَابَعَهُ ثَابِتٌ وَعَبَّادُ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: "باب قول الله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى
نَاراً} إلى قوله: {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}" سقط لفظ:
"باب" عند أبي ذر وكريمة. قوله: "آنست: أبصرت" قال أبو عبيدة
في قوله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ
(6/423)
نَاراً} أي أبصر. قوله: "قال ابن
عباس: المقدس المبارك، طوى اسم الوادي" هكذا وقع هذا التفسير وما بعده في
رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني خاصة ولم يذكره جميع رواة البخاري هنا، وإنما
ذكروا بعضه في تفسير سورة طه، وها أنا أشرحه هنا وأبين إذا أعيد في تفسير طه إن
شاء الله تعالى ما سبق منه هنا. وقول ابن عباس هذا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي
بن طلحة عن ابن عباس به، وروى هو والطبري من وجه آخر عن ابن عباس أنه سمي
"طوى" لأن موسى طواه ليلا قال الطبري: فعلى هذا فالمعنى إنك بالوادي
المقدم طويته وهو مصدر أخرج من غير لفظه كأنه قال: طويت الوادي المقدس طوى. وعن
سعيد بن جبير قال: قيل له طوى أي طأ الأرض حافيا، وروى الطبري عن مجاهد مثله، وعن
عكرمة أي طأ الوادي، ومن وجه آخر عن ابن عباس كذلك، وروى ابن أبي حاتم من طريق
مبشر بن عبيد والطبري من طريق الحسن قال: قيل له طوى لأنه قدس مرتين. وقال الطبري:
قال آخرون معنى قوله طوى أي ثنى، أي ناداه ربه مرتين إنك بالوادي المقدس، وأنشد
لذلك شاهدا قول عدي بن زيد:
أعاذل أن اللوم في غير حينه ... علي طوى من غيك المتردد
وقال أبو عبيدة: طوى يكسر أوله قوم، كقول الشاعر: وإن كان حيانا عدي آخر الدهر
قال: ومن جعل طوى اسم أرض لم ينونه، ومن جعله اسم الوادي صرفه، ومن جعله بمعنى
نودي مرتين صرفه تقول: ناديته ثنى وطوى أي مرة بعد مرة، وأنشد البيت المذكور.
قوله: "سيرتها: حالتها" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس في قوله تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} يقول حالتها الأولى،
ورواه ابن جرير كذلك. ومن طريق مجاهد وقتادة سيرتها هيئتها. قوله: "والنهى: التقى"
وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَمْشُونَ فِي
مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} قال: لأولي التقى. ومن
طريق سعيد عن قتادة "لأولي النهي: لأولي الورع" قال الطبري خص أولي
النهي لأنهم أهل التفكر والاعتبار. قوله: "بملكنا بأمرنا" وصله ابن أبي
حاتم والطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {مَا أَخْلَفْنَا
مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } يقوله: بأمرنا، ومن طريق سعيد عن قتادة "بملكنا أي
بطاقتنا" وكذا قال السدي؛ ومن طريق ابن زيد بهوانا. واختلف أهل القراءة في
ميم ملكنا فقرءوا بالضم وبالفتح وبالكسر، ويمكن تخريج هذه التأويلات على هذه
القراءات. قوله: "هوى شقي" وصله ابن أبي حاتم من الطريق المذكورة في
قوله تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} قال: يعني شقي. وكذا
أخرجه الطبري. قوله: "فارغا إلا من ذكر موسى" وصله سعيد بن عبد الرحمن
المخزومي في تفسير ابن عيينة من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى:
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} قال: من كل إلا من ذكر موسى. وأخرج
الطبري من طريق سعيد بن حبير عن ابن عباس نحوه، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس "فارغا لا تذكر إلا موسى" ومن طريق مجاهد وقتادة نحوه ومن طريق
الحسن البصري "أصبح فارغا من العهد الذي عهد إليها أنه سيرد عليها" وقال
أبو عبيدة في قوله فارغا: أي من الحزن لعلمها أنه لم يغرق. ورد ذلك الطبري وقال:
إنه مخالف لجميع أقوال أهل التأويل. وأم موسى اسمها بادونا وقيل: أباذخت ويقال
يوحاند. قوله: "ردءا كي يصدقني" وصله ابن أبي حاتم من الطريق المذكورة
قبل،
(6/424)
وروى الطبري من طريق السدي قال: كيما
يصدقني، ومن طريق مجاهد وقتادة ردءا أي عونا. قوله: "ويقال مغيثا أو
معينا" يعني بالمعجمة والمثلثة وبالمهملة والنون؛ قال أبو عبيدة في قوله ردءا
يصدقني: أي معينا، يقال فيه أردأت فلانا على عدوه أي أكنفته وأعنته، أي صرت له
كنفا. قوله: "يبطش: ويبطش" يعني بكسر الطاء وبضمها، قال أبو عبيدة في
تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ
لَهُمَا} بالطاء مكسورة ومضمومة لغتان. قلت: الكسر القراءة المشهورة هنا. وفي قوله
تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} والضم قراءة ابن جعفر، ورويت عن
الحسن أيضا. قوله: "يأتمرون يتشاورون" قال أبو عبيدة في قوله تعالى:
{إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}: أي يهمون بك ويتآمرون
ويتشاورون انتهى. وهي بمعنى يتآمرون، ومنه قول الشاعر:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفي كل حادثة يؤتمر
وقال ابن قتيبة: معناه يأمر بعضهم بعضا كقوله: { وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ
بِمَعْرُوفٍ}. قوله: "والجذوة قطعة غليظة من الخشب ليس لها لهب" قال أبو
عبيدة في قوله تعالى: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ}: أي قطعة غليظة من الحطب ليس
فيها لهب، قال الشاعر:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوار ولا دعر
والجذوة مثلثة الجيم. قوله: "سنشد: سنعينك، كلما عززت شيئا فقد جعلت له
عضدا" وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}:
أي سنقويك به ونعينك، تقول شد فلان عضد فلان إذا أعانه، وهو من عاضدته على أمره أي
عاونته. قوله: "وقال غيره كلما لم ينطق بحرف أو فيه تمتمة أو فأفأة فهي
عقدة" هو قول أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ
لِسَانِي}: العقدة في اللسان ما لم ينطق بحرف أو كانت فيه مسكة من تمتمة أو فأفأة.
وروى الطبري من طريق السدي قال: لما تحرك موسى أخذته آسية امرأة فرعون ترقصه ثم
ناولته لفرعون، فأخذ موسى بلحيته فنتفها، فاستدعى فرعون الذباحين، فقالت آسية إنه
صبي لا يعقل، فوضعت له جمرا وياقوتا وقالت إن أخذ الياقوت فاذبحه وإن أخذ الجمرة
فاعرف أنه لا يعقل، فجاء جبريل فطرح في يده جمرة فطرحها في فيه فاحترق لسانه فصارت
في لسانه عقدة من يومئذ. ومن طريق مجاهد وسعيد بن جبير نحو ذلك، التمتمة هي التردد
في النطق بالمثناة الفوقانية، والفأفأة بالهمزة التردد في النطق بالفاء. قوله:
"أزري: ظهري" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}: أي
ظهري، ويقال: قد أزرني أي كان لي ظهرا ومعينا. وأورد بإسناد لين عن ابن عباس في
قوله: "اشدد به أزري" قال: ظهري. قوله: "فيسحتكم: فيهلككم"
وصله الطبري عن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول أبي عبيدة قال: وتقول
سحته وأسحته بمعنى، قال الطبري سحت أكثر من أسحت. وروى من طريق قتادة في قوله:
{فَيُسْحِتَكُمْ} أي يستأصلكم، والخطاب للسحرة، ويقال إن اسم رؤسائهم غادون وسانور
وخطخط والمصفا. قوله: "المثلى: تأنيث الأمثل يقول بدينكم. يقال خذ المثلى خذ
الأمثل" قال أبو عبيدة في قوله: {بِطَرِيقَتِكُمُ} أي بسنتكم ودينكم وما أنتم
عليه، والمثلى تأنيث الأمثل يقال خذ المثلى منهما للأنثيين، وخذ الأمثل منهما إذا
كان ذكرا، والمراد بالمثلي الفضلى. قوله: "ثم ائتوا صفا،
(6/425)
يقال: هل أتيت الصف اليوم يعني المصلى
الذي يصلي فيه" قال أبو عبيدة في قوله: {ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً} أي صفوفا، وله
معنى آخر من قولهم: هل أتيت الصف اليوم؟ أي المصلى الذي يصلي فيه. قوله:
"فأوجس: أضمر خوفا فذهبت الواو من خيفة لكسرة الخاء" قال أبو عبيدة في
قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي فأضمر منهم خيفة أي خوفا، فذهبت
الواو فصارت ياء من أجل كسرة الخاء. قال الكرماني: مثل هذا الكلام لا يليق بجلالة
هذا الكتاب أن يذكر فيه انتهى. وكأنه رأى فيه ما يخالف اصطلاح المتأخرين من أهل
علم التصريف فقال ذلك حيث قالوا في مثل هذا أصل خيفة خوفة فقلبت الواو ياء لكونها
بعد كسرة، وما عرف أنه كلام أحد الرءوس العلماء باللسان العربي وهو أبو عبيدة معمر
بن المثنى البصري. قوله: "في جذوع النخل: على جذوع" هو قول أبي عبيدة، واستشهد
بقول الشاعر هم صلبوا العبدي في جذع نخلة وقال: إنما جاء على موضع في إشارة لبيان
شدة التمكن في الظرفية. قوله: "خطبك بالك" قال أبو عبيدة في قوله:
{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ} أي ما بالك وشأنك؟ قال الشاعر: "يا عجبا ما خطبه
وخطبي" وروى الطبري من طريق السدي في قول الله: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ} قال:
مالك يا سامري واسم السامري المذكور يأتي. قوله: "مساس مصدر ماسه
مساسا". قال الفراء: قوله: { لا مِسَاسَ} أي لا أمس ولا أمس، والمراد أن موسى
أمرهم أن لا يؤاكلوه ولا يخالطوه، وقرئ لا مساس بفتح الميم وهي لغة فاشية، واسم
السامري موسى بن طفر وكان من قوم يعبدون البقر. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {لا
مِسَاسَ}: إذا كسرت الميم جاز النصب والرفع والجر بالتنوين، وجاءت هنا منفية ففتحت
بغير تنوين، قال النابغة:
فأصبح من ذاك كالسامري ... إذ قال موسى له لا مساسا
قال: والمماسة والمخالطة واحد، قال: ومنهم من جعلها اسما فكسر أخرها بغير تنوين،
قال الشاعر:
تميم كرهط السامري وقوله ... ألا لا مريد السامري مساس
أجراها مجرى قطام وحزام. قوله: "لننسفنه: لنذرينه" وصله الطبري من طريق
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً}
يقول لنذرينه في البحر. قوله: "الضحاء الحر" قال أبو عبيدة في قوله
تعالى: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} أي لا تعطش ولا تضحى للشمس
فتجد الحر، وروى الطبري من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: لا يصبك فيها عطش
ولا حر. قلت: وهذا الموضع وقع استطرادا، وإلا فلا تعلق له بقصة موسى عليه السلام.
قوله: "قصيه: اتبعي أثره، وقد يكون أن يقص الكلام: نحن نقص عليك" أما
الأول فهو قول مجاهد والسدي وغيرهما أخرجه ابن جرير. وقال أبو عبيدة في قوله
تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي اتبعي أثره تقول: قصصت آثار القوم، وأما
الثاني هو من قبل المصنف. وأخت موسى اسمها مريم وافقتها في ذلك مريم بنت عمران
والدة عيسى عليه السلام. قوله: "عن جنب: عن بعد، وعن جنابة وعن اجتناب
واحد" روى الطبري من طريق مجاهد في قوله: {عَنْ جُنُبٍ} قال: عن بعد. وقال
أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أي عن بعد وتجنب، ويقال
ما تأتينا إلا عن جنابة وعن جنب. قال الشاعر:
فلا تحرمني نائلا عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
وفي حديث القنوت الطويل عن ابن عباس: الجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد
وهو إلى جنبه لم
(6/426)
يشعر. قوله: "قال مجاهد: على قدر موعد" وصله الفرياني من طريق ابن أبي نجيح عنه، روى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} أي على ميقات. قوله: "لا تنيا: لا تضعفا" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد، وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} قال: لا تبطئا. قوله: "مكانا سوى: منصف بينهم" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد. وقال أبو عبيدة بضم أوله وبكسره كعدي وعدي، والمعنى النصف والوسط. قوله: "يبسا يابسا" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً} أي يابسا. وقال أبو عبيدة في قوله: "طريقا في البحر يبسا" متحرك الحروف وبعضهم يسكن الباء، وتقول شاة يبس بالتحريك أي يابسة ليس لها لبن. قوله: "من زينة القوم: الحلي الذي استعاروا من آل فرعون" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} أي الحلي الذي استعاروا من آل فرعون، وهي الأثقال أي الأوزار، وروى الطبري من طريق ابن زيد قال: الأوزار الأثقال وهي الحلي الذي استعاروه من آل فرعون، وليس المراد بها الذنوب، ومن طريق قتادة قال كان الله وقت لموسى ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر، فلما مضت الثلاثون قال السامري لبني إسرائيل: إنما أصابكم الذي أصابكم عقوبة بالحلي الذي كان معكم، وكانوا قد استعاروا ذلك من آل فرعون فساروا وهي معهم فقذفوها إلى السامري فصورها صورة بقرة، وكان قد صر في ثوبه قبضة من أثر فرس جبريل فقذفها مع الحلي في النار فأخرج عجلا يخور. قوله: "فقذفتها ألقيتها، ألقى صنع" وقع في رواية الكشميهني: "فقذفناها" وصله الفرياني من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} {فَقَذَفْنَاهَا} قال: ألقيناها. وفي قوله: {أ َلْقَى السَّامِرِيُّ} أي صنع. وفي قوله: {فَنَبَذْتُهَا} أي ألقيتها. قوله: "فنسي موسى، هم يقولونه أخطأ الرب" وصله الفريابي عن مجاهد كذلك، وروى الطبري من طريق السدي قال: لما خرج العجل فخار قال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، فنسي أي فنسي موسى وضل، ومن طريق قتادة نحوه قال: نسي موسى ربه. ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس "فنسي" أي السامري نسي ما كان عليه من الإسلام. قوله: "إن لا يرجع إليهم قولا في العجل" وصله الفريابي عن مجاهد كذلك. وقال أبو عبيدة: تقدير القراءة بالضم أنه لا يرجع، ومن لم يضم العين نصب بأن. "تنبيه": لمح المصنف بهذه التفاسير لما جرى لموسى في خروجه إلى مدين، ثم في رجوعه إلى مصر، ثم في أخباره مع فرعون، ثم في غرق فرعون، ثم في ذهابه إلى الطور، ثم في عبادة بني إسرائيل العجل وكأنه لم يثبت عنده في ذلك من المرفوعات ما هو على شرطه، وأصح ما ورد في جميع ذلك ما أخرجه النسائي وأبو يعلى بإسناد حسن عن ابن عباس في حديث القنوت الطويل في قدر ثلاث ورقات، وهو في تفسير طه عنده وعند ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه وغيرهم ممن خرج التفسير المسند. ثم ذكر المصنف طرفا من حديث الإسراء من رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، وسيأتي بتمامه في السيرة النبوية، واقتصر منه هنا على قوله: "حتى أتى السماء الخامسة فإذا هارون" الحديث بهذه القصة خاصة، ثم قال: تابعه ثابت وعباد بن أبي علي عن أنس، وأراد بذلك أن هذين تابعا قتادة عن أنس في ذكر هارون في السماء الخامسة لا في جميع الحديث، بل ولا في الإسناد، فإن راوية ثابت موصولة في صحيح مسلم من طريق حماد بن سلمة عنه ليس فيها ذكر مالك بن صعصعة، نعم فيها ذكر هارون في السماء الخامسة، وكذلك في رواية عباد بن أبي علي وهو بصري ليس
(6/427)
له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع ووافق ثابتا في أنه لم يذكر لأنس فيه شيخا، وقد وافقهما شريك عن أنس في ذلك وفي كون هارون في الخامسة، وسيأتي حديثه في أثناء السيرة النبوية. وأما قتادة فقال: عن أنس عن مالك بن صعصعة، وأما الزهري فقال: عن أنس عن أبي ذر كما مضى في أول الصلاة، ولم يذكر في حديثه هارون أصلا، وإلى هذا أشار المصنف بالمتابعة. والله أعلم.
(6/428)
باب { و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم
إيمانه ـ إلى قوله ـ مسرف كذاب }
...
23 - باب {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} إلى
قوله: {مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}
قوله: "باب: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ
إِيمَانَهُ} إلى قوله: {مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}" كذا وقعت هذه الترجمة بغير حديث،
ولعله أخلى بياضا في الأصل فوصل كنظائره، ووقع هذا في رواية النسفي مضموما إلى ما
في الباب الذي بعده وهو متجه. واختلف في اسم هذا الرجل فقيل هو يوشع بن نون وبه
جزم ابن التين وهو بعيد لأن يوشع كان من ذرية يوسف عليه السلام ولم يكن من آل
فرعون، وقد قيل إن قوله: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} متعلق بيكتم إيمانه، والصحيح أن
المؤمن المذكور كان من آل فرعون، واستدل لذلك الطبري بأنه لو كان من بني إسرائيل
لم يصغ فرعون إلى كلامه ولم يستمع منه. وذكر الثعلبي عن السدي ومقاتل أنه ابن عم
فرعون، وقيل: اسمه شمعان بالشين المعجمة، قال الدار قطني في "المؤتلف":
لا يعرف شمعان بالشين المعجمة إلا هذا وصححه السهيلي، وعن الطبراني اسمه حيزور
وقيل حزقيل برحايا وقيل: حربيال قاله وهب بن منبه وقيل: حابوت، وعن ابن عباس اسمه
حبيب وهو ابن عم فرعون وأخرجه عبد بن حميد، وقيل: هو حبيب النجار وهو غلط، وذكر
الوزير أبو القاسم المغربي في "أدب الخواص": إن اسم صاحب فرعون حوتكة بن
سود بن أسلم من قضاعة، وعزاه لرواية أبي هريرة.
(6/428)
باب قول الله تعالى { و هل أتاك حديث
موسى ـ و كلم الله موسى تكليما }
...
24 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} {وَكَلَّمَ
اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}
3394- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ مُوسَى وَإِذَا هُوَ رَجُلٌ ضَرْبٌ رَجِلٌ كَأَنَّهُ
مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَرَأَيْتُ عِيسَى فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ
كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا
لَبَنٌ وَفِي الْآخَرِ خَمْرٌ فَقَالَ اشْرَبْ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَأَخَذْتُ
اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ فَقِيلَ أَخَذْتَ الْفِطْرَةَ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ
الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ".
[الحديث 3394 – أطرافه في: 3437، 4709، 5576، 5603]
3395- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ حَدَّثَنَا ابْنُ
عَمِّ نَبِيِّكُمْ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا
خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ".
[الحديث 3395 – أطرافه في: 3413، 4630، 7539]
(6/428)
باب قول الله تعالى { و واعدنا موسى
ثلاثين ليلة و أتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة . و قال موسى لأخيه هارون
اخلفني في قومي و أصلح ، و لا تتبع شبيل المفسدين . و لما جاء موسى لميقاتنا و
كلمه ربه
...
25 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ
مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ
سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ . وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا
(6/429)
وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} إلى قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُؤْمِنِينَ}. يُقَالُ: دَكَّهُ: زَلْزَلَهُ فَدُكَّتَا فَدُكِكْنَ جَعَلَ
الْجِبَالَ كَالْوَاحِدَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَنَّ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} وَلَمْ يَقُلْ كُنَّ رَتْقًا: مُلْتَصِقَتَيْنِ.
{أُشْرِبُوا} ثَوْبٌ مُشَرَّبٌ مَصْبُوغٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {انْبَجَسَتْ}:
انْفَجَرَتْ. {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ}: رَفَعْنَا
3398- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ
يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ
بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ
بِصَعْقَةِ الطُّورِ".
3399- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْلاَ بَنُو
إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزْ اللَّحْمُ وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى
زَوْجَهَا الدَّهْرَ".
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} إلى
قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}" ساق في رواية كريمة الآيتين
كلتيهما. وقوله: "وأتممناها بعشر" فيه إشارة إلى أن المواعدة وقعت
مرتين، وقوله: "صعقا" أي مغشيا عليه. قوله: "يقال دكه زلزله"
هذا ذكره هنا لقوله في قصة موسى عليه السلام {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ
لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} قال أبو عبيدة جعله دكا أي مستويا مع وجه الأرض، وهو
مصدر جعل صفة، ويقال ناقة دكاء أي ذاهبة السنام مستوظهرها. ووقع عند ابن مردويه
مرفوعا: "إن الجبل ساخ في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة " وسنده
واه، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي مالك رفعه: "لما تجلى الله للجبل طارت
لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بمكة: حرى وثور وثبير، وثلاثة بالمدينة: أحد ورضوى
وورقان" وهذا غريب مع إرساله. قوله: "فدكتا فدككن جعل الجبال كالواحدة
كما قال الله عز وجل: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} ولم يقل
كن رتقا" ذكر هذا استطرادا إذ لا تعلق له بقصة موسى، وكذا قوله: "رتقا:
ملتصقتين" وقال أبو عبيدة الرتق التي ليس فيها ثقب، ثم فتق الله السماء
بالمطر وفتق الأرض بالشجر. قوله: "أشربوا، ثوب مشرب مصبوغ" يشير إلى أنه
ليس من الشرب. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْعِجْلَ} أي سقوه حتى غلب عليهم، وهو من مجاز الحذف أي أشربوا في قلوبهم حب
العجل. ومن قال إن العجل أحرق ثم ذري في الماء فشربوه فلم يعرف كلام العرب، لأنها
لا تقول في الماء: أشرب فلان في قلبه. قوله: "قال ابن عباس: انبجست
انفجرت" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه كذلك. قوله:
"وإذ نتقنا الجبل رفعنا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه
أيضا. حديث أبي هريرة في أن الناس يصعقون(1) "حديث الصعق إنما هو عن أبي
سعيد" وسيأتي شرحه قريبا. حديثه "لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم"
وسبق شرحه في ترجمة آدم.
ـــــــ
(1) حديث الصعق إنما هو عن أبي سعيد
(6/430)
باب طوفان من السيل . و يقال للموت
الكثير طوفان
...
26 - باب طُوفَانٍ مِنْ السَّيْلِ. يُقَالُ لِلْمَوْتِ الْكَثِيرِ طُوفَانٌ
{الْقُمَّلُ}: الْحُمْنَانُ يُشْبِهُ صِغَارَ الْحَلَمِ. {حَقِيقٌ}: حَقٌّ.
{سُقِطَ}: كُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ.
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله وتعلقه
به ظاهر، وسقط جميعه من رواية النسفي. قوله: "طوفان من السيل، ويقال للموت
الكثير طوفان" قال أبو عبيدة: الطوفان مجاز من السيل، وهو من الموت المتتابع
الذريع. قوله: "القمل: الحمنان يشبه صغار الحلم" قال أبو عبيدة: القمل
عند العرب هي الحمنان. قال الأثرم الراوي عنه: والحمنان يعني بالمهملة ضرب من
القردان، وقيل: هي أصغر، وقيل: أكبر، وقيل: الدبا بفتح المهملة وتخفيف الموحدة
مقصور. قوله: "حقيق: حق" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى}
مجازه حق علي أن لا أقول على الله إلا الحق، وهذا على قراءة من قرأ حقيق علي
بالتشديد وأما من قرأها "عليَّ" فإنه يقول معناه حريص أو محق. قوله:
"سقط: كل من ندم فقد سقط في يده" قال أبو عبيدة في قوله: "ولما سقط
في أيديهم": يقال لكل من ندم وعجز عن شيء سقط في يده.
(6/431)
27 - باب حَدِيثِ الْخَضِرِ مَعَ
مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَم
3400- حدثنا عمرو بن محمد حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثني أبي عن صالح عن بن
شهاب أن عبيد الله بن عبد الله أخبره عن بن عباس "أنه تمارى هو والحر بن قيس
الفزاري في صاحب موسى قال بن عباس هو خضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه بن عباس فقال
إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه هل سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه قال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال هل تعلم أحدا أعلم منك قال
لا فأوحى الله إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل موسى السبيل إليه فجعل له الحوت آية وقيل
له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه فكان يتبع أثر الحوت في البحر فقال لموسى
فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره
فقال موسى ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا فكان من شأنهما الذي
قص الله في كتابه".
3401- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال أخبرني سعيد بن
جبير قال قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني
إسرائيل إنما هو موسى آخر فقال كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب عن النبي صلى الله
عليه وسلم ثم أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب
الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فقال له بلى لي عبد بمجمع
(6/431)
البحرين هو أعلم منك قال أي رب ومن لي به وربما قال سفيان أي رب وكيف لي به قال تأخذ حوتا فتجعله في مكتل حيثما فقدت الحوت فهو ثم وربما قال فهو ثمه وأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فرقد موسى واضطرب الحوت فخرج فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق فقال هكذا مثل الطاق فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما حتى إذا كان من الغد قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ولم يجد موسى النصب حتى جاوز حيث أمره الله قال له فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا فكان للحوت سربا ولهما عجبا قال له موسى ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى موسى فرد عليه فقال وأنى بأرضك السلام قال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا قال يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه قال هل أتبعك قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا إلى قوله إمرا فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة كلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول فلما ركبا جاء عصفور فوقع على فنقر في البحر نقرة أو نقرتين قال له الخضر يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر إذ أخذ الفأس فنزع لوحا قال فلم يفجأ موسى إلا وقد قلع لوحا بالقدوم فقال له موسى ما صنعت قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فكانت الأولى من موسى نسيانا فلما خرجا من البحر مروا بغلام يلعب فأخذ الخضر برأسه فقلعه بيده هكذا وأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئا فقال له موسى أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض مائلا أومأ بيده هكذا وأشار سفيان كأنه يمسح شيئا إلى فوق فلم أسمع سفيان يذكر مائلا إلا مرة. قال: قوم
(6/432)
أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا عمدت
إلى حائطهم لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم
تستطع عليه صبرا قال النبي صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى كان صبر فقص الله
علينا من خبرهما. قال سفيان: قال النبي صلى الله عليه وسلم يرحم الله موسى لو كان
صبر لقص علينا من أمرهما. وقرأ بن عباس أمامهم: ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا.
وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ثم قال لي سفيان: سمعته منه مرتين
وحفظته منه. قيل لسفيان: حفظته قبل أن تسمعه من عمرو أو تحفظته من إنسان؟ فقال:
ممن أتحفظه، ورواه أحد عن عمرو غيري سمعته منه مرتين أو ثلاثا وحفظته منه".
3402- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ ابْنُ الأَصْبِهَانِيِّ أَخْبَرَنَا
ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ
بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ" . قال الحموي:
قال محمد بن يوسف بن مطر الفربري: حدثنا علي بن خشرم عن سفيان بطوله.
قوله: "باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام" ذكر فيه حديث ابن عباس عن
أبي بن كعب من وجهين، وسيأتي أولهما بأتم من سياقه في تفسير سورة الكهف ونستوفي
شرحه هناك، ووقع هنا في رواية ابن ذر عن المستملي خاصة عن الفربري "حدثنا علي
بن خشرم حدثنا سفيان بن عيينة" الحديث بطوله وقد تقدم التنبيه على مثل ذلك في
كتاب العلم. والخضر قد اختلف في اسمه قبل ذلك وفي اسم أبيه وفي نسبه وفي نبوته وفي
تعميره. فقال وهب بن منبه: هو بليا بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها تحتانية، ووجد
بخط الدمياطي في أول الاسم بنقطتين، وقيل: كالأول بزيادة ألف بعد الباء، وقيل اسمه
إلياس، وقيل اليسع، وقيل عامر، وقيل خضرون - والأول أثبت - ابن ملكان بن فالغ بن
عابر بن شالخ بن أرفشخذ بن سام بن نوح. فعلى هذا فمولده قبل إبراهيم الخليل لأنه
يكون ابن عم جد إبراهيم، وقد حكى الثعلبي قولين في أنه كان قبل الخليل أو بعده،
قال وهب وكنيته أبو العباس، وروى الدار قطني في "الأفراد" من طريق مقاتل
عن الضحاك عن ابن عباس قال: هو ابن آدم له لصلبه، وهو ضعيف منقطع، وذكر أبو حاتم السجستاني
في "المعمرين" أنه ابن قابيل بن آدم رواه عن أبي عبيدة وغيره، وقيل:
اسمه ارميا بن طيفاء حكاه ابن إسحاق عن وهب، وارميا بكسر أوله وقيل بضمه وأشبعها
بعضهم واوا، واختلف في اسم أبيه فقيل ملكا وقيل: كليان وقيل: عاميل وقيل: قابل
والأول أشهر، وعن إسماعيل بن أبي أويس: هو العمر بن مالك بن عبد الله بن
(6/433)
نصر بن الأزد، وحكى السهيلي عن قوم أنه كان ملكا من الملائكة وليس من بني آدم، وعن ابن لهيعة كان ابن فرعون نفسه، وقيل ابن بنت فرعون، وقيل: اسمه خضرون بن عاييل بن معمر بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وقيل: كان أبوه فارسيا رواه الطبري من طريق عبد الله بن شوذب، وحكى ابن ظفر في تفسيره أنه كان من ذرية بعض من آمن بإبراهيم، وقيل: إنه الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه فلا يموت حتى ينفخ في الصور، وروى الدار قطني في الحديث المذكور قال: مد للخضر في أجله حتى يكذب الدجال. وقال عبد الرزاق في مصنفه عن معمر في قصة الذي يقتله الدجال ثم يحييه: بلغني أنه الخضر. وكذا قال إبراهيم بن سفيان الراوي عن مسلم في صحيحه. وروى ابن إسحاق في "المبتدأ" عن أصحابه أن آدم أخبر بنيه عند الموت بأمر الطوفان، ودعا لمن يحفظ جسده بالتعمير حتى يدفنه، فجمع نوح بنيه لما وقع الطوفان وأعلمهم بذلك فحفظوه، حتى كان الذي تولى دفنه الخضر. وروى خيثمة بن سليمان من طريق جعفر الصادق عن أبيه أن ذا القرنين كان له صديق من الملائكة، فطلب منه أن يدله على شيء يطول به عمره فدله على عين الحياة وهي داخل الظلمة، فسار إليها والخضر على مقدمته فظفر بها الخضر ولم يظفر بها ذو القرنين. وروي عن مكحول عن كعب الأحبار قال: أربعة من الأنبياء أحياء أمان لأهل الأرض: اثنان في الأرض الخضر وإلياس، واثنان في السماء إدريس وعيسى. وحكى ابن عطية البغوي عن أكثر أهل العلم أنه نبي ثم اختلفوا هل هو رسول أم لا؟ وقالت طائفة منهم القشيري هو ولي. وقال الطبري في تاريخه: كان الخضر في أيام أفريدون في قول عامة علماء الكتاب الأول، وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر. وأخرج النقاش أخبارا كثير تدل على بقائه لا تقوم بشيء منها حجة قاله ابن عطية، قال: ولو كان باقيا لكان له في ابتداء الإسلام ظهور، ولم يثبت شيء من ذلك. وقال الثعلبي في تفسيره: هو معمر على جميع الأقوال، محجوب عن الأبصار. قال وقد قيل إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن. قال القرطبي: هو نبي عند الجمهور والآية تشهد بذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعلم ممن هو دونه، ولأن الحكم بالباطن لا يطلع عليه إلا الأنبياء. وقال ابن الصلاح: هو حي عند جمهور العلماء والعامة معهم في ذلك، وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين. وتبعه النووي وزاد أن ذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به أكثر من أن تحصر انتهى. والذي جزم بأنه غير موجود الآن البخاري وإبراهيم الحربي وأبو جعفر بن المنادى وأبو يعلى بن الفراء وأبو طاهر العبادي وأبو بكر بن العربي وطائفة، وعمدتهم الحديث المشهور عن ابن عمر وجابر وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال في آخر حياته: "لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد" قال ابن عمر: أراد بذلك انخرام قرنه. وأجاب من أثبت حياته بأنه كان حينئذ على وجه البحر، أو هو مخصوص من الحديث كما خص منه إبليس بالاتفاق. ومن حجج من أنكر ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} وحديث ابن عباس "ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه" أخرجه البخاري ولم يأت في خبر صحيح أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا قاتل معه، وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" فلو كان الخضر موجودا لم يصح هذا النفي. وقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله موسى لوددنا لو كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما" فلو كان الخضر موجودا لما حسن هذا التمني ولأحضره بين يديه وأراه العجائب وكان أدعى لإيمان الكفرة لا سيما أهل الكتاب. وجاء في اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف أخرجه ابن عدي من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن
(6/434)
أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع وهو في المسجد كلاما فقال: يا أنس اذهب إلى هذا القائل فقل له يستغفر لي، فذهب إليه فقال: قل له إن الله فضلك على الأنبياء بما فضل به رمضان على الشهور. قال فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر" إسناده ضعيف. وروى ابن عساكر من حديث أنس نحوه بإسناد أو هي منه، وروى الدار قطني في "الأفراد" من طريق عطاء عن ابن عباس مرفوعا: "يجتمع الخضر وإلياس كل عام في الموسم، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه، ويفترقان عن هؤلاء الكلمات: بسم الله ما شاء الله" الحديث، في إسناده محمد بن أحمد بن زيد بمعجمة ثم موحدة ساكنة وهو ضعيف. وروى ابن عساكر من طريق هشام بن خالد عن الحسن بن يحيى عن ابن أبي رواد نحوه وزاد: "ويشربان من ماء زمزم شربة تكفيهما إلى قابل" وهذا معضل. ورواه أحمد في الزهد بإسناد حسن عن ابن أبي رواد وزاد أنهما "يصومان رمضان ببيت المقدس" وروى الطبري من طريق عبد الله بن شوذب نحوه. وروي عن علي أنه "دخل الطواف فسمع رجلا يقول يا من لا يشغله سمع عن سمع" الحديث فإذا هو الخضر"، أخرجه ابن عساكر من وجهين في كل منهما ضعف، وهو في "المجالسة" من الوجه الثاني. وجاء في اجتماعه ببعض الصحابة فمن بعدهم أخبار أكثرها واهي الإسناد، منها ما أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي من حديث أنس "لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم دخل رجل فتخطاهم - فذكر الحديث في التعزية - فقال أبو بكر وعلي: هذا الخضر" في إسناده عباد بن عبد الصمد وهو واه. وروى سيف في الردة نحوه بإسناد آخر مجهول. وروى ابن أبي حاتم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي نحوه. وروى ابن وهب من طريق ابن المنكدر "أن عمر صلى على جنازة، فسمع قائلا يقول: لا تسبقنا - فذكر القصة - وفيها: أنه دعا للميت، فقال عمر: خذوا الرجل، فتوارى عنهم فإذا أثر قدمه ذراع، فقال عمر: هذا والله الخضر" في إسناده مجهول مع انقطاعه. وروى أحمد في الزهد من طريق مسعر عن معن بن عبد الرحمن عن عون بن عبد الله قال: بينا رجل بمصر في فتنة ابن الزبير مهموما إذ لقيه رجل فسأله فأخبره باهتمامه بما فيه الناس من الفتن، فقال: قل اللهم سلمني وسلم مني، قال فقالها فسلم. قال معسر: يرون أنه الخضر. وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه وأبو عروبة من طريق رياح بالتحتانية ابن عبيدة قال: "رأيت رجلا يماشي عمر بن عبد العزيز معتمدا على يديه فلما انصرف قلت له من الرجل؟ قال: رأيته؟ قلت: نعم. قال أحسبك رجلا صالحا، ذاك أخي الخضر بشرني أني سأولى وأعدل". لا بأس برجاله. ولم يقع لي إلى الآن خبر ولا أثر بسند جيد غيره، وهذا لا يعارض الحديث الأول في مائة سنة فإن ذلك كان قبل المائة. وروى ابن عساكر من طريق كرز بن وبرة قال: أتاني أخ لي من أهل الشام فقال اقبل مني هذه الهدية، إن إبراهيم التيمي حدثني قال: كنت جالسا بفناء الكعبة أذكر الله، فجاءني رجل فسلم علي؛ فلم أر أحسن وجها منه ولا أطيب ريحا، فقلت: من أنت؟ فقال أنا أخوك الخضر. قال فعلمه شيئا إذا فعله رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام. وفي إسناده مجهول وضعيف. وروى ابن عساكر في ترجمة أبي زرعة الرازي بسند صحيح أنه رأى وهو شاب رجلا نهاه عن غشيان أبواب الأمراء، ثم رآه بعد أن صار شيخا كبيرا على حالته الأولى فنهاه عن ذلك أيضا، قال فالتفت لأكلمه فلم أره، فوقع في نفسي أنه الخضر. وروى عمر الجمحي في فرائده والفاكهي في "كتاب مكة" بسند فيه مجهول عن جعفر بن محمد أنه رأى شيخا كبيرا يحدث أباه ثم ذهب، فقال له أبوه: رده علي، قال فتطلبته فلم أقدر عليه، فقال
(6/435)
لي أبي: ذاك الخضر. وروى البيهقي من طريق الحجاج بن قرافصة أن رجلين كانا يتبايعان عند ابن عمر، فقام عليهم رجل فنهاهما عن الحلف بالله ووعظهم بموعظة، فقال ابن عمر لأحدهما: اكتبها منه، فاستعاده حتى حفظها ثم تطلبه فلم يره، قال: وكانوا يرون أنه الخضر.
(6/436)
28 - باب
3403- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قِيلَ لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا
يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ".
[الحديث 3403 – طرفاه في: 4476، 4641]
3404- حَدَّثَنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ
حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ وَخِلاَسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ
مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ
اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا مَا
يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصٌ
وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ
مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى
الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ
لِيَأْخُذَهَا وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ
وَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حَتَّى
انْتَهَى إِلَى مَلاَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا
خَلَقَ اللَّهُ وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ
ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ فَوَاللَّهِ إِنَّ
بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا
فَذَلِكَ قَوْلُهُ [69 الأحزاب]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا
كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ
اللَّهِ وَجِيهًا}.
3405- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ
سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقَالَ
رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَأَتَيْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ حَتَّى
رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ يَرْحَمُ اللَّهَ مُوسَى قَدْ
أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ".
قوله: "باب" كذا لأبي ذر وغيره بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي
قبله، وتعلقه به ظاهر، وأورد فيه أحاديث: أحدها: حديث أبي هريرة "قيل لبني
إسرائيل ادخلوا الباب سجدا" وسيأتي شرحه في تفسر الأعراف. ثانيها: حديث أبي
هريرة "إن موسى كان رجلا حييا" بفتح المهملة وكسر التحتانية الخفيفة
بعدها أخرى مثقلة بوزن فعيل من الحياء وقوله: "ستيرا" بوزنه من الستر،
ويقال ستيرا بالتشديد. قوله في الإسناد "حدثنا عوف" هو الأعرابي. قوله: "عن
الحسن ومحمد وخلاس" أما الحسن فهو البصري وأما محمد فهو ابن سيرين وسماعه من
أبي هريرة ثابت، فقد أخرج أحمد هذا الحديث عن روح عن عوف عن محمد وحده عن أبي
هريرة. وأما خلاس فبكسر المعجمة
(6/436)
وتخفيف اللام وآخره مهملة هو ابن عمر بصري، يقال إنه كان على شرطة علي، وحديثه عنه في الترمذي والنسائي، وجزم يحيى القطان بأن روايته عنه من صحيفته. وقال أبو داود عن أحمد: لم يسمع خلاص من أبي هريرة. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة كان يحيى القطان يقول: روايته عن علي من كتاب، وقد سمع من عمار وعائشة وابن عباس قلت: إذا ثبت سماعه من عمار وكان على شرطة علي كيف يمتنع سماعه من علي؟ وقال أبو حاتم: يقال وقعت عنده صحيفة عن علي، وليس بقوي، يعنى في علي. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: كان يحيى القطان يتوقى أن يحدث عن خلاس عن علي خاصة. وأطلق بقية الأئمة توثيقه. قلت: وما له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد أخرجه له مقرونا بغيره، وأعاده سندا ومتنا في تفسير الأحزاب. وله عنه حديث آخر أخرجه في الأيمان والنذور مقرونا أيضا بمحمد بن سيرين عن أبي هريرة، ووهم المزي فنسبه إلى الصوم. وأما الحسن البصري فلم يسمع من أبي هريرة عند الحفاظ النقاد، وما وقع في بعض الروايات مما يخالف ذلك فهو محكوم بوهمه عندهم، وما له في البخاري عن أبي هريرة سوى هذا مقرونا. وله حديث آخر في بدء الخلق مقرونا بابن سيرين، وثالث ذكره في أوائل الكتاب في الإيمان مقرونا بابن سيرين أيضا. قوله: "لا يرى من جلده شيء استحياء منه" هذا يشعر بأن اغتسال بني إسرائيل عراة بمحضر منهم كان جائزا في شرعهم. وإنما اغتسل موسى وحده استحياء. قوله: "وإما أدرة" بضع الهمزة وسكون الدال على المشهور وبفتحتين أيضا فيما حكاه الطحاوي عن بعض مشايخه ورجح الأول وتقدم بيانه في كتاب الغسل، ووقع في رواية ابن مردويه من طريق عثمان بن الهيثم عن عوف الجزم بأنهم قالوا إنه آدر. قوله : "فخلا يوما وحده فوضع ثيابه" في رواية الكشميهني ثيابا أي ثيابا له، والأول هو المعروف، وظاهره أنه دخل الماء عريانا. وعليه بوب المصنف في الغسل "من اغتسل عريانا" وقد قدمت توجيهه في كتاب الغسل، ونقل ابن الجوزي عن الحسن بن أبي بكر النيسابوري أن موسى نزل إلى الماء مؤتزرا، فلما خرج تتبع الحجر والمئزر مبتل بالماء علموا عند رؤيته أنه غير آدر، لأن الأدرة تبين تحت الثوب المبلول بالماء انتهى. هذا إن كان هذا الرجل قاله احتمالا فيحتمل لكن المنقول يخالفه، لأن في رواية علي بن زيد عن أنس عند أحمد في هذا الحديث: "إن موسى كان إذا أراد أن يدخل الماء لم يلق ثوبه حتى يواري عورته في الماء". قوله: "عدا بثوبه" بالعين المهملة أي مضى مسرعا. قوله: "ثوبي حجر، ثوبي حجر" هو بفتح الياء الأخيرة من ثوبي أي أعطني ثوبي، أو رد ثوبي، وحجر بالضم على حذف حرف النداء، وتقدم في الغسل بلفظ ثوبي يا حجر. قوله: "وأبرأه مما يقولون" في رواية قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عند ابن مردويه وابن خزيمة: "وأعدله صو رة" وفي روايته: "فقالت بنو إسرائيل قاتل الله الأفاكين وكانت براءته" وفي رواية روح بن عبادة المذكورة " فرأوه كأحسن الرجال خلقا، فبرأه مما قالوا". قوله: "وقام حجر فأخذ بثوبه" قلت كذا فيه، وفي "مسند إسحاق بن إبراهيم" شيخ البخاري فيه: "وقام الحجر" بالألف واللام، وكذا أخرجه أبو نعيم وابن مردويه من طريقه. قوله: "فوالله إن بالحجر لندبا" ظاهره أنه بقية الحديث، بين في رواية همام في الغسل أنه قول أبي هريرة. قوله: "ثلاثا أو أربعا أو خمسا" في رواية همام المذكور "ستة أو سبعة" ووقع عند ابن مردويه من رواية حبيب بن سالم عن أبي هريرة الجزم بست ضربات. قول: "فذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} لم يقع هذا في رواية همام، وروى ابن مردويه من طريق عكرمة عن أبي هريرة قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا
(6/437)
كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} الآية، قال: إن بني إسرائيل كانوا يقولون: إن موسى آدر، فانطلق موسى إلى النهر يغتسل فذكر نحوه وفي رواية علي بن زيد المذكورة قريبا في آخره: "فرأوه ليس كما قالوا؛ فأنزل تعالى: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى}" وفي الحديث جواز المشي عريانا للضرورة. وقال ابن الجوزي: لما كان موسى في خلوة وخرج من الماء فلم يجد ثوبه تبع الحجر بناء على أن لا يصادف أحدا وهو عريان، فاتفق أنه كان هناك قوم فاجتاز بهم، كما أن جوانب الأنهار وإن خلت غالبا لا يؤمن وجود قوم قريب منها، فبني الأمر على أنه لا يراه أحد لأجل خلاء المكان، فاتفق رؤية من رآه. والذي يظهر أنه استمر يتبع الحجر على ما في الخبر حتى وقف على مجلس لبني إسرائيل كان فيهم من قال فيه ما قال. وبهذا تظهر الفائدة، وإلا فلو كان الوقوف على قوم منهم في الجملة لم يقع ذلك الموقع وفيه جواز النظر إلى العورة عند الضرورة الداعية لذلك من مداواة أو براءة من عيب، كما لو ادعى أحد الزوجين على الآخر البرص ليفسخ النكاح فأنكر. وفيه أن الأنبياء في خلقهم وخلقهم على غاية الكمال، وأن من نسب نبيا من الأنبياء إلى نقص في خلقته فقد آذاه ويخشى على فاعله الكفر. وفيه معجزة ظاهرة لموسى عليه السلام، وأن الآدمي يغلب عليه طباع البشر، لأن موسى علم أن الحجر ما سار بثوبه إلا بأمر من الله، ومع ذلك عامله معاملة من يعقل حتى ضربه. ويحتمل أنه أراد بيان معجزة أخرى لقومه بتأثير الضرب بالعصا في الحجر. وفيه ما كان في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الصبر على الجهال واحتمال أذاهم، وجعل الله تعالى العاقبة لهم على من آذاهم، وقد روى أحمد بن منيع في مسنده بإسناد حسن والطحاوي وابن مردويه من حديث علي أن الآية المذكورة نزلت في طعن بني إسرائيل على موسى بسبب هارون لأنه توجه معه إلى زيارة فمات هارون فدفنه موسى، فطعن فيه بعض بني إسرائيل. وقالوا: أنت قتلته، فبرأه الله تعالى بأن رفع لهم جسد هارون وهو ميت فخاطبهم بأنه مات. وفي الإسناد ضعف ولو ثبت لم يكن فيه ما يمنع أن يكون في الفريقين معا لصدق أن كلا منهما آذى موسى فبرأه الله مما قالوا والله أعلم. ثم أورد المصنف في الباب حديث ابن مسعود في قول الرجل "إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله" والغرض منه ذكر موسى، وقد تقدم في أواخر فرض الخمس من الجهاد في "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي من المؤلفة" وعين هناك موضع شرحه، والله أعلم.
(6/438)
29 - باب {يَعْكِفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ
لَهُمْ} [138 الأعراف].
{مُتَبَّرٌ}: خُسْرَانٌ. {وَلِيُتَبِّرُوا}: يُدَمِّرُوا. {مَا عَلَوْا}: مَا
غَلَبُوا
3406- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم نجني الكباث وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بالأسود منه
فإنه أطيبه . قالوا أكنت ترعى الغنم؟ قال: وهل من نبي إلا وقد رعاها؟".
[الحديث 3406 – طرفه في: 5453]
قوله: "باب يعكفون على أصنام لهم. متبر خسران، وليتبروا: يدمروا ما علوا ما
غلبوا" ثم ساق حديث جابر "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني
الكباث، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه،
قالوا:
(6/438)
أكنت ترعى الغنم؟ قال: وهل من نبي إلا وقد رعاها" والكباث بفتح الكاف والموحدة الخفيفة وآخره مثلثة هو ثمر الأراك ويقال ذلك للنضيج منه، كذا نقله النووي عن أهل اللغة. وقال أبو عبيد: هو ثمر الأراك إذا يبس وليس له عجم. وقال القزاز: هو الغض من ثمر الأراك، وإنما قال له الصحابة "أكنت ترعى الغنم" لأن في قوله لهم عليكم بالأسود منه دلالة على تمييزه بين أنواعه، والذي يميز بين أنواع ثمر الأراك غالبا من يلازم رعي الغنم على ما ألفوه. وقوله في الترجمة: "باب يعكفون على أصنام لهم" أي تفسير ذلك، والمراد تفسير قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} ولم يفسر المؤلف من الآية إلا قوله تعالى فيها: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} فقال: إن تفسير متبر خسران، وهذا أخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال في قوله: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} قال: خسران، والخسران تفسير التتبير الذي اشتق منه المتبر. وأما قوله: {وَلِيُتَبِّرُوا} ليدمروا فذكره استطرادا، وهو تفسير قتادة أخرجه الطبري من طريق سعيد عنه في قوله: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} قال: ليدمروا ما غلبوا عليه تدميرا. وأما حديث جابر في رعي الغنم فمناسبته للترجمة غير ظاهرة. وقال شيخنا ابن الملقن في شرحه: قال بعض شيوخنا لا مناسية، قال شيخنا: بل هي ظاهرة لدخول عيسى فيمن رعى الغنم، كذا رأيت في النسخة، وكأنه سبق قلم وإنما هو موسى لا عيسى، وهذا مناسب لذكر المتن في أخبار موسى، وأما مناسبة الترجمة للحديث فلا، والذي يهجس في خاطري أنه كان بين التفسير المذكور وبين الحديث بياض أخلي للحديث يدخل في الترجمة ولترجمة تصلح لحديث جابر، ثم وصل ذلك كما في نظائره. ومناسبة حديث جابر لقصص موسى من جهة عموم قوله: "وهل من نبي إلا وقد رعاها؟" فدخل فيه موسى كما أشار إليه شيخنا، بل وقع في بعض طرق هذا الحديث: "ولقد بعث موسى وهو يرعى الغنم" وذلك فيما أخرجه النسائي في التفسير من طريق أبي إسحاق عن نصر بن حزن قال: "افتخر الإبل والشاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بعث موسى وهو راعي غنم" الحديث، ورجال إسناده ثقات، ويؤيد هذا الذي قلت أنه وقع في رواية النسفي "باب" بغير ترجمة وساق فيه حديث جابر ولم يذكر ما قبله، وكأنه حذف الباب الذي فيه التفاسير الموقوفة كما هو الأغلب من عادته واقتصر على الباب الذي فيه الحديث المرفوع، وقد تكلف بعضهم وجه المناسبة - وهو الكرماني - فقال وجه المناسبة بينهما أن بني إسرائيل كانوا مستضعفين جهالا ففضلهم الله على العالمين. وسياق الآية يدل عليه - أي فيما يتعلق ببني إسرائيل - فكذلك الأنبياء كانوا أولا مستضعفين بحيث أنهم كانوا يرعون الغنم انتهى. والذي قاله الأئمة أن الحكمة في رعاية الأنبياء للغنم ليأخذوا أنفسهم بالتواضع، وتعتاد قلوبهم بالخلوة، ويترقوا من سياستها إلى سياسة الأمم، وقد تقدم إيضاح هذا في أوائل الإجارة، ولم يذكر المصنف من الآيات بالعبارة والإشارة إلا قوله: {مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} ولا شك أن قوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} إنما ذكر بعد هذا فكيف يحمل على أنه أشار إليه دون ما قبله فالمعتمد ما ذكرته. ونقل الكرماني عن الخطابي قال: أراد أن الله لم يضع النبوة في أبناء الدنيا والمترفين منهم، وإنما جعلها في أهل التواضع كرعاة الشاء وأصحاب الحرف. قلت: وهذه أيضا مناسبة للمتن لا لخصوص الترجمة، وقد نقل القطب الحلبي هذا عن الخطابي ثم قال: وينظر في وجه مناسبة هذا الحديث للترجمة.
(6/439)
باب { و إذ قال موسى لقومه إن الله
يأمركم أن تذبحوا بقرة }
...
30 - باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الْآيَةَ [67 البقرة]
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْعَوَانُ النَّصَفُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْهَرِمَةِ.
{فَاقِعٌ}: صَافٍ. {لاَ ذَلُولٌ}: لَمْ يُذِلَّهَا الْعَمَلُ
(6/439)
{تُثِيرُ الأَرْضَ}: لَيْسَتْ
بِذَلُولٍ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَعْمَلُ فِي الْحَرْثِ. {مُسَلَّمَةٌ}: مِنْ
الْعُيُوبِ. {لاَ شِيَةَ}: بَيَاضٌ. {صَفْرَاءُ}: إِنْ شِئْتَ سَوْدَاءُ،
وَيُقَالُ صَفْرَاءُ كَقَوْلِهِ {جِمَالاَتٌ صُفْرٌ}. {فَادَّارَأْتُمْ}:
اخْتَلَفْتُمْ.
قوله: "باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الْآيَةَ" لم يذكر فيه سوى شيء من التفسير عن أبي
العالية، وقصة البقرة أوردها آدم بن أبي إياس في تفسيره قال: حدثنا أبو جعفر
الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الْآيَةَ قال: كان رجل من بني إسرائيل
غنيا ولم يكن له ولد وكان له قريب وارث فقتله ليرثه ثم ألقاه على مجمع الطريق،
وأتى موسى فقال إن قريبي قتل وأتى إلي أمر عظيم، وإني لا أجد أحدا يبين لي قاتله
غيرك يا نبي الله، فنادى موسى في الناس: من كان عنده علم من هذا فليبينه، فلم يكن
عندهم علم، فأوحى الله إليه: قل لهم فليذبحوا بقرة، فعجبوا وقالوا: كيف نطلب معرفة
من قتل هذا القتيل فنؤمر بذبح بقرة؟ وكان ما قصه الله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} يعني لا هرمة ولا صغيرة
{عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي نصف بين البكر والهرمة {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ
فَاقِعٌ لَوْنُهَا} أي صاف {تسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي تعجبهم {قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} الآية {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا
بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} أي لم يذلها العمل {تُثِيرُ الْأَرْضَ} يعني ليست بذلول
فتثير الأرض {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} يقول: ولا تعمل في الحرث {مُسَلَّمَةٌ} أي
من العيوب، {لا شِيَةَ فِيهَا} أي لا بياض {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} قال
ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة استرضوا أي بقرة كانت لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا
فشدد عليهم، ولولا أنهم استثنوا فقالوا {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
لَمُهْتَدُونَ} لما اهتدوا إليها أبدا. فبلغنا أنهم لم يجدوها إلا عند عجوز، فأغلت
عليهم في الثمن، فقال لهم موسى: أنتم شددتم على أنفسكم فأعطوها ما سألت، فذبحوها، فأخذوا
عظما منها فضربوا به القتيل فعاش، فسمى لهم قاتله، ثم مات مكانه فأخذ قاتله، وهو
قريبه الذي كان يريد أن يرثه فقتله الله على أسوأ عمله. وأخرج ابن جرير هذه القصة
مطولة من طريق العوفي عن ابن عباس، ومن طريق السدي كذلك. وأخرجها هو وابن أبي حاتم
وعبد بن حميد بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين عن عبيدة بن عمرو السلماني أحد كبار
التابعين. وأما قوله: "صفراء: إن شئت سوداء ويقال صفراء كقوله جمالات
صفر" فهو قول أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا}:
إن شئت صفراء وإن شئت سوداء كقوله: {جِمَالاَتٌ صُفْرٌ} أي سود، والمعنى أن الصفرة
يمكن حملها على معناها المشهور وعلى معنى السواد كما في قوله: {جِمَالاَتٌ صُفْرٌ}
فإنها فسرت بأنها صفر تضرب إلى سواد. وقد روي عن الحسن أنه أخذ أنها سوداء من
قوله: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا}. وقوله: {فَادَّارَأْتُمْ} اختلفتم هو قول أبي عبيدة
أيضا: وهو من التدارؤ وهو التدافع.
(6/440)
باب وفاة موسى ، و ذكره بعد
...
31 - باب وَفَاةِ مُوسَى، وَذِكْرِهِ بَعْدُ
3407- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: "أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا
السَّلاَم فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي
إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ قَالَ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ
يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ
(6/440)
شَعَرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ: أَيْ رَبِّ،
ثُمَّ مَاذَا. قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ. قَالَ: فَالْآنَ. قَالَ: فَسَأَلَ اللَّهَ
أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ.
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لاَرَيْتُكُمْ
قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ". قَالَ
وَأَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ
3408- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ وَالَّذِي اصْطَفَى
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَالَمِينَ فِي قَسَمٍ
يُقْسِمُ بِهِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى
الْعَالَمِينَ فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ يَدَهُ فَلَطَمَ الْيَهُودِيَّ
فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرَهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ فَقَالَ لاَ
تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ
يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ
فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ".
3409- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احْتَجَّ آدَمُ
وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنْ
الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ
بِرِسَالاَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ
قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ . فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَحَجَّ آدَمُ
مُوسَى مَرَّتَيْنِ".
[الحديث 3409 – أطرافه في: 4736، 4738، 6614، 7515]
3410- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمًا قَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا
سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ".
[الحديث 3410 – أطرافه في: 5705، 5752، 6472، 6541]
قوله: "وفاة موسى وذكره بعد" كذا لأبي ذر بإسقاط "باب" ولغيره
بإثباته. وقوله: "وذكره بعد" بضم دال بعد على البناء. ثم أورد فيه
أحاديث: الأول: حديث أبي هريرة في قصة موسى مع ملك الموت. أورده موقوفا من طريق
طاوس عنه، ثم عقبه برواية همام عنه مرفوعا وهذا هو المشهور عن عبد الرزاق، وقد رفع
محمد بن يحيى عنه رواية طاوس أيضا أخرجه الإسماعيلي. قوله: "أرسل ملك الموت
إلى موسى عليهما السلام فلما جاءه صكه" أي ضربه على عينه. وفي رواية همام عن
أبي هريرة عند أحمد ومسلم: "جاء ملك الموت إلى موسى فقال: أجب ربك، فلطم موسى
عين ملك الموت ففقأها" وفي رواية عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عند أحمد
والطبري "كان ملك الموت يأتي الناس عيانا، فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه".
قوله: "لا يريد الموت" زاد همام "وقد فقأ عيني،
(6/441)
فرد الله عليه عينه" وفي رواية عمار "فقال يا رب عبدك موسى فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لشققت عليه". قوله: "فقل له يضع يده" في رواية أبي يونس "فقل له الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك". قوله: "على متن" بفتح الميم وسكون المثناة هو الظهر، وقيل: مكتنف الصلب بين العصب واللحم. وفي رواية عمار على جلد ثور. قوله: "فله بما غطى يده" في رواية الكشميهني بما غطت يده. قوله: "ثم الموت" في رواية أبي يونس "قال فالآن يا رب من قريب" وفي رواية عمار "فأتاه فقال له ما بعد هذا؟ قال: الموت قال: فالآن" والآن ظرف زمان غير متمكن، وهو اسم لزمان الحال الفاصل بين الماضي والمستقبل. قوله: "فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر" قد تقدم شرح ذلك وبيانه في الجنائز. قوله: "فلو كنت ثم" بفتح المثلثة أي هناك. قوله: "من جانب الطريق" في رواية المستملي والكشميهني: "إلى جانب الطريق" وهي رواية همام. قوله: "تحت الكثيب الأحمر" في روايتهما: "عند الكثيب الأحمر" وهي رواية همام أيضا، والكثيب بالمثلثة وآخره موحدة وزن عظيم: الرمل المجتمع، وزعم ابن حبان أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبيت المقدس، وتعقبه الضياء بأن أرض مدين ليست قريبة من المدينة ولا من بيت المقدس، قال وقد اشتهر عن قبر بأريحاء عنده كثيب أحمر أنه قبر موسى، وأريحاء من الأرض المقدسة، وزاد عمار في روايته: "فشمه شمة فقبض روحه، وكان يأتي الناس خفية" يعني بعد ذلك، ويقال إنه أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فمات. وذكر السدي في تفسيره أن موسى لما دنت وفاته مشي هو وفتاه يوشع بن نون فجاءت ريح سوداء، فظن يوشع أنها الساعة فالتزم موسى، فانسل موسى من تحت القميص، فأقبل يوشع بالقميص. وعن وهب بن منبه أن الملائكة تولوا دفنه والصلاة عليه، وأنه عاش مائة وعشرين سنة. قوله: "قال وأخبرنا معمر عن همام إلخ" هو موصول بالإسناد المذكور، ووهم من قال إنه معلق، فقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر، ومسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق كذلك، وقوله في آخره: "نحوه" أي أن رواية معمر عن همام بمعنى روايته عن ابن طاوس لا بلفظه، وقد بينت ذلك فيما مضى، قال ابن خزيمة: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وقالوا إن كان موسى عرفه فقد استخف به، وإن كان لم يعرفه فكيف لم يقتص له من فقء عينه؟ والجواب أن الله لم يبعث ملك الموت لموسى وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختبارا وإنما لطم موسى ملك الموت لأنه رأى آدميا دخل داره بغير إذنه ولم يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذن، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة آدميين فلم يعرفاهم ابتداء، ولو عرفهم إبراهيم لما قدم لهم المأكول، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه. وعلى تقدير أن يكون عرفه فمن أين لهذا المبتدع مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر؟ ثم من أين له أن ملك الموت طلب القصاص من موسى فلم يقتص له؟ ولخص الخطابي كلام ابن خزيمة وزاد فيه أن موسى دفعه عن نفسه لما ركب فيه من الحدة، وأن الله رد عين ملك الموت ليعلم موسى أنه جاءه من عند الله فلهذا استسلم حينئذ. وقال النووي: لا يمتنع أن يأذن الله لموسى في هذه اللطمة امتحانا للملطوم. وقال غيره إنما لطمه لأنه جاء لقبض روحه من قبل أن يخيره، لما ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يخير، فلهذا لما خيره في المرة الثانية أذعن، قيل: وهذا أولي الأقوال بالصواب، وفيه نظر لأنه يعود أصل السؤال فيقال: لم أقدم ملك الموت على قبض نبي الله وأخل بالشرط؟ فيعود الجواب أن ذلك وقع امتحانا. وزعم بعضهم أن معنى قوله: "فقأ عينه" أي أبطل حجته، وهو مردود بقوله في نفس الحديث: "فرد الله عينه" وبقوله: "لطمه
(6/442)
وصكه" وغير ذلك من قرائن السياق. وقال ابن قتيبة: إنما فقأ موسى العين التي هي تخييل وتمثيل وليست عينا حقيقة، ومعنى رد الله عينه أي أعاده إلى خلقته الحقيقية، وقيل على ظاهره، ورد الله إلى ملك الموت عينه البشرية ليرجع إلى موسى على كمال الصورة فيكون ذلك أقوى في اعتباره، وهذا هو المعتمد. وجوز ابن عقيل أن يكون موسى أذن له أن يفعل ذلك بملك الموت وأمر ملك الموت بالصبر على ذلك كما أمر موسى بالصبر على ما يصنع الخضر. وفيه أن الملك يتمثل بصورة الإنسان، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث. وفيه فضل الدفن في الأرض المقدسة، وقد تقدم شرح ذلك في الجنائز. واستدل بقوله: "فلك بكل شعرة سنة" على أن الذي بقي من الدنيا كثير جدا لأن عدد الشعر الذي تواريه اليد قدر المدة التي بين موسى وبعثة نبينا صلى الله عليه وسلم مرتين وأكثر. واستدل له على جواز الزيادة في العمر وقد قال به قوم في قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} أنه زيادة ونقص في الحقيقة. وقال الجمهور: والضمير في قوله: {مِنْ عُمُرِهِ} للجنس لا للعين، أي ولا ينقص من عمر آخر، وهذا كقولهم عندي ثوب ونصفه أي ونصف ثوب آخر. وقيل المراد بقوله ولا ينقص من عمره أي وما يذهب من عمره، فالجميع معلوم عند الله تعالى. والجواب عن قصة موسى أن أجله قد كان قرب حضوره ولم يبق منه إلا مقدار ما دار بينه وبين ملك الموت من المراجعتين، فأمر بقبض روحه أولا مع سبق علم الله أن ذلك لا يقع إلا بعد المراجعة وإن لم يطلع ملك الموت على ذلك أولا. والله أعلم. حديث أبي هريرة أيضا. قوله: "أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب" كذا قال شعيب عن الزهري. وتابعه محمد بن أبي عتيق عن ابن شهاب كما سيأتي في التوحيد. وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري على الوجهين. وقد جمع المصنف بين الروايتين في التوحيد إشارة إلى ثبوت ذلك عنه على الوجهين، وله أصل من حديث الأعرج من رواية عبد الله بن الفضل عنه وسيأتي بعد ثلاثة أبواب، ومن طريق أبي الزناد عنه كما سيأتي في الرقاق، ومن طريق أبي سلمة عن أبي هريرة أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق محمد بن عمرو عنه، ورواه - مع أبي هريرة - أبو سعيد وقد تقدم في الإشخاص بتمامه. قوله: "استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود" وقع في رواية عبد الله بن الفضل سبب ذلك، وأول حديثه "بينما يهودي يعرض سلعة أعطي بها شيئا كرهه فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر" ولم أقف على اسم هذا اليهودي في هذه القصة، وزعم ابن بشكوال أنه فنحاص بكسر الفاء وسكون النون ومهملتين وعزاه لابن إسحاق، والذي ذكره ابن إسحاق لفنحاص مع أبي بكر الصديق في لطمه إياه قصة أخرى في نزول قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} الآية. وأما كون اللاطم في هذه القصة هو الصديق فهو مصرح به فيما أخرجه سفيان بن عيينة في جامعه وابن أبي الدنيا في "كتاب البعث" من طريقه عن عمرو بن دينار عن عطاء، وابن جدعان عن سعيد بن المسيب قال: "كان بين رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين رجل من اليهود كلام في شيء" فقال عمرو بن دينار: هو أبو بكر الصديق "فقال اليهودي والذي اصطفي موسى على البشر فلطمه المسلم" الحديث. قوله: "فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم اليهودي" أي عند سماعه قول اليهودي: "والذي اصطفى موسى على العالمين" وإنما صنع ذلك لما فهمه من عموم لفظ العالمين فدخل فيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقرر عند المسلم أن محمدا أفضل، وقد جاء ذلك مبينا في حديث أبي سعيد أن الضارب قال لليهودي حين قال ذلك "أي خبيث على محمد" فدل على أنه لطم اليهودي عقوبة له على كذبه عنده.
(6/443)
ووقع في رواية إبراهيم بن سعد "فلطم وجه اليهودي" ووقع عند أحمد من هذا الوجه "فلطم على اليهودي" وفي رواية عبد الله بن الفضل "فسمعه رجل من الأنصار فلطم وجهه وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا" وكذا وقع في حديث أبي سعيد أن الذي ضربه رجل من الأنصار، وهذا يعكر على قول عمرو بن دينار أنه أبو بكر الصديق، إلا إن كان المراد بالأنصار المعنى الأعم فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعا، بل هو رأس من نصره ومقدمهم وسابقهم. قوله: "فأخبره الذي كان من أمر المسلم" زاد في رواية إبراهيم بن سعد "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره" وفي رواية ابن الفضل "فقال - أي اليهودي - يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهدا فما بال فلان لطم وجهي؟ فقال: لم لطمت وجهه؟ - فذكره - فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رؤي في وجهه" وفي حديث أبي سعيد "فقال: ادعوه لي، فجاء فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف" فذكر القصة. قوله: "لا تخيروني على موسى" في رواية ابن الفضل "فقال لا تفضلوا بين أنبياء الله" وفي حديث أبي سعيد "لا تخيروا بين الأنبياء". قوله: "فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق" في رواية إبراهيم بن سعد "فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق" لم يبين في رواية الزهري من الطريقين محل الإفاقة من أي الصعقتين ووقع في رواية عبد الله بن الفضل "فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث" وفي رواية الكشميهني أول من يبعث "والمراد بالصعق غشي يلحق من سمع صوتا أو رأى شيئا يفزع منه. وهذه الرواية ظاهرة في أن الإفاقة بعد النفخة الثانية، وأصرح من ذلك رواية الشعبي عن أبي هريرة في تفسير الزمر بلفظ: "إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة" وأما ما وقع في حديث أبي سعيد "فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض" كذا وقع بهذا اللفظ في كتاب الإشخاص، ووقع في غيرها "فأكون أول من يفيق" وقد استشكل، وجزم المزي فيما نقله عنه ابن القيم في "كتاب الروح" أن هذا اللفظ وهم من راويه وأن الصواب ما وقع في رواية غيره: "فأكون أول من يفيق" وأن كونه صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض صحيح، لكنه في حديث آخر ليس فيه قصة موسى انتهى. ويمكن الجمع بأن النفخة الأولي يعقبها الصعق من جميع الخلق أحيائهم وأمواتهم، وهو الفزع كما وقع في سورة النمل {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} ثم يعقب ذلك الفزع للموتى زيادة فيما هم فيه وللأحياء موتا، ثم ينفخ الثانية للبعث فيفيقون أجمعين، فمن كان مقبورا انشقت عنه الأرض فخرج من قبره، ومن ليس بمقبور لا يحتاج إلى ذلك. وقد ثبت أن موسى ممن قبر في الحياة الدنيا، ففي صحيح مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره" أخرجه عقب حديث أبي هريرة وأبي سعيد المذكورين ولعله أشار بذلك إلى ما قررته. وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون مع أن الموتى لا إحساس لهم، فقيل المراد أن الذين يصعقون هم الأحياء، وأما الموتى فهم في الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أي إلا من سبق له الموت قبل ذلك فإنه لا يصعق، وإلي هذا جنح القرطبي. ولا يعارضه ما ورد في هذا الحديث أن موسى ممن استثنى الله لأن الأنبياء أحياء عند الله وإن كانوا في صورة الأموات بالنسبة إلى أهل الدنيا، وقد ثبت ذلك للشهداء. ولا شك أن الأنبياء أرفع رتبة من الشهداء وورد التصريح بأن الشهداء ممن استثنى الله أخرجه إسحاق بن راهويه وأبو يعلى من طريق زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة. وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين
(6/444)
تنشق السماء والأرض، وتعقبه القرطبي بأنه صرح صلى الله عليه وسلم بأنه حين يخرج من قبره يلقى موسى وهو متعلق بالعرش، وهذا إنما هو عند نفخة البعث انتهى. ويرده قوله صريحا كما تقدم: "إن الناس يصعقون فأصعق معهم" إلى آخر ما تقدم، قال: ويؤيده أنه عبر بقوله: "أفاق" لأنه إنما يقال أفاق من الغشي وبعث من الموت، وكذا عبر عن صعقة الطور بالإفاقة لأنها لم تكن موتا بلا شك، وإذا تقرر ذلك كله ظهر صحة الحمل على أنها غشية تحصل للناس في الموقف. هذا حاصل كلامه وتعقبه. قوله: "فأكون أول من يفيق" لم تختلف الروايات في الصحيحين في إطلاق الأولية، ووقع في رواية إبراهيم بن سعد عند أحمد والنسائي: "فأكون في أول من يفيق" أخرجه أحمد عن أبي كامل، والنسائي من طريق يونس بن محمد كلاهما عن إبراهيم، فعرف أن إطلاق الأولية في غيرها محمول عليها، وسببه التردد في موسى عليه السلام كما سيأتي، وعلى هذا يحمل سائر ما ورد في هذا الباب، كحديث أنس عند مسلم رفعه: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" وحديث عبد الله بن سلام عند الطبراني. قوله: "فإذا موسى باطش بجانب العرش" أي آخذ بشيء من العرش بقوة، والبطش الأخذ بقوة. وفي رواية ابن الفضل "فإذا موسى آخذ بالعرش" وفي حديث أبي سعيد "آخذ بقائمة من قوائم العرش" وكذا في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. قوله: "فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله" أي فلم يكن ممن صعق، أي فإن كان أفاق قبلي فهي فضيلة ظاهرة وإن كان ممن استثنى الله فلم يصعق فهي فضيلة أيضا. ووقع في حديث أبي سعيد "فلا أدري كان فيمن صعق - أي فأفاق قبلي - أم حوسب بصعقته الأولى" أي التي صعقها لما سأل الرؤية، وبين ذلك ابن الفضل في روايته بلفظ: "أحوسب بصعقته يوم الطور" والجمع بينه وبين قوله: "أو كان ممن استثنى الله" أن في رواية ابن الفضل وحديث أبي سعيد بيان السبب في استثنائه، وهو أنه حوسب بصعقته يوم الطور فلم يكلف بصعقة أخرى. والمراد بقوله: "ممن استثنى الله" قوله: "إلا من شاء الله" وأغرب الداودي الشارح فقال: معنى قوله: "استثنى الله" أي جعله ثانيا، كذا قال، وهو غلط شنيع. وقد وقع في مرسل الحسن في "كتاب البعث لابن أبي الدنيا" في هذا الحديث: "فلا أدري أكان ممن استثنى الله أن لا تصيبه النفخة أو بعث قبلي" وزعم ابن القيم في "كتاب الروح" أن هذه الرواية وهو قوله: "أكان ممن استثنى الله" وهم من بعض الرواة، والمحفوظ "أو جوزي بصعقة الطور" قال: لأن الذين استثنى الله قد ماتوا من صعقة النفخة لا من الصعقة الأخرى، فظن بعض الرواة أن هذه صعقة النفخة وأن موسى داخل فيمن استثنى الله، قال: وهذا لا يلتئم على سياق الحديث، فإن الإقامة حينئذ هي إفاقة البعث فلا يحسن التردد فيها، وأما الصعقة العامة فإنها تقع إذا جمعهم الله تعالى لفصل القضاء فيصعق الخلق حينئذ جميعا إلا من شاء الله، ووقع التردد في موسى عليه السلام. قال: ويدل على ذلك قوله: "وأكون أول من يفيق" وهذا دال على أنه ممن صعق، وتردد في موسى هل صعق فأفاق قبله أم لم يصعق؟ قال: ولو كان المراد الصعقة الأولى للزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جزم بأنه مات، وتردد في موسى هل مات أم لا، والواقع أن موسى قد كان مات لما تقدم من الأدلة، فدل على أنها صعقة فزع لا صعقة موت، والله أعلم. ووقع في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عند ابن مردويه "أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأنفض التراب عن رأسي، فآتي قائمة العرش فأجد موسى قائما عندها فلا أدري، أنفض التراب عن رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله" ويحتمل قوله في هذه الرواية: "أنفض التراب قبلي" تجويز المعية في الخروج من القبر أو هي كناية عن الخروج من القبر، وعلى كل تقدير ففيه فضيلة لموسى
(6/445)
كما تقدم. "تكميل": زعم ابن حزم أن النفخات يوم القيامة أربع: الأولى: نفخة إماتة يموت فيها من بقي حيا في الأرض، والثانية نفخة إحياء يقوم بها كل ميت وينشرون من القبور ويجمعون للحساب، والثالثة نفخة فزع وصعق يفيقون منها كالمغشي عليه لا يموت منها أحد، والرابعة: نفخة إفاقة من ذلك الغشي. وهذا الذي ذكره من كون الثنتين أربعا ليس بواضح بل هما نفختان فقط، ووقع التغاير في كل واحدة منهما باعتبار من يستمعهما، فالأولى: يموت بها كل من كان حيا ويغشى على من لم يمت ممن استثنى الله، والثانية: يعيش بها من مات ويفيق بها من غشي عليه والله أعلم. قال العلماء في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء: إنما نهى عن ذلك من يقوله برأيه لا من يقوله بدليل أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو المراد لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل بحيث لا يترك للمفضول فضيلة، فالإمام مثلا إذ قلنا إنه أفضل من المؤذن لا يستلزم نقص فضيلة المؤذن بالنسبة إلى الأذان، وقيل: النهى عن التفضيل إنما هو في حق النبوة نفسها كقوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ولم ينه عن تفضيل بعض الذوات على بعض لقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}. وقال الحليمي الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنما هي في مجادلة أهل الكتاب وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة، لأن المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين لا يؤمن أن يخرج أحدهما إلى ازدراء بالآخر فيفضي إلى الكفر، فأما إذا كان التخيير مستندا إلى مقابلة الفضائل لتحصيل الرجحان فلا يدخل في النهي، وسيأتي مزيد لذلك في قصة يونس إن شاء الله تعالى. الحديث الثالث: حديث أبي هريرة "احتج آدم وموسى" سيأتي شرحه في كتاب القدر، والغرض منه شهادة آدم لموسى أن الله اصطفاه. "تنبيه": قوله: "ثم تلومني" كذا للأكثر بالمثلثة والميم المشددة، ووقع للأصيلي والمستملي بالموحدة وتخفيف الميم. الحديث الرابع: حديث ابن عباس في عرض الأمم، أورده مختصرا، وسيأتي بتمامه مع شرحه في الرقاق إن شاء الله تعالى، وفيه أن أمة موسى أكثر الأمم بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
(6/446)
باب قول الله تعالى { و ضرب الله مثلا
للذين آمنوا امرأة فرعون ـ إلى قوله ـ و كانت من القانتين }
...
32 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [11 التحريم]: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} إلى قوله: {وَكَانَتْ مِنْ
الْقَانِتِينَ}
3411- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَمَلَ مِنْ
الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ
فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى
النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".
[الحديث 3411 – أطرافه في: 3433، 3769، 5418]
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا
امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} إلى قوله: {وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ}" كذا
للأكثر، وسقط من رواية أبي ذر {لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} والغرض
من هذه الترجمة ذكر آسية وهي بنت مزاحم امرأة فرعون، قيل إنها من بني إسرائيل
وإنها عمة موسى، وقيل إنها من العماليق، وقيل: ابنة عم فرعون. وأما مريم فسيأتي
ذكرها مفردا بعد. قوله: "عن عمرو بن مرة عن مرة الهمداني" مرة والد عمرو
غير مرة شيخه، وهو عمرو بن مرة بن عبيد الله بن طارق الجملي - بفتح الجيم والميم -
المرادي، ثقة عابد من صغار
(6/446)
التابعين. وقد وقع في الأطعمة عمرو بن مرة الجملي، وأما شيخه مرة فهو ابن شراحيل، مخضرم ثقة عابد أيضا من كبار التابعين، يقال له مرة الطيب ومرة الخير. قوله: "كمل" بضم الميم وبفتحها. قوله: "ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران" استدل بهذا الحصر على أنهما نبيتان لأن أكمل النوع الإنساني الأنبياء ثم الأولياء والصديقون والشهداء، فلو كانتا غير نبيتين للزم ألا يكون في النساء ولية ولا صديقة ولا شهيدة، والواقع أن هده الصفات في كثير منهن موجودة فكأنه قال ولم ينبأ من النساء إلا فلانة وفلانة، ولو قال لم تثبت صفة الصديقية أو الولاية أو الشهادة إلا لفلانة وفلانة لم يصح لوجود ذلك في غيرهن، إلا أن يكون المراد في الحديث كمال غير الأنبياء فلا يتم الدليل على ذلك لأجل ذلك والله أعلم. وعلى هذا فالمراد من تقدم زمانه صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض لأحد من نساء زمانه إلا لعائشة، وليس فيه تصريح بأفضلية عائشة رضي الله عنها على غيرها لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير المؤنة وسهولة الإساغة، وكان أجل أطعمتهم يومئذ، وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل جهة، فقد يكون مفضولا بالنسبة لغيره من جهات أخرى. وقد ورد في هذا الحديث من الزيادة بعد قوله: ومريم ابنة عمران "وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد" أخرجه الطبراني عن يوسف بن يعقوب القاضي عن عمرو بن مرزوق عن شعبة بالسند المذكور هنا، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" في ترجمة عمرو بن مرة أحد رواته عند الطبراني بهذا الإسناد، وأخرجه الثعلبي في تفسيره من طريق عمرو بن مرزوق به، وقد ورد من طريق صحيح ما يقتضي أفضلية خديجة وفاطمة على غيرهما وذلك فيما سيأتي في قصة مريم من حديث علي بلفظ: "خير نسائها خديجة" وجاء في طريق أخرى ما يقتضي أفضلية خديجة وفاطمة وذلك فيما أخرجه ابن حبان وأحمد وأبو يعلى والطبراني وأبو داود في "كتاب الزهد" والحاكم كلهم من طريق موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون" وله شاهد من حديث أبي هريرة في "الأوسط للطبراني" ولأحمد في حديث أبي سعيد رفعه: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران" وإسناده حسن، وإن ثبت ففيه حجة لمن قال إن آسية امرأة فرعون ليست نبية، وسيأتي في مناقب فاطمة قوله صلى الله عليه وسلم لها إنها سيدة نساء أهل الجنة مع مزيد بسط لهذه المسألة هناك إن شاء الله تعالى، ويأتي في الأطعمة زيادة فيما يتعلق بالثريد، قال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك، وأما آسية فلم يرد ما يدل على نبوتها. وقال الكرماني: لا يلزم من لفظة الكمال ثبوت نبوتها لأنه يطلق لتمام الشيء وتناهيه في بابه، فالمراد بلوغها النهاية في جميع الفضائل التي للنساء. قال: وقد نقل الإجماع على عدم نبوة النساء، كذا قال، وقد نقل عن الأشعري أن من النساء من نبيء وهن ست: حواء وسارة وأم موسى وهاجر وآسية ومريم، والضابط عنده أن من جاءه الملك عن الله بحكم من أمر أو نهى أو بإعلام مما سيأتي فهو نبي، وقد ثبت مجيء الملك لهؤلاء بأمور شتى من ذلك من عند الله عز وجل، ووقع التصريح بالإيحاء لبعضهن في القرآن. وذكر ابن حزم في "الملل والنحل" أن هذه المسألة لم يحدث التنازع فيها إلا في عصره بقرطبة، وحكى عنهم أقوالا ثالثها الوقف، قال: وحجة المانعين قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً} قال: وهذا لا حجة فيه فإن أحدا لم يدع فيهن الرسالة، وإنما الكلام في النبوة فقط. قال: وأصرح ما ورد في ذلك قصة مريم، وفي قصة أم موسى ما يدل على ثبوت ذلك لها من مبادرتها
(6/447)
بإلقاء ولدها في البحر بمجرد الوحي إليها بذلك، قال: وقد قال الله تعالى بعد أن ذكر مريم والأنبياء بعدها {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} فدخلت في عمومه والله أعلم. ومن فضائل آسية امرأة فرعون أنها اختارت القتل على الملك والعذاب في الدنيا على النعيم الذي كانت فيه، وكانت فراستها في موسى عليه السلام صادقة حين قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي}
(6/448)
33 - باب {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ
قَوْمِ مُوسَى} الْآيَةَ
{لَتَنُوءُ}: لَتُثْقِلُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أُولِي الْقُوَّةِ}: لاَ
يَرْفَعُهَا الْعُصْبَةُ مِنْ الرِّجَالِ. يُقَالُ {الْفَرِحِينَ}: الْمَرِحِينَ.
{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ}: مِثْلُ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ
قوله: "باب {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} الآية" هو قارون
بن يصفد بن يصهر ابن عم موسى، وقيل: كان عم يوسف. والأول أصح فقد روى ابن أبي حاتم
بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان ابن عم موسى قال: وكذا قال قتادة وإبراهيم النخعي
وعبد الله بن الحارث وسماك بن حرب، واختلف في تفسير بغي قارون فقيل: الحسد، لأنه
قال: ذهب موسى وهارون بالأمر فلم يبق لي شيء. وقيل: أنه واطأ امرأة من البغايا أن
تقذف موسى بنفسها فألهمها الله أن اعترفت بأنه هو الذي حملها على ذلك. وقيل:
الكبر، لأنه طغى بكثرة ماله. وقيل: هو أول من أطال ثيابه حتى زادت على قامته شبرا.
قوله: "لتنوء: لتثقل" هو تفسير ابن عباس أورده ابن أبي حاتم من طريق علي
بن أبي طلحة عنه في قوله: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} يقول
تثقل. قوله: "قال ابن عباس: أولي القوة لا يرفعها العصبة من الرجال"
واختلف في العصبة فقيل عشرة، وقيل: خمسة عشر، وقيل: أربعون، وقيل: من عشرة إلى
أربعين. قوله: "الفرحين: المرحين" هو تفسير ابن عباس أورده ابن أبي حاتم
أيضا من طريق ابن أبي طلحة عنه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}
أي المرحين، والمعنى أنهم يبطرون فلا يشكرون الله على نعمه. قوله: "ويكأن
الله، مثل ألم تر أن الله" هو قول أبي عبيدة، واستشهد بقول الشاعر:
ويكأن من يكن له نشب يحبـ ... ـب ومن يفتقر يعش عيش ضر
وذهب قطرب إلى أن "وي" كلمة تفجع و "كأن" حرف تشبيه، وعن
الفراء هي كلمة موصولة. قوله: "يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر: يوسع عليه
ويضيق" قال أبو عبيدة في قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ } يوسع ويكثر. وفي قوله: {وَيَقْدِرُ} هو مثل قوله: {وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضاق. "تنبيه": لم يذكر المصنف في قصة قارون إلا
هذه الآثار، وهي ثابتة في رواية المستملي والكشميهني فقط. وقد أخرج ابن أبي حاتم
بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: كان موسى يقول لبني إسرائيل إن الله يأمركم بكذا حتى
دخل عليهم في أموالهم فشق ذلك على قارون فقال لبني إسرائيل: إن موسى يقول: من زنى
رجم، فتعالوا نجعل لبغي شيئا حتى تقول إن موسى فعل بها فيرجم فنستريح منه، ففعلوا
ذلك، فلما خطبهم موسى قالوا له: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا. فقالوا: فقد زنيت،
فأرسلوا إلى المرأة فلما جاءت عظم عليها موسى، وسألها بالذي فلق البحر لبني
إسرائيل إلا صدقت، فأقرت بالحق، فخر موسى ساجدا يبكي، فأوحى الله إليه: إني أمرت
الأرض أن تطيعك
(6/448)
فأمرها بما شئت، فأمرها فخسفت بقارون ومن معه. وكان من قصة قارون أنه حصل أموالا عظيمة جدا حتى قيل: كانت مفاتيح خزائنه كانت من جلود تحمل على أربعين بغلا وكان يسكن تنيس، فحكي أن عبد العزيز الحروري ظفر ببعض كنوز قارون وهو أمير على تنيس، فلما مات تأمر ابنه على مكانه وتورع ابنه الحسن بن عبد العزيز عن ذلك فيقال: إن عليا كتب إلى أخيه الحسن إني استطيبت لك من مال أبيك مائة ألف دينار فخدها فقال: أنا تركت الكثير من ماله لأنه لم يطب لي فكيف هذا القليل؟ وقد روى البخاري في هذا الصحيح عن الحسن بن عبد العزيز هذا.
(6/449)
باب قول الله تعالى { و إلى مدين أخاهم
شعيبا }
...
34 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [85 الأعراف، 84 هود، 36 العنكبوت]: {وَإِلَى
مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لِأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ
وَمِثْلُهُ {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} {وَاسْأَلْ الْعِيرَ} يَعْنِي أَهْلَ
الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ. {وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} لَمْ يَلْتَفِتُوا
إِلَيْهِ، يُقَالُ: إِذَا لَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ ظَهَرْتَ حَاجَتِي وَجَعَلْتَنِي
ظِهْرِيًّا قَالَ الظِّهْرِيُّ أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعَاءً
تَسْتَظْهِرُ بِهِ {مَكَانَتُهُمْ} وَمَكَانُهُمْ وَاحِدٌ. {يَغْنَوْا}: يَعِيشُوا
{تَأْسَ}: تَحْزَنْ. {آسَى}: أَحْزَنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: {إِنَّكَ لاَنْتَ
الْحَلِيمُ}: يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَيْكَةُ}: الأَيْكَةُ.
{يَوْمِ الظُّلَّةِ}: إِظْلاَلُ الْغَمَامِ الْعَذَابَ عَلَيْهِمْ.
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}" هو
شعيب بن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يعقوب، كذا قال ابن إسحاق ولا يثبت. وقيل: يشجر
بن عنقا بن مدين بن إبراهيم. وقيل: هو شعيب بن صفور بن عنقا بن ثابت بن مدين. وكأن
مدين ممن آمن بإبراهيم لما أحرق. وروى ابن حبان في حديث أبي ذر الطويل "أربعة
من العرب: هود وصالح وشعيب ومحمد" فعلى هذا هو من العرب العاربة. وقيل: إنه
من بني عنزة بن أسد، ففي حديث سلمة بن سعيد العنزي "أنه قدم على النبي صلى
الله عليه وسلم فانتسب إلى عنزة فقال: نعم الحي عنزة مبغي عليهم منصورون رهط شعيب
وأختان موسى" أخرجه الطبراني، وفي إسناده مجاهيل. قوله: "إلى أهل مدين،
لأن مدين بلد ومثله "واسأل القرية - واسأل العير" يعني أهل القرية وأهل
العير" هو قول أبي عبيدة قاله في تفسير سورة هود. قوله: "وراءكم ظهريا
لم يلتفتوا إليه، ويقال إذا لم تقض حاجته ظهرت حاجتي وجعلتني ظهريا قال: الظهري أن
تأخذ معك دابة أو وعاء تستظهر به" قال أبو عبيدة في قوله: {وَرَاءَكُمْ
ظِهْرِيّاً} أي ألقيتموه خلف ظهوركم فلم تلتفتوا إليه، وتقول للذي لا يقضي حاجتك
ولا يلتفت إليها: ظهرت بحاجتي وجعلتها ظهرية أي خلف ظهرك، قال الشاعر: "وجدنا
بني البرصاء من ولد الظهر" أي من الذين يظهرون بهم ولا يلتفتون إليهم. قوله:
"مكانتهم ومكانهم واحد" هكذا وقع، وإنما هو في قصة شعيب
"مكانتكم" في قوله: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}، ثم
هو قول أبي عبيدة قال في تفسير سورة يس في قوله: "مكانتهم" المكان
والمكانة واحد. قوله: "يغنوا: يعيشوا" قال أبو عبيدة في قوله تعالى:
{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي لم ينزلوا فيها ولم يعيشوا فيها، قال: والمغني
الدار، الجمع مغاني، يغني بالغين المعجمة. قوله: "تأس: تحزن، آسى: أحزن"
قال أبو عبيدة في قوله: {فَكَيْفَ آسَى} أي أحزن وأندم وأتوجع، والمصدر الأسى،
وأما قوله: "تأس: تحزن" فهو من قوله تعالى لموسى: {فَلا تَأْسَ عَلَى
الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}
(6/449)
وذكره المصنف هنا استطرادا. قوله: "وقال الحسن: إنك لأنت الحليم الرشيد يستهزئون به" وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي المليح عن الحسن البصري بهذا، وأراد الحسن أنهم قالوا له ذلك على سبيل الاستعارة التهكمية ومرادهم عكس ذلك. قوله: "وقال مجاهد: ليكة الأيكة، يوم الظلة إظلال العذاب عليهم" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: { كَذَّبَ أَصْحَابُ ليْكَةِ} كذا قرأها، وهي قراءة أهل مكة ابن كثير وغيره. وفي قوله: {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} قال: إظلال العذاب إياهم. "تنبيه": لم يذكر المصنف في قصة شعيب سوى هذه الآثار، وهي للكشميهني والمستملي فقط. قد ذكر الله تعالى قصته في الأعراف وهود والشعراء والعنكبوت وغيرها، وجاء عن قتادة أنه أرسل إلى أمتين: أصحاب مدين وأصحاب الأيكة، ورجح بأنه وصف في أصحاب مدين بأنه أخوهم بخلاف أصحاب الأيكة وقال في أصحاب مدين {أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} والصيحة. وفي أصحاب الأيكة {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} والجمهور على أن أصحاب مدين هم أصحاب الأيكة، وأجابوا عن ترك ذكر الأخوة في أصحاب الأيكة بأنه لما كانوا يعيدون الأيكة ووقع في صدر الكلام بأنهم أصحاب الأيكة ناسب أن لا يذكر الأخوة، وعن الثاني بأن المغايرة في أنواع العذاب إن كانت تقتضي المغايرة في المعذبين فليكن الذين عذبوا بالرجفة غير الذين عذبوا بالصيحة، والحق أنهم أصابهم جميع ذلك، فإنهم أصابهم حر شديد فخرجوا من البيوت فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فرجفت بهم الأرض من تحتهم وأخذتهم الصيحة من فوقهم، وسيأتي الكلام على الأيكة في التفسير إن شاء الله تعالى.
(6/450)
باب قول الله تعالى { و إن يونس لمن
المرسلين ـ إلى قوله ـ فمتعناهم إلى حين }
...
35 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [139 الصافات]: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ
الْمُرْسَلِينَ} إلى قوله: {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} إلى قوله {وَهُوَ
مُلِيمٌ}
قَالَ مُجَاهِدٌ: مُذْنِبٌ الْمَشْحُونُ الْمُوقَرُ {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ
الْمُسَبِّحِينَ} الْآيَةَ {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} بِوَجْهِ الأَرْضِ
{وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} مِنْ غَيْرِ
ذَاتِ أَصْلٍ الدُّبَّاءِ وَنَحْوِهِ {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ
يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [48 القلم] {وَلاَ تَكُنْ
كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}، {كَظِيمٌ}: وَهُوَ مَغْمُومٌ
3412- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثني الأعمش حدثنا أبو نعيم حدثنا
سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "لا يقولن أحدكم إني خير من يونس". زاد مسدد: "يونس بن
متى".
[الحديث 3412 – طرفاه في: 4603، 4804]
3413- حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي العالية عن بن عباس رضي الله
عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من
يونس بن متى". ونسبه إلى أبيه.
3414- حدثنا يحيى بن بكير عن الليث عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الله بن
الفضل عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما زفر يعرض سلعته أعطي
بها شيئا كرهه فقال لا والذي اصطفى موسى على البشر فسمعه رجل من الأنصار فقام فلطم
وجهه وقال تقول والذي اصطفى موسى على البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا
فذهب إليه فقال أبا القاسم إن لي ذمة وعهدا فما بال فلان لطم وجهي فقال لم لطمت
وجهه فذكره فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رؤى في وجهه ثم قال لا تفضلوا بين
(6/450)
أنبياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق
من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث
فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي".
3415- "ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متى".
[الحديث 3415 – أطرافه في: 3416، 4604، 4631، 4805]
3416- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم سمعت حميد بن عبد الرحمن عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير
من يونس بن متى".
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} إلى
قوله: {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} إلى قوله {وَهُوَ مُلِيمٌ}" هو يونس بن
متى بفتح الميم وتشديد المثناة مقصور، ووقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه، وهو
مردود بما في حديث ابن عباس في هذا الباب: "ونسبه إلى أبيه" فهذا أصح،
ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل إنه كان في زمن ملوك الطوائف
من الفرس. قوله: "قال مجاهد: مذنب" يعني تفسير قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ}
وقد أخرجه ابن جرير من طريق مجاهد قال: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}
من ألام الرجل إذا أتى بما يلام عليه. ثم قال الطبري: المليم هو المكتسب اللوم.
قوله: "والمشحون الموقر" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن
مجاهد قال المشحون المملوء، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس المشحون الموقر.
قوله: "فلولا أنه كان من المسبحين - الآية - فنبذناه بالعراء: بوجه
الأرض" قال أبو عبيدة في قوله: { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ}: أي بوجه
الأرض، والعرب تقول نبذته بالعراء أي بالأرض الفضاء، قال الشاعر: "ونبذت
بالبلد العراء ثيابي" والعراء الذي لا شيء فيه يواري من شجر ولا غيره. وقال
الفراء: العراء المكان الخالي. قوله: "من يقطين: من غير ذات أصل، الدباء
ونحوه" وصله عبد بن حميد من طريق مجاهد وزاد: ليس لها ساق، وكذا قال أبو
عبيدة: كل شجرة لا تقوم على ساق فهي يقطين نحو الدباء والحنظل والبطيخ، والمشهور
أنه القرع، وقيل التين وقيل الموز، وجاء في حديث مرفوع في القرع "هي شجرة أخي
يونس". قوله: "ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم. كظيم:
مغموم" كذا فيه، والذي قاله أبو عبيدة في قوله تعالى: {إِذْ نَادَى وَهُوَ
مَكْظُومٌ}: أي من الغم مثل كظيم. وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس في قوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} يقول: مغموم. ثم ذكر حديث ابن مسعود
"لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى" وحديث ابن عباس "لا ينبغي
لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى، ونسبه إلى أبيه" وحديث أبي هريرة في
قصة المسلم الذي لطم اليهودي وقد تقدم شرحها في أواخر قصة موسى. وقال في آخره في
هذه الرواية: "ولا أقول إن أحد أفضل من يونس بن متى" وحديثه من وجه آخر
مختصرا مقتصرا على مثل لفظ حديث ابن عباس. وقد وقع في حديث عبد الله بن جعفر عند
الطبراني بلفظ: "لا ينبغي لنبي أن يقول إلخ" وهذا يؤيد أن قوله في
الطريق الأولى: "إن" المراد بها النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية
للطبراني في حديث ابن عباس "ما ينبغي لأحد أن يقول أنا عند الله خير من
يونس" وفي رواية للطحاوي "أنه سبح الله في الظلمات" فأشار إلى جهة
الخيرية المذكورة، وأما قوله في الرواية الأولى "ونسبه إلى أبيه" ففيه
إشارة إلى الرد
(6/451)
على من زعم أن متى اسم أمه، وهو محكي عن وهب بن منبه في "المبتدأ"، وذكره الطبري وتبعه ابن الأثير في "الكامل" والذي في الصحيح أصح. وقيل: سبب قوله: "ونسبه إلى أبيه" أنه كان في الأصل يونس ابن فلان فنسي الراوي اسم الأب وكنى عنه بفلان، وقيل: إن ذلك هو السبب في نسبته إلى أمه فقال الذي نسي اسم أبيه يونس ابن متي وهو أمه ثم اعتذر فقال ونسبه - أي شيخه - إلى أبيه أي سماه فنسبه، ولا يخفى بعد هذا التأويل وتكلفه، قال العلماء إنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعا إن كان قاله بعد أن أعلم أنه أفضل الخلق، وإن كان قاله قبل علمه بذلك فلا إشكال، وقيل: خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له فبالغ في ذكر فضله لسد هذه الذريعة. وقد روى قصته السدي في تفسيره بأسانيده عن ابن مسعود وغيره: "إن الله بعث يونس إلى أهل نينوى وهي من أرض الموصل فكذبوه، فوعدهم بنزول العذاب في وقت معين، وخرج عنهم مغاضبا لهم، فلما رأوا آثار ذلك خضعوا وتضرعوا وآمنوا، فرحمهم الله فكشف عنهم العذاب، وذهب يونس فركب سفينة فلججت به، فاقترعوا فيمن يطرحونه منهم فوقعت القرعة عليه ثلاثا، فالتقمه الحوت" وروى ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن ميمون عن ابن مسعود بإسناد صحيح إليه نحو ذلك وفيه: "وأصبح يونس فأشرف على القرية فلم ير العذاب وقع عليهم، وكان في شريعتهم من كذب قتل، فانطلق مغاضبا حتى ركب سفينة - وقال فيه - فقال لهم يونس إن معهم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير حتى تلقوه، فقالوا: لا نلقيك يا نبي الله أبدا، قال فاقترعوا فخرج عليه ثلاث مرات، فألقوه فالتقمه الحوت فبلغ به قرار الأرض، فسمع تسبيح الحصى {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} الآية. وروى البزار وابن جرير من طريق عبد الله بن نافع عن أبي هريرة رفعه: "لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أمر الله الحوت أن لا يكسر له عظما ولا يخدش له لحما، فلما انتهى به إلى قعر البحر سبح الله فقالت الملائكة: يا ربنا إنا نسمع صوتا بأرض غريبة. قال: ذاك عبدي يونس، فشفعوا له، فأمر الحوت فقذفه في الساحل - قال ابن مسعود - كهيئة الفرخ ليس عليه ريش" وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قال: لبث في بطن الحوت أربعين يوما. ومن طريق جعفر الصادق قال: سبعة أيام، ومن طريق قتادة قال: ثلاثا، ومن طريق الشعبي قال: التقمه ضحى، ولفظه عشية.
(6/452)
باب { و اسألهم عن القرية التي كانت
حاضرة البحر إذ يعدون في السبت }
...
36 – باب [163 الأعراف]: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ
الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} يَتَعَدَّوْنَ يُجَاوِزُونَ فِي
السَّبْتِ. {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}:
شَوَارِعَ {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} إلى قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}
قوله: "باب قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ
حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}" الجمهور أن القرية المذكورة أيلة وهي التي على طريق
الحاج الذاهب إلى مكة من مصر، وحكى ابن التين عن الزهري أنها طبرية. قوله:
"{إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}: يتعدون، يتجاوزون" قال أبو عبيدة في
قوله تعالى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}: أي يتعدون فيه عما أمروا به
ويتجوزون. قوله: "شرعا: شوارع - إلى قوله: {كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ}" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "بئيس" شديد، قال أبو
عبيدة في قوله تعالى: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}: أي
شديد وزنا ومعنى، قال الشاعر:
حنقا علي وما ترى ... لي فيهم أمرا بئيسا
(6/452)
هذا على إحدى القراءتين، والأخرى بوزن حذر، وقرئ شاذا بوزن هين وهين مذكرين. "تنبيه": لم يذكر المصنف في هذه القصة حديثا مسندا، وقد روى عبد الرزاق من حديث ابن عباس بسند فيه مبهم، وحكاه مالك عن يزيد بن رومان معضلا، وكذا قال قتادة: إن أصحاب السبت كانوا من أهل أيلة وأنهم لما تحيلوا علي صيد السمك بأن نصبوا الشباك يوم السبت ثم صادوها يوم الأحد فأنكر عليهم قوم ونهوهم فأغلظوا لهم، فقالت طائفة أخرى دعوهم واعتزلوا بنا عنهم، فأصبحوا يوما فلم يروا الذين اعتدوا، ففتحوا أبوابهم فأمروا رجلا أن يصعد على سلم فأشرف عليهم فرآهم قد صاروا قردة، فدخلوا عليهم فجعلوا يلوذون بهم، فيقول الذين نهوهم: ألم نقل لكم، ألم ننهكم؟ فيشيرون برءوسهم. وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس: "أنهم لم يعيشوا إلا قليلا وهلكوا" وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس "صار شبابهم قردة وشيوخهم خنازير".
(6/453)
باب قوله تعالى { و آتينا داود زبورا }
...
37 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [162 النساء، 55 الإسراء]: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ
زَبُورًا}
{الزُّبُرُ}: الْكُتُبُ وَاحِدُهَا زَبُورٌ زَبَرْتُ كَتَبْتُ {وَلَقَدْ آتَيْنَا
دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ}: قَالَ مُجَاهِدٌ: سَبِّحِي
مَعَهُ {وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ}
الدُّرُوعَ {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} الْمَسَامِيرِ وَالْحَلَقِ وَلاَ يُدِقَّ
الْمِسْمَارَ فَيَتَسَلْسَلَ وَلاَ يُعَظِّمْ فَيَفْصِمَ {وَاعْمَلُوا صَالِحًا
إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
3417- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خُفِّفَ عَلَى
دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَم الْقُرْآنُ فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ
فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ وَلاَ يَأْكُلُ إِلاَّ
مِنْ عَمَلِ يَدِهِ" رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ
عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3418- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَقُولُ
وَاللَّهِ لاَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلاَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ
وَاللَّهِ لاَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلاَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ قُلْتُ قَدْ
قُلْتُهُ قَالَ إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ
وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ
أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ
مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ
قَالَ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا
وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ قُلْتُ
إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لاَ
(6/453)
أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ".
3419- حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا مسعر حدثنا حبيب بن أبي ثابت عن أبي العباس عن عبد
الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم أنبأ
أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ فقلت: نعم. فقال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت العين
ونفهت النفس صم من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صوم الدهر أو كصوم الدهر. قلت: إني أجد
بي قال مسعر يعني قوة قال: فصم صوم داود عليه السلام وكان يصوم يوما ويفطر يوما
ولا يفر إذا لاقى".
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}" هو داود بن
إيشا بكسر الهمز وسكون التحتانية بعدها معجمة ابن عوبد بوزن جعفر بمهملة وموحدة
ابن باعر بموحدة ومهملة مفتوحة ابن سلمون بن يارب بتحتانية وآخره موحدة ابن رام بن
حضرون بمهملة ثم معجمة ابن فارص بفاء وآخره مهملة ابن يهوذا بن يعقوب. قوله:
"الزبر: الكتب واحدها زبور، زبرت: كتبت" قال أبو عبيدة في قوله تعالى:
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} أي كتب الأولين واحدها زبور. وقال
الكسائي: زبور بمعنى مزبور، تقول زبرته فهو مزبور مثل كتبته فهو مكتوب، وقرئ بضم
أوله وهو جمع زبر. قلت: الضم قراءة حمزة. قوله: "أوبي معه: قال مجاهد: سبحي
معه" وصله الفريابي من طريق مجاهد مثله، وعن الضحاك هو بلسان الحبشة. وقال
قتادة: معنى أوبي سيري. قوله: "أن أعمل سابغات: الدروع" قال أبو عبيدة
في قوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي دروعا واسعة طويلة. قوله: "وقدر في
السرد: المسامير والحلق، ولا ترق السمار فيسلس، ولا تعظم فينفصم" كذا في
رواية الكشميهني، ولغيره: "لا تدق" بالدال بدل الراء، وعندهم
"فيتسلسل" وفي آخره: "فيفصم" بغير نون، ووافقه الأصيلي في
قوله: "فيسلس" وهو بفتح اللام ومعناه فيخرج من الثقب برفق أو يصير
متحركا فيلين عند الخروج. وأما الرواية الأخرى "فيتسلسل" أي يصير
كالسلسلة في اللين، والأول أوجه، والفصم بالفاء القطع من غير إبانة. وهذا التفسير
وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي قدر المسامير
والحلق، وروى إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" من طريق مجاهد في قوله:
{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}: لا ترق المسامير فيسلس، ولا تغلظه فيفصمها. وقال أبو
عبيدة: يقال درع مسردة أي مستديرة الحلق، قال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
وهو مثل مسمار السفينة. قوله: "أفرغ أنزل" لم أعرف المراد من هذه الكلمة
هنا، واستقريت قصة داود في المواضع التي ذكرت فيها فلم أجدها، وهذه الكلمة والتي
بعدها في رواية الكشميهني وحده. قوله: "بسطة: زيادة وفضلا" قال أبو
عبيدة في قوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} أي زيادة وفضلا
وكثرة، وهذه الكلمة في قصة طالوت وكأنه ذكرها لما كان آخرها متعلقا بداود فلمح
بشيء من قصة طالوت، وقد قصها الله في القرآن. ثم ذكر ثلاثة أحاديث: الأول: حديث
همام عن أبي هريرة: "خفف على داود القرآن" في رواية الكشميهني:
"القراءة"
(6/454)
قيل: المراد بالقرآن القراءة، والأصل في هذه اللفظة الجمع وكل شيء جمعته فقد قرأته، وقيل: المراد الزبور وقيل: التوراة، وقراءة كل نبي تطلق علي كتابه الذي أوحي إليه، وإنما سماه قرآنا للإشارة إلى وقوع المعجزة به كوقوع المعجزة بالقرآن أشار إليه صاحب "المصابيح" والأول أقرب، وإنما ترددوا بين الزبور والتوراة لأن الزبور كله مواعظ، وكانوا يتلقون الأحكام من التوراة. قال قتادة: كنا نتحدث أن الزبور مائة وخمسون سورة كلها مواعظ وثناء، ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود، بل كان اعتماده على التوراة، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره. وفي الحديث أن البركة قد تقع في الزمن اليسير حتى يقع فيه العمل الكثير. قال النووي: أكثر ما بلغنا من ذلك من كان يقرأ أربع ختمات بالليل وأربعا بالنهار، وقد بالغ بعض الصوفية في ذلك فادعى شيئا مفرطا، والعلم عند الله. قوله: "بدوابه" في رواية موسى بن عقبة الآتية "بدابته" بالإفراد، وكذا هو في التفسير، ويحمل الإفراد على الجنس، أو المراد بها ما يختص بركوبه، وبالجمع ما يضاف إليها مما يركبه أتباعه. قوله: "فيقرأ القرآن قبل أن تسرج" في رواية موسى "فلا تسرج حتى يقرأ القرآن". قوله: "ولا يأكل آلا من عمل يده" تقدم شرحه في أوائل البيوع وأن فيه دليلا على أنه أفضل المكاسب، وقد استدل به على مشروعية الإجارة من جهة أن عمل اليد أعم من أن يكون للغير أو للنفس، والذي يظهر أن الذي كان يعمله داود بيده هو نسج الدروع، وألان الله له الحديد، فكان ينسج الدروع ويبيعها ولا يأكل إلا من ثمن ذلك مع كونه كان من كبار الملوك، قال الله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}، وفي حديث الباب أيضا ما يدل على ذلك، وأنه مع سعته بحيث أنه كان له دواب تسرج إذا أراد أن يركب ويتولى خدمتها غيره، ومع ذلك كان يتورع ولا يأكل إلا مما يعمل بيده. قوله: "رواه موسى بن عقبة عن صفوان بن سليم إلخ" وصله المصنف في كتاب خلق أفعال العباد عن أحمد بن أبي عمرو عن أبيه - وهو حفص بن عبد الله - عن إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة. حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل وصيام النهار، أورده من طريقين، وقد تقدم في صلاة الليل، والغرض منه قوله: "صيام داود".
(6/455)
باب أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، و
أحب الصيام إلى الله صيام داود : كان ينام نصف الليل ، و يقوم ثلثه و ينام سدسه .
و يصوم يوما و يفطر يوما
...
38 - باب أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ وَأَحَبُّ الصِّيَامِ
إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ. كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ
ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ. وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ: "مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي
إِلاَّ نَائِمًا".
3420- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس الثقفي
سمع عبد الله بن عمرو قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الصيام
إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان
ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه".
قوله: "باب أحب الصلاة إلى الله صلاة داود إلخ" يشير إلى الحديث المذكور
قبله. قوله: "قال علي: هو قول عائشة ما ألفاه السحر عندي إلا نائما"
هكذا وقع في رواية المستملي والكشميهني، وأما غيرهما فذكر الطريق الثالثة مضمومة
إلى ما قبله دون الباب ودون قول علي، ولم أره منسوبا، وأظنه علي بن المديني شيخ
البخاري،
(6/455)
وأراد بذلك بيان المراد بقوله: "وينام سدسه" أي السدس الأخير، وكأنه قال: يوافق ذلك حديث عائشة "ما ألفاه" بالفاء أي وجده والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم والسحر الفاعل، أي لم يجيء السحر والنبي صلى الله عليه وسلم عندي إلا وجده نائما، كما تقدم بيان ذلك في قيام الليل.
(6/456)
باب { و اذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه
أواب ـ إلى قوله ـ وفصل الخطاب }
...
39 – باب: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} إلى قوله:
{وَفَصْلَ الْخِطَابِ}
قَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَهْمُ فِي الْقَضَاءِ {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ}
إِلَى {وَلاَ تُشْطِطْ}: لاَ تُسْرِفْ {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ
هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ نَعْجَةٌ
وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا شَاةٌ {وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا
} مِثْلُ {وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ} ضَمَّهَا {وَعَزَّنِي} غَلَبَنِي صَارَ
أَعَزَّ مِنِّي أَعْزَزْتُهُ جَعَلْتُهُ عَزِيزًا فِي الْخِطَابِ يُقَالُ
الْمُحَاوَرَةُ {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ} الشُّرَكَاءِ {لَيَبْغِي} إلى قوله:
{أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اخْتَبَرْنَاهُ. وَقَرَأَ عُمَرُ
{فَتَّنَّاهُ} بِتَشْدِيدِ التَّاءِ {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا
وَأَنَابَ}.
3421- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ سَمِعْتُ
الْعَوَّامَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَسْجُدُ فِي
"ص"؟ فَقَرَأَ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} حَتَّى
أَتَى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ
بِهِمْ".
[الحديث 3421 – أطرافه في: 4632، 4806، 4807]
3422- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن عكرمة عن بن عباس رضي الله
عنهما قال: "ليس ص من عزائم السجود ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد
فيها".
قوله: "{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} إلى
قوله: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ}" الأيد القوة، وكان داود موصوفا بفرط الشجاعة،
والأواب يأتي تفسيره قريبا. قوله: "قال مجاهد: الفهم في القضاء" أي
المراد بفصل الخطاب، وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي بشر عن مجاهد قال: الحكمة الصواب.
ومن طريق ليث عن مجاهد: فصل الخطاب إصابة القضاء وفهمه، ومن طريق ابن جريج عن
مجاهد قال: فصل الخطاب العدل في الحكم وما قال من شيء أنفذه. وقال الشعبي: فصل
الخطاب قوله أما بعد، وفي ذلك حديث مسند من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده
قال: "أول من قال "أما بعد" داود النبي صلى الله عليه وسلم وهو فصل
الخطاب" أخرجه ابن أبي حاتم، وذكر عن ابن جرير بإسناد صحيح عن الشعبي مثله،
وروى ابن أبي حاتم من طريق شريح قال: "فصل الخطاب الشهود والأيمان" ومن
طريق أبي عبد الرحمن السلمي نحوه. قوله: "ولا تشطط: لا تسرف" كذا وقع
هنا. وقال الفراء: معناه لا تجر، وروى ابن جرير من طريق قتادة في قوله: ولا تشطط
أي لا تمل، ومن طريق السدي قال لا تخف. قوله: "يقال للمرأة نعجة ويقال لها
أيضا شاة" قال أبو عبيدة في قوله: {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} : أي امرأة،
قال الأعشى:
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
قوله: "فقال أكفلنيها، مثل وكفلها زكريا ضمها" قال أبو عبيدة في قوله
تعالى: {أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}
(6/456)
هو كقوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي ضمها إليه، وتقول كفلت بالنفس أو بالمال ضمنته. قوله: "وعزني غلبني صار أعز مني، أعززته جعلته عزيزا، في الخطاب يغال المحاورة" قال أبو عبيدة في قوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أي صار أعز مني فيه. وروى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: إن دعا ودعوت كان أكثر مني، وإن بطشت وبطش كان أشد مني. ومن طريق قتادة قال: معناه قهرني وظلمني. وأما قوله: "يقال المحاورة" فمراده تفسير الخطاب بالمحاورة، وهي بالحاء المهملة أي المراجعة بين الخصمين، وهذا تفسير قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}. قوله: "الخلطاء الشركاء" حكاه ابن جرير أيضا. قوله: "فتناه قال ابن عباس: اختبرناه، وقرأ عمر فتناه بتشديد بالتاء" أما قول ابن عباس فوصله ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وأما قراءة عمر فمذكورة في الشواذ ولم يذكرها أبو عبيد في القراآت المشهورة، ونقل التشديد أيضا عن أبي رجاء العطاردي والحسن البصري. حديث ابن عباس في السجود في "ص" أورده من وجهين، ومحمد شيخه في الطريق الأولى هو ابن سلام، والعوام هو ابن حوشب بمهملة ثم معجمة. قوله: "أنسجد" بنون، وللكشميهني والمستملي "أأسجد"، وسيأتي شرح الحديث في التفسير إن شاء الله تعالى.
(6/457)
باب قول الله تعالى { و وهبنا لداود
سليمان ، نعم العبد إنه أواب } الراجع المنيب
...
40 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [30 ص]: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} الرَّاجِعُ الْمُنِيبُ.
وَقَوْلِهِ [35 ص]: {هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}.
وَقَوْلِهِ [102 البقرة]: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ} . [12 سبأ] {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ
وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أَذَبْنَا لَهُ عَيْنَ
الْحَدِيدِ {وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} إِلَى قَوْلِهِ {مِنْ
مَحَارِيبَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: بُنْيَانٌ مَا دُونَ الْقُصُورِ {وَتَمَاثِيلَ
وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ}: كَالْحِيَاضِ لِلْإِبِلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
كَالْجَوْبَةِ مِنْ الأَرْضِ {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ . فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا
دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ} الأَرَضَةُ {تَأْكُلُ
مِنْسَأَتَهُ} عَصَاهُ {فَلَمَّا خَرَّ} إِلَى قَوْلِهِ {فِي الْعَذَابِ
الْمُهِينِ}. [22-23 ص] {حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ... فَطَفِقَ مَسْحًا
بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا.
{الأَصْفَادُ}: الْوَثَاقُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: {الصَّافِنَاتُ}: صَفَنَ الْفَرَسُ
رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ. {الْجِيَادُ}:
السِّرَاعُ {جَسَدًا}: شَيْطَانًا. {رُخَاءً}: طَيِّبَةً {حَيْثُ أَصَابَ}: حَيْثُ
شَاءَ. {فَامْنُنْ}: أَعْطِ بِغَيْرِ حِسَابٍ بِغَيْرِ حَرَجٍ.
3423- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ
الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلاَتِي فَأَمْكَنَنِي
اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ
سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ
أَخِي سُلَيْمَانَ {رَبِّ هَبْ لِي
(6/457)
مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ
بَعْدِي} فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا". عِفْرِيتٌ: مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ
جَانٍّ مِثْلُ زِبْنِيَةٍ جَمَاعَتُهَا الزَّبَانِيَةُ
3424- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ
دَاوُدَ لاَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ
امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلاَّ وَاحِدًا سَاقِطًا
أَحَدُ شِقَّيْهِ . فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَالَهَا
لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قَالَ شُعَيْبٌ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ
تِسْعِينَ وَهُوَ أَصَحُّ.
3425- حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ
أَوَّلَ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ الْمَسْجِدُ
الأَقْصَى قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ أَرْبَعُونَ ثُمَّ قَالَ حَيْثُمَا
أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ وَالأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ".
3426- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ
نَارًا فَجَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ".
3427- "وَقَالَ: كَانَتْ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ
فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ
وَقَالَتْ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ
فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ
فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا فَقَالَتْ
الصُّغْرَى لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ
لِلصُّغْرَى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ إِلاَّ
يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةُ".
[الحديث 3427 – طرفه في: 6769]
قوله: "قول الله تعالى : {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ}" في رواية
غير أبي ذر "باب قول الله". قوله: "نعم العبد إنه أواب الراجع
المنيب" هو تفسير الأواب. وقد أخرج ابن جريج من طريق مجاهد قال: الأواب
الرجاع عن الذنوب ومن طريق قتادة قال: المطيع، ومن طريق السدي قال: هو المسبح.
قوله: "من محاريب، قال مجاهد: بنيان ما دون القصور" وصله عبد بن حميد
عنه كذلك وقال أبو عبيدة المحاريب جمع محراب وهو مقدم كل بيت، وهو أيضا المسجد
والمصلي. قوله: "وجفان كالجواب كالحياض للإبل. وقال ابن عباس كالجوبة من الأرض"
أما قول مجاهد فوصله عبد بن حميد عنه، وأما قول ابن عباس فوصله ابن أبي حاتم عنه.
وقال أبو عبيدة: الجوابي جمع جابية، وهو الحوض الذي يجبى فيه الماء. قوله:
"دابة الأرض" الأرضة. قوله: "منسأته: عصاه" هو قول ابن عباس
وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه، قال أبو عبيدة: المنسأة العصا. ثم
ذكر تصريفها وهي مفعلة من نسأت إذا
(6/458)
زجرت الإبل أي ضربتها بالمنسأة. قوله: "فطفق مسحا بالسوق والأعناق، يمسح أعراف الخيل وعراقيبها" هو قول ابن عباس أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه وزاد في آخره: "حبا لها"، وروى من طريق الحسن قال: كشف عراقيبها وضرب أعناقها وقال: لا تشغلني عن عبادة ربي مرة أخرى. قال أبو عبيدة: ومنه قوله مسح علاوته إذا ضرب عنقه. قال ابن جرير: وقول ابن عباس أقرب إلى الصواب. قوله: "الأصفاد الوثاق" روى ابن جرير من طريق السدي قال: مقرنين في الأصفاد: أي يجمع اليدين إلى العنق بالأغلال. وقال أبو عبيدة: الأصفاد الأغلال واحدها صفد، ويقال للغطاء أيضا صفد. قوله: "قال مجاهد: الصافنات، صفن الفرس رفع إحدى رجليه حتى يكون على طرف الحافر" وصله الفريابي من طريقه قال: صفن الفرس إلخ، لكن قال: "يديه" ووقع في أصل البخاري "رجليه" وصوب عياض ما عند الفريابي. وقال أبو عبيدة: الصافن الذي يجمع بين يديه ويثني مقدم حافر إحدى رجليه. قوله: "الجياد السراع" وصله الفريابي من طريق مجاهد أيضا. روى ابن جرير من طريق إبراهيم التيمي أنها كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة. قوله: "جسدا شيطانا" قال الفريابي: حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} قال: شيطانا يقال له آصف، قال له سليمان كيف تفتن الناس؟ قال أرني خاتمك أخبرك، فأعطاه، فنبذه آصف في البحر فساخ، فذهب ملك سليمان وقعد آصف على كرسيه، ومنعه الله نساء سليمان فلم يقربهن، فأنكرته أم سليمان، وكان سليمان يستطعم ويعرفهم بنفسه فيكذبونه حتى أعطته امرأة حوتا فطيب بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرد الله إليه ملكه، وفر آصف فدخل البحر. وروى ابن جرير من وجه آخر عن مجاهد أن اسمه آصر آخره راء، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن اسم الجني صخر، ومن طريق السدي كذلك وأخرج القصة من طريقه مطولة، والمشهور أن آصف اسم الرجل الذي كان عنده علم من الكتاب والله أعلم. قوله: "رخاء طيبة" في رواية الكشميهني: "طيبا" رواه الفريابي من الوجه المذكور في قوله: "رخاء" قال طيبة. قوله: "حيث أصاب حيث شاء" وصله الفريابي كذلك. قوله: "فامنن أعط، بغير حساب بغير حرج" وصله الفريابي من طريق مجاهد كذلك. وقال أبو عبيدة في قوله: "بغير حساب" أي بغير ثواب ولا جزاء، أو بغير منة ولا قلة. حديث أبي هريرة في تفلت العفريت على النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "تفلت علي" بتشديد اللام أي تعرض لي فلتة أي بغتة. قوله: "البارحة" أي الليلة الخالية الزائلة، والبارح الزائل ويقال من بعد الزوال إلى آخر النهار البارحة. قوله: "فذكرت دعوة أخي سليمان" أي قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} وفي هذه إشارة إلى أنه تركه رعاية لسليمان عليه السلام، ويحتمل أن تكون خصوصية سليمان استخدام الجن في جميع ما يريده لا في هذا القدر فقط، واستدل الخطابي بهذا الحديث على أن أصحاب سليمان كانوا يرون الجن في أشكالهم وهيئتهم حال تصرفهم، قال: وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} فالمراد الأكثر الأغلب من أحوال بني آدم، وتعقب بأن نفي رؤية الإنس للجن على هيئتهم ليس بقاطع من الآية بل ظاهرها أنه ممكن، فإن نفي رؤيتنا إياهم مقيد بحال رؤيتهم لنا ولا ينفي إمكان رؤيتنا لهم في غير تلك الحالة، ويحتمل العموم. وهذا الذي فهمه أكثر العلماء حتى قال الشافعي: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته، واستدل بهذه الآية. والله أعلم. قوله: "عفريت متمرد من إنس أو جان مثل زبنية جماعته زبانية" الزبانية في الأصل اسم أصحاب الشرطة، مشتق من الزبن وهو الدفع، وأطلق على الملائكة، ذلك لأنهم يدفعون الكفار في النار،
(6/459)
وواحد الزبانية زبنية وقيل: زبني وقيل:
زابن وقيل: زباني وقال قوم لا واحد له من لفظه وقيل واحده زبنيت وزن عفريت، ويقال
عفرية لغة مستقلة ليست مأخوذة من عفريت، ومراد المصنف بقوله: "مثل زبنية
" أي أنه قيل في عفريت عفرية، وهي قراءة رويت في الشواذ عن أبي بكر الصديق،
وعن أبي رجاء العطاردي وأبي السمال بالمهملة واللام. وقال ذو الرمة:
كأنه كوكب في أثر عفرية ... مصوب في ظلام الليل منتصب
وقد تقدم كثير من بيان أحوال الجن في "باب صفة إبليس وجنوده" من بدء
الخلق. قال ابن عبد البر: الجن على مراتب، فالأصل جني، فإن خالط الإنس قيل: عامر،
ومن تعرض منهم للصبيان قيل: أرواح، ومن زاد في الخبث قيل شيطان، فإن زاد على ذلك
قيل: مارد، فإن زاد على ذلك قيل: عفريت. وقال الراغب: العفريت من الجن هو العارم
الخبيث، وإذا بولغ فيه قيل عفريت نفريت. وقال ابن قتيبة: العفريت الموثق الخلق،
وأصله من العفر وهو التراب، ورجل عفر بكسر أوله وثانيه وتثقيل ثالثه إذا بولغ فيه
أيضا. قوله: "حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن" هو الحزامي وليس بالمخزومي،
واسم جد الحزامي عبد الله بن خالد بن حزام، واسم جد المخزومي الحارث بن عبد الله.
قوله: "قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة" في رواية الحموي والمستملي:
"لأطيفن" وهما لغتان. طاف بالشيء وأطاف به إذا دار حوله وتكرر عليه، وهو
هنا كناية عن الجماع، واللام جواب القسم وهو محذوف، أي والله لأطوفن، ويؤيده قوله
في آخره: "لم يحنث" لأن الحنث لا يكون إلا عن قسم، والقسم لابد له من
مقسم به. قوله: "على سبعين امرأة" كذا هنا من رواية مغيرة. وفي رواية
شعيب كما سيأتي في الأيمان والنذور "فقال تسعين" وقد ذكر المصنف ذلك عقب
هذا الحديث ورجح تسعين بتقديم المثناة على سبعين وذكر أن ابن أبي الزناد رواه كذلك.
قلت: وقد رواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد فقال: "سبعين" وسيأتي في
كفارة الأيمان من طريقه ولكن رواه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان فقال:
"سبعين" بتقديم السين، وكذا هو في "مسند الحميدي" عن سفيان،
وكذا أخرجه مسلم من رواية ورقاء عن أبي الزناد، وأخرجه الإسماعيلي والنسائي وابن
حبان من طريق هشام بن عروة عن أبي الزناد قال: "مائة امرأة " وكذا قال
طاوس عن أبي هريرة كما سيأتي في الأيمان والنذور، من رواية معمر، وكذا قال أحمد عن
عبد الرزاق من رواية هشام بن حجير عن طاوس "تسعين" وسيأتي في كفارة الأيمان،
ورواه مسلم عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق فقال: "سبعين" وسيأتي في
التوحيد من رواية أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة "كان لسليمان ستون
امرأة" ورواه أحمد وأبو عوانة من طريق هشام عن ابن سيرين فقال: "مائة
امرأة" وكذا قال عمران بن خالد عن ابن سيرين عند ابن مردويه، وتقدم في الجهاد
من طريق جعفر بن ربيعة عن الأعرج فقال: "مائة امرأة أو تسع وتسعون" على
الشك، فمحصل الروايات ستون وسبعون وتسعون وتسع وتسعون ومائة، والجمع بينها أن
الستين كن حرائر وما زاد عليهن كن سراري أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما
التسعون والمائة فكن دون المائة وفوق التسعين فمن قال تسعون ألغى الكسر ومن قال
مائة جبره ومن ثم وقع التردد في رواية جعفر، وأما قول بعض الشراح: ليس في ذكر
القليل نفي الكثير وهو من مفهوم العدد وليس بحجة عند الجمهور فليس بكاف في هذا
المقام، وذلك أن مفهوم العدد معتبر عند كثيرين والله أعلم. وقد حكى وهب بن منبه في
"المبتدأ" أنه كان لسليمان ألف امرأة ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية،
(6/460)
ونحوه مما أخرج الحاكم في
"المستدرك" من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب قال: بلغنا أنه كان لسليمان
ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة صربحة وسبعمائة سرية. قوله: "تحمل
كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله" هذا قاله على سبيل التمني للخير، وإنما
جزم به لأنه غلب عليه الرجاء، لكونه قصد به الخير وأمر الآخرة لا لغرض الدنيا. قال
بعض السلف: نبه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن
التفويض، قال: ولذلك نسي الاستثناء ليمضي فيه القدر. قوله: "فقال له صاحبه:
إن شاء الله" في رواية معمر عن طاوس الآتية "فقال له الملك" وفي
رواية هشام بن حجير "فقال له صاحبه، قال سفيان يعني الملك" وفي هذا
إشعار بأن تفسير صاحبه بالملك ليس بمرفوع، لكن في "مسند الحميدي" عن
سفيان "فقال له صاحبه أو الملك" بالشك، ومثلها لمسلم، وفي الجملة ففيه
رد على من فسر صاحبه بأنه الذي عنده علم من الكتاب، وهو آصف بالمد وكسر المهملة
بعدها فاء ابن برخيا بفتح الموحدة وسكون الراء وكسر المعجمة بعدها تحتانية. وقال
القرطبي في قوله: "فقال له صاحبه أو الملك" إن كان صاحبه فيعني به وزيره
من الإنس والجن، وإن كان الملك فهو الذي كان يأتيه بالوحي. وقال: وقد أبعد من قال
المراد به خاطره. وقال النووي: قيل: المراد بصاحبه الملك، وهو الظاهر من لفظه،
وقيل: القرين، وقيل: صاحب له آدمي. قلت: ليس بين قوله صاحبه والملك منافاة، إلا أن
لفظه: "صاحبه" أعم، فمن ثم نشأ لهم الاحتمال، ولكن الشك لا يؤثر في
الجزم، فمن جزم بأنه الملك حجة على من لم يجزم. قوله: "فلم يقل" قال
عياض: بين في الطريق الأخرى بقوله: "فنسي". قلت: هي رواية ابن عيينة عن
شيخه. وفي رواية معمر قال: "ونسي أن يقول إن شاء الله" ومعنى قوله:
"فلم يقل" أي بلسانه لا أنه أبى أن يفوض إلى الله بل كان ذلك ثابتا في
قلبه، لكنه اكتفى بذلك أولا ونسي أن يجريه على لسانه لما قيل له لشيء عرض له.
قوله: "فطاف بهن"(1) في رواية ابن عيينة، "فأطاف بهن" وقد تقدم
توجيهه. قوله: "إلا واحدا ساقطا أحد شقيه" في رواية شعيب "فلم يحمل
منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل" وفي رواية أيوب عن ابن سيرين "ولدت
شق غلام" وفي رواية هشام عنه "نصف إنسان" وهي رواية معمر، حكى
النقاش في تفسيره أن الشق المذكور هو الجسد الذي ألقي على كرسيه، وقد تقدم قول غير
واحد من المفسرين إن المراد بالجسد المذكور شيطان وهو المعتمد، والنقاش صاحب
مناكير. قوله: "لو قالها لجاهدوا في سبيل الله " في رواية شعيب "لو
قال إن شاء الله" وزاد في آخره: "فرسانا أجمعون" وفي رواية ابن
سيرين "لو استثنى لحملت كل امرأة منهن فولدت فارسا يقاتل في سبيل الله"
وفي رواية طاوس "لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته" كذا عند
المصنف من رواية هشام بن حجير، وعند أحمد ومسلم مثله من رواية معمر، وعند المصنف
من طريق معمر "وكان أرجى لحاجته" وقوله: "دركا" بفتحتين من
الإدراك وهو كقوله تعالى: {لا تَخَافُ دَرَكاً } أي لحاقا، والمراد أنه كان يحصل
له ما طلب ولا يلزم من إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك في حق سليمان في هذه القصة
أن يقع ذلك لكل من استثنى في أمنيته، بل في الاستثناء رجو الوقوع وفي ترك
الاستثناء خشية عدم الوقوع، وبهذا يجاب عن قول موسى للخضر {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ صَابِراً} مع قول الخضر له آخرا {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ
عَلَيْهِ صَبْراً} وفي الحديث فضل فعل الخير وتعاطي أسبابه، وأن كثيرا
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: هذه اللفظة لم توجد بالصحيح الذي بأيدينا، ولعلها رواية
للشارح.
(6/461)
من المباح والملاذ يصير مستحبا بالنية والقصد. وفيه استحباب الاستثناء لمن قال سأفعل كذا، وأن إتباع المشيئة اليمين يرفع حكمها، وهو متفق عليه بشرط الاتصال، وسيأتي بيان ذلك في الأيمان والنذور مع بسط فيه. وقد استدل بهذا الحديث من قال: الاستثناء إذا عقب اليمين ولو تخلل بينهما شيء يسير لا يضر، فإن الحديث دل على أن سليمان لو قال إن شاء الله عقب قول الملك له قل إن شاء الله لأفاد مع التخلل بين كلاميه بمقدار كلام الملك، وأجاب القرطبي باحتمال أن يكون الملك قال ذلك في أثناء كلام سليمان، وهو احتمال ممكن يسقط به الاستدلال المذكور. وفيه أن الاستثناء لا يكون إلا باللفظ ولا يكفي فيه النية. وهو اتفاق إلا ما حكي عن بعض المالكية. وفيه ما خص به الأنبياء من القوة على الجماع الدال ذلك على صحة البنية وقوة الفحولية وكمال الرجولية مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم. وقد وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أبلغ المعجزة لأنه مع اشتغاله بعبادة ربه وعلومه ومعالجة الخلق كان متقللا من المآكل والمشارب المقتضية لضعف البدن على كثرة الجماع، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد وهن إحدى عشرة امرأة، وقد تقدم في كتاب الغسل، ويقال إن كل من كان أتقى لله فشهوته أشد لأن الذي لا يتقي يتفرج بالنظر ونحوه. وفيه جواز الإخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل بناء على غلبة الظن فإن سليمان عليه السلام جزم بما قال ولم يكن ذلك عن وحي وإلا لوقع، كذا قيل. وقال القرطبي: لا يظن بسليمان عليه السلام أنه قطع بذلك على ربه إلا من جهل حال الأنبياء وأدبهم مع الله تعالى. وقال ابن الجوزي: فإن قيل من أين لسليمان أن يخلق من مائه هذا العدد في ليلة؟ لا جائز أن يكون بوحي لأنه ما وقع، ولا جائز أن يكون الأمر في ذلك إليه لأن الإرادة لله. والجواب أنه من جنس التمني على الله والسؤال له أن يفعل والقسم عليه كقول أنس بن النضر "والله لا يكسر سنها" ويحتمل أن يكون لما أجاب الله دعوته أن يهب له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده كان هذا عنده من جملة ذلك فجزم به. وأقرب الاحتمالات ما ذكرته أولا وبالله التوفيق. قلت: ويحتمل أن يكون أوحى إليه بذلك مقيدا بشرط الاستثناء فنسي الاستثناء فلم يقع ذلك لفقدان الشرط، ومن ثم ساغ له أولا أن يحلف. وأبعد من استدل به على جواز الحلف على غلبة الظن. وفيه جواز السهو على الأنبياء، وأن ذلك لا يقدح في علو منصبهم، وفيه جواز الإخبار عن الشيء أنه سيقع ومستند المخبر الظن مع وجود القرينة القوية لذلك. وفيه جواز إضمار المقسم به في اليمين لقوله: "لأطوفن" مع قوله عليه السلام: "لم يحنث" فدل على أن اسم الله فيه مقدر، فإن قال أحد بجواز ذلك فالحديث حجة له بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد تقديره على لسان الشارع، وإن وقع الاتفاق على عدم الجواز فيحتاج إلى تأويله كأن يقال لعل التلفظ باسم الله وقع في الأصل وإن لم يقع في الحكاية، وذلك ليس بممتنع، فإن من قال: والله لأطوفن يصدق أنه قال لأطوفن فإن اللافظ بالمركب لافظ بالمفرد، وفيه حجة لمن قال: لا يشترط التصريح بمقسم به معين، فمن قال أحلف أو أشهد ونحو ذلك فهو يمين وهو قول الحنفية، وقيده المالكية بالنية. وقال بعض الشافعية ليست بيمين مطلقا. وفيه جواز استعمال لو ولولا، وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد عقده له المصنف في أواخر الكتاب. وفيه استعمال الكناية في اللفظ الذي يستقبح ذكره لقوله: " لأطوفن" بدل قوله "لأجامعن". قوله: "حدثنا إبراهيم التيمي عن أبيه" هو يزيد بن شريك. قوله: "أي مسجد وضع أول" تقديم التنبيه عليه في أثناء قصة إبراهيم عليه السلام وقوله: "أدركتك الصلاة" أي وقت الصلاة، وفيه إشارة إلى المحافظة على الصلاة في أول وقتها، ويتضمن
(6/462)
ذلك الندب إلى معرفة الأوقات. وفيه إشارة إلى أن المكان الأفضل للعبادة إذا لم يحصل لا يترك المأمور به لفواته بل يفعل المأمور في المفضول لأنه صلى الله عليه وسلم كأنه فهم عن أبي ذر من تخصيصه السؤال عن أول مسجد وضع أنه يريد تخصيص صلاته فيه فنبه على أن إيقاع الصلاة إذا حضرت لا يتوقف على المكان الأفضل. وفيه فضيلة الأمة المحمدية لما ذكر أن الأمم قبلهم كانوا لا يصلون إلا في مكان مخصوص وقد تقدم التنبيه عليه في كتاب التيمم. وفيه الزيادة على السؤال في الجواب لا سيما إذا كان للسائل في ذلك مزيد فائدة. قوله في الإسناد: "عن عبد الرحمن" هو الأعرج، وهو كذلك في نسخة شعيب عن أبي الزناد عند الطبراني. قوله: "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فجعل الفراش وهذه الدواب تقع في النار. وقال كانت امرأتان معهما ابناهما " هكذا أورده، ومراده الحديث الثاني فإنه هو الذي يدخل في ترجمة سليمان، وكأنه ذكر ما قبله - وهو طرف من حديث طويل - لكونه سمع نسخة شعيب عن أبي الزناد، وهذا الحديث مقدم على الآخر، وسمع الإسناد في السابق دون الذي يليه فاحتاج أن يذكر شيئا من لفظ الحديث الأول لأجل الإسناد، وقد تقدم في الطهارة للمصنف مثل هذا الصنيع فذكر من هذه النسخة بعينها حديث: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم" وذكر قبله طرفا من حديث: "نحن الآخرون السابقون" ولما ذكر في الجمعة حديث: "نحن الآخرون السابقون" لم يضم معه شيئا، وذكر في الجهاد حديث: "من أطاعني فقد أطاع الله" الحديث فقال قبله: "نحن الآخرون السابقون" أيضا، وذكر في الديات حديث: "لو اطلع عليك رجل" وقدم ذلك قبله أيضا، لكنه أورد حديث المرأتين في الفرائض ولم يضم معه في أوله شيئا من الحديث الآخر وكذا في بقية هذه النسخة فلم يطرد للمصنف في ذلك عمل، وكأنه حيث ضم إليه شيئا أراد الاحتياط، وحيث لم يضم نبه على الجواز والله أعلم. وأما مسلم فإنه في نسخة همام عن أبي هريرة ينبه على أنه لم يسمع الإسناد في كل حديث منها فإنه يسوق الإسناد إلى أبي هريرة ثم يقول: فذكر أحاديث منها كذا وكذا. وصنيعه في ذلك حسن جدا والله أعلم. "تنبيه": لم أر الحديث الأول تاما في صحيح البخاري، وقد أورده الحميدي في "الجمع" من طريق شعيب هذه وساق المتن بتمامه وقال: إنه لفظ البخاري وإن مسلما أخرجه من رواية مغيرة وسفيان عن أبي الزناد به، ومن طريق همام عن أبي هريرة، وكذلك أطلق المزي أن البخاري أخرجه في أحاديث الأنبياء، فإن كان عني هذا الموضع فليس هو فيه بتمامه، وإن كان عني موضعا آخر فلم أره فيه. ثم وجدته في "باب الانتهاء عن المعاصي" من كتاب الرقاق، ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "مثلي" أي في دعائي الناس إلى الإسلام المنقذ لهم من النار ومثل ما تزين لهم أنفسهم من التمادي على الباطل "كمثل رجل إلخ" والمراد تمثيل الجملة بالجملة لا تمثيل فرد بفرد. قوله: "استوقد" أي أوقد، وزيادة السين والتاء للإشارة إلى أنه عالج إيقادها وسعى في تحصيل آلاتها. ووقع في حديث جابر عند مسلم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا" زاد أحمد ومسلم من رواية همام عن أبي هريرة "فلما أضاءت ما حوله". قوله: "فجعل الفراش" بفتح الفاء والشين المعجمة معروف ويطلق الفراش أيضا على غوغاء الجراد الذي يكثر ويتراكم. وقال في "المحكم" الفراش دواب مثل البعوض واحدتها فراشة، وقد شبه الله تعالى الناس في المحشر بالفراش المبثوت أي في الكثرة والانتشار والإسراع إلى الداعي. قوله: "وهذه الدواب تقع في النار" قلت: منها البرغش والبعوض، ووقع في حديث جابر "فجعل الجنابذ والفراش" والجنابذ جمع جنبذ وهو على القلب، والمعروف الجنادب جمع جندب بفتح الدال وضمها والجيم مضمومة
(6/463)
وقد تكسر، وهو على خلقة الجرادة يصر في الليل صرا شديدا، وقيل: إن ذكر الجراد يسمى أيضا الجندب. قوله: "تقع في النار" كذا فيه، وإنما هو في نسخة شعيب كما أخرجه أبو نعيم في "المستخرج": "وهذه الدواب التي تقعن في النار تقعن فيها" قال النووي: مقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه المحالفين له بالفراش وتساقطهم في نار الآخرة بتساقط الفراش في نار الدنيا مع حرصهم على الوقوع في ذلك ومنعه إياهم، والجامع بينهما اتباع الهوى وضعف التمييز وحرص كل من الطائفتين على هلاك نفسه. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا مثل كثير المعاني، والمقصود أن الخلق لا يأتون ما يجرهم إلى النار على قصد الهلكة، وإنما يأتونه على قصد المنفعة واتباع الشهوة، كما أن الفراش يقتحم النار لا ليهلك فيها بل لما يعجبه من الضياء. وقد قيل: إنها لا تبصر بحال وهو بعيد، وإنما قيل إنها تكون في ظلمة فإذا رأت الضياء اعتقدت أنها كوة يظهر منها النور فتقصده لأجل ذلك فتحترق وهي لا تشعر. وقيل: إن ذلك لضعف بصرها فتظن أنها في بيت مظلم وأن السراج مثلا كوة فترمي بنفسها إليه وهي من شدة طيرانها تجاوزه فتقع في الظلمة فترجع إلى أن تحترق. وقيل: إنها تتضرر بشدة النور فتقصد إطفاءه فلشدة جهلها تورط نفسها فيما لا قدرة لها عليه، ذكر مغلطاي أنه سمع بعض مشايخ الطب يقوله. وقال الغزالي: التمثيل وقع على صورة الإكباب على الشهوات من الإنسان بإكباب الفراش على التهافت في النار، ولكن جهل الآدمي أشد من جهل الفراش؛ لأنها باغترارها بظواهر الضوء إذا احترقت انتهى عذابها في الحال، والآدمي يبقى في النار مدة طويلة أو أبدا والله المستعان. قوله: "وقال كانت امرأتان" ليس في سياق البخاري تصريح برفعه، وهو مرفوع عنده عن أبي اليمان عن شعيب في أواخر كتاب الفرائض أورده هناك، وكذا هو في نسخة شعيب عند الطبراني وغيره. وفي رواية النسائي، من طريق علي بن عياش عن شعيب "حدثني أبو الزناد مما حدثه عبد الرحمن الأعرج مما ذكر أنه سمع أبا هريرة يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما امرأتان". قلت: ولم أقف على اسم واحدة من هاتين المرأتين ولا على اسم واحد من ابنيهما في شيء من الطرق. قوله: "فتحاكما" في رواية الكشميهني: "فتحاكمتا" وفي نسخة شعيب "فاختصما". قوله: "فقضى به للكبرى إلخ" قيل: كان ذلك على سبيل الفتيا منهما لا الحكم، ولذلك ساغ لسليمان أن ينقضه. وتعقبه القرطبي بأن في لفظ الحديث أنه قضى بأنهما تحاكما، وبأن فتيا النبي وحكمه سواء في وجوب تنفيذ ذلك. وقال الداودي: إنما كان منهما على سبيل المشاورة فوضح لداود صحة رأي سليمان فأمضاه. وقال ابن الجوزي: استويا عند داود في اليد، فقدم الكبرى للسن. وتعقبه القرطبي وحكى أنه قيل: كان من شرع داود أن يحكم للكبرى قال: وهو فاسد لأن الكبر والصغر وصف طردي كالطول والقصر والسواد والبياض، ولا أثر لشيء من ذلك في الترجيح، قال: وهذا مما يكاد يقطع بفساده. قال: والذي ينبغي أن يقال إن داود عليه السلام قضى به للكبرى لسبب اقتضى به عنده ترجيح قولها، إذ لا بينة لواحدة منهما، وكونه لم يعين في الحديث اختصارا لا يلزم منه عدم وقوعه، فيحتمل أن يقال: إن الولد الباقي كان في يد الكبرى وعجزت الأخرى عن إقامة البينة قال: وهذا تأويل حسن جار على القواعد الشرعية وليس في السياق ما يأباه ولا يمنعه، فإن قيل فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه؟ فالجواب أنه لم يعمد إلى نقض الحكم، وإنما احتال بحيلة لطيفة أظهرت ما في نفس الأمر، وذلك أنهما لما أخبرتا سليمان بالقصة فدعا بالسكين ليشقه بينهما، ولم يعزم على ذلك في الباطن، وإنما أراد استكشاف الأمر، فحصل مقصوده لذلك لجزع الصغرى الدال على عظيم الشفقة، ولم يلتفت إلى إقرارها بقولها هو ابن الكبرى لأنه علم أنها
(6/464)
آثرت حياته، فظهر له من قرينة شفقة الصغرى وعدمها في الكبرى - مع ما انضاف إلى ذلك من القرينة الدالة على صدقها - ما هجم به على الحكم للصغرى. ويحتمل أن يكون سليمان عليه السلام ممن يسوغ له أن يحكم بعلمه، أو تكون الكبرى في تلك الحالة اعترفت بالحق لما رأت من سليمان الجد والعزم في ذلك. ونظير هذه القصة ما لو حكم حاكم على مدع منكر بيمين، فلما مضى ليحلفه حضر من استخرج من المنكر ما اقتضى إقراره بما أراد أن يحلف على جحده، فإنه والحالة هذه يحكم عليه بإقراره سواء كان ذلك قبل اليمين أو بعدها، ولا يكون ذلك من نقض الحكم الأول، ولكن من باب تبدل الأحكام بتبدل الأسباب. وقال ابن الجوزي: استنبط سليمان لما رأى الأمر محتملا فأجاد، وكلاهما حكم بالاجتهاد، لأنه لو كان داود حكم بالنص لما ساغ لسليمان أن يحكم بخلافه. ودلت هذه القصة على أن الفطنة والفهم موهبة من الله لا تتعلق بكبر سن ولا صغره. وفيه أن الحق في جهة واحدة، وإن الأنبياء يسوغ لهم الحكم بالاجتهاد وإن كان وجود النص ممكنا لديهم بالوحي، لكن في ذلك زيادة في أجورهم، ولعصمتهم من الخطأ في ذلك إذ لا يقرون لعصمتهم على الباطل. وقال النووي: إن سليمان فعل ذلك تحيلا على إظهار الحق، فكان كما لو اعترف المحكوم له بعد الحكم أن الحق لخصمه. وفيه استعمال الحيل في الأحكام لاستخراج الحقوق، ولا يتأتى ذلك إلا بمزيد الفطنة وممارسة الأحوال. قوله: "لا تفعل يرحمك الله" وقع في رواية مسلم والإسماعيلي من طريق ورقاء عن أبي الزناد "لا، يرحمك الله" قال القرطبي ينبغي على هذه الرواية أن يقف قليلا بعد "لا" حتى يتبين للسامع أن الذي بعده كلام مستأنف؛ لأنه إذا وصله بما بعده يتوهم السامع أنه دعا عليه وإنما هو دعاء له، ويزول الإيهام في مثل هذا بزيادة واو كأن يقول: لا ويرحمك الله. وفيه حجة لمن قال: إن الأم تستلحق، والمشهور من مذهب مالك والشافعي أنه لا يصح، وقد تعرض المصنف لذلك في أواخر كتاب الفرائض، ويأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "قال أبو هريرة" يعني بالإسناد إليه وليس تعليقا، وقد وقع كذلك في رواية الإسماعيلي من طريق ورقاء عن أبي الزناد، والمدية مثلثة الميم قيل: للسكين، ذلك لأنها تقطع مدى حياة الحيوان، والسكين تذكر وتؤنث، قيل لها ذلك لأنها تسكن حركة الحيوان.
(6/465)
باب قول الله تعالى { و لقد آتينا
لقمان الحكمة أن اشكر لله ـ إلى قوله ـ إن الله لا يحب كل مختال فخور }
...
41 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [12-18 لقمان]: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ
الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ
مُخْتَالٍ فَخُورٍ}. {وَلاَ تُصَعِّرْ} الإِعْرَاضُ بِالْوَجْهِ
3428- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [82 الأنعام] قَالَ
أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ
إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَنَزَلَتْ [13 لقمان]: {لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
3429- حدثني إسحاق أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد
الله رضي الله عنه قال: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على المسلمين فقالوا يا رسول الله أينا لا يظلم
نفسه؟ قال ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه {يَا
بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
(6/465)
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}" اختلف في لقمان فقيل كان حبشيا، وقيل: كان نوبيا. واختلف هل كان نبيا؟ قال السهيلي: كان نوبيا من أهل أيلة، واسم أبيه عنقا بن شيرون. وقال غيره هو ابن باعور بن ناحر بن آزر فهو ابن أخي إبراهيم. وذكر وهب في "المبتدأ" أنه كان ابن أخت أيوب، وقيل: ابن خالته. وروى الثوري في تفسيره عن أشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدا حبشيا نجارا. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن خالد بن ثابت الربعي أحد التابعين مثله، وحكى أبو عبيد البكري في "شرح الأمالي" أنه كان مولى لقوم من الأزد، وروى الطبري من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب كان لقمان من سودان مصر ذو مشافر، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة. وفي "المستدرك" بإسناد صحيح عن أنس قال: كان لقمان عند داود وهو يسرد الدرع، فحصل لقمان يتعجب ويريد أن يسأله عن فائدته فتمنعه حكمته أن يسأل. وهذا صريح في أنه عاصر داود عليه السلام. وقد ذكره ابن الجوزي في "التلقيح" بعد إبراهيم قبل إسماعيل وإسحاق والصحيح أنه كان في زمن داود. وقد أخرج الطبري وغيره عن مجاهد أنه كان قاضيا على بني إسرائيل زمن داود عليه السلام، وقيل: إنه عاش ألف سنة، نقل عن ابن إسحاق وهو غلط ممن قاله، وكأنه اختلط عليه بلقمان بن عاد وقيل: إنه كان يفتي قبل بعث داود، وأغرب الواقدي فزعم أنه كان بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام، وشبهته ما حكاه أبو عبيدة البكري أنه كان عبدا لبني الحسحاس بن الأزد والأكثر أنه كان صالحا. قال شعبة عن الحكم عن مجاهد كان صالحا ولم يكن نبيا، وقيل: كان نبيا أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق إسرائيل عن جابر عن عكرمة. قلت: وجابر هو الجعفي ضعيف، ويقال إن عكرمة تفرد بقوله كان نبيا، وقيل: كان لرجل من بني إسرائيل فأعتقه وأعطاه مالا يتجر فيه. وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن بشير عن قتادة أن لقمان خير بين الحكمة والنبوة فاختار الحكمة، فسئل عن ذلك فقال: خفت أن أضعف عن حمل أعباء النبوة. وفي سعيد بن بشير ضعف، وقد روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} قال التفقه في الدين ولم يكن نبيا، وقد تقدم تفسير المراد بالحكمة في أوائل كتاب العلم في شرح حديث ابن عباس "اللهم علمه الحكمة" وقيل كان خياطا وقيل: نجارا. وقوله: "وإذ قال لقمان لابنه" قال السهيلي: اسم ابنه باران بموحدة وراء مهملة، وقيل فيه بالدال في أوله، وقيل: اسمه أنعم، وقيل: شكور وقيل بابلي. قوله: "ولا تصعر: الإعراض بالوجه" هو تفسير لقوله تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} وهو تفسير عكرمة أورده عنه الطبري، وأورد من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "ولا تصعر خدك للناس": لا تتكبر عليهم، قال الطبري: أصل الصعر - يعني بالمهملتين - داء يأخذ الإبل في أعناقها حتى تلفت أعناقها عن رءوسها، فيشبه به الرجل المتكبر المعرض عن الناس انتهى. وقوله: "تصعر" هي قراءة عاصم وابن كثير وأبي جعفر. وقال أبو عبيدة في "القراآت" له: حدثنا هشيم عن يونس عن الحسن أنه قرأها كذلك وقرأها الباقون "تصاعر" قال أبو عبيدة والأول أحب إلي لما في الثانية من المفاعلة، والغالب أنه من اثنين، وتكون الأولى أشمل في اجتناب ذلك. وقال الطبري: القراءتان مشهورتان ومعناهما صحيح والله أعلم. حديث ابن مسعود في نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} وسيأتي شرحه في تفسير الأنعام أورده من وجهين، وإسحاق شيخه في الطريق الثانية هو ابن راهويه وبذلك جزم أبو نعيم في "المستخرج".
(6/466)
باب { و اضرب لهم مثلا أصحاب القرية }
الآية
...
42 - باب [13 يس]: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} الْآيَةَ
{فَعَزَّزْنَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: شَدَّدْنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
{طَائِرُكُمْ}: مَصَائِبُكُمْ.
قوله: "باب {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} الآية.
{فَعَزَّزْنَا} قال مجاهد: شددنا. وقال ابن عباس {طَائِرُكُمْ}: مصائبكم" أما
قول مجاهد فوصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه بهذا، وأما قول ابن عباس فوصله
ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه به. والقرية المراد بها أنطاكية فيما
ذكر ابن إسحاق ووهب في "المبتدأ" ولعلها كانت مدينة بالقرب من هذه
الموجودة، لأن الله أخبر أنه أهلك أهلها. وليس لذلك أثر في هذه المدينة الموجودة
الآن، ولم يذكر المصنف في ذلك حديثا مرفوعا، وقد روى الطبراني من حديث ابن عباس
مرفوعا: "السبق ثلاثة يوشع إلى موسى، وصاحب يس إلى عيسى، وعلي إلى محمد صلى
الله عليه وسلم" وفي إسناده حسين بن حسين الأشقر وهو ضعيف فإن ثبت دل على أن
القصة كانت في زمن عيسى أو بعده، وصنيع المصنف يقتضي أنها قبل عيسى. وروى ابن
إسحاق في "المبتدأ" عن أبي طوالة عن كعب الأحبار أن اسم صاحب يس حبيب
النجار، وروى الثوري في تفسيره عن عاصم عن أبي مجلز قال: كان اسمه حبيب بن بري،
وعن حبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس: هو حبيب النجار، وعن السدي كان قصارا،
وقيل: كان إسكافا. قال ابن إسحاق واسم الرسل الثلاثة صادق وصدوق وشلوم. وقال ابن
جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبئي بالجيم والموحدة والهمز بلا مد: كان اسم
الرسولين شمعون ويوحنا واسم الثالث بولص. وعن قتادة: كانوا رسلا من قبل المسيح.
والله أعلم.
(6/467)
باب قول الله تعالى { ذكر رحمة ربك
عبده زكريا ، إذ نادى ربه نداء خفيا . قال رب إني وهن العظم مني و اشتعل الرأس
شيبا ـ إلى قوله ـ لم نجعل له من قبل سميا }
...
43 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [3-7 مريم]: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ
زَكَرِيَّاءَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ
الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} إلى قوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ
مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِثْلًا يُقَالُ {رَضِيًّا}:
مَرْضِيًّا. {عُتِيًّا}: عَصِيًّا عَتَا يَعْتُو . {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ
لِي غُلاَمٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ
عِتِيًّا} إلى قوله: {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} وَيُقَالُ صَحِيحًا {فَخَرَجَ
عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا}. {فَأَوْحَى}: فَأَشَارَ . {يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}
إلى قوله: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}. {حَفِيًّا}: لَطِيفًا. {عَاقِرًا}: الذَّكَرُ
وَالأُنْثَى سَوَاءٌ.
3430- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى
حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ
أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ
لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ
فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ
مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا
يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ قَالَ هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ
عَلَيْهِمَا فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قَالاَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ
وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ".
(6/467)
قوله: "باب قول الله تعالى:
{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} إلى قوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ
قَبْلُ سَمِيًّا}" في زكريا أربع لغات: المد والقصر وحذف الألف مع تخفيف
الياء وفيه تشديدها أيضا وحذفها. وقال الجوهري: لا يصرف مع المد والقصر. قوله:
"قال ابن عباس: مثلا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس في قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} يقول: هل تعلم له مثلا أو
شبها، ومن طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ
مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} قال: لم يسم يحيى قبله غيره، وأخرجه الحاكم في
"المستدرك". قوله: "يقال رضيا مرضيا" حكاه الطبري قال: مرضيا
ترضاه أنت وعبادك. قوله: "عتيا عصيا، عتا يعتو" كذا فيه بالصاد المهملة
والصواب بالسين، وروى الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: "ما أدري أكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عتيا أو عسيا" وقال أبو عبيدة في قوله
تعالى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً}: كل مبالغ من كبر أو كفر أو
فساد فقد عتا يعتو عتيا. قوله: "ثلاث ليال سويا ويقال صحيحا" هو قول عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم أخرجه ابن أبي حاتم عنه قال في قوله: {ثَلاثَ لَيَالٍ
سَوِيّاً} وأنت صحيح، فحبس لسانه فكان لا يستطيع أن يتكلم وهو يقرأ التوراة ويسبح
ولا يستطيع أن يكلم الناس، أخرجه ابن أبي حاتم من طريقه. وأخرج من طريق أبي عبد
الرحمن السلمي قال: اعتقل لسانه من غير مرض. قوله: "فأوحى: فأشار" هو
قول محمد بن كعب ومجاهد وغير واحد أخرجه ابن أبي حاتم عنهم. قوله: "حفيا:
لطيفا" هو قول ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه.
وقال أبو عبيدة في قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} أي محتفيا، يقال تحفيت
بفلان. قوله: "عاقرا الذكر والأنثى سواء" قال أبو عبيدة العاقر التي لا
تلد، والعاقر الذي لا يلد، قال عامر بن الطفيل:
لبئس الفتى إن كان أعور عاقرا ... جبانا فما عذري لدى كل محضر
وقال أيضا: لفظ الذكر فيه مثل لفظ الأنثى. قال الثعلبي. ولد يحيى وعمر زكريا مائة
وعشرون سنة وقيل تسعين وقيل اثنين وتسعين وقيل مائة إلا سنتين وقيل إلا سنة. أورد
المصنف طرفا من حديث الإسراء من رواية أنس عن مالك بن صعصعة والغرض منه ذكر يحيى
بن زكريا. وقال فيه وفي عيسى ابن مريم إنهما ابنا خالة وزكريا هو ابن أدن ويقال
ابن شبوي ويقال ابن بارخيا ويقال ابن أبي ابن بارخيا، ومريم بنت عمران بن ناشي،
وهما من ذرية سليمان بن داود عليهما السلام، واسم أم مريم حنة بمهملة ونون بنت
فاقود واسم أختها والدة يحيى إيشاع قال ابن إسحاق في " المبتدأ " كانت
حنة عند عمران وأختها عند زكريا وكانت حنة أمسك عنها الولد ثم حملت بمريم فمات
عمران وهي حامل. وروى ابن أبي حاتم من طريق عبد الرحمن بن القاسم: سمعت مالك بن
أنس يقول: بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا كان حملهما جميعا، فبلغني أن أم
يحيى قالت لمريم: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك، قال مالك: أراه لفضل عيسى
على يحيى. وقال الثعلبي: ولد يحيى قبل عيسى بستة أشهر. واختلف في قوله:
{وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} فقيل نبئ وهو ابن تسع سنين وقيل أقل من ذلك،
والمراد بالحكم الفهم في الدين، قال ابن إسحاق: كان زكريا وابنه آخر من بعث من بني
إسرائيل قبل عيسى. وقال أيضا: أراد بنو إسرائيل قتل زكريا ففر منهم، فمر بشجرة
فانفلقت له فدخل فيها فالتأمت عليه، فأخذ الشيطان بهدبة ثوبه فرأوها فوضعوا
المنشار على الشجرة فنشروها حتى قطعوه من وسطه في جوفها. وأما يحيى فقتل بسبب
امرأة أراد ملكهم
(6/468)
أن يتزوجها، فقال له يحيى: إنها لا تحل لك لكونها كانت بنت امرأته، فتوصلت إلى الملك حتى قتل يحيى، قال ابن إسحاق: كان ذلك قبل أن يرفع عيسى. وروى أصل هذه القصة الحاكم في "المستدرك" من حديث عبد الله بن الزبير، وروى أيضا من حديث ابن عباس أن دم يحيى كان يفور حتى قتل عليه بختنصر من بني إسرائيل سبعين ألفا فسكن.
(6/469)
باب قول الله تعالى { و اذكر في الكتاب
مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا }
...
44 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [16 مريم]: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ
إِذْ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}.
[45 آل عمران]: {إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ
يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ}. [33 آل عمران ]: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا
وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} إِلَى قَوْلِهِ
{يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَآلُ
عِمْرَانَ}: الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ وَآلِ يَاسِينَ
وَآلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَقُولُ [68 آل عمران]: {إِنَّ
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ.
وَيُقَالُ: {آلُ يَعْقُوبَ}: أَهْلُ يَعْقُوبَ. فَإِذَا صَغَّرُوا "آلَ"
ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الأَصْلِ قَالُوا: أُهَيْلٌ.
3431- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: "مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلاَّ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ
يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ غَيْرَ مَرْيَمَ
وَابْنِهَا ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [36 آل عمران]".
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ
انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}" وقوله: "{ إِذْ
قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ}"
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا}" هذه الترجمة معقودة لأخبار
مريم عليها السلام، وقد قدمت شيئا من شأنها في الباب الذي قبله. ومريم بالسريانية
الخادم، وسميت به والدة عيسى فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية، ويقال إن مريم بلسان
العرب من تكثر من زيارة الرجال من النساء كالزير وهو من يكثر زيارة النساء،
واستشهد من زعم هذا بقول رؤبة "قلت لزير لم تصله مريمه" حكاه أبو حبان
في تفسير سورة البقرة، وفيه نظر. قوله: "قال ابن عباس: وآل عمران المؤمنون من
آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد صلى الله عليه وسلم يقول: إن أولى الناس
بإبراهيم الذين اتبعوه، وهم المؤمنون" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي
طلحة عنه، وحاصله أن المراد بالاصطفاء بعض آل عمران وإن كان اللفظ عاما فالمراد به
الخصوص. قوله: "ويقال آل يعقوب أهل يعقوب، إذا صغروا آل ردوه إلى الأصل قالوا
أهيل" اختلف في "آل" فقيل: أصله أهل فقلبت الهاء همزة بدليل ظهور
ذلك في التصغير وهو يرد الأشياء إلى أصلها، وهذا قول سيبويه والجمهور، وقيل: أصله
أول من آل يئول إذا رجع لأن الإنسان يرجع إلى أهله، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها
فقلبت ألفا، وتصغيره على أويل. قوله: "عن الزهري قال حدثني سعيد بن
المسيب" كذا قال أكثر أصحاب الزهري. وقال السدي: عن الزهري عن أبي سلمة عن
أبي هريرة أخرجه الطبري. قوله: "ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين
يولد" في
(6/469)
رواية سعد بن المسيب عن أبي هريرة الماضية في "باب صفة إبليس" بيان المس المذكور لفظه: "كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد، غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب" أي في المشيمة التي فيها الولد قال القرطبي: هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط، فحفظ الله مريم وابنها منه ببركة دعوة أمها حيث قالت: "إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" ولم يكن لمريم ذرية غير عيسى. ووقع في رواية معمر عن الزهري عند مسلم: "إلا نخسه الشيطان" بنون وخاء معجمة ثم مهملة. قوله: "فيستهل صارخا من مس الشيطان" في رواية معمر المذكورة "من نخسة الشيطان" أي سبب صراخ الصبي أول ما يولد الألم من مس الشيطان إياه، والاستهلال الصياح. قوله: "غير مريم وابنها" تقدم في "باب إبليس" بذكر عيسى خاصة فيحتمل أن يكون هذا بالنسبة إلى المس وذاك بالنسبة إلى الطعن في الجنب، ويحتمل أن يكون ذاك قبل الإعلام بما زاد، وفيه بعد لأنه حديث واحد، وقد رواه خلاس عن أبي هريرة بلفظ: "كل بني آدم قد طعن الشيطان فيه حين ولد، غير عيسى وأمه جعل الله دون الطعنة حجابا فأصاب الحجاب ولم يصبهما" والذي يظهر أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، والزيادة من الحافظ مقبولة، وأما قول بعضهم يحتمل أن يكون من العطف التفسيري والمقصود الابن كقولك أعجبني زيد وكرمه فهو تعسف شديد. قوله: "ثم يقول أبو هريرة: وإني أعيذها بك إلخ" فيه بيان لأن في رواية أبي صالح عن أبي هريرة إدراجا وأن تلاوة الآية موقوفة على أبي هريرة.
(6/470)
باب { و إذ قالت الملائكة يامريم إن
الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين . يا مريم اقنتي لربك و اسجدي و
اركعي مع الراكعين .ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، و ما كنت لديهم إذ يلقون
أقلامهم أيهم
...
45 - باب [42 آل عمران]: {وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ . يَا
مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ . ذَلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ يَخْتَصِمُونَ}. يُقَالُ: {يَكْفُلُ}: يَضُمُّ كَفَلَهَا ضَمَّهَا
مُخَفَّفَةً لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ وَشِبْهِهَا
3432- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ
قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ
سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ
عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ".
[الحديث 3432 – طرفه في: 3815]
قوله: "باب {وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَاكِ} الآية إلى قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} ، يقال يكفل يضم كفلها
ضمها مخففة، ليس من كفالة الديون وشبهها" أشار بقوله: "مخففة" إلى
قراءة الجمهور، وقرأها الكوفيون "كفلها" بالتشديد أي كفلها الله زكريا،
وفي قراءتهم زكريا بالقصر إلا أن أبا بكر بن عياش قرأه بالمد فاحتاج إلى أن يقرأ
زكرياء بفتح الهمزة. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}
يقال كفلها بفتح الفاء وكسرها أي ضمها. وفي قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}
أي يضم انتهى. وكسر الفاء هو في قراءة بعض التابعين. واستدل بقوله تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَاكِ} على أنها كانت نبية وليس بصريح في ذلك، وأيد بذكرها مع
الأنبياء في
(6/470)
سورة مريم، ولا يمنع وصفها بأنها صديقة
فقد وصف يوسف بذلك. وقد نقل عن الأشعري أن في النساء عدة نبيات، وحصرهن ابن حزم في
ست، حواء وسارة وهاجر وأم موسى وآسية ومريم. وأسقط القرطبي سارة وهاجر، ونقله في
"التمهيد" عن أكثر الفقهاء. وقال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية. وقال
عياض: الجمهور على خلافه. ونقل النووي في "الأذكار" أن الإمام(1) نقل
الإجماع على أن مريم ليست نبية. وعن الحسن: ليس في النساء نبية ولا في الجن. وقال
السبكي الكبير: لم يصح عندي في هذه المسألة شيء، ونقله السهيلي في آخر
"الروض" عن أكثر الفقهاء. قوله: "حدثنا النضر" هو ابن شميل،
وهشام هو ابن عروة بن الزبير، وعبد الله بن جعفر أي ابن أبي طالب. قال الدار قطني:
رواه أصحاب هشام بن عروة عنه هكذا؛ وخالفهم ابن جريج وابن إسحاق فروياه عن هشام عن
أبيه عن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن جعفر زاد في الإسناد عبد الله بن
الزبير، والصواب إسقاطه، والله أعلم. قوله: "خير نسائها مريم" أي نساء
أهل الدنيا في زمانها، وليس المراد أن مريم خير نسائها لأنه يصير كقولهم زيد أفضل
إخوانه، وقد صرحوا بمنعه، فهو كما لو قيل فلان أفضل الدنيا. وقد رواه النسائي من
حديث ابن عباس بلفظ: "أفضل نساء أهل الجنة" فعلى هذا فالمعنى خير نساء
أهل الجنة مريم. وفي رواية: "خير نساء العالمين" وهو كقوله تعالى:
{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} وظاهره أن مريم أفضل من جميع النساء
وهذا لا يمتنع عند من يقول إنها نبية. وأما من قال ليست بنبية فيحمله على عالمي
زمانها، وبالأول جزم الزجاج وجماعة واختاره القرطبي؛ ويحتمل أيضا أن يراد نساء بن
إسرائيل أو نساء تلك الأمة أو "من" فيه مضمرة والمعنى أنها من جملة
النساء الفاضلات، ويدفع ذلك حديث أبي موسى المتقدم بصيغة الحصر أنه لم يكمل من
النساء غيرها وغير آسية. قوله: "وخير نسائها خديجة" أي نساء هذه الأمة
قال القاضي أبو بكر بن العربي: خديجة أفضل نساء الأمة مطلقا لهذا الحديث، وقد تقدم
في آخر قصة موسى حديث أبي موسى في ذكر مريم وآسية وهو يقتضي فضلهما على غيرهما من
النساء، ودل هذا الحديث على أن مريم أفضل من آسية وأن خديجة أفضل نساء هذه الأمة،
وكأنه لم يتعرض في الحديث الأول لنساء هذه الأمة حيث قال: ولم يكمل من النساء، أي
من نساء الأمة الماضية، إلا إن حملنا الكمال على النبوة فيكون على إطلاقه. وعند
النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس "أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم
وآسية" وعند الترمذي بإسناد صحيح عن أنس "حسبك من نساء العالمين"
فذكرهن. وللحاكم من حديث حذيفة "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملك
فبشره أن فاطمة سيده نساء أهل الجنة" وسيأتي مزيد لذلك في ترجمة خديجة من
مناقب الصحابة.
ـــــــ
(1) يعني إمام الحرمين كما يأتي بعد صحيفتين
(6/471)
باب قوله تعالى { إذ قالت الملائكة
يامريم ـ إلى قوله ـ قائما يقول له كن فيكون }
...
46 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى [45-48 آل عمران]: {إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَا
مَرْيَمُ} إِلَى قَوْلِهِ {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
{يُبَشِّرُكِ} وَيَبْشُرُكِ وَاحِدٌ {وَجِيهًا}: شَرِيفًا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ
المَسِيحُ: الصِّدِّيقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَهْلُ: الْحَلِيمُ. وَالأَكْمَهُ:
مَنْ يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلاَ يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ
يُولَدُ أَعْمَى.
3433- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ
سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى
(6/471)
الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ
كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ
وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ".
3434- وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "نِسَاءُ
قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ أَحْنَاهُ عَلَى طِفْلٍ وَأَرْعَاهُ
عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ". يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى إِثْرِ
ذَلِكَ وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ".
تَابَعَهُ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
[الحديث 3434 – طرفاه في: 5082، 5365]
قوله: "باب قول الله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ
اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}
وقع في رواية أبي ذر بزيادة واو في أول هذه الآية وهو غلط، وإنما وقعت الواو في
أول الآية التي قبلها وأما هذه فبغير واو. قوله: "يبشرك ويبشرك واحد"
يعني بفتح أوله وسكون الموحدة وضم المعجمة، وبضم أوله وفتح الموحدة وتشديد
المعجمة، والأولى وهي بالتخفيف قراءة يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي، والبشير هو
الذي يخبر المرء بما يسره من خير، وقد يطلق في الشر مجازا. قوله:
"وجيها" أي "شريفا" قال أبو عبيدة: الوجيه الذي يشرف وتوجهه
الملوك أي تشرفه، وانتصب قوله: "وجيها على الحال. قوله: "وقال إبراهيم:
المسيح الصديق" وصله سفيان الثوري في تفسيره رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود
عنه عن منصور عن إبراهيم هو النخعي قال: المسيح الصديق. قال الطبري: مراد إبراهيم
بذلك أن الله مسحه فطهره من الذنوب، فهو فعيل بمعنى مفعول. قلت: وهذا بخلاف تسمية
الدجال المسيح فإنه فعيل بمعنى فاعل يقال إنه سمي بذلك لكونه يمسح الأرض وقيل: سمي
بذلك لأنه ممسوح العين فهو بمعنى مفعول، قيل في المسيح عيسى أيضا أنه مشتق من مسح
الأرض لأنه لم يكن يستقر في مكان، ويقال سمي بذلك لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا
بريء، وقيل: لأنه مسح بدهن البركة مسحه زكريا وقيل: يحيى، وقيل: لأنه كان ممسوح
الأخمصين، وقيل: لأنه كان جميلا يقال: مسحه الله أي خلقه خلقا حسنا ومنه قولهم به
مسحة من جمال. وأغرب الداودي فقال لأنه كان يلبس المسوح. قوله: "وقال مجاهد:
الكهل الحليم" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله:
{وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} قال: الكهل الحليم انتهى، وقد قال أبو جعفر
النحاس: إن هذا لا يعرف في اللغة، وإنما الكهل عندهم من ناهز الأربعين أو قاربها،
وقيل: من جاوز الثلاثين وقيل ابن ثلاث وثلاثين انتهى. والذي يظهر أن مجاهدا فسره
بلازمه الغالب، لأن الكهل غالبا يكون فيه وقار وسكينة، وقد اختلف أهل العربية في
قوله: "وكهلا" هل هو معطوف على قوله: "وجيها" أو هو حال من
الضمير في يكلم أي يكلمهم صغيرا وكهلا، وعلى الأول يتجه تفسير مجاهد. قوله:
"الأكمه من يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل. وقال غيره من يولد أعمى" أما
قول مجاهد فوصله الفريابي أيضا، وهو قول شاذ تفرد به مجاهد، والمعروف أن ذلك هو
الأعشى. وأما قول غيره فهو قول الجمهور وبه جزم أبو عبيدة وأخرجه
(6/472)
الطبري عن ابن عباس، وروى عبد بن حميد
من طريق سعيد عن قتادة: كنا نتحدث أن الأكمه الذي يولد وهو مضموم العين. ومن طريق
عكرمة: الأكمه الأعمى. وكذا رواه الطبري عن السدي، وعن ابن عباس أيضا، وعن الحسن
ونحوهم، قال الطبري: الأشبه بتفسير الآية قول قتادة، لأن علاج مثل ذلك لا يدعيه
أحد، والآية سيقت لبيان معجزة عيسى عليه السلام، فالأشبه أن يحمل المراد عليها
ويكون أبلغ في إثبات المعجزة والله أعلم. حديث أبي موسى الأشعري في فضل مريم
وآسية، وقد تقدم شرحه في آخر قصة موسى عليه السلام. وحديث أبي هريرة في فضل نساء
قريش. قوله: "وقال ابن وهب إلخ" وصله مسلم عن حرملة عن ابن وهب، وكذلك
أخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن حرملة، وسيأتي للمصنف موصولا من وجه آخر عن
ابن وهب في النكاح، قال القرطبي: هذا تفضيل لنساء قريش على نساء العرب خاصة، لأنهم
أصحاب الإبل غالبا، وسيأتي بقية شرحه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.
قوله: "أحناه" أشفقه، حنى يحنو ويحنى من الثلاثي، وأحنى يحني من
الرباعي: أشفق عليه وعطف، والحانية التي تقوم بولدها بعد موت الأب، قال: وحنت
المرأة على ولدها إذا لم تتزوج بعد موت الأب. قال ابن التين: فإن تزوجت فليست
بحانية. قال الحسن في الحانية التي لها ولد ولا تتزوج. وفي بعض الكتب: أحنى بتشديد
النون والتنوين حكاه ابن التين وقال: لعله مأخوذ من الحنان بفتح وتخفيف وهو
الرحمة، وحنت المرأة إلى ولدها وإلى زوجها سواء كان بصوت أم لا، ومن الذي بالصوت
حنين الجذع وأصله ترجيع صوت الناقة على أثر ولدها، وكان القياس أحناهن لكن جرى
لسان العرب بالإفراد، وقوله: "ولم تركب مريم بعيرا قط" إشارة إلى أن
مريم لم تدخل في هذا التفضيل بل هو خاص بمن يركب الإبل، والفضل الوارد في خديجة
وفاطمة وعائشة هو بالنسبة إلى جميع النساء إلا من قيل إنها نبية، فإن ثبت في حق
امرأة أنها نبية فهي خارجة بالشرع لأن درجة النبوة لا شيء بعدها، وإن لم يثبت
فيحتاج من يخرجهن إلى دليل خاص لكل منهن، فأشار أبو هريرة إلى أن مريم لم تدخل في
هذا العموم، لأنه قيد أصل الفضل بمن يركب الإبل ومريم لم تركب بعيرا قط. وقد اعترض
بعضهم فقال: كأن أبا هريرة ظن أن البعير لا يكون إلا من الإبل، وليس كما ظن بل
يطلق البعير على الحمار. وقال ابن خالويه: لم تكن إخوة يوسف ركبانا إلا على أحمرة،
ولم يكن عندهم إبل، وإنما كانت تحملهم في أسفارهم وغيرها الأحمرة، وكذا قال مجاهد
هنا: البعير الحمار، وهي لغة حكاها الكواشي(1)، واستدل بقوله: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} على أنها كانت نبية، ويؤيد ذكرها في سورة مريم بمثل ما ذكر
به الأنبياء، ولا يمنع وصفها بأنها صديقة فإن يوسف وصف بذلك مع كونه نبيا، وقد نقل
عن الأشعري أن في النساء نبيات. وجزم ابن حزم بست: حواء وسارة وهاجر وأم موسى
وآسية ومريم، ولم يذكر القرطبي سارة ولا هاجر، ونقله السهيلي في آخر
"الروض" عن أكثر الفقهاء. وقال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية. وقال
عياض: الجمهور على خلافه. وذكر النووي في "الأذكار" عن إمام الحرمين أنه
نقل الإجماع على أن مريم ليست نبية، ونسبه في "شرح المهذب" لجماعة، وجاء
عن الحسن البصري ليس في النساء نبية
ـــــــ
(1) ما بعد هذا تقدم في أول الباب الذي قبل هذا. قال مصحح طبعة بولاق: والنسخ التي
بأيدينا متفقة على إثباته في المحلين مع تفاوت يسير جدا، وإنما أعادها هنا لمناسبة
المقام لها.
(6/473)
ولا في الجن. وقال السبكي: اختلف في هذه المسألة ولم يصح عندي في ذلك شيء. قوله: "يقول أبو هريرة على أثر ذلك: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط" في رواية لأحمد وأبي يعلى "وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مريم لم تركب بعيرا قط" أراد أبو هريرة بذلك أن مريم لم تدخل في النساء المذكورات بالخيرية لأنه قيدهن بركوب الإبل ومريم لم تكن ممن يركب الإبل، وكأنه كان يرى أنها أفضل النساء مطلقا. قوله: "تابعه ابن أخي الزهري وإسحاق الكلبي عن الزهري" أما متابعة ابن أخي الزهري وهو محمد بن عبد الله بن مسلم فوصلها أبو أحمد بن عدي في الكامل من طريق الدراوردي عنه، وأما متابعة إسحاق الكلبي فوصلها الزهري في "الزهريات" عن يحيى بن صالح عنه.
(6/474)
باب قوله { يا أهل الكتاب لا تغلوا في
دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق ، إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله و
كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه ، فآمنوا بالله و رسله و لا تقولوا ثلاثة انتهوا
خيرا لكم
...
47 - باب قَوْلُهُ [171 النساء]: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ . إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ
انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ
يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلًا}
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: {كَلِمَتُهُ} كُنْ فَكَانَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: {وَرُوحٌ
مِنْهُ} أَحْيَاهُ فَجَعَلَهُ رُوحًا. {وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ}.
3435- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ
الأَوْزَاعِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ حَدَّثَنِي
جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ
الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ".
قَالَ الْوَلِيدُ: حَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ عَنْ عُمَيْرٍ عَنْ جُنَادَةَ
وَزَادَ: "مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيَّهَا شَاءَ".
قوله: "باب قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}
إلى {وَكِيلًا} قال عياض: وقع في رواية الأصيلي "قل يا أهل الكتاب"
ولغيره بحذف "قل" وهو الصواب. قلت: هذا هو الصواب في هذه الآية التي هي
من سورة النساء لكن قد ثبت "قل" في الآية الأخرى في سورة المائدة {قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} الآية، ولكن
مراد المصنف آية سورة النساء بدليل إيراده لتفسير بعض ما وقع فيها فالاعتراض متجه.
قوله: "قال أبو عبيد: كلمته كن فكان" هكذا في جميع الأصول، والمراد به
أبو عبيد القاسم بن سلام، ووقع نظيره في كلام أبي عبيدة معمر بن المثنى، وفي تفسير
عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. قوله: "وقال غيره: وروح منه أحياه فجعله
روحا" هو قول أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى
مَرْيَمَ} قوله كن فكان، وروح منه الله تبارك وتعالى أحياه فجعله روحا ولا تقولوا
ثلاثة: أي لا تقولوا هم ثلاثة. قوله: "ولا تقولوا ثلاثة" هو بقية الآية
التي فسرها أبو عبيدة. قوله: "عن الأوزاعي" في رواية الإسماعيلي من طريق
علي بن المديني عن الوليد "حدثنا الأوزاعي". قوله: "عن عبادة"
هو ابن الصامت، في رواية ابن المديني المذكورة "حدثني عبادة" وفي رواية
مسلم عن جنادة "حدثنا عبادة بن الصامت". قوله: "وأن عيسى عبد الله
ورسوله" زاد
(6/474)
ابن المديني في روايته: "وابن
أمته" قال القرطبي: مقصود هذا الحديث التنبيه على ما وقع للنصارى من الضلال
في عيسى وأمه، ويستفاد منه ما يلقنه النصراني إذا أسلم، قال النووي: هذا حديث عظيم
الموقع، وهو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد؛ فإنه جمع فيه ما يخرج عنه
جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدهم. وقال غيره: في ذكر عيسى تعريض
بالنصارى وإيذان بأن إيمانهم مع قولهم بالتثليث شرك محض، وكذا قوله:
"عبده" وفي ذكر "رسوله" تعريض باليهود في إنكارهم رسالته
وقذفه بما هو منزه عنه وكذا أمه. وفي قوله: "وابن أمته" تشريف له، وكذا
تسميته بالروح ووصفه بأنه "منه" كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} فالمعنى أنه كائن منه كما أن
معنى الآية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه، أي أنه مكون كل ذلك وموجده
بقدرته وحكمته. وقوله: "وكلمته" إشارة إلى أنه حجة الله على عباده أبدعه
من غير أب وأنطقه في غير أوانه وأحيى الموتى على يده، وقيل: سمي كلمة الله لأنه
أوجده بقوله كن، فلما كان بكلامه سمي به كما يقال سيف الله وأسد الله، وقيل: لما
قال في صغره إني عبد الله، وأما تسميته بالروح فلما كان أقدره عليه من إحياء
الموتى، وقيل: لكونه ذا روح وجد من غير جزء من ذي روح. وقوله: "أدخله الله
الجنة من أي أبواب الجنة شاء"(1) يقتضي دخوله الجنة وتخييره في الدخول من
أبوابها، وهو بخلاف ظاهر حديث أبي هريرة الماضي في بدء الخلق فإنه يقتضي أن لكل
داخل الجنة بابا معينا يدخل منه، قال: ويجمع بينهما بأنه في الأصل مخير، لكنه يرى
أن الذي يختص به أفضل في حقه فيختاره فيدخله مختارا لا مجبورا ولا ممنوعا من
الدخول من غيره. قلت: ويحتمل أن يكون فاعل شاء هو الله، والمعنى أن الله يوفقه
لعمل يدخله برحمة الله من الباب المعد لعامل ذلك العمل. قوله: "قال الوليد"
هو ابن مسلم، وهو موصول بالإسناد المذكور، وقد أخرجه مسلم عن داود بن رشيد عن
الوليد بن مسلم عن ابن جابر وحده به ولم يذكر الأوزاعي، وأخرجه من وجه آخر عن
الأوزاعي. قوله: "عن جنادة وزاد" أي عن جنادة عن عبادة بالحديث المذكور
وزاد في آخره، وكذا أخرجه مسلم بالزيادة ولفظه: "أدخله الله من أي أبواب
الجنة الثمانية شاء" وقد تقدمت الإشارة إليه في صفة الجنة من بدء الخلق، وقد
تقدم الكلام على ما يتعلق بدخول جميع الموحدين الجنة في كتاب الإيمان بما أغنى عن
إعادته. ومعنى قوله: "على ما كان من العمل" أي من صلاح أو فساد، لكن أهل
التوحيد لا بد لهم من دخول الجنة، ويحتمل أن يكون معنى قوله: "على ما كان من
العمل" أي يدخل أهل الجنة الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات.
"تنبيه": وقع في رواية الأوزاعي وحده فقال في آخره: "أدخله الله
الجنة على ما كان عليه من العمل" بدل قوله في رواية ابن جابر: "من أبواب
الجنة الثمانية أيها شاء" وبينه مسلم في روايته. وأخرج مسلم من هذا الحديث
قطعة من طريق الصنابحي عن عبادة "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله
حرم الله عليه النار" وهو يؤيد ما سيأتي ذكره في الرقاق في شرح حديث أبي ذر
أن بعض الرواة يختصر الحديث، وأن المتعين عل من يتكلم على الأحاديث أن يجمع طرقها
ثم يجمع ألفاظ المتون إذا صحت الطرق ويشرحها على أنه حديث واحد، فإن الحديث أولى
ما فسر بالحديث. قال البيضاوي في قوله: "على ما كان عليه من العمل" دليل
على المعتزلة من وجهين: دعواهم أن العاصي
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: هذه الجملة ليست في الصحيح التي بأيدينا.
(6/475)
يخلد في النار وأن من لم يتب يجب دخوله في النار، لأن قوله: "على ما كان من العمل" حال من قوله: "أدخله الله الجنة" والعمل حينئذ غير حاصل، ولا يتصور ذلك في حق من مات قبل التوبة إلا إذا أدخل الجنة قبل العقوبة. وأما ما ثبت من لازم أحاديث الشفاعة أن بعض العصاة يعذب ثم يخرج فيخص به هذا العموم، وإلا فالجميع تحت الرجاء، كما أنهم تحت الخوف. وهذا معنى قول أهل السنة: إنهم في خطر المشيئة.
(6/476)
باب قول الله { و اذكر في الكتاب مريم
إذ انتبذت من أهلها }
...
48 - باب قَوْلِ اللَّهِ [16 مريم]: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ
انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}. نَبَذْنَاهُ: أَلْقَيْنَاهُ. اعْتَزَلَتْ
{شَرْقِيًّا}: مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ. {فَأَجَاءَهَا}: أَفْعَلْتُ مِنْ جِئْتُ
وَيُقَالُ أَلْجَأَهَا اضْطَرَّهَا. {تَسَّاقَطْ}: تَسْقُطْ. {قَصِيًّا}: قَاصِيًا
{فَرِيًّا}: عَظِيمًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {نِسْيًا}: لَمْ أَكُنْ شَيْئًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: النِّسْيُ الْحَقِيرُ. وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: عَلِمَتْ
مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قَالَتْ {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}.
قَالَ وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ
{سَرِيًّا}: نَهَرٌ صَغِيرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ
3436- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلاَّ
ثَلاَثَةٌ عِيسَى وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ
كَانَ يُصَلِّي جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي فَقَالَتْ
اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ
فِي صَوْمَعَتِهِ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ
رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلاَمًا فَقَالَتْ مِنْ
جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ
فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ
قَالَ الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لاَ إِلاَّ مِنْ
طِينٍ وَكَانَتْ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَرَّ
بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهُ
فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ لاَ
تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَصُّ
إِصْبَعَهُ ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ
هَذِهِ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَتْ
لِمَ ذَاكَ فَقَالَ الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ وَهَذِهِ الأَمَةُ
يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ وَلَمْ تَفْعَلْ".
3437- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ
وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْلَةَ
أُسْرِيَ بِهِ لَقِيتُ مُوسَى قَالَ فَنَعَتَهُ فَإِذَا رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ
مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ قَالَ وَلَقِيتُ
عِيسَى فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَبْعَةٌ
أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ يَعْنِي الْحَمَّامَ وَرَأَيْتُ
إِبْرَاهِيمَ
(6/476)
وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ قَالَ
وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ فَقِيلَ لِي
خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ فَقِيلَ لِي هُدِيتَ
الْفِطْرَةَ أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ
غَوَتْ أُمَّتُكَ".
3438- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ أَخْبَرَنَا
عُثْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ عِيسَى ومُوسَى
وَإِبْرَاهِيمَ فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ وَأَمَّا
مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سَبْطٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ".
3439- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ
حَدَّثَنَا مُوسَى عَنْ نَافِعٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَيْنَ ظَهْرَيْ النَّاسِ الْمَسِيحَ
الدَّجَّالَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ أَلاَ إِنَّ الْمَسِيحَ
الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ
طَافِيَةٌ".
3440- وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ فَإِذَا رَجُلٌ
آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ
مَنْكِبَيْهِ رَجِلُ الشَّعَرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى
مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالُوا
هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلًا وَرَاءَهُ جَعْدًا
قَطِطًا أَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ
وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ
هَذَا قَالُوا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ".
تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ
[الحديث 3440 – أطرافه في: 3441، 5902، 6999، 7026، 7128]
3441- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ قَالَ سَمِعْتُ
إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ لاَ وَاللَّهِ مَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِعِيسَى
أَحْمَرُ وَلَكِنْ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا
رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً
أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا ابْنُ مَرْيَمَ
فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ
عَيْنِهِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قُلْتُ مَنْ هَذَا
قَالُوا هَذَا الدَّجَّالُ وَأَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ قَالَ
الزُّهْرِيُّ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ".
3442- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ
وَالأَنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلاَتٍ
(6/477)
لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ
نَبِيٌّ".
[الحديث 3442 – طرفه في: 3443]
3443- حدثنا محمد بن سنان حدثنا فليح بن سليمان حدثنا هلال بن علي عن عبد الرحمن
بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا أولى
الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم
واحد". وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ
صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3444- وحَدَّثَني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا
يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ قَالَ كَلاَ وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ فَقَالَ عِيسَى آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنِي".
3445- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ
الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ
تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ
فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ".
3446- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ قَالَ
لِلشَّعْبِيِّ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَخْبَرَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى
الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا
فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ
وَإِذَا آمَنَ بِعِيسَى ثُمَّ آمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ وَالْعَبْدُ إِذَا
اتَّقَى رَبَّهُ وَأَطَاعَ مَوَالِيَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ".
3447- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْمُغِيرَةِ
بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تُحْشَرُونَ حُفَاةً
عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا
عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ
يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ
فَأَقُولُ أَصْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى
أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ
فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}".
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
عَنْ قَبِيصَةَ قَالَ هُمْ الْمُرْتَدُّونَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ
أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ".
(6/478)
قوله: "باب قول الله تعالى:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}" هذا
الباب معقود لأخبار عيسى عليه السلام، والأبواب التي قبله لأخبار أمه مريم، وقد
روى الطبري من طريق السدي قال: أصاب مريم حيض فخرجت من المسجد فأقامت شرقي
المحراب. قوله: "فنبذناه: ألقيناه" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ} قال: ألقيناه. وقال أبو عبيدة في
قوله: {إِذِ انْتَبَذَتْ} أي اعتزلت وتنحت. قوله: "اعتزلت شرقيا مما يلي
الشرق" قال أبو عبيدة في قوله: {مَكَاناً شَرْقِيّاً} مما يلي الشرق، وهو عند
العرب خير من الغربي الذي يلي الغرب. قوله: "فأجاءها: أفعلت من جئت ويقال
ألجأها اضطرها" قال أبو عبيدة في قوله: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} مجازه أفعلها
من جاءت، وأجاءها غيرها إليه، يعني فهو من مزيد جاء، قال زهير:
وجاء وسار معتمدا إليكم ... أجاءته المخافة والرجاء
والمعنى ألجأته. وقال الزمخشري: إن أجاء منقول من جاء، إلا أن استعماله تغير بعد
النقل إلى معنى الإلجاء. قوله: "تساقط: تسقط" هو قول أبي عبيدة، وضبط
تسقط بضم أوله من الرباعي والفاعل النخلة عند من قرأها بالمثناة، أو الجذع عند من
قرأها بالتحتانية. قوله: "قصيا: قاصيا" هو تفسير مجاهد أخرجه الطبري
عنه. وقال أبو عبيدة في قوله: {مَكَاناً قَصِيّاً} أي بعيدا. قوله: "فريا
عظيما" هو تفسير مجاهد وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عنه، ومن طريق سعيد
عن قتادة كذلك، قال أبو عبيدة في قوله: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} أي عجبا
فائقا. قوله: "قال ابن عباس: نسيا لم أكن شيئا" وصله ابن جرير من طريق
ابن جريج " أخبرني عطاء عن ابن عباس في قوله: {يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ
هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} "أي لم أخلق ولم أكن شيئا". قوله:
"وقال غيره النسي الحقير" هو قول السدي، وقيل: هو ما سقط في منازل
المرتحلين من رذالة أمتعتهم، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال في قوله:
{وَكُنْتُ نَسْياً}: أي شيئا لا يذكر. قوله: "وقال أبو وائل: علمت مريم أن
التقي ذو نهية حين قالت إن كنت تقيا" وصله عبد بن حميد من طريق عاصم قال: قرأ
أبو وائل {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} قال: لقد
علمت مريم أن التقي ذو نهية، وقوله نهية: بضم النون وسكون الهاء أي ذو عقل وانتهاء
عن فعل القبيح وأغرب من قال إنه اسم رجل يقال له تقي كان مشهورا بالفساد فاستعاذت
منه. قوله: "وقال وكيع عن إسرائيل إلخ" ذكر خلف في "الأطراف"
أن البخاري وصله عن يحيى عن وكيع، وأن ذلك وقع في التفسير، ولم نقف عليه في شيء من
النسخ، فلعله في رواية حماد بن شاكر عن البخاري. قوله: "سريا: نهر صغير
بالسريانية" كذا ذكره موقوفا من حديث البراء معلقا، وأورده الحاكم في
"المستدرك" وابن أبي حاتم من طريق الثوري والطبري من طريق شعبة كلاهما
عن أبي إسحاق مثله، وأخرجه ابن مردويه من طريق آدم عن إسرائيل به لكن لم يقل
بالسريانية وإنما قال البراء: السري الجدول وهو النهر الصغير، وقد ذكر أبو عبيدة
أن السري النهر الصغير بالعربية أيضا وأنشد للبيد بن ربيعة:
فرمى بها عرض السري فغادرا ... مسجورة متجاوز أقلامها
والعرض بالضم الناحية، وروى الطبري من طريق حصين عن عمرو بن ميمون قال: السري
الجدول، ومن طريق الحسن البصري قال: السري هو عيسى، وهذا شاذ. وقد روى ابن مردويه
في تفسيره من حديث ابن عمر
(6/479)
مرفوعا: "السري في هذه الآية نهر أخرجه الله لمريم لتشرب منه". ثم ذكر المصنف في الباب عشرة أحاديث: أولها: حديث أبي هريرة في قصة جريج الراهب وغيره، والغرض منه ذكر الذين تكلموا في المهد، وأورده في ترجمة عيسى أنه أولهم. قوله: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة" قال القرطبي: في هذا الحصر نظر، إلا أن يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم الزيادة على ذلك، وفيه بعد، ويحتمل أن يكون كلام الثلاثة المذكورين مقيدا بالمهد وكلام غيرهم من الأطفال بغير مهد، لكنه يعكر عليه أن في رواية ابن قتيبة أن الصبي الذي طرحته أمه في الأخدود كان ابن سبعة أشهر، وصرح بالمهد في حديث أبي هريرة، وفيه تعقب على النووي في قوله: إن صاحب الأخدود لم يكن في المهد، والسبب في قوله هذا ما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد والبزار وابن حبان والحاكم "لم يتكلم في المهد إلا أربعة" فلم يذكر الثالث الذي هنا وذكر شاهد يوسف والصبي الرضيع الذي قال لأمه وهي ماشطة بنت فرعون لما أراد فرعون إلقاء أمه في النار "اصبري يا أمه فإنا على الحق". وأخرج الحاكم نحوه من حديث أبي هريرة، فيجتمع من هذا خمسة. ووقع ذكر شاهد يوسف أيضا في حديث عمران بن حصين لكنه موقوف، وروى ابن أبي شيبة من مرسل هلال بن يساف مثل حديث ابن عباس إلا أنه لم يذكر ابن الماشطة. وفي صحيح مسلم من حديث صهيب في قصة أصحاب الأخدود "أن امرأة جيء بها لتلقى في النار أو لتكفر، ومعها صبي يرضع، فتقاعست، فقال لها: يا أمه اصبري فإنك على الحق" وزعم الضحاك في تفسره أن يحيى تكلم في المهد أخرجه الثعلبي. فإن ثبت صاروا سبعة. وذكر البغوي في تفسيره أن إبراهيم الخليل تكلم في المهد. وفي "سير الواقدي" أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم أوائل ما ولد. وقد تكلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مبارك اليمامة وقصته في "دلائل النبوة، للبيهقي" من حديث معرض بالضاد المعجمة، والله أعلم. على أنه اختلف في شاهد يوسف: فقيل كان صغيرا، وهذا أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وسنده ضعيف، وبه قال الحسن وسعيد بن جبير. وأخرج عن ابن عباس أيضا ومجاهد أنه كان ذا لحية. وعن قتادة والحسن أيضا كان حكيما من أهلها. قوله: "وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج" بجيمين مصغر، وقد روى حديثه عن أبي هريرة محمد بن سيرين كما هنا، وتقدم في المظالم من طريقه بهذا الإسناد، والأعرج كما تقدم في أواخر الصلاة، وأبو رافع وهو عند مسلم وأحمد، وأبو سلمة وهو عند أحمد، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي هريرة عمران بن حصين، وسأذكر ما في رواية كل منهم من الفائدة. وأول حديث أبي سلمة "كان رجل في بني إسرائيل تاجرا، وكان ينقص مرة ويزيد أخرى. فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعة وترهب فيها، وكان يقال له جريج" فذكر الحديث، ودل ذلك على أنه كان بعد عيسى ابن مريم، وأنه كان من أتباعه لأنهم الذين ابتدعوا الترهب وحبس النفس في الصوامع. والصومعة بفتح المهملة وسكون الواو هي البناء المرتفع المحدد أعلاه، ووزنها فوعلة من صمعت إذا دققت لأنها دقيقة الرأس. قوله: "جاءت أمه" في رواية الكشميهني: "فجاءته أمه" وفي رواية أبي رافع "كان جريج يتعبد في صومعته فأتته أمه" ولم أقف في شيء من الطرق على اسمها. وفي حديث عمران بن حصين "وكانت أمه تأتيه فتناديه فيشرف عليها فيكلمها، فأتته يوما وهو في صلاته" وفي رواية أبي رافع عند أحمد "فأتته أمه ذات يوم فنادته قالت: أي جريج أشرف علي أكلمك، أنا أمك". قوله: "فدعته فقال أجيبها أو أصلي" زاد المصنف في المظالم بالإسناد الذي ذكره هنا "فأبى أن يجيبهما" ومعنى قوله أمي وصلاتي أي اجتمع عليه إجابة أمي وإتمام صلاتي فوفقني لأفضلهما. وفي رواية أبي رافع "فصادفته
(6/480)
يصلي، فوضعت يدها على حاجبها فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فرجعت. ثم أتته فصادفته يصلي فقالت: يا جريج أنا أمك فكلمني، فقال مثله" فذكره. وفي حديث عمران بن حصين أنها جاءته ثلاث مرات تناديه في كل مرة ثلاث مرات. وفي رواية الأعرج عند الإسماعيلي: "فقال أمي وصلاتي لربي، أوثر صلاتي على أمي، ذكره ثلاثا" وكل ذلك محمول على أنه قاله في نفسه لا أنه نطق به، ويحتمل أن يكون نطق به على ظاهره لأن الكلام كان مباحا عندهم، وكذلك كان في صدر الإسلام، وقد قدمت في أواخر الصلاة ذكر حديث يزيد بن حوشب عن أبيه رفعه: "لو كان جريج عالما لعلم أن إجابة أمه أولى من صلاته". قوله: "فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات" في رواية الأعرج "حتى ينظر في وجوه المياميس" ومثله في رواية أبي سلمة وفي رواية أبي رافع "حتى تريه المومسة" بالإفراد، وفي حديث عمران بن حصين "فغضبت فقالت: اللهم لا يموتن جريج حتى ينظر في وجوه المومسات" والمومسات جمع مومسة بضم الميم وسكون الواو وكسر الميم بعدها مهملة وهي الزانية وتجمع على مواميس بالواو، وجمع في الطريق المذكورة بالتحتانية، وأنكره ابن الخشاب أيضا ووجهه غيره كما تقدم في أواخر الصلاة وجوز صاحب "المطالع" فيه الهمزة بدل الياء بل أثبتها رواية، ووقع في رواية الأعرج "فقالت أبيت أن تطلع إلى وجهك، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة". قوله : "فتعرضت له امرأة فكلمته فأبى، فأتت راعيا فأمكنته من نفسها" في رواية وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عند أحمد "فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج، فقالت بغي منهم: إن شئتم لأفتننه، قالوا قد شئنا. فأتته فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأمكنت نفسها من راع كان يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج" ولم أقف على اسم هذه المرأة، لكن في حديث عمران بن حصين أنها كانت بنت ملك القرية. وفي رواية الأعرج "وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم" ونحوه في رواية أبي رافع عند أحمد. وفي رواية أبي سلمة "وكان عند صومعته راعي ضأن وراعية معزى" ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها خرجت من دار أبيها بغير علم أهلها متنكرة وكانت تعمل الفساد إلى أن ادعت أنها تستطيع أن تفتن جريجا فاحتالت بأن خرجت في صورة راعية ليمكنها أن تأوي إلى ظل صومعته لتتوصل بذلك إلى فتنته. قوله: "فولدت غلاما" فيه حذف تقديره فحملت حتى انقضت أيامها فولدت، وكذا قوله: "فقالت من جريج" فيه حذف تقديره فسئلت ممن هذا؟ فقالت من جريج. وفي رواية أبي رافع التصريح بذلك ولفظه: "فقيل لها ممن هذا؟ فقالت هو من صاحب الدير" وزاد في رواية أحمد "فأخذت، وكان من زنى منهم قتل فقيل لها ممن هذا؟ قالت هو من صاحب الصومعة" زاد الأعرج "نزل إلي من صومعته" وفي رواية الأعرج "فقيل لها من صاحبك؟ قالت جريج الراهب، نزل إلي فأصابني" زاد أبو سلمة في روايته: "فذهبوا إلى الملك فأخبروه، قال: أدركوه فأتوني به". قوله: "فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه". وفي رواية أبي رافع "فأقبلوا بفؤوسهم ومساحيهم إلى الدير فنادوه فلم يكلمهم، فأقبلوا يهدمون ديره" وفي حديث عمران "فما شعر حتى سمع بالفئوس في أصل صومعته فجعل يسألهم: ويلكم ما لكم؟ فلم يجيبوه، فلما رأى ذلك أخذ الحبل فتدلى". قوله: "وسبوه" زاد أحمد عن وهب ابن جرير "وضربوه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: إنك زنيت بهذه" وفي رواية أبي رافع عنده "فقالوا أي جريج انزل، فأبى يقبل على صلاته، فأخذوا في هدم صومعته، فلما رأى ذلك نزل فجعلوا في عنقه وعنقها حبلا وجعلوا يطوفون بهما في الناس". وفي رواية أبي سلمة "فقال له الملك: ويحك يا جريج، كنا نراك
(6/481)
خير الناس فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه" وفي حديث عمران "فجعلوا يضربونه ويقولون: مراء تخادع الناس بعملك" وفي رواية الأعرج "فلما مروا به نحو بيت الزواني خرجن ينظرن فتبسم، فقالوا: لم يضحك، حتى مر بالزواني". قوله: "فتوضأ وصلى" وفي رواية وهب بن جرير "فقام وصلى ودعا" وفي حديث عمران "قال فتولوا عني، فتولوا عنه فصلى ركعتين". قوله: "ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ فقال: الراعي" زاد في رواية وهب بن جرير "فطعنه بإصبعه فقال: بالله يا غلام من أبوك؟ فقال: أنا ابن الراعي" وفي مرسل الحسن عند ابن المبارك في "البر والصلة" أنه "سألهم أن ينظروه فأنظروه، فرأى في المنام من أمره أن يطعن في بطن المرأة فيقول: أيتها السخلة من أبوك؟ ففعل، فقال: راعي الغنم" وفي رواية أبي رافع "ثم مسح رأس الصبي فقال: من أبوك؟ قال راعي الضأن" وفي روايته عند أحمد "فوضع إصبعه على بطنها" وفي رواية أبي سلمة "فأتي بالمرأة والصبي وفمه في ثديها فقال له جريج: يا غلام من أبوك؟ فنزع الغلام فاه من الثدي وقال أبي راعي الضأن" وفي رواية الأعرج "فلما أدخل على ملكهم قال جريج: أين الصبي الذي ولدته؟ فأتي به فقال من أبوك؟ قال: فلان، سمى أباه". قلت ولم أقف على اسم الراعي، ويقال إن اسمه صهيب، وأما الابن فتقدم في أواخر الصلاة بلفظ: "فقال يا أبا بوس" وتقدم شرحه أواخر الصلاة وأنه ليس اسمه كما زعم الداودي وإنما المراد به الصغير، وفي حديث عمران "ثم انتهى إلى شجرة فأخذ منها غصنا ثم أتي الغلام وهو في مهده فضربه بذلك الغصن فقال: من أبوك؟" ووقع في "التنبيه لأبي الليث السمرقندي" بغير إسناد أنه قال للمرأة: أين أصبتك؟ قالت: تحت شجرة، فأتى تلك الشجرة فقال: يا شجرة أسألك بالذي خلقك من زنى بهذه المرأة؟ فقال كل غصن منها: راعي الغنم. ويجمع بين هذا الاختلاف بوقوع جميع ما ذكر بأنه مسح رأس الصبي، ووضع إصبعه على بطن أمه، وطعنه بإصبعه، وضربه بطرف العصا التي كانت معه. وأبعد من جمع بينها بتعدد القصة وأنه استنطقه وهو في بطنها مرة قبل أن تلد ثم استنطقه بعد أن ولد، زاد في رواية وهب بن جرير "فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه" وزاد الأعرج في روايته: "فأبرأ الله جريجا وأعظم الناس أمر جريج" وفي رواية أبي سلمة "فسبح الناس وعجبوا". قوله: "قالوا نبني صومعتك من ذهب، قال: لا إلا من طين" وفي رواية وهب بن جرير "ابنوها من طين كما كانت" وفي رواية أبي رافع "فقالوا نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة، قال: لا ولكن أعيدوه كما كان، ففعلوا" وفي نقل أبي الليث "فقال له الملك نبنيها من ذهب، قال: لا. قال من فضة. قال: لا إلا من طين" زاد في رواية أبي سلمة "فردوها فرجع في صومعته، فقالوا له: بالله مم ضحكت؟ فقال ما ضحكت إلا من دعوة دعتها علي أمي" وفي الحديث إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع لأن الاستمرار فيها نافلة وإجابة الأم وبرها واجب، قال النووي وغيره: إنما دعت عليه فأجيبت لأنه كان يمكنه أن يخفف ويجيبها، لكن لعله خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته والعود إلى الدنيا وتعلقاتها، كذا قال النووي، وفيه نظر لما تقدم من أنها كانت تأتيه فيكلمها، والظاهر أنها كانت تشتاق إليه فتزوره وتقتنع برؤيته وتكليمه، وكأنه إنما لم يخفف ثم يجيبها لأنه خشي أن ينقطع خشوعه. وقد تقدم في أواخر الصلاة من حديث يزيد بن حوشب عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو كان جريج فقيها لعلم أن إجابة أمه أولى من عبادة ربه" أخرجه الحسن بن سفيان، وهذا إذا حمل على إطلاقه استفيد منه جواز قطع الصلاة مطلقا لإجابة نداء الأم نفلا كانت أو فرضا، وهو وجه في مذهب الشافعي حكاه الروياني. وقال النووي تبعا لغيره: هذا محمول على
(6/482)
أنه كان مباحا في شرعهم، وفيه نظر قدمته في أواخر الصلاة، والأصح عند الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلا وعلم تأذي الوالد بالترك وجبت الإجابة وإلا فلا، وإن كانت فرضا وضاق الوقت لم تجب الإجابة، وإن لم يضق وجب عند إمام الحرمين. وخالفه غيره لأنها تلزم بالشروع، وعند المالكية أن إجابة الوالد في النافلة أفضل من التمادي فيها، وحكى القاضي أبو الوليد أن ذلك يختص بالأم دون الأب، وعند ابن أبي شيبة من مرسل محمد بن المنكدر ما يشهد له وقال به مكحول، وقيل إنه لم يقل به من السلف غيره. وفي الحديث أيضا عظم بر الوالدين وإجابة دعائهما ولو كان الولد معذورا؛ لكن يختلف الحال في ذلك بحسب المقاصد. وفيه الرفق بالتابع إذا جرى منه ما يقتضي التأديب لأن أم جريج مع غضبها منه لم تدع عليه إلا بما دعت به خاصة، ولولا طلبها الرفق به لدعت عليه بوقوع الفاحشة أو القتل. وفيه أن صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن. وفيه قوة يقين جريج المذكور وصحة رجائه، لأنه استنطق المولود مع كون العادة أنه لا ينطق؛ ولولا صحة رجائه بنطقه ما استنطقه. وفيه أن الأمرين إذا تعارضا بدئ بأهمهما، وأن الله يجعل لأوليائه عند ابتلائهم مخارج، وإنما يتأخر ذلك عن بعضهم في بعض الأوقات تهذيبا وزيادة لهم في الثواب. وفيه إثبات كرامات الأولياء، ووقوع الكرامة لهم باختيارهم وطلبهم. وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون جريج كان نبيا فتكون معجزة، كذا قال، وهذا الاحتمال لا يتأتى في حق المرأة التي كلمها ولدها المرضع كما في بقية الحديث. وفيه جواز الأخذ بالأشد في العبادة لمن علم من نفسه قوة على ذلك. واستدل به بعضهم على أن بني إسرائيل كان من شرعهم أن المرأة تصدق فيما تدعيه على الرجال من الوطء ويلحق به الولد، وأنه لا ينفعه جحد ذلك إلا بحجة تدفع قولها. وفيه أن مرتكب الفاحشة لا تبقى له حرمة، وأن المفزع في الأمور المهمة إلى الله يكون بالتوجه إليه في الصلاة. واستدل بعض المالكية بقول جريج "من أبوك يا غلام" بأن من زنى بامرأة فولدت بنتا لا يحل له التزوج بتلك البنت خلافا للشافعية ولابن الماجشون من المالكية. ووجه الدلالة أن جريجا نسب ابن الزنا للزاني وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق المولود بشهادته له بذلك، وقوله أبي فلان الراعي، فكانت تلك النسبة صحيحة فيلزم أن يجري بينهما أحكام الأبوة والبنوة، خرج التوارث والولاء بدليل فبقي ما عدا ذلك على حكمه. وفيه أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة خلافا لمن زعم ذلك، وإنما الذي يختص بها الغرة والتحجيل في الآخرة، وقد تقدم في قصة إبراهيم أيضا مثل ذلك في خبر سارة مع الجبار والله أعلم. قوله: "وكانت امرأة" بالرفع، ولم أقف على اسمها ولا على اسم ابنها ولا على اسم أحد ممن ذكر في القصة المذكورة. قوله: "إذ مر بها راكب" وفي رواية خلاس عن أبي هريرة عند أحمد "فارس متكبر". قوله: "ذو شارة" بالشين المعجمة أي صاحب حسن وقيل: صاحب هيئة ومنظر وملبس حسن يتعجب منه ويشار إليه. وفي رواية خلاس "ذو شارة حسنة". قوله: "قال أبو هريرة كأني أنظر" هو موصول بالإسناد المذكور، وفيه المبالغة في إيضاح الخبر بتمثيله بالفعل. قوله: "ثم مر" بضم الميم على البناء للمجهول. قوله: "بأمة" زاد أحمد عن وهب بن جرير "تضرب" وفي رواية الأعرج عن أبي هريرة الآتية في ذكر بني إسرائيل "تجرر ويلعب بها" وهي بجيم مفتوحة بعدها راء ثقيلة ثم راء أخرى. قوله: "فقالت له ذلك" أي سألت الأم ابنها عن سبب كلامه. قوله: "قال الراكب جبار" في رواية أحمد "فقال يا أمتاه، أما الراكب ذو الشارة فجبار من الجبابرة" وفي رواية الأعرج فإنه كافر. قوله: "يقولون سرقت زنيت" بكسر المثناة فيهما على المخاطبة وبسكونها على الخبر. قوله: "ولم تفعل" في رواية
(6/483)
أحمد "يقولون سرقت ولم تسرق، زنيت ولم تزن، وهي تقول حسبي الله" وفي رواية الأعرج "يقولون لها تزني وتقول حسبي الله، ويقولون لها تسرق وتقول حسبي الله" ووقع في رواية خلاس المذكورة أنها كانت حبشية أو زنجية وأنها ماتت فجروها حتى ألقوها، وهذا معنى قوله في رواية الأعرج "تجرر". وفي الحديث أن نفوس أهل الدنيا تقف مع الخيال الظاهر فتخاف سوء الحال، بخلاف أهل التحقيق فوقوفهم مع الحقيقة الباطنة فلا يبالون بذلك مع حسن السريرة كما قال تعالى حكاية عن أصحاب قارون حيث خرج عليهم {يا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ... وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} . وفيه أن البشر طبعوا على إيثار الأولاد على الأنفس بالخير لطلب المرأة الخير لابنها ودفع الشر عنه ولم تذكر نفسها. حديث أبي هريرة في ذكر موسى وعيسى وقد تقدم في قصة موسى من هذا الوجه، لكن زاد هنا إسنادا آخر فقال: "حدثنا محمود وهو ابن غيلان عن عبد الرزاق" وساقه على لفظه، وكان ساقه هناك على لفظ هشام بن يوسف، وقوله في هذه الرواية: "فإذا رجل حسبته قال مضطرب" القائل "حسبته" هو عبد الرزاق، والمضطرب الطويل غير الشديد، وقيل الخفيف اللحم، وتقدم في رواية هشام بلفظ: "ضرب" وفسر بالنحيف، ولا منافاة بينهما. وقال ابن التين: هذا الوصف مغاير لقوله بعد هذا "إنه جسيم" يعني في الرواية التي بعد هذه. وقال: والذي وقع نعته بأنه جسيم إنما هو الدجال. وقال عياض: رواية من قال: "ضرب" أصح من رواية من قال: "مضطرب" لما فيها من الشك، قال وقد وقع في الرواية الأخرى "جسيم" وهو ضد الضرب، إلا أن يراد بالجسيم الزيادة في الطول. وقال التيمي: لعل بعض لفظ هذا الحديث دخل في بعض، لأن الجسيم إنما ورد في صفة الدجال لا في صفة موسى انتهى. والذي يتعين المصير إليه ما جوزه عياض أن المراد بالجسيم في صفة موسى الزيادة في الطول، ويؤيده قوله في الرواية التي بعد هذه "كأنه من رجال الزط" وهم طوال غير غلاظ، ووقع في حديث الإسراء وهو في بدء الخلق "رأيت موسى جعدا طوالا" واستنكره الداودي فقال: لا أراه محفوظا لأن الطويل لا يوصف بالجعد وتعقب بأنهما لا يتنافيان. وقال النووي: الجعودة في صفة موسى جعودة الجسم وهو اكتنازه واجتماعه لا جعودة الشعر لأنه جاء أنه كان رجل الشعر. قوله في صفة عيسى: "ربعة" هو بفتح الراء وسكون الموحدة ويجوز فتحها وهو المربوع، والمراد أنه ليس بطويل جدا ولا قصير جدا بل وسط، وقوله: "من ديماس" هو بكسر المهملة وسكون التحتانية وآخره مهملة. قوله: "يعني الحمام" هو تفسير عبد الرزاق، ولم يقع ذلك في رواية هشام، والديماس في اللغة السرب، ويطلق أيضا على الكن، والحمام من جملة الكن. المراد من ذلك وصفه بصفاء اللون ونضارة الجسم وكثرة ماء الوجه حتى كأنه كان في موضع كن فخرج منه وهو عرقان، وسيأتي في رواية ابن عمر بعد هذا "ينطف رأسه ماء" وهو محتمل لأن يراد الحقيقة، وأنه عرق حتى قطر الماء من رأسه، ويحتمل أن يكون كناية عن مزيد نضارة وجهه، ويؤيده أن في رواية عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة عند أحمد وأبي داود "يقطر رأسه ماء وإن لم يصبه بلل". قوله: "وأتيت بإناءين" يأتي الكلام عليه في الكلام على الإسراء في السيرة النبوية إن شاء الله تعالى. قوله: "أخبرنا عثمان بن المغيرة" هو الثقفي مولاهم الكوفي ويقال له عثمان بن أبي زرعة، وهو ثقة من صغار التابعين، وليس له في البخاري غير هذا الحديث الواحد. قوله: "عن ابن عمر" كذا وقع في جميع الروايات التي وقعت لنا من نسخ البخاري، وقد تعقبه أبو ذر في روايته فقال: كذا وقع في جميع الروايات المسموعة عن الفربري "مجاهد عن ابن عمر". قال: ولا
(6/484)
أدري أهكذا حدث به البخاري أو غلط فيه الفربري لأني رأيته في جميع الطرق عن محمد بن كثير وغيره عن مجاهد عن ابن عباس، ثم ساقه بإسناده إلى حنبل بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن كثير. وقال فيه ابن عباس. قال: وكذا رواه عثمان بن سعيد الدارمي عن محمد بن كثير قال: وتابعه نصر بن علي عن أبي أحمد الزبيري عن إسرائيل، وكذا رواه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن إسرائيل انتهى. وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبراني عن أحمد بن مسلم الخزاعي عن محمد بن كثير وقال: رواه البخاري عن محمد بن كثير فقال مجاهد عن ابن عمر، ثم ساقه من طريق نصر بن علي عن أبي أحمد الزبيري عن إسرائيل فقال ابن عباس انتهى. وأخرجه ابن منده في "كتاب الإيمان" من طريق محمد بن أيوب بن الضريس وموسى بن سعيد الدنداني كلاهما عن محمد بن كثير فقال فيه ابن عباس ثم قال: قال البخاري عن محمد بن كثير عن ابن عمر والصواب عن ابن عباس. وقال أبو مسعود في "الأطراف" إنما رواه الناس عن محمد بن كثير فقال مجاهد عن ابن عباس، ووقع في البخاري في سائر النسخ مجاهد عن ابن عمر وهو غلط، قال: وقد رواه أصحاب إسرائيل منهم يحيى بن أبي زائدة وإسحاق بن منصور والنضر بن شميل وآدم بن أبي إياس وغيرهم عن إسرائيل فقالوا ابن عباس قال: وكذلك رواه ابن عون عن مجاهد عن ابن عباس انتهى. ورواية ابن عون تقدمت في ترجمة إبراهيم عليه السلام، ولكن لا ذكر لعيسى عليه السلام فيها. وأخرجها مسلم عن شيخ البخاري فيها وليس فيها لعيسى ذكر إنما فيها ذكر إبراهيم وموسى حسب. وقال محمد بن إسماعيل التيمي: ويقع في خاطري أن الوهم فيه من غير البخاري فإن الإسماعيلي أخرجه من طريق نصر بن علي عن أبي أحمد وقال فيه عن ابن عباس ولم ينبه على أن البخاري قال فيه عن ابن عمر، فلو كان وقع كذلك لنبه عليه كعادته، والذي يرجع أن الحديث لابن عباس لا لابن عمر ما سيأتي من إنكار ابن عمر على من قال إن عيسى أحمر وحلفه على ذلك. وفي رواية مجاهد هذه "فأما عيسى فأحمر جعد" فهذا يؤيد أن الحديث لمجاهد عن ابن عباس لا عن ابن عمر، والله أعلم. قوله: "سبط" بفتح المهملة وكسر الموحدة أي ليس بجعد، وهذا نعت لشعر رأسه. قوله: "كأنه من رجال الزط" بضم الزاي وتشديد المهملة جنس من السودان، وقيل: هم نوع من الهنود وهم طوال الأجسام مع نحافة فيها، وقد زعم ابن التين أن قوله في صفة موسى "جسيم"، مخالف لقوله في الرواية الأخرى في ترجمته "ضرب من الرجال" أي خفيف اللحم قال فلعل راوي الحديث دخل له بعض لفظه في بعض، لأن الجسيم ورد في صفة الدجال. وأجيب بأنه لا مانع أن يكون مع كونه خفيف اللحم جسيما بالنسبة لطوله، فلو كان غير طويل لاجتمع لحمه وكان جسيما. حديث ابن عمر في ذكر عيسى والدجال، أورده من طريق نافع عنه من وجهين موصولة ومعلقة، ومن طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن عقبة. قوله: "بين ظهراني" بفتح الظاء المعجمة وسكون الهاء بلفظ التثنية أي جالسا في وسط الناس، والمراد أنه جلس بينهم مستظهرا لا مستخفيا، وزيدت فيه الألف والنون تأكيدا، أو معناه أن ظهرا منه قدامه وظهرا خلفه وكأنهم حفوا به من جانبيه فهذا أصله، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين قوم مطلقا، ولهذا زعم بعضهم أن لفظة ظهراني في هذا الموضع زائدة. قوله: "ألا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأنه عينه عنبة طافية" أي بارزة، وهو من طفا الشيء يطفا بغير همز إذا علا على غيره وشبهها بالعنبة التي تقع في العنقود بارزة عن نظائرها، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الفتن. قوله: "وأراني" بفتح الهمزة، ذكر بلفظ المضارعة مبالغة في استحضار صورة الحال. قوله: "آدم" بالمد أي
(6/485)
باب نزول عيسى بن مريم عليهما السلام
...
49 - باب نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم
3448- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ
أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ
(6/490)
فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا
عَدْلًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ
وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ
الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثُمَّ يَقُولُ أَبُو
هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
شَهِيدًا}.
3449- حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا
نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ". تَابَعَهُ عُقَيْلٌ
وَالأَوْزَاعِيُّ.
قوله: "نزول عيسى ابن مريم" يعني في أواخر الزمان، كذا لأبي ذر بغير
"باب" وأثبته غيره. وذكر فيه المصنف حديثين عن أبي هريرة. أحدهما: حديث:
"والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم" الحديث. قوله:
"حدثنا إسحاق" هو ابن إبراهيم المعروف بابن راهويه، وإنما جزمت بذلك مع
تجويز أبي علي الجياني أن يكون هو أو إسحاق بن منصور لتعبيره بقوله أخبرنا يعقوب
بن إبراهيم لأن هذه العبارة يعتمدها إسحاق بن راهويه كما عرف بالاستقراء من عادته
أنه لا يقول إلا "أخبرنا" ولا يقول: "حدثنا" وقد أخرج أبو
نعيم في "المستخرج" هذا الحديث من مسند إسحاق بن راهويه وقال:
"أخرجه البخاري عن إسحاق". قوله: "أخبرنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا
أبي" هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. قوله: "والذي
نفسي بيده" فيه الحلف في الخبر مبالغة في تأكيده. قوله: "ليوشكن"
بكسر المعجمة أي ليقربن أي لا بد من ذلك سريعا. قوله: "أن ينزل فيكم" أي
في هذه الأمة، "فإنه خطاب لبعض الأمة ممن لا يدرك نزوله. قوله:
"حكما" أي حاكما، والمعنى أنه ينزل حاكما بهذه الشريعة فإن هذه الشريعة
باقية لا تنسخ، بل يكون عيسى حاكما من حكام هذه الأمة. وفي رواية الليث عن ابن
شهاب عند مسلم: "حكما مقسطا" وله من طريق ابن عيينة عن ابن شهاب
"إماما مقسطا" والمقسط العادل بخلاف القاسط فهو الجائر. ولأحمد من وجه
آخر عن أبي هريرة "أقرءوه من رسول الله السلام" وعند أحمد من حديث عائشة
"ويمكث عيسى في الأرض أربعين سنة" وللطبراني من حديث عبد الله بن مغفل
"ينزل عيسى ابن مريم مصدقا بمحمد على ملته". قوله: "فيكسر الصليب
ويقتل الخنزير" أي يبطل دين النصرانية بأن يكسر الصليب حقيقة ويبطل ما تزعمه
النصارى من تعظيمه، ويستفاد منه تحريم اقتناء الخنزير وتحريم أكله وأنه نجس، لأن
الشيء المنتفع به لا يشرع إتلافه، وقد تقدم ذكر شيء من ذلك في أواخر البيوع. ووقع
للطبراني في "الأوسط" من طريق أبي صالح عن أبي هريرة "فيكسر الصليب
ويقتل الخنزير والقرد" زاد فيه القرد وإسناده لا بأس به، وعلى هذا فلا يصح
الاستدلال به على نجاسة عين الخنزير لأن القرد ليس بنجس العين اتفاقا، ويستفاد منه
أيضا تغيير المنكرات وكسر آلة الباطل. ووقع في رواية عطاء بن ميناء عن أبي هريرة
عند مسلم: "ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد". قوله: "ويضع
الحرب" في رواية الكشميهني: "الجزية"، والمعنى أن الدين يصير واحدا
فلا يبقى أحد من أهل الذمة يؤدي الجزية، وقيل معناه أن المال يكثر حتى لا يبقى من يمكن
صرف مال الجزية له فتترك الجزية استغناء عنها. وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد
بوضع الجزية تقريرها على الكفار من غير محاباة، ويكون كثرة المال بسبب ذلك.
(6/491)
وتعقبه النووي وقال: الصواب أن عيسى لا يقبل إلا الإسلام. قلت: ويؤيده أن عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة "وتكون الدعوى واحدة" قال النووي: ومعنى وضع عيسى الجزية مع أنها مشروعة في هذه الشريعة أن مشروعيتها مقيدة بنزول عيسى لما دلَّ عليه هذا الخبر، وليس عيسى بناسخ لحكم الجزية بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ بقوله هذا، قال ابن بطال: وإنما قبلناها قبل نزول عيسى للحاجة إلى المال بخلاف زمن عيسى فإنه لا يحتاج فيه إلى المال فإن المال في زمنه يكثر حتى لا يقبله أحد، ويحتمل أن يقال إن مشروعية قبولها من اليهود والنصارى لما في أيديهم من شبهة الكتاب وتعلقهم بشرع قديم بزعمهم، فإذا نزل عيسى عليه السلام زالت الشبهة بحصول معاينته فيصيرون كعبدة الأوثان في انقطاع حجتهم وانكشاف أمرهم، فناسب أن يعاملوا معاملتهم في عدم قبول الجزية منهم. هكذا ذكره بعض مشايخنا احتمالا والله أعلم. قوله: "ويفيض المال" بفتح أوله وكسر الفاء وبالضاد المعجمة أي يكثر. وفي رواية عطاء بن ميناء المذكور "وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد" وسبب كثرته نزول البركات وتوالي الخيرات بسبب العدل وعدم الظلم وحينئذ تخرج الأرض كنوزها وتقل الرغبات في اقتناء المال لعلمهم بقرب الساعة. قوله: "حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها" أي أنهم حينئذ لا يتقربون إلى الله إلا بالعبادة، لا بالتصدق بالمال، وقيل: معناه أن الناس يرغبون عن الدنيا حتى تكون السجدة الواحدة أحب إليهم من الدنيا وما فيها. وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري بهذا الإسناد في هذا الحديث: "حتى تكون السجدة واحدة لله رب العالمين". قوله: "ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية" هو موصول بالإسناد المذكور، قال ابن الجوزي: إنما تلا أبو هريرة هذه الآية للإشارة إلى مناسبتها لقوله: "حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها" فإنه يشير بذلك إلى صلاح الناس وشدة إيمانهم وإقبالهم على الخير، فهم لذلك يؤثرون الركعة الواحدة على جميع الدنيا. والسجدة تطلق ويراد بها الركعة، قال القرطبي: معنى الحديث أن الصلاة حينئذ تكون أفضل من الصدقة لكثرة المال إذ ذاك وعدم الانتفاع به حتى لا يقبله أحد. قوله في الآية: "وإن" بمعنى ما، أي لا يبقى أحد من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى إذا نزل عيسى إلا آمن به، وهذا مصير من أبي هريرة إلى أن الضمير في قوله: "إلا ليؤمنن به" وكذلك في قوله: "قبل موته" عود على عيسى، أي إلا ليؤمن بعيسى قبل موت عيسى، وبهذا جزم ابن عباس فيما رواه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عنه بإسناد صحيح، ومن طريق أبي رجاء عن الحسن قال قبل موت عيسى: والله إنه الآن لحي ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون، ونقله عن أكثر أهل العلم ورجحه ابن جرير وغيره. ونقل أهل التفسير في ذلك أقوالا أخر وأن الضمير في قوله: "به" يعود لله أو لمحمد، وفي "موته" يعود على الكتابي على القولين، وقيل: على عيسى. وروى ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس "لا يموت يهودي ولا نصراني حتى يؤمن بعيسى، فقال له عكرمة: أرأيت إن خر من بيت أو احترق أو أكله السبع؟ قال: لا يموت حتى يحرك شفتيه بالإيمان بعيسى" وفي إسناده خصيف وفيه ضعف. ورجح جماعة هذا المذهب بقراءة أبي بن كعب "إلا ليؤمنن به قبل موتهم" أي أهل الكتاب. قال النووي: معنى الآية على هذا ليس من أهل الكتاب أحد يحضره الموت إلا آمن عند المعاينة قبل خروج روحه بعيسى وأنه عبد الله وابن أمته، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان في تلك الحالة كما قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} قال: وهذا المذهب
(6/492)
أظهر لأن الأول يخص الكتابي الذي يدرك نزول عيسى، وظاهر القرآن عمومه في كل كتابي في زمن نزول عيسى وقبله. قال العلماء: الحكمة في نزول عيسى دون غيره من الأنبياء الرد على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه، فبين الله تعالى كذبهم وأنه الذي يقتلهم، أو نزوله لدنو أجله ليدفن في الأرض، إذ ليس لمخلوق من التراب أن يموت في غيرها. وقيل: إنه دعا الله لما رأى صفة محمد وأمته أن يجعله منهم فاستجاب الله دعاءه وأبقاه حتى ينزل في آخر الزمان مجددا لأمر الإسلام، فيوافق خروج الدجال، فيقتله، والأول أوجه. وروى مسلم من حديث ابن عمر في مدة إقامة عيسى بالأرض بعد نزوله أنها سبع سنين، وروى نعيم بن حماد في "كتاب الفتن" من حديث ابن عباس أن عيسى إذ ذاك يتزوج في الأرض ويقيم بها تسع عشرة سنة، وبإسناد فيهم مبهم عن أبي هريرة يقيم بها أربعين سنة، وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح من طريق عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة مثله مرفوعا. وفي هذا الحديث: "ينزل عيسى عليه ثوبان ممصران فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل وتلعب الصبيان بالحيات - وقال في آخره - ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون" وروى أحمد ومسلم من طريق حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة "ليهلن ابن مريم بفج الروحاء بالحج والعمرة" الحديث. وفي رواية لأحمد من هذا الوجه: ينزل عيسى فيقتل الخنزير ويمحي الصليب وتجمع له الصلاة ويعطي المال حتى لا يقبل ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما وتلا أبو هريرة {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} الآية. قال حنظلة قال أبو هريرة: يؤمن به قبل موت عيسى. وقد اختلف في موت عيسى عليه السلام قبل رفعه، والأصل فيه قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فقيل على ظاهره، وعلى هذا فإذا نزل إلى الأرض ومضت المدة المقدرة له يموت ثانيا. وقيل: معنى قوله: "متوفيك" من الأرض، فعلى هذا لا يموت إلا في آخر الزمان. واختلف في عمره حين رفع فقيل ابن ثلاث وثلاثين وقيل مائة وعشرين. قوله: "عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري" هو أبو محمد بن عياش الأقرع، قال ابن حبان هو مولى امرأة من غفار وقيل له مولى أبي قتادة لملازمته له. قلت: وليس له عن أبي هريرة في الصحيح سوى هذا الحديث الواحد. قوله: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم" سقط قوله: "فيكم" من رواية أبي ذر. قوله: "تابعه عقيل والأوزاعي" يعني تابعا يونس عن ابن شهاب في هذا الحديث، فأما متابعة عقيل فوصلها ابن منده في "كتاب الإيمان" من طريق الليث عنه ولفظه مثل سياق أبي ذر سواء، وأما متابعة الأوزاعي فوصلها ابن منده أيضا وابن حبان والبيهقي في "البعث" وابن الأعرابي في معجمه من طرق عنه ولفظه مثل رواية يونس، وقد أخرجه مسلم من طريق ابن أبي ذئب عن ابن شهاب بلفظ: "وأمكم منكم" قال الوليد بن مسلم: فقلت لابن أبي ذئب إن الأوزاعي حدثنا عن الزهري فقال: "وإمامكم منكم" قال ابن أبي ذئب أتدري ما أمكم منكم؟ قلت تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم. وأخرجه مسلم من رواية ابن أخي الزهري عن عمه بلفظ: "كيف بكم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمكم" وعند أحمد من حديث جابر في قصة الدجال ونزول عيسى "وإذا هم بعيسى، فيقال تقدم يا روح الله، فيقول ليتقدم إمامكم فليصل بكم" ولابن ماجه في حديث أبي أمامة الطويل في الدجال قال: "وكلهم أي المسلمون ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح قد تقدم ليصلي بهم، إذ نزل عيسى فرجع الإمام ينكص ليتقدم عيسى، فيقف عيسى بين كتفيه ثم يقول: تقدم فإنها لك أقيمت" وقال أبو الحسن الخسعي الآبدي في مناقب الشافعي: تواترت
(6/493)
الأخبار بأن المهدي من هذه الأمة وأن عيسى يصلي خلفه، ذكر ذلك ردا للحديث الذي أخرجه ابن ماجه عن أنس وفيه: "ولا مهدي إلا عيسى" وقال أبو ذر الهروي: حدثنا الجوزقي عن بعض المتقدمين قال: معنى قوله: "وإمامكم منكم" يعني أنه يحكم بالقرآن لا بالإنجيل. وقال ابن التين: معنى قوله: "وإمامكم منكم" أن الشريعة المحمدية متصلة إلى يوم القيامة، وأن في كل قرن طائفة من أهل العلم. وهذا والذي قبله لا يبين كون عيسى إذا نزل يكون إماما أو مأموما، وعلى تقدير أن يكون عيسى إماما فمعناه أنه يصير معكم بالجماعة من هذه الأمة. قال الطيبي: المعنى يؤمكم عيسى حال كونه في دينكم. ويعكر عليه قوله في حديث آخر عند مسلم: "فيقال له: صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة لهذه الأمة" وقال ابن الجوزي: لو تقدم عيسى إماما لوقع في النفس إشكال ولقيل: أتراه تقدم نائبا أو مبتدئا شرعا، فصلى مأموما لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه قوله: "لا نبي بعدي". وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال أن الأرض لا تخلو عن قائم لله بحجة. والله أعلم.
(6/494)
50 - باب مَا ذُكِرَ عَنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ
3450- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو
لِحُذَيْفَةَ أَلاَ تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ مَعَ
الدَّجَّالِ إِذَا خَرَجَ مَاءً وَنَارًا فَأَمَّا الَّذِي يَرَى النَّاسُ
أَنَّهَا النَّارُ فَمَاءٌ بَارِدٌ وَأَمَّا الَّذِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ مَاءٌ
بَارِدٌ فَنَارٌ تُحْرِقُ فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَى
أَنَّهَا نَارٌ فَإِنَّهُ عَذْبٌ بَارِدٌ".
[الحديث 3450 – طرفه في: 7130]
3451- قَالَ حُذَيْفَةُ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَقِيلَ لَهُ هَلْ عَمِلْتَ مِنْ
خَيْرٍ قَالَ مَا أَعْلَمُ قِيلَ لَهُ انْظُرْ قَالَ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ
أَنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ فَأُنْظِرُ
الْمُوسِرَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ
الْجَنَّةَ".
3452- فَقَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا
يَئِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إِذَا أَنَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي
حَطَبًا كَثِيرًا وَأَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي
وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَامْتُحِشَتْ فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا ثُمَّ انْظُرُوا
يَوْمًا رَاحًا فَاذْرُوهُ فِي الْيَمِّ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ
لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ قَالَ
عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَاكَ وَكَانَ نَبَّاشًا".
[الحديث 3454 – طرفاه في: 3479، 6480]
3453، 3454- حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَيُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ قَالاَ: "لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ
(6/494)
خَمِيصَةً عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا
اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ
مَا صَنَعُوا".
3455- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ
قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ
وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالُوا فَمَا
تَأْمُرُنَا قَالَ فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ
فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ".
3456- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ
حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا
بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ؟ ".
[الحديث 4356 – طرفه في: 7320]
3457- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ
حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: "ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ فَذَكَرُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى فَأُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ
الإِقَامَةَ".
3458- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ
عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
"كَانَتْ تَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ فِي خَاصِرَتِهِ وَتَقُولُ إِنَّ الْيَهُودَ
تَفْعَلُهُ".
تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ
3459- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلاَ مِنْ
الأُمَمِ مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ وَإِنَّمَا
مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا
فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ
الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ثُمَّ قَالَ مَنْ
يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ
قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ
عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ
إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ أَلاَ فَأَنْتُمْ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى
قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ أَلاَ لَكُمْ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ فَغَضِبَتْ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً
(6/495)
قَالَ اللَّهُ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ
حَقِّكُمْ شَيْئًا قَالُوا لاَ قَالَ فَإِنَّهُ فَضْلِي أُعْطِيهِ مَنْ
شِئْتُ".
3460- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو
عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
يَقُولُ: "قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَنًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ
الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا". تَابَعَهُ جَابِرٌ وَأَبُو
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3461- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَخْبَرَنَا
الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَلاَ حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ
النَّارِ".
3462- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ أَبُو
سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ".
[الحديث 3462 – طرفه في: 5899]
3463- حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ
الْحَسَنِ حَدَّثَنَا جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ وَمَا
نَسِينَا مُنْذُ حَدَّثَنَا وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ
فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ
الْجَنَّةَ".
قوله: "باب ما ذكر عن بني إسرائيل" أي ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم،
وإسرائيل لقب يعقوب، أي من الأعاجيب التي كانت في زمانهم. ذكر فيه أربعة وثلاثين
حديثا: الحديث الأول: وهو يشتمل على ثلاثة أحاديث. وقوله: "حدثنا موسى بن
إسماعيل" هذا هو الصواب. ولبعضهم "حدثنا مسدد" بدل
"موسى" وليس بصواب لأن رواية مسدد ستأتي في آخر هذا الباب موصولة،
ورواية موسى معلقة من أجل كلمة اختلفا فيها على أبي عوانة وكلام أبي علي الغساني
يوهم أن ذلك وقع هنا وليس كذلك. وقوله: "حدثنا عبد الملك" هو ابن عمير.
قوله: "قال عقبة بن عمرو" هو أبو مسعود الأنصاري المعروف بالبدري. قوله:
"إن مع الدجال إذا خرج ماء" الحديث يأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب
الفتن، والغرض منه هنا إيراد ما يليه وهو قصة الرجل الذي كان يبايع الناس، وقصة
الرجل الذي أوصى بنيه أن يحرقوه. فأما قصة الذي كان يبايع الناس فقد أوردها أيضا
في أواخر هذا الباب من حديث أبي هريرة، وتقدم الكلام عليه في أثناء كتاب البيوع،
وقوله في هذه الرواية: "كنت أبايع الناس في الدنيا وأجازيهم"، أي
أقاضيهم، والمجازاة المقاضاة، أي آخذ منهم وأعطي. ووقع في رواية الإسماعيلي:
"وأجازفهم"
(6/496)
بالجيم والزاي والفاء. وفي أخرى بالمهملة والراء، وكلاهما تصحيف لا يظهر، والله أعلم. وأما قصة الذي أوصى بنيه أن يحرقوه فسيأتي الكلام عليها في أواخر هذا الباب حيث أورده المصنف مفردا إن شاء الله تعالى. قوله: "فامتحشت" بضم المثناة وكسر المهملة بعدها معجمة أي احترقت، ولبعضهم بوزن احترقت وهو أشبه. وقوله: "ثم انظروا يوما راحا" أي شديد الريح. قوله في آخره: "قال عقبة بن عمرو، وأنا سمعته" يعني النبي صلى الله عليه وسلم "يقول ذاك، وكان نباشا" ظاهره أن الذي سمعه أبو مسعود هو الحديث الأخير فقط، لكن تبين من رواية شعبة عن عبد الملك بن عمير أنه سمع الجميع، فإنه أورد في الفتن قصة الذي كان يبايع الناس من حديث حذيفة. وقال في آخره: "قال أبو مسعود وأنا سمعته" وكذلك قال في حديث الذي أوصى بنيه كما سيأتي في أواخر هذا الباب، وقوله: "وكان نباشا" ظاهره أنه من زيادة أبي مسعود في الحديث، لكن أورده ابن حبان من طريق ربعي عن حذيفة قال: "توفي رجل كان نباشا فقال لولده أحرقوني" فدل على أن قوله: وكان نباشا من رواية حذيفة وأبي مسعود معا. ووقع في رواية للطبراني بلفظ: "بينما حذيفة وأبو مسعود جالسين فقال أحدهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن رجلا من بني إسرائيل كان ينبش القبور" فذكره، وعرف منها وجه دخوله في هذا الباب. قوله: "لما نزل" بضم أوله، وفي نسخة عند أبي ذر بفتحتين "برسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني الموت أو ملك الموت، ونقل النووي أنه في مسلم للأكثر بالضم. وفي رواية بزيادة مثناة يعني المنية، أورده مختصرا وقد تقدم بأتم من هذا في الصلاة. ويأتي شرحه في أواخر المغازي إن شاء الله تعالى، والغرض منه ذم اليهود والنصارى في اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، وعبد الله الذي في الإسناد هو ابن المبارك. قوله: "عن فرات القزاز" بقاف وزايين معجمتين وهو فرات بضم الفاء وتخفيف الراء آخره مثناة ابن عبد الرحمن، وأبو حازم هو سلمان الأشجعي. قوله: "تسوسهم الأنبياء" أي أنهم كانوا إذا ظهر فيهم فساد بعث الله لهم نبيا لهم يقيم أمرهم ويزيل ما غيروا من أحكام التوراة، وفيه إشارة إلى أنه لا بد للرعية من قائم بأمورها يحملها على الطريق الحسنة وينصف المظلوم من الظالم. قوله: "وإنه لا نبي بعدي" أي فيفعل ما كان أولئك يفعلون. قوله: "وسيكون خلفاء" أي بعدي، وقوله: "فيكثرون" بالمثلثة وحكى عياض أن منهم من ضبطه بالموحدة وهو تصحيف، ووجه بأن المراد إكبار قبيح فعلهم. قوله: "فوا" فعل أمر بالوفاء، والمعنى أنه إذا بويع الخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها وبيعة الثاني باطلة، قال النووي: سواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول أم لا، سواء كانوا في بلد واحد أو أكثر. سواء كانوا في بلد الإمام المنفصل أم لا. هذا هو الصواب الذي عليه الجمهور، وقيل: تكون لمن عقدت له في بلد الإمام دون غيره، وقيل: يقرع بينهما قال: وهما قولان فاسدان. وقال القرطبي: في هذا الحديث حكم بيعة الأول وأنه يجب الوفاء بها، وسكت عن بيعة الثاني. وقد نص عليه في حديث عرفجة في صحيح مسلم حيث قال: "فاضربوا عنق الآخر". قوله: "أعطوهم حقهم" أي أطيعوهم وعاشروهم بالسمع والطاعة، فإن الله يحاسبهم على ما يفعلونه بكم، وستأتي تتمة القول في ذلك في أوائل كتاب الفتن. قوله: "فإن الله سائلهم عما استرعاهم" هو كحديث ابن عمر المتقدم "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" وسيأتي شرحه في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. وفي الحديث تقديم أمر الدين على أمر الدنيا لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بتوفية حق السلطان لما فيه من إعلاء كلمة الدين وكف الفتنة والشر؛ وتأخير أمر المطالبة بحقه لا يسقطه، وقد وعده الله أنه يخلصه ويوفيه إياه ولو في الدار الآخرة. الحديث
(6/497)
الرابع: حديث أبي سعيد. قوله: "لتتبعن" بضم العين وتشديد النون "سنن" بفتح المهملة أي طريق "من قبلكم" أي الذين قبلكم. قوله: "جحر" بضم الجيم وسكون المهملة "ضب" بفتح المعجمة وتشديد الموحدة دويبة معروفة يقال خصت بالذكر لأن الضب يقال له قاضي البهائم. والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته، ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثارهم واتباعهم طرائقهم لو دخلوا في مثل هذا الضيق الرديء لتبعوهم. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن؟" هو استفهام إنكاري، أي ليس المراد غيرهم، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الاعتصام. الحديث الخامس: حديث أنس "ذكروا النار والناقوس" الحديث أورده مختصرا، وقد مضى شرحه تاما في كتاب الصلاة. الحديث السادس: حديث عائشة "كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته وتقول إن اليهود تفعله" في رواية أبي نعيم من طريق أحمد بن الفرات عن محمد بن يوسف شيخ البخاري فيه بلفظ: "إنها كرهت الاختصار في الصلاة وقالت: إنما يفعل ذلك اليهود" ووقع عند الإسماعيلي من طريق يزيد بن هارون عن سفيان وهو الثوري بهذا الإسناد، يعني وضع اليد على الخاصرة في الصلاة، وقد تقدم البحث في هذه المسألة في أواخر الصلاة في الكلام على حديث أبي هريرة "نهي عن الخصر في الصلاة". قوله: "تابعه شعبة عن الأعمش" وصله ابن أبي شيبة من طريقه. الحديث السابع: حديث ابن عمر "مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا" الحديث، تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصلاة. الحديث الثامن: حديث عمر "قاتل الله فلانا" أورده مختصرا، وقد تقدم تاما في كتاب البيوع في أواخره مع شرحه. قوله: "تابعه جابر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني في تحريم شحوم الميتة دون القصة، فأما حديث جابر فوصله المصنف في أواخر البيوع وفيه غير ذلك، وتقدم شرحه هناك. وأما حديث أبي هريرة فوصله المصنف في أواخر البيوع أيضا من طريق سعيد بن المسيب عنه. قوله: "عن أبي كبشة السلولي" تقدم ذكره في كتاب الهبة في حديث آخر، وليس له في البخاري سوى هذين الحديثين. قوله: "بلغوا عني ولو آية" قال المعافى النهرواني في "كتاب الجليس" له: الآية في اللغة تطلق على ثلاثة معان: العلامة الفاصلة، والأعجوبة الحاصلة، والبلية النازلة. فمن الأول قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} ومن الثاني {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} ومن الثالث جعل الأمير فلانا اليوم آية. ويجمع بين هذه المعاني الثلاثة أنه قيل لها آية لدلالتها وفصلها وإبانتها. وقال في الحديث: "ولو آية" أي واحدة ليسارع كل سامع إلى تبليغ ما وقع له من الآي ولو قل ليتصل بذلك نقل جميع ما جاء به صلى الله عليه وسلم. اهـ كلامه. قوله: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم لأنه كان تقدم منه صلى الله عليه وسلم الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم ثم حصل التوسع في ذلك، وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار، وقيل: معنى قوله: "لا حرج": لا تضيق صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب فإن ذلك وقع لهم كثيرا، وقيل: لا حرج في أن لا تحدثوا عنهم لأن قوله أولا: "حدثوا " صيغة أمر تقتضي الوجوب فأشار إلى عدم الوجوب وأن الأمر فيه للإباحة بقوله: "ولا حرج" أي في ترك التحديث عنهم. وقيل: المراد رفع الحرج عن حاكي ذلك لما في أخبارهم من الألفاظ الشنيعة نحو قولهم {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} وقولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} وقيل: المراد ببني إسرائيل أولاد إسرائيل نفسه وهم أولاد يعقوب، والمراد حدثوا عنهم بقصتهم مع أخيهم يوسف، وهذا أبعد الأوجه. وقال مالك المراد جواز التحدث
(6/498)
عنهم بما كان من أمر حسن، أما ما علم كذبه فلا. وقيل: المعنى حدثوا عنهم بمثل ما ورد في القرآن والحديث الصحيح. وقيل: المراد جواز التحدث عنهم بأي صورة وقعت من انقطاع أو بلاغ لتعذر الاتصال في التحدث عنهم، بخلاف الأحكام الإسلامية فإن الأصل في التحدث بها الاتصال، ولا يتعذر ذلك لقرب العهد. وقال الشافعي: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم وهو نظير قوله: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه. قوله: "ومن كذب علي متعمدا" تقدم شرحه مستوفى في كتاب العلم، وذكرت عدد من رواه وصفة مخارجه بما يغني عن الإعادة. وقد اتفق العلماء على تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه من الكبائر، حتى بالغ الشيخ أبو محمد الجويني فحكم بكفر من وقع منه ذلك، وكلام القاضي أبي بكر بن العربي يميل إليه. وجهل من قال من الكرامية وبعض المتزهدة إن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يجوز فيما يتعلق بتقوية أمر الدين وطريقة أهل السنة والترغيب والترهيب، واعتلوا بأن الوعيد ورد في حق من كذب عليه لا في الكذب له، وهو اعتلال باطل لأن المراد بالوعيد من نقل عنه الكذب سواء كان له أو عليه، والدين بحمد الله كامل غير محتاج إلى تقويته بالكذب. قوله: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم" يقتضي مشروعية الصبغ، والمراد به صبغ شيب اللحية والرأس، ولا يعارضه ما ورد من النهي عن إزالة الشيب لأن الصبغ لا يقتضي الإزالة. ثم إن المأذون فيه مقيد بغير السواد، لما أخرجه مسلم من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "غيروه وجنبوه السواد" ولأبي داود وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس مرفوعا: "يكون قوم في آخر الزمان يخضبون كحواصل الحمام لا يجدون ريح الجنة" وإسناده قوي، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه فمثله لا يقال بالرأي فحكمه الرفع، ولهذا اختار النووي أن الصبغ بالسواد يكره كراهية تحريم. وعن الحليمي أن الكراهة خاصة بالرجال دون النساء فيجوز ذلك للمرأة لأجل زوجها. وقال مالك: الحناء والكتم واسع، والصبغ بغير السواد أحب إلي. ويستثنى من ذلك المجاهد اتفاقا. وليس المراد بالصبغ في هذا الحديث صبغ الثياب ولا خضب اليدين والرجلين بالحناء مثلا لأن اليهود والنصارى لا يتركون ذلك، وقد صرح الشافعية بتحريم لبس الثياب المزعفرة للرجل وبتحريم خضب الرجال أيديهم وأرجلهم إلا للتداوي، وسيأتي بسط القول في ذلك في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا محمد" هو ابن معمر، نسبه ابن السكن عن الفربري، وقيل: هو الذهلي. قوله: "حدثنا حجاج" هو ابن منهال وجرير هو ابن حازم والحسن هو البصري. قوله: "في هذا المسجد" هو مسجد البصرة. قوله: "وما نسينا منذ حدثنا" أشار بذلك إلى تحققه لما حدث به وقرب عهده به واستمرار ذكره له. قوله: "وما نخشى أن يكون جندب كذب" فيه إشارة إلى أن الصحابة عدول، وأن الكذب مأمون من قبلهم ولا سيما على النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "كان فيمن كان قبلكم رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "به جرح" بضم الجيم وسكون الراء بعدها مهملة، وتقدم في الجنائز بلفظ به جراح وهو بكسر الجيم، وذكره بعضهم بضم المعجمة وآخره جيم وهو تصحيف، ووقع في رواية مسلم: "أن رجلا خرجت به قرحة" وهي بفتح القاف وسكون الراء: حبة تخرج في البدن، وكأنه كان به جرح ثم صار قرحة. قوله: "فجزع" أي فلم يصبر على ألم تلك القرحة. قوله: "فأخذ سكينا فحز بها يده" السكين تذكر وتؤنث، وقوله: "حز" بالحاء المهملة والزاي هو القطع
(6/499)
بغير إبانة، ووقع في رواية مسلم:
"فلما آذته انتزع سهما من كنانته فنكأها" وهو بالنون والهمز أي نخس موضع
الجرح، ويمكن الجمع بأن يكون فجر الجرح بذبابة السهم فلم ينفعه فحز موضعه بالسكين،
ودلت رواية البخاري على أن الجرح كان في يده. قوله: "فما رقأ الدم"
بالقاف والهمز أي لم ينقطع. قوله: "قال الله عز وجل: بادرني عبدي بنفسه"
هو كناية عن استعجال المذكور الموت، وسيأتي البحث فيه. وقوله: "حرمت عليه
الجنة" جار مجرى التعليل للعقوبة لأنه لما استعجل الموت بتعاطي سببه من إنفاذ
مقاتله فجعل له فيه اختيارا عصى الله به فناسب أن يعاقبه. ودل ذلك على أنه حزها
لإرادة الموت لا لقصد المداواة التي يغلب على الظن الانتفاع بها. وقد استشكل قوله:
"بادرني بنفسه" وقوله: "حرمت عليه الجنة" لأن الأول يقتضي أن
يكون من قتل فقد مات قبل أجله لما يوهمه سياق الحديث من أنه لو لم يقتل نفسه كان
قد تأخر عن ذلك الوقت وعاش، لكنه بادر فتقدم، والثاني يقتضي تخليد الموحد في
النار.
والجواب عن الأول أن المبادرة من حيث التسبب في ذلك والقصد له والاختيار، وأطلق
عليه المبادرة لوجود صورتها، وإنما استحق المعاقبة لأن الله لم يطلعه على انقضاء
أجله فاختار هو قتل نفسه فاستحق المعاقبة لعصيانه. وقال القاضي أبو بكر: قضاء الله
مطلق ومقيد بصفة، فالمطلق يمضي على الوجه بلا صارف، والمقيد على الوجهين، مثاله أن
يقدر لواحد أن يعيش عشرين سنة إن قتل نفسه وثلاثين سنة إن لم يقتل وهذا بالنسبة
إلى ما يعلم به المخلوق كملك الموت مثلا، وأما بالنسبة إلى علم الله فإنه لا يقع
إلا ما علمه. ونظير ذلك الواجب المخير فالواقع منه معلوم عند الله والعبد مخير في
أي الخصال يفعل، والجواب عن الثاني من أوجه: أحدها: أنه كان استحل ذلك الفعل فصار
كافرا. ثانيها: كان كافرا في الأصل وعوقب بهذه المعصية زيادة على كفره. ثالثها: أن
المراد أن الجنة حرمت عليه في وقت ما كالوقت الذي يدخل فيه السابقون أو الوقت الذي
يعذب فيه الموحدون في النار ثم يخرجون. رابعها: أن المراد جنة معينة كالفردوس
مثلا. خامسها: أن ذلك ورد على سبيل التغليظ والتخويف وظاهره غير مراد. سادسها: أن
التقدير حرمت عليه الجنة إن شئت استمرار ذلك. سابعها: قال النووي يحتمل أن يكون
ذلك شرع من مضى أن أصحاب الكبائر يكفرون بفعلها. وفي الحديث تحريم قتل النفس سواء
كانت نفس القاتل أم غيره، وقتل الغير يؤخذ تحريمه من هذا الحديث بطريق الأولى.
وفيه الوقوف عند حقوق الله ورحمته بخلقه حيث حرم عليهم قتل نفوسهم وأن الأنفس ملك
الله. وفيه التحديث عن الأمم الماضية وفضيلة الصبر على البلاء وترك التضجر من
الآلام لئلا يفضي إلى أشد منها. وفيه تحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى قتل النفس.
وفيه التنبيه على أن حكم السراية على ما يترتب عليه ابتداء القتل. وفيه الاحتياط
في التحديث وكيفية الضبط له والتحفظ فيه بذكر المكان والإشارة إلى ضبط المحدث لمن
حدثه ليركن السامع لذلك، والله أعلم.
(6/500)
باب . حديث أبرص و أعمى و أقرع في بني
إسرائيل
...
51 - حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَعْمَى وَأَقْرَعَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
3464- حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ
حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ
سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح وحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ
(6/500)
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ
يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ أَيُّ
شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ قَدْ قَذِرَنِي
النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا
حَسَنًا فَقَالَ أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الإِبِلُ أَوْ قَالَ
الْبَقَرُ هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ إِنَّ الأَبْرَصَ وَالأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا
الإِبِلُ وَقَالَ الْآخَرُ الْبَقَرُ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ فَقَالَ
يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا وَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ
قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ
فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ
إِلَيْكَ قَالَ الْبَقَرُ قَالَ فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا وَقَالَ يُبَارَكُ
لَكَ فِيهَا وَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ
يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ فَمَسَحَهُ
فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ
الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا فَكَانَ
لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ
غَنَمٍ ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ
مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلاَ بَلاَغَ الْيَوْمَ
إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ
وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي
فَقَالَ لَهُ إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ
تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ فَقَالَ لَقَدْ
وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ
اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ
لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا
فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى
الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ
بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلاَ بَلاَغَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ
أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي
فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي وَفَقِيرًا فَقَدْ
أَغْنَانِي فَخُذْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ
أَخَذْتَهُ لِلَّهِ فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ".
[الحديث 3464 – طرفه في: 6653]
قوله: "حديث أبرص وأقرع وأعمى" هكذا ترجم لهذا الحديث في أثناء ذكر بني
إسرائيل، وهو الحديث الثاني عشر. قوله: "حدثنا أحمد بن إسحاق" هو
السرماري بفتح المهملة ويجوز كسرها وبعدها راء ساكنة نسبة إلى سرمارة من قرى بخارى،
الزاهد المجاهد وهو من أقران البخاري، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين. قوله في
السند الثاني "وحدثني محمد حدثنا عبد الله بن رجاء" يقال إن محمدا هذا
هو الذهلي، ويقال إنه المصنف نفسه كما قيل في الحديث الذي قبله، ويؤيد ذلك أنه روى
عن عبد الله بن رجاء في اللقطة وعدة مواضع بغير واسطة، لكن جزم أبو ذر بأنه عند
المصنف عن محمد غير منسوب عن عبد الله بن رجاء وجوز أنه الذهلي وساقه عن الجوزقي
(6/501)
عن مكي بن عبدان عن الذهلبي بطوله، وكذلك جزم أبو نعيم وساقه من طريق موسى بن العباس عن محمد بن يحيى، وسيأتي في التوحيد حديث آخر أخرجه البخاري بهذين السندين سواء إلى أبي هريرة، وليس في البخاري لإسحاق بن أبي طلحة عن عبد الرحمن بن أبي عمرة سوى هذين الحديثين. قوله: "عن إسحاق بن عبد الله" هو ابن أبي طلحة صرح به شيبان في روايته عن همام عند مسلم والإسماعيلي. قوله: "بدا لله" بتخفيف الدال المهملة بغير همز أي سبق في علم الله فأراد إظهاره، وليس المراد أنه ظهر له بعد أن كان خافيا لأن ذلك محال في حق الله تعالى، وقد أخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ عن همام بهذا الإسناد بلفظ: "أراد الله أن يبتليهم"، فلعل التغيير فيه من الرواة، مع أن في الرواية أيضا نظرا لأنه لم يزل مريدا والمعنى أظهر الله ذلك فيهم. وقيل: معنى أراد قضى. وقال صاحب "المطالع" ضبطناه على متقني شيوخنا بالهمز أي ابتدأ الله أن يبتليهم، قال: ورواه كثير من الشيوخ بغير همز وهو خطأ انتهى. وسبق إلى التخطئة أيضا الخطابي، وليس كما قال لأنه موجه كما ترى، وأولى ما يحمل عليه أن المراد قضى الله أن يبتليهم، وأما البدء الذي يراد به تغير الأمر عما كان عليه فلا. قوله: "قذرني الناس" بفتح القاف والذال المعجمة المكسورة أي اشمأزوا من رؤيتي. وفي رواية حكاها الكرماني "قذروني الناس" وهي على لغة أكلوني البراغيث. قوله: "فمسحه" أي مسح على جسمه. قوله: "فقال وأي المال" في رواية الكشميهني بحذف الواو. قوله: "الإبل، أو قال البقر، هو شك في ذلك أن الأبرص والأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر" وقع عند مسلم عن شيبان بن فروخ عن همام التصريح بأن الذي شك في ذلك هو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة راوي الحديث. قوله: "فأعطي ناقة عشراء" أي الذي تمنى الإبل، والعشراء بضم العين المهملة وفتح الشين المعجمة مع المد هي الحامل التي أتى عليها في حملها عشرة أشهر من يوم طرقها الفحل، وقيل: يقال لها ذلك إلى أن تلد وبعدما تضع، وهي من أنفس المال. قوله: "يبارك لك فيها" كذا وقع "يبارك" بضم أوله. وفي رواية شيبان "بارك الله" بلفظ الفعل الماضي وإبراز الفاعل. قوله: "فمسحه" أي مسح على عينيه. قوله: "شاة والدا" أي ذات ولد ويقال حامل. قوله: "فأنتج هذان" أي صاحب الإبل والبقر "وولد هذا" أي صاحب الشاة، وهو بتشديد اللام، وأنتج في مثل هذا شاذ والمشهور في اللغة نتجت الناقة بضم النون ونتج الرجل الناقة أي حمل عليها الفحل، وقد سمع أنتجت الفرس إذا ولدت فهي نتوج. قوله: "ثم إنه أتى الأبرص في صورته" أي في الصورة التي كان عليها لما اجتمع به وهو أبرص ليكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة عليه. قوله: "رجل مسكين" زاد شيبان وابن سبيل "تقطعت به الحبال في سفره" في رواية الكشميهني: "بي الحبال في سفري" والحبال بكسر المهملة بعدها موحدة خفيفة جمع حبل أي الأسباب التي يقطها في طلب الرزق، وقيل العقبات، وقيل الحبل هو المستطيل من الرمل. ولبعض رواة مسلم: "الحيال" بالمهملة والتحتانية جمع حيلة، أي لم يبق لي حيلة، ولبعض رواة البخاري "الجبال" بالجيم والموحدة وهو تصحيف. قال ابن التين قول الملك له "رجل مسكين إلخ" أراد أنك كنت هكذا، وهو من المعاريض والمراد به ضرب المثل ليتيقظ المخاطب. قوله: "أتبلغ عليه" في رواية الكشميهني: "أتبلغ به" وأتبلغ بالغين المعجمة من البلغة وهي الكفاية والمعنى أتوصل به إلى مرادي. قوله: "لقد ورثت لكابر عن كابر" في رواية الكشميهني: "كابرا عن كابر" وفي رواية شيبان "إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر" أي كبير عن كبير في العز والشرف. قوله: "فقال إن كنت
(6/502)
كاذبا فصيرك الله" أورده بلفظ الفعل الماضي لأنه أراد المبالغة في الدعاء عليه. قوله: "فخذ ما شئت" زاد شيبان "ودع ما شئت". قوله: "لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله" كذا في البخاري بالمهملة والميم، كذا قال عياض إن رواة البخاري لم تختلف في ذلك، وليس كما قال، والمعنى لا أحمدك على ترك شيء تحتاج إليه من مالي، كما قال الشاعر وليس على طول الحياة تندم أي فوت طول الحياة. وفي رواية كريمة وأكثر روايات مسلم: "لا أجهدك" بالجيم والهاء أي لا أشق عليك في رد شيء تطلبه مني أو تأخذه، قال عياض: لم يتضح هذا المعنى لبعض الناس فقال لعله "لا أحدك" بمهملة وتشديد الدال بغير ميم أي لا أمنعك، قال: وهذا تكلف انتهى. ويحتمل أن يكون قوله: "أحمدك" بتشديد الميم أي لا أطلب منك الحمد، من قولهم فلان يتحمد على فلان أي يمتن عليه، أي لا أمتن عليك. قوله: "فإنما ابتليتم" أي امتحنتم. قوله: "فقد رضي عنك" بضم أوله على البناء للمجهول في رضي وسخط. قال الكرماني ما محصله: كان مزاج الأعمى أصح من مزاج رفيقيه، لأن البرص مرض يحصل من فساد المزاج وخلل الطبيعة وكذلك القرع، بخلاف العمى فإنه لا يستلزم ذلك بل قد يكون من أمر خارج فلهذا حسنت طباع الأعمى وساءت طباع الآخرين. وفي الحديث جواز ذكر ما اتفق لمن مضى ليتعظ به من سمعه ولا يكون ذلك غيبة فيهم، ولعل هذا هو السر في ترك تسميتهم، ولم يفصح بما اتفق لهم بعد ذلك، والذي يظهر أن الأمر فيهم وقع كما قال الملك. وفيه التحذير من كفران النعم والترغيب في شكرها والاعتراف بها وحمد الله عليها، وفيه فضل الصدقة والحث على الرفق بالضعفاء وإكرامهم وتبليغهم مآربهم، وفيه الزجر عن البخل، لأنه حمل صاحبه على الكذب، وعلى جحد نعمة الله تعالى.
(6/503)
باب { أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم
}
...
52 - باب {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}
{الْكَهْفُ}: الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ. {وَالرَّقِيمُ}: الْكِتَابُ. {مَرْقُومٌ}:
مَكْتُوبٌ مِنْ الرَّقْمِ. {رَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}: أَلْهَمْنَاهُمْ
صَبْرًا. {شَطَطًا}: إِفْرَاطًا. {الْوَصِيدُ}: الْفِنَاءُ، وَجَمْعُهُ وَصَائِدُ
وَوُصُدٌ، وَيُقَالُ: الْوَصِيدُ: الْبَابُ. {مُؤْصَدَةٌ}: مُطْبَقَةٌ، آصَدَ
الْبَابَ وَأَوْصَدَ. {بَعَثْنَاهُمْ}: أَحْيَيْنَاهُمْ. {أَزْكَى}: أَكْثَرُ
رَيْعًا. {فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ}: فَنَامُوا. {رَجْمًا بِالْغَيْبِ}:
لَمْ يَسْتَبِنْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَقْرِضُهُمْ}: تَتْرُكُهُمْ.
قوله: "{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}" كذا
لأبي ذر عن المستملي والكشميهني وحدهما إلى آخر الترجمة، ولغيره في أوله
"باب" ولم يورد في ذلك إلا تفاسير مما وقع في قصة أصحاب الكهف، وسقط كله
من رواية النسفي. قوله: "الكهف الفتح في الجبل" هو قول الضحاك أخرجه عنه
ابن أبي حاتم، واختلف في مكان الكهف فالذي تضافرت به الأخبار أنه في بلاد الروم،
وروى الطبري بإسناد ضعيف عن ابن عباس أنه بالقرب من أيلة، وقيل: بالقرب من طرسوس،
وقيل: بين أيلة وفلسطين، وقيل: بقرب زيزاء، وقيل: بغرناطة من الأندلس. وفي تفسير
ابن مردويه عن ابن عباس: أصحاب الكهف أعوان المهدي وسنده ضعيف، فإن ثبت حمل على
أنهم لم يموتوا بل هم في المنام
(6/503)
إلى أن يبعثوا لإعانة المهدي. وقد ورد
في حديث آخر بسند واه أنهم يحجون مع عيسى ابن مريم. قوله: "والرقيم: الكتاب.
مرقوم: مكتوب، من الرقم" روى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
قال: الرقيم الكتاب، وقوله مرقوم مكتوب هو قول أبي عبيدة قاله في تفسير قوله:
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ} ووراء ذلك أقوال أخرى، فأخرج
الطبري من طريق سعيد عن قتادة ومن طريق عطية العوفي وكذا قال أبو عبيدة الرقيم
الوادي الذي فيه الكهف. وأخرج الطبري أيضا من طريق ابن عباس عن كعب الأحبار قال:
هو اسم القرية. وروى ابن أبي حاتم من طريق أنس بن مالك ومن طريق سعيد بن جبير أن
الرقيم اسم الكلب، وقيل: الرقيم هو الغار كما سأبينه في حديث الغار، وقيل: الرقيم
الصخرة التي أطبقت على الوادي، وسيأتي في تفسير سورة الكهف قول ابن عباس: إن
الرقيم لوح من رصاص كتبت فيه أسماء أصحاب الكهف لما توجهوا عن قومهم ولم يدروا أين
توجهوا، وسأشير إليه هنا مختصرا. وقيل: إن الذي كان مكتوبا في الرقيم شرعهم الذي
كانوا عليه. وقيل: الرقيم الدواة. وقال قوم: أخبر الله عن قصة أصحاب الكهف ولم
يخبر عن قصة أصحاب الرقيم. قلت: وليس كذلك، بل السياق يقتضي أن أصحاب الكهف هم أصحاب
الرقيم والله أعلم. قوله: "ربطنا على قلوبهم: ألهمناهم صبرا" هو قول أبي
عبيدة. قوله: "شططا: إفراطا" قال أبو عبيدة في قوله: {لَقَدْ قُلْنَا
إِذاً شَطَطاً} أي جورا وغلوا، قال الشاعر:
ألا يا لقومي قد أشطت عواذلي ... ويزعمن أن أودى بحقي باطلي
وروى الطبري عن سعيد عن قتادة في قوله: "شططا" قال كذبا. قوله:
"الوصيد: الفناء" هو بكسر الفاء والمد، وهو قول ابن عباس أخرجه ابن أبي
حاتم وابن جرير عن سعيد بن جبير. قوله: "وجمعه: وصائد ووصد، ويقال الوصيد
الباب، مؤصدة مطبقة آصد الباب وأوصد" قال أبو عبيدة في قوله: {وَكَلْبُهُمْ
بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} أي على الباب وبفناء الباب، لأن الباب يؤصد أي
يغلق والجمع وصائد ووصد.
وقالوا الوصيد عتبة الباب أيضا تقول: أوصد بابك وآصده، وذكر الطبري عن أبي عمرو بن
العلاء أن أهل اليمن وتهامة يقولون الوصيد، وأهل نجد يقولون الأصيد. قوله:
"مؤصدة: مطبقة" قال أبو عبيدة في قوله: {نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} أي مطبقة
تقول: أوصدت وآصدت أي أطبقت، وهذا ذكره المؤلف استطرادا. قوله: "بعثناهم
أحييناهم" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "أزكى أكثر ريعا" قال أبو
عبيدة في قوله: {أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} أي أكثر، قال الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة ... وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب
وروى عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة في قوله: {أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً}
قال: خير طعاما، وروى الطبري عن سعيد بن جبير أحل، ورجحه الطبري. قوله: "فضرب
الله على آذانهم فناموا" هو قول ابن عباس كما سأذكره من طريقه، وقيل معنى:
{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} أي سددنا عن نفوذ الأصوات إليها. قوله: "رجما
بالغيب: لم يستبن" قال عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة في قوله:
{رَجْماً بِالْغَيْبِ} قال: قذفا بالظن. وقال أبو عبيدة في قوله: {رَجْماً بِالْغَيْبِ}
قال: الرجم ما لم يستيقنه من الظن، قال الشاعر:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
(6/504)
قوله: "وقال مجاهد: تقرضهم: تتركهم" يأتي الكلام عليه في التفسير. "تنبيه": لم يذكر المصنف في هذه الترجمة حديثا مسندا. وقد روى عبد بن حميد بإسناد صحيح عن ابن عباس قصة أصحاب الكهف مطولة غير مرفوعة، وملخص ما ذكر أن ابن عباس غزا مع معاوية الصائفة فمروا بالكهف الذي ذكر الله في القرآن، فقال معاوية أريد أن أكشف عنهم، فمنعه ابن عباس، فصمم وبعث ناسا، فبعث الله ريحا فأخرجتهم، قال فبلغ ابن عباس فقال: إنهم كانوا في مملكة جبار يعبد الأوثان فلما رأوا ذلك خرجوا منها فجمعهم الله على غير ميعاد، فأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق، فجاء أهاليهم يطلبونهم ففقدوهم، فأخبروا الملك فأمر بكتابة أسمائهم في لوح من رصاص وجعله في خزانته، فدخل الفتية الكهف فضرب الله على آذانهم فناموا. فأرسل الله من يقلبهم وحول الشمس عنهم فلو طلعت عليهم لأحرقتهم، ولولا أنهم يقلبون لأكلتهم الأرض. ثم ذهب ذلك الملك وجاء آخر فكسر الأوثان وعبد الله وعدل، فبعث الله أصحاب الكهف فأرسلوا واحدا منهم يأتيهم بما يأكلون فدخل المدينة مستخفيا فرأى هيئة وناسا أنكرهم لطول المدة، فدفع درهما إلى خباز فاستنكر ضربه وهم بأن يرفعه إلى الملك، فقال أتخوفني بالملك وأبي دهقانة؟ فقال من أبوك؟ فقال: فلان، فلم يعرفه، فاجتمع الناس فرفعوه إلى الملك فسأله فقال علي باللوح وكان قد سمع به فسمى أصحابه فعرفهم من اللوح، فكبر الناس وانطلقوا إلى الكهف وسبق الفتى لئلا يخافوا من الجيش، فلما دخل عليهم عمى الله على الملك ومن معه المكان فلم يدر أين ذهب الفتى، فاتفق رأيهم على أن يبنوا عليهم مسجدا فجعلوا يستغفرون لهم ويدعون لهم. وذكر ابن أبي حاتم في تفسيره عن شهر بن حوشب قال: كان لي صاحب قوي النفس، فمر بالكهف فأراد أن يدخله فنهي، فأبى فأشرف عليهم فابيضت عيناه وتغير شعره. وعن عكرمة أن السبب فيما جرى لهم أنهم تذكروا هل يبعث الله الروح والجسد أو الروح فقط، فألقى الله عليهم النوم فناموا المدة المذكورة ثم بعثهم فعرفوا أن الجسد يبعث كما تبعث الروح. وعن ابن عباس أن اسم الملك الأول دقيانوس واسم الفتية مكسلمينا ومخشليشا وتمليخا ومرطونس وكنشطونس وبيرونس ودينموس، وفي النطق بها اختلاف كثير، ولا يقع الوثوق من ضبطها بشيء. وأخرج أيضا عن مجاهد أن اسم كلبهم قطميروا، وعن الحسن قطمير، وقيل: غير ذلك. وأما لونه فقال مجاهد كان أصفر وقيل غير ذلك. وعن مجاهد أن دراهمهم كانت كخفاف الإبل وأن تمليخا هو الذي كان رسولهم لشراء الطعام. وقد ساق ابن إسحاق قصتهم في "المبتدأ" مطولة، وأفاد أن اسم الملك الصالح الذي عاشوا في زمنه بتدرسيس وروى الطبري من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير أن الكلب الذي كان معهم كان كلب صيد، وعن وهب بن منبه أنه كان كلب حرث، وعن مقاتل كان الكلب لكبيرهم وكان كلب غنم، وقيل: كان إنسانا طباخا تبعهم وليس بكلب حقيقة، والأول المعتمد.
(6/505)
53 - باب حَدِيثُ الْغَارِ
3465- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ
مَطَرٌ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ
(6/505)
فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلاَءِ لاَ يُنْجِيكُمْ إِلاَّ
الصِّدْقُ فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ
فِيهِ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ
لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ وَأَنِّي
عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي
اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ لَهُ
اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَسُقْهَا فَقَالَ لِي إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ
فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ فَقُلْتُ لَهُ اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا
مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ فَسَاقَهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ
مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ فَقَالَ
الْآخَرُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ
كَبِيرَانِ فَكُنْتُ آتِيهِمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي فَأَبْطَأْتُ
عَلَيْهِمَا لَيْلَةً فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ
مِنْ الْجُوعِ فَكُنْتُ لاَ أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ فَكَرِهْتُ
أَنْ أُوقِظَهُمَا وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا
فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي
فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ
الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ الْآخَرُ اللَّهُمَّ إِنْ
كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ
وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلاَّ أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ
دِينَارٍ فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا
إِلَيْهَا فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا
فَقَالَتْ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ فَقُمْتُ
وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ
مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا".
الحديث الثالث عشر: قوله: "حديث الغار" عقب المصنف قصة أصحاب الكهف
بحديث الغار إشارة إلى ما ورد أنه قد قيل: إن الرقيم المذكور في قوله تعالى: {أَمْ
حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} هو الغار الذي أصاب فيه الثلاثة
ما أصابهم، وذلك فيما أخرجه البزار والطبراني بإسناد حسن عن النعمان بن بشير أنه
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرقيم قال: انطلق ثلاثة فكانوا في كهف، فوقع
الجبل على باب الكهف فأوصد عليهم، فذكر الحديث. قوله: "بينما ثلاثة نفر ممن
كان قبلكم" لم أقف على اسم واحد منهم، وفي حديث عقبة بن عامر عند الطبراني في
الدعاء أن ثلاثة نفر من بني إسرائيل. قوله: "يمشون" في حديث عقبة وكذا
في حديث أبي هريرة عند ابن حبان والبزار أنهم خرجوا يرتادون لأهليهم. قوله:
"فأووا إلى غار" يجوز قصر ألف "أووا" ومدها. وفي حديث أنس عند
أحمد وأبي يعلى والبزار والطبراني "فدخلوا غارا فسقط عليهم حجر متجاف حتى ما
يرون منه خصاصه" وفي رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه "حتى أووا
المبيت إلى غار" كذا للمصنف، ولمسلم من هذا الوجه "حتى أواهم
المبيت" وهو أشهر في الاستعمال، والمبيت في هذه الرواية منصوب على المفعولية،
وتوجيهه أن دخول الغار من فعلهم فحسن أن ينسب الإيواء إليهم. قوله: "فانطبق
عليهم" أي باب الغار. وفي رواية موسى بن عقبة عن نافع في المزارعة فانحطت على
فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم ويأتي في الأدب بلفظ: "فانطبقت
عليهم" وفيه حذف المفعول والتقدير نفسها أو المنفذ، ويؤيده أن في رواية سالم
" فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت
(6/506)
عليهم الغار، زاد الطبراني في حديث النعمان بن بشير من وجه آخر "إذ وقع حجر من الجبل مما يهبط من خشية الله حتى سد فم الغار". قوله: "فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه" في رواية موسى بن عقبة المذكورة "انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله" ومثله لمسلم. وفي رواية الكشميهني: "خالصة ادعوا الله بها" ومن طريقه في البيوع "ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه" وفي رواية سالم "إنه لا ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم" وفي حديث أبي هريرة وأنس جميعا "فقال بعضهم لبعض عفا الأثر ووقع الحجر ولا يعلم بمكانكم إلا الله، ادعوا الله بأوثق أعمالكم" وفي حديث علي عند البزار "تفكروا في أحسن أعمالكم فادعوا الله بها لعل الله يفرج عنكم". وفي حديث النعمان بن بشير "إنكم لن تجدوا شيئا خيرا من أن يدعو كل امرئ منكم بخير عمل عمله قط". قوله: "فقال: اللهم إن كنت تعلم" كذا لأبي ذر والنسفي وأبي الوقت لم يذكر القائل، وللباقين "فقال واحد منهم". قوله: "اللهم إن كنت تعلم" فيه إشكال لأن المؤمن يعلم قطعا أن الله يعلم ذلك، وأجيب بأنه تردد في عمله ذلك هل له اعتبار عند الله أم لا، وكأنه قال: إن كان عملي ذلك مقبولا فأجب دعائي، وبهذا التقرير يظهر أن قوله: "اللهم" على بابها في النداء، وقد تردد بمعنى تحقق الجواب كمن سأل آخر عن شيء كأن يقول رأيت زيدا فيقول اللهم نعم، وقد ترد أيضا لندرة المستثنى كأن يقول شيئا ثم يستثني منه فيقول اللهم إلا إن كان كذا. قوله: "على فرق" بفتح الفاء والراء بعدها قاف وقد تسكن الراء. وهو مكيال يسع ثلاثة آصع قوله: "من أرز" فيه ست لغات فتح الألف وضمها مع ضم الراء وبضم الألف مع سكون الراء وتشديد الزاي وتخفيفها، وقد تقدم في المزارعة أنه فرق ذرة، وتقدم هناك بيان الجمع بين الروايتين، ويحتمل أنه استأجر أكثر من واحد، وكان بعضهم بفرق ذرة وبعضهم بفرق أرز. ويؤيد ذلك أنه وقع في رواية سالم "استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب" وفي حديث النعمان بن بشير نحوه كما سأذكره، ووقع في حديث عبد الله بن أبي أوفى عند الطبراني في الدعاء "استأجرت قوما كل واحد منهم بنصف درهم، فلما فرغوا أعطيتهم أجورهم، فقال أحدهم: والله لقد عملت عمل اثنين، والله لا آخذ إلا درهما، فذهب وتركه، فبذرت من ذلك النصف درهم إلخ" ويجمع بينهما بأن الفرق المذكور كانت قيمته نصف درهم إذ ذاك. قوله: "فذهب وتركه" في رواية موسى بن عقبة "فأعطيته فأبى ذاك أن يأخذ" وفي روايته في المزارعة "فلما قضى عمله قال: أعطني حقي، فعرضت عليه حقه فرغب عنه" وفي حديث أبي هريرة "فعمل لي نصف النهار فأعطيته أجرا فسخطه ولم يأخذه" ووقع في حديث النعمان بن بشير بيان السبب في ترك الرجل أجرته ولفظه: "كان لي أجراء يعملون فجاءني عمال فاستأجرت كل رجل منهم بأجر معلوم، فجاء رجل ذات يوم نصف النهار فاستأجرته بشرط أصحابه فعمل في نصف نهاره كما عمل رجل منهم في نهاره كله فرأيت علي في الذمام أن لا أنقصه مما استأجرت به أصحابه لما جهد في عمله، فقال رجل منهم تعطي هذا مثل ما أعطيتني؟ فقلت يا عبد الله لم أبخسك شيئا من شرطك، وإنما هو مالي أحكم فيه بما شئت، قال فغضب وذهب وترك أجره" وأما ما وقع في حديث أنس "فأتاني يطلب أجره وأنا غضبان فزبرته فانطلق وترك أجره" فلا ينافي ذلك، وطريق الجمع أن الأجير لما حسد الذي عمل نصف النهار وعاتب المستأجر غضب منه وقال له: لم أبخسك شيئا إلخ وزبره فغضب الأجير وذهب، ووقع في حديث علي "وترك واحد منهم أجره وزعم أن أجره أكثر من أجور أصحابه". قوله: "وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت" وفي رواية الكشميهني: "أن اشتريت منه بقرا وأنه أتاني
(6/507)
يطلب أجره فقلت له أعمد إلى تلك البقر فسقها" وفي رواية موسى بن عقبة "فزرعته حتى اشتريت منه بقرا وراعيها" وفيه فقال: "أتستهزئ بي؟ فقلت: لا" وفي رواية أبي ضمرة "فأخذها" وفي رواية سالم "فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال" وفيه: "فقلت له كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق من أجرك" وفي رواية الكشميهني: "من أجلك" وفيه: "فاستاقه فلم يترك منه شيئا" ودلت هذه الرواية على أن قوله في رواية نافع "اشتريت بقرا أنه لم يرد أنه لم يشتر غيرها وإنما كان الأكثر الأغلب البقر فلذلك اقتصر عليها، وفي حديث أنس وأبي هريرة جميعا "فجمعته وثمرته حتى كان منه كل المال" وقال فيه: "فأعطيته ذلك كله، ولو شئت لم أعطه إلا الأجر الأول" ووقع في حديث عبد الله بن أبي أوفى أنه دفع إليه عشرة آلاف درهم، وهو محمول على أنها كانت قيمة الأشياء المذكورة، وفي حديث النعمان بن بشير "فبذرته على حدة فأضعف، ثم بذرته فأضعف، حتى كثر الطعام" وفيه: "فقال أتظلمني وتسخر بي" وفي رواية له "ثم مرت بي بقر فاشتريت منها فصيلة فبلغت ما شاء الله" والجمع بينهما ممكن بأن يكون زرع أولا ثم اشترى من بعضه بقرة ثم نتجت. قوله: "فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك" وفي رواية موسى بن عقبة: "ابتغاء وجهك" وكذا في رواية سالم، والجمع بينهما ممكن، وقد وقع في حديث علي عند الطبراني "من مخافتك وابتغاء مرضاتك" وفي حديث النعمان "رجاء رحمتك ومخافة عذابك". قوله: "ففرج عنا" في رواية موسى بن عقبة "فافرج" بوصل وضم الراء من الثلاثي، وضبطه بعضهم بهمزة وكسر الراء من الرباعي وزاد في روايته: "فأفرج عنا فرجة نرى منها السماء" وفيه تقييد لإطلاق قوله في رواية سالم "ففرج عنا ما نحن فيه" وقوله: "قال ففرج عنهم" وفي رواية أبي ضمرة "ففرج الله فرأوا السماء" ولمسلم من هذا الوجه "ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء". قوله: "فانساخت عنهم الصخرة" أي انشقت، وأنكره الخطابي لأن معنى انساخ بالمعجمة غاب في الأرض، ويقال انصاخ بالصاد المهملة بدل السين أي انشق من قبل نفسه، قال: والصواب انساحت بالحاء المهملة أي اتسعت ومنه ساحة الدار، قال وانصاح بالصاد المهملة بدل السين أي تصدع، يقال ذلك للبرق. قلت: الرواية بالخاء المعجمة صحيحة وهي بمعنى انشقت، وإن كان أصله بالصاد فالصاد قد تقلب سينا ولا سيما مع الخاء المعجمة كالصخر والسخر. ووقع في حديث سالم "فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج" وفي حديث النعمان بن بشير "فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء" وفي حديث علي "فانصدع الجبل حتى طمعوا في الخروج ولم يستطيعوا" وفي حديث أبي هريرة وأنس فزال ثلث الحجر. قوله: "فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي" كذا للأكثر، ولأبي ذر بحذف "أنه". قوله: "أبوان" هو من التغليب والمراد الأب والأم، وصرح بذلك في حديث ابن أبي أوفى. قوله: "شيخان كبيران" زاد في رواية أبي ضمرة عن موسى "ولي صبية صغار فكنت أرعى عليهم" وفي حديث علي "أبوان ضعيفان فقيران ليس لهما خادم ولا راع ولا ولي غيري فكنت أرعى لهما بالنهار وآوي إليهما بالليل". قوله: "فأبطأت عنهما ليلة" وفي رواية سالم "فنأى بي طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما" وقد تقدم شرح قوله: "نأى" و"الشيء" لم يفسر ما هو في هذه الرواية، وقد بين في رواية مسلم من طريق أبي ضمرة ولفظه: "وإني نأى بي ذات يوم الشجر" والمراد أنه استطرد مع غنمه في الرعي إلى أن بعد عن مكانه زيادة على العادة فلذلك أبطأ، وفي حديث علي "فإن الكلأ تنادي علي" أي تباعد، والكلأ المرعى. قوله: "وأهلي وعيالي" قال الداودي: يريد بذلك الزوجة والأولاد والرقيق والدواب، وتعقبه ابن التين بأن الدواب لا معنى لها هنا. قلت: إنما قال الداودي ذلك في
(6/508)
رواية سالم "وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا" وهو متجه فإنه إذا كان لا يقدم عليهما أولاده فكذلك لا يقدم عليهما دوابه من باب الأولى. قوله: "يتضاغون" بالمعجمتين والضغاء بالمد الصياح ببكاء، وقوله: "من الجوع" أي بسبب الجوع، وفيه رد على من قال لعل الصياح كان بسبب غير الجوع. وفي رواية موسى بن عقبة "والصبية يتضاغون". قوله: "وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما فيستكنا لشربتهما" أما كراهته لإيقاظهما فظاهر لأن الإنسان يكره أن يوقظ من نومه، ووقع في حديث علي "ثم جلست عند رءوسهما بإنائي كراهية أن أزرقهما أو أوذيهما" وفي حديث أنس "كراهية أن أرد وسنهما" وفي حديث ابن أبي أوفى "وكرهت أن أوقظهما من نومهما فيشق ذلك عليهما" وأما كراهته أن يدعهما فقد فسره بقوله: "فيستكنا لشربتهما" أي يضعفا لأنه عشاؤهما وترك العشاء يهرم، وقوله: "يستكنا" من الاستكانة، وقوله: "لشربتهما" أي لعدم شربتهما فيصيران ضعيفين مسكينين والمسكين الذي لا شيء له. قوله: "من أحب الناس إلي" هو مقيد لإطلاق رواية سالم حيث قال فيها: "كانت أحب الناس إلي " وفي رواية موسى بن عقبة كأشد ما يحب الرجل النساء، والكاف زائدة، أو أراد تشبيه محبته بأشد المحبات. قوله: "راودتها عن نفسها" أي بسبب نفسها أو من جهة نفسها. وفي رواية سالم "فأردتها على نفسها" أي ليستعلي عليها. قوله: "فأبت" في رواية موسى بن عقبة " فقالت لا ينال ذلك منها حتى". قوله: "إلا أن آتيها بمائة دينار" وفي رواية سالم "فأعطيتها عشرين ومائة دينار" ويحمل على أنها طلبت منه المائة فزادها هو من قبل نفسه عشرين، أو ألغى غير سالم الكسر، ووقع في حديث النعمان وعقبة بن عامر "مائة دينار" وأبهم ذلك في حديث علي وأنس وأبي هريرة. وقال في حديث ابن أبي أوفى "مالا ضخما". قوله: "فلما قعدت بين رجليها" في رواية سالم "حتى إذا قدرت عليها" زاد في حديث ابن أبي أوفى "وجلست منها مجلس الرجل من المرأة" وفي حديث النعمان بن بشير "فلما كشفتها" وبين في رواية سالم سبب إجابتها بعد امتناعها فقال: "فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة - أي سنة قحط - فجاءتني فأعطيتها" ويجمع بينه وبين رواية نافع بأنها امتنعت أولا عفة ودافعت بطلب المال فلما احتاجت أجابت. قوله: "ولا تفض" بالفاء والمعجمة أي لا تكسر، والخاتم كناية عن عذرتها، وكأنها كانت بكرا وكنت عن الإفضاء بالكسر، وعن الفرج بالخاتم لأن في حديث النعمان ما يدل على أنها لم تكن بكرا، ووقع في رواية أبي ضمرة "ولا تفتح الخاتم" والألف واللام بدل من الضمير أي خاتمي، ووقع كذلك في حديث أبي العالية عن أبي هريرة عند الطبراني في الدعاء بلفظ: "إنه لا يحل لك أن تفض خاتمي إلا بحقه" وقولها "بحقه" أرادت به الحلال، أي لا أحل لك أن تقربني إلا بتزويج صحيح، ووقع في حديث علي "فقالت: أذكرك الله أن تركب مني ما حرم الله عليك قال: فقلت أنا أحق أن أخاف ربي" وفي حديث النعمان بن بشير "فلما أمكنتني من نفسها بكت، فقلت ما يبكيك؟ قالت: فعلت هذا من الحاجة، فقلت انطلقي" وفي رواية أخرى عن النعمان أنها ترددت إليه ثلاث مرات تطلب منه شيئا من معروفه ويأبى عليها إلا أن تمكنه من نفسها، فأجابت في الثالثة بعد أن استأذنت زوجها فأذن لها وقال لها أغني عيالك، قال: فرجعت فناشدتني بالله فأبيت عليها، فأسلمت إلي نفسها، فلما كشفتها ارتعدت من تحتي، فقلت ما لك؟ قالت أخاف الله رب العالمين، فقلت خفتيه في الشدة ولم أخفه في الرخاء فتركتها، وفي حديث ابن أبي أوفى "فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة ذكرت النار فقمت عنها" والجمع بين هذه الروايات ممكن، والحديث يفسر بعضه بعضا. وفي هذا الحديث استحباب الدعاء في الكرب، والتقرب إلى الله
(6/509)
تعالى بذكر صالح العمل، واستنجاز وعده بسؤاله. واستنبط منه بعض الفقهاء استحباب ذكر ذلك في الاستسقاء، واستشكله المحب الطبري لما فيه من رؤية العمل، والاحتقار عند السؤال في الاستسقاء أولى لأنه مقام التضرع، وأجاب عن قصة أصحاب الغار بأنهم لم يستشفعوا بأعمالهم وإنما سألوا الله إن كانت أعمالهم خالصة وقبلت أن يجعل جزاءها الفرج عنهم، فتضمن جوابه تسليم السؤال لكن بهذا القيد وهو حسن، وقد تعرض النووي لهذا فقال في كتاب الأذكار "باب دعاء الإنسان وتوسله بصالح عمله إلى الله" وذكر هذا الحديث، ونقل عن القاضي حسين وغيره استحباب ذلك في الاستسقاء ثم قال: وقد يقال إن فيه نوعا من ترك الافتقار المطلق، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى عليهم بفعلهم فدل على تصويب فعلهم. وقال السبكي الكبير: ظهر لي أن الضرورة قد تلجئ إلى تعجيل جزاء بعض الأعمال في الدنيا وأن هذا منه، ثم ظهر لي أنه ليس في الحديث رؤية عمل بالكلتة لقول كل منهم "إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك" فلم يعتقد أحد منهم في عمله الإخلاص بل أحال أمره إلى الله، فإذا لم يجزموا بالإخلاص فيه مع كونه أحسن أعمالهم فغيره أولى، فيستفاد منه أن الذي يصلح في مثل هذا أن يعتقد الشخص تقصيره في نفسه ويسيء الظن بها ويبحث على كل واحد من عمله يظن أنه أخلص فيه فيفوض أمره إلى الله ويعلق الدعاء على علم الله به، فحينئذ يكون إذا دعا راجيا للإجابة خائفا من الرد فإن لم يغلب على ظنه إخلاصه ولو في عمل واحد فليقف عند حده ويستحي أن يسأل بعمل ليس بخالص، قال وإنما قالوا: "ادعوا الله بصالح أعمالكم" في أول الأمر ثم عند الدعاء لم يطلقوا ذلك ولا قال واحد منهم أدعوك بعملي، وإنما قال: "إن كنت تعلم"، ثم ذكر عمله. انتهى ملخصا. وكأنه لم يقف على كلام المحب الطبري الذي ذكرته فهو السابق إلى التنبيه على ما ذكره، والله أعلم. وفيه فضل الإخلاص في العمل، وفضل بر الوالدين وخدمتهما وإيثارهما على الولد والأهل وتحمل المشقة لأجلهما. وقد استشكل تركه أولاده الصغار يبكون من الجوع طول ليلتهما مع قدرته على تسكين جوعهم فقيل: كان في شرعهم تقديم نفقة الأصل على غيرهم، وقيل: يحتمل أن بكاءهم ليس عن الجوع، وقد تقدم ما يرده. وقيل: لعلهم كانوا يطلبون زيادة على سد الرمق وهذا أولى. وفيه فضل العفة والانكفاف عن الحرام مع القدرة، وأن ترك المعصية يمحو مقدمات طلبها، وأن التوبة تجب ما قبلها. وفيه جواز الإجارة بالطعام المعلوم بين المتآجرين، وفضل أداء الأمانة، وإثبات الكرامة للصالحين. واستدل به على جواز بيع الفضولي، وقد تقدم البحث فيه في البيوع. وفيه أن المستودع إذا اتجر في مال الوديعة كان الربح لصاحب الوديعة. قاله أحمد. وقال الخطابي: خالفه الأكثر فقالوا: إذا ترتب المال في ذمة الوديع وكذا المضارب كأن تصرف فيه بغير ما أذن له فيلزم ذمته أنه إن اتجر فيه كان الربح له. وعن أبي حنيفة الغرامة عليه، وأما الربح فهو له لكن يتصدق به. وفصل الشافعي فقال: إن اشترى في ذمته ثم نقد الثمن من مال الغير فالعقد له والربح له، وإن اشترى بالعين فالربح للمالك، وقد تقدم نقل الخلاف فيه في البيوع أيضا. وفيه الإخبار عما جرى للأمم الماضية ليعتبر السامعون بأعمالهم فيعمل بحسنها ويترك قبيحها، والله أعلم. "تنبيه": لم يخرج الشيخان هذا الحديث إلا من رواية ابن عمر، وجاء بإسناد صحيح عن أنس أخرجه الطبراني في الدعاء من وجه آخر حسن، وبإسناد حسن عن أبي هريرة، وهو في صحيح ابن حبان. وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن أبي هريرة وعن النعمان بن بشير من ثلاثة أوجه حسان أحدها عند أحمد والبزار وكلها عند الطبراني، وعن علي وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن أبي أوفى بأسانيد ضعيفة، وقد استوعب طرقه أبو عوانة في
(6/510)
صحيحه والطبراني في الدعاء، واتفقت الروايات كلها على أن القصص الثلاثة في الأجير والمرأة والأبوين إلا حديث عقبة بن عامر ففيه بدل الأجير أن الثالث قال: "كنت في غنم أرعاها فحضرت الصلاة فقمت أصلي فجاء الذئب فدخل الغنم فكرهت أن أقطع صلاتي فصبرت حتى فرغت" فلو كان إسناده قويا لحمل على تعدد القصة، ووقع في رواية الباب من طريق عبيد الله العمري عن نافع تقديم الأجير ثم الأبوين ثم المرأة، وخالفه موسى بن عقبة من الوجهين فقدم الأبوين ثم المرأة ثم الأجير، ووافقته رواية سالم، وفي حديث أبي هريرة المرأة ثم الأبوين ثم الأجير، وفي حديث أنس الأبوين ثم الأجير ثم المرأة، وفي حديث النعمان الأجير ثم المرأة ثم الأبوين، وفي حديث علي وابن أبي أوفى معا المرأة ثم الأجير ثم الأبوين وفي اختلافهم دلالة على أن الرواية بالمعنى عندهم سائغة شائعة، وأن لا أثر للتقديم والتأخير في مثل ذلك، وأرجحها في نظري رواية موسى بن عقبة لموافقة سالم لها فهي أصح طرق هذا الحديث وهذا من حيث الإسناد، وأما من حيث المعنى فينظر أي الثلاثة كان أنفع لأصحابه، والذي يظهر أنه الثالث لأنه هو الذي أمكنهم أن يخرجوا بدعائه، وإلا فالأول أفاد إخراجهم من الظلمة، والثاني أفاد الزيادة في ذلك وإمكان التوسل إلى الخروج بأن يمر مثلا هناك من يعالج لهم، والثالث هو الذي تهيأ لهم الخروج بسببه فهو أنفعهم لهم فينبغي أن يكون عمل الثالث أكثر فضلا من عمل الأخيرين. ويظهر ذلك من الأعمال الثلاثة: فصاحب الأبوين فضيلته مقصورة على نفسه لأنه أفاد أنه كان بارا بأبويه، وصاحب الأجير نفعه متعد وأفاد بأنه كان عظيم الأمانة، وصاحب المرأة أفضلهم لأنه أفاد أنه كان في قلبه خشية ربه، قد شهد الله لمن كان كذلك بأن له الجنة حيث قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وقد أضاف هذا الرجل إلى ذلك ترك الذهب الذي أعطاه للمرأة فأضاف إلى النفع القاصر النفع المتعدي، ولا سيما وقد قال إنها كانت بنت عمه، فتكون فيه صلة رحم أيضا، وقد تقدم أن ذلك كان في سنة قحط فتكون الحاجة إلى ذلك أحرى، فيترجح على هذا رواية عبيد الله عن نافع. وقد جاءت قصة المرأة أيضا أخيرة في حديث أنس. والله أعلم.
(6/511)
54 - باب
3466- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بَيْنَا امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا إِذْ مَرَّ بِهَا
رَاكِبٌ وَهِيَ تُرْضِعُهُ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْ ابْنِي حَتَّى يَكُونَ
مِثْلَ هَذَا فَقَالَ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ رَجَعَ فِي
الثَّدْيِ وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ تُجَرَّرُ وَيُلْعَبُ بِهَا فَقَالَتْ اللَّهُمَّ
لاَ تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَ
أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ
لَهَا تَزْنِي وَتَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَيَقُولُونَ تَسْرِقُ وَتَقُولُ
حَسْبِيَ اللَّهُ".
3467- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي
جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ
رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا
فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ".
(6/511)
3468- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَامَ حَجَّ عَلَى
الْمِنْبَرِ فَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ وَكَانَتْ فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ
فَقَالَ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ إِنَّمَا
هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ".
[الحديث 3468 – أطرافه في: 3488، 5932، 5938]
3469- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ
وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ".
[الحديث 3469 – طرفه في: 3689]
3470- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ
تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا
فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ لاَ فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ
يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ
الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ
الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ
تَقَرَّبِي وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا
بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ".
3471- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا
أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلاَةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ بَيْنَا
رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ إِنَّا لَمْ
نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ. فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ
اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ! فَقَالَ فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا
الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا
مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ
السَّبُعِ يَوْمَ لاَ رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي؟ فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ
ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ! قَالَ فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ".
وحَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ.
3472- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
(6/512)
عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ
الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ
الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ
الأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ
إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ
الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ أَلَكُمَا وَلَدٌ قَالَ أَحَدُهُمَا لِي غُلاَمٌ
وَقَالَ الْآخَرُ لِي جَارِيَةٌ قَالَ أَنْكِحُوا الْغُلاَمَ الْجَارِيَةَ
وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا".
3473- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَعَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّاعُونِ فَقَالَ أُسَامَةُ قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ
بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ
بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ أَبُو النَّضْرِ لاَ يُخْرِجْكُمْ
إِلاَّ فِرَارًا مِنْهُ".
[الحديث 3473 – طرفاه في: 5728، 6974]
3474- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي
الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ
يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ
أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ
أَجْرِ شَهِيدٍ".
[الحديث 3474 – طرفاه في: 5734، 6619]
3475- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ
شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ
يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا
وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ
فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ
كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ
الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ
بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا".
3476- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ الْهِلاَلِيَّ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً
وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ خِلاَفَهَا
فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(6/513)
فَأَخْبَرْتُهُ فَعَرَفْتُ فِي
وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ وَقَالَ كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ وَلاَ تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ
مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا".
3477- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ
الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ
وَجْهِهِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ".
[الحديث 3477 – طرفه في: 6929]
3478- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّ رَجُلًا كَانَ
قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالًا فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ أَيَّ أَبٍ
كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ. قَالَ فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ
فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ
عَاصِفٍ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ قَالَ
مَخَافَتُكَ فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ". وَقَالَ مُعَاذٌ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ سَمِعْتُ أَبَا
سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[الحديث 3478 – طرفاه في: 6481، 7508]
3479- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ قَالَ عُقْبَةُ لِحُذَيْفَةَ
أَلاَ تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ
لَمَّا أَيِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إِذَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي
حَطَبًا كَثِيرًا ثُمَّ أَوْرُوا نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ
إِلَى عَظْمِي فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا فَذَرُّونِي فِي الْيَمِّ فِي يَوْمٍ
حَارٍّ أَوْ رَاحٍ فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: خَشْيَتَكَ.
فَغَفَرَ لَهُ". قَالَ عُقْبَةُ وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ.
حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ
وَقَالَ: "فِي يَوْمٍ رَاحٍ".
3480- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: "كَانَ الرَّجُلُ يُدَايِنُ النَّاسَ فَكَانَ يَقُولُ
لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ
يَتَجَاوَزَ عَنَّا قَالَ: فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ".
3481- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ
الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ:
(6/514)
إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي
ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ
عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا. فَلَمَّا مَاتَ
فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ. فَأَمَرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِي مَا فِيكِ
مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا
صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ". وَقَالَ غَيْرُهُ:
"مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ".
[الحديث 3481 – طرفه في: 7506]
3482- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا
جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ
فِيهَا النَّارَ لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلاَ
هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ".
3483- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ عَنْ زُهَيْرٍ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ
رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ قَالَ قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ
إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ".
[الحديث 3483 – طرفاه في: 3484، 6120]
3484- حدثنا آدم حدثنا شعبة عن منصور قال سمعت ربعي بن حراش يحدث عن أبي مسعود قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة إذا لم تستحي
فاصنع ما شئت".
3485- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا
يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَمَا
رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنْ الْخُيَلاَءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي
الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" . تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ
عَنْ الزُّهْرِيِّ
[الحديث 3485 – طرفه في: 5790]
3486- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنِي
ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَحْنُ الْآخِرُونَ
السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ كُلِّ أُمَّةٍ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِنَا وَأُوتِينَا مِنْ بَعْدِهِمْ فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا
فِيهِ فَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى".
3487- "على كل مسلم في كل سبعة أيام يوم يغسل رأسه وجسده".
3488- حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا عمرو بن مرة سمعت سعيد بن المسيب قال: "قدم
معاوية بن أبي سفيان المدينة آخر قدمة قدمها فخطبنا فأخرج كبة من شعر فقال: ما كنت
أرى أن أحدا يفعل هذا غير اليهود، وإن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الزور. يعني
الوصال في الشعر". تابعه غندر عن شعبة.
(6/515)
الحديث الرابع عشر: حديث أبي هريرة في قصة المرأة التي كانت ترضع ولدها فتكلم، وقد تقدم شرحه في قصة عيسى ابن مريم. وعبد المذكور في الإسناد هو الأعرج. الحديث الخامس عشر: حديث أبي هريرة في قصة المرأة التي سقت الكلب. قوله: "يطيف" بضم أوله من أطاف يقال أطفت بالشيء إذا أدمت المرور حوله. قوله: "بركية" بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتانية: البئر مطوية أو غير مطوية، وغير المطوية يقال لها جب وقليب ولا يقال لها بئر حتى تطوى، وقيل الركي البئر قبل أن تطوى فإذا طويت فهي الطوى. قوله: "بغي" بفتح الموحدة وكسر المعجمة هي الزانية، وتطلق على الأمة مطلقا. قوله: "موقها" بضم الميم وسكون الواو بعدها قاف هو الخف، وقيل ما يلبس فوق الخف. قوله: "فغفر لها" زاد الكشميهني: "به" وقد تقدم الكلام على هذا الحديث مشروحا في كتاب الشرب، لكن وقع هناك وفي الطهارة أن الذي سقى الكلب رجل، وأنه سقاه في خفه، ويحتمل تعدد القصة. وقدمت بقية الكلام في كتاب الشرب، والله أعلم. الحديث السادس عشر: حديث معاوية: قوله: "عام حج" في رواية سعيد بن المسيب الآتية آخر الباب: "آخر قدمة قدمها" قلت: وكان ذلك في سنة إحدى وخمسين وهي آخر حجة حجها في خلافته. قوله: "فتناول قصة" بضم القاف وتشديد المهملة هي شعر الناصية، والحرسي منسوب إلى الحرس وهو واحد الحراس. قوله: "أين علماؤكم؟" فيه إشارة إلى أن العلماء إذ ذاك فيهم كانوا قد قلوا، وهو كذلك لأن غالب الصحابة كانوا يومئذ قد ماتوا، وكأنه رأى جهال عوامهم صنعوا ذلك فأراد أن يذكر علماءهم وينبههم بما تركوه من إنكار ذلك، ويحتمل أن يكون ترك من بقي من الصحابة ومن أكابر التابعين إذ ذاك الإنكار إما لاعتقاد عدم التحريم ممن بلغه الخبر فحمله على كراهة التنزيه، أو كان يخشى من سطوة الأمراء في ذلك الزمان على من يستبد بالإنكار لئلا ينسب إلى الاعتراض على أولي الأمر، أو كانوا ممن لم يبلغهم الخبر أصلا، أو بلغ بعضهم لكن لم يتذكروه حتى ذكرهم به معاوية، فكل هذه أعذار ممكنة لمن كان موجودا إذ ذاك من العلماء، وأما من حضر خطبة معاوية وخاطبهم بقوله أين علماؤكم، فلعل ذلك كان في خطبة غير الجمعة ولم يتفق أن يحضره إلا من ليس من أهل العلم فقال أين علماؤكم، لأن الخطاب بالإنكار لا يتوجه إلا على من علم الحكم وأقره. قوله: "ويقول" هو معطوف على "ينهى" وفاعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم" فيه إشعار بأن ذلك كان حراما عليهم، فلما فعلوه كان سببا لهلاكهم، مع ما انضم إلى ذلك من ارتكابهم ما ارتكبوه من المناهي، وسيأتي شرح ذلك مبسوطا في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. الحديث السابع عشر: حديث أبي هريرة: قوله: "عن أبيه" هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. قوله: "عن أبي هريرة" هذا هو المشهور عن إبراهيم بن سعد، وقيل عنه عن أبيه عن أبي سلمة عن عائشة كما سيأتي. قوله: "إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون" بفتح الدال المهملة، وسيأتي شرحه مستوفى في مناقب عمر، فإن فيه أنهم كانوا من بني إسرائيل. قوله: "وإنه كان في أمتي هذه منهم" في رواية أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد "وإنه إن كان في أمتي أحد منهم". قوله: "فإنه عمر بن الخطاب" كذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التوقع، وكأنه لم يكن اطلع على أن ذلك كائن، وقد وقع بحمد الله ما توقعه النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه، ووقع من ذلك لغيره ما لا يحصى ذكره. الحديث الثامن عشر: حديث أبي سعيد: قوله: "عن أبي الصديق الناجي" في رواية مسلم من طريق معاذ عن شعبة عن قتادة أنه سمع أبا الصديق الناجي، واسم أبي الصديق - وهو بكسر الصاد المهملة وتشديد الدال
(6/516)
المكسورة - بكر، واسم أبيه عمرو وقيل قيس، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث. قوله: "كان في بني إسرائيل رجل" لم أقف على اسمه ولا على اسم أحد من الرجال ممن ذكر في القصة، زاد مسلم من طريق هشام عن قتادة عند مسلم: "فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب". قوله: "فأتى راهبا" فيه إشعار بأن ذلك كان بعد رفع عيسى عليه السلام، لأن الرهبانية إنما ابتدعها أتباعه كما نص عليه في القرآن. قوله: "فقال: له توبة؟" بحذف أداة الاستفهام، وفيه تجريد أو التفات، لأن حق السياق أن يقول: ألي توبة؟ ووقع في رواية هشام "فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة" وزاد: "ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم وقال فيه ومن يحول بينه وبين التوبة". قوله: "فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا" زاد في رواية هشام "فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه ملك الموت"، ووقعت لي تسمية القريتين المذكورتين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا في "المعجم الكبير للطبراني" قال فيه إن اسم الصالحة نصرة واسم القرية الأخرى كفرة. قوله: "فناء" بنون ومد أي بعد، أو المعنى مال أو نهض مع تثاقل، فعلى هذا فالمعنى فمال إلى الأرض التي طلبها، هذا هو المعروف في هذا الحديث، وحكى بعضهم فيه فنأى بغير مد قبل الهمز، وبإشباعها بوزن سعى تقول نأى ينأي نأيا بعد، وعلى هذا فالمعنى فبعد على الأرض التي خرج منها. ووقع في رواية هشام عن قتادة ما يشعر بأن قوله: "فناء بصدره" إدراج، فإنه قال في آخر الحديث: "قال قتادة قال الحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت ناء بصدره". قوله: "فاختصمن فيه" في رواية هشام من الزيادة "فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاه ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين أيهما كان أدني فهو لها". قوله: "فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي" أي إلى القرية التي خرج منها "وإلى هذه أن تقربي" أي القرية التي قصدها. وفي رواية هشام "فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد". قوله: "أقرب بشبر فغفر له" في رواية معاذ عن شعبة "فجعل من أهلها" وفي رواية هشام "فقبضته ملائكة الرحمة" وفي الحديث مشروعية التوبة من جميع الكبائر حتى من قتل الأنفس، ويحمل على أن الله تعالى إذا قبل توبة القاتل تكفل برضا خصمه. وفيه أن المفتي قد يجيب بالخطأ، وغفل من زعم أنه إنما قتل الأخير على سبيل التأول لكونه أفتاه بغير علم لأن السياق يقتضي أنه كان غير عالم بالحكم حتى استمر يستفتي، وأن الذي أفتاه استبعد أن تصح توبته بعد قتله لم ذكر أنه قتله بغير حق، وأنه إنما قتله بناء على العمل بفتواه لأن ذلك اقتضى عنده أن لا نجاة له فيئس من الرحمة، ثم تداركه الله فندم على ما صنع فرجع يسأل. وفيه إشارة إلى قلة فطنة الراهب، لأنه كان من حقه التحرز ممن اجترأ على القتل حتى صار له عادة بأن لا يواجهه بخلاف مراده وأن يستعمل معه المعاريض مداراة عن نفسه، هذا لو كان الحكم عنده صريحا في عدم قبول توبة القاتل فضلا عن أن الحكم لم يكن عنده إلا مظنونا. وفيه أن الملائكة الموكلين ببني آدم يختلف اجتهادهم في حقهم بالنسبة إلى من يكتبونه مطيعا أو عاصيا، وأنهم يختصمون في ذلك حتى يقضي الله بينهم، وفيه فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية لما يغلب بحكم العادة على مثل ذلك إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك والفتنة بها وأما لوجود من كان يعينه على ذلك ويحضه عليه، ولهذا قال له الأخير: ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، ففيه إشارة إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحول منها كلها
(6/517)
والاشتغال بغيرها، وفيه فضل العالم على العابد لأن الذي أفتاه أولا بأن لا توبة له غلبت عليه العبادة فاستعظم وقوع ما وقع من ذلك القاتل من استجرائه على قتل هذا العدد الكثير، وأما الثاني فغلب عليه العلم فأفتاه بالصواب ودله على طريق النجاة، قال عياض: وفيه أن التوبة تنفع من القتل كما تنفع من سائر الذنوب، وهو وإن كان شرعا لمن قبلنا وفي الاحتجاج به خلاف لكن ليس هذا من موضع الخلاف لأن موضع الخلاف إذا لم يرد في شرعنا تقريره وموافقته، أما إذا ورد فهو شرع لنا بلا خلاف، ومن الوارد في ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وحديث عبادة بن الصامت ففيه بعد قوله ولا تقتلوا النفس وغير ذلك من المنهيات "فمن أصاب من ذلك شيئا فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه" متفق عليه. قلت: ويؤخذ ذلك أيضا من جهة تخفيف الآصار عن هذه الأمة بالنسبة إلى من قبلهم من الأمم، فإذا شرع لهم قبول توبة القاتل فمشروعيتها لنا بطريق الأول، وسيأتي البحث في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية في التفسير إن شاء الله تعالى، واستدل به على أن في بني آدم من يصلح للحكم بين الملائكة إذا تنازعوا، وفيه حجة لمن أجاز التحكيم، وأن من رضي الفريقان بتحكيمه فحكمه جائز عليهم، وسيأتي نقل الخلاف في ذلك في الحديث الذي يلي ما بعده، وفيه أن للحاكم إذا تعارضت عنده الأحوال وتعددت البينات أن يستدل بالقرائن على الترجيح. حديث أبي هريرة في قصة البقرة التي تكلمت: قوله: "عن الأعرج عن أبي سلمة" هو من رواية الأقران، وقد رواه الزهري أيضا عن أبي سلمة، وسيأتي مع شرحه مستوفى في المناقب. قوله: "بينا رجل يسوق بقرة" لم أقف على اسمه. قوله: "إذ ركبها فضربها فقالت إنا لم نخلق لهذا" استدل به على أن الدواب لا تستعمل إلا فيما جرت العادة باستعمالها فيه، ويحتمل أن يكون قولها إنما خلقنا للحرث للإشارة إلى معظم ما خلقت له، ولم ترد الحصر في ذلك لأنه غير مراد اتفاقا، لأن من أجل ما خلقت له أنها تذبح وتؤكل بالاتفاق، وقد تقدم قول ابن بطال في ذلك في كتاب المزارعة. قوله: "فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر" هو محمول على أنه كان أخبرهما بذلك فصدقاه، أو أطلق ذلك لما طلع عليه من أنهما يصدقان بذلك إذا سمعاه ولا يترددان فيه. قوله: "وما هما ثم" بفتح المثلثة أي ليسا حاضرين، وهو من كلام الراوي، ولم يقع ذلك في رواية الزهري. قوله: "وبينا رجل" هو معطوف على الخبر الذي قبله بالإسناد المذكور. قوله: "إذ عدا الذئب" بالعين المهملة من العدوان. قوله: "هذا استنقذتها مني" في رواية الكشميهني: "استنقذها" بإبهام الفاعل. قوله: "حدثنا علي حدثنا سفيان عن مسعر" هذا يدل على أنه سمعه من شيخه مفرقا، والحاصل أن لسفيان فيه إسنادين: أحدهما أبو الزناد عن الأعرج، والآخر مسعر عن سعد بن إبراهيم، كلاهما عن أبي سلمة، وفي كل من الإسنادين رواية القرين عن قرينه، لأن الأعرج قرين أبي سلمة كما تقدم لأنه شاركه في أكثر شيوخه ولا سيما أبو هريرة، وإن كان أبو سلمة أكبر سنا من الأعرج وسفيان بن عيينة قرين مسعر، لأنه شاركه في أكثر شيوخه لا سيما سعد بن إبراهيم، وإن كان مسعر أكبر سنا من سفيان. حديث أبي هريرة أيضا: "اشترى رجل من رجل عقارا" لم أقف على اسمهما ولا على اسم أحد ممن ذكر في هذه القصة، لكن في "المبتدأ لوهب بن منبه" أن الذي تحاكما إليه هو داود النبي عليه السلام؛ وفي "المبتدأ لإسحاق بن بشر" أن ذلك وقع في زمن ذي القرنين من بعض قضاته فالله أعلم. وصنيع البخاري يقتضي ترجيح ما وقع عند وهب لكونه أورده في ذكر بني إسرائيل. قوله: "عقارا" العقار في اللغة المنزل والضيعة وخصه
(6/518)
بعضهم بالنخل، ويقال للمتاع النفيس الذي للمنزل عقار أيضا، وأما عياض فقال: العقار الأصل من المال، وقيل المنزل والضيعة، وقيل متاع البيت فجعله خلافا. والمعروف في اللغة أنه مقول بالاشتراك على الجميع والمراد به هنا الدار، وصرح بذلك في حديث وهب بن منبه. قوله: "فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له: خذ ذهبك فإنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع الذهب" وهذا صريح في أن العقد إنما وقع بينهما على الأرض خاصة، فاعتقد البائع دخول ما فيها ضمنا، واعتقد المشتري أنه لا يدخل. وأما صورة الدعوى بينهما فوقعت على هذه الصورة وأنهما لم يختلفا في صورة العقد التي وقعت، والحكم في شرعنا على هذا في مثل ذلك أن القول قول المشتري وأن الذهب باق على ملك البائع، ويحتمل أنهما اختلفا في صورة العقد بأن يقول المشتري لم يقع تصريح ببيع الأرض وما فيها بل يبيع الأرض خاصة، والبائع يقول وقع التصريح بذلك، والحكم في هذه الصورة أن يتحالفا ويستردا المبيع وهذا كله بناء على ظاهر اللفظ أنه وجد فيه جرة من ذهب، لكن في رواية إسحاق بن بشر أن المشتري قال إنه اشترى دارا فعمرها فوجد فيها كنزا، وأن البائع قال له لما دعاه إلى أخذه ما دفنت ولا علمت، وأنهما قالا للقاضي: ابعث من يقبضه وتضعه حيث رأيت، فامتنع، وعلى هذا فحكم هذا المال حكم الركاز في هذه الشريعة إن عرف أنه من دفين الجاهلية، وإلا فإن عرف أنه من دفين المسلمين فهو لقطة، وإن جهل فحكمه حكم المال الضائع يوضع في بيت المال، ولعلهم لم يكن في شرعهم هذا التفصيل فلهذا حكم القاضي بما حكم به. قوله: "وقال الذي له الأرض" أي الذي كانت له، ووقع في رواية أحمد عن عبد الرزاق بيان المراد من ذلك ولفظه: "فقال الذي باع الأرض: إنما بعتك الأرضى" ووقع في نسخ مسلم اختلاف، فالأكثر رووه بلفظ: "فقال الذي شرى الأرض" والمراد باع الأرض كما قال أحمد، ولبعضهم "فقال الذي اشترى الأرض" ووهمها القرطبي قال: إلا إن ثبت أن لفظ: "اشترى" من الأضداد كشرى فلا وهم، وقوله: "فتحاكما" ظاهره أنهما حكماه في ذلك، لكن في حديث إسحاق بن بشر التصريح بأنه كان حاكما منصوبا للناس، فإن ثبت ذلك فلا حجة فيه لمن جوز للمتداعيين أن يحكما بينهما رجلا وينفذ حكمه، وهي مسألة مختلف فيها: فأجاز ذلك مالك والشافعي بشرط أن يكون فيه أهلية الحكم وأن يحكم بينهما بالحق سواء وافق ذلك رأي قاضي البلد أم لا واستثنى الشافعي الحدود، وشرط أبو حنيفة أن لا يخالف ذلك رأي قاضي البلد، وجزم القرطبي بأنه لم يصدر منه حكم على أحد منهما، وإنما أصلح بينهما لما ظهر له أن حكم المال المذكور حكم المال الضائع، فرأى أنهما أحق بذلك من غيرهما لما ظهر له من ورعهما وحسن حالهما وارتجى من طيب نسلهما وسلاح ذريتهما، ويرده ما جزم به الغزالي في "نصيحة الملوك" أنهما تحاكما إلى كسرى، فإن ثبت هذا ارتفعت المباحث الماضية المتعلقة بالتحكيم لأن الكافر لا حجة له فيما يحكم به. ووقع في روايته عن أبي هريرة "لقد رأيتنا يكثر تمارينا ومنازعتنا عند النبي صلى الله عليه وسلم أيهما أكثر أمانة". قوله: "ألكما ولد؟" بفتح الواو واللام، والمراد الجنس، لأنه يستحيل أن يكون للرجلين جميعا ولد واحد، والمعنى ألكل منكما ولد؟ ويجوز أن يكون قوله: "ألكما ولد؟" بضم الواو وسكون اللام وهي صيغة جمع أي أولاد، ويجوز كسر الواو أيضا في ذلك. قوله: "فقال أحدهم لي غلام" بين في رواية إسحاق بن بشر أن الذي قال لي غلام هو الذي اشترى العقار. قوله: "أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا" هكذا وقع بصيغة الجمع في الإنكاح والإنفاق وبصيغة التثنية في النفسين وفي التصدق، وكأن السر في ذلك أن الزوجين كانا محجورين
(6/519)
وإنكاحهما لا بد مع وليهما من غيرهما كالشاهدين، وكذلك الإنفاق قد يحتاج فيه إلى المعين كالوكيل، وأما تثنية النفسين فللإشارة إلى اختصاص الزوجين بذلك. وقد وقع في رواية إسحاق بن بشر ما يشعر بذلك ولفظه: "اذهبا فزوج ابنتك من ابن هذا وجهزوهما من هذا المال وادفعا إليهما ما بقي يعيشان به" وأما تثنية التصديق فللإشارة إلى أن يباشراها بغير واسطة لما في ذلك من الفضل، وأيضا فهي تبرع لا يصدر من غير الرشيد ولا سيما ممن ليس له فيها ملك. ووقع في رواية مسلم: "وأنفقا على أنفسكما" والأول أوجه والله أعلم. الحديث الحادي والعشرون: حديث أسامة بن زيد في الطاعون وسيأتي شرحه مستوفى في الطب، والغرض منه هنا قوله في الحديث: "الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل"، ووقع هنا "رجس" بالسين المهملة بدل الزاي والمحفوظ بالزاي، ووجهه القاضي بأن الرجس يقع على العقوبة أيضا، وقد قال الفارابي والجوهري الرجس العذاب. قوله في آخر الحديث "فلا تخرجوا فرارا منه، قال أبو النضر: لا يخرجكم إلا فرارا منه" يريد أن الأولى رواية محمد بن المنكدر والثانية رواية أبي النضر، فأما رواية ابن المنكدر فلا إشكال فيها، وأما رواية أبي النضر فروايتها بالنصب كالذي هنا مشكلة، ورواها جماعة بالرفع ولا إشكال فيها، قال عياض في الشرح: وقع لأكثر رواة الموطأ بالرفع وهو بين أن السبب الذي يخرجكم الفرار ومجرد قصده لا غير ذلك، لأن الخروج إلى الأسفار والحوائج مباح، ويطابق الرواية الأخرى "فلا تخرجوا فرارا منه" قال ورواه بعضهم "إلا فرارا منه" قال وقال ابن عبد البر: جاء بالوجهين، ولعل ذلك من مالك، وأهل العربية يقولون دخول "إلا" هنا بعد النفي لإيجاب بعض ما نفي قبل من الخروج، فكأنه نهى عن الخروج إلا للفرار خاصة، وهو ضد المقصود فإن المنهي عنه إنما هو الخروج للفرار خاصة لا لغيره، قال وجوز ذلك بعضهم وجعل قوله: "إلا" حالا من الاستثناء أي لا تخرجوا إذا لم يكن خروجكم إلا للفرار، قال عياض: ووقع لبعض رواة الموطأ "لا يخرجكم الإفرار" بأداة التعريف وبعدها إفرار بكسر الهمزة وهو وهم ولحن. وقال في "المشارق" ما حاصله: يجوز أن تكون الهمزة للتعدية يقال أفره كذا من كذا ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم "إن كان لا يفرك من هذا إلا ما ترى" فيكون المعنى لا يخرجكم إفراره إياكم. وقال القرطبي في "المفهم" هذه الرواية غلط لأنه لا يقال أفر وإنما يقال فرر، قال: وقال جماعة من العلماء إدخال إلا فيه غلط. وقال بعضهم هي زائدة وتجوز زيادته كما تزاد لا، وخرجه بعضهم بأنها للإيجاب فذكر نحو ما مضى قال: والأقرب أن تكون زائدة. وقال الكرماني: الجمع بين قول ابن المنكدر "لا تخرجوا فرارا منه" وبين قول أبي النضر "لا يخرجكم إلا فرارا منه" مشكل فإن ظاهره التناقض، ثم أجاب بأجوبة: أحدها أن غرض الراوي أن أبا النضر فسر لا تخرجوا بأن المراد منه الحصر يعني الخروج المنهي هو الذي يكون لمجرد الفرار لا لغرض آخر فهو تفسير للمعلل المنهي عنه لا للنهي. قلت: وهو بعيد لأنه يقتضي أن هذا اللفظ من كلام أبي النضر زاده بعد الخبر وأنه موافق لابن المنكدر على اللفظ الأول رواية، والمتبادر خلاف ذلك. والجواب الثاني كالأول والزيادة مرفوعة أيضا فيكون روى اللفظين ويكون التفسير مرفوعا أيضا. الثالث إلا زائدة بشرط أن تثبت زيادتها في كلام العرب. الحديث الثاني والعشرون: حديث عائشة في ذلك وسيأتي شرحه في الطب أيضا. الحديث الثالث والعشرون: حديث عائشة في قصة المخزومية التي سرقت، وسيأتي شرحه في كتاب الحدود، وأورده هنا بلفظ: "إنما أهلك الذين من قبلكم"، وفي بعض طرقه: "إن
(6/520)
بني إسرائيل كانوا" وهو المطابق للترجمة وسيأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى. الحديث الرابع والعشرون: حديث ابن مسعود في النهي عن الاختلاف في القراءة، وسيأتي شرحه في فضائل القرآن. الحديث الخامس والعشرون: حديث عبد الله وهو ابن مسعود، وشقيق هو أبو وائل. قوله: "كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه" لم أقف على اسم هذا النبي صريحا، ويحتمل أن يكون هو نوح عليه السلام، فقد ذكر ابن إسحاق في "المبتدأ" وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسير الشعراء من طريق إسحاق قال: "حدثني من لا أتهم عن عبيد بن عمير الليثي أنه بلغه أن قوم نوح كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". قلت: وإن صح ذلك فكأن ذلك كان في ابتداء الأمر، ثم لما يئس منهم قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} وقد ذكر مسلم بعد تخريج هذا الحديث حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال في قصة أحد "كيف يفلح قوم دموا وجه نبيهم" فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ومن ثم قال القرطبي: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الحاكي والمحكي ما سيأتي. وأما النووي فقال: هذا النبي الذي جرى له ما حكاه النبي صلى الله عليه وسلم من المتقدمين، وقد جرى لنبينا نحو ذلك يوم أحد. قوله: "وهو يمسح الدم عن وجهه" يحتمل أن ذلك لما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم ذكر لأصحابه أنه وقع لشيء آخر قبله، وذلك فيما وقع له يوم أحد لما شج وجهه وجرى الدم منه. فاستحضر في تلك الحالة قصة ذلك النبي الذي كان قبله فذكر قصته لأصحابه تطييبا لقلوبهم. وأغرب القرطبي فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الحاكي وهو المحكي عنه، قال وكأنه أوحي إليه بذلك قبل وقوع القصة، ولم يسم ذلك النبي، فلما وقع له ذلك تعين أنه هو المعنى بذلك. قلت: ويعكر عليه أن الترجمة لبني إسرائيل فيتعين الحمل على بعض أنبيائهم، وفي "صحيح ابن حبان" من حديث سهل بن سعد "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" قال ابن حبان: معنى هذا الدعاء الذي قال يوم أحد لما شج وجهه أي اغفر لهم ذنبهم في شج وجهي، لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقا، إذ لو كان كذلك لأجيب ولو أجيب لأسلموا كلهم، كذا قال، وكأنه بناه على أنه لا يجوز أن يتخلف بعض دعائه على بعض أو عن بعض، وفيه نظر لثبوت "أعطاني اثنتين ومنعني واحدة" وسيأتي في تفسير سورة الأنعام، ثم وجدت في "مسند أحمد" من طريق عاصم عن أبي وائل ما يمنع تأويل القرطبي، ويعين الغزوة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ولفظه: "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالجعرانة قال فازدحموا عليه فقال: إن عبدا من عباد الله بعثه الله إلى قومه فكذبوه وشجوه، فجعل يمسح الدم عن جبينه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". قال عبد الله فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح جبهته يحكي الرجل. قلت: ولا يلزم من هذا الذي قاله عبد الله أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مسح أيضا، بل الظاهر أنه حكى صفة مسح جبهته خاصة كما مسحها ذلك النبي، وظهر بذلك فساد ما زعمه القرطبي. قوله: "عن عقبة بن عبد الغافر" بين في الرواية المعلقة تلو هذه سماع قتادة من عقبة، وعقبة المذكور أزدي بصري، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وحديث آخر تقدم في الوكالة. وطريق معاذ هذه وصلها مسلم عن عبيد الله بن معاذ العنبري عن أبيه به. قوله: "رغسه الله" بفتح الراء والغين المعجمة بعدها سين مهملة أي كثر ماله، وقيل رغس كل شيء أصله فكأنه قال جعل له أصلا من مال. ووقع في مسلم:
(6/521)
"رأسه الله" بهمز بدل الغين المعجمة، قال ابن التين: وهو غلط، فإن صح - أي من جهة الرواية - فكأنه كان فيه: "راشه" يعني بألف ساكنة بغير همز وبشين معجمة، والريش والرياش المال انتهى. ويحتمل في توجيه رواية مسلم أن يقال: معنى "رأسه" جعله رأسا ويكون بتشديد الهمزة، وقوله: "مالا"، أي بسبب المال. قوله: "قال عقبة لحذيفة" هو عقبة بن عمرو أبو مسعود الأنصاري البدري. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل التبوذكي. وفي رواية الكشميهني: "حدثنا مسدد" وصوب أبو ذر رواية الأكثر وبذلك جزم أبو نعيم في المستخرج أنه عن موسى؛ وموسى ومسدد جميعا قد سمعا من أبي عوانة، لكن الصواب هنا موسى لأن المصنف ساق الحديث عن مسدد ثم بين أن موسى خالفه في لفظة منه وهي قوله: "في يوم راح" فإن في رواية مسدد "يوم حار" وقد تقدم سياق موسى في أول "باب ذكر بني إسرائيل". وقال فيه: "انظروا يوما راحا" وقوله راحا أي كثير الريح، ويقال ذلك للموضع الذي تخترقه الرياح، قال الجوهري: يوم راح أي شديد الريح، وإذا كان طيب الريح يقال الريح بتشديد الياء. وقال الخطابي: يوم راح أي ذو ريح كما يقال رجل مال أي ذو مال، وأما رواية الباب فقوله: "في يوم حار" فهو بتخفيف الراء، قال ابن فارس: الحور ريح تحن كحنين الإبل، وقد نبه أبو علي الجياني على ما وقع من ذلك. وظن بعض المتأخرين أنه عنى بذلك ما وقع في أول ذكر بني إسرائيل فاعترض عليه بأنه ليس هناك إلا روايته عن موسى بن إسماعيل في جميع الطرق وهو صحيح، لكن مراد الجياني ما وقع هنا، وهو بين لمن تأمل ذلك. قوله: "حدثنا عبد الملك" هو ابن عمير المذكور في الإسناد الذي قبله، ومراده أن عبد الملك رواه بالإسناد المذكور مثل الرواية التي قبله إلا في هذه اللفظة؛ وهذا يقتضي خطأ من أورده في الرواية الأولي بلفظ: "راح" وهي رواية السرخسي، وقد رواه أبو الوليد عن أبي عوانة فقال فيه: "في ريح عاصف" أخرجه المصنف في الرقاق. قوله: "أوروا" بفتح الهمزة وسكون الواو وضم الراء أي اقدحوا وأشعلوا. حديث أبي هريرة في الذي كان يداين الناس، وقد تقدم في البيوع. قوله: "حدثنا هشام" هو ابن يوسف. قوله: "كان رجل يسرف على نفسه" تقدم في حديث حذيفة أنه كان نباشا، وفي الرواية التي في الرقاق أنه كان يسيء الظن بعمله، وفيه أنه لم يبتئر خيرا، وسيأتي نقل الخلاف في تحريرها هناك إن شاء الله تعالى، وفي حديث أبي سعيد "إن رجلا كان قبلكم". قوله: "إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني" بضم المعجمة وتشديد الراء، في حديث أبي سعيد "فقال لبنيه لما حضر - بضم المهملة وكسر المعجمة أي حضره الموت - أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرا قط، فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني" بفتح أوله والتخفيف. وفي رواية الكشميهني: "ثم أذرني" بزيادة همزة مفتوحة في أوله، فالأول بمعنى دعوني أي اتركوني، والثاني من قوله أذرت الريح الشيء إذا فرقته بهبوبها، وهو موافق لرواية أبي هريرة. قوله: "في الريح" تقدم ما في رواية حذيفة من الخلاف في هذه اللفظة، وفي حديث أبي سعيد "في يوم عاصف" أي عاصف ريحه، وفي حديث معاذ عن شعبة عند مسلم: "في ريح عاصف" ووقع في حديث موسى بن إسماعيل في أول الباب: "حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي وامتحشت"، وهو بضم المثناة وكسر المهملة بعدها شين معجمة أي وصل الحرق العظام، والمحش إحراق النار الجلد. قوله: "فوالله لئن قدر الله علي" في رواية الكشميهني: "لئن قدر علي ربي" قال الخطابي: قد يستشكل هذا فيقال كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله. قال ابن
(6/522)
قتيبة: قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك؛ ورده ابن الجوزي وقال: جحده صفة القدرة كفر اتفاقا، وإنما قيل إن معنى قوله: "لئن قدر الله علي" أي ضيق وهي قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضيق، وأما قوله: "لعلي أضل الله" فمعناه لعلي أفوته، يقال ضل الشيء إذا فات وذهب، وهو كقوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه كما غلط ذلك الآخر فقال أنت عبدي وأنا ربك، ويكون قوله: "لئن قدر علي" بتشديد الدال أي قدر علي أن يعذبني ليعذبني، أو على أنه كان مثبتا للصانع وكان في زمن الفترة فلم تبلعه شرائط الإيمان، وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يقله قاصدا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه، وأبعد الأقوال قول من قال إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر. قوله: "فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه ففعلت" وفي حديث سلمان الفارسي عند أبي عوانة في صحيحه "فقال الله له كن فكان كأسرع من طرفة العين" وهذا جميعه كما قال ابن عقيل إخبار عما سيقع له يوم القيامة، وليس كما قال بعضهم إنه خاطب روحه، فإن ذلك لا يناسب قوله: "فجمعه الله" لأن التحريق والتفريق إنما وقع على الجسد وهو الذي يجمع ويعاد عند البعث. قوله: "وقال غيره خشيتك" الغير المذكور هو عبد الرزاق، كذا رواه عن معمر بلفظ: "خشيتك" بدل مخافتك، وأخرجه أحمد عن عبد الرزاق بهذا، وقد وقع في حديث أبى سعيد "مخافتك"، وفي حديث حذيفة "خشيتك". قوله في آخر حديث أبي سعيد "فتلقاه رحمته" في رواية الكشميهني فتلافاه قال ابن التين: أما تلقاه بالقاف فواضح. لكن المشهور تعديته بالباء وقد جاء هنا بغير تعدية، وعلى هذا فالرحمة منصوبة على المفعولية، ويحتمل أن يكون ذكر الرحمة وهي على هذا بالرفع، قال وأما "تلافاه" بالفاء فلا أعرف له وجها إلا أن يكون أصله فتلففه أي غشاه، فلما اجتمعت ثلاث فاءات أبدلت الأخيرة ألفا مثل "دساها" كذا قال ولا يخفى تكلفه، والذي يظهر أنه من الثلاثي، والقول فيه كالقول في التلقي. وقد وقع في حديث سلمان "مما تلافاه عندها أن غفر له". حديث عبد الله وهو ابن عمر في التي ربطت الهرة ولم أقف على اسمها، لكن تقدم أنها سوداء وأنها حميرية وأنها من بني إسرائيل، وأنه لا تنافي بين ذلك، وتقدم شرحه في أواخر بدء الخلق. قوله: "عن أبي مسعود" هذا هو المحفوظ ورواه إبراهيم بن سعد عن منصور عن عبد الملك فقال: "عن ربعي بن خراش عن حذيفة" حكاه الدار قطني في "العلل" قال: ورواه أبو مالك الأشجعي أيضا عن ربعي عن حذيفة، قلت: روايته عند أحمد، وليس ببعيد أن يكون ربعي سمعه من أبي مسعود ومن حذيفة جميعا. قوله: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة" الناس بالرفع في جميع الطرق ويجوز النصب أي مما بلغ الناس، وقوله: "من كلام النبوة" أي مما اتفق عليه الأنبياء، أي أنه مما ندب إليه الأنبياء ولم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم، لأنه أمر أطبقت عليه العقول، وزاد أبو داود وأحمد وغيرهما: "النبوة الأولى" أي التي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم. قوله: "فاصنع ما شئت" هو أمر بمعنى الخبر، أو هو للتهديد أي اصنع ما شئت فإن الله يجزيك، أو معناه انظر إلى ما تريد أن تفعله فإن كان مما لا يستحي منه فافعله وإن كان مما يستحي منه فدعه، أو المعنى أنك إذا لم تستح من الله من شيء يجب أن لا تستحي منه من أمر الدين فافعله ولا تبال بالخلق، أو المراد الحث على الحياء والتنويه بفضله، أي لما لم يجز صنع جميع ما شئت لم يجز ترك الاستحياء. الحديث الثاني والثلاثون:
(6/523)
حديث ابن عمر "بينما رجل يجر
إزاره من الخيلاء خسف به" سيأتي شرحه مستوفى في كتاب اللباس، وعبد الله هو
ابن المبارك، وقد رواه عن يونس أيضا عبد الله بن وهب أخرجه النسائي وأبو عوانة في
صحيحه. قوله: "تابعه عبد الرحمن بن خالد" أي ابن مسافر "عن الزهري"
أي بهذا الإسناد، وطريق عبد الرحمن هذه وصلها المؤلف في كتاب اللباس. الحديث
الثالث والثلاثون: حديث أبي هريرة في فضل يوم الجمعة، تقدم شرحه مستوفى في كتاب
الجمعة. الحديث الرابع والثلاثون: حديث معاوية في النهي عن الوصل في الشعر. وقد
تقدم في هذا الباب من وجه آخر. وتقدمت الإشارة إلى مكان شرحه. قوله: "تابعه
غندر عن شعبة" وصله مسلم والنسائي من طريقه وأخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن
غندر - وهو محمد بن جعفر – به.
"خاتمة": اشتمل كتاب أحاديث الأنبياء وما بعده من ذكر بني إسرائيل من
الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث وتسعة أحاديث. المكرر منها فيه وفيما مضى مائة
وسبعة وعشرون حديثا. والخالص اثنان وثمانون حديثا. المعلق منها ثلاثون طريقا،
وسائرها موصول. وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عائشة: "الأرواح جنود"
وحديث: "قال رجل رأيت السد" وهذان معلقان، وحديث أبي هريرة "يلقي
إبراهيم أباه"، وحديث ابن عباس في قصة زمزم وبناء البيت بطوله، وحديثه في
تعويذ الحسن والحسين، وحديث سبرة بن معبد، وحديث أبي الشموس، وحديث أبي ذر، وهذه
الثلاثة معلقات، وحديث أم رومان في قصة الإفك، وحديث أبي هريرة "إنما سمي
الخضر"، وحديث ابن مسعود في يونس عليه السلام، وحديث أبي هريرة "خفف على
داود القرآن" وحديث عمر: "لا تطروني"، وحديث عائشة في كراهية
الإتكاء على الخاصرة، وحديث عبد الله بن عمرو: "بلغوا عني"، وحديث أبي
هريرة: "إن اليهود لا يصبغون"، وحديث عائشة في الطاعون، وحديث أبي مسعود
في الحياة. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ستة وثمانون أثرا. والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(6/524)
كتاب المناقب
باب قول الله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و
قبائل لتعرفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم }
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
61 - كِتَاب الْمَنَاقِبِ
1 – باب قول الله تعالى [13 الحجرات]:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. وقوله [1 النساء]: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.
وَمَا يُنْهَى عَنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. الشُّعُوبُ: النَّسَبُ الْبَعِيدُ.
وَالْقَبَائِلُ: دُونَ ذَلِكَ.
3489- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ
عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} قَالَ:
الشُّعُوبُ الْقَبَائِلُ الْعِظَامُ. وَالْقَبَائِلُ: الْبُطُونُ.
3490- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ. قَالَ أَتْقَاهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ
قَالَ فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ".
3491- حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا
كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: "قُلْتُ لَهَا
أَرَأَيْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ مِنْ مُضَرَ؟
قَالَتْ: فَمِمَّنْ كَانَ إِلاَّ مِنْ مُضَرَ؟ مِنْ بَنِي النَّضْرِ بْنِ
كِنَانَةَ".
[الحديث 3491 – طرفه في: 3492]
3492- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا كُلَيْبٌ
حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَظُنُّهَا زَيْنَبَ قَالَتْ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ
وَقُلْتُ لَهَا: أَخْبِرِينِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِمَّنْ كَانَ؟ مِنْ مُضَرَ كَانَ؟ قَالَتْ: فَمِمَّنْ كَانَ إِلاَّ مِنْ مُضَرَ؟
كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ".
3493- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ
عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَجِدُونَ النَّاسَ
مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا
فَقِهُوا وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ
كَرَاهِيَةً".
[الحديث 3493 – طرفاه في: 3496، 3588]
(6/525)
3494- "وَتَجِدُونَ شَرَّ
النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي
هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ".
[الحديث 3494 – طرفاه في: 6058، 7179]
3495- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "النَّاسُ تَبَعٌ
لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرُهُمْ
تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ".
3496- "وَالنَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ
فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقِهُوا تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّ النَّاسِ
كَرَاهِيَةً لِهَذَا الشَّأْنِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ".
3497- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ
الْمَلِكِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِلاَّ
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالَ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
"قُرْبَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ
إِلاَّ وَلَهُ فِيهِ قَرَابَةٌ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ فيه، إِلاَّ أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةً
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ".
[الحديث 3497 – طرفه في: 4818]
3498- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ هَا هُنَا جَاءَتْ الْفِتَنُ نَحْوَ
الْمَشْرِقِ وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ
الْوَبَرِ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِي رَبِيعَةَ
وَمُضَرَ".
3499- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْفَخْرُ وَالْخُيَلاَءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ
الْوَبَرِ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ وَالإِيمَانُ يَمَانٍ
وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: سُمِّيَتْ الْيَمَنَ
لِأَنَّهَا عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ وَالشَّأْمَ لِأَنَّهَا عَنْ يَسَارِ
الْكَعْبَةِ وَالْمَشْأَمَةُ الْمَيْسَرَةُ وَالْيَدُ الْيُسْرَى الشُّؤْمَى وَالْجَانِبُ
الأَيْسَرُ الأَشْأَمُ.
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. باب المناقب" كذا في الأصول التي وقفت
عليها من كتاب البخاري، وذكر صاحب الأطراف وكذا في بعض الشروح أنه قال: "كتاب
المناقب" فعلى الأول هو من جملة كتاب أحاديث الأنبياء، وعلى الثاني هو كتاب
مستقل، والأول أولى فإنه يظهر من تصرفه أنه قصد به سياق الترجمة النبوية بأن يجمع
فيه أمور النبي صلى الله عليه وسلم من المبدأ إلى المنتهى، فبدأ بمقدماتها من ذكر
ما يتعلق بالنسب الشريف فذكر أشياء تتعلق بالأنساب ومن ثم ذكر أمورا تتعلق
بالقبائل، ثم النهي عن دعوى الجاهلية لأن معظم فخرهم كان بالأنساب ثم ذكر صفة
النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله ومعجزاته، واستطرد منها لفضائل أصحابه؛ ثم
أتبعها بأحواله قبل الهجرة وما جرى له بمكة فذكر المبعث، ثم إسلام الصحابة وهجرة
الحبشة والمعراج ووفود الأنصار والهجرة إلى المدينة، ثم ساق المغازي على ترتيبها
عنده ثم الوفاة، فهذا آخر هذا الباب وهو من جملة تراجم الأنبياء وختمها بخاتم
الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
(6/526)
قوله: "وقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الآية" يشير إلى ما تضمنته هذه الآية من أن المناقب عند الله إنما هي بالتقوى بأن يعمل بطاعته ويكف عن معصيته، قد ورد في الحديث ما يوضح ذلك: ففي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان وتفسير ابن مردويه من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال: أما بعد يا أيها الناس، فإن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها. يا أيها الناس، الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله ثم تلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}" ورجاله ثقات إلا أن ابن مردويه ذكر أن محمد بن المقري راويه عن عبد الله بن رجاء عن موسى بن عقبة وهم في قوله موسى بن عقبة وإنما هو موسى بن عبيدة، وابن عقبة ثقة وابن عبيدة ضعيف، وهو معروف برواية موسى بن عبيدة، كذلك أخرجه ابن أبي حاتم وغيره، وروى أحمد والحارث وابن حاتم من طريق أبي نضرة "حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وهو على بعير يقول: يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، خيركم عند الله أتقاكم". قوله: "لتعارفوا" أي ليعرف بعضكم بعضا بالنسب يقول فلان ابن فلان وفلان ابن فلان، أخرجه الطبري عن مجاهد. قوله: "وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} قال ابن عباس: أي اتقوا الأرحام وصلوها"، أخرجه ابن أبي حاتم عنه، والأرحام جمع رحم، وذوو الرحم الأقارب يطلق على كل من يجمع بينه وبين الآخر نسب، والقراءة المشهورة "والأرحام" نصبا وعليها جاء التفسير، وقرأ حمزة "والأرحام" بالجر، واختلف في توجيهه فقيل معطوف على الضمير المجرور في "به" من غير إعادة الجار وهو جائز عند جمع، ومنعه البصريون، وقرأها ابن مسعود فيما قيل بالرفع فإن ثبت فهو مبتدأ والخبر محذوف تقديره مما يتقي أو مما يسأل به، والمراد بذكر هذه الآية الإشارة إلى الاحتياج إلى معرفة السبب أيضا لأنه يعرف به ذوو الأرحام المأمور بصلتهم، وذكر ابن حزم في مقدمة "كتاب النسب" له فصلا في الرد على من زعم أن علم النسب علم لا ينفع وجهل لا يضر بأن في علم النسب ما هو فرض على كل أحد، وما هو فرض على الكفاية، وما هو مستحب. قال: فمن ذلك أن يعلم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ابن عبد الله الهاشمي، فمن زعم أنه لم يكن هاشميا فهو كافر، وأن يعلم أن الخليفة من قريش، وأن يعرف من يلقاه بنسب في رحم محرمة ليجتنب تزويج ما يحرم عليه منهم، وأن يعرف من يتصل به ممن يرثه أو يجب عليه بره من صلة أو نفقة أو معاونة وأن يعرف أمهات المؤمنين وأن نكاحهن حرام على المؤمنين، وأن يعرف الصحابة وأن حبهم مطلوب، وأن يعرف الأنصار ليحسن إليهم لثبوت الوصية بذلك ولأن حبهم إيمان وبغضهم نفاق، قال: ومن الفقهاء من يفرق في الجزية وفي الاسترقاق بين العرب والعجم فحاجته إلى علم النسب آكد، وكذا من يفرق بين نصارى بني تغلب وغيرهم في الجزية وتضعيف الصدقة. قال: وما فرض عمر رضي الله عنه الديوان إلا على القبائل، ولولا علم النسب ما تخلص له ذلك، وقد تبعه على ذلك عثمان وعلي وغيرهما. وقال ابن عبد البر في أول كتابه النسب: ولعمري لم ينصف من زعم أن علم النسب علم لا ينفع وجهل لا يضر. انتهى. وهذا الكلام قد روي مرفوعا ولا يثبت، وروي عن عمر أيضا ولا يثبت بل ورد في المرفوع حديث: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم" وله طرق أقواها ما أخرجه الطبراني من حديث العلاء بن خارجة، وجاء هذا أيضا عن عمر ساقه ابن حزم بإسناد رجاله موثوقون إلا أن فيه انقطاعا، والذي يظهر حمل ما ورد من ذمه على التعمق فيه حتى يشتغل عما هو أهم منه، وحمل
(6/527)
ما ورد في استحسانه على ما تقدم من
الوجوه التي أوردها ابن حزم، ولا يخفى أن بعض ذلك لا يختص بعلم النسب والله
المستعان. قوله: "وما ينهى عن دعوى الجاهلية" سيأتي الكلام عليه بعد
أبواب قلائل. قوله: "الشعوب النسب البعيد والقبائل دون ذلك" هو قول
مجاهد أخرجه الطبري عنه، وذكر أبو عبيدة مثال الشعب مضر وربيعة، ومثال القبيلة من
دون ذلك، وأنشد لعمرو بن أحمر:
من شعب همدان أو سعد العشيرة أو ... خولان أو مذحج هاجوا له طربا
قوله: "حدثنا أبو بكر" هو ابن عياش الكوفي وكذا سائر الإسناد، وأبو حصين
بفتح أوله هو عثمان بن عاصم. قوله: "الشعوب القبائل العظام والقبائل
البطون" أي أن المراد بلفظ القبائل في القرآن ما هو في اصطلاح أهل النسب
البطون، وقد روى الطبري هذا الحديث عن خلاد بن أسلم وأبي كريب كلاهما عن أبي بكر
بن عياش بهذا الإسناد، لكن قال في المتن "الشعوب الجماع" أي الذي يجمع
متفرقات البطون، قال خلاد قال أبو بكر: القبائل مثل بني تميم، ودونها الأفخاذ
انتهى. وقد قسمها الزبير بن بكار في "كتاب النسب" إلى شعب ثم قبيلة ثم
عمارة بكسر العين ثم بطن ثم فخذ ثم فصيلة، وزاد غيره قبل الشعب الجذم وبعد الفصيلة
العشيرة، ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة ثم العترة، فمثال الجذم عدنان ومثال
الشعب مضر ومثال القبيلة كنانة ومثال العمارة قريش وأمثلة ما دون ذلك لا تخفى.
ويقع في عباراتهم أشياء مرادفة لما تقدم كقولهم حي وبيت وعقيلة وأرومة وجرثومة
ورهط وغير ذلك، ورتبها محمد بن أسعد النسابة المعروف بالحراني جميعها وأردفها
فقال: جذم ثم جمهور لم شعب ثم قبيلة ثم عمارة ثم بطن ثم فخذ ثم عشيرة ثم فصيلة ثم
رهط ثم أسرة ثم عترة ثم ذرية. وزاد غيره في أثنائها ثلاثة وهي بيت وحي وجماع فزادت
على ما ذكر الزبير عشرة. وقال أبو إسحاق الزجاج: القبائل للعرب كالأسباط لبني
إسرائيل، ومعنى القبيلة الجماعة، ويقال لكل ما جمع على شيء واحد قبيلة أخذا من
قبائل الشجرة وهو غصونها أو من قبائل الرأس وهو أعضاؤه، سميت بذلك لاجتماعها.
ويقال: المراد بالشعوب في الآية بطون العجم وبالقبائل بطون العرب. ثم ذكر المصنف
في الباب سبعة أحاديث: الأول: حديث أبي هريرة "قيل يا رسول الله من أكرم
الناس؟ قال أتقاهم" الحديث، أورده مختصرا، وقد مضى في قصة يوسف، والغرض منه
واضح، وإنما أطلق على يوسف أكرم الناس لكونه رابع نبي في نسق ولم يقع ذلك لغيره،
فإنه اجتمع له الشرف في نسبه من وجهين. الحديث الثاني: قوله: "حدثنا عبد
الواحد" هو ابن زياد. قوله: "حدثنا كليب بن وائل" هذا هو المحفوظ،
ورواه عفان عن عبد الواحد فقال: "عن عاصم بن كليب" أخرجه الإسماعيلي وهو
خطأ من عفان، وكليب بن وائل تابعي وسط كوفي أصله من المدينة، وهو ثقة عند الجميع
إلا أن أبا زرعة ضعفه بغير قادح، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث. قوله:
"حدثتني ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم" هي بنت أم سلمة زوج النبي صلى
الله عليه وسلم قوله: "قالت ممن كان إلا من مضر" في رواية الكشميهني:
"فمن كان" بزيادة فاء في الجواب وهو استفهام إنكار، أي لم يكن إلا من
مضر. قوله: "مضر" هو ابن نزار بن معد بن عدنان والنسب ما بين عدنان إلى
إسماعيل بن إبراهيم مختلف فيه كما سيأتي، وأما من النبي صلى الله عليه وسلم إلى
عدنان فمتفق عليه. وقال ابن سعد في "الطبقات" حدثنا هشام بن الكلبي قال:
"علمني أبي وأنا غلام نسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: محمد بن عبد الله
بن عبد المطلب وهو شيبة الحمد ابن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف واسمه المغيرة بن
قصي واسمه زيد ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وإليه جماع قريش، وما
كان فوق فهر فليس بقرشي بل هو
(6/528)
كناني، ابن مالك بن النضر واسمه قيس بن كنانة بن خزيمة بن مدركة واسمه عمرو بن إلياس بن مضر. وروى الطبراني بإسناد جيد عن عائشة قالت: "استقام نسب الناس إلى معد بن عدنان" ومضر بضم الميم وفتح المعجمة يقال سمي بذلك لأنه كان مولعا بشرب اللبن الماضر وهو الحامض، وفيه نظر لأنه يستدعي أنه كان له اسم غيره قبل أن يتصف بهذه الصفة، نعم ممكن أن يكون هذا اشتقاقه، ولا يلزم أن يكون متصفا به حالة التسمية، وهو أول من حدا الإبل. وروى ابن حبيب في تاريخه عن ابن عباس قال: "مات عدنان أبو وابنه معد وربيعة ومضر وقيس وتميم وأسد وضبة على الإسلام على ملة إبراهيم" وروى الزبير بن بكار من وجه آخر عن ابن عباس "لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين"، ولابن سعد من مرسل عبد الله بن خالد رفعه: "لا تسبوا مضر فإنه كان قد أسلم". قوله: "من بني النضر بن كنانة" أي المذكور، وروى أحمد وابن سعد من حديث الأشعث بن قيس الكندي قال: "قلت يا رسول الله إنا نزعم أنكم منا - يعني من اليمن - فقال نحن بنو النضر بن كنانة" ، وروى ابن سعد من حديث عمرو بن العاص بإسناد فيه ضعف مرفوعا: "أنا محمد بن عبد الله، وانتسب حتى بلغ النضر بن كنانة، قال فمن قال غير ذلك فقد كذب" انتهى. وإلى النضر تنتهي أنساب قريش، وسيأتي بيان ذلك في الباب الذي يليه، وإلى كنانة تنتهي أنساب أهل الحجاز، وقد روى مسلم من حديث واثلة مرفوعا: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" ولابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر: "ثم اختار بني هاشم من قريش ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم". قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل التبوذكي. قوله: "وأظنها زينب" كأن قائله موسى، لأن قيس بن حفص في الرواية التي قبلها قد جزم بأنها زينب، وشيخهما واحد. لكن أخرجه الإسماعيلي من رواية حبان بن هلال عن عبد الواحد وقال: لا أعلمها إلا زينب، فكأن الشك فيه من شيخهم عبد الواحد، كان يجزم بها تارة ويشك فيها أخرى. قوله: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدباء" بضم المهملة وتشديد الموحدة سيأتي شرحه في كتاب الأشربة، وأورده هنا لكونه سمع الحديث على هذه الصورة وهذا هو المرفوع منه فلم ير حذفه من السياق، على أنه لم يطرد له في ذلك عمل: فإنه تارة يأتي بالحديث على وجهه كما صنع هنا، وتارة يقتصر على موضع حاجته منه كما تقدم في عدة مواطن. قوله: "والمقير والمزفت" كذا وقع هنا بالميم والقاف المفتوحة، قال أبو ذر: هو خطأ والصواب النقير يعني بالنون وكسر القاف وهو واضح لئلا يلزم منه التكرار إذا ذكر المزفت. قوله: "حدثني إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه. قوله: "تجدون الناس معادن" أي أصولا مختلفة، والمعادن جمع معدن وهو الشيء المستقر في الأرض، فتارة يكون نفيسا وتارة يكون خسيسا، وكذلك الناس. قوله: "خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام" وجه التشبيه أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه ولا تتغير صفته فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها بل من كان شريفا في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس فإن أسلم استمر شرفه وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية، وأما قوله إذا فقهوا ففيه إشارة إلى أن الشرف الإسلامي لا يتم إلا بالتفقه في الدين، وعلى هذا فتنقسم الناس أربعة أقسام مع ما يقابلها: الأول شريف في الجاهلية أسلم وتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية لم يسلم ولم يتفقه. الثاني شريف في الجاهلية أسلم ولم يتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية لم يسلم وتفقه. الثالث شريف في الجاهلية لم يسلم ولم يتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية أسلم ثم تفقه. الرابع:
(6/529)
شريف في الجاهلية لم يسلم وتفقه ويقابله مشروف في الجاهلية أسلم ولم يتفقه فأرفع الأقسام من شرف في الجاهلية ثم أسلم وتفقه، ويليه من كان مشروفا ثم أسلم وتفقه، ويليه من كان شريفا في الجاهلية ثم أسلم ولم يتفقه، ويليه من كان مشروفا ثم أسلم ولم يتفقه. وأما من لم يسلم فلا اعتبار به سواء كان شريفا أو مشروفا سواء تفقه أو لم يتفقه والله أعلم. والمراد بالخيار والشرف وغير ذلك من كان متصفا بمحاسن الأخلاق، كالكرم والعفة والحلم وغيرها، متوقيا لمساويها كالبخل والفجور والظلم وغيرها. قوله: "إذا فقهوا" بضم القاف ويجوز كسرها. قوله: "ويجدون خير الناس في هذا الشأن" أي الولاية والإمرة، وقوله: "أشدهم له كراهية" أي أن الدخول في عهدة الإمرة مكروه من جهة تحمل المشقة فيه، وإنما تشتد الكراهة له ممن يتصف بالعقل والدين، لما فيه من صعوبة العمل بالعدل وحمل الناس على رفع الظلم، ولما يترتب عليه من مطالبة الله تعالى للقائم به من حقوق عباده، ولا يخفى خيرية من خاف مقام ربه. وأما قوله في الطريق التي بعد هذه "وتجدون من خير الناس أشد الناس كراهية لهذا الشأن حتى يقع فيه" فإنه قيد الإطلاق في الرواية الأولي وعرف أن من فيه مراده، وأن من اتصف بذلك لا يكون خير الناس على الإطلاق. وأما قوله: "حتى يقع فيه" فاختلف في مفهومه فقيل: معناه أن من لم يكن حريصا على الأمرة غير راغب فيها إذا حصلت له بغير سؤال تزول عنه الكراهة فيها لما يرى من إعانة الله له عليها، فيأمن على دينه ممن كان يخاف عليه منها قبل أن يقع فيها، ومن ثم أحب من أحب استمرار الولاية من السلف الصالح حتى قاتل عليها، وصرح بعض من عزل منهم بأنه لم تسره الولاية بل ساءه العزل. وقيل المراد بقوله: "حتى يقع فيه" أي فإذا وقع فيه لا يجوز له أن يكرهه، وقيل معناه أن العادة جرت بذلك وأن من حرص على الشيء ورغب في طلبه قل أن يحصل له، ومن أعرض عن الشيء وقلت رغبته فيه يحصل له غالبا والله أعلم. قوله: "وتجدون شر الناس ذا الوجهين" سيأتي شرحه في كتاب الأدب، فقد أورده من وجه آخر مستقلا. قوله: "الناس تبع لقريش" بمعنى الأمر، ويدل عليه قوله في رواية أخرى "قدموا قريشا ولا تقدموها" أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح، لكنه مرسل وله شواهد، وقيل: هو خبر على ظاهره، والمراد بالناس بعض الناس وهم سائر العرب من غير قريش، وقد جمعت في ذلك تأليفا سميته "لذة العيش بطرق الأئمة من قريش" وسأذكر مقاصده في كتاب الأحكام مع إيضاح هذه المسألة. قال عياض: استدل الشافعية بهذا الحديث على إمامة الشافعي وتقديمه على غيره، ولا حجة فيه لأن المراد به هنا الخلفاء. وقال القرطبي: صحبت المستدل بهذا غفلة مقارنة لصميم التقليد. وتعقب بأن مراد المستدل أن القرشية من أسباب الفضل والتقدم كما أن من أسباب التقدم الورع مثلا، فالمستويان في خصال الفضل إذا تميز أحدهما بالورع مثلا كان مقدما على رفيقه، فكذلك القرشية، فثبت الاستدلال بها على تقدم الشافعي ومزيته على من ساواه في العلم والدين لمشاركته له في الصفتين وتميز عليه بالقرشية، وهذا واضح، ولعل الغفلة والعصبية صحبت القرطبي فلله الأمر. وقوله: "كافرهم تبع لكافرهم" وقع مصداق ذلك لأن العرب كانت تعظم قريشا في الجاهلية بسكناها الحرم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الله بوقف غالب العرب عن اتباعه وقالوا ننظر ما يصنع قومه، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة وأسلمت قريش تبعتهم العرب ودخلوا في دين الله أفواجا، واستمرت خلافة النبوة في قريش، فصدق أن كافرهم كان تبعا لكافرهم وصار مسلمهم تبعا لمسلمهم. الحديث الخامس: قوله: "حدثني عبد الملك" هو
(6/530)
ابن ميسرة، وقع منسوبا في تفسير حم عسق
ويأتي شرحه مستوفى هناك، ودخوله في هذه الترجمة واضح من جهة تفسير المودة المطلوبة
في الآية بصلة الرحم التي بينه وبين قريش وهم الذين خوطبوا بذلك، وذلك يستدعي
معرفة النسب التي تحقق بها صلة الرحم، قال عكرمة: كانت قريش تصل الأرحام في
الجاهلية، فلما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله خالفوه وقاطعوه، فأمرهم
بصلة الرحم التي بينه وبينهم. وسيأتي بيان الاختلاف في المراد بقوله: "المودة
في القربى" في التفسير وقوله هنا: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن
بطن من قريش إلا وله فيه قرابة فنزلت فيه إلا أن تصلوا قرابة بيني وبينكم"
كذا وقع هنا من رواية يحيى، وهو القطان عن شعبة، ووقع في التفسير من رواية محمد بن
جعفر وهو غندر عن شعبة بلفظ: "إلا كان له فيهم قرابة فقال إلا أن تصلوا ما
بيني وبينكم من القرابة" وهذه الرواية واضحة والأولى مشكلة لأنها توهم أن
المذكور بعد قوله: "فنزلت" من القرآن وليس كذلك، وقد مشى بعض الشراح على
ظاهره فقال: كان هذا قرآنا فنسخ. وقال غيره يحتمل أن هذا الكلام معنى الآية فنسب
إلى النزول مجازا، وهو كقول حسان في قصيدته المشهورة:
وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحق ليس به خفاء
يريد أنه من قول الله بالمعنى. قلت: والذي يظهر لي أن الضمير في قوله:
"فنزلت" للآية المسئول عنها وهي قوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. وقوله: "إلا أن تصلوا"
كلام ابن عباس تفسير لقوله تعالى:{إلا المودة في القربى" وقد أوضحت ذلك رواية
الإسماعيلي من طريق معاذ بن معاذ عن شعبة فقال في روايته: "فقال ابن عباس:
إنه لم يكن بطن من بطون قريش إلا للنبي صلى الله عليه وسلم فيه قرابة فنزلت: {قُلْ
لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} إلا أن تصلوا قرابتي منكم" وله من طريق
يزيد بن زريع عن شعبة مثله لكن قال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة فعرف
بهذا أن المراد ذكر بعض الآية بالمعنى على جهة التفسير، وسبب ذلك خفاء معناها على
سعيد بن جبير، وسيأتي ذكر ما يتعلق بذلك في التفسير إن شاء الله تعالى. قوله:
"عن إسماعيل" هو ابن أبي خالد وقيس هو ابن أبي حازم. قوله: "يبلغ
به النبي صلى الله عليه وسلم" هذا صريح في رفعه، وليس صريحا في أن الصحابي
سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "من ها هنا" أي المشرق. قوله:
"جاءت الفتن" ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقق وقوعه وإن كان المراد أن
ذلك سيجيء. قوله: "نحو المشرق" أي وأشار إلى جهة المشرق، وقد تقدم في
بدء الخلق من وجه آخر عن إسماعيل "حدثني قيس عن عقبة بن عمرو أبي مسعود قال
إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث. قوله: "والجفاء وغلظ
القلوب" قال القرطبي هما شيئان لمسمى واحد كقوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي
وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} والبث هو الحزن، ويحتمل أن يقال: المراد بالجفاء أن
القلب لا يلين بالموعظة ولا يخشع لتذكره، والمراد بالغلظ أنها لا تفهم المراد ولا
تعقل المعنى، وقد مضى في الرواية التي في بدء الخلق بلفظ: "القسوة" بدل
الجفاء. قوله: "في الفدادين" تقدم شرحه في بدء الخلق. قال الكرماني:
مناسبة هذا الحديث والذي بعده للترجمة من ضرورة أن الناس باعتبار الصفات كالقبائل،
وكون الأتقى منهم هو الأكرم انتهى. ولقد أبعد النجعة، والذي يظهر أنها من جهة ذكر
ربيعة ومضر، لأن معظم العرب يرجع نسبه إلى هذين الأصلين وهم كانوا أجل أهل المشرق،
وقريش الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم أحد فروع مضر فأما أهل اليمن فتعرض
لهم في الحديث الذي بعده، وسيأتي لهم ترجمة "من نسب العرب كلهم إلى
إسماعيل". قوله في حديث أبي هريرة "والإيمان يمان والحكمة يمانية"
ظاهره نسبة
(6/531)
الإيمان إلى اليمن لأن أصل يمان يمني
فحذقت ياء النسب وعوض بالألف بدلها، وقوله: "يمانية" هو بالتخفيف، وحكى
ابن السيد في "الاقتضاب" أن التشديد لغة. وحكى الجوهري وغيره أيضا عن
سيبويه جواز التشديد في يماني وأنشد:
يمانيا يظل يشد كيرا ... وينفخ دائما لهب الشواظ
واختلف في المراد به فقيل معناه نسبة الإيمان إلى مكة لأن مبدأه منها، ومكة يمانية
بالنسبة إلى المدينة. وقيل: المراد نسبة الإيمان إلى مكة والمدينة وهما يمانيتان
بالنسبة للشام بناء على أن هذه المقالة صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم وهو
حينئذ بتبوك، ومؤيده قوله في حديث جابر عند مسلم: "والإيمان في أهل
الحجاز"، وقيل المراد بذلك الأنصار لأن أصلهم من اليمن ونسب الإيمان إليهم
لأنهم كانوا الأصل في نصر الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حكى جميع ذلك أبو
عبيدة في "غريب الحديث" له. وتعقبه ابن الصلاح بأنه لا مانع من إجراء
الكلام على ظاهره، وأن المراد تفضيل أهل اليمن على غيرهم من أهل المشرق، والسبب في
ذلك إذعانهم إلى الإيمان من غير كبير مشقة على المسلمين، بخلاف أهل المشرق وغيرهم،
ومن اتصف بشيء وقوي قيامه به نسب إليه إشعارا بكمال حاله فيه، ولا يلزم من ذلك نفي
الإيمان عن غيرهم، وفي ألفاظه أيضا ما يقتضي أنه أراد به أقواما بأعيانهم فأشار
إلى من جاء منهم لا إلى بلد معين، لقوله في بعض طرقه في الصحيح "أتاكم أهل
اليمن، هم ألين قلوبا وأرق أفئدة. الإيمان يمان والحكمة يمانية، ورأس الكفر قبل
المشرق" ولا مانع من إجراء الكلام على ظاهره وحمل أهل اليمن على حقيقته. ثم
المراد بذلك الموجود منهم حينئذ لأكل أهل اليمن في كل زمان، فإن اللفظ لا يقتضيه.
قال: والمراد بالفقه الفهم في الدين، والمراد بالحكمة العلم المشتمل على المعرفة
بالله انتهى. وقد أبعد الحكيم الترمذي حيث زعم أن المراد بذلك شخص خاص وهو أويس
القرني، وسيأتي في "باب ذكر قحطان" زيادة في هذا والله أعلم. قوله:
"قال أبو عبد الله" هو المصنف. قوله: "سميت اليمن لأنها عن يمين
الكعبة" هو قول أبي عبيدة قاله في تفسير الواقعة، وروى عن قطرب قال: إنما سمي
اليمن يمنا ليمنه والشام شأما لشؤمه. وقال الهمداني في "الأنساب": لما
ظعنت العرب العاربة أقبل بنو قطن بن عامر فتيامنوا، فقالت العرب: تيامنت بنو قطن
فسموا اليمن، وتشاءم الآخرون فسموا شاما. وقيل إن الناس لما تفرقت ألسنتهم حين
تبلبلت ببابل أخذ بعضهم عن يمين الكعبة فسموا يمنا وأخذ بعضهم عن شمالها فسموا
شاما، وقيل إنما سميت اليمن بيمن بن قحطان وسميت الشام بسام بن نوح، وأصله شام
بالمعجمة ثم عرب بالمهملة. قوله: "والمشأمة الميسرة إلخ" يريد أنهما
بمعنى، قال أبو عبيدة في تفسير قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا
أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أي أصحاب الميسرة، ويقال لليد اليسرى الشؤمى قال: ويقال
للجانب الأيسر الأشأم انتهى، ويقال: المراد بأصحاب المشأمة أصحاب النار لأنهم يمر
بهم إليها وهي على ناحية الشمال، ويقال لهم ذلك لأنهم يتناولون كتبهم بالشمال،
والله تعالى أعلم.
(6/532)
2 - باب مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ
3500- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ
كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ
(6/532)
أَنَّهُ بَلَغَ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ
عِنْدَهُ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ
فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا
بَعْدُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَحَادِيثَ
لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلاَ تُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَالأَمَانِيَّ الَّتِي
تُضِلُّ أَهْلَهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ
إِلاَّ كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ".
[الحديث 3500 – طرفه في: 7139]
3501- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ
سَمِعْتُ أَبِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي
قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ".
[الحديث 3501 – طرفه في: 7140]
3502- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ
مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ
بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ
وَاحِدَةٍ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو
الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ".
3503- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ مُحَمَّدٌ عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ
بَنِي زُهْرَةَ إِلَى عَائِشَةَ وَكَانَتْ أَرَقَّ شَيْءٍ عَلَي