الجمعة، 6 مايو 2022

مجلد7-فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

 مجلد7-فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 وتعقب بأن الخلاف معروف عند الشافعية، وبأن المشهور عند الحنفية كلهم أن القيام سنة، وأنه لو أذن قاعدا صح، والصواب ما قال ابن المنذر أنهم اتفقوا على أن القيام من السنة. "فائدة": كان اللفظ الذي ينادي به بلال للصلاة قوله: "الصلاة جامعة " أخرجه ابن سعد في الطبقات من مراسيل سعيد بن المسيب. وظن بعضهم أن بلالا حينئذ إنما أمر بالأذان المعهود فذكر مناسبة اختصاص بلال بذاك دون غيره لكونه كان لما عذب ليرجع عن الإسلام فيقول: أحد أحد، فجوزي بولاية الأذان المشتملة على التوحيد في ابتدائه وانتهائه، وهي مناسبة حسنة في اختصاص بلال بالأذان، إلا أن هذا الموضع ليس هو محلها. وفي حديث ابن عمر دليل على مشروعية طلب الأحكام من المعاني المستنبطة دون الاقتصار على الظواهر. قاله ابن العربي، وعلى مراعاة المصالح والعمل بها، وذلك أنه لما شق عليهم التبكير إلى الصلاة فتفوتهم أشغالهم، أو التأخير فيفوتهم وقت الصلاة، نظروا في ذلك. وفيه مشروعية التشاور في الأمور المهمة وأنه لا حرج على أحد من المتشاورين إذا أخبر بما أدى إليه اجتهاده، وفيه منقبة ظاهرة لعمر. وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي، وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك، أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضاها لينظر أيقر على ذلك أم لا، ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه، وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الأحكام وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل من طريق عبيد بن عمير الليثي أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "سبقك بذلك الوحي " وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام، وأشار السهيلي إلى أن الحكمة في ابتداء شرع الأذان على لسان غير النبي صلى الله عليه وسلم التنويه بعلو قدره على لسان غيره ليكون أفخم لشأنه، والله أعلم.

(2/82)


3 - باب الإِقَامَةُ وَاحِدَةٌ إِلاَّ قَوْلَهُ قَدْ قَامَتْ الصَّلاَةُ
607- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ أُمِرَ

(2/83)


بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ قَالَ إِسْمَاعِيلُ فَذَكَرْتُ لِأَيُّوبَ فَقَالَ إِلاَّ الإِقَامَةَ قوله: "باب الإقامة واحدة" قال الزين بن المنير: خالف البخاري لفظ الحديث في الترجمة فعدل عنه إلى قوله: "واحدة " لأن لفظ الوتر غير منحصر في المرة فعدل عن لفظ فيه الاشتراك إلى ما لا اشتراك فيه. قلت: وإنما لم يقل واحدة واحدة مراعاة للفظ الخبر الوارد في ذلك، وهو عند ابن حبان في حديث ابن عمر الذي أشرت إليه في الباب الماضي ولفظه: "الأذان مثنى والإقامة واحدة " وروى الدار قطني وحسنه في حديث لأبي محذورة " وأمره أن يقيم واحدة واحدة". قوله: "إلا قوله قد قامت الصلاة" هو لفظ معمر عن أيوب كما تقدم، قيل واعترضه الإسماعيلي بأن إيراد حديث سماك بن عطية في هذا الباب أولى من إيراد حديث ابن علية، والجواب أن المصنف قصد رفع توهم من يتوهم أنه موقوف على أيوب لأنه أورده في مقام الاحتجاج به، ولو كان عنده مقطوعا لم يحتج به. قوله: "حدثنا خالد" هو الحذاء كما تقدم، والإسناد كله بصريون. قوله: "قال إسماعيل" هو ابن إبراهيم المذكور في أول الإسناد وهو المعروف بابن علية، وليس هو معلقا. قوله: "فذكرت" كذا للأكثر بحذف المفعول، وللكشميهني والأصيلي: "فذكرته " أي حديث خالد، وهذا الحديث حجة على من زعم أن الإقامة مثنى مثل الأذان. وأجاب بعض الحنفية بدعوى النسخ، وأن إفراد الإقامة كان أولا ثم نسخ بحديث أبي محذورة، يعني الذي رواه أصحاب السنن وفيه تثنية الإقامة، وهو متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخا. وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع فكان يلزمهم القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلالا على إفراد الإقامة وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده كما رواه الدار قطني والحاكم. وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح، فإن ربع التكبير الأول في الأذان، أو ثناه، أو رجع في التشهد أو لم يرجع، أو ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا " قد قامت الصلاة " فالجميع جائز. وعن ابن خزيمة إن ربع الأذان ورجع فيه ثنى الإقامة وإلا أفردها، وقيل لم يقل بهذا التفصيل أحد قبله والله أعلم. "فائدة": قيل الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين فيكرر ليكون أوصل إليهم، بخلاف الإقامة فإنها للحاضرين، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة، وأن يكون الأذان مرتلا والإقامة مسرعة، وكرر " قد قامت الصلاة " لأنها المقصودة من الإقامة بالذات. قلت: توجيهه ظاهر، وأما قول الخطابي: لو سوى بينهما لاشتبه الأمر عند ذلك وصار لأن يفوت كثيرا من الناس صلاة الجماعة، ففيه نظر، لأن الأذان يستحب أن يكون على مكان عال لتشترك الأسماع كما تقدم، وقد تقدم الكلام على تثنية التكبير، وتؤخذ حكمة الترجيع مما تقدم، وإنما اختص بالتشهد لأنه أعظم ألفاظ الأذان، والله أعلم.

(2/84)


4 - باب فَضْلِ التَّأْذِينِ
608- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا

(2/84)


ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى
[الحديث 608 – أطرافه في : 3285,1233,1231,1222]
قوله: "باب فضل التأذين" راعى المصنف لفظ: "التأذين " لوروده في حديث الباب. وقال الزين ابن المنير: التأذين يتناول جميع ما يصدر عن المؤذن من قول وفعل وهيئة، وحقيقة الأذان تعقل بدون ذلك، كذا قال. والظاهر أن التأذين هنا أطلق بمعنى الأذان لقوله في الحديث: "حتى لا يسمع التأذين " وفي رواية لمسلم: "حتى لا يسمع صوته " فالتقييد بالسماع لا يدل على فعل ولا على هيئة، مع أن ذلك هو الأصل في قوله: "إذا نودي للصلاة" وللنسائي عن قتيبة عن مالك " بالصلاة " وهي رواية لمسلم أيضا، ويمكن حملهما على معنى واحد. قوله: "له ضراط" جملة اسمية وقعت حالا بدون واو لحصول الارتباط بالضمير. وفي رواية الأصيلي: "وله ضراط " وهي للمصنف من وجه آخر في بدء الخلق، قال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنها عبارة عن شدة نفاره، ويقويه رواية لمسلم: "له حصاص " بمهملات مضموم الأول فقد فسره الأصمعي وغيره بشدة العدو. قال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطا تقبيحا له. "تنبيه" الظاهر أن المراد بالشيطان إبليس، وعليه يدل كلام كثير من الشراح كما سيأتي، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن والإنس، لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة. قوله: "حتى لا يسمع التأذين" ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافا كما يفعله السفهاء، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، ويحتمل أن يتعمد ذلك ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، واستدل به على استحباب رفع الصوت بالأذان لأن قوله: "حتى لا يسمع " ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد وقع بيان الغاية في رواية لمسلم من حديث جابر فقال: "حتى يكون مكان الروحاء " وحكى الأعمش عن أبي سفيان راويه عن جابر أن بين المدينة والروحاء ستة وثلاثين ميلا، هذه رواية قتيبة عن جرير عند مسلم، وأخرجه عن إسحاق عن جرير ولم يسق لفظه، ولفظ إسحاق في مسنده " حتى يكون بالروحاء، وهي ثلاثون ميلا من المدينة " فأدرجه في الخبر، والمعتمد رواية قتيبة، وسيأتي حديث أبي سعيد في " فضل رفع الصوت بالأذان " بعده. قوله: "قضي" بضم أوله، والمراد بالقضاء الفراغ أو الانتهاء، ويروى بفتح أوله على حذف الفاعل، والمراد المنادى، واستدل به على أنه كان بين الأذان والإقامة فصل، خلافا لمن شرط في إدراك فضيلة أول الوقت أن ينطبق أول التكبير على أول الوقت. قوله: "إذا ثوب" بضم المثلثة وتشديد الواو المكسورة قيل هو من ثاب إذا رجع، وقيل من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفراغ لإعلام غيره، قال الجمهور: المراد بالتثويب هنا الإقامة، وبذلك جزم أبو عوانة في صحيحه والخطابي والبيهقي وغيرهم، قال القرطبي: ثوب بالصلاة إذا أقيمت، وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان، وكل من ردد صوتا فهو مثوب، ويدل عليه رواية مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة " فإذا سمع الإقامة ذهب " وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن

(2/85)


بين الأذان والإقامة " حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة " وحكى ذلك ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به، لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة، فهذا يدل على أن له سلفا في الجملة، ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص. وقال الخطابي: لا يعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن في الأذان " الصلاة خير من النوم " لكن المراد به في هذا الحديث الإقامة، والله أعلم. قوله: "أقبل" زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة " فوسوس". قوله: "أقبل حتى يخطر" بضم الطاء، قال عياض: كذا سمعناه من أكثر الرواة، وضبطناه عن المتقنين بالكسر، وهو الوجه، ومعناه يوسوس، وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه، وأما بالضم فمن المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله، وضعف الحجري في نوادره الضم مطلقا وقال: هو يخطر بالكسر في كل شيء. قوله: "بين المرء ونفسه" أي قلبه، وكذا هو للمصنف من وجه آخر في بدء الخلق، قال الباجي: المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها. قوله: "يقول: اذكر كذا اذكر كذا" وقع في رواية كريمة بواو العطف " واذكر كذا " وهي لمسلم، وللمصنف في صلاة السهو " اذكر كذا وكذا " زاد مسلم من رواية عبد ربه عن الأعرج " فهناه ومناه وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر". قوله: "لما لم يكن يذكر" أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة. وفي رواية لمسلم: "لما لم يكن يذكر من قبل"، ومن ثم استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه أنه دفن مالا ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا، ففعل، فذكر مكان المال في الحال. قيل: خصه بما يعلم دون ما لا يعلم لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه لأعم من ذلك فيذكره بما سبق له به علم ليشتغل باله به وبما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه، وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم، لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها؟ لا يبعد ذلك، لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان. قوله: "حتى يظل الرجل" كذا للجمهور بالظاء المشالة المفتوحة، ومعنى يظل في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارا لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى، ووقع عند الأصيلي: "يضل " بكسر الساقطة أي ينسى، ومنه قوله تعالى: {أن تضل إحداهما} أو بفتحها، أي يخطئ ومنه قوله تعالى: {لا يضل ربي ولا ينسى} والمشهور الأول. قوله: "لا يدرى" وفي رواية في صلاة السهو " إن يدري " بكسر همزة إن وهي نافية بمعنى لا، وحكى ابن عبد البر عن الأكثر في الموطأ فتح الهمزة ووجهه بما تعقبه عليه جماعة. وقال القرطبي: ليست رواية الفتح لشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة فتكون أن مع الفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل أن بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته. قوله: "كم صلى" وللمصنف في بدء الخلق من وجه آخر عن أبي هريرة " حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا " وسيأتي الكلام عليه في أبواب السهو إن شاء الله تعالى. وقد اختلف العلماء في الحكمة في هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة، فقيل يهرب حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له كما يأتي بعد، ولعل البخاري أشار إلى ذلك بإيراده الحديث المذكور عقب هذا الحديث. ونقل عياض عن بعض أهل العلم أن اللفظ عام والمراد به خاص، وأن الذي يشهد من تصح منه الشهادة كما سيأتي القول فيه في الباب الذي بعده. وقيل إن ذلك خاص بالمؤمنين فأما الكفار فلا تقبل لهم شهادة، ورده لما جاء من الآثار بخلافه، وبالغ الزين بن المنير في تقرير الأول وهو مقام

(2/86)


احتمال، وقيل يهرب نفورا عن سماع الأذان ثم يرجع موسوسا ليفسد على المصلي صلاته، فصار رجوعه من جنس فراره، والجامع بينهما الاستخفاف. وقيل لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه، واعترض بأنه يعود قبل السجود، فلو كان هربه لأجله لم يعد إلا عند فراغه، وأجيب بأنه يهرب عند سماع الدعاء بذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرا ثم يرجع ليفسد على المصلي سجده الذي أباه، وقيل إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة، واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي، وأجيب بأن الإعلان أخص من الاتفاق فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والتلاوة مثلا، ولهذا قال لعبد الله بن زيد " ألقه على بلال فإنه أندى صوتا منك " أي أقعد في المد والإطالة والإسماع ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها فيفر حينئذ، وقد ييأس عن أن يردهم عما أعلنوا به ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى والوسوسة. وقال ابن الجوزي: على الأذان هيبة يشتد انزعاج الشيطان بسببها، لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به، بخلاف الصلاة فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة. وقد ترجم عليه أبو عوانة " الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه " وقيل لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها ولا ينقص منها، بل تقع على وفق الأمر، فيفر من سماعها. وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط فيتمكن الخبيث من المفرط، فلو قدر أن المصلي وفى بجميع ما أمر به فيها لم يقر به إذا كان وحده وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله فإنه يكون أندر، أشار إليه ابن أبي جمرة نفع الله ببركته. "فائدة": قال ابن بطال يشبه أن يكون الزجر عن خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن المؤذن من هذا المعنى، لئلا يكون متشبها بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان والله أعلم. "تنبيهان": "الأول" فهم بعض السلف من الأذان في هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم توجد فيه شرائط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك، ففي صحيح مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه أنه قال: "إذا سمعت صوتا فناد بالصلاة " واستدل بهذا الحديث، وروى مالك عن زيد بن أسلم نحوه. "الثاني" وردت في فضل الأذان أحاديث كثيرة ذكر المصنف بعضها في مواضع أخرى، واقتصر على هذا هنا، لأن هذا الخبر تضمن فضلا لا ينال بغير الأذان، بخلاف غيره من الأخبار فإن الثواب المذكور فيها يدرك بأنواع أخرى من العبادات، والله أعلم.

(2/87)


5 - باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلاَ فَاعْتَزِلْنَا
609- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ

(2/87)


جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 609 – طرفاه في: 7548,3296]
قوله: "باب رفع الصوت بالنداء" قال الزين بن المنير: لم ينص على حكم رفع الصوت لأنه من صفة الأذان، وهو لم ينص في أصل الأذان على حكم كما تقدم، وقد ترجم عليه النسائي: "باب الثواب على رفع الصوت بالأذان". قوله: "وقال عمر بن عبد العزيز" وصله ابن أبي شيبة من طريق عمر عن سعيد بن أبي حسين أن مؤذنا أذن فطرب في أذانه فقال له عمر بن عبد العزيز. فذكره، ولم أقف على اسم هذا المؤذن وأظنه من بني سعد القرظ لأن ذلك وقع حيث كان عمر بن عبد العزيز أميرا على المدينة، والظاهر أنه خاف عليه من التطريب الخروج عن الخشوع، لا أنه نهاه عن رفع الصوت. وقد روي نحو هذا من حديث ابن عباس مرفوعا أخرجه الدار قطني وفيه إسحاق بن أبي يحيى الكعبي وهو ضعيف عند الدار قطني وابن عدي. وقال ابن حبان: لا تحل الرواية عنه، ثم غفل فذكره في الثقات. قوله: "عن أبيه" زاد ابن عيينة " وكان يتيما في حجر أبي سعيد وكانت أمه عند أبي سعيد " أخرجه ابن خزيمة من طريقه، لكن قلبه ابن عيينة فقال: عن عبد الرحمن بن عبد الله والصحيح قول مالك ووافقه عبد العزيز الماجشون. وزعم أبو مسعود في الأطراف أن البخاري أخرج روايته، لكن لم نجد ذلك ولا ذكرها خلف قاله ابن عساكر. واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبدول بن عمرو بن غنم بن مازن ابن النجار، مات أبو صعصعة في الجاهلية، وابنه عبد الرحمن صحابي، روى ابن شاهين في الصحابة من طريق قيس بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن جده حديثا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سياقه أن جده كان بدريا، وفيه نظر لأن أصحاب المغازي لم يذكروه فيهم وإنما ذكروا أخاه قيس بن أبي صعصعة. قوله: "أن أبا سعيد الخدري قال له" أي لعبد الله بن عبد الرحمن. قوله: "تحب الغنم والبادية" أي لأجل الغنم لأن محبها يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى، وهو في الغالب يكون في البادية وهي الصحراء التي لا عمارة فيها. قوله: "في غنمك أو باديتك" يحتمل أن تكون " أو " شكا من الراوي، ويحتمل أن تكون للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية، ولأنه قد يكون في البادية حيث لا غنم. قوله: "فأذنت للصلاة" أي لأجل الصلاة، وللمصنف في بدء الخلق " بالصلاة " أي أعلمت بوقتها. قوله: "فارفع" فيه إشعار بأن أذان من أراد الصلاة كان مقررا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين، واستدل به الرافعي للقول الصائر إلى استحباب أذان المنفرد، وهو الراجح عند الشافعية بناء على أن الأذان حق الوقت، وقيل لا يستحب بناء على أن الأذان لاستدعاء الجماعة للصلاة، ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة أو لا. قوله: "بالنداء" أي بالأذان. قوله: "لا يسمع مدى صوت المؤذن" أي غاية صوته، قال البيضاوي: غاية الصوت تكون أخفى من ابتدائه، فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته فلأن يشهد له من دنا منه وسمع مبادي صوته أولى. قول "جن ولا إنس ولا شيء" ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات، فهو من العام بعد الخاص، ويؤيده ما في رواية ابن خزيمة: "لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس" ، ولأبي داود والنسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ: "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس " ونحوه للنسائي وغيره من حديث البراء وصححه ابن السكن، فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله في حديث الباب: "ولا شيء " وقد تكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على غير ما يقتضيه ظاهره، قال القرطبي: قوله: "ولا شيء "

(2/88)


المراد به الملائكة. وتعقب بأنهم دخلوا في قوله جن لأنهم يستخفون عن الأبصار. وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل دون الجمادات. ومنهم من حمله على ظاهره، وذلك غير ممتنع عقلا ولا شرعا. قال ابن بزيزة، تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلا من حي، فهل ذلك حكاية عن لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال باريها، أو هو على ظاهره؟ وغير ممتنع عقلا أن الله يخلق فيها الحياة والكلام. وقد تقدم البحث في ذلك في قول النار " أكل بعضي بعضا " وسيأتي في الحديث الذي فيه: "أن البقرة قالت إنما خلقت للحرث " وفي مسلم من حديث جابر ابن سمرة مرفوعا: "إني لأعرف حجرا كان يسلم علي " ا هـ. ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك: إن قوله هنا " ولا شيء " نظير قوله تعالى:{وإن من شيء إلا يسبح بحمده" وتعقبه بأن الآية مختلف فيها، وما عرفت وجه هذا التعقب فإنهما سواء في الاحتمال ونقل الاختلاف، إلا أن يقول إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث. والله أعلم. "فائدة": السر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، قاله الزين بن المنير. وقال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة، وكما أن الله يفضح بالشهادة قوما فكذلك يكرم بالشهادة آخرين. قوله: "إلا شهد له" للكشميهني إلا يشهد له، وتوجيههما واضح. قوله: "قال أبو سعيد سمعته" قال الكرماني: أي هذا الكلام الأخير وهو قوله إنه لا يسمع الخ. قلت: وقد أورد الرافعي هذا الحديث في الشرح بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد إنك رجل تحب الغنم " وساقه إلى آخره، وسبقه إلى ذلك الغزالي وإمامه والقاضي حسين وابن داود شارح المختصر وغيرهم، وتعقبه النووي، وأجاب ابن الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قول أبي سعيد " سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عائد على كل ما ذكر ا ه. ولا يخفى بعده. وقد رواه ابن خزيمة من رواية ابن عيينة ولفظه: "قال أبو سعيد: إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يسمع " فذكره، ورواه يحيى القطان أيضا عن مالك بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أذنت فارفع صوتك، فإنه لا يسمع " فذكره. فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف، والله أعلم. وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى به، وفيه أن حب الغنم والبادية ولا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح، وفيه جواز التبدي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم وأمن من غلبة الجفاء. وفيه أن أذان الفذ مندوب إليه ولو كان في قفر ولو لم يرتج حضور من يصلي معه، لأنه إن فاته دعاء المصلين فلم يفته استشهاد من سمعه من غيرهم.

(2/89)


6 - باب مَا يُحْقَنُ بِالأَذَانِ مِنْ الدِّمَاءِ
610- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَالَ فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ وَرَكِبْتُ خَلْفَ أَبِي طَلْحَةَ

(2/89)


وَإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَخَرَجُوا إِلَيْنَا بِمَكَاتِلِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ فَلَمَّا رَأَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ قَالَ فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ قوله: "باب ما يحقن بالأذان من الدماء" قال الزين بن المنير: قصد البخاري بهذه الترجمة واللتين قبلها استيفاء ثمرات الأذان، فالأولى فيها فضل التأذين لقصد الاجتماع للصلاة، والثانية فيها فضل أذان المنفرد لإيداع الشهادة له بذلك، والثالثة فيها حقن الدماء عند وجود الأذان. قال: وإذا انتفت عن الأذان فائدة من هذه الفوائد لم يشرع إلا في حكايته عند سماعه، ولهذا عقبه بترجمة ما يقول إذا سمع المنادي ا هـ. كلامه ملخصا. ووجه الاستدلال للترجمة من حديث الباب ظاهر، وباقي المتن من متعلقات الجهاد. الحديث قد أورده المصنف في الجهاد بهذا الإسناد وسياقه هناك أتم مما هنا، وسيأتي الكلام على فوائده هناك إن شاء الله تعالى. وقد روى مسلم طرفه المتعلق بالأذان وسياقه أوضح، أخرجه من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار" . قال الخطابي: فيه أن الأذان شعار الإسلام، وأنه لا يجوز تركه، ولو أن أهل بلد اجتمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه ا هـ. وهذا أحد أقوال العلماء كما تقدم، وهو أحد الأوجه في المذهب. وأغرب ابن عبد البر فقال: لا أعلم فيه خلافا، وأن قول أصحابنا من نطق بالتشهد في الأذان حكم بإسلامه إلا إذا كان عيسويا فلا يرد عليه مطلق حديث الباب، لأن العيسوية طائفة من اليهود حدثت في آخر دولة بني أمية فاعترفوا بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إلى العرب فقط، وهم منسوبون إلى رجل يقال له أبو عيسى أحدث لهم ذلك. "تنبيه": وقع في سياق حديث الباب: "لم يكن يغر بنا " واختلف في ضبطه، ففي رواية المستملي: "يغر " من الإغارة مجزوم على أنه بدل من قوله يكن. وفي رواية الكشميهني: "يغد " بإسكان الغين وبالدال المهملة من الغدو. وفي رواية كريمة: "يغزو " بزاي بعدها واو من الغزو. وفي رواية الأصيلي: "يغير " كالأول لكن بإثبات الياء. وفي رواية غيرهم بضم أوله وإسكان الغين من الإغراء، ورواية مسلم تشهد لرواية من رواه من الإغارة، والله أعلم.

(2/90)


7 - باب مَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي
611- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ"
612- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا فَقَالَ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى نَحْوَهُ

(2/90)


613- قَالَ يَحْيَى وَحَدَّثَنِي بَعْضُ إِخْوَانِنَا أَنَّهُ قَالَ لَمَّا قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قَالَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَقَالَ هَكَذَا سَمِعْنَا نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ"
قوله ( بابمايقول إذا سمع المنادي ) هذا لفظ رواية أبي الطيالسي عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري في حديث الباب , وآثر المصنف عدم الجزم بحكم ذلك لقوة الخلاف فيه كما سيأتي . ثم ظاهر صنيعه يقتضي ترجيح ما عليه الجمهور وهو أن يقول مثل مايقول من الأذان إلا الحيعلتين , لان حديث أبي سعيد الذي بدأ به عام , وحديث معاوية الذي تلاه به يخصصه , والخاص مقدم على العام . قوله: "عن عطاء بن زيد" في رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره، أخرجه أبو عوانة. "فائدة": اختلف على الزهري في إسناد هذا الحديث، وعلى مالك أيضا، لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه. وقال أحمد بن صالح وأبو حاتم وأبو داود والترمذي: حديث مالك ومن تابعه أصح، ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده عنه. وقال الدار قطني: إنه خطأ والصواب الرواية الأولى، وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به. قوله: "إذا سمعتم" ظاهره اختصاص الإجابة بمن يسمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلا في الوقت وعلم أنه يؤذن لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا تشرع له المتابعة، قاله النووي في شرح المهذب. قوله: "فقولوا مثل ما يقول المؤذن" ادعى ابن وضاح أن قول " المؤذن " مدرج، وأن الحديث انتهى عند قوله: "مثل ما يقول". وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها. قوله: "ما يقول" قال الكرماني: قال: "ما يقول: "ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها. قلت: والصريح في ذلك ما رواه النسائي من حديث أم حبيبة " أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت " وأما أبو الفتح اليعمري فقال: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن، لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة، يشير إلى حديث عمر بن الخطاب الذي عند مسلم وغيره، فلو لم يجاوبه حتى فرغ استحب له التدارك إن لم يطل الفصل. قاله النووي في شرح المهذب بحثا. وقد قالوه فيما إذا كان له عذر كالصلاة، وظاهر قوله مثل أنه يقول مثل قوله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر أيضا وحديث معاوية الآتي يدلان على أنه يستثنى من ذلك " حي على الصلاة وحي على الفلاح " فيقول بدلهما " لا حول ولا قوة إلا بالله " كذلك استدل به ابن خزيمة وهو المشهور عند الجمهور. وقال ابن المنذر يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا، وحكى بعض المتأخرين عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما، قال: فلم لا يقال يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة، وهو وجه عند الحنابلة. أجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة، وذلك يحصل من المؤذن، فعوض السامع عما يفوته من ثواب الحيعلة بثواب الحوقلة. ولقائل أن يقول: يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر، ويمكن أن يزداد استيقاظا وإسراعا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن

(2/91)


نفسه. ويقرب من ذلك الخلاف في قول المأموم " سمع الله لمن حمده " كما سيأتي في موضعه. وقال الطيبي: معنى الحيعلتين هلم بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلا والفوز بالنعيم آجلا، فناسب أن يقول: هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته. ومما لوحظت فيه المناسبة ما نقل عيد الرزاق عن ابن جريج قال: حدثت أن الناس كانوا ينصتون للمؤذن إنصاتهم للقراءة فلا يقول شيئا إلا قالوا مثله، حتى إذا قال: "حي على الصلاة " قالوا " لا حول ولا قوة إلا بالله " وإذا قال: "حي على الفلاح " قالوا " ما شاء الله". انتهى. وإلى هذا صار بعض الحنفية. وروى ابن أبي شيبة مثله عن عثمان، وروى عن سعيد بن جبير قال: يقول في جواب الحيعلة: سمعنا وأطعنا. ووراء ذلك وجوه من الاختلاف أخرى، قيل لا يجيبه إلا في التشهدين فقط، وقيل هما والتكبير، وقيل يضيف إلى ذلك الحوقلة دون ما في آخره، وقيل مهما أتى به مما يدل على التوحيد والإخلاص كفاه وهو اختيار الطحاوي، وحكوا أيضا خلافا: هل يجيب في الترجيع أو لا، وفيما إذا أذن مؤذن آخر هل يجيبه بعد إجابته للأول أو لا. قال النووي: لم أر فيه شيئا لأصحابنا. وقال ابن عبد السلام: يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب، وإجابة الأول أفضل، إلا في الصبح والجمعة فإنهما سواء لأنهما مشروعان. وفي الحديث دليل على أن لفظ المثل لا يقتضي المساواة من كل جهة، لأن قوله مثل ما يقول لا يقصد به رفع الصوت المطلوب من المؤذن، كذا قيل وفيه بحث، لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق بين المؤذن والمجيب في ذلك أن المؤذن مقصوده الإعلام فاحتاج إلى رفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله فيكتفي بالسر أو الجهر لا مع الرفع. نعم لا يكفيه أن يجريه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول. وأغرب ابن المنير فقال: حقيقة الأذان جميع ما يصدر عن المؤذن من قول وفعل وهيئة. وتعقب بأن الأذان معناه الإعلام لغة، وخصه الشرع بألفاظ مخصوصة في أوقات مخصوصة فإذا وجدت الأذان، وما زاد على ذلك من قول أو فعل أو هيئة يكون من مكملاته صلى الله عليه وسلم ويوجد الأذان من دونها. ولو كان على ما أطلق لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأذان، وليس كذلك لا لغة ولا شرعا. واستدل به على جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملا بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة، وقيل يؤخر الإجابة حتى يفرغ لأن في الصلاة شغلا، وقيل يجيب إلا في الحيعلتين لأنهما كالخطاب للآدميين والباقي من ذكر الله فلا يمنع. لكن قد يقال: من يبدل الحيعلة بالحوقلة لا يمنع، لأنها من ذكر الله، قاله ابن دقيق العيد. وفرق ابن عبد السلام في فتاويه بين ما إذا كان يقرأ الفاتحة فلا يجيب بناء على وجوب موالاتها وإلا فيجيب، وعلى هذا إن أجاب في الفاتحة استأنف، وهذا قاله بحثا، والمشهور في المذهب كراهة الإجابة في الصلاة بل يؤخرها حتى يفرغ، وكذا في حال الجماع والخلاء، لكن إن أجاب بالحيعلة بطلت كذا أطلقه كثير منهم، ونص الشافعي في الأم على عدم فساد الصلاة بذلك، واستدل به على مشروعية إجابة المؤذن في الإقامة، قالوا: إلا في كلمتي الإقامة فيقول: "أقامها الله وأدامها " وقياس إبدال الحيعلة بالحوقلة في الأذان أن يجيء هنا، لكن قد يفرق بأن الأذان إعلام عام فيعسر على الجميع أن يكونوا دعاة إلى الصلاة، والإقامة إعلام
ـــــــ
(1) هذا فيه نظر : والصواب أن ما أحدثه الناس من رفع الصوت بالتسبيح قبل الأذان والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعده – كما أشار إليه الشارح – بدعة يجب على ولاة الأمر إنكارها حتى لايدخل في الأذان ماليس منه , وفيما شرعه الله غنية وكفاية عن المحدثات,فتنبه

(2/92)


خاص وعدد من يسمعها محصور فلا يعسر أن يدعو بعضهم بعضا. واستدل به على وجوب إجابة المؤذن، حكاه الطحاوي عن قوم من السلف وبه قال الحنفية وأهل الظاهر وابن وهب، واستدل للجمهور بحديث أخرجه مسلم وغيره: "إنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنا فلما كبر قال: على الفطرة، فلما تشهد قال: خرج من النار " قال: فلما قال عليه الصلاة والسلام غير ما قال المؤذن علمنا أن الأمر بذلك للاستحباب. وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال، فيجوز أن يكون قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن يكون ذلك وقع قبل صدور الأمر، ويحتمل أن يكون الرجل لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك، قيل ويحتمل أن يكون الرجل لم يقصد الأذان لكن يرد هذا الأخير أن في بعض طرقه أنه حضرته الصلاة قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "أنه سمع معاوية يوما فقال مثله - إلى قوله - وأشهد أن محمدا رسول الله" هكذا أورد المتن هنا مختصرا، وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن هشام ولفظه: "كنا عند معاوية فنادى المنادي بالصلاة فقال مثل ما قال، ثم قال: هكذا سمعت نبيكم " ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق أنبأنا وهب بن جرير حدثنا هشام عن يحيى نحوه. قال يحيى: وحدثني بعض إخواننا " أنه لما قال حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال: هكذا سمعت نبيكم يقول". انتهى. فأحال بقوله نحوه على الذي قبله، وقد عرفت أنه لم يسق لفظه كله، وقد وقع لنا هذا الحديث من طرق عن هشام المذكور تاما، منها للإسماعيلي من طريق معاذ ابن هشام عن أبيه عن يحيى حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا عيسى بن طلحة قال: "دخلنا على معاوية، فنادى مناد بالصلاة، فقال: الله أكبر الله أكبر، فقال معاوية الله أكبر الله أكبر. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال معاوية: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: أشهد أن محمدا رسول الله، فقال معاوية: وأنا أشهد أن محمدا رسول الله" قال يحيى فحدثني صاحب لنا " أنه لما قال حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال هكذا سمعنا نبيكم". انتهى. فاشتمل هذا السياق على فوائد: أحدها تصريح يحيى بن أبي كثير بالسماع له من محمد بن إبراهيم فأمن ما يخشى من تدليسه، ثانيها بيان ما اختصر من روايتي البخاري، ثالثها أن قوله في الرواية الأولى " أنه سمع معاوية يوما فقال مثله " فيه حذف تقديره أنه سمع معاوية يسمع المؤذن يوما فقال مثله، رابعها أن الزيادة في رواية وهب بن جرير لم ينفرد بها لمتابعة معاذ بن هشام له، خامسها أن قوله: "قال يحيى " ليس تعليقا من البخاري كما زعمه بعضهم، بل هو عنده بإسناد إسحاق. وأبدى الحافظ قطب الدين احتمالا أنه عنده بإسنادين، ثم إن إسحاق هذا لم ينسب وهو ابن راهويه، كذلك صرح به أبو نعيم في مستخرجه، وأخرجه من طريق عبد الله بن شيرويه عنه. وأما المبهم الذي حدث يحيى به عن معاوية فلم أقف في شيء من الطرق على تعيينه، وحكى الكرماني عن غيره أن المراد به الأوزاعي، وفيه نظر، لأن الظاهر أن قائل ذلك ليحيى حدثه به عن معاوية، وأين عصر الأوزاعي من عصر معاوية؟ وقد غلب على ظني أنه علقمة ابن وقاص إن كان يحيى بن أبي كثير أدركه، وإلا فأحد ابنيه عبد الله بن علقمة أو عمرو بن علقمة، وإنما قلت ذلك لأنني جمعت طرقه عن معاوية فلم أجد هذه الزيادة في ذكر الحوقلة إلا من طريقين: أحدهما عن نهشل التميمي عن معاوية وهو في الطبراني بإسناد واه، والآخر عن علقمة بن وقاص عنه، وقد أخرجه النسائي واللفظ له، وابن خزيمة وغيرهما من طريق ابن جريج أخبرني عمرو بن يحيى أن عيسى بن عمرو أخبره عن عبد الله بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال: "إني لعند معاوية إذ أذن مؤذن، فقال معاوية

(2/93)


كما قال، حتى إذا قال حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قال حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال بعد ذلك ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك " ورواه ابن خزيمة أيضا من طريق يحيى القطان عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده قال: كنت عند معاوية فذكر مثله، وأوضح سياقا منه، وتبين بهذه الرواية أن ذكر الحوقلة في جواب حي على الفلاح اختصر في حديث الباب، بخلاف ما تمسك به بعض من وقف مع ظاهره، وأن " إلى " في قوله في الطريق الأولى " فقال مثل قوله إلى أشهد أن محمدا رسول الله " بمعنى " مع " كقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم" . "تنبيه": أخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب نحو حديث معاوية، وإنما لم يخرجه البخاري لاختلاف وقع في وصله وإرساله كما أشار إليه الدار قطني، ولم يخرج مسلم حديث معاوية لأن الزيادة المقصودة منه ليست على شرط الصحيح للمبهم الذي فيها، لكن إذا انضم أحد الحديثين إلى الآخر قوي جدا. وفي الباب أيضا عن الحارث بن نوفل الهاشمي وأبي رافع - وهما في الطبراني وغيره - وعن أنس في البزار وغيره، والله تعالى أعلم.

(2/94)


8 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ
614- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
[ الحديث 614- طرفه في :4719]
قوله: "باب الدعاء عند النداء" أي عند تمام النداء، وكأن المصنف لم يقيده بذلك اتباعا لإطلاق الحديث كما سيأتي البحث فيه. قوله: "حدثني علي بن عياش" بالياء الأخيرة والشين المعجمة وهو الحمصي من كبار شيوخ البخاري ولم يلقه من الأئمة الستة غيره، وقد حدث عنه القدماء بهذا الحديث، أخرجه أحمد في مسنده عنه، ورواه علي بن المديني شيخ البخاري مع تقدمه على أحمد عنه، أخرجه الإسماعيلي من طريقه. قوله: "عن محمد بن المنكدر" ذكر الترمذي أن شعيبا تفرد به عن ابن المنكدر فهو غريب مع صحته، وقد توبع ابن المنكدر عليه عن جابر أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أبي الزبير عن جابر نحوه، ووقع في زوائد الإسماعيلي: أخبرني ابن المنكدر. قوله: "من قال حين يسمع النداء" أي الأذان، واللام للعهد، ويحتمل أن يكون التقدير: من قال حين يسمع نداء المؤذن. وظاهره أنه يقول الذكر المذكور حال سماع الأذان ولا يتقيد بفراغه، لكن يحتمل أن يكون المراد من النداء تمامه، إذ المطلق يحمل على الكامل، ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم بلفظ: "قولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة " ففي هذا أن ذلك يقال عند فراغ الأذان. واستدل الطحاوي بظاهر حديث جابر على أنه لا يتعين إجابة المؤذن بمثل ما يقول، بل لو اقتصر على الذكر المذكور كفاه. وقد بين حديث عبد الله بن عمرو المراد، وأن الحين محمول على ما بعد الفراغ، واستدل به ابن بزيزة على عدم وجوب ذلك لظاهر إيراده، لكن لفظ الأمر في رواية مسلم قد يتمسك به من يدعي الوجوب، وبه

(2/94)


قال الحنفية وابن وهب من المالكية وخالف الطحاوي أصحابه فوافق الجمهور. قوله: "رب هذه الدعوة" بفتح الدال، زاد البيهقي من طريق محمد بن عون عن علي بن عياش " اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة " والمراد بها دعوة التوحيد كقوله تعالى: {له دعوة الحق} وقيل لدعوة التوحيد " تامة " لأن الشركة نقص. أو التامة التي لا يدخلها تغيير ولا تبديل، بل هي باقية إلى يوم النشور، أو لأنها هي التي تستحق صفة التمام وما سواها فمعرض للفساد. وقال ابن التين: وصفت بالتامة لأن فيها أتم القول وهو " لا إله إلا الله". وقال الطيبي: من أوله إلى قوله: "محمد رسول الله " هي الدعوة التامة، والحيعلة هي الصلاة القائمة في قوله يقيمون الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة الدعاء وبالقائمة الدائمة من قام على الشيء إذا داوم عليه، وعلى هذا فقوله: "والصلاة القائمة " بيان للدعوة التامة، ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة المعهودة المدعو إليها حينئذ وهو أظهر. قوله: "الوسيلة" هي ما يتقرب به إلى الكبير، يقال توسلت أي تقربت، وتطلق على المنزلة العلية، ووقع ذلك في حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم بلفظ: "فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله " الحديث، ونحوه للبزار عن أبي هريرة، ويمكن ردها إلى الأول بأن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله فتكون كالقربة التي يتوسل بها. قوله: "والفضيلة" أي المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى أو تفسيرا للوسيلة. قوله: "مقاما محمودا" أي يحمد القائم فيه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، ونصب على الظرفية، أي ابعثه يوم القيامة فأقمه مقاما محمودا، أو ضمن ابعثه معنى أقمه، أو على أنه مفعول به ومعنى ابعثه أعطه، ويجوز أن يكون حالا أي ابعثه ذا مقام محمود. قال النووي: ثبتت الرواية بالتنكير وكأنه حكاية للفظ القرآن. وقال الطيبي: إنما نكره لأنه أفخم وأجزل، كأنه قيل مقاما أي مقاما محمودا بكل لسان. قلت: وقد جاء في هذه الرواية بعينها من رواية علي بن عياش شيخ البخاري فيه بالتعريف عند النسائي، وهي في صحيح ابن خزيمة وابن حبان أيضا، وفي الطحاوي والطبراني في الدعاء والبيهقي، وفيه تعقب على من أنكر ذلك كالنووي. قوله: "الذي وعدته" زاد في رواية البيهقي " إنك لا تخلف الميعاد " وقال الطيبي: المراد بذلك قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وأطلق عليه الوعد لأن عسى من الله واقع كما صح عن ابن عيينة وغيره، والموصول إما بدل أو عطف بيان أو خبر مبتدأ محذوف وليس صفة للنكرة، ووقع في رواية النسائي وابن خزيمة وغيرهما: "المقام المحمود " بالألف واللام فيصح وصفه بالموصول والله أعلم. قال ابن الجوزي: والأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، وقيل إجلاسه على العرش، وقيل على الكرسي، وحكى كلا من القولين عن جماعة، وعلى تقدير الصحة لا ينافي الأول لاحتمال أن يكون الإجلاس علامة الإذن في الشفاعة، ويحتمل أن يكون المراد بالمقام المحمود الشفاعة كما هو مشهور وأن يكون الإجلاس هي المنزلة المعبر عنها بالوسيلة أو الفضيلة. ووقع في صحيح ابن حبان من حديث كعب بن مالك مرفوعا: "يبعث الله الناس، فيكسوني ربي حلة خضراء، فأقول ما شاء الله أن أقول " فذلك المقام المحمود، ويظهر أن المراد بالقول المذكور هو الثناء الذي يقدمه بين يدي الشفاعة. ويظهر أن المقام المحمود هو مجموع ما يحصل له في تلك الحالة، ويشعر قوله في آخر الحديث: "حلت له شفاعتي " بأن الأمر المطلوب له الشفاعة، والله أعلم. قوله: "حلت له" أي استحقت ووجبت أو نزلت عليه، يقال حل يحل بالضم إذا نزل، واللام بمعنى على، ويؤيده رواية مسلم: "حلت عليه". ووقع في الطحاوي حديث ابن مسعود " وجبت له " ولا يجوز أن يكون حلت من

(2/95)


الحل لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة. قوله: "شفاعتي" استشكل بعضهم جعل ذلك ثوابا لقائل ذلك مع ما ثبت من أن الشفاعة للمذنبين، وأجيب بأن له صلى الله عليه وسلم شفاعات أخرى: كإدخال الجنة بغير حساب، وكرفع الدرجات فيعطى كل أحد ما يناسبه. ونقل عياض عن بعض شيوخه أنه كان يرى اختصاص ذلك بمن قاله مخلصا مستحضرا إجلال النبي صلى الله عليه وسلم، لا من قصد بذلك مجرد الثواب ونحو ذلك، وهو تحكم غير مرضي، ولو كان أخرج الغافل اللاهي لكان أشبه. وقال المهلب: في الحديث الحض على الدعاء في أوقات الصلوات لأنه حال رجاء الإجابة، والله أعلم.

(2/96)


باب الستهام في الأذان
...
9 - باب الِاسْتِهَامِ فِي الأَذَانِ
وَيُذْكَرُ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَلَفُوا فِي الأَذَانِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ
615- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لاَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا"
[ الحديث615- أطرافه في 2689,721,654]
قوله: "باب الاستهام في الأذان" أي الاقتراع، ومنه قوله تعالى: {فساهم فكان من المدحضين} قال الخطابي وغيره: قيل له الاستهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء فمن خرج سهمه غلب.قوله: "ويذكر أن قوما اختلفوا" أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريق أبي عبيد كلاهما عن هشيم عن عبد الله بن شبرمة قال: "تشاح الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص، فأقرع بينهم. وهذا منقطع. وقد وصله سيف بن عمر في الفتوح والطبري من طريقه عنه عن عبد الله ابن شبرمة عن شقيق - وهو أبو وائل - قال: "افتتحنا القادسية صدر النهار، فتراجعنا وقد أصيب المؤذن " فذكره وزاد: "فخرجت القرعة لرجل منهم فأذن". "فائدة": القادسية مكان بالعراق معروف، نسب إلى قادس رجل نزل به، وحكى الجوهري أن إبراهيم عليه السلام قدس على ذلك المكان فلذلك صار منزلا للحاج، وكانت به وقعة للمسلمين مشهورة مع الفرس وذلك في خلافة عمر سنة خمس عشرة، وكان سعد يومئذ الأمير على الناس. قوله: "عن سمي" بضم أوله بلفظ التصغير. قوله: "مولى أبي بكر" أي ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. قوله: "لو يعلم الناس" قال الطيبي: وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم. قوله: "ما في النداء" أي الأذان، وهي رواية بشر بن عمر عن مالك عند السراج. قوله: "والصف الأول" زاد أبو الشيخ في رواية له من طريق الأعرج عن أبي هريرة " من الخير والبركة " وقال الطيبي: أطلق مفعول يعلم وهو ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف، والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة وإلا فقد بينت في الرواية الأخرى بالخير والبركة. قوله: "ثم لم يجدوا" في رواية المستملي والحموي " ثم لا يجدون " وحكى الكرماني أن في بعض الروايات " ثم لا يجدوا " ووجهه بجواز حذف النون تخفيفا، ولم أقف على هذه الرواية. قوله: "إلا أن يستهموا" أي لم يجدوا شيئا من وجوه الأولوية، أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك من شرائط المؤذن

(2/96)


وتكملاته، وأما في الصف الأول فبأن يصلوا دفعة واحدة، ويستووا في الفضل فيقرع بينهم، إذا لم يتراضوا فيما بينهم في الحالين. واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد، وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد في مقابلة أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان يتوجه من جهة التولية من الإمام لما فيه من المزية، وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام، وأنه أخرج مخرج المبالغة. واستأنس بحديث لفظه: "لتجالدوا عليه بالسيوف " لكن الذي فهمه البخاري منه أولى، ولذلك استشهد له بقصة سعد، ويدل عليه رواية لمسلم: "لكانت قرعة". قوله: "عليه" أي على ما ذكر ليشمل الأمرين الأذان والصف الأول، وبذلك يصح تبويب المصنف. وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول لا على النداء، وهو حق الكلام، لأن الضمير يعود لأقرب مذكور. ونازعه القرطبي وقال: إنه يلزم منه أن يبقى النداء ضائعا لا فائدة له، قال: والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم، ومثله قوله تعالى: {ومن يفعل ذلك يلق أثاما} أي جميع ذلك. قلت: وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ: "لاستهموا عليهما " فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف. قوله: "التهجير" أي التبكير إلى الصلاة، قال الهروي: وحمله الخليل وغيره على ظاهره فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت، لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر، وإلى ذلك مال المصنف كمأ سيأتي، ولا يرد على ذلك مشروعية الإبراد لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ما له من الفضل. قوله: "لاستبقوا إليه" قال ابن أبي جمرة المراد بالاستباق معنى لا حسا، لأن المسابقة على الأقدام حسا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه. انتهى. وسيأتي الكلام على بقية الحديث في " باب فضل صلاة العشاء في الجماعة " قريبا، ويأتي الكلام على المراد بالصف الأول في أواخر أبواب الإمامة إن شاء الله تعالى.

(2/97)


10 - باب الْكَلاَمِ فِي الأَذَانِ
وَتَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فِي أَذَانِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ لاَ بَأْسَ أَنْ يَضْحَكَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ
616- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ وَعَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ وَعَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ رَدْغٍ فَلَمَّا بَلَغَ الْمُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَإِنَّهَا عَزْمَةٌ"

(2/97)


ذلك المحل. قوله: "وتكلم سليمان بن صرد في أذانه" وصله أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له، وأخرجه البخاري في التاريخ عنه وإسناده صحيح ولفظه: "أنه كان يؤذن في العسكر فيأمر غلامه بالحاجة في أذانه". قوله: "وقال الحسن" لم أره موصولا، والذي أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طرق عنه جواز الكلام بغير قيد الضحك، قيل مطابقته للترجمة من جهة أن الضحك إذا كان بصوت قد يظهر منه حرف مفهم أو أكثر فتفسد الصلاة، ومن منع الكلام في الأذان أراد أن يساويه بالصلاة، وقد ذهب الأكثر إلى أن تعمد الضحك يبطل الصلاة ولو لم يظهر منه حرف، فاستوى مع الكلام في بطلان الصلاة بعمده. قوله: "حماد" هو ابن زيد، وعبد الحميد هو ابن دينار، وعبد الله بن الحارث هو البصري ابن عم ابن سيرين وزوج ابنته وهو تابعي صغير، ورواية الثلاثة عنه من باب رواية الأقران لأن الثلاثة من صغار التابعين، ورجال الإسناد كلهم بصريون، وقد جمعهم حماد كمسدد كما هنا، وكذلك رواه سليمان بن حرب عنه عند أبي عوانة وأبي نعيم في المستخرج، وكان حماد ربما اقتصر على بعضهم كما سيأتي قريبا في " باب هل يصلي الإمام بمن حضر " عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي عن حماد عن عبد الحميد وعن عاصم فرقهما، ورواه مسلم عن الربيع عن حماد عن أيوب وعاصم من طرق أخرى منها وهيب عن أيوب، وحكى عن وهيب أن أيوب لم يسمعه من عبد الله بن الحارث وفيه نظر، لأن في رواية سليمان بن حرب عن حماد عن أيوب وعبد الحميد قالا: سمعنا عبد الله بن الحارث كذلك أخرجه الإسماعيلي وغيره، ولمسدد فيه شيخ آخر وهو ابن علية كما سيأتي في كتاب الجمعة إن شاء الله. قوله: "خطبنا" استدل به ابن الجوزي على أن الصلاة المذكورة كانت الجمعة، وفيه نظر. نعم وقع التصريح بذلك في رواية ابن علية ولفظه: "أن الجمعة عزمة". قوله: "في يوم رزغ" بفتح الراء وسكون الزاي بعدها غين معجمة كذا للأكثر هنا، ولابن السكن والكشميهني وأبي الوقت بالدال المهملة بدل الزاي. وقال القرطبي، إنها أشهر. وقال: والصواب الفتح فإنه الاسم، وبالسكون المصدر. انتهى. وبالفتح رواية القابسي، قال صاحب المحكم: الرزغ الماء القليل في الثماد، وقيل إنه طين وحل، وفي العين: الردغة الوحل والرزغة أشد منها. وفي الجمهرة والردغة والرزغة الطين القليل من مطر أو غيره. "تنبيه": وقع هنا يوم رزغ بالإضافة. وفي رواية الحجبي الآتية في يوم ذي رزغ وهي أوضح. وفي رواية ابن علية في يوم مطير. قوله: "فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة فأمره" كذا فيه، وكأن هنا حذفا تقديره أراد أن يقولها فأمره، ويؤيده رواية ابن علية " إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة " وبوب عليه ابن خزيمة وتبعه ابن حبان ثم المحب الطبري حذف " حي على الصلاة في يوم المطر " وكأنه نظر إلى المعنى لأن حي على الصلاة والصلاة في الرحال وصلوا في بيوتكم يناقض ذلك، وعند الشافعية وجه أنه يقول ذلك بعد الأذان، وآخر أنه يقوله بعد الحيعلتين، والذي يقتضيه الحديث ما تقدم. وقوله: "الصلاة في الرحال " بنصب الصلاة والتقدير صلوا الصلاة، والرحال جمع رحل وهو مسكن الرجل وما فيه من أثاثه. قال النووي: فيه أن هذه الكلمة تقال في نفس الأذان. وفي حديث ابن عمر يعني الآتي في " باب الأذان للمسافر " أنها تقال بعده، قال: والأمران جائزان كما نص عليه الشافعي، لكن بعده أحسن ليتم نظم الأذان. قال: ومن أصحابنا من يقول لا يقوله إلا بعد الفراغ، وهو ضعيف مخالف لصريح حديث ابن عباس. انتهى. وكلامه يدل على أنها تزاد مطلقا إما في أثنائه وإما بعده، لا أنها بدل من حي على الصلاة، وقد تقدم عن ابن خزيمة ما يخالفه، وقد ورد الجمع بينهما في حديث آخر أخرجه عبد الرزاق

(2/98)


وغيره بإسناد صحيح عن نعيم ابن النحام قال: "أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم للصبح في ليلة باردة، فتمنيت لو قال: ومن قعد فلا حرج. فلما قال الصلاة خير من النوم قالها". قوله: "فقال فعل هذا" كأنه فهم من نظرهم الإنكار. وفي رواية الحجبي " كأنهم أنكروا ذلك " وفي رواية ابن علية " فكأن الناس استنكروا ذلك". قوله: "من هو خير منه" وللكشميهني: "منهم " وللحجبي " مني " يعني النبي صلى الله عليه وسلم، كذا في أصل الرواية، ومعني رواية الباب من هو خير من المؤذن، يعني فعله مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير من هذا المؤذن، وأما رواية الكشميهني ففيها نظر، ولعل من أذن كانوا جماعة إن كانت محفوظة، أو أراد جنس المؤذنين، أو أراد خير من المنكرين. قوله: "وإنها" أي الجمعة كما تقدم "عزمة" بسكون الزاي ضد الرخصة، زاد ابن علية " وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين " وفي رواية الحجبي من طريق عاصم " إلى أؤثمكم " وهي ترجح رواية من روى " أحرجكم " بالحاء المهملة. وفي رواية جرير عن عاصم عند ابن خزيمة: "أن أخرج الناس وأكلفهم أن يحملوا الخبث من طرقهم إلى مسجدكم " وسيأتي الكلام على ما يتعلق بسقوط الجمعة بعذر المطر في كتاب الجمعة إن شاء الله تعالى. ومطابقة الحديث للترجمة أنكرها الداودي فقال: لا حجة فيه على جواز الكلام في الأذان، بل القول المذكور من جملة الأذان في ذلك المحل، وتعقب بأنه وإن ساغ ذكره في هذا المحل لكنه ليس من ألفاظ الأذان المعهود، وطريق بيان المطابقة أن هذا الكلام لما جازت زيادته في الأذان للحاجة إليه دل على جواز الكلام في الأذان لمن يحتاج إليه.

(2/99)


11 - باب أَذَانِ الأَعْمَى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخْبِرُهُ
617- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ بِلاَلًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لاَ يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ
[الحديث617- أطرافه في 7248,2656,1918,623,620]
قوله: "باب أذان الأعمى" أي جوازه. قوله: "إذا كان له من يخبره" أي بالوقت، لأن الوقت في الأصل مبني على المشاهدة، وعلى هذا القيد يحمل ما روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير وغيرهما أنهم كرهوا أن يكون المؤذن أعمى، وأما ما نقله النووي عن أبي حنيفة وداود أن أذان الأعمى لا يصح فقد تعقبه السروجي بأنه غلط على أبي حنيفة، نعم في المحيط للحنفية أنه يكره. قوله: "حدثنا عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي، قال الدار قطني: تفرد القعنبي بروايته إياه في الموطأ موصولا عن مالك، ولم يذكر غيره من رواة الموطأ فيه ابن عمر، ووافقه على وصله عن مالك - خارج الموطأ - عبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق وروح بن عبادة وأبو قرة وكامل بن طلحة وآخرون، ووصله عن الزهري جماعة من حفاظ أصحابه. قوله: "إن بلالا يؤذن بليل" فيه إشعار بأن ذلك كان من عادته المستمرة، وزعم بعضهم أن ابتداء ذلك باجتهاد منه، وعلى تقدير صحته فقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فصار في حكم المأمور به، وسيأتي الكلام على تعيين الوقت الذي كان يؤذن فيه من الليل بعد باب. قوله: "فكلوا" فيه إشعار بأن الأذان كان علامة عندهم على دخول الوقت فبين لهم أن أذان بلال بخلاف ذلك. قوله: "ابن أم مكتوم" اسمه عمرو كما سيأتي موصولا في الصيام وفضائل القرآن، وقيل: كان اسمه الحصين فسماه

(2/99)


النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، ولا يمتنع أنه كان له اسمان، وهو قرشي عامري، أسلم قديما، والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمه ويستخلفه على المدينة، وشهد القادسية في خلافة عمر فاستشهد بها، وقيل رجع إلى المدينة فمات، وهو الأعمى المذكور في سورة عبس، واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية. وزعم بعضهم أنه ولد أعمى فكنيت أمه أم مكتوم لانكتام نور بصره، والمعروف أنه عمي بعد بدر بسنتين صلى الله عليه وسلم. قوله: "وكان رجلا أعمى" ظاهره أن فاعل قال هو ابن عمر، وبذلك جزم الشيخ الموفق في " المغني " لكن رواه الإسماعيلي عن أبي خليفة والطحاوي عن يزيد بن سنان كلاهما عن القعنبي فعينا أنه ابن شهاب، وكذلك رواه إسماعيل بن إسحاق ومعاذ بن المثنى وأبو مسلم الكجي الثلاثة عند الدار قطني، والخزاعي عند أبي الشيخ، وتمام عند أبي نعيم، وعتمان الدارمي عند البيهقي، كلهم عن القعنبي. وعلى هذا ففي رواية البخاري إدراج. ويجاب عن ذلك بأنه لا يمنع كون ابن شهاب قاله أن يكون شيخه قاله، وكذا شيخ شيخه، وقد رواه البيهقي من رواية الربيع بن سليمان عن ابن وهب عن يونس والليث جميعا عن ابن شهاب وفيه: "قال سالم: وكان رجلا ضرير البصر " ففي هذا أن شيخ ابن شهاب قاله أيضا، وسيأتي في كتاب الصيام عن المصنف من وجه آخر عن ابن عمر ما يؤدي معناه، وسنذكر لفظه قريبا، فثبتت صحة وصله. ولابن شهاب فيه شيخ آخر أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه عن سعيد بن المسيب وفيه الزيادة، قال ابن عبد البر: هو حديث آخر لابن شهاب، وقد وافق ابن إسحاق معمرا فيه عن ابن شهاب. قوله: "أصبحت أصبحت" أي دخلت في الصباح، هذا ظاهره، واستشكل لأنه جعل أذانه غاية للأكل، فلو لم يؤذن حتى يدخل في الصباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر، والإجماع على خلافه إلا من شذ كالأعمش. وأجاب ابن حبيب وابن عبد البر والأصيلي وجماعة من الشراح بأن المراد قاربت الصباح ويعكر على هذا الجواب أن في رواية الربيع التي قدمناها " ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر: أذن " وأبلغ من ذلك أن لفظ رواية المصنف التي في الصيام " حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " وإنما قلت إنه أبلغ لكون جميعه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا فقوله: "إن بلالا يؤذن بليل " يشعر أن ابن أم مكتوم بخلافه، ولأنه لو كان قبل الصبح لم يكن بينه وبين بلال فرق لصدق أن كلا منهما أذن قبل الوقت، وهذا الموضع عندي في غاية الإشكال، وأقرب ما يقال فيه إن أذانه جعل علامة لتحريم الأكل والشرب، وكأنه كان له من يراعي الوقت بحيث يكون أذانه مقارنا لابتداء طلوع الفجر وهو المراد بالبزوغ، وعند أخذه في الأذان يعترض الفجر في الأفق، ثم ظهر لي أنه لا يلزم من كون المراد بقولهم " أصبحت " أي قاربت الصباح وقوع أذانه قبل الفجر لاحتمال أن يكون قولهم ذلك يقع في آخر جزء من الليل وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر، وهذا وإن كان مستبعدا في العادة فليس بمستبعد من مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالملائكة، فلا يشاركه فيه من لم يكن بتلك الصفة، وقد روى أبو قرة من وجه آخر عن ابن عمر حديثا فيه: "وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه". وفي هذا الحديث جواز الأذان قبل طلوع الفجر، وسيأتي بعد باب، واستحباب أذان واحد بعد واحد. وأما
ـــــــ
(1)هذا فيه نظر . لأن ظاهر القرآن يدل على أنه عمى قبل الهجرة , لأن سورة عبس , النازله فيه مكية , وقد وصفه الله بأنه أعمى . فتنبه

(2/100)


أذان اثنين معا فمنع منه قوم، ويقال إن أول من أحدثه بنو أمية. وقال الشافعية: لا يكره إلا إن حصل من ذلك تهويش، واستدل به على جواز اتخاذ مؤذنين في المسجد الواحد، قال ابن دقيق العيد: وأما الزيادة على الاثنين فليس في الحديث تعرض له. انتهى. ونص الشافعي على جوازه ولفظه: ولا يتضيق صلى الله عليه وسلم إن أذن أكثر من اثنين، وعلى جواز تقليد الأعمى للبصير في دخول الوقت وفيه أوجه، واختلف فيه الترجيح، وصحح النووي في كتبه أن للأعمى والبصير اعتماد المؤذن الثقة، وعلى جواز شهادة الأعمى، وسيأتي ما فيه في كتاب الشهادات. وعلى جواز العمل بخبر الواحد، وعلى أن ما بعد الفجر من حكم النهار، وعلى جواز الأكل مع الشك في طلوع الفجر لأن الأصل بقاء الليل، وخالف في ذلك مالك فقال: يجب القضاء. وعلى جواز الاعتماد على الصوت في الرواية إذا كان عارفا به وإن لم يشاهد الراوي، وخالف في ذلك شعبة لاحتمال الاشتباه. وعلى جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان يقصد التعريف ونحوه، وجواز نسبة الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه.

(2/101)


3 - باب الأَذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ
618- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ "أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ وَبَدَا الصُّبْحُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلاَةُ"
[ الحديث 618- طرفاه في : 1181,1173]
619-حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ"
620-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ بِلاَلًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ"
قوله: "باب الأذان في الفجر" قال الزين بن المنير: قدم المصنف ترجمة الأذان بعد الفجر على ترجمة الأذان قبل الفجر فخالف الترتيب الوجودي، لأن الأصل في الشرع أن لا يؤذن إلا بعد دخول الوقت، فقدم ترجمة الأصل على ما ندر عنه. وأشار ابن بطال إلى الاعتراض على الترجمة بأنه لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما الخلاف في جوازه قبل الفجر. والذي يظهر لي أن مراد المصنف بالترجمتين أن يبين أن المعنى الذي كان يؤذن لأجله قبل الفجر غير المعنى الذي كان يؤذن لأجله بعد الفجر، وأن الأذان قبل الفجر لا يكتفى به عن الأذان بعده، وأن أذان ابن أم مكتوم لم يكن يقع قبل الفجر، والله أعلم. قوله: "كان إذا اعتكف المؤذن للصبح" هكذا وقع عند جمهور رواة البخاري وفيه نظر، وقد استشكله كثير من العلماء، ووجهه بعضهم كما سيأتي، والحديث في الموطأ عند جميع رواته بلفظ
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض " ولا يضر"

(2/101)


"كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح " وكذا رواه مسلم وغيره وهو الصواب، وقد أصلح في رواية ابن شبويه عن الفربري كذلك. وفي رواية الهمداني " كان إذا أذن " بدل اعتكف، وهي أشبه بالرواية المصوبة. ووقع في رواية النسفي عن البخاري بلفظ كان إذا اعتكف وأذن المؤذن وهو يقتضي أن صنيعه ذلك كان مختصا بحال اعتكافه، وليس كذلك، والظاهر أنه من إصلاحه. وقد أطلق جماعة من الحفاظ القول بأن الوهم فيه من عبد الله بن يوسف شيخ البخاري، ووجه ابن بطال وغيره بأن معنى " اعتكف المؤذن " أي لازم ارتقابه ونظره إلى أن يطلع الفجر ليؤذن عند أول إدراكه. قالوا: وأصل العكوف لزوم الإقامة بمكان واحد، وتعقب بأنه يلزم منه أنه كان لا يصليهما إلا إذا وقع ذلك من المؤذن لما يقتضيه مفهوم الشرط، وليس كذلك لمواظبته عليهما مطلقا، والحق أن لفظ: "اعتكف " محرف من لفظ: "سكت " وقد أخرجه المؤلف في باب الركعتين بعد الظهر من طريق أيوب عن نافع بلفظ: "كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر". قوله: "وبدا الصبح" بغير همز أي ظهر، وأغرب الكرماني فصحح أنه بالنون المكسورة والهمزة بعد المد، وكأنه ظن أنه معطوف على قوله: "للصبح " فيكون التقدير واعتكف لنداء الصبح، وليس كذلك فإن الحديث في جميع النسخ من الموطأ والبخاري ومسلم وغيرها بالباء الموحدة المفتوحة وبعد الدال ألف مقصورة والواو فيه واو الحال لا واو العطف، وبذلك تتم مطابقة الحديث للترجمة، وسيأتي بقية الكلام عليه في أبواب التطوع إن شاء الله تعالى.قوله: "عن عبد الله بن دينار" هذا إسناد آخر لمالك في هذا الحديث، قال ابن عبد البر: لم يختلف عليه فيه، واعترض ابن التيمي فقال: هذا الحديث لا يدل على الترجمة، لجعله غاية الأكل ابتداء أذان ابن أم مكتوم، فدل على أن أذانه كان يقع قبل الفجر بقليل. وجوابه ما تقدم تقريره في الباب الذي قبله. وقال الزين بن المنير: الاستدلال بحديث ابن عمر أوجه من غيره، فإن قوله: "حتى ينادي ابن أم مكتوم " يقتضي أنه ينادي حين يطلع الفجر، لأنه لو كان ينادي قبله لكان كبلال ينادي بليل. "تنبيه": قال ابن منده حديث عبد الله بن دينار مجمع على صحته، رواه جماعة من أصحابه عنه، ورواه عنه شعبة فاختلف عليه فيه: رواه يزيد بن هارون عنه على الشك أن بلالا كما هو المشهور، أو " أن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال". قال: ولشعبة فيه إسناد آخر، فإنه رواه أيضا عن خبيب بن عبد الرحمن عن عمته أنيسة فذكره على الشك أيضا، أخرجه أحمد عن غندر عنه، ورواه أبو داود الطيالسي عنه جازما بالأول، ورواه أبو الوليد عنه جازما بالثاني، وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان من طرق عن شعبة، وكذلك أخرجه الطحاوي والطبراني من طريق منصور بن زاذان عن خبيب بن عبد الرحمن، وادعى ابن عبد البر وجماعة من الأئمة بأنه مقلوب وأن الصواب

(2/102)


حديث الباب، وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة، وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه وهو قوله: "إذا أذن عمرو فإنه ضرير البصر فلا يغرنكم، وإذا أذن بلال فلا يطعمن أحد " وأخرجه أحمد، وجاء عن عائشة أيضا أنها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول إنه غلط، أخرج ذلك البيهقي من طريق الدراوردي عن هشام عن أبيه عنها فذكر الحديث وزاد: "قالت عائشة: وكان بلال يبصر الفجر " قال: وكانت عائشة تقول: غلط ابن عمر. انتهى. وقد جمع خزيمة والضبعي بين الحديثين بما حاصله: أنه يحتمل أن يكون الأذان كان نوبا بين بلال وابن أم مكتوم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس أن أذان الأول منهما لا يحرم على الصائم شيئا ولا يدل على دخول وقت الصلاة بخلاف الثاني. وجزم ابن حبان بذلك ولم يبده احتمالا، وأنكر ذلك عليه الضياء وغيره، وقيل: لم يكن نوبا، وإنما كانت لهما حالتان مختلفتان: فإن بلالا كان في أول ما شرع الأذان يؤذن وحده ولا يؤذن للصبح حتى يطلع الفجر، وعلى ذلك تحمل رواية عروة عن امرأة من بني النجار قالت: "كان بلال يجلس على بيتي وهو أعلى بيت في المدينة، فإذا رأى الفجر تمطأ ثم أذن " أخرجه أبو داود وإسناده حسن، ورواية حميد عن أنس " أن سائلا سأل عن وقت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن حين طلع الفجر " الحديث أخرجه النسائي وإسناده صحيح، ثم أردف بابن أم مكتوم وكان يؤذن بليل واستمر بلال على حالته الأولى، وعلى ذلك تنزل رواية أنيسة وغيرها، ثم في آخر الأمر أخر ابن أم مكتوم لضعفه ووكل به من يراعي له الفجر، واستقر أدان بلال بليل، وكان سبب ذلك ما روي أنه ربما كان أخطأ الفجر فأذن قبل طلوعه، وأنه أخطأ مرة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيقول: "ألا إن العبد نام " يعني أن غلبة النوم على عينيه منعته من تبين الفجر، وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موصولا مرفوعا ورجاله ثقات حفاظ، لكن اتفق أئمة الحديث على ابن المديني وأحمد ابن حنبل والبخاري والذهلي وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والأثرم والدار قطني على أن حمادا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه وأن حمادا انفرد برفعه، ومع ذلك فقد وجد له متابع، أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن زربي وهو بفتح الزاي وسكون الراء بعدها موحدة ثم ياء كياء النسب فرواه عن أيوب موصولا لكن سعيد ضعيف. ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب أيضا، لكنه أعضله فلم يذكر نافعا ولا ابن عمر. وله طريق أخرى عن نافع عند الدار قطني وغيره اختلف في رفعها ووقفها أيضا، وأخرى مرسلة من طريق يونس بن عبيد وغيره عن حميد بن هلال وأخرى من طريق سعيد عن قتادة مرسلة ووصلها يونس عن سعيد بذكر أنس، وهذه طرق يقوي بعضها بعضا قوة ظاهرة، فلهذا والله أعلم استقر أن بلالا يؤذن الأذان الأول، وسنذكر اختلافهم في تعيين الوقت المراد من قوله: "يؤذن بليل " في الباب الذي بعد هذا

(2/103)


13 - باب الأَذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ
621- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ أَحَدًا مِنْكُمْ أَذَانُ بِلاَلٍ مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ أَوْ يُنَادِي بِلَيْلٍ لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرُ أَوْ الصُّبْحُ وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ وَرَفَعَهَا

(2/103)


إِلَى فَوْقُ وَطَأْطَأَ إِلَى أَسْفَلُ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا" وَقَالَ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الأُخْرَى ثُمَّ مَدَّهَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ
[الحديث621- طرفاه في : 7247,5298]
622و623- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ح و حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ عِيسَى الْمَرْوَزِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ بِلاَلًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ"
[الحديث622- طرفه في : 1919]
قوله: "باب الأذان قبل الفجر" أي ما حكمه؟ هل يشرع أو لا؟ وإذا شرع هل يكتفى به عن إعادة الأذان بعد الفجر أو لا؟ وإلى مشروعيته مطلقا ذهب الجمهور. وخالف الثوري وأبو حنيفة ومحمد، وإلى الاكتفاء مطلقا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث وقال به الغزالي في الإحياء، وادعى بعضهم أنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدل على الاكتفاء، وتعقب بحديث الباب، وأجيب بأنه مسكوت عنه فلا يدل، وعلى التنزل فمحله فيما إذا لم يرد نطق بخلافه، وهنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة بما يشعر بعدم الاكتفاء، وكأن هذا هو السر في إيراد البخاري لحديثهما في هذا الباب عقب حديث ابن مسعود، نعم حديث زياد بن الحارث عند أبي داود يدل على الاكتفاء، فإن فيه أنه أذن قبل الفجر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه، إلى أن طلع الفجر فأمره فأقام، لكن في إسناده ضعف. وأيضا فهي واقعة عين وكانت في سفر، ومن ثم قال القرطبي: إنه مذهب واضح، غير أن العمل المنقول بالمدينة على خلافه. انتهى. فلم يرده إلا بالعمل على قاعدة المالكية. وادعى بعض الحنفية - كما حكاه السروجي منهم - أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان، وإنما كان تذكيرا أو تسحيرا كما يقع للناس اليوم، وهذا مردود، لكن الذي يصنعه الناس اليوم محدث قطعا، وقد تضافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان، فحمله على معناه الشرعي مقدم، ولأن الأذان الأول لو كان بألفاظ مخصوصة لما التبس على السامعين. وسياق الخبر يقتضي أنه خشي عليهم الالتباس. وادعى ابن القطان أن ذلك كان في رمضان خاصة وفيه نظر. قوله: "زهير" هو ابن معاوية الجعفي. قوله: "عن أبي عثمان" في رواية ابن خزيمة من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه " حدثنا أبو عثمان " ولم أر هذا الحديث من حديث ابن مسعود في شيء من الطرق إلا من رواية أبي عثمان عنه، ولا من رواية أبي عثمان إلا من رواية سليمان التيمي عنه. واشتهر عن سليمان، وله شاهد في صحيح مسلم من حديث سمرة بن جندب. قوله: "أحدكم أو أحد منكم" شك من الراوي وكلاهما يفيد العموم وإن اختلفت الحيثية. قوله: "من سحوره" بفتح أوله اسم لما يؤكل في السحر، ويجوز الضم وهو اسم الفعل. قوله: "ليرجع" بفتح الياء وكسر الجيم المخففة يستعمل هذا لازما ومتعديا، يقال رجع زيد ورجعت زيدا ولا يقال في المتعدي بالتثقيل. فعلى هذا من رواه بالضم والتثقيل أخطأ فإنه يصير من الترجيع وهو الترديد، وليس مرادنا هنا، وإنما معناه يرد القائم - أي المتهجد - إلى راحته ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطا، أو

(2/104)


يكون له حاجة إلى الصيام فيتسحر، ويوقظ النائم ليتأهب لها بالغسل ونحوه، وتمسك الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا لمذهبه فقال: فقد أخبر أن ذلك النداء كان لما ذكر لا للصلاة. وتعقب بأن قوله: "لا للصلاة " زيادة في الخبر، وليس فيه حصر فيما ذكر، فإن قيل تقدم في تعريف الأذان الشرعي أنه إعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة والأذان قبل الوقت، ليس إعلاما بالوقت، فالجواب أن الإعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلاما بأنه دخل أو قارب أن يدخل، وإنما اختصت الصبح بذلك من بين الصلوات لأن الصلاة في أول وقتها مرغب فيه، والصبح يأتي غالبا عقب نوم فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت، والله أعلم. قوله: "وليس أن يقول الفجر" فيه إطلاق القول على الفعل أي يظهر، وكذا قوله: "وقال بأصابعه ورفعها" أي أشار. وفي رواية الكشميهني. " بإصبعيه ورفعهما". قوله: "إلى فوق" بالضم على البناء، وكذا "أسفل" لنية المضاف إليه دون لفظه نحو "لله الأمر من قبل ومن بعد". قوله: "وقال زهير" أي الراوي، وهي أيضا بمعنى أشار، وكأنه جمع بين إصبعيه ثم فرقهما ليحكي صفة الفجر الصادق لأنه يطلع معترضا ثم يعم الأفق ذاهبا يمينا وشمالا، بخلاف الفجر الكاذب وهو الذي تسميه العرب " ذنب السرحان " فإنه يظهر في أعلى السماء ثم ينخفض، وإلى ذلك أشار بقوله رفع وطأطأ رأسه. وفي رواية الإسماعيلي من طريق عيسى بن يونس عن سليمان " فإن الفجر ليس هكذا ولا هكذا، ولكن الفجر هكذا " فكأن أصل الحديث كان بهذا اللفظ مقرونا بالإشارة الدالة على المراد، وبهذا اختلفت عبارة الرواة، وأخصر ما وقع فيها رواية جرير عن سليمان عند مسلم: "وليس الفجر المعترض ولكن المستطيل". قوله: "حدثني إسحاق" لم أره منسوبا، وتردد فيه الجياني، وهو عندي ابن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه كما جزم به المزي، ويدل عليه تعبيره بقوله: "أخبرنا " فإنه لا يقول قط حدثنا بخلاف إسحاق ابن منصور وإسحاق نن نصر، وأما ما وقع بخط الدمياطي أنه الواسطي ثم فسره بأنه ابن شاهين فليس بصواب لأنه لا يعرف له عن أبي أسامة شيء، لأن أبا أسامة كوفي وليس في شيوخ ابن شاهين أحد من أهل الكوفة. قوله: "قال عبيد الله حدثنا" فاعل قال أبو أسامة، وعبيد الله قائل حدثنا، فالتقدير حدثنا عبيد الله. قوله: "عن نافع" هو معطوف على " عن القاسم بن محمد". والحاصل أنه أخرج الحديث عن عبيد الله بن عمر من وجهين: الأول ذكر له فيه إسناد بن نافع عن ابن عمر والقاسم عن عائشة، وأما الثاني فاقتصر فيه على الإسناد الثاني. قوله: "حتى يؤذن" في رواية الكشميهني: "حتى ينادي"، وقد أورده في الصيام بلفظ: "يؤذن " وزاد في آخره: "فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " قال القاسم: لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا، وفي هذا تقييد لما أطلق في الروايات الآخرى من قوله: "إن بلالا يؤذن بليل"، ولا يقال إنه مرسل لأن القاسم تابعي فلم يدرك القصة المذكورة، لأنه ثبت عند النسائي من رواية حفص بن غياث، وعند الطحاوي من رواية يحيى القطان كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة فذكر الحديث قالت: "ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا " وعلى هذا فمعنى قوله في رواية البخاري " قال القاسم " أي في روايته عن عائشة. وقد وقع عند مسلم في رواية ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مثل هذه الزيادة، وفيها نظر أوضحته في كتاب " المدرج " وثبتت الزيادة أيضا في حديث أنيسة الذي تقدمت الإشارة إليه، وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الوقت الذي يقع فيه الأذان قبل الفجر هو وقت السحور، وهو أحد الأوجه في المذهب واختاره السبكي في شرح المنهاج وحكى تصحيحه عن

(2/105)


القاضي حسين والمتولي وقطع به البغوي، وكلام ابن دقيق العيد يشعر به، فإنه قال بعد أن حكاه: يرجح هذا بأن قوله: "إن بلالا ينادي بليل " خبر يتعلق به فائدة للسامعين قطعا، وذلك إذا كان وقت الأذان مشتبها محتملا لأن يكون عند طلوع الفجر فبين صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يمنع الأكل والشرب بل الذي يمنعه طلوع الفجر الصادق، قال: وهذا يدل على تقارب وقت أذان بلال من الفجر. انتهى. ويقويه أيضا ما تقدم من أن الحكمة في مشروعيته التأهب لإدراك الصبح في أول وقتها، وصحح النووي في أكثر كتبه أن مبدأه من نصف الليل الثاني، وأجاب عن الحديث في شرح مسلم فقال: قال العلماء معناه أن بلالا كان يؤذن ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه، فإذا قارب طلوع الفجر نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهب بالطهارة وغيرها ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر. وهذا - مع وضوح مخالفته لسياق الحديث - يحتاج إلى دليل خاص لما صححه حتى يسوغ له التأويل. ووراء ذلك أقوال أخرى معروفة في الفقهيات. واحتج الطحاوي لعدم مشروعية الأذان قبل الفجر بقوله: لما كان بين أذانيهما من القرب ما ذكر في حديث عائشة ثبت أنهما كانا يقصدان وقتا واحدا وهو طلوع الفجر فيخطئه بلال ويصيبه ابن أم مكتوم. وتعقب بأنه لو كان كذلك لما أقره النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنا واعتمد عليه، ولو كان كما ادعى لكان وقوع ذلك منه نادرا. وظاهر حديث ابن عمر يدل على أن ذلك كان شأنه وعادته، والله أعلم.

(2/106)


14 - باب كَمْ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ وَمَنْ يَنْتَظِرُ الإِقَامَةَ
624- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ ثَلاَثًا لِمَنْ شَاءَ"
[الحديث624- طرفه في : 627]
625- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الأَنْصَارِيَّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ شَيْءٌ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ جَبَلَةَ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلاَّ قَلِيلٌ"
قوله: "باب كم بين الأذان والإقامة" أما " باب " فهو في روايتنا بلا تنوين و " كم " استفهامية ومميزها محذوف وتقديره ساعة أو صلاة أو نحو ذلك، ولعله أشار بذلك إلى ما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال " اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله والشارب من شربه والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته " أخرجه الترمذي والحاكم لكن إسناده ضعيف، وله شاهد من حديث أبي هريرة ومن حديث سلمان أخرجهما أبو الشيخ ومن حديث أبي بن كعب أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند وكلها واهية، فكأنه أشار إلى أن التقدير بذلك لم يثبت. وقال ابن بطال: لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت واجتماع المصلين، ولم يختلف العلماء في التطوع بين الأذان والإقامة إلا في المغرب كما سيأتي. ووقع هنا في رواية نسبت للكشميهني: "ومن انتظر الإقامة " وهو خطأ فإن هذا اللفظ ترجمة تلي هذه. قوله: "حدثنا إسحاق الواسطي" هو ابن شاهين، ويحتمل أن يكون هو الذي

(2/14)


15 - باب مَنْ انْتَظَرَ الإِقَامَةَ
626- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ بِالأُولَى مِنْ صَلاَةِ الْفَجْرِ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْفَجْرِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَبِينَ الْفَجْرُ ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ
[الحديث626-أطرافه في : 6310,1170,1160,1123,994]
قوله: "باب من انتظر الإقامة" موضع الترجمة من الحديث قوله: "ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن " وأوردها مورد الاحتمال تنبيها على اختصاص ذلك بالإمام لأن المأموم مندوب إلى إحراز الصف الأول، ويحتمل أن يشارك الإمام في ذلك من كان منزله قريبا من المسجد، وقيل يستفاد من حديث الباب أن الذي ورد من الحض على الاستباق إلى المسجد هو لمن كان على مسافة من المسجد، وأما من كان يسمع الإقامة من داره فانتظاره للصلاة إذا كان متهيئا لها كانتظاره إياها في المسجد، وفي مقصود الترجمة أيضا ما أخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة قال: "كان بلال يؤذن ثم لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم".قوله ( إذا سكت المؤذن ) أي فرغ من الأذان بالسكوت عنه , هذا في الروايات المعتمدة بالمثناة الفوقانية , وحكى ابن التين أنه روى بالموحدة , ومعناه صب الاذان وأفرغه في الآذان , ومنه أفرغ في أذني كلاما حسنا أهـ .والرواية المذكورة لم تثبت في شيء من الطرق , وانما ذكرها الخطابي من طريق الأوزاعي عن الزهري وقال: إن سويد بن نصر – راويها عن ابن المبارك عنه- ضبطها بالموحدة . وافرط الصغاني في العباب فجزم أنها بالموحدة , وكذا ضبطها في نسخته التي ذكر أنه قابلها على نسخة الفربري , وأن المحدثين يقولونها بالمثناة , ثم أدعى أنها تصحيف وليس كما قال . قوله ( بالاولى ) أي عن الاولى , وهي متعلقه بسكت يقال سكت عن كذا إذا تركه , والمراد بالاولى الاذان الذي يؤذن به عند دخول الوقت , وهو أول باعتبار الاقامة وتان باعتبار الاذان الذي قبل الفجر , وجاءه التانيث إما من قبل مؤخاته للاقامة أو لانه أراد المناداة أو الدعوة التامة , ويحتمل ان يكون صفة لمحذوف والتقدير اذا سكت عن المرة الاولى

(2/109)


أو في المرة الاولى . (تنبيه) : أخرج البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج بعد النداء إلى المسجد, فإن رأى أهل المسجد قليلا جلس حتى يجتمعوا ثم يصلى" وإسانده قوي مع ارساله , وليس بينه وبين حديث الباب تعارض لانه يحمل على غير الصبح , أو كان يفعل ذلك بعد أن يأتيه المؤذن ويخرج معه إلى المسجد . قوله (يستبين)بموحدة وآخره نون , وفي رواية (يستنير ) بنون وآخره راء , وسيأتي الكلام على ركعتي الفجر في أبواب التطوع إن شاء الله تعالى

(2/110)


16 - باب بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ لِمَنْ شَاءَ
627- حدثنا عبد الله بن يزيد قال حدثنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن المغفل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "بين كل أذانين صلاة , بين كل أذانين صلاة – ثم قال في الثالثة: - لمن شاء "
قوله: "باب بين كل أذانين صلاة" تقدم الكلام على فوائده قبل باب، وترجم هنا بلفظ الحديث، وهناك ببعض ما دل عليه.

(2/110)


17 - باب مَنْ قَالَ لِيُؤَذِّنْ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ
628- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ"
[ الحديث 628- أطرافه في : 7246,6008,2848,819,685,658,631,630]
قوله: "باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد" كأنه يشير إلى ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح " أن ابن عمر كان يؤذن للصبح في السفر أذانين " وهذا مصير منه إلى التسوية بين الحضر والسفر، وظاهر حديث الباب أن الأذان في السفر لا يتكرر، لأنه لم يفرق بين الصبح وغيرها، والتعليل الماضي في حديث ابن مسعود يؤيده، وعلى هذا فلا مفهوم لقوله مؤذن واحد في السفر لأن الحضر أيضا لا يؤذن فيه إلا واحد، ولو احتج إلى تعددهم لتباعد أقطار البلد أذن كل واحد في جهة ولا يؤذنون جميعا، وقد قيل أن أول من أحدث التأذين جميعا بنو أمية. وقال الشافعي في " الأم ": وأحب أن يؤذن مؤذن بعد مؤذن ولا يؤذن جماعة معا، وإن كان مسجد كبير فلا بأس أن يؤذن في كل جهة منه مؤذن يسمع من يليه في وقت واحد. قوله ( في نفر ) هم من ثلاثة إلى عشرة. قوله (منقومي)هم بنو ليثبن بكر بن عبد مناف بن كنانة, وكان قدوم وفد بني ليث فيما ذكره ابن سعد بأسانيد متعددة أن واثلة الليثي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز لتبوك . قوله (رفيقا)بفاء ثم قاف من الرفق, وفي رواية الاصيلي قيل والكشميهني بقافين أي رقيق القلب . قوله (وصلوا) زاد في رواية إسماعيل بن علية عن أيوب "كما رأيتموني أصلي " , وهو في باب رحمة الناس والبهائم " من كتاب الأدب , ومثله في باب خبر الواحد من رواية عبد الوهاب الثقفي عن أيوب . قوله ( فإذا حضرت الصلاة ) وجه مطابقته للترجمة مع أن ظاهره

(2/110)


باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة وكذلك بعرفة وجمع وقول المؤذن (الصلاة في الرحال) في الليلة الباردة أو المطيرة
...
18 - باب الأَذَانِ لِلْمُسَافِرِ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً وَالإِقَامَةِ
وَكَذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَجَمْعٍ وَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوْ الْمَطِيرَةِ
629- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُهَاجِرِ أَبِي الْحَسَنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أَبْرِدْ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أَبْرِدْ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أَبْرِدْ حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ"
630- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ أَتَى رَجُلاَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدَانِ السَّفَرَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَنْتُمَا خَرَجْتُمَا فَأَذِّنَا ثُمَّ أَقِيمَا ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا
631- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدْ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لاَ أَحْفَظُهَا وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ" قوله: "باب الأذان للمسافرين" كذا للكشميهني وللباقين " للمسافر " بالإفراد، وهو للجنس. قوله: "إذا كانوا جماعة" هو مقتضى الأحاديث التي أوردها، لكن ليس فيها ما يمنع أذان المنفرد، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يقول: إنما التأذين لجيش أو ركب عليهم أمير فينادى بالصلاة ليجتمعوا لها، فأما غيرهم فإنما هي الإقامة. وحكى نحو ذلك عن مالك. وذهب الأئمة الثلاثة والثوري وغيرهم إلى مشروعة الأذان لكل أحد، وقد تقدم حديث أبي سعيد في " باب رفع الصوت بالنداء " وهو يقتضي استحباب الأذان للمنفرد، وبالغ عطاء فقال: إذا كنت في سفر فلم تؤذن ولم تقم فأعد الصلاة، ولعله كان يرى ذلك شرطا في صحة الصلاة أو يرى

(2/111)


استحباب الإعادة لا وجوبها. قوله: "والإقامة" بالخفض عطفا على الأذان، ولم يختلف في مشروعية الإقامة في كل حال. قوله: "وكذلك بعرفة" لعله يشير إلى حديث جابر الطويل في صفة الحج، وهو عند مسلم، وفيه أن بلالا أذن وأقام لما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر يوم عرفة. قوله: "وجمع" بفتح الجيم وسكون الميم هي مزدلفة، وكأنه أشار بذلك إلى حديث ابن مسعود الذي ذكره في كتاب الحج وفيه: أنه صلى المغرب بأذان وإقامة. ، والعشاء بأذان وإقامة، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. قوله: "وقول المؤذن" هو بالخفض أيضا. وقد تقدم الكلام على حديث أبي ذر مستوفى في " باب الإبراد بالظهر " في المواقيت، وفيه البيان أن المؤذن هو بلال وأنه أذن وأقام، فيطابق هذه الترجمة. قوله ( حدثنا محمد بن يوسف) هو الفريابي, وبذلك صرح أبو نعيم في المستخرج وسفيان هو الثوري, وقد روى البخاري عن محمد بن يوسف أيضا عن سفيان بن عيينه , لكنه محمد بن يوسف البيكندي وليست له رواية عن الثوري , وإذا روى عن ابن عيينه بينه , وقد قدمنا ذلك . قوله(أتى رجلان ) هما مالك بن الحويرث راوي الحديث ورفيقه , وسيأتي في " باب سفر الاثنين", من كتاب الجهاد بلفظ "انصرفت من عند النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي" ولم أر في شيء من طرقه تسمية صاحبه . قوله ( فأذنا) قال أبو الحسن بن القصار : أراد به الفضل , وإلا فاذان الواحد يجزي, وكأنه فهم منه أنه أمرهما أن يؤذنان معا فليس ذلك بمراد , وقد قدمنا النقل عن السلف بخلافه . وإن أراد كلا منهما يؤذن على حدة ففيه نظر فان أذان الواحد يكفي الجماعة . نعم يستحب لكل أحد إجابة المؤذن , فالاولى حمل الأمر على أن أحدهما يؤذن والآخر يجيب , وقد تقدم له توجيه آخر في الباب الذي قبله , وأن الحامل على صرفه عن ظاهره قوله فيه " فليؤذن لكم أحدكم " . وللطبراني من طريق حماد بن سلمه عن خالد الحذاء في هذا الحديث" إذا كنت مع صاحبك فأذن وأقم , وليؤمكما أكبركما" وأستروح القرطبي فحمل اختلاف ألفاظ الحديث على تعدد القصة , وهو بعيد , وقال الكرماني: قد يطلق الأمر بالتثنية وبالجمع والمراد واحد . قوله ( ثم أقيما) فيه حجة لمن قال باستحباب إجابة المؤذن بالاقامة إن حمل الأمر على ما مضى , وإلا فالذي يؤذن هو الذي يقيم. "تنبيه": وقع هنا في رواية أبي الوقت " حدثنا محمد بن المثني حدثنا عبد الوهاب عن أيوب " فذكر حديث مالك بن الحويرث مطولا نحو ما مضى في الباب قبله، وسيأتي بتمامه في " باب خبر الواحد"، وعلى ذكره هناك اقتصر باقي الرواة.
632- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ ثُمَّ قَالَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوْ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ"
[ الحديث 632- طرفه في : 666]
633- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَبْطَحِ فَجَاءَهُ بِلاَلٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ ثُمَّ خَرَجَ بِلاَلٌ بِالْعَنَزَةِ حَتَّى رَكَزَهَا

(2/112)


بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَبْطَحِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ"
قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان. قوله: "بضجنان" هو بفتح الضاد المعجمة وبالجيم بعدها نون على وزن فعلان غير مصروف، قال صاحب الصحاح وغيره: هو جبل بناحية مكة. وقال أبو موسى في ذيل الغريبين: هو موضع أو جبل بين مكة والمدينة. وقال صاحب المشارق ومن تبعه: هو جبل على بريد من مكة. وقال صاحب الفائق: بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلا، وبينه وبين وادي مريسعة أميال. انتهى. وهذا القدر أكثر من بريدين. وضبطه بالأميال يدل على مزيد اعتناء، وصاحب الفائق ممن شاهد تلك الأماكن واعتنى بها، خلاف من تقدم ذكره ممن لم يرها أصلا. ويؤيده ما حكاه أبو عبيد البكري قال: وبين قديد وضجنان يوم. قال معبد الخزاعي:
قد جعلت ماء قديد موعدي ... وماء ضجنان لها ضحى الغد
قوله: "وأخبرنا" أي ابن عمر. قوله: "كان يأمر مؤذنا" في رواية مسلم كان يأمر المؤذن. قوله: "ثم يقول على أثره" صريح في أن القول المذكور كان بعد فراغ الأذان. وقال القرطبي: لما ذكر رواية مسلم بلفظ: "يقول في آخر ندائه " يحتمل أن يكون المراد في آخره قبيل الفراغ منه، جمعا بينه وبين حديث ابن عباس. انتهى. وقد قدمنا في " باب الكلام في الأذان " عن ابن خزيمة أنه حمل حديث ابن عباس على ظاهره، وأن ذلك يقال بدلا من الحيعلة نظرا إلى المعنى لأن معنى " حي على الصلاة " هلموا إليها، ومعنى " الصلاة في الرحال " تأخروا عن المجيء ولا يناسب إيراد اللفظين معا لأن أحدهما نقيض الآخر ا هـ. ويمكن الجمع بينهما، ولا يلزم منه ما ذكر بأن يكون معنى الصلاة في الرحال رخصة لمن أراد أن يترخص، ومعنى هلموا إلى الصلاة ندب لمن أراد أن يستكمل الفضيلة ولو تحمل المشقة. ويؤيد ذلك حديث جابر عند مسلم قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فمطرنا، فقال: ليصل من شاء منكم في رحله. قوله: "في الليلة الباردة أو المطيرة" قال الكرماني فعيلة بمعنى فاعلة، وإسناد المطر إليها مجاز، ولا يقال إنها بمعنى مفعولة - أي ممطور فيها - لوجود الهاء في قوله مطيرة إذ لا يصح ممطورة فيها ا هـ. ملخصا. وقوله: "أو" للتنويع لا للشك، وفي صحيح أبي عوانة " ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح " ودل ذلك على أن كلا من الثلاثة عذر في التأخر عن الجماعة، ونقل ابن بطال فيه الإجماع، لكن المعروف عند الشافعية أن الريح عذر في الليل فقط، وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل، لكن في السنن من طريق ابن إسحاق عن نافع في هذا الحديث: "في الليلة المطيرة والغداة القرة"، وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه " أنهم مطروا يوما فرخص لهم " ولم أر في شيء من الأحاديث الترخص بعذر الريح في النهار صريحا، لكن القيام يقتضي إلحاقه، وقد نقله ابن الرفعة وجها. قوله: "في السفر" ظاهره اختصاص ذلك بالسفر، ورواية مالك عن نافع الآتية في أبواب صلاة الجماعة مطلقة، وبها أخذ الجمهور، لكن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضي أن يختص ذلك بالمسافر مطلقا، ويلحق به من تلحقه بذلك مشقة في الحضر دون من لا تلحقه، والله أعلم. قوله: "حدثنا إسحاق" وقع في رواية أبي الوقت أنه ابن منصور، وبذلك جزم خلف في الأطراف، وقد تردد الكلاباذي هل هو ابن إبراهيم أو ابن منصور، ورجح الجياني أنه ابن منصور واستدل على ذلك بأن مسلما أخرج هذا الحديث بهذا الإسناد عن إسحاق بن منصور. قوله: "فآذنه بالصلاة ثم خرج بلال" اختصره المصنف، وقد أخرجه الإسماعيلي من طرق

(2/113)


عن جعفر ابن عون فقال بعد قوله بالصلاة " فدعا بوضوء فتوضأ " فذكر القصة. قوله: "وأقام الصلاة" اختصر بقيته، وهي عند الإسماعيلي أيضا وهي " وركزها بين يديه والظعن يمرون " الحديث، وقد قدمنا الكلام عليه في " باب سترة الإمام سترة لمن خلفه". قوله: "بالأبطح" هو موضع معروف خارج مكة، وقد بيناه في ذلك الباب، وفهم بعضهم أن المراد بالأبطح موضع جمع لذكره لها في الترجمة، وليس ذلك مراده، بل بين جمع والأبطح مسافة طويلة، وإنما أورد حديث أبي جحيفة لأنه يدخل في أصل الترجمة وهي مشروعية الأذان والإقامة للمسافرين.

(2/114)


باب هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا وهل يلتفت في الأذان
...
19 - باب هَلْ يَتَتَبَّعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأَذَانِ
وَيُذْكَرُ عَنْ بِلاَلٍ أَنَّهُ جَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَ بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَقَالَ عَطَاءٌ الْوُضُوءُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ وَقَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ
634- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى بِلاَلًا يُؤَذِّنُ فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا بِالأَذَانِ"
قوله: "باب هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا" هو بياء تحتانية ثم بتاءين مفتوحات ثم بموحدة مشددة من التتبع. وفي رواية الأصيلي: "يتبع " بضم أوله وإسكان المثناة وكسر الموحدة من الاتباع، والمؤذن بالرفع لأنه فاعل التتبع، وفاه منصوب على المفعولية، و " هاهنا وهاهنا " ظرفا مكان والمراد بهما جهتا اليمين والشمال كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الكلام على الحديث. وقال الكرماني: لفظ المؤذن بالنصب وفاعله محذوف تقديره الشخص ونحوه، وفاه بالنصب بدل من المؤذن، قال: ليوافق قوله في الحديث: "فجعلت أتتبع فاه " ا هـ. وليس ذلك بلازم، لما عرف من طريقة المصنف أنه لا يقف مع اللفظ الذي يورده غالبا بل يترجم له ببعض ألفاظه الواردة فيه، وكذا وقع هاهنا، فإن في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عند أبي عوالة في صحيحه " فجعل يتتبع بفيه يمينا وشمالا". وفي رواية وكيع عن سفيان عند الإسماعيلي: "رأيت بلالا يؤذن يتتبع بفيه: "ووصف سفيان يميل برأسه يمينا وشمالا، والحاصل أن بلالا كان يتتبع بفيه الناحيتين، وكان أبو جحيفة ينظر إليه فكل منهما متتبع باعتبار. قوله: "وهل يلتفت في الأذان" يشير إلى ما قدمناه في رواية وكيع وفي رواية إسحاق الأزرق عن سفيان عند النسائي: "فجعل ينحرف يمينا وشمالا " وسيأتي في رواية يحيى بن آدم بلفظ: "والتفت". قوله: "ويذكر عن بلال أنه جعل إصبعيه في أذنيه" يشير بذلك إلى ما وقع في رواية عبد الرزاق وغيره عن سفيان كما سنوضحه بعد. قوله: "وكان ابن عمر الخ" أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن طريق نسير وهو بالنون والمهملة مصغر ابن ذعلوق بضم الذال المعجمة وسكون العين المهملة وضم اللام عن ابن عمر. قوله: "وقال إبراهيم" يعني النخعي الخ وصله سعيد بن منصور وابن أبي شيبة عن جرير عن منصور عنه بذلك وزاد: "ثم يخرج فيتوضأ ثم يرجع فيقيم". قوله: "وقال عطاء الخ" وصله عبد الرزاق عن ابن جرير قال: "قال لي عطاء: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن المؤذن إلا متوضئا، هو من الصلاة، هو فاتحة الصلاة " ولابن أبي شيبة من وجه آخر عن عطاء " أنه كره أن يؤذن الرجل على غير

(2/114)


وضوء " وقد ورد فيه حديث مرفوع أخرجه الترمذي والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف. قوله: "وقالت عائشة" تقدم الكلام عليه في " باب تقضي الحائض المناسك " من كتاب الحيض، وأن مسلما وصله. وفي إيراد البخاري له هنا إشارة إلى اختيار قول النخعي، وهو قول مالك والكوفيين لأن الأذان من جملة الأذكار فلا يشترط فيه ما يشترط في الصلاة من الطهارة ولا من استقبال القبلة، كما لا يستحب فيه الخشوع الذي ينافيه الالتفات وجعل الإصبع في الأذن، وبهذا تعرف مناسبة ذكره لهذه الآثار في هذه الترجمة ولاختلاف نظر العلماء فها أوردها بلفظ الاستفهام ولم يجزم بالحكم. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وسفيان هو الثوري. قوله: "هاهنا وهاهنا بالأذان" كذا أورده مختصرا، ورواية وكيع عن سفيان عند مسلم أتم حيث قال: "فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يمينا وشمالا يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح " وهذا فيه تقييد للالتفات في الأذان وأن محله عند الحيعلتين، وبوب عليه ابن خزيمة: "انحراف المؤذن عند قوله حي على الصلاة حي على الفلاح بفمه لا ببدنه كله " قال: وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه، ثم ساقه من طريق وكيع أيضا بلفظ: "فجعل يقول في أذانه هكذا، ويحرف رأسه يمينا وشمالا " وفي رواية عبد الرزاق عن الثوري في هذا الحديث زيادتان: إحداهما الاستدارة، والأخرى وضع الإصبع في الأذن، ولفظه عند الترمذي " رأيت بلالا يؤذن ويدور ويتبع فاه هاهنا وهاهنا وإصبعاه في أذنيه " فأما قوله: "ويدور " فهو مدرج في رواية سفيان عن عون، بين ذلك يحيى بن آدم عن سفيان عن عون عن أبيه قال: "رأيت بلالا أذن فأتبع فاه هاهنا وهاهنا والتفت يمينا وشمالا " قال سفيان: كان حجاج - يعني ابن أرطاة - يذكر لنا عن عون أنه قال: "فاستدار في أذانه " فلما لقينا عونا لم يذكر فيه الاستدارة، أخرجه الطبراني وأبو الشيخ من طريق يحيى بن آدم، وكذا أخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان، لكن لم يسم حجاجا، وهو مشهور عن حجاج أخرجه ابن ماجه وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم من طريقه ولم ينفرد به بل وافقه إدريس الأودي ومحمد العرزمي عن عون، لكن الثلاثة ضعفاء، وقد خالفهم من هو مثلهم أو أمثل وهو قيس بن الربيع فرواه عن عون فقال في حديثه " ولم يستدر " أخرجه أبو داود، ويمكن الجمع بأن من أثبت الاستدارة عني استدارة الرأس، ومن نفاها عني استدارة الجسد كله. ومشى ابن بطال ومن تبعه على ظاهره فاستدل به على جواز الاستدارة بالبدن كله، قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على استدارة المؤذنين للإسماع عند التلفظ بالحيعلتين، واختلف هل يستدير ببدنه كله أو بوجهه فقط وقدماه قارتان مستقبل القبلة؟ واختلف أيضا هل يستدير في الحيعلتين الأوليين مرة وفي الثانيتين مرة، أو يقول حي على الصلاة عن يمينه ثم حي على الصلاة عن شماله وكذا في الأخرى؟ قال: ورجح الثاني لأنه يكون لكل جهة نصيب منهما، قال: والأول أقرب إلى لفظ الحديث. وفي المغني عن أحمد: لا يدور إلا إن كان على منارة يقصد إسماع أهل الجهتين. وأما وضع الإصبعين في الأذنين فقد رواه مؤمل أيضا عن سفيان أخرجه أبو عوانة، وله شواهد ذكرتها في " تعليق التعليق " من أصحها ما رواه أبو داود وابن حبان من طريق أبي سلام الدمشقي أن عبد الله الهوزني حدثه قال: قلت لبلال كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فذكر الحديث وفيه: "قال بلال: فجعلت إصبعي في أذني فأذنت " ولابن ماجه والحاكم من حديث سعد القرظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يجعل إصبعيه في أذنيه " وفي إسناده ضعف، قال العلماء في ذلك فائدتان: إحداهما أنه قد يكون أرفع لصوته، وفيه حديث ضعيف أخرجه أبو الشيخ من طريق سعد القرظ عن بلال،

(2/115)


ثانيهما أنه علامة للمؤذن ليعرف من رآه على بعد أو كان به صمم أنه يؤذن، ومن ثم قال بعضهم: يجعل يده فوق أذنه حسب، قال الترمذي: استحب أهل العلم أن يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان، قال: واستحبه الأوزاعي في الإقامة أيضا. "تنبيه": لم يرد تعيين الإصبع التي يستحب وضعها، وجزم النووي أنها المسبحة، وإطلاق الإصبع مجاز عن الأنملة. "تنبيه آخر": وقع في المغني للموفق نسبة حديث أبي جحيفة بلفظ: "أن بلالا أذن ووضع إصبعيه في أذنيه " إلى تخريج البخاري ومسلم، وهو وهم، وساق أبو نعيم في المستخرج حديث الباب من طريق عبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق عن سفيان بلفظ عيد الرزاق من غير بيان فما أجاد، لإيهامه أنهما متوافقتان، وقد عرفت ما في رواية عبد الرزاق من الإدراج، وسلامة رواية عبد الرحمن من ذلك، والله المستعان.

(2/116)


20 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ فَاتَتْنَا الصَّلاَةُ
وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يَقُولَ فَاتَتْنَا الصَّلاَةُ وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَمْ نُدْرِكْ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحُّ
635- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ مَا شَأْنُكُمْ قَالُوا اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ فَلاَ تَفْعَلُوا إِذَا أَتَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا"
قوله: "باب قول الرجل فاتتنا الصلاة" أي هل يكره أم لا؟ قوله: "وكره ابن سيرين الخ" وصله ابن أبي شيبة عن أزهر عن ابن عون قال: "كان محمد - يعني ابن سيرين - يكره " فذكره. قوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم" هو بالرفع على الابتداء، وأصح خبره. وهذا كلام المصنف رادا على ابن سيرين. ووجه الرد أن الشارع أطلق لفظ الفوات فدل على الجواز، وابن سيرين مع كونه كرهه فإنما كرهه من جهة اللفظ لأنه قال: "وليقل لم ندرك " وهذا محصل معنى الفوات، لكن قوله لم ندرك فيه نسبة عدم الإدراك إليه بخلاف فاتتنا، فلعل ذلك هو الذي لحظه ابن سيربن. وقوله أصح معناه صحيح أي بالنسبة إلى قول ابن سيرين، فإنه غير صحيح لثبوت النص بخلافه. وعند أحمد من حديث أبي قتادة في قصة نومهم عن الصلاة " فقلت يا رسول الله فاتتنا الصلاة " ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وموقع هذه الترجمة وما بعدها من أبواب الأذان والإقامة أن المرء عند إجابة المؤذن يحتمل أن يدرك الصلاة كلها أو بعضها أو لا يدرك شيئا، فاحتيج إلى جواز إطلاق الفوات وكيفية الإتيان إلى الصلاة وكيفية العمل عند فوات البعض ونحو ذلك. قوله: "شيبان" هو ابن عبد الرحمن، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه" في رواية مسلم من طريق معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير التصريح بإخبار عبد الله له به وبإخبار أبي قتادة لعبد الله. قوله: "جلبة الرجال" وفي رواية كريمة والأصيلي: "جلبة رجال " بغير ألف ولام وهما للعهد الذهني، وقد سمي منهم أبو بكرة فيما رواه الطبراني من رواية يونس عن الحسن عنه نحوه في نحو هذه القصة. و " جلبة " بجيم ولام وموحدة مفتوحات، أي أصواتهم حال حركتهم. واستدل به على أن التفات خاطر المصلي إلى الأمر الحادث لا يفسد صلاته، وسنذكر الكلام على المتن في الباب الذي بعده.

(2/116)


باب لا يسمى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار
...
21- باب لاَ يَسْعَى إِلَى الصَّلاَةِ وَلْيَأْتِ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ
وَقَالَ مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا قَالَهُ أَبُو قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
636- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَلاَ تُسْرِعُوا فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا"
[الحديث636 – طرفه في : 908]
قوله: "باب لا يسعى إلى الصلاة الخ" سقطت هذه الترجمة من رواية الأصيلي ومن رواية أبي ذر عن غير السرخسي، وثبوتها أصوب لقوله فيها " وقاله أبو قتادة " لأن الضمير يعود على ما ذكر في الترجمة، ولولا ذلك لعاد الضمير إلى المتن السابق فيكون ذكر أبي قتادة تكرارا بلا فائدة لأنه ساقه عنه. قوله: "وعن الزهري" أي بالإسناد الذي قبله، وهو آدم عن ابن أبي ذئب عنه، أي أن ابن أبي ذئب حدث به عن الزهري عن شيخين حدثاه به عن أبي هريرة، وقد جمعهما المصنف في " باب المشي إلى الجمعة " عن آدم فقال فيه: "عن سعيد وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة " وكذلك أخرجه مسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عنهما، وذكر الدار قطني الاختلاف فيه على الزهري وجزم بأنه عنده عنهما جميعا قال: وكان ربما اقتصر على أحدهما. وأما الترمذي فإنه أخرجه من طريق يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة وحده، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد وحده، قال: وقول عبد الرزاق أصح، ثم أخرجه من طريق ابن عيينة عن الزهري كما قال عبد الرزاق، وهذا عمل صحيح لو لم يثبت أن الزهري حدث به عنهما. وقد أخرجه المصنف في " باب المشي إلى الجمعة " من طريق شعيب ومسلم من طريق يونس كلاهما عن الزهري عن أبي سلمة وحده فترجح ما قال الدار قطني. قوله: "إذا سمعتم الإقامة" هو أخص من قوله في حديث أبي قتادة " إذا أتيتم الصلاة " لكن الظاهر أنه من مفهوم الموافقة، لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحو ذلك، ومع ذلك فقد نهى عن الإسراع، فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهي عن الإسراع من باب الأولى.
وقد لحظ فيه بعضهم معنى غير هذا فقال: الحكمة في التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إلها وقد انبهر فيقرأ وهو في تلك الحالة فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره، بخلاف من جاء قبل ذلك فإن الصلاة قد لا تقام فيه حتى يستريح.
انتهى.
وقضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة، وهو مخالف لصريح قوله: "إذا أتيتم الصلاة " لأنه يتناول ما قبل الإقامة، وإنما قيد في الحديث الثاني بالإقامة لأن ذلك هو الحامل في الغالب على الإسراع.
قوله: "وعليكم بالسكينة" كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: "وعليكم السكينة " بغير باء، وكذا في رواية مسلم من طريق يونس، وضبطها القرطبي شارحه بالنصب على الإغراء، وضبطها النووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال، واستشكل بعضهم دخول الباء قال: لأنه متعد بنفسه كقوله تعالى: {عليكم أنفسكم} وفيه نظر لثبوت زيادة الباء في الأحاديث الصحيحة كحديث: "عليكم برخصة الله " وحديث: "فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وحديث: "فعليك بالمرأة " قاله لأبي طلحة في قصة صفية، وحديث: "عليك بعيبتك " قالته عائشة

(2/117)


لعمر، وحديث: "عليكم بقيام الليل " وحديث: "عليك بخويصة نفسك " وغير ذلك. ثم إن الذي علل به هذا المعترض غير موف بمقصوده، إذ لا يلزم من كونه يجوز أن يتعدى بنفسه امتناع تعديه بالماء، وإذا ثبت ذلك فيدل على أن فيه لغتين والله أعلم. "فائدة": الحكمة في هذا الأمر تستفاد من زيادة وقعت في مسلم من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، فذكر نحو حديث الباب وقال في آخره: "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة " أي أنه في حكم المصلي، فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه. قوله: "والوقار" قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة، وذكر على سبيل التأكيد. وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقا، وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث، والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات. قوله: "ولا تسرعوا" فيه زيادة تأكيد، ويستفاد منه الرد على من أول قوله في حديث أبي قتادة " لا تفعلوا " أي الاستعجال المفضي إلى عدم الوقار، وأما الإسراع الذي لا ينافي الوقار كمن خاف فوت التكبيرة فلا، وهذا محكي عن إسحاق بن راهويه وقد تقدمت رواية العلاء التي فيها " فهو في صلاة " قال النووي: نبه بذلك على أنه لم يدرك من الصلاة شيئا لكان محصلا لمقصوده لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضا يستلزم كثرة الخطا وهو معنى مقصود لذاته وردت فيه أحاديث كحديث جابر عند مسلم: "أن بكل خطوة درجة " ولأبي داود من طريق سعيد بن المسيب عن رجل من الأنصار مرفوعا: "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى وقد صلوا بعضا وبقي بعض فصلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، وإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك". قوله: "فما أدركتم فصلوا" قال الكرماني: الفاء جواب شرط محذوف، أي إذا بينت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا. قلت: أو التقدير إذا فعلتم فا أدركتم أي فعلتم الذي أمرتكم به من السكينة وترك الإسراع. واستدل بهذا الحديث على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة لقوله: "فما أدركتم فصلوا " ولم يفصل بين القليل والكثير، وهذا قول الجمهور، وقيل: لا تدرك الجماعة بأقل من ركعة للحديث السابق " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك " وقياسا على الجمعة، وقد قدمنا الجواب عنه في موضعه وأنه ورد في الأوقات، وأن في الجمعة حديثا خاصا بها. واستدل به أيضا على استحباب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها، وفيه حديث أصرح منه أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبد العزيز بن رفيع عن رجل من الأنصار مرفوعا : "من وجدني راكعا أو قائما أو ساجدا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها" . قوله: "وما فاتكم فأتموا" أي أكملوا، هذا هو الصحيح في رواية الزهري، ورواه عنه ابن عيينة بلفظ: "فاقضوا " وحكم مسلم في التمييز عليه بالوهم في هذه اللفظة، مع أنه أخرج إسناده في صحيحه لكن لم يسق لفظه، وكذا روى أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة فقال: "فاقضوا " وأخرجه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق بلفظ: "فأتموا" . واختلف أيضا في حديث أبي قتادة، فرواية الجمهور " فأتموا " ووقع لمعاوية بن هشام عن سفيان " فاقضوا " كذا ذكره ابن أبي شيبة عنه. وأخرج مسلم إسناده في صحيحه عن ابن أبي شيبة فلم يسق لفظه أيضا، وروى أبو داود مثله عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: ووقعت في رواية أبي رافع عن أبي هريرة، واختلف في حديث أبي ذر قال: وكذا قال ابن سيرين عن أبي هريرة " وليقض". قلت: ورواية ابن سيرين عند مسلم بلفظ: "صل ما أدركت، واقض ما سبقك "

(2/118)


والحاصل أن أكثر الروايات ورد بلفظ: "فأتموا " وأقلها بلفظ: "فاقضوا " وإنما تظهر فائدة ذلك إذا جعلنا بين الإمام والقضاء مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدا واختلف في لفظه منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى، وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا لكنه يطلق على الأداء أيضا، ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا} ، ويرد بمعان أخر فيحمل قوله فاقضوا على معنى الأداء أو الفراغ فلا يغاير قوله فأتموا، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية فاقضوا على أن ما أدركه المأموم هو آخر صلاته حتى استحب له الجهر في الركعتين الأخيرتين وقراءة السورة وترك القنوت، بل هو أولها وإن كان آخر صلاة إمامه لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدمه، وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرا له لما احتاج إلى إعادة التشهد. وقول ابن بطال إنه ما تشهد إلا لأجل السلام لأن السلام يحتاج إلى سبق تشهد ليس بالجواب الناهض على دفع الإيراد المذكور، واستدل ابن المنذر لذلك أيضا على أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الافتتاح لا تكون إلا في الركعة الأولى، وقد عمل بمقتضى اللفظين الجمهور فإنهم قالوا. إن ما أدرك المأموم هو أول صلاته إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة مع أم القرآن في الرباعية، لكن لم يستحبوا له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين، وكأن الحجة فيه قوله: "ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك واقض ما سبقك به من القرآن " أخرجه البيهقي، وعن إسحاق والمزني لا يقرأ إلا أم القرآن فقط وهو القياس، واستدل به على أن من أدرك الإمام راكعا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته، لأنه فاته الوقوف والقراءة فيه، وهو قول أبي هريرة وجماعة، بل حكاه البخاري في " القراءة خلف الإمام " عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام، واختاره ابن خزيمة والضبعي وغيرهما من محدثي الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين والله أعلم. وحجة الجمهور حديث أبي بكرة حيث ركع دون الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "زادك الله حرصا ولا تعد " ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وسيأتي في أثناء صفة الصلاة إن شاء الله تعالى.

(2/119)


22 - باب مَتَى يَقُومُ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الإِمَامَ عِنْدَ الإِقَامَةِ
637- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ كَتَبَ إِلَيَّ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي"
[الحديث637- طرفاه في: 909,638]
قوله: "باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة؟" قيل أود الترجمة بلفظ الاستفهام لأن قوله في الحديث: "لا تقوموا " نهى عن القيام، وقوله: "حتى تروني " تسويغ للقيام عند الرؤية، وهو مطلق غير مقيد بشيء من ألفاظ الإقامة، ومن ثم اختلف السلف في ذلك كما سيأتي. قوله: "هشام" هو الدستوائي، وقد رواه أبو داود عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه هنا عن أبان العطار عن يحيى، فلعله له فيه شيخان. قوله: "كتب إلى يحيى" ظاهر في أنه لم يسمعه منه، وقد رواه إسماعيل من طريق هشيم عن هشام وحجاج الصواف كلاهما عن يحيى، وهو من تدليس الصيغ وصرح أبو نعيم في المستخرج من وجه آخر عن هشام أن يحيى كتب إليه أن عبد الله بن أبي قتادة حدثه، فأمن بذلك تدليس يحيى. قوله: "إذا أقيمت" أي إذا ذكرت ألفاظ الإقامة. قوله: "حتى تروني"

(2/119)


أي خرجت وصرح به عبد الرزاق وغيره عن معمر عن يحيى أخرجه مسلم، ولابن حبان من طريق عبد الرزاق وحده " حتى تروني خرجت إليكم" ؛ وفيه مع ذلك حذف تقديره فقوموا. وقال مالك في الموطأ: لم أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة بحد محدود، إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس، فإن منهم الثقيل والخفيف. وذهب الأكثرون إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن " قد قامت الصلاة " رواه ابن المنذر وغيره، وكذا رواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله، وعن سعيد بن المسيب قال: "إذا قال المؤذن الله أكبر وجب القيام، وإذا قال حي على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام " وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح، فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام، وأما إذا لم يكن الإمام في المسجد فذهب الجمهور إلى أنهم لا يقومون حتى يروه، وخالف من ذكرنا على التفصيل الذي شرحنا، وحديث الباب حجة عليهم وفيه جواز الإقامة والإمام في منزله إذا كان يسمعها وتقدم إذنه في ذلك. قال القرطبي: ظاهر الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة " أن بلالا كان لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم: "أخرجه مسلم. ويجمع بينهما بأن بلالا كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم. قلت: ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب " أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة، فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مقامه حتى تعتدل الصفوف"؛ وأما حديث أبي هريرة الآتي قريبا بلفظ: "أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم: "ولفظه في مستخرج أبي نعيم " فصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا " ولفظه عند مسلم: "أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى فقام مقامه " الحديث. وعنه في رواية أبي داود " إن الصلاة كانت تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ الناس مقامهم قبل أن يجيء النبي صلى الله عليه وسلم: "فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز وبأن صنيعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي عن ذلك في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره ولا يرد هذا حديث أنس الآتي أنه قام في مقامه طويلا في حاجة بعض القوم، لاحتمال أن يكون ذلك وقع نادرا، أو فعله لبيان الجواز.

(2/120)


23 - باب لاَ يَسْعَى إِلَى الصَّلاَةِ مُسْتَعْجِلًا وَلْيَقُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ
638- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ" . تابعة علىُّ بن المبارك
قوله: "باب لا يقوم إلى الصلاة مستعجلا، وليقم إليها بالسكينة والوقار" كذا في رواية الحموي.
وفي رواية المستملي: "باب لا يسعى إلى الصلاة " وسقط من رواية الكشميهني، وجمعا في رواية الباقين بلفظ باب لا يسعى إلى الصلاة ولا يقوم إليها مستعجلا الخ". قوله: "لا يسعى" كأنه يشير بذلك إلى رواية ابن سيرين في حديث أبي هريرة عند مسلم ولفظه: "إذا ثوب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم " وفي رواية أبي سلمة عن أبي هريرة عند المصنف

(2/120)


في " باب المشي إلى الجمعة " من كتاب الجمعة " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون " وسيأتي وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "وعليكم بالسكينة" كذا في رواية أبي ذر وكريمة. وفي رواية الأصيلي وأبي الوقت " وعليكم السكينة " بحذف الباء، وكذا أخرجه أبو عوانة من طرق عن شيبان. قوله: "تابعه علي بن المبارك" أي عن يحيى، ومتابعته وصلها المؤلف في كتاب الجمعة، ولفظه: "عليكم السكينة " بغير باء أيضا. وقال أبو العباس الطرقي: تفرد شيبان وعلي بن المبارك عن يحيى بهذه الزيادة، وتعقب بأن معاوية بن سلام تابعهما عن يحيى، ذكره أبو داود عقب رواية أبان عن يحيى فقال: رواه معاوية بن سلام وعلي بن المبارك عن يحيى وقالا فيه: "حتى تروني وعليكم السكينة" . قلت: وهذه الرواية المعلقة وصلها الإسماعيلي من طريق الوليد بن مسلم عن معاوية بن سلام وشيبان جميعا عن يحيى كما قال أبو داود.

(2/121)


24 - باب هَلْ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ لِعِلَّةٍ
639- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ وَعُدِّلَتْ الصُّفُوفُ حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلاَهُ انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ انْصَرَفَ قَالَ عَلَى مَكَانِكُمْ فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً وَقَدْ اغْتَسَلَ"
قوله: "باب هل يخرج من المسجد لعلة" أي لضرورة، وكأنه يشير إلى تخصيص ما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما من طريق أبي الشعثاء عن أبي هريرة " أنه رأى رجلا خرج من المسجد بعد أن أذن المؤذن فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم " فإن حديث الباب يدل على أن ذلك مخصوص بمن ليس له ضرورة، فيلحق بالجنب المحدث والراعف والحاقن ونحوهم، وكذا من يكون إماما لمسجد آخر ومن في معناه. وقد أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه فصرح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالتخصيص ولفظه: "لا يسمع النداء في مسجد ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق" . قوله: "خرج وقد أقيمت الصلاة" يحتمل أن يكون المعنى خرج في حال الإقامة، ويحتمل أن تكون الإقامة تقدمت خروجه، وهو ظاهر الرواية التي في الباب الذي بعده، لتعقيب الإقامة بالتسوية، وتعقيب التسوية بخروجه جميعا بالفاء، ويحتمل أن يجمع بين الروايتين بأن الجملتين وقعتا حالا أي خرج والحال أن الصلاة أقيمت والصفوف عدلت. وقال الكرماني: لفظ: "قد " تقرب الماضي من الحال، وكأنه خرج في حال الإقامة وفي حال التعديل، ويحتمل أن يكونوا إنما شرعوا في ذلك بإذن منه أو قرينة تدل عليه. قلت: وتقدم احتمال أن يكون ذلك سببا للنهي فلا يلزم منه مخالفتهم له، وقد تقدم الجمع بينه وبين حديث أبي قتادة " لا تقوموا حتى تروني قريبا" . قوله: "وعدلت الصفوف" أي سويت.
قوله: "حتى إذا قام في مصلاه" زاد مسلم من طريق يونس عن الزهري " قبل أن يكبر فانصرف " وقد تقدم في " باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب " من أبواب الغسل من وجه آخر عن يونس بلفظ: "فلما قام في مصلاه ذكر " ففيه دليل على أنه انصرف قبل أن يدخل في الصلاة، وهو معارض لما رواه أبو داود وابن حبان عن أبي بكرة

(2/121)


أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر فكبر ثم أومأ إليهم، ولمالك من طريق عطاء بن يسار مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار بيده أن امكثوا، ويمكن الجمع بينهما بحمل قوله: "كبر " على أراد أن يكبر، أو بأنهما واقعتان، أبداه عياض والقرطبي احتمالا وقال النووي إنه الأظهر، وجزم به ابن حبان كعادته، فإن ثبت وإلا فما في الصحيح أصح، ودعوى ابن بطال أن الشافعي احتج بحديث عطاء على جواز تكبير المأموم قبل تكبير الإمام قال فناقض أصله فاحتج بالمرسل، متعقبه بأن الشافعي لا يرد المراسيل مطلقا، بل يحتج منها بما يعتضد، والأمر هنا كذلك لحديث أبي بكرة الذي ذكرناه. قوله: "انتظرنا" جملة حالية، و قوله: "انصرف" أي إلى حجرته وهو جواب إذا، و قوله: "قال" استئناف أو حال. قوله: "على مكانكم" أي كونوا على مكانكم. قوله: "على هيئتنا" بفتح الهاء بعدها ياء تحتانية ساكنة ثم همزة مفتوحة ثم مثناة، والمراد بذلك أنهم امتثلوا أمره في قوله: "على مكانكم " فاستمروا على الهيئة - أي الكيفية - التي تركهم عليها، وهي قيامهم فب صفوفهم المعتدلة. وفي رواية الكشميهني: "على هيئتنا " بكسر الهاء وبعد الياء نون مفتوحة، والهيئة الرفق، ورواية الجماعة أوجه. قوله: "ينطف" بكسر الطاء وضمها أي يقطر كما صرح به في الرواية التي بعد هذه. قوله: "وقد اغتسل" زاد الدار قطني من وجه آخر عن أبي هريرة فقال: "إني كنت جنبا فنسيت أن اغتسل " وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما مضى في كتاب الغسل جواز النسيان على الأنبياء في أمر العبادة لأجل التشريع، وفيه طهارة الماء المستعمل وجواز الفصل بين الإقامة والصلاة، لأن قوله: "فصلى " ظاهر في أن الإقامة لم تعد، والظاهر أنه مقيد بالضرورة وبأمن خروج الوقت. وعن مالك إذا بعدت الإقامة من الإحرام تعاد، وينبغي أن يحمل على ما إذا لم يكن عذر. وفيه أنه لا حياء في أمر الدين، وسبيل من غلب أن يأتي بعذر موهم كأن يمسك بأنفه ليوهم أنه رعف. وفيه جواز انتظار المأمومين مجيء الإمام قياما عند الضرورة، وهو غير القيام المنهي عنه في حديث أبي قتادة. وأنه لا يجب على من احتلم في المسجد فأراد الخروج منه أن يتيمم كما تقدم في الغسل. وجواز الكلام بين الإقامة والصلاة وسيأتي في باب مفرد. وجواز تأخير الجنب الغسل عن وقت الحدث. "فائدة": وقع في بعض النسخ هنا: قيل لأبي عبد الله - أي البخاري - إذا وقع هذا لأحدنا يفعل مثل هذا؟ قال: نعم. قيل: فينتظرون الإمام قياما أو قعودا؟ قال: إن كان قبل التكبير فلا بأس أن يقعدوا، وإن كان بعد التكبير انتظروه قياما. ووقع في بعضها في آخر الباب الذي بعده.

(2/122)


25 - باب إِذَا قَالَ الإِمَامُ مَكَانَكُمْ حَتَّى رَجَعَ انْتَظَرُوهُ
640- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقَدَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ ثُمَّ قَالَ عَلَى مَكَانِكُمْ فَرَجَعَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ"
قوله: "باب إذا قال الإمام مكانكم" هذا اللفظ في رواية يونس عن الزهري كما مضى في الغسل بلفظ: "فقال لنا مكانكم " بحذف حرف الجر. قوله: "حتى نرجع" بالنون للكشميهني، وبالهمزة للأصيلي، وبالتحتانية

(2/122)


للباقين. قوله: "حدثنا إسحاق" كذا في جميع الروايات غير منسوب، وجوز ابن طاهر والجياني أنه إسحاق بن منصور، وبه جزم المزي، وكنت أجوز أنه ابن راهويه لثبوته في مسنده عن الفريابي إلى أن رأيت في سياقه له مغايرة. ومحمد بن يوسف هو الفريابي وقد أكثر البخاري عنه بغير واسطة. قوله: "عن الزهري عن أبي سلمة" صرح بالتحديث في الموضعين إسحاق بن راهويه في روايته له عن الفريابي، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في المستخرج. قوله: "فتقدم وهو جنب" أي في نفس الأمر، لا أنهم اطلعوا على ذلك منه قبل أن يعلمهم، وقد تقدم في الغسل في رواية يونس " فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب". وفي رواية أبي نعيم " ذكر أنه لم يغتسل"، ومضت فوائده في الباب الذي قبله.

(2/123)


باب قول الردل ما صلينا
...
26 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ مَا صَلَّيْنَا
641- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بُطْحَانَ وَأَنَا مَعَهُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى يَعْنِي الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ"
قوله: "باب قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما صلينا" قال ابن بطال: فيه رد لقول إبراهيم النخعي: يكره أن يقول الرجل لم نصل ويقول نصلي. قلت: وكراهة النخعي إنما هي في حق منتظر الصلاة، وقد صرح ابن بطال بذلك، ومنتظر الصلاة في صلاة كما ثبت بالنص، فإطلاق المنتظر " ما صلينا " يقتضي نفي ما أثبته الشارع فلذلك كرهه، والإطلاق الذي في حديث الباب إنما كان من ناس لها أو مشتغل عنها بالحرب كما تقدم تقريره في " باب من صلى بالناس جماعة بعد خروج الوقت " في أبواب المواقيت، فافترق حكمهما وتغايرا. والذي يظهر لي أن البخاري أراد أن ينبه على أن الكراهة المحكية عن النخعي ليست على إطلاقها لما دل عليه حديث الباب، ولو أراد الرد على النخعي مطلقا لأفصح به كما أفصح بالرد على ابن سيرين في ترجمة " فاتتنا الصلاة"، ثم إن اللفظ الذي أورده المؤلف وقع النفي فيه من قول النبي صلى الله عليه وسلم لا من قول الرجل، لكن في بعض طرقه وقوع ذلك من الرجل أيضا، وهو عمر كما أورده في المغازي، وهذه عادة معروفة للمؤلف يترجم ببعض ما وقع في طرق الحديث الذي يسوقه ولو لم يقع في الطريق التي يوردها في تلك الترجمة، ويدخل في هذا ما في الطبراني من حديث جندب في قصة النوم عن الصلاة " فقالوا: يا رسول الله سهونا فلم نصل حتى طلعت الشمس " وبقية فوائد الحديث تقدمت في المواقيت. قوله: "ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس تغرب" وذلك بعد ما أفطر الصائم. قال الكرماني مستشكلا: كيف يكون المجيء بعد الغروب؟ لأن الصائم إنما يفطر حينئذ مع تصريحه بأنه جاء في اليوم، ثم أجاب بأن المراد بقوله يوم الحندق زمان الخندق، والمراد به بيان التاريخ لا خصوص الوقت ا هـ. والذي يظهر لي أن الإشارة بقوله: "وذلك بعد ما أفطر الصائم " إشارة إلى الوقت الذي خاطب به عمر النبي صلى الله عليه وسلم لا إلى الوقت الذي صلى فيه عمر العصر، فإنه كان قرب الغروب كما تدل عليه " كاد". وأما إطلاق اليوم وإرادة زمان

(2/123)


الوقعة لا خصوص النهار فهو كثير.

(2/124)


27 - باب الإِمَامِ تَعْرِضُ لَهُ الْحَاجَةُ بَعْدَ الإِقَامَةِ
643- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِي رَجُلًا فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ "
[الحديث642- طرفاه في : 6292,643]
قوله: "باب الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة" أي هل يباح له التشاغل بها قبل الدخول في الصلاة أو لا؟ وتعرض بكسر الراء أي تظهر. قوله: "عن أنس" في رواية لمسلم: "سمع أنسا " والإسناد كله بصريون. قوله: "أقيمت الصلاة" أي صلاة العشاء، بينه حماد عن ثابت عن أنس عند مسلم. قوله: "يناجي رجلا" أي يحادثه، ولم أقف على اسم هذا الرجل، وذكر بعض الشراح أنه كان كبيرا في قومه فأراد أن يتألفه على الإسلام، ولم أقف على مستند ذلك. قيل ويحتمل أن يكون ملكا من الملائكة جاء بوحي من الله عز وجل، ولا يخفى بعد هذا الاحتمال. قوله: "حتى نام بعض القوم" زاد شعبة عن عبد العزيز " ثم قام فصلى " أخرجه مسلم، وهو عند المصنف في الاستئذان. ووقع عند إسحاق بن راهويه في مسنده عن ابن علية عن عبد العزيز في هذا الحديث: "حتى نعس بعض القوم " وكذا هو عند ابن حبان من وجه آخر عن أنس، وهو يدل على أن النوم المذكور لم يكن مستغرقا، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في " باب الوضوء من النوم " من كتاب الطهارة، وفي الحديث جواز مناجاة الواحد غيره بحضور الجماعة، وترجم عليه المؤلف في الاستئذان " طول النجوى"، وفيه جواز الفصل بين الإقامة والإحرام إذا كان لحاجة، أما إذا كان لغير حاجة فهو مكروه، واستدل به للرد على من أطلق من الحنفية أن المؤذن إذا قال قد قامت الصلاة وجب على الإمام التكبير، قال الزين ابن المنير: خص المصنف الإمام بالذكر مع أن الحكم عام لأن لفظ الخير يشعر بأن المناجاة كانت لحاجة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلا " ولو كان لحاجة الرجل لقال أنس: ورجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وهذا ليس بلازم، وفيه غفلة منه عما في صحيح مسلم بلفظ: أقيمت الصلاة، فقال رجل: لي حاجة. فقام النبي صلى الله عليه وسلم يناجيه " والذي يظهر لي أن هذا الحكم إنما يتعلق بالإمام، لأن المأموم إذا عرضت له الحاجة لا يتقيد به غيره من المأمومين بخلاف الإمام. ولما أن كانت مسألة الكلام بين الإحرام والإقامة تشمل المأموم والإمام أطلق المؤلف الترجمة ولم يقيدها بالإمام فقال.

(2/124)


با بالكلام إذا أقيمت الصلاة
...
28 - باب الْكَلاَمِ إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ
643- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ سَأَلْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ عَنْ الرَّجُلِ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ مَا تُقَامُ الصَّلاَةُ فَحَدَّثَنِي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ "أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَعَرَضَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَحَبَسَهُ بَعْدَ مَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ" . وقال الحسن : إن منعته أمه عن العشاء في جماعة شفقة عليه لم يطعمها
قوله: "باب الكلام إذا أقيمت الصلاة" وأشار بذلك إلى الرد على من كرهه مطلقا. قوله: "حدثنا عياش بن الوليد" هو الرقام وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة، والإسناد كله بصريون أيضا. وقول حميد " سألت

(2/124)


29 - باب وُجُوبِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنْ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا
644- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ"
[الحديث644- أطرافه في : 7224,2420,657]
قوله: "باب وجوب صلاة الجماعة" هكذا بت الحكم في هذه المسألة، وكأن ذلك لقوة دليلها عنده، لكن أطلق الوجوب وهو أعم من كونه وجوب عين أو كفاية، إلا أن الأثر الذي ذكره عن الحسن يشعر بكونه يريد أنه وجوب عين، لما عرف من عادته أنه يستعمل الآثار في التراجم لتوضيحها وتكميلها وتعيين أحد الاحتمالات في حديث الباب، وبهذا يجاب من اعترض عليه بأن قول الحسن يستدل له لا به، ولم ينبه أحد من الشراح على من وصل أثر الحسن، وقد وجدته بمعناه وأتم منه وأصرح في كتاب الصيام للحسين ابن الحسن المروزي بإسناد صحيح " عن الحسن في رجل يصوم - يعني تطوعا - فتأمره أمه أن يفطر، قال: فليفطر ولا قضاء عليه، وله أجر الصوم وأجر البر. قيل: فتنهاه أن يصلي العشاء في جماعة، قال: ليس ذلك لها، هذه فريضة " وأما حديث الباب

(2/125)


فظاهر في كونها فرض عين، لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه. ويحتمل أن يقال: التهديد بالتحريق المذكور يمكن أن يقع في حق تاركي فرض الكفاية كمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية، وفيه نظر لأن التحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة، ولأن المقاتلة إنما تشرع فيما إذا تمالأ الجميع على الترك، وإلى القول بأنها فرض عين ذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان، وبالغ داود ومن تبعه فجعلها شرطا في صحة الصلاة، وأشار ابن دقيق العيد إلى أنه مبني على أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها، فلما كان لهم المذكور دالا على لازمه وهو الحضور، ووجوب الحضور دليلا على لازمه وهو الاشتراط، ثبت الاشتراط بهذه الوسيلة. إلا أنه لا يتم إلا بتسليم أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها، وقد قيل إنه الغالب. ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد: إنها واجبة غير شرط. انتهى. وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه وقال به كثير من الحنفية والمالكية، والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة، وقد أجابوا عن ظاهر حديث الباب بأجوبة: منها ما تقدم. ومنها وهو ثانيها ونقله إمام الحرمين عن ابن خزيمة، والذي نقله عنه النووي الوجوب حسبما قال ابن بزيزة إن بعضهم استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب لكونه صلى الله عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه. وتعقب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه. قلت: وليس فيه أيضا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعة آخرين. ومنها وهو ثالثها ما قال ابن بطال وغيره: لو كانت فرضا لقال حين توعد بالإحراق من تخلف عن الجماعة لم تجزئه صلاته، لأنه وقت البيان. وتعقبه ابن دقيق العيد بأن البيان قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة، فلما قال صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت الخ " دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان. ومنها وهو رابعها ما قال الباجي وغيره إن الخبر ورد مورد الزجر وحقيقته غير مرادة. وإنما المراد المبالغة. ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك، وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار، وكان قيل ذلك جائزا بدليل حديث أبي هريرة الآتي في الجهاد الدال على جواز التحريق بالنار ثم على نسخه، فحمل التهديد على حقيقته غير ممتنع. ومنها وهو خامسها كونه صلى الله عليه وسلم ترك تحريقهم بعد التهديد، فلو كان واجبا ما عفا عنهم، قال القاضي عياض ومن تبعه: ليس في الحديث حجة لأنه عليه السلام هم ولم يفعل، زاد النووي: ولو كانت فرض عين لما تركهم، وتعقبه ابن دقيق العيد فقال: هذا ضعيف لأنه صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه، على أنه قد جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون " الحديث. ومنها وهو سادسها أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة، وهو متعقب بأن في رواية مسلم: "لا يشهدون الصلاة " أي لا يحضرون. وفي رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد " لا يشهدون العشاء في الجميع " أي في الجماعة، وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعا: "لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم" . ومنها وهو سابعها أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم لا لخصوص ترك الجماعة فلا يتم الدليل، أشار إليه الزين بن المنير، وهو

(2/126)


قريب من الوجه الرابع. ومنها وهو ثامنها أن الحديث ورد في حق المنافقين، فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه فلا يتم الدليل، وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه كان معرضا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم وقد قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " وتعقب ابن دقيق العيد هذا التعقيب بأنه لا يتم إلا إذا ادعى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجبا عليه ولا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنه كان مخيرا فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم. انتهى. والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله في صدر الحديث الآتي بعد أربعة أبواب " ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر " الحديث، ولقوله: "لو يعلم أحدهم الخ " لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر بدليل قوله في رواية عجلان " لا يشهدون العشاء في الجميع " وقوله في حديث أسامة " لا يشهدون الجماعة " وأصرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي داود " ثم آتى قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة " فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، نبه عليه القرطبي. وأيضا فقوله في رواية المقبري " لولا ما في البيوت من النساء والذرية " يدل على أنهم لم يكونوا كفارا لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقا إلى الغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته، وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق في الحديث نفاق الكفر فلا يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها، قال الطيبي: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة، بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود " لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق " رواه مسلم، انتهى كلامه. وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس حدثني عمومتي من الأنصار قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يشهدهما منافق " يعني العشاء والفجر. ولا يقال فهذا يدل على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه لانتفاء أن يكون المؤمن قد يتخلف، وإنما ورد الوعيد في حق من تخلف لأني أقول بل هذا يقوى ما ظهر لي أولا أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازا لما دل عليه مجموع الأحاديث. ومنها وهو تاسعها ما ادعاه بعضهم أن فرضية الجماعة كانت في أول الإسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ حكاه عياض، ويمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم وهو التحريق بالنار كما سيأتي واضحا في كتاب الجهاد، وكذا ثبوت نسخ ما يتضمنه التحريق من جواز العقوبة بالمال، ويدل على النسخ الأحاديث الواردة في تفصيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ كما سيأتي بيانه في الباب الذي بعد هذا، لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز. ومنها وهو عاشرها أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات، ونصره القرطبي، وتعقب بالأحاديث المصرحة بالعشاء، وفيه بحث لأن الأحاديث اختلفت في تعيين الصلاة التي وقع التهديد بسببها هل هي الجمعة أو العشاء، أو العشاء والفجر معا؟ فإن لم تكن أحاديث مختلفة ولم يكن بعضها أرجح من بعض وإلا وقف الاستدلال، لأنه لا يتم إلا إن تعين كونها غير الجمعة، أشار إليه ابن دقيق العيد، ثم قال فليتأمل الأحاديث الواردة

(2/127)


في ذلك. انتهى. وقد تأملتها فرأيت التعيين ورد في حديث أبي هريرة وابن أم مكتوم وابن مسعود، أما حديث أبي هريرة فحديث الباب من رواية الأعرج عنه يومي إلى أنها العشاء لقوله في آخره: "لشهد العشاء " وفي رواية مسلم: "يعني العشاء " ولهما من رواية أبي صالح عنه أيضا الإيماء إلى أنها العشاء والفجر، وعينها السراج في رواية له من هذا الوجه العشاء حيث قال في صدر الحديث: "أخر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلا فغضب " فذكر الحديث. وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه " يعني الصلاتين العشاء والغداة " وفي رواية عجلان والمقبري عند أحمد التصريح بتعيين العشاء، ثم سائر الروايات عن أبي هريرة على الإبهام. وقد أورده مسلم من طريق وكيع عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عنه فلم يسق لفظه وساقه الترمذي وغيره من هذا الوجه بإبهام الصلاة، وكذلك رواه السراج وغيره عن طرق عن جعفر، وخالفهم معمر عن جعفر فقال: "الجمعة " أخرجه عبد الرزاق عنه، والبيهقي طريقه وأشار إلى ضعفها لشذوذها، ويدل على وهمه فيها رواية أبي داود والطبراني في الأوسط من طريق يزيد بن يزيد بن جابر عن يزيد بن الأصم فذكر الحديث، قال يزيد: قلت ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف الجمعة عني أو غيرها؟ قال: صمت أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة ولا غيرها. فظهر أن الراجح في حديث أبي هريرة أنها لا تختص بالجمعة، وأما حديث ابن أم مكتوم فسأذكره قريبا وأنه موافق لأبي هريرة. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه مسلم وفيه الجزم بالجمعة وهو حديث مستقل لأن مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة، ولا يقدح أحدهما في الآخر فيحمل على أنهما واقعتان كما أشار إليه النووي والمحب الطبري، وقد وافق ابن أم مكتوم أبا هريرة على ذكر العشاء، وذلك فيما أخرجه ابن خزيمة وأحمد والحاكم من طريق حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن شداد عن ابن أم مكتوم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم. فقام ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله قد علمت ما بي؟ وليس لي قائد - زاد أحمد - وأن بيني وبين المسجد شجرا ونخلا ولا أقدر على قائد كل ساعة. قال: أتسمع الإقامة؟ قال: نعم. قال فاحضرها. ولم يرخص له " ولابن حبان من حديث جابر قال: "أتسمع الأذان؟ قال: نعم. قال: فأتها ولو حبوا " وقد حمله العلماء على أنه كان لا يشق عليه التصرف بالمشي وحده ككثير من العميان. واعتمد ابن خزيمة وغيره حديث ابن أم مكتوم هذا على فرضية الجماعة في الصلوات كلها ورجحوه بحديث الباب وبالأحاديث الدالة على الرخصة في التخلف عن الجماعة، قالوا: لأن الرخصة لا تكون إلا عن واجب، وفيه نظر، ووراء ذلك أمر آخر ألزم به ابن دقيق العيد من يتمسك بالظاهر ولا يتقيد بالمعنى، وهو أن الحديث ورد في صلاة معينة فيدل على وجوب الجماعة فيها دون غيرها، وأشار للانفصال عنه بالتمسك بدلالة العموم، لكن نوزع في كون القول بما ذكر أولا ظاهرية محضة صلى الله عليه وسلم فإن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضيه،
ـــــــ
(1) ليس هذا بجيد , والصواب ماقاله ابن خزيمة وغيره من الموجبين للجماعة في جميع الصلوات . وإنما يستقيم حمل المطلق على المقيد إذا لم يوجد دليل على التعميم , وفي هذه المسألة قد قام الدليل على التعميم كحديث" من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر " وغيره من الأحاديث التي أشار إليها الشارح في هذا الباب . وذكر العشاء والفجر في بعض الروايات لايقتضي التخصيص لاحتمال كون المتوعدين لم يتخلفوا إلا عنها كما قد بين ذلك في كثير من الروايات. ولأن الحكمة في شرعية الجماعة تقتضى التعميم . والله أعلم

(2/128)


ولا يستلزم ذلك ترك اتباع المعنى، لأن غير العشاء والفجر مظنة الشغل بالتكسب وغيره، أما العصران فظاهر، وأما المغرب فلأنها في الغالب وقت الرجوع إلى البيت والأكل ولا سيما للصائم مع ضيق وقتها، بخلاف العشاء والفجر فليس للمتخلف عنهما عذر غير الكسل المذموم، وفي المحافظة عليهما في الجماعة أيضا انتظام الألفة بين المتجاورين في طرفي النهار، وليختموا النهار بالاجتماع على الطاعة ويفتتحوه كذلك. وقد وقع في رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد تخصيص التهديد بمن حول المسجد، وسيأتي توجيه كون العشاء والفجر أثقل على المنافقين من غيرهما. وقد أطلت في هذا الموضع لارتباط بعض الكلام ببعض، واجتمع من الأجوبة لمن لم يقل بالوجوب عشرة أجوبة لا توجد مجموعة في غير هذا الشرح. قوله: "عن الأعرج" في رواية السراج من طريق شعيب عن أبي الزناد سمع الأعرج. قوله: "والذي نفسي بيده" هو قسم كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقسم به، والمعنى أن أمر نفوس العباد بيد الله، أي بتقديره وتدبيره صلى الله عليه وسلم. وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شك فيه تنبيها على عظم شأنه، وفيه الرد على من كره أن يحلف بالله مطلقا. قوله: "لقد هممت" اللام جواب القسم، والهم العزم وقيل دونه، وزاد مسلم في أوله " أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناسا في بعض الصلوات فقال: لقد هممت " فأفاد ذكر سبب الحديث. قوله: "بحطب ليحطب" كذا للحموي والمستملي بلام التعليل، وللكشميهني والباقين " فيحطب " بالفاء، وكذا هو في الموطأ ومعنى يحطب يكسر ليسهل اشتعال النار به. ويحتمل أن يكون أطلق عليه ذلك قبل أن يتصف به تجوزا بمعنى أنه يتصف به. قوله: "ثم أخالف إلى رجال" أي آتيهم من خلفهم. وقال الجوهري: خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه، أو المعنى أخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة وأتركه وأسير إليهم، أو أخالف ظنهم في أني مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم، أو معنى أخالف أتخلف - أي عن الصلاة - إلى قصدي المذكورين، والتقييد بالرجال يخرج النساء والصبيان. قوله: "فأحرق" بالتشديد، والمراد به التكثير، يقال حرقه إذا بالغ في تحريقه. قوله: "عليهم" يشعر بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين، والبيوت تبعا للقاطنين بها. وفي رواية مسلم من طريق أبي صالح " فأحرق بيوتا على من فيها" . قوله: "والذي نفسي بيده" فيه إعادة اليمين للمبالغة في التأكيد. قوله: "عرقا" بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف قال الخليل: العراق العظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم فهو عرق، وفي الحكم عن الأصمعي: العرق بسكون الراء قطعة لحم. وقال الأزهري: العرق واحد العراق وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم، ويبقى عليها لحم رقيق فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق ويتشمس العظام، يقال عرقت اللحم واعترقته وتعرقته إذا أخذت اللحم منه نهشا، وفي المحكم: جمع العرق على عراق بالضم عزيز، وقول الأصمعي هو اللائق هنا. قوله: "أو مرماتين" تثنية مرماة بكسر الميم وحكى الفتح، قال الخليل: هي ما بين ظلفي الشاة، وحكاه أبو عبيد وقال: لا أدري ما وجهه. ونقله المستملي في روايته في كتاب الأحكام عن الفربري قال: قال يونس عن محمد بن سليمان عن البخاري: المرماة بكسر الميم مثل مسناة وميضاة ما بين ظلفي الشاة من اللحم، قال عياض فالميم على هذا أصلية. وقال الأخفش: المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنصال محدودة يرمونها في كوم من تراب، فأيهم أثبتها في الكوم غلب، وهي المرماة والمدحاة. قلت: ويبعد أن

(2/129)


تكون هذه مراد الحديث لأجل التثنية، وحكى الحربي عن الأصمعي أن المرماة سهم الهدف، قال: ويؤيده ما حدثني.ثم ساق من طريق أبي رافع عن أبي هريرة نحو الحديث بلفظ: "لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل " وقيل المرماة سهم يتعلم عليه الرمي، وهو سهم دقيق مستو غير محدد، قال الزين ابن المنير: ويدل على ذلك التثنية، فإنها مشعرة بتكرار الرمي بخلاف السهام المحددة الحربية فإنها لا يتكرر رميها وقال الزمخشري: تفسير المرماة بالسهم ليس بوجيه، ويدفعه ذكر العرق معه. ووجهه ابن الأثير بأنه لما ذكر العظم السمين وكان مما يؤكل أتبعه بالسهمين لأنهما مما يلهي به. انتهى. وإنما وصف العرق بالسمن والمرماة بالحسن ليكون ثم باعث نفساني على تحصيلهما. وفيه الإشارة إلى ذم المتخلفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به، مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات ومنازل الكرامة. وفي الحديث من الفوائد أيضا تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، وسره أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفى به عن الأعلى من العقوبة، نبه عليه ابن دقيق العيد، وفيه جواز العقوبة بالمال. كذا استدل به كثير من القائلين بذلك من المالكية وغيرهم، وفيه نظر لما أسلفناه، ولاحتمال أن التحريق من باب ما لا يتم الواجب إلا به، إذ الظاهر أن الباعث على ذلك أنهم كانوا يختفون في بيوتهم فلا يتوصل إلى عقوبتهم إلا بتحريقها عليهم. وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرة لأنه صلى الله عليه وسلم هم بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بالصلاة بالجماعة، فأراد أن يبغتهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا يطرقهم فيه أحد. وفي السياق إشعار بأنه تقدم منه زجرهم عن التخلف بالقول حتى استحقوا التهديد بالفعل، وترجم عليه البخاري في كتاب الأشخاص وفي كتاب الأحكام " باب إخراج أهل المعاصي والريب من البيوت بعد المعرفة " يريد أن من طلب منهم بحق فاختفى أو امتنع في بيته لددا ومطلا أخرج منه بكل طريق يتوصل إليه بها، كما أراد صلى الله عليه وسلم إخراج المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم. واستدل به ابن العربي وغيره على مشروعية قتل تارك الصلاة متهاونا بها، ونوزع في ذلك. ورواية أبي داود التي فيها أنهم كانوا يصلون في بيوتهم كما قدمناه تعكر عليه. نعم يمكن الاستدلال منه بوجه آخر وهو أنهم إذا استحقوا التحريق بترك صفة من صفات الصلاة خارجة عنها سواء قلنا واجبة أو مندوبة كان من تركها أصلا رأسا أحق بذلك، لكن لا يلزم من التهديد بالتحريق حصول القتل لا دائما ولا غالبا، لأنه يمكن الفرار منه أو الإخماد له بعد حصول المقصود منه من الزجر والإرهاب. وفي قوله في رواية أبي داود " ليست بهم علة " دلالة على أن الأعذار تبيح التخلف عن الجماعة ولو قلنا إنها فرض، وكذا الجمعة. وفيه الرخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفي في بيته ويتركها، ولا بعد في أن تلحق بذلك الجمعة، فقد ذكروا من الأعذار في التخلف عنها خوف فوات الغريم وأصحاب الجرائم في حق الإمام كالغرماء. واستدل به على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا كان في ذلك مصلحة، قال ابن بزيزة: وفيه نظر لأن الفاضل في هذه الصورة يكون غائبا، وهذا لا يختلف في جوازه، واستدل به ابن العربي على جواز إعدام محل المعصية كما هو مذهب مالك، وتعقب بأنه منسوخ صلى الله عليه وسلم كما قيل في العقوبة بالمال، والله أعلم.

(2/130)


باب عدل فضل صلاة الجماعة
...
30 - باب فَضْلِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ
وَكَانَ الأَسْوَدُ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ ذَهَبَ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ وَجَاءَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَ فِيهِ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى جَمَاعَةً
645- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"
[الحديث645 – طرفه في : 649]
646- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً
647- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاَهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَلاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ"
قوله: "باب فضل صلاة الجماعة" أشار الزين بن المنير إلى أن ظاهر هذه الترجمة ينافي الترجمة التي قبلها، ثم أطال في الجواب عن ذلك، ويكفي منه أن كون الشيء واجبا لا ينافي كونه ذا فضيلة، ولكن. الفضائل تتفاوت، فالمراد منها بيان زيادة ثواب الجماعة على صلاة الفذ. قوله: "وكان الأسود" أي ابن يزيد النخعي أحد كبار التابعين، وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ولفظه: "إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه" . ومناسبته للترجمة أنه لولا ثبوت فضيلة الجماعة عنده لما ترك فضيلة أول الوقت والمبادرة إلى خلاص الذمة وتوجه إلى مسجد آخر، كذا أشار إليه ابن المنير، والذي يظهر لي أن البخاري قصد الإشارة بأثر الأسود وأنس إلى أن الفضل الوارد في أحاديث الباب مقصور على من جمع في المسجد دون من جمع في بيته مثلا كما سيأتي البحث فيه في الكلام على حديث أبي هريرة، لأن التجميع لو لم يكن مختصا بالمسجد لجمع الأسود في مكانه ولم ينتقل إلى مسجد آخر لطلب الجماعة ولما جاء أنس إلى مسجد بني رفاعة كما سنبينه. قوله: "وجاء أنس" وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان قال: "مر بنا أنس، بن مالك في مسجد بني ثعلبة " فذكر نحوه قال: وذلك في صلاة الصبح، وفيه: "فأمر رجلا فأذن وأقام ثم صلى بأصحابه " وأخرجه ابن أبي شيبة من طرق عن الجعد، وعند البيهقي من طريق أبي عبد الصمد العمي عن الجعد نحوه وقال: "مسجد بني رفاعة " وقال: "فجاء أنس في نحو عشرين من فتيانه " وهو يؤيد ما قلناه من إرادة التجميع في المسجد. قوله: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ" بالمعجمة أي المنفرد، يقال فذ الرجل من أصحابه إذا بقي منفردا

(2/131)


وحده. وقد رواه مسلم من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع وسياقه أوضح ولفظه: "صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده" . قوله: "بسبع وعشرين درجة" قال الترمذي عامة من رواه قالوا خمسا وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال سبعا وعشرين. قلت: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما وقع عند عبد الرزاق عن عبد الله العمري عن نافع فقال فيه خمس وعشرون لكن العمري ضعيف، ووقع عند أبي عوانة في مستخرجه من طريق أبي أسامة عن عبيد الله ابن عمر عن نافع فإنه قال فيه بخمس وعشرين وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد الله وأصحاب نافع وإن كان راويها ثقة. وأما ما وقع عند مسلم من رواية الضحاك بن عثمان عن نافع بلفظ بضع وعشرين فليست مغايرة لرواية الحفاظ لصدق البضع على السبع، وأما غير ابن عمر فصح عن أبي سعيد وأبي هريرة كما في هذا الباب، وعن ابن مسعود عند أحمد وابن خزيمة، وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه والحاكم، وعن عائشة وأنس عند السراج، وورد أيضا من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت وكلها عند الطبراني، واتفق الجميع على سبع وعشرون سوى رواية أبي فقال أربع أو خمس على الشك، وسوى رواية لأبي هريرة عند أحمد قال فيها سبع وعشرون وفي إسنادها شريك القاضي وفي حفظه ضعف. وفي رواية لأبي عوانة بضعا وعشرين وليست مغايرة أيضا لصدق البضع على الخمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع إذ لا أثر للشك، واختلف في أيهما أرجح فقيل رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ، ووقع الاختلاف في موضع آخر من الحديث وهو مميز العدد المذكور، ففي الروايات كلها التعبير بقوله: "درجة " أو حذف المميز، إلا طرق حديث أبي هريرة ففي بعضها " ضعفا " وفي بعضها " جزءا " وفي بعضها " درجة " وفي بعضها " صلاة " ووقع هذا الأخير في بعض طرق حديث أنس، والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة، ويحتمل أن يكون ذلك من التفنن في العبارة. وأما قول ابن الأثير: إنما قال درجة ولم يقل جزءا ولا نصيبا ولا حظا ولا نحو ذلك لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع فإن ذلك فوق هذه بكذا وكذا درجة لأن الدرجات إلى جهة فوق، فكأنه بناه على أن الأصل لفظ درجة وما عدا ذلك من تصرف الرواة، لكن نفيه ورود " الجزء " مردود، فإنه ثابت، وكذلك الضعف، وقد جمع بين روايتي الخمس والسبع بوجوه: منها أن ذكر القليل لا ينفي الكثير، وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد، لكن قد قال به جماعة من أصحاب الشافعي وحكى عن نصه، وعلى هذا فقيل وهو الوجه الثاني: لعله صلى الله عليه وسلم أخبر بالخمس، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل فأخبر بالسبع، وتعقب بأنه يحتاج إلى التاريخ، وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه، لكن إذا فرعنا على المنع تعين تقدم الخمس على السبع من جهة أن الفضل من الله يقبل الزيادة لا النقص. ثالثها أن اختلاف العددين باختلاف مميزهما، وعلى هذا فقيل: الدرجة أصغر من الجزء، وتعقب بأن الذي روى عنه الجزء روى عند الدرجة. وقال بعضهم: الجزء في الدنيا والدرجة في الآخرة، وهو مبني على التغاير. رابعها الفرق بقرب المسجد وبعده. خامسها الفرق بحال المصلي كأن يكون أعلم أو أخشع. سادسها الفرق بإيقاعها في المسجد أو في غيره. سابعها الفرق بالمنتظر للصلاة وغيره. ثامنها الفرق بإدراك كلها أو بعضها. تاسعها الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم. عاشرها السبع مختصة بالفجر والعشاء وقيل بالفجر والعصر والخمس بما عدا ذلك. حادي عشرها السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية، وهذا الوجه عندي أوجهها لما سأبينه. ثم إن الحكمة في هذا العدد الخاص غير محققة المعنى. ونقل الطيبي عن التوربشتي ما حاصله: إن ذلك لا يدرك بالرأي، بل مرجعه إلى علم

(2/132)


النبوة التي قصرت علوم الألباء عن إدراك حقيقتها كلها، ثم قال: ولعل الفائدة هي اجتماع المسلمين مصطفين كصفوف الملائكة، والاقتداء بالإمام، وإظهار شعائر الإسلام وغير ذلك. وكأنه يشير إلى ما قدمته عن غيره وغفل عن مراد من زعم أن هذا الذي ذكره لا يفيد المطلوب، لكن أشار الكرماني إلى احتمال أن يكون أصله كون المكتوبات خمسا فأريد المبالغة في تكثيرها فضربت في مثلها فصارت خمسا وعشرين. ثم ذكر للسبع مناسبة أيضا من جهة عدد ركعات الفرائض ورواتبها. وقال غيره: الحسنة بعشر للمصلي منفردا فإذا انضم إليه آخر بلغت عشرين ثم زيد بقدر عدد الصلوات الخمس، أو يزاد عدد أيام الأسبوع، ولا يخفى فساد هذا. وقيل: الأعداد عشرات ومئين وألوف وخير الأمور الوسط فاعتبرت المائة والعدد المذكور ربعها، وهذا أشد فسادا من الذي قبله. وقرأت بخط شيخنا البلقيني فيما كتب على العمدة: ظهر لي في هذين العددين شيء لم أسبق إليه، لأن لفظ ابن عمر " صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ " ومعناه الصلاة في الجماعة كما وقع في حديث أبي هريرة " صلاة الرجل في الجماعة " وعلى هذا فكل واحد من المحكوم له بذلك صلى في جماعة، وأدني الأعداد التي يتحقق فيها ذلك ثلاثة حتى يكون كل واحد صلى في جماعة وكل واحد منهم أتى بحسنة وهي بعشرة فيحصل من مجموعه ثلاثون فاقتصر في الحديث على الفضل الزائد وهو سبعة وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك. انتهى. وظهر لي في الجمع بين العددين أن أقل الجماعة إمام ومأموم، فلولا الإمام ما سمى المأموم وكذا عكسه، فإذا تفضل الله على من صلى جماعة بزيادة خمس وعشرين درجة حمل الخبر الوارد بلفظها على الفضل الزائد، والخبر الوارد بلفظ سبع وعشرين على الأصل والفضل. وقد خاض قوم في تعيين الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة، قال ابن الجوزي: وما جاءوا بطائل. وقال المحب الطبري: ذكر بعضهم أن في حديث أبي هريرة - يعني ثالث أحاديث الباب - إشارة إلى بعض ذلك، ويضاف إليه أمور أخرى وردت في ذلك، وقد فصلها ابن بطال وتبعه جماعة من الشارحين، وتعقب الزين ابن المنير بعض ما ذكره واختار تفصيلا آخر أورده، وقد نقحت ما وقفت عليه من ذلك وحذفت ما لا يختص بصلاة الجماعة: فأولها إجابة المؤذن بنية الصلاة في الجماعة، والتبكير إليها في أول الوقت، والمشي إلى المسجد بالسكينة، ودخول المسجد داعيا، وصلاة التحية عند دخوله كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة، سادسها انتظار الجماعة، سابعها صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له، ثامنها شهادتهم له، تاسعها إجابة الإقامة، عاشرها السلامة من الشيطان حين يفر عند الإقامة، حادي عاشرها الوقوف منتظرا إحرام الإمام أو الدخول معه في أي هيئة وحده عليها، ثاني عشرها إدراك تكبيرة الإحرام كذلك، ثالث عشرها تسوية الصفوف وسد فرجها، رابع عشرها جواب الإمام عند قوله سمع الله لمن حمده، خامس عشرها الأمن من السهو غالبا وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه، سادس عشرها حصول الخشوع والسلامة عما يلهي غالبا، سابع عشرها تحسين الهيئة غالبا، ثامن عشرها احتفاف الملائكة به، تاسع عشرها التدرب على تجويد القراءة وتعلم الأركان والأبعاض، العشرون إظهار شعائر الإسلام، الحادي والعشرون إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل، الثاني والعشرون السلامة من صفة النفاق ومن إساءة غيره الظن بأنه ترك الصلاة رأسا، الثالث والعشرون رد السلام على الإمام، الرابع والعشرون الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص، الخامس والعشرون قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصلوات. فهذه خمس وعشرون خصلة ورد في كل منها

(2/133)


أمر أو ترغيب يخصه، وبقي منها أمران يختصان بالجهرية وهما الإنصات عند قراءة الإمام والاستماع لها والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمين الملائكة، وبهذا يترجح أن السبع تختص بالجهرية صلى الله عليه وسلم والله أعلم. "تنبيهات": "الأول" مقتضى الخصال التي ذكرتها اختصاص التضعيف بالتجمع في المسجد وهو الراجح في نظري كما سيأتي البحث فيه، وعلى تقدير أن لا يختص بالمسجد فإنما ذكرته ثلاثة أشياء وهي المشي والدخول والتحية، فيمكن أن تعوض من بعض ما ذكر مما يشتمل على خصلتين متقاربتين أقيمتا مقام خصلة واحدة كالأخيرتين لأن منفعة الاجتماع على الدعاء والذكر غير منفعة عود بركة الكامل على الناقص، وكذا فائدة قيام نظام الألفة غير فائدة حصول التعاهد، وكذا فائدة أمن المأمومين من السهو غالبا غير تنبيه الإمام إذا سها. فهذه ثلاثة يمكن أن يعوض بها الثلاثة المذكورة فيحصل المطلوب. "الثاني" لا يرد على الخصال التي ذكرتها كون بعض الخصال يختص ببعض من صلى جماعة دون بعض كالتبكير في أول الوقت وانتظار الجماعة وانتظار إحرام الإمام ونحو ذلك، لأن أجر ذلك يحصل لقاصده بمجرد النية ولو لم يقع كما سبق، والله أعلم. "الثالث" معنى الدرجة أو الجزء حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للمجمع، وقد أشار ابن دقيق العيد إلى أن بعضهم زعم خلاف ذلك قال: والأول أظهر، لأنه قد ورد مبينا في بعض الروايات. انتهى. وكأنه يشير إلى ما عند مسلم في بعض طرقه بلفظ: "صلاة الجماعة تعدل خمسا وعشرين من صلاة الفذ " وفي أخرى " صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده " ولأحمد من حديث ابن مسعود بإسناد رجاله ثقات نحوه وقال في آخره: "كلها مثل صلاته " وهو مقتضى لفظ رواية أبي هريرة الآتية حيث قال: "تضعف " لأن الضعف كما قال الأزهري المثل إلى ما زاد ليس بمقصور على المثلين تقول هذا ضعف الشيء أي مثله أو مثلاه فصاعدا لكن لا يزاد على العشرة. وظاهر قوله: "تضعف " وكذا قوله في روايتي ابن عمر وأبي سعيد " تفضل " أي تزيد، وقوله في رواية أبي هريرة السابقة في " باب مساجد السوق " يريد أن صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد وتزيد عليها العدد المذكور فيكون لمصلي الجماعة ثواب ست أو ثمان وعشرين من صلاة المنفرد. قوله: "عن عبد الله بن خباب" بمعجمة وموحدتين الأولى مثقلة، وهو أنصاري مدني، ويوافقه في اسمه واسم أبيه عبد الله بن خباب بن الأرت، لكن ليست له في الصحيحين رواية. قوله: "بخمس وعشرين" في رواية الأصيلي: "خمسا وعشرين " زاد ابن حبان وأبو داود من وجه آخر عن أبي سعيد " فإن صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة " وكأن السر في ذلك أن الجماعة لا تتأكد في حق المسافر لوجود المشقة، بل حكى النووي أنه لا يجري فيه الخلاف في وجوبها صلى الله عليه وسلم لكن فيه نظر فإنه خلاف نص الشافعي، وحكى أبو داود عن عبد الواحد قال:
ـــــــ
(1) في هذا التخريج نظر , والأظهر عموم الحديث لجميع الصلوات الخمس , وذلك من زيادة فضل الله سبحانه وتعالى لمن يحضر الصلاة في الجماعة . والله أعلم
(2) ليس ما قاله النووي بجيد , والصواب وجوب الجماعة حضرا وسفرا كما يعلم ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم ومواظبته على الجماعة وقوله تعالى { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } الآية . وأما تفضيل صلاة من صلى في الفلاة فأتم ركوعها وسجودها على صلاة من صلى في الجماعة فليس فيه حجة على عدم وجوب الجماعة في السفر لأن أدلتها محكمة فلا تجوز مخالفتها لشيء محتمل . وإنما يجب حمل هذا النص - إن صح - على من صلى في الفلاة حسب طاقته من غير ترك الجماعة عند إمكانها فأتم ركوعها وسجودها مع كونه خاليا بربه بعيدا عن الناس , فشكر الله له هذا الإخلاص والاهتمام بأمر الصلاة فضاعف له هذا التضعيف. والله أعلم

(2/134)


في هذا الحديث أن صلاة الرجل في الفلاة تضاعف على صلاته في الجماعة. انتهى. وكأنه أخذه من إطلاق قوله: "فإن صلاها " لتناوله الجماعة والانفراد، لكن حمله على الجماعة أولى، وهو الذي يظهر من السياق، ويلزم على ما قال النووي أن ثواب المندوب يزيد على ثواب الواجب عند من يقول بوجوب الجماعة، وقد استشكله القرافي على أصل الحديث بناء على القول بأنها سنة، ثم أورد عليه أن الثواب المذكور مرتب على صلاة الفرض وصفته من صلاة الجماعة، فلا يلزم منه زيادة ثواب المندوب على الواجب. وأجاب بأنه تفرض المسألة فيمن صلى وحده ثم أعاد في جماعة فإن ثواب الفرض يحصل له بصلاته وحده، والتضعيف يحصل بصلاته في الجماعة، فبقي الإشكال على حاله، وفيه نظر لأن التضعيف لم يحصل بسبب الإعادة وإنما حصل بسبب الجماعة، إذ لو أعاد منفردا لم يحصل له إلا صلاة واحدة فلا يلزم منه زيادة ثواب المندوب على الواجب. ومما ورد من الزيادة على العدد المذكور ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عكرمة عن ابن عباس موقوفا عليه قال: "فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد خمس وعشرون درجة. قال: فإن كانوا أكثر من ذلك فعلى عدد من في المسجد. فقال رجل: وإن كانوا عشرة آلاف؟ قال نعم " وهذا له حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي، لكنه غير ثابت. "تنبيه": سقط حديث أبي سعيد من هذا الباب في رواية كريمة وثبت للباقين، وأورده الإسماعيلي قبل حديث عمر. قوله في حديث أبي هريرة "صلاة الرجل في الجماعة" في رواية الحموي والكشميهني: "في جماعة " بالتنكير. قوله: "خمسة وعشرين ضعفا" كذا في الروايات التي وقفنا عليها، وحكى الكرماني وغيره أن فيه خمسا وعشرين درجة، بتأويل الضعف بالدرجة أو الصلاة. قوله: "في بيته وفي سوقه" مقتضاه أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت وفي السوق جماعة وفرادى قاله ابن دقيق العيد، قال: والذي يظهر أن المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفردا، لكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا، قال: وبهذا يرتفع الإشكاك عمن استشكل تسوية الصلاة في البيت والسوق. انتهى. ولا يلزم من حمل الحديث على ظاهره التسوية المذكورة، إذ لا يلزم من استوائهما في المفضولية عن المسجد أن لا يكون أحدهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن كون الصلاة جماعة في البيت أو السوق لا فضل فيها على الصلاة منفردا، بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختص بالجماعة في المسجد، والصلاة في البيت مطلقا أولى منها في السوق لما ورد من كون الأسواق موضع الشياطين، والصلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد. وقد جاء عن بعض الصحابة قصر التضعيف إلى خمس وعشرين على التجميع، وفي المسجد العام مع تقرير الفضل في غيره. وروى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن أوس المعافري أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: أرأيت من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى في بيته؟ قال: حسن جميل. قال: فإن صلى في مسجد عشيرته؟ قال: خمس عشرة صلاة.قال: فإن مشى إلى مسجد جماعة فصلى فيه؟ قال: خمس وعشرون. انتهى. وأخرج حميد بن زنجويه في " كتاب الترغيب " نحوه من حديث واثلة، وخص الخمس والعشرون بمسجد القبائل. قال: وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه - أي الجمعة - بخمسمائة، وسنده ضعيف. قوله: "وذلك أنه إذا توضأ" ظاهر في أن الأمور المذكورة علة للتضعيف المذكور، إذ التقدير: وذلك لأنه، فكأنه يقول: التضعيف المذكور سببه كيت وكيت، وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجود بعضها إلا إذا دل الدليل على إلغاء ما ليس معتبرا أو ليس مقصودا لذاته. وهذه الزيادة التي في حديث أبي هريرة معقولة المعنى، فالأخذ بها

(2/135)


متوجه، والروايات المطلقة لا تنافيها بل يحمل مطلقها على هذه المقيدة، والذين قالوا بوجوب الجماعة على الكفاية ذهب كثير منهم إلى أن الحرج لا يسقط بإقامة الجماعة في البيوت، وكذا روى عن أحمد في فرض العين، ووجهوه بأن أصل المشروعية إنما كان في جماعة المساجد، وهو وصف معتبر لا ينبغي إلغاؤه فيختص به المسجد، ويلحق به ما في معناه مما يحصل به إظهار الشعار. قوله: "لا يخرجه إلا الصلاة" أي قصد الصلاة في جماعة، واللام فيها للعهد لما بيناه. قوله: "لم يخط" بفتح أوله وضم الطاء. و قوله: "خطوة" ضبطناه بضم أوله ويحوز الفتح، قال الجوهري: الخطوة بالضم ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة وجزم اليعمري أنها هنا بالفتح.وقال القرطبي: إنها في روايات مسلم بالضم، والله أعلم. قوله: "فإذا صلى" قال ابن أبي جمرة: أي صلى صلاة تامة، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته "ارجع فصل، فإنك لم تصل" . قوله: "في مصلاه" أي في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد، وكأنه خرج مخرج الغالب، وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرا على نية انتظار الصلاة كان كذلك. قوله: "اللهم ارحمه" أي قائلين ذلك، زاد ابن ماجه: "اللهم تب عليه " وفي الطريق الماضية في باب مسجد السوق " اللهم اغفر له " واستدل به على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لما ذكر من صلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالرحمة والمغفرة والتوبة، وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم يكونون في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم. واستدل بأحاديث الباب على أن الجماعة ليست شرطا لصحة الصلاة لأن قوله: "على صلاته وحده " يقتضي صحة صلاته منفردا لاقتضاء صيغة أفعل الاشتراك في أصل التفاضل، فإن ذلك يقتضي وجود فضيلة في صلاة المنفرد، وما لا يصح لا فضيلة فيه. قال القرطبي وغيره: ولا يقال إن لفظة أفعل قد ترد لإثبات صفة الفضل في إحدى الجهتين كقوله تعالى: {أحسن مقيلا} لأنا نقول إنما يقع ذلك على قلة حيث ترد صيغة أفعل مطلقة غير مقيدة بعدد معين، فإذا قلنا هذا العدد أزيد من هذا بكذا فلا بد من وجود أصل العدد، ولا يقال يحمل المنفرد على المعذور لأن قوله: "صلاة الفذ " صيغة عموم فيشمل من صلى منفردا بعذر وبغير عذر، فحمله على المعذور يحتاج إلى دليل. وأيضا ففضل الجماعة حاصل للمعذور لما سيأتي في هذا الكتاب من حديث أبي موسى مرفوعا: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما" . وأشار ابن عبد البر إلى أن بعضهم حمله على صلاة النافلة، ثم رده بحديث: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " واستدل بها على تساوي الجماعات في الفضل سواء كثرت الجماعة أم قلت، لأن الحديث دل على فضيلة الجماعة على المنفرد بغير واسطة فيدخل فيه كل جماعة، كذا قال بعض المالكية، وقواه بما روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إبراهيم النخعي قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة لهم التضعيف خمسا وعشرين. انتهى. وهو مسلم في أصل الحصول، لكنه لا ينفي مزيد الفضل لما كان أكثر، لا سيما مع وجود النص المصرح به وهو ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث أبي بن كعب مرفوعا: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله" ، وله شاهد قوي في الطبراني من حديث قباث بن أشيم وهو بفتح القاف والموحدة وبعد الألف مثلثة، وأبوه بالمعجمة بعدها تحتانية بوزن أحمر، ويترتب على الخلاف المذكور أن من قال بالتفاوت استحب إعادة الجماعة مطلقا لتحصيل الأكثرية، ولم يستحب ذلك الآخرون، ومنهم من فصل فقال: تعاد مع الأعلم أو الأورع أو في البقعة الفاضلة، ووافق مالك على الأخير لكن قصره على المساجد

(2/136)


الثلاثة، والمشهور عنه بالمسجدين المكي والمدني. وكما أن الجماعة تتفاوت في الفضل بالقلة والكثرة وغير ذلك مما ذكر كذلك يفوق بعضها بعضا، ولذلك عقب المصنف الترجمة المطلقة في فضل الجماعة بالترجمة المقيدة بصلاة الفجر، واستدل بها على أن أقل الجماعة إمام ومأموم، وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد قريبا إن شاء الله تعالى.

(2/137)


31 - باب فَضْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ
648- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "تَفْضُلُ صَلاَةُ الْجَمِيعِ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا وَتَجْتَمِعُ مَلاَئِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}
649- قَالَ شُعَيْبٌ وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ تَفْضُلُهَا بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً
650- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمًا قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهُوَ مُغْضَبٌ فَقُلْتُ مَا أَغْضَبَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا إِلاَّ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا
651- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلاَةِ أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ"
قوله: "باب فضل صلاة الفجر في جماعة" هذه الترجمة أخص من التي قبلها، ومناسبة حديث أبي هريرة لها من قوله: "وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر " فإنه يدل على مزية لصلاة الفجر على غيرها. وزعم ابن بطال أن في قوله: "وتجتمع " إشارة إلى أن الدرجتين الزائدتين على خمس وعشرين تؤخذ من ذلك، ولهذا عقبه برواية ابن عمر التي فيها بسبع وعشرين، وقد تقدم الكلام على الاجتماع المذكور في " باب فضل صلاة العصر " من المواقيت. قوله: "بخمس وعشرين جزءا" كذا في النسخ التي وقفت عليها، ونقل الزركشي في نكته أنه وقع في الصحيحين " خمس " بحذف الموحدة من أوله والهاء من آخره، قال: وخفض خمس على تقدير الباء كقول الشاعر أشارت كليب بالأكف الأصابع أي إلى كليب. وأما حذف الهاء فعلى تأويل الجزء بالدرجة. انتهى. وقد أورده المؤلف في التفسير من طريق معمر عن الزهري بلفظ: "فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة" . قوله: "قال شعيب وحدثني نافع" أي بالحديث مرفوعا نحوه، إلا أنه قال: "بسبع وعشرين درجة، وهو موافق لرواية مالك وغيره عن نافع كما تقدم، وطريق شعيب هذه موصولة، وجوز الكرماني أن تكون معلقة وهو بعيد، بل هي معطوفة على الإسناد الأول، والتقدير حدثنا أبو اليمان قال شعيب: ونظائر هذا

(2/137)


في الكتاب كثيرة، ولكن لم أر طريق شعيب هذه إلا عند المصنف، ولم يستخرجها الإسماعيلي ولا أبو نعيم ولا أوردها الطبراني في مسند الشاميين في ترجمة شعيب. قوله: "سمعت سالما" هو ابن أبي الجعد، وأم الدرداء هي الصغرى التابعية لا الكبرى الصحابية لأن الكبرى ماتت في حياة أبي الدرداء وعاشت الصغرى بعده زمانا طويلا. وقد جزم أبو حاتم بأن سالم بن أبي الجعد لم يدرك أبا الدرداء، فعلى هذا لم يدرك أم الدرداء الكبرى. وفسرها الكرماني هنا بصفات الكبرى وهو خطأ لقول سالم " سمعت أم الدرداء " وقد تقدم في المقدمة أن اسم الصغرى هجيمة والكبرى خيرة. قوله: "من أمة محمد" كذا في رواية أبي ذر وكريمة، وللباقين " من محمد " بحذف المضاف، وعليه شرح ابن بطال ومن تبعه فقال: يريد من شريعة محمد شيئا لم يتغير عما كان عليه إلا الصلاة في جماعة، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. انتهى. ووقع في رواية أبي الوقت " من أمر محمد " بفتح الهمزة وسكون الميم بعدها راء، وكذا ساقه الحميدي في جمعه، وكذا هو في مسند أحمد ومستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم من طرق عن الأعمش، وعندهم " ما أعرف فيهم " أي في أهل البلد الذي كان فيه، وكأن لفظ: "فيهم " لما حذف من رواية البخاري صحف بعض النقلة " أمر " بأمة ليعود الضمير في أنهم على الأمة. قوله: "يصلون جميعا" أي مجتمعين، وحذف المفعول وتقديره الصلاة أو الصلوات، ومراد أبي الدرداء أن أعمال المذكورين حصل في جميعها النقص والتغيير إلا التجميع في الصلاة، وهو أمر نسبي لأن حال الناس في زمن النبوة كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما وكأن ذلك صدر من أبي الدرداء في أواخر عمره وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان، فيا ليت شعري إذا كان ذلك العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدرداء فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان؟ وفي هذا الحديث جواز الغضب عند تغير شيء من أمور الدين، وإنكار المنكر بإظهار الغضب إذا لم يستطع أكثر منه، والقسم على الخبر لتأكيده في نفس السامع. قوله: "أبعدهم فأبعدهم ممشى" أي إلى المسجد، وسيأتي الكلام على ذلك بعد باب واحد. قوله: "مع الإمام" زاد مسلم: "في جماعة " وبين أنها رواية أنها كريب - وهو محمد بن العلاء - الذي أخرجه البخاري عنه. قوله: "من الذي يصلي ثم ينام" أي سواء صلى وحده أو في جماعة، ويستفاد منه أن الجماعة تتفاوت كما تقدم. "تكميل": استشكل إيراد حديث أبي موسى في هذا الباب، لأنه ليس فيه لصلاة الفجر ذكر، بل آخره يشعر بأنه في العشاء. ووجهه ابن المنير وغيره بأنه دل على أن السبب في زيادة الأجر وجود المشقة بالمشي إلى الصلاة، وإذا كان كذلك فالمشي إلى صلاة الفجر في جماعة أشق من غيرها، لأنها وإن شاركتها العشاء في المشي في الظلمة فإنها تزيد عليها بمفارقة النوم المشتهي طبعا، ولم أر أحدا من الشراح نبه على مناسبة حديث أبي الدرداء للترجمة إلا الزين بن المنير فإنه قال: تدخل صلاة الفجر في قوله: "يصلون جميعا " وهي أخص بذلك من باقي الصلوات. وذكر ابن رشيد نحوه وزاد أن استشهاد أبي هريرة في الحديث الأول بقوله تعالى:{إن قرآن الفجر كان مشهودا" يشير إلى أن الاهتمام بها آكد. وأقول: تفنن المصنف بإيراد الأحاديث الثلاثة في الباب إذ تؤخذ المناسبة من حديث أبي هريرة بطريق الخصوص، ومن حديث أبي الدرداء بطريق العموم، ومن حديث أبي موسى بطريق الاستنباط. ويمكن أن يقال: لفظ الترجمة يحتمل أن يراد به فضل الفجر على غيرها من الصلوات، وأن يراد به ثبوت الفضل لها في الجملة، فحديث أبي هريرة شاهد للأول، وحديث أبي الدرداء شاهد للثاني، وحديث أبي موسى شاهد لهما، والله أعلم.

(2/138)


باب فضل التهجير إلى الطهر
...
32 - باب فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْرِ
قوله: "باب فضل التهجير إلى الظهر" كذا للأكثر وعليه شرح ابن التين وغيره، وفي بعضها " إلى الصلاة " وعليه شرح ابن بطال.
وقد تقدم الكلام عليه في " باب الاستهام في الأذان".
652- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ"
[الحديث 652- طرفه في : 2472]
653- ثُمَّ قَالَ الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ : الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا لاَسْتَهَمُوا عَلَيْهِ"
[الحديث655- طرفاه في : 1887,656}
654- "وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لاَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا
قوله: "بينما رجل" في هذا المتن ثلاثة أحاديث: قصة الذي نحي غصن الشوك، والشهداء، والترغيب في النداء وغيره مما ذكر. والمقصود منه ذكر التهجير، وقد تقدم الحديث الثالث مفردا في " باب الاستهام " عن عبد الله بن يوسف عن مالك، ويأتي الثاني في الجهاد عنه أيضا، والأول في المظالم كذلك وتكلمنا على شرحه هناك، وكان قتيبة حدث به عن مالك هكذا مجموعا فلم يتصرف فيه المصنف كعادته في الاختصار، وتكلف الزين بن المنير إبداء مناسبة للأول من جهة أنه دال على أن الطاعة وإن قلت فلا ينبغي أن تترك، واعترف بعدم مناسبة الثاني. قوله: "فأخذه" في رواية الكشميهني: "فأخره" . قوله: "فشكر الله له" أي رضى بفعله وقبل منه، وفيه فضل إماطة الأذى عن الطريق، وقد تقدم في كتاب الإيمان أنها أدنى شعب الإيمان. قوله: "الشهداء خمس" كذا لأبي ذر عن الحموي، وللباقين " خمسة " وهو الأصل في المذكر، وجاز الأول لأن المميز غير مذكور، وسيأتي الكلام على مباحثه في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى.

(2/139)


33 - باب احْتِسَابِ الْآثَارِ
655- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا بَنِي سَلِمَةَ أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ قَالَ خُطَاهُمْ
[الحديث 655 – طرفاه في : 1887,656]
656- وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ حَدَّثَنِي أَنَسٌ أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَيَنْزِلُوا قَرِيبًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرُوا الْمَدِينَةَ فَقَالَ أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ خُطَاهُمْ آثَارُهُمْ أَنْ يُمْشَى فِي الأَرْضِ بِأَرْجُلِهِمْ

(2/139)


قوله: "باب احتساب الآثار" أي إلى الصلاة، وكأنه لم يقيدها لتشمل كل مشي إلى كل طاعة.قوله: "حدثنا عبد الوهاب" هو الثقفي. قوله: "يا بني سلمة" بكسر اللام وهم بطن كبير من الأنصار ثم من الخزرج، وقد غفل القزاز وتبعه الجوهري حيث قال: ليس في العرب سلمة بكسر اللام غير هذا القبيل، فإن الأئمة الذين صنفوا في المؤتلف والمختلف ذكروا عددا من الأسماء كذلك، لكن يحتمل أن يكون أراد بقيد القبيلة أو البطن فله بعض اتجاه. قوله: "ألا تحتسبون" كذا في النسخ التي وقفنا عليها بإثبات النون، وشرحه الكرماني بحذفها، ووجهه بأن النحاة أجازوا ذلك - يعني تخفيفا - قال: والمعنى ألا تعدون خطاكم عند مشيكم إلى المسجد؟ فإن لكل خطوة ثوابا ا هـ. والاحتساب وإن كان أصله العد لكنه يستعمل غالبا في معنى طلب تحصيل الثواب بنية خالصة. قوله: "وحدثنا ابن أبي مريم" كذا لأبي ذر وحده. وفي رواية الباقين " وقال ابن أبي مريم " وذكره صاحب الأطراف بلفظ: "وزاد ابن أبي مريم " وقال أبو نعيم في المستخرج ذكره البخاري بلا رواية يعني معلقا، وهذا هو الصواب، وله نظائر في الكتاب في رواية يحيى بن أيوب لأنه ليس على شرطه في الأصول. قوله: "عن أنس" كذا لأبي ذر وحده أيضا وللباقين " حدثنا أنس " وكذا ذكره أبو نعيم أيضا، وكذا سمعناه في الأول من فوائد المخلص من طريق أحمد بن منصور عن ابن أبي مريم ولفظه: "سمعت أنسا"، وهذا هو السر في إيراد طريق يحيى بن أيوب عقب طريق عبد الوهاب ليبين الأمن من تدليس حميد، وقد تقدم نظيره في " باب وقت العشاء " وقد أخرجه في الحج من طريق مروان القزارى عن حميد وساق المتن كاملا. قوله: "فينزلوا قريبا" يعني لأن ديارهم كانت بعيدة من المسجد، وقد صرح بذلك في رواية مسلم من طريق أبي الزبير قال: "سمعت جابر رسول الله يقول: كانت ديارنا بعيدة من المسجد، فأردنا أن نبتاع بيوتا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن لكم بكل خطوة درجة " وللسراج من طريق أبي نضرة عن جابر: أرادوا أن يقربوا من أجل الصلاة. ولابن مردويه من طريق أخرى عن أبي نضرة عنه قال: "كانت منازلنا بسلع " ولا يعارض هذا ما سيأتي في الاستسقاء من حديث أنس " وما بيننا وبين سلع من دار " لاحتمال أن تكون ديارهم كانت من وراء سلع، وبين سلع والمسجد قدر ميل. قوله أن يعروا المدينة في رواية الكشميهني أن يعروا منازلهم وهو بضم أوله وسكون العين الراء أي يتركونها خالية يقال أعراه إذا أخلاه والعراء الأرض الخالية وقيل الواسعة وقيل المكان الذي لا يستتر فيه بشيء ونبه بهذه الكراهة على السبب في منعهم من المسجد لتبقى جهات المدينة عامرة بساكنها واستفادوا بذلك كثرة الأجر لكثرة الخطا في المشي إلى المسجد وزاد في رواية الفزاري التي في الحج فأقاموا ومثله في رواية المخلص التي ذكرناها وللترمذي من حديث أبي سعيد فلم ينتقلوا ولمسلم من طريق أبي نضرة عن جابر فقالوا ما يسرنا أنا كنا تحولنا قوله وقال مجاهد خطاهم آثارهم والمشى في الأرض بارجلهم كذا لأبي ذر وللباقين وقال مجاهد ونكتب ما قدموا وآثارهم قال خطاهم وكذا وصله عبد بن حميد من طريق بن أبي نجيح عنه قال في قوله تعالى ونكتب ما قدموا قال أعمالهم وفي قوله وآثارهم قال خطاهم وأشار البخاري بهذا التعليق إلى أن قصة بني سلمة كانت سبب نزول هذه الآية وقد ورد مصرحا به من طريق سماك عن عكرمة عن بن عباس أخرجه بن ماجة وغيره وإسناده قوي وفي الحديث أن أعمال البر إذا كانت خالصة تكتب آثارها حسنات وفيه استحباب السكنى بقرب المسجد إلا لمن حصلت به منفعة أخرى أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي ما لم يحمل

(2/140)


على نفسه , ووجهه أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي علموه منه فما أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بل رجح درء المفسدة باخلائهم جوانب المدينة على المصلحة المذكورة وأعلمهم بان لهم في التردد إلى المسجد من الفضل ما يقوم مقام السكنى بقرب المسجد أو يزيد عليه واختلف فيمن كانت داره المساجد من المسجد فقارب الخطا بحيث تساوى خطا من داره بعيدة هل يساويه في الفضل أو لا وإلى المساواة جنح الطبري وروى بن أبي شييبة من طريق أنس قال مشيت مع زيد بن ثابت إلى المسجد فقارب بين الخطا وقال أردت أن تكثر خطانا إلى المسجد وهذا لا يلزم منه المساواة في الفضل وأن دل على أن في كثرة الخطا فضيلة لأن ثواب الخطا الشاقة ليس كثواب الخطا السهلة وهو ظاهر حديث أبي موسى الماضي قبل باب حيث جعل أبعدهم ممشى أعظمهم أجرا واستنبط منه بعضهم استحباب قصد المسجد البعيد ولو كان بجنبه مسجد قريب وإنما يتم ذلك إذا لم يلزم من ذهابه إلى البعيد هجر القريب وإلا فاحياؤه بذكر الله أولى وكذا إذا كان في البعيد مانع من الكمال كأن يكون إمامه مبتدعا

(2/141)


34 - باب فَضْلِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ
657- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لاَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ ثُمَّ آخُذَ شُعَلًا مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لاَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ بَعْدُ"
قوله: "باب فضل صلاة العشاء في الجماعة" أورد فيه الحديث الدال على فضل العشاء والفجر، فيحتمل أن يكون مراد الترجمة إثبات فضل العشاء في الجملة أو إثبات أفضليتها على غيرها، والظاهر الثاني، ووجهه أن صلاة الفجر ثبتت أفضليتها كما تقدم، وسوى في هذا بينها وبين العشاء، ومساوى الأفضل يكون أفضل جزما. قوله: "ليس أثقل" كذا للأكثر بحذف الاسم، وبينه الكشميهني في رواية أبي ذر وكريمة عنه فقال: "ليس صلاة أثقل " ودل هذا على أن الصلاة كلها ثقيلة على المنافقين، ومنه قوله تعالى: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما لقوة الداعي إلى تركهما، لأن العشاء وقت السكون والراحة والصبح وقت لذة النوم. وقيل وجهه كون المؤمنين يفوزون بما ترتب عليهما من الفضل لقيامهم بحقهما دون المنافقين. قوله: "ولو يعلمون ما فيهما" أي من مزيد الفضل "لأتوهما" أي الصلاتين، والمراد لأتوا إلى المحل الذي يصليان فيه جماعة وهو المسجد. قوله: "ولو حبوا" أي يزحفون إذا منعهم مانع من المشي كما يزحف الصغير، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء " ولو حبوا على المرافق والركب " وقد تقدم الكلام على باقي الحديث في " باب وجوب صلاة الجماعة". قوله في آخره "على من لا يخرج إلى الصلاة بعد" كذا للأكثر بلفظ: "بعد " ضد قبل، وهي مبنية على الضم، ومعناه بعد أن يسمع النداء إليها أو بعد أن يبلغه التهديد المذكور، وللكشميهني بدلها " يقدر " أي لا يخرج وهو يقدر على المجيء، ويؤيده ما قدمناه من رواية لأبي داود " وليست بهم علة " ووقع عند الداودي للشارح هنا " لا لعذر " وهي أوضح من غيرها لكن لم نقف عليها في شيء من الروايات عند غيره.

(2/141)


35 - باب اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ
658- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا"
قوله: "باب اثنان فما فوقهما جماعة" هذه الترجمة لفظ حديث ورد من طرق ضعيفة، منها في ابن ماجه من حديث أبي موسى الأشعري وفي معجم البغوي من حديث الحكم بن عمير وفي أفراد الدار قطني من حديث عبد الله بن عمرو وفي البيهقي من حديث أنس وفي الأوسط للطبراني من حديث أبي أمامة وعند أحمد من حديث أبي أمامة أيضا: "أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه؟ فقام رجل فصلى معه، فقال: هذان جماعه " والقصة المذكورة دون قوله: "هذان جماعة " أخرجها أبو داود والترمذي من وجه آخر صحيح. قوله: "إذا حضرت الصلاة" تقدم من هذا الوجه في " باب الأذان للمسافر " وأوله " أتى رجلان النبي صلى الله عليه وسلم يريدان السفر فقال لهما " فذكره. وقد اعترض على الترجمة بأنه ليس في حديث مالك ابن الحويرث تسمية صلاة الاثنين جماعة، والجواب أن ذلك مأخوذ بالاستنباط من لازم الأمر بالإمامة، لأنه لو استوت صلاتهما معا مع صلاتهما منفردين لاكتفى بأمرهما بالصلاة كأن يقول: أذنا وأقيما وصليا. واعترض أيضا على أصل الاستدلال بهذا الحديث بأن مالك بن الحويرث كان مع جماعة من أصحابه، فلعل الاقتصار عل التثنية من تصرف الرواة. والجواب أنهما قضيتان كما تقدم، واستدل به على أن أقل الجماعة إمام ومأموم أعم من أن يكون المأموم رجلا أو صبيا أو امرأة. وتكلم ابن بطال هنا على مسألة أقل الجمع والاختلاف فيها، ورده الزين بن المنير بأنه لا يلزم من قوله: "الاثنان جماعة " أن يكون أقل الجمع اثنين وهو واضح.

(2/142)


36 - باب مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ
659- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتْ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ"
قوله: "باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة" أي ليصليها جماعة. قوله: "تصلي على أحدكم" أي تستغفر له، قيل عبر بتصلي ليتناسب الجزاء والعمل. قوله: "ما دام في مصلاه" أي ينتظر الصلاة كما صرح به في الطهارة من وجه آخر. قوله: "لا يزال أحدكم الخ" هذا القدر أفرده مالك في الموطأ عما قبله، وأكثر الرواة ضموه إلى الأول فجعلوه حديثا واحدا، ولا حجر في ذلك. قوله: "في صلاة" أي في ثواب صلاة لا في حكمها، لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة. قوله: "ما دامت" في رواية الكشميهني: "ما كانت " وهو عكس ما مضى في الطهارة. قوله: "لا يمنعه" يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب المذكور، وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر، وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه؟ الظاهر خلافه، لأنه رتب

(2/142)


الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة، لكن للمذكور ثواب يخصه، ولعل هذا هو السر في إيراد المصنف الحديث الذي يليه وفيه: "ورجل قلبه معلق في المساجد " وقد تقدم الكلام في الطهارة على معنى قوله: "ما لم يحدث " وفيه زيادة على ما هنا، وأن المراد بالحدث حدث الفرج، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اليد واللسان من باب الأولى، لأن الأذى منهما يكون أشد، أشار إلى ذلك ابن بطال. وقد تقدم الكلام على باقي فوائده في " باب فضل صلاة الجماعة " ويؤخذ من قوله: "في مصلاه الذي صلى فيه: "أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى، وبتقييد الصلاة الأولى بكونها مجزئه، أما لو كان فيها نقص فإنها تجبر بالنافلة كما ثبت في الخبر الآخر. قوله: "اللهم اغفر له، اللهم ارحمه" هو مطابق لقوله تعالى: {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} ، قيل: السر فيه أنهم يطلعون على أفعال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك، لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من تحفظ من ذلك فإنه يعوض من المغفرة بما يقابلها من الثواب.
660- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"
[الحديث660- أطرافه في: 6806,6479,1423]
قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وخبيب بضم المعجمة وهو خال عبيد الله الراوي عنه، وحفص بن عاصم هو ابن عمر بن الخطاب وهو جد عبيد الله المذكور لأبيه. قوله: "عن أبي هريرة" لم تختلف الرواة عن عبيد الله في ذلك، ورواه مالك في الموطأ عن خبيب فقال: "عن أبي سعيد وأبي هريرة " على الشك، ورواه أبو قرة عن مالك بواو العطف فجعله عنهما، وتابعه مصعب الزبيري، وشذا في ذلك عن أصحاب مالك، والظاهر أن عبيد الله حفظه لكونه لم يشك فيه ولكونه من رواية خاله وجده، والله أعلم. قوله: "سبعة" ظاهره اختصاص المذكورين بالثواب المذكور، ووجهه الكرماني بما محصله أن الطاعة إما أن تكون بين العبد وبين الرب أو بينه وبين الخلق، فالأول باللسان وهو الذكر، أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد، أو بالبدن وهو الناشئ في العبادة. والثاني عام وهو العادل، أو خاص بالقلب وهو التحاب، أو بالمال وهو الصدقة، أو بالبدن وهو العفة. وقد نظم السبعة العلامة أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل فيما أنشدناه أبو إسحاق التنوخي إذنا عن أبي الهدى أحمد بن أبي شامة عن أبيه سماعا من لفظه قال:
وقال النبي المصطفى إن سبعة ... يظلهم الله الكريم بظله
محب عفيف ناشئ متصدق ... وباك مصل والإمام بعدله

(2/143)


ووقع في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر مرفوعا: "من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " وهاتان الخصلتان غير السبعة الماضية فدل على أن العدل المذكور لا مفهوم له. وقد ألقيت هذه المسألة على العالم شمس الدين بن عطاء الرازي المعروف بالهروي لما قدم القاهرة وادعى أنه يحفظ صحيح مسلم، فسألته بحضرة الملك المؤيد عن هذا وعن غيره فما استحضر في ذلك شيئا، ثم تتبعت بعد ذلك الأحاديث الواردة في مثل ذلك فزادت على عشر خصال، وقد انتقيت منها سبعة وردت بأسانيد جياد ونظمتها في بيتين تذييلا على بيتي أبي شامة وهما:
وزد سبعة: إظلال غاز وعونه ... وإنظار ذي عسر وتخفيف حمله
وإرفاد ذي غرم وعون مكاتب ... وتاجر صدق في المقال وفعله
فأما إظلال الغازي فرواه ابن حبان وغيره من حديث عمر، وأما عون المجاهد فرواه أحمد والحاكم من حديث سهم بن حنيف، وأما إنظار المعسر والوضيعة عنه ففي صحيح مسلم كما ذكرنا، وأما إرفاد الغارم وعون المكاتب فرواهما أحمد والحاكم من حديث سهل بن حنيف المذكور، وأما التاجر الصدوق فرواه البغوي في شرح السنة من حديث سلمان وأبو القاسم التيمي من حديث أنس، والله أعلم. ونظمته مرة أخرى فقلت في السبعة الثانية:
وتحسين خلق مع إعانة غارم ... خفيف يد حتى مكاتب أهله
وحديث تحسين الخلق أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف، ثم تتبعت ذلك فجمعت سبعة أخرى ونظمتها في بيتين آخرين وهما:
وزد سبعة: حزن ومشى لمسجد ... وكره وضوء ثم مطعم فضله
وآخذ حق باذل ثم كافل ... وتاجر صدق في المقال وفعله
ثم تتبعت ذلك فجمعت سبعة أخرى، ولكن أحاديثها ضعيفة وقلت في آخر البيت: "تربع به السبعات من فيض فضله". وقد أوردت الجميع في " الأمالي"، وقد أفردته في جزء سميته " معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال". قوله: "في ظله" قال عياض: إضافة الظل إلى الله إضافة ملك، وكل ظل فهو ملكه. كذا قال، وكان حقه أن يقول إضافة تشريف، ليحصل امتياز هذا على غيره، كما قيل للكعبة بيت الله مع أن المساجد كلها ملكه. وقيل المراد بظله كرامته وحمايته كما يقال فلان في ظل الملك، وهو قول عيسى بن دينار وقواه عياض، وقيل المراد ظل عرشه، ويدل عليه حديث سلمان عند سعيد بن منصور بإسناد حسن " سبعة يظلهم الله في ظل عرشه " فذكر الحديث، وإذا كان المراد ظل العرش استلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس فهو أرجح، وبه جزم القرطبي، ويؤيده أيضا تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرح به. ابن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر وهو عند المصنف في كتاب الحدود، وبهذا يندفع قول من قال: المراد ظل طوبى أو ظل الجنة لأن ظلهما إنما يحصل ثم بعد الاستقرار في الجنة. ثم إن ذلك مشترك لجميع من يدخلها، والسياق يدل على امتياز أصحاب الخصال المذكورة، فيرجح أن المراد ظل العرش، وروى الترمذي وحسنه من حديث أبي سعيد مرفوعا: "أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل" . قوله: "الإمام العادل" اسم فاعل من العدل، وذكر ابن عبد البر أن بعض الرواة عن مالك رواه بلفظ: "العدل " قال وهو أبلغ لأنه جعل المسمى نفسه عدلا، والمراد به صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به

(2/144)


كل من ولى شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه، ويؤيده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "أن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط ، وقدمه في الذكر لعموم النفع به. قوله: "وشاب" خص الشاب لكونه مظنة غلبة الشهوة لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى؛ فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى. قوله: "في عبادة ربه" في رواية الإمام أحمد عن يحيى القطان " بعبادة الله " وهي رواية مسلم، وهما بمعنى، زاد حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر " حتى توفى على ذلك " أخرجه الجوزقي. وفي حديث سلمان " أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله". قوله: "معلق في المساجد" هكذا في الصحيحين، وظاهره أنه من التعليق كأنه شبهه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلا إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجا عنه، ويدل عليه رواية الجوزقي " كأنما قلبه معلق في المسجد " ويحتمل أن يكون من العلاقة وهي شدة الحب، ويدل عليه رواية أحمد " معلق بالمساجد " وكذا رواية سلمان " من حبها " وزاد الحموي والمستملى " متعلق " بزيادة مثناة بعد الميم وكسر اللام، زاد سلمان " من حبها " وزاد مالك " إذا خرج منه حتى يعود إليه". وهذه الخصلة هي المقصودة من هذا الحديث للترجمة، ومناسبتها للركن الثاني من الترجمة وهو فضل المساجد ظاهرة، وللأول من جهة ما دل عليه من الملازمة للمسجد واستمرار الكون فيه بالقلب وإن عرض للجسد عارض. قوله: "تحابا" بتشديد الباء وأصله تحابيا أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما الآخر حقيقة لا إظهارا فقط، ووقع في رواية حماد بن زيد " ورجلان قال كل منهما للآخر إني أحبك في الله فصدرا على ذلك " ونحوه في حديث سلمان. قوله: "اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه" في رواية الكشميهني: "اجتمعا عليه " وهي رواية مسلم أي على الحب المذكور، والمراد أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا حتى فرق بينهما الموت. ووقع في الجمع للحميدي " اجتمعا على خير " ولم أر ذلك في شيء من نسخ الصحيحين ولا غيرهما من المستخرجات وهي عندي تحريف. "تنبيه": عدت هذه الخصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان لأن المحبة لا تتم إلا باثنين، أو لما كان المتحابان بمعنى واحد كان عد أحدهما مغنيا عن عد الآخر، لأن الغرض عد الخصال لا عد جميع من اتصف بها. قوله: "ورجل طلبته ذات منصب" بين المحذوف أحمد في روايته عن يحيى القطان فقال: "دعته امرأة " وكذا في رواية كريمة، ولمسلم وهو للمصنف في الحدود عن ابن المبارك، والمراد بالمنصب الأصل أو الشرف. وفي رواية ومالك " دعته ذات حسب " وهو يطلق على الأصل وعلى المال أيضا، وقد وصفها بأكمل الأوصاف التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن تحصل فيه وهو المنصب الذي يستلزمه الجاه والمال مع الجمال وقل من يجتمع ذلك فيها من النساء، زاد ابن المبارك " إلى نفسها " وللبيهقي في الشعب من طريق أبي صالح عن أبي هريرة " فعرضت نفسها عليه " والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة وبه جزم القرطبي ولم يحك غيره. وقال بعضهم يحتمل أن تكون دعته إلى التزوج بها فخاف أن يشتغل عن العبادة بالافتتان بها، أو خاف أن لا يقوم بحقها لشغله بالعبادة عن التكسب بما يليق بها، والأول أظهر، ويؤيده وجود الكناية في قوله: "إلى نفسها " ولو كان المراد التزويج لصرح به، والصبر عن الموصوفة بما ذكر من أكمل المراتب لكثرة الرغبة في مثلها وعسر تحصيلها لا سيما وقد أغنت من مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها. قوله: "فقال إني أخاف الله" زاد في رواية كريمة: "رب العالمين " والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه إما

(2/145)


ليزجرها عن الفاحشة أو ليعتذر إليها، ويحتمل أن يقوله بقلبه، قال عياض قال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله تعالى ومتين تقوى وحياء. قوله: "تصدق أخفى" بلفظ الماضي. قال الكرماني هو جملة حالية بتقدير قد، ووقع في رواية أحمد " تصدق فأخفى " وكذا للمصنف في الزكاة عن مسدد عن يحيى " تصدق بصدقة فأخفاها " ومثله لمالك في الموطأ، فالظاهر أن راوي الأولى حذف العاطف، ووقع في رواية الأصيلي: "تصدق إخفاء " بكسر الهمزة ممدودا على أنه مصدر أو نعت لمصدر محذوف، ويحتمل أن يكون حالا من الفاعل أي مخفيا، وقوله: "بصدقة " نكرها ليشمل كل ما يتصدق به من قليل وكثير، وظاهره أيضا يشمل المندوبة والمفروضة، لكن نقل النووي عن العلماء أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها. قوله: "حتى لا تعلم" بضم الميم وفتحها. قوله: "شماله ما تنفق يمينه" هكذا وقع في معظم الروايات في هذا الحديث في البخاري وغيره، ووقع في صحيح مسلم مقلوبا " حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله " وهو نوع من أنواع علوم الحديث أغفله ابن الصلاح وإن كان أفرد نوع المقلوب لكنه قصره على ما يقع في الإسناد، ونبه عليه شيخنا في محاسن الاصطلاح ومثل له بحديث: "إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل " وقد قدمنا الكلام عليه في كتاب الأذان. وقال شيخنا: ينبغي أن يسمى هذا النوع المعكوس. انتهى. والأولى تسميته مقلوبا فيكون المقلوب تارة في الإسناد وتارة في المتن كما قالوه في المدرج سواء، وقد سماه بعض من تقدم مقلوبا، قال عياض: هكذا في جميع النسخ التي وصلت إلينا من صحيح مسلم وهو مقلوب أو الصواب الأول وهو وجه الكلام لأن السنة المعهودة في الصدقة إعطاؤها باليمين، وقد ترجم عليه البخاري في الزكاة " باب الصدقة باليمين " قال: ويشبه أن يكون الوهم فيه ممن دون مسلم بدليل قوله في رواية مالك لما أوردها عقب رواية عبيد الله بن عمر فقال بمثل حديث عبيد الله فلو كانت بينهما مخالفة لبينها كما نبه على الزيادة في قوله: "ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه" . انتهى. وليس الوهم فيه ممن دون مسلم ولا منه بل هو من شيخه أو من شيخ شيخه يحيى القطان، فإن مسلما أخرجه عن زهير بن حرب وابن نمير كلاهما عن يحيى وأشعر سياقه بأن اللفظ لزهير، وكذا أخرجه أبو يعلى في مسنده عن زهير، وأخرجه الجوزقي في مستخرجه عن أبي حامد بن الشرقي عن عبد الرحمن ابن بشر بن الحكم عن يحيى القطان كذلك، وعقبه بأن قال: سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول يحيى القطان عندنا واهم في هذا، إنما هو " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " قلت: والجزم بكون يحيى هو الواهم فيه نظر، لأن الإمام أحمد قد رواه عنه على الصواب، وكذلك أخرجه البخاري هنا عن محمد بن بشار وفي الزكاة عن مسدد، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق يعقوب الدورقي وحفص بن عمر وكلهم عن يحيى، وكأن أبا حامد لما رأى عبد الرحمن قد تابع زهيرا ترجح عنده أن الوهم من يحيى، وهو محتمل بأن يكون منه لما حدث به هذين خاصة، مع احتمال أن يكون الوهم منهما تواردا عليه. وقد تكلف بعض المتأخرين توجيه هذه الرواية المقلوبة، وليس بجيد لأن المخرج متحد ولم يختلف فيه على عبيد الله بن عمر شيخ يحيى فيه ولا على شيخه خبيب ولا على مالك رفيق عبيد الله بن عمر فيه. وأما استدلال عياض على أن الوهم فيه ممن دون مسلم بقوله في رواية مالك مثل عبيد الله فقد عكسه غيره فواخذ مسلما بقوله مثل عبيد الله لكونهما ليستا متساويتين، والذي يظهر أن مسلما لا يقصر لفظ المثل على المساوي في جميع اللفظ والترتيب، بل هو في المعظم إذا تساويا في المعنى، والمعنى المقصود من هذا الموضع إنما هو إخفاء الصدقة والله أعلم، ولم نجد هذا الحديث من وجه من الوجوه إلا عن أبي هريرة، إلا ما وقع عند مالك من التردد هل هو عنه أو عن أبي

(2/146)


سعيد كما قدمناه قبل، ولم نجده عن أبي هريرة إلا من رواية حفص، ولا عن حفص إلا من رواية خبيب. نعم أخرجه البيهقي في الشعب من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة والراوي له عن سهيل عبد الله بن عامر الأسلمي وهو ضعيف لكنه ليس بمتروك، وحديثه حسن في المتابعات، ووافق في قوله: "تصدق بيمينه " وكذا أخرجه سعيد بن منصور من حديث سلمان الفارسي بإسناد حسن موقوفا عليه لكن حكمه الرفع. وفي مسند أحمد من حديث أنس بإسناد حسن مرفوعا: "إن الملائكة قالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم الحديد. قالت: فهل أشد من الحديد؟ قال: نعم النار. قالت: فهل أشد من النار؟ قال: نعم الماء. قالت: فهل أشد من الماء؟ قال: نعم الريح. قالت: فهل أشد من الريح؟ قال. نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله " ثم إن المقصود منه المبالغة في إخفاء الصدقة بحيث أن شماله مع قربها من يمينه وتلازمهما لو تصور أنها تعلم لما علمت ما فعلت اليمين لشدة إخفائها، فهو على هذا من مجاز التشبيه. ويؤيده رواية حماد بن زيد عند الجوزفي " تصدق بصدقة كأنما أخفى يمينه من شماله " ويحتمل أن يكون من مجاز الحذف والتقدير حتى لا يعلم ملك شماله. وأبعد من زعم أن المراد بشماله نفسه وأنه من تسمية الكل باسم الجزء فإنه ينحل إلى أن نفسه لا تعلم ما تنفق نفسه، وقيل هو من مجاز الحذف والمراد بشماله من على شماله من الناس كأنه قال مجاور شماله، وقل المراد أنه لا يرائي بصدقته فلا يكتبها كاتب الشمال، وحكى القرطبي عن بعض مشايخه أن معناه أن يتصدق على الضعيف المكتسب في صورة الشراء لترويج سلعته أو رفع قيمتها واستحسنه، وفيه نظر إن كان أراد أن هذه الصورة مراد الحديث خاصة، وإن أراد أن هذا من صور الصدقة المخفية فسلم والله أعلم. قوله: "ذكر الله" أي بقلبه من التذكر أو بلسانه من الذكر، و "خاليا" أي من الخلو لأنه يكون حينئذ أبعد من الرياء والمراد خاليا من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ، ويؤيده رواية البيهقي " ذكر الله بين يديه " ويؤيد الأول رواية ابن المبارك وحماد بن زيد " ذكر الله في خلاء " أي في موضع خال وهي أصح. قوله: "ففاضت عيناه" أي فاضت الدموع من عينيه، وأسند الفيض إلى العين مبالغة كأنها هي التي فاضت، قال القرطبي: وفيض العين بحسب حال الذاكر وبحسب ما يكشف له، ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله، وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق إليه. قلت: قد خص في بعض الروايات بالأول، ففي رواية حماد بن زيد عند الجوزقي " ففاضت عيناه من خشية الله " ونحوه في رواية البيهقي، ويشهد له ما رواه الحاكم من حديث أنس مرفوعا: "من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة" . "تنبيهان": "الأول" ذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له بل يشترك النساء معهم فيما ذكر، إلا إن كان المراد بالإمام العادل الإمامة العظمى، وإلا فيمكن دخول المرأة حيث تكون ذات عيال فتعدل فيهم. وتخرج خصلة ملازمة المسجد لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من المسجد، وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهن، حتى الرجل الذي دعته المرأة فإنه يتصور في امرأة دعاها ملك جميل مثلا فامتنعت خوفا من الله تعالى مع حاجتها، أو شاب جميل دعاه ملك إلى أن يزوجه ابنته مثلا فخشي أن يرتكب منه الفاحشة فامتنع مع حاجته إليه. "الثاني" استوعبت شرح هذا الحديث هنا وإن كان مخالفا لما شرطت لأن أليق المواضع به كتاب الرقاق، وقد اختصرها المصنف حيث أورده فيه، وساقه تاما في الزكاة والحدود، فاستوفيته هنا لأن للأولية وجها من الأولوية.

(2/147)


661- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ هَلْ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا فَقَالَ نَعَمْ أَخَّرَ لَيْلَةً صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ بَعْدَ مَا صَلَّى فَقَالَ صَلَّى النَّاسُ وَرَقَدُوا وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا قَالَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ قوله: "سئل أنس" تقدم التصريح بسماع حميد له منه في " باب وقت العشاء". قوله: "صلى الناس" أي غير المخاطبين ممن صلى في داره أو مسجد قبيلته، ويستأنس به لمن قال بأن الجماعة غير واجبة. قوله: "ولم تزالوا في صلاة" أي في ثواب صلاة كما تقدم. قوله: "وبيص" بكسر الموحدة وبالمهملة أي بريقه ولمعانه، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في " باب وقت العشاء " ويأتي الكلام على الخاتم في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى.

(2/148)


37 - باب فَضْلِ مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَمَنْ رَاحَ
662- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ"
قوله: "باب فضل من غدا للمسجد ومن راح" هكذا للأكثر موافقا للفظ الحديث في الغدو والرواح، ولأبي ذر بلفظ: "خرج " بدل غدا، وله عن المستملى والسرخسي بلفظ: "من يخرج " بصيغة المضارع، وعلى هذا فالمراد بالغدو الذهاب وبالرواح الرجوع، والأصل في الغدو المضي من بكرة النهار والرواح بعد الزوال، ثم قد يستعملان في كل ذهاب ورجوع توسعا. قوله: "أعد" أي هيأ. قوله: "نزله" للكشميهني: "نزلا " بالتنكير، والنزل بضم النون والزاي المكان الذي يهيأ للنزول فيه، وبسكون الزاي ما يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها، فعلى هذا " من " في قوله من الجنة للتبعيض على الأول وللتبين على الثاني، ورواه مسلم وابن خزيمة وأحمد بلفظ: "نزلا في الجنة " وهو محتمل للمعنيين. قوله: "كلما غدا أو راح" أي بكل غدوة وروحة. وظاهر الحديث حصول الفضل لمن أتى المسجد مطلقا، لكن المقصون منه اختصاصه بمن يأتيه للعبادة، والصلاة رأسها، والله أعلم.

(2/148)


38 - باب إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَالَ ح و حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ بِشْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ ابْنُ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَثَ بِهِ النَّاسُ وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ أَرْبَعًا الصُّبْحَ أَرْبَعًا تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَمُعَاذٌ عَنْ شُعْبَةَ فِي مَالِكٍ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ وَقَالَ حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا سَعْدٌ عَنْ حَفْصٍ عَنْ مَالِكٍ

(2/148)


39 - باب حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ
664- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَذَكَرْنَا الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا قَالَتْ لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَأُذِّنَ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى فَوَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ

(2/151)


كَأَنِّي أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنْ الْوَجَعِ فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَكَانَكَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ قِيلَ لِلْأَعْمَشِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَتِهِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ بِرَأْسِهِ نَعَمْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الأَعْمَشِ بَعْضَهُ وَزَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا
665- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ الأَرْضَ وَكَانَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَرَجُلٍ آخَرَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي وَهَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قُلْتُ لاَ قَالَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
قوله: "باب حد المريض أن يشهد الجماعة" قال ابن التين تبعا لابن بطال: معنى الحد هاهنا الحدة، وقد نقله الكسائي، ومثله قول عمر في أبي بكر " كنت أرى منه بعض الحد " أي الحدة، قال: والمراد به هنا الحض على شهود الجماعة، قال ابن التين: ويصح أن يقال هنا " جد " بكسر الجيم وهو الاجتهاد في الأمر، لكن لم أسمع أحدا رواه بالجيم.انتهى. وقد أثبت ابن قرقول رواية الجيم وعزاها للقابسي. وقال ابن رشيد: إنما المعنى ما يحد للمريض أن يشهد معه الجماعة فإذا جاوز ذلك الحد لم يستحب له شهودها. ومناسبة ذلك من الحديث خروجه صلى الله عليه وسلم متوكئا على غيره من شدة الضعف فكأنه يشير إلى أنه من بلغ إلى تلك الحال لا يستحب له تكلف الخروج للجماعة إلا إذا وجد من يتوكأ عليه. وأن قوله في الحديث الماضي " لأتوهما ولو حبوا " وقع على طريق المبالغة، قال: ويمكن أن يقال معناه باب الحد الذي للمريض أن يأخذ فيه بالعزيمة في شهود الجماعة. انتهى ملخصا. قوله: "مرضه الذي مات فيه" سيأتي الكلام عليه مبينا في آخر المغازي في سببه ووقت ابتدائه وقدره، وقد بين الزهري في روايته كما في الحديث الثاني من هذا الباب أن ذلك كان بعد أن اشتد به المرض واستقر في بيت عائشة. قوله: "فحضرت الصلاة" هي العشاء كما في رواية موسى بن أبي عائشة الآتية قريبا في " باب إنما جعل الإمام ليؤتم به " وسنذكر هناك الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: "فأذن" بضم الهمزة على البناء للمفعول. وفي رواية الأصيلي: "وأذن بالواو " وهو أوجه، والمراد به أذان الصلاة. ويحتمل أن يكون معناه أعلم، ويقويه رواية أبي معاوية عن الأعمش الآتية في " باب الرجل يأتم بالإمام " ولفظه: "جاء بلال يؤذنه بالصلاة " واستفيد منه تسمية المبهم، وسيأتي في رواية موسى ابن أبي عائشة أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالسؤال عن حضور وقت الصلاة وأنه أراد أن يتهيأ للخروج إليها فأغمي عليه. قوله: "مرضه الذي مات فيه" سيأتي الكلام عليه مبينا في آخر المغازي في سببه ووقت ابتدائه وقدره، وقد بين الزهري في روايته كما في الحديث الثاني من هذا الباب أن ذلك كان بعد أن اشتد به المرض واستقر في بيت عائشة. قوله: "فحضرت الصلاة" هي العشاء كما في رواية موسى بن أبي عائشة الآتية قريبا في " باب إنما جعل الإمام ليؤتم به " وسنذكر هناك الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: "فأذن" بضم الهمزة على البناء للمفعول. وفي رواية الأصيلي: "وأذن بالواو " وهو أوجه، والمراد به أذان الصلاة. ويحتمل أن يكون معناه أعلم، ويقويه رواية أبي معاوية عن الأعمش الآتية في " باب الرجل يأتم بالإمام " ولفظه: "جاء بلال يؤذنه بالصلاة " واستفيد منه تسمية المبهم، وسيأتي في رواية موسى ابن أبي عائشة أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالسؤال عن حضور وقت الصلاة وأنه أراد أن يتهيأ للخروج إليها فأغمي عليه. الحديث. قوله: "مروا أبا بكر فليصل" استدل به على أن الآمر بالأمر بالشيء يكون آمرا به، وهي مسألة معروفة في أصول الفقه، وأجاب المانعون بأن المعنى بلغوا أبا بكر أني أمرته.وفصل النزاع أن النافي إن أراد أنه ليس أمرا حقيقة فمسلم لأنه ليس فيه صيغة أمر للثاني، وإن أراد أنه لا يستلزمه فمردود والله أعلم. قوله: "فقيل له"

(2/152)


قائل ذلك عائشة كما سيأتي. قوله: "أسيف" بوزن فعيل وهو بمعنى فاعل من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد أنه رقيق القلب. ولابن حبان من رواية عاصم عن شقيق عن مسروق عن عائشة في هذا الحديث: قال عاصم والأسيف الرقيق الرحيم، وسيأتي بعد ستة أبواب من حديث ابن عمر في هذه القصة " فقالت له عائشة: إنه رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء " ومن حديث أبي موسى نحوه، ومن رواية مالك عن هشام عن أبيه عنها بلفظ: "قالت عائشة: قلت إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر". قوله: "فأعادوا له" أي من كان في البيت، والمخاطب بذلك عائشة كما ترى، لكن جمع لأنهم كانوا في مقام الموافقين لها على ذلك. ووقع في حديث أبي موسى بالإفراد ولفظه: "فعادت " ولابن عمره " فعاودته". قوله: "فأعاد الثالثة فقال: إنكن صواحب يوسف" فيه حذف بينه مالك في روايته المذكرة، وأن المخاطب له حينئذ حفصة بنت عمر بأمر عائشة، وفيه أيضا: "فمر عمر، فقال: مه إنكن لأنتن صواحب يوسف " وصواحب جمع صاحبة، والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن. ثم إن هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع فالمراد به واحد وهي عائشة فقط، كما أن " صواحب " صيغة جمع والمراد زليخا فقط، ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك وهو أن لا يتشاءم الناس به. وقد صرحت هي فيما بعد ذلك فقالت: "لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا " الحديث. وسيأتي بتمامه في " باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: "في أواخر المغازي إن شاء الله تعالى. وأخرجه مسلم أيضا. وبهذا التقرير يندفع إشكال من قال إن صواحب يوسف لم يقع منهن إظهار يخالف ما في الباطن. ووقع في مرسل الجنس عند ابن أبي خيثمة أن أبا بكر أمر عائشة أن تكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرف ذلك عنه، فأرادت التوصل إلى ذلك بكل طريق فلم يتم. ووقع في أمالي ابن عبد السلام أن النسوة أتين امرأة العزيز يظهرن تعنيفها، ومقصودهن في الباطن أن يدعون يوسف إلى أنفسهن، كذا قال وليس في سياق الآية ما يساعد ما قال. "فائدة": زاد حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم في هذا الحديث أن أبا بكر هو الذي أمر عائشة أن تشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر عمر بالصلاة، أخرجه الدورقي في مسنده، وزاد مالك في روايته التي ذكرناها " فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خبرا". ومثله للإسماعيلي في حديث الباب، وإنما قالت حفصة ذلك لأن كلامها صادف المرة الثالثة في المعاودة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يراجع بعد ثلاث، فلما أشار إلى الإنكار عليها بما ذكر من كونهن صواحب يوسف وجدت حفصة في نفسها من ذلك لكون عائشة هي التي أمرتها بذلك، ولعلها تذكرت ما وقع لها معها أيضا في قصة المغافير كما سيأتي في موضعه. قوله: "فليصل بالناس" في رواية الكشميهني: "للناس". قوله: "فخرج أبو بكر" فيه حذف دل عليه سياق الكلام، وقد بينه في رواية موسى بن أبي عائشة المذكورة ولفظه: "فأتاه الرسول " أي بلال لأنه هو الذي أعلم بحضور الصلاة فأجيب بذلك، وفي روايته أيضا: "فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس. فقال أبو بكر - وكان رجلا رقيقا - يا عمر صل بالناس فقال له عمر: أنت أحق بذلك " انتهى. وقول أبي بكر هذا لم يرد به ما أرادت عائشة. قال النووي: تأوله بعضهم على أنه قاله تواضعا، وليس كذلك، بل قاله للعذر المذكور وهو كونه رقيق القلب كثير البكاء، فخشي أن

(2/153)


لا يسمع الناس. انتهى. ويحتمل أن يكون رضي الله عنه فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك، فاختاره. ويؤيده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوه أو يبايعوا أبا عبيدة بن الجراح. والظاهر أنه لم يطلع على المراجعة المتقدمة، وفهم من الأمر له بذلك تفويض الأمر له في ذلك سواء باشر بنفسه أو استحلف. قال القرطبي: ويستفاد منه أن للمستخلف في الصلاة أن يستحلف لا يتوقف على إذن خاص له بذلك. قوله: "فصلى" في رواية المستملي والسرخسي " يصلي " وظاهره أنه شرع في الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد أنه تهيأ لها، وسيأتي في رواية أبي معاوية عن الأعمش بلفظ: "فلما دخل في الصلاة " وهو محتمل أيضا بأن يكون المراد دخل في مكان الصلاة، ويأتي البحث مع من حمله على ظاهره إن شاء الله تعالى. قوله: "فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة" ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم وجد ذلك في تلك الصلاة بعينها، ويحتمل أن يكون ذلك بعد ذلك وأن يكون فيه حذف كما تقدم مثله في قوله: "فخرج أبو بكر " وأوضح منه رواية موسى بن أبي عائشة المذكور " فصلى أبو بكر تلك الأيام. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة " وعلى هذا لا يتعين أن تكون الصلاة المذكورة هي العشاء. قوله: "يهادي" بضم أوله وفتح الدال أي يعتمد على الرجلين متمايلا في مشيه من شدة الضعف، والتهادي التمايل في المشي البطيء، وقوله: "يخطان الأرض " أي لم يكن يقدر على تمكينهما من الأرض، وسقط لفظ: "الأرض " من رواية الكشميهني. وفي رواية عاصم المذكورة عند ابن حبان: "إني لأنظر إلى بطون قدميه". قوله: "بين رجلين" في الحديث الثاني من حديثي الباب أنهما العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب ومثله في رواية موسى بن أبي عائشة، ووقع في رواية عاصم المذكورة " وجد خفة من نفسه فخرج بين بريرة ونوبة " ويجمع كما قال النووي بأنه خرج من البيت إلى المسجد بين هذين، ومن ثم إلى مقام الصلاة بين العباس وعلي، أو يحمل على التعدد، ويدل عليه ما في رواية الدار قطني أنه خرج بين أسامة بن زيد والفضل بن العباس. وأما ما في مسلم أنه خرج بين الفضل بن العباس وعلي فذاك في حال مجيئه إلى بيت عائشة. "تنبيه": نوبة بضم النون وبالموحدة ذكره بعضهم في النساء الصحابيات فوهم، وإنما هو عبد أسود كما وقع عند سيف في كتاب الردة، ويؤيده حديث سالم بن عبيد في صحيح ابن خزيمة بلفظ: "خرج بين بريرة ورجل آخر". قوله: "فأراد أبو بكر" زاد أبو معاوية عن الأعمش " فلما سمع أبو بكر حسه " وفي رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس في هذا الحديث: "فلما أحس الناس به سبحوا " أخرجه ابن ماجه وغيره بإسناد حسن. قوله: "أن مكانك" في رواية عاصم المذكورة " أن أثبت مكانك " وفي رواية موسى بن أبي عائشة فأومأ إليه بأن لا يتأخر. قوله: "ثم أتى به" كذا هنا بضم الهمزة. وفي رواية موسى بن أبي عائشة أن ذلك كان بأمره ولفظه: "فقال أجلساني إلى جنبه، فأجلساه " وعين أبو معاوية عن الأعمش في إسناد حديث الباب - كما سيأتي بعد أبواب - مكان الجلوس فقال في روايته: "حتى جلس عن يسار أبي بكر " وهذا هو مقام الإمام، وسيأتي القول فيه. وأغرب القرطبي شارح مسلم لما حكى الخلاف هل كان أبو بكر إماما أو مأموما؟ فقال: لم يقع في الصحيح بيان جلوسه صلى الله عليه وسلم هل كان عن يمين أبي بكر أو عن يساره. انتهى. ورواية أبي معاوية هذه عند مسلم أيضا، فالعجب منه كيف يغفل عن ذلك في حال شرحه له. قوله: "فقيل للأعمش الخ" ظاهرها الانقطاع، لأن الأعمش لم يسنده، لكن في رواية أبي معاوية عنه ذكر ذلك متصلا بالحديث، وكذا في رواية موسى بن أبي عائشة وغيرها. قوله: "رواه أبو داود" هو الطيالسي. قوله: "بعضه" بالنصب وهو بدل من الضمير، وروايته

(2/154)


هذه وصلها البزار قال: حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى حدثنا أبو داود به ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المقدم بين يدي أبي بكر، كذا رواه مختصرا، وهو موافق لقضية حديث الباب، لكن رواه ابن خزيمة في صحيحه عن محمد بن بشار عن أبي داود بسنده هذا عن عائشة قالت: "من الناس من يقول: كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف، ومنهم من يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المقدم " ورواه مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر " أخرجه ابن المنذر، وهذا عكس رواية أبي موسى، وهو اختلاف شديد. ووقع في رواية مسروق عنها أيضا اختلاف فأخرجه ابن حبان من رواية عاصم عن شقيق عنه بلفظ: "كان أبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر " وأخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة من رواية شعبة عن نعيم بن أبي هند عن شقيق بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر " وظاهر رواية محمد بن بشار أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة، ولكن تضافرت الروايات عنها بالجزم بما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام في تلك الصلاة، منها رواية موسى ابن أبي عائشة التي أشرنا إليها ففيها " فجعل أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس بصلاة أبي بكر " وهذه رواية زائدة بن قدامة عن موسى، وخالفه شعبة أيضا فرواه عن موسى بلفظ: "أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه " فمن العلماء من سلك الترجيح فقدم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأموما للجزم بها، ولأن أبا معاوية أحفظ في حديث الأعمش من غيره، ومنهم من سلك عكس ذلك ورجح أنه كان إماما، وتمسك بقول أبي بكر في " باب من دخل ليؤم الناس " حيث قال: "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومنهم من سلك الجمع فحمل القصة على التعدد. وأجاب عن قول أبي بكر كما سيأتي في بابه. ويؤيده اختلاف النقل عن الصحابة غير عائشة، فحديث ابن عباس فيه أن أبا بكر كان مأموما كما سيأتي في رواية موسى بن أبي عائشة، وكذا في رواية أرقم بن شرحبيل التي أشرنا إليها عن ابن عباس، وحديث أنس فيه أن أبا بكر كان إماما أخرجه الترمذي وغيره من رواية حميد عن ثابت عنه بلفظ: "آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في ثوب " وأخرجه النسائي من وجه آخر عن حميد عن أنس فلم يذكر ثابتا، وسيأتي بيان ما ترتب على هذا الاختلاف من الحكم في " باب إنما جعل الإمام ليؤتم به " قريبا إن شاء الله تعالى. قوله: "وزاد أبو معاوية عن الأعمش: جلس عن يسار أبي بكر فكان أبو بكر يصلي قائما" يعني روى الحديث المذكور أبو معاوية عن الأعمش كما رواه حفص بن غياث مطولا وشعبة مختصرا كلهم عن الأعمش بإسناده المذكور، فزاد أبو معاوية ما ذكر. وقد تقدمت الإشارة إلى المكان الذي وصله المصنف فيه. وغفل مغلطاي ومن تبعه فنسبوا وصله إلى رواية ابن نمير عن أبي معاوية في صحيح ابن حبان، وليس بجيد من وجهين: أحدهما أن رواية ابن نمير ليس فيها عن يسار أبي بكر، والثاني أن نسبته إلى تخريج صاحب الكتاب أولى من نسبته لغيره فيه. قوله: "لما ثقل على النبي صلى الله عليه وسلم" أي اشتد به مرضه، يقال ثقل في مرضه إذا ركدت أعضاؤه عن خفة الحركة. قوله: "فأذن له" بفتح الهمزة وكسر المعجمة وتشديد النون أي الأزواج، وحكى الكرماني أنه روى بضم الهمزة وكسر الذال وتخفيف النون على البناء للمجهول، واستدل به على أن القسم كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد تقدم حديث الزهري هذا في " باب الغسل والوضوء من المخضب " وفيه زيادة على الذي هنا، وسيأتي في رواية ابن أبي عائشة عن عبيد الله شيخ الزهري وسياقه أتم من سياق الزهري. قوله: "قال هو علي بن أبي طالب" زاد الإسماعيلي من

(2/155)


رواية عبد الرزاق عن معمر " ولكن عائشة لا تطيب نفسا له بخير " ولابن إسحاق في المغازي عن الزهري " ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير " ولم يقف الكرماني على هذه الزيادة فعبر عنها بعبارة شنيعة، وفي هذا رد على من تنطع فقال لا يجوز أن يظن ذلك بعائشة، ورد على من زعم أنها أبهمت الثاني لكونه لم يتعين في جميع المسافة إذ كان تارة يتوكأ على الفضل وتارة على أسامة وتارة على علي، وفي جميع ذلك الرجل الآخر هو العباس، واختص بذلك إكراما له، وهذا توهم ممن قاله والواقع خلافه، لأن ابن عباس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأن المبهم علي فهو المعتمد والله أعلم. ودعوى وجود العباس في كل مرة والذي يتبدل غيره مردودة بدليل رواية عاصم التي قدمت الإشارة إليها وغيرها صريح في أن العباس لم يكن في مرة ولا في مرتين منها والله أعلم. وفي هذه القصة من الفوائد غير ما مضى تقديم أبي بكر، وترجيحه على جميع الصحابة، وفضيلة عمر بعده، وجواز الثناء في الوجه لمن أمن عليه الإعجاب، وملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه وخصوصا لعائشة، وجواز مراجعة الصغير الكبير، والمشاورة في الأمر العام، والأدب مع الكبير لهم أبي بكر بالتأخر عن الصف، وإكرام الفاضل لأنه أراد أن يتأخر حتى يستوي مع الصف فلم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم يتزحزح عن مقامه. فيه أن البكاء ولو كثر لا يبطل الصلاة لأنه صلى الله صلى الله عليه وسلم بعد أن علم حال أبي بكر في رقة القلب وكثرة البكاء لم يعدل عنه، ولا نهاه عن البكاء، وأن الإيماء يقوم مقام النطق، واقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الإشارة يحتمل أن يكون لضعف صوته، ويحتمل أن يكون للإعلام بأن مخاطبة من يكون في الصلاة بالإيماء أولى من النطق، وفيه تأكيد أمر الجماعة والأخذ فيها بالأشد وإن كان المرض يرخص في تركها، ويحتمل أن يكون فعل ذلك لبيان جواز الأخذ بالأشد وإن كانت الرخصة أولى. وقال الطبري: إنما فعل ذلك لئلا يعذر أحد من الأئمة بعده نفسه بأدنى عذر فيتخلف عن الإمامة، ويحتمل أن يكون قصد إفهام الناس أن تقديمه لأبي بكر كان لأهليته لذلك حتى إنه صلى خلفه، واستدل به على جواز استخلاف الإمام لغير ضرورة لصنيع أبي بكر، وعلى جواز مخالفة موقف المأموم للضرورة كمن قصد أن يبلغ عنه، ويلتحق به من زحم عن الصف، وعلى جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض وهو قول الشعبي واختيار الطبري وأومأ إليه البخاري كما سيأتي، وتعقب بأن أبا بكر إنما كان مبلغا كما سيأتي في " باب من أسمع الناس التكبير " من رواية أخرى عن الأعمش، وكذا ذكره مسلم على هذا، فمعنى الاقتداء اقتداؤهم بصوته، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم كان جالسا وكان أبو بكر قائما فكان بعض أفعاله يخفى على بعض المأمومين فمن ثم كان أبو بكر كالإمام في حقهم والله أعلم. وفيه اتباع صوت المكبر، وصحة صلاة المستمع والسامع، ومنهم من شرط في صحته تقدم إذن الإمام، واستدل به الطبري على أن للإمام أن يقطع الاقتداء به ويقتدي هو بغيره من غير أن يقطع الصلاة. وعلى جواز إنشاء القدوة في أثناء الصلاة، وعلى جواز تقدم إحرام المأموم على الإمام بناء على أن أبا بكر كان دخل في الصلاة ثم قطع القدوة وائتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدمنا أنه ظاهر الرواية. ويؤيده أيضا أن في رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس " فابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث انتهى أبو بكر، واستدل به على صحة صلاة القادر على القيام قائما خلف القاعد خلافا للمالكية مطلقا ولأحمد حيث أوجب القعود على من يصلي خلف القاعد كما سيأتي الكلام عليه في " باب إنما جعل الإمام ليؤئم به " إن شاء الله تعالى.

(2/156)


40 - باب الرُّخْصَةِ فِي الْمَطَرِ وَالْعِلَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي رَحْلِهِ
حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع ثم أن بن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات

(2/156)


برد وريح ثم قال ألا صلوا في الرحال ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول ألا صلوا في الرحال "
667- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن بن شهاب عن محمود بن الربيع الأنصاري ثم أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أين تحب أن أصلي فأشار إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله: "باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله" ذكر العلة من عطف العام على الخاص لأنها أعم من أن تكون بالمطر أو غيره، والصلاة في الرحل أعم من أن تكون بجماعة أو منفردا لكنها مظنة الانفراد، والمقصود الأصلي في الجماعة إيقاعها في المسجد، وقد تقدم الكلام على حديث ابن عمر في كتاب الأذان، وعلى حديث عتبان في " باب المساجد في البيوت " وسياقه هناك أتم، وإسماعيل شيخه هنا هو ابن أبي أويس.

(2/157)


41 - باب هَلْ يُصَلِّي الإِمَامُ بِمَنْ حَضَرَ وَهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَطَرِ
668- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ ذِي رَدْغٍ فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قَالَ قُلْ الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا فَقَالَ كَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا إِنَّ هَذَا فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ
وَعَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ كَرِهْتُ أَنْ أُؤَثِّمَكُمْ فَتَجِيئُونَ تَدُوسُونَ الطِّينَ إِلَى رُكَبِكُمْ"
669- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ السَّقْفُ وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ فَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ"
[الحديث 669- أطرافه : 2040,2036,2027,2018,2016,836,813]
670- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الصَّلاَةَ مَعَكَ وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَدَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَبَسَطَ لَهُ حَصِيرًا وَنَضَحَ طَرَفَ الْحَصِيرِ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ آلِ الْجَارُودِ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي

(2/157)


الضُّحَى قَالَ مَا رَأَيْتُهُ صَلاَهَا إِلاَّ يَوْمَئِذٍ"
[الحديث670- طرفاه في : 6080,1179]
قوله: "باب هل يصلي الإمام بمن حضر" أي وجود العلة المرخصة للتخلف، فلو تكلف قوم الحضور فصلى بهم الإمام لم يكره، فالأمر بالصلاة في الرحال على هذا للإباحة لا للندب، ومطابقة ذلك لحديث ابن عباس من قوله فيه: "فنظر بعضهم إلى بعض " لما أمر المؤذن أن يقول: "الصلاة في الرحال " فإنه دال على أن بعضهم حضر وبعضهم لم يحضر ومع ذلك خطب وصلى بمن حضر، وأما قوله: "وهل يخطب يوم الجمعة في المطر " فظاهر من حديث ابن عباس وقد تقدم الكلام عليه في الأذان أيضا وفيه أن ذلك كان يوم الجمعة وأن قوله: "إنها عزمة " أي الجمعة، وأما مطابقة حديث أبي سعيد فمن جهة أن العادة في يوم المطر أن يتخلف بعض الناس، وأما قول بعض الشراح يحتمل أن يكون ذلك في الجمعة فمردود لأنه سيأتي في الاعتكاف أنها كانت في صلاة الصبح، وحديث أنس لا ذكر للخطبة فيه. ولا يلزم أن يدل كل حديث في الباب على كل ما في الترجمة. قوله: "باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله" ذكر العلة من عطف العام على الخاص لأنها أعم من أن تكون بالمطر أو غيره، والصلاة في الرحل أعم من أن تكون بجماعة أو منفردا لكنها مظنة الانفراد، والمقصود الأصلي في الجماعة إيقاعها في المسجد، وقد تقدم الكلام على حديث ابن عمر في كتاب الأذان، وعلى حديث عتبان في " باب المساجد في البيوت " وسياقه هناك أتم، وإسماعيل شيخه هنا هو ابن أبي أويس. قوله: "سألت أبا سعيد " أي عن ليلة القدر. قوله في حديث أنس "قال رجل من الأنصار" قيل إنه عتبان بن مالك، وهو محتمل لتقارب القصتين، لكن لم أر ذلك صريحا. وقد وقع في رواية ابن ماجه الآتية أنه بعض عمومة أنس وليس عتبان عما لأنس إلا على سبيل المجاز لأنهما من قبيلة واحدة وهي الخزرج لكن كل منهما من بطن. قوله: "معك" أي في الجماعة في المسجد. قوله: "وكان رجلا ضخما" أي سمينا، وفي هذا الوصف إشارة إلى علة تخلفه، وقد عده ابن حبان من الأعذار المرخصة في التأخر عن الجماعة، وزاد عبد الحميد عن أنس " وإني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه". قوله: "فبسط له حصيرا" سبق الكلام فيه في حديث أنس في أوائل الصلاة في " باب الصلاة على الحصير". قوله: "فصلى عليه ركعتين" زاد عبد الحميد " فصلى وصلينا معه". قوله: "فقال رجل من آل الجارود" في رواية على بن الجعد عن شعبة الآتية للمصنف في صلاة الضحى " فقال فلان ابن فلان ابن الجارود " وكأنه عبد الحميد بن المنذر بن الجارود البصري، وذلك أن البخاري أخرج هذا الحديث من رواية شعبة، وأخرجه في موضع آخر من رواية خالد الحذاء كلاهما عن أنس ابن سيرين عن عبد الحميد بن المنذر بن الجارود عن أنس، وأخرجه ابن ماجه وابن حبان من رواية عبد الله ابن عون عن أنس بن سيرين عن عبد الحميد بن المنذر بن الجارود عن أنس، فاقتضى ذلك أن في رواية البخاري انقطاعا، وهو مندفع بتصريح أنس بن سيرين عنده بسماعه من أنس، فحينئذ رواية ابن ماجه إما من المزيد في متصل الأسانيد، وإما أن يكون فيها وهم لكون ابن الجارود كان حاضرا عند أنس لما حدث بهذا الحديث وسأله عما سأله من ذلك، فظن بعض الرواة أن له فيه رواية. وسيأتي الكلام على فوائده في " باب صلاة الضحى "

(2/158)


ومطابقته لهذه الترجمة إما من جهة ما يلزم من الرخصة لمن له عذر أن يتخلف عن الحضور فإن ضرورة مواظبته صلى الله عليه وسلم على الصلاة بالجماعة أن يصلي بمن بقي، وإما من جهة ما ورد في طريق عبد الحميد المذكورة حيث قال أنس " فصلى وصلينا معه " فإنه مطابق لقوله: "وهل يصلي بمن حضر " والله أعلم.

(2/159)


42 - باب إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ , وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِالْعَشَاءِ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مِنْ فِقْهِ الْمَرْءِ إِقْبَالُهُ عَلَى حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلاَتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ
671- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ"
[ الحديث 671 – طرفه في : 5465]
672- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلاَةَ الْمَغْرِبِ وَلاَ تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ
[الحديث 672- طرفه في : 5463]
673- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ وَتُقَامُ الصَّلاَةُ فَلاَ يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ
[الحديث673- طرفاه في : 5464,674]
674- وَقَالَ زُهَيْرٌ وَوَهْبُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ" رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ وَهْبِ بْنِ عُثْمَانَ وَوَهْبٌ مَدِينِيٌّ
قوله: "باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة" قال الزين بن المنير: حذف جواب الشرط في هذه الترجمة إشعارا بعدم الجزم بالحكم لقوة الخلاف.
انتهى.
وكأنه أشار بالأثرين المذكورين في الترجمة إلى منزع العلماء في ذلك، فإن ابن عمر حمله على إطلاقه، وأشار أبو الدرداء إلى تقييده بما إذا كان القلب مشغولا بالأكل، وأثر ابن عمر مذكور في الباب بمعناه، وأثر أبي الدرداء وصله ابن المبارك في " كتاب الزهد " وأخرجه محمد بن نصر المروزي في " كتاب تعظيم قدر الصلاة " من طريقه.
قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن سعيد القطان، وقد أخرجه السراج من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن هشام بن عروة أيضا لكن لفظه: "إذا حضر " وذكره المصنف في كتاب الأطعمة من طريق سفيان عن هشام بلفظ: "إذا حضر " وقال بعده " قال يحيى بن سعيد ووهيب عن هشيم إذا وضع " انتهى.
ورواية وهيب وصلها الإسماعيلي، وأخرجه مسلم من رواية ابن نمير وحفص ووكيع بلفظ: "إذا حضر " ووافق كلا جماعة

(2/159)


من الرواة عن هشام، لكن الذين رووه بلفظ: "إذا وضع " كما قال الإسماعيلي أكثر، والفرق بين اللفظين أن الحضور أعم من الوضع، فيحمل قوله: "حضر " أي بين يديه لتأتلف الروايات لاتحاد المخرج، ويؤيده حديث أنس الآتي بعده بلفظ: "إذا قدم العشاء " ولمسلم: "إذا قرب العشاء " وعلى هذا فلا يناط الحكم بما إذا حضر العشاء لكنه لم يقرب للأكل كما لو لم يقرب. قوله: "وأقيمت الصلاة" قال ابن دقيق العيد: الألف واللام في " الصلاة " لا ينبغي أن تحمل على الاستغراق ولا على تعريف الماهية، بل ينبغي أن تحمل على المغرب، لقوله: "فابدؤوا بالعشاء " ويترجح حمله على المغرب لقوله في الرواية الأخرى " فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب " والحديث يفسر بعضه بعضا. وفي رواية صحيحة " إذا وضع العشاء وأحدكم صائم " انتهى. وسنذكر من أخرج هذه الرواية في الكلام على الحديث الثاني. وقال الفاكهاني: ينبغي حمله على العموم نظرا إلى العلة وهي التشويش المفضي إلى ترك الخشوع، وذكر المغرب لا يقتضي حصرا فيها لأن الجائع غير الصائم قد يكون أشوق إلى الأكل من الصائم. انتهى. وحمله على العموم إنما هو بالنظر إلى المعنى إلحاقا للجائع بالصائم وللغداء بالعشاء لا بالنظر إلى اللفظ الوارد صلى الله عليه وسلم. قوله: "فابدؤوا بالعشاء" حمل الجمهور هذا الأمر على الندب، ثم اختلفوا: فمنهم من قيده بمن كان محتاجا إلى الأكل وهو المشهور عند الشافعية، وزاد الغزالي ما إذا خشي فساد المأكول، ومنهم من لم يقيده وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق، وعليه يدل فعل ابن عمر الآتي، وأفرط ابن حزم فقال: تبطل الصلاة. ومنهم من اختار البداءة بالصلاة إلا إن كان الطعام خفيفا نقله ابن المنذر عن مالك، وعند أصحابه تفصيل قالوا: يبدأ بالصلاة إن لم يكن متعلق النفس بالأكل، أو كان متعلقا به لكن لا يعجله عن صلاته، فإن كان يعجله عن صلاته بدأ بالطعام واستحبت له الإعادة. قوله: "عن عقيل" في رواية الإسماعيلي: "حدثني عقيل " وعنده أيضا عن ابن شهاب " أخبرني أنس". قوله: "إذا قدم العشاء" زاد ابن حبان والطبراني في الأوسط من رواية موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب " وأحدكم صائم " وقد أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن عمرو بدون هذه الزيادة، وذكر الطبراني أن موسى بن أعين تفرد بها. انتهى. وموسى ثقة متفق عليه. قوله: "ولا تعجلوا" بضم المثناة وبفتحها والجيم مفتوحة فهما، ويروي بضم أوله وكسر الجيم. قوله في حديث ابن عمر "إذا وضع عشاء أحدكم" هذا أخص من الرواية الماضية حيث قال: "إذا وضع العشاء " فيحمل العشاء في تلك الرواية على عشاء من يريد الصلاة، فلو وضع عشاء غيرة لم يدخل في ذلك، ويحتمل أن يقال بالنظر إلى المعنى: لو كان جائعا واشتغل خاطره بطعام غيره كان كذلك، وسبيله أن ينتقل عن ذلك المكان أو يتناول مأكولا يزيل شغل باله ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ، ويؤيد هذا الاحتمال عموم قوله في رواية مسلم من طريق أخرى عن عائشة " لا صلاة بحضرة طعام " الحديث، وقوله أبي الدرداء الماضي إقباله على حاجته. قوله: "ولا يعجل" أي أحدكم المذكور أولا. وقال الطيبي: أفرد قوله: "يعجل " نظرا إلى لفظ أحد، وجمع قوله: "فابدؤوا " نظرا إلى لفظ كم. وقال: والمعنى إذا وضع عشاء أحدكم فابدؤوا أنتم بالعشاء ولا يعجل هو حتى يفرغ معكم منه. انتهى. قوله: "وكان ابن عمر" هو موصول عطفا على المرفوع، وقد رواه السراج من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع فذكر المرفوع ثم قال: "قال نافع: وكان ابن عمر إذا
ـــــــ
(1) ليس الامر كما قال , بل إلحاق غير المغرب موافق للمعنى واللفظ الثابت في حديث عائشة وما جاء في معناه , وحديث عائشة رواه مسلم في صحيحه بلفظ " لاصلاة بحضرة الطعام , ولا وهو يدافعه الأخبثان" والله أعلم

(2/160)


حضرة عشاؤه وسمع الِإقامة وقراءة الإمام لم يقم حتى يفرغ " ورواه ابن حبان من طريق ابن جريج عن نافع " أن ابن عمر كان يصلي المغرب إذا غابت الشمس. وكان أحيانا يلقاه وهو صائم فيقدم له عشاؤه وقد نودي للصلاة ثم تقام وهو يسمع فلا يترك عشاءه، ولا يعجل حتى يقضي عشاءه، ثم يخرج فيصلي " انتهى، وهذا أصرح ما ورد عنه في ذلك. قوله: "وإنه يسمع" في رواية الكشميهني: "وإنه ليسمع " بزيادة لام التأكيد في أوله. قوله: "وقال زهير" هو ابن معاوية الجعفي، وطريقه هذه موصولة عند أبي عوانة في مستخرجه، وأما رواية وهب بن عثمان فقد ذكر المصنف أن إبراهيم بن المنذر رواها عنه، وإبراهيم من شيوخ البخاري، وقد وافق زهيرا ووهبا أبو ضمرة عند مسلم وأبو بدر عند أبي عوانة والدراوردي عند السراج كلهم عن موسى بن عقبة، قال النووي: في هذه الأحاديث كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله، لما فيه من ذهاب كمال الخشوع، ويلتحق به ما في معناه مما يشغل القلب، وهذا إذا كان في الوقت سعة، فإن ضاق صلى على حاله محافظة على حرمة الوقت ولا يجوز التأخير، وحكى المتولي وجها أنه يبدأ بالأكل وإن خرج الوقت، لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا يفوته. انتهى. وهذا إنما يجيء على قول من يوجب الخشوع، ثم فيه نظر ن المفسدتين إذا تعارضتا اقتصر على أخفهما، وخروج الوقت أشد من ترك الخشوع بدليل صلاة الخوف والغريق وغير ذلك، وإذا صلى لمحافظة الوقت صحت مع الكراهة وتستحب الإعادة عند الجمهور صلى الله عليه وسلم. وادعى ابن حزم أن في الحديث دلالة على امتداد الوقت في حق من وضع له الطعام ولو خرج الوقت المحدود. وقال مثل ذلك في حق النائم والناسي، واستدل النووي وغيره بحديث أنس على امتداد وقت المغرب، واعترضه ابن دقيق العيد بأنه إن أريد بذلك التوسعة إلى غروب الشفق ففيه نظر، وإن أريد به مطلق التوسعة فمسلم ولكن ليس محل الخلاف المشهور، فإن بعض من ذهب إلى ضيق وقتها جعله مقدرا بزمن يدخل فيه مقدار ما يتناول لقيمات يكسر بها سورة الجوع. واستدل به القرطبي على أن شهود صلاة الجماعة ليس بواجب، لأن ظاهره أنه يشتغل بالأكل وإن فاتته الصلاة في الجماعة، وفيه نظر لأن بعض من ذهب إلى الوجوب كابن حبان جعل حضور الطعام عذرا في ترك الجماعة فلا دليل فيه حينئذ على إسقاط الوجوب مطلقا، وفيه دليل على تقديم فضيلة الخشوع في الصلاة على فضيلة أول الوقت، واستدل بعض الشافعية والحنابلة بقوله: "فابدؤوا " على تخصيص ذلك بمن لم يشرع في الأكل، وأما من شرع ثم أقيمت الصلاة فلا يتمادى بل يقوم إلى الصلاة، قال النووي: وصنيع ابن عمر يبطل ذلك، وهو الصواب. وتعقب بأن صنيع ابن عمر اختيار له وإلا فالنظر إلى المعنى يقتضي ما ذكروه، لأنه يكون قد أخذ من الطعام ما دفع شغل البال به، ويؤيد ذلك حديث عمرو بن أمية المذكور في الباب بعده، ولعل ذلك هو السر في إيراد المصنف له عقبه، وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن أبي هريرة وابن عباس " أنهما كانا يأكلان طعاما وفي التنور شواء، فأراد المؤذن أن يقيم فقال له ابن عباس: لا تعجل لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء". وفي رواية ابن أبي شيبة: "لئلا يعرض لنا في صلاتنا"، وله عن الحسن ابن علي قال: "العشاء قبل الصلاة يذهب النفس اللوامة " وفي هذا كله إشارة إلى أن العلة في ذلك تشوف النفس إلى الطعام، فينبغي أن يدار الحكم مع علته وجودا وعدما ولا يتقيد بكل ولا بعض، ويستثنى من ذلك الصائم فلا تكره صلاته
ـــــــ
(1) الاولى عدم استحباب الاعادة , لأن من صلى كما أمر فليس عليه إعاده , فقد قال الله تعالى {فأتقوا الله ما استطعتم}والله أعلم

(2/161)


بحضرة الطعام، إذ الممتنع بالشرع لا يشغل العاقل نفسه به، لكن إذا غلب استحب له التحول من ذلك المكان. "فائدتان": "الأولى" قال ابن الجوزي: ظن قوم أن هذا من باب تقديم حق العبد على حق الله، وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحق الحق ليدخل الخلق في عبادته بقلوب مقبلة. ثم إن طعام القوم كان شيئا يسيرا لا يقطع عن لحاق الجماعة غالبا. "الثانية" ما يقع في بعض كتب الفقه إذا حضر العشاء والعشاء فابدؤوا بالعشاء لا أصل له في كتب الحديث بهذا اللفظ، كذا في شرح الترمذي لشيخنا أبي الفضل، لكن رأيت بخط الحافظ قطب الدين أن ابن أبي شيبة أخرج عن إسماعيل وهو ابن علية عن ابن إسحاق قال حدثني عبد الله ابن رافع عن أم سلمة مرفوعا: "إذا حضر العشاء وحضرت العشاء فابدءوا بالعشاء " فإن كان ضبطه فذاك، وإلا فقد رواه أحمد في مسنده عن إسماعيل بلفظ: "وحضرت الصلاة " ثم راجعت مصنف ابن أبي شيبة فرأيت الحديث فيه كما أخرجه أحمد، والله أعلم.

(2/162)


43 - باب إِذَا دُعِيَ الإِمَامُ إِلَى الصَّلاَةِ وَبِيَدِهِ مَا يَأْكُلُ
675- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثنا إبراهيم عن صالح عن بن شهاب قال أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية أن أباه قال ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل ذراعا يحتز منها فدعي إلى الصلاة فقام فطرح السكين فصلى ولم يتوضأ "
قوله: "باب إذا دعى الإمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل" قيل أشار بهذا إلى أن الأمر الذي في الباب قبله للندب لا للوجوب، وقد قدمنا قول من فصل بين ما إذا أقيمت الصلاة قبل الشروع في الأكل أو بعده، فيحتمل أن المصنف كان يرى التفصيل، ويحتمل تقييده في الترجمة بالإمام أنه كان يرى تخصيصه به، وأما غيره من المأمومين فالأمر متوجه إليهم مطلقا، ويؤيده قوله فيما سبق " إذا وضع عشاء أحدكم " وقد قدمنا تقرير ذلك مع بقية فوائد الحديث في " باب من لم يتوضأ من لحم الشاة " من كتاب الطهارة. وقال الزين بن المنير: لعله صلى الله صلى الله عليه وسلم أخذ في خاصة نفسه بالعزيمة فقدم الصلاة على الطعام، وأمر غيره بالرخصة لأنه لا يقوى على مدافعة الشهوة قوته، وأيكم يملك أربه. انتهى. ويعكر على من استدل به على أن الأمر للندب احتمال أن يكون اتفق في تلك الحالة أنه قضى حاجته من الأكل فلا يتم الدلالة به. وإبراهيم المذكور في الإسناد هو ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان، والإسناد كله مدنيون.

(2/163)


44 - باب مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَخَرَجَ
676- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ "سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ"
[الحديث676-طرفاه في :6039,5363]
قوله: "باب من كان في حاجة أهله" كأنه أشار بهذه الترجمة إلى أنه لا يلحق بحكم الطعام كل أمر يكون للنفس تشوف إليه، إذ لو كان كذلك لم يبق للصلاة وقت في الغالب. وأيضا فوضع الطعام بين يدي الآكل فيه زيادة

(2/162)


45 - باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتَهُ
677- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا فَقَالَ إِنِّي لاَصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَقُلْتُ لِأَبِي قِلاَبَةَ كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي قَالَ مِثْلَ شَيْخِنَا هَذَا قَالَ وَكَانَ شَيْخًا يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى
[الحديث677- أطرافه في : 824,818,802]
قوله: "باب من صلى بالناس الخ" والحديث مطابق للترجمة، وكأنه لم يجزم فيها بالحكم لما سنبينه. قوله: "حدثنا وهيب" هو ابن خالد، والإسناد كله بصريون. قوله: "إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة" استشكل نفي هذه الإرادة لما يلزم عليها من وجود صلاة غير قربة ومثلها لا يصح، وأجيب بأنه لم يرد نفي القربة وإنما أراد بيان السبب الباعث له على الصلاة في غير وقت صلاة معينة جماعة، وكأنه قال ليس الباعث لي على هذا الفعل حضور صلاة معينة من أداء أو إعادة أو غير ذلك، وإنما الباعث لي عليه قصد التعليم، وكأنه كان تعين عليه حينئذ لأنه أحد من خوطب بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي " كما سيأتي، ورأى أن التعليم بالفعل أوضح من القول، ففيه دليل على جواز مثل ذلك وأنه ليس من باب التشريك في العبادة. قوله: "أصلي" زاد في " باب كيف يعتمد على الأرض " عن معلى عن وهيب " ولكني أريد أن أريكم". قوله: "مثل شيخنا" هو عمرو بن سلمة كما سيأتي في " باب اللبث

(2/163)


46 - باب أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالإِمَامَةِ
678- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ قَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَعَادَتْ فَقَالَ مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
[الحديث 678- طرفه في : 3385]
679- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فِي مَرَضِهِ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَهْ إِنَّكُنَّ لاَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا
680- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلاَةِ فَكَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنْ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجٌ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ"
[الحديث680- أطرافه في : 4448 ,1205,754,681]
681- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَمْ يَخْرُجْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثًا فَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَابِ فَرَفَعَهُ فَلَمَّا وَضَحَ وَجْهُ النَّبِيِّ

(2/164)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَضَحَ لَنَا فَأَوْمَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَأَرْخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجَابَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ"
682- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قِيلَ لَهُ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي فَعَاوَدَتْهُ قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ عُقَيْلٌ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَمْزَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة" أي ممن ليس كذلك، ومقتضاه أن الأعلم والأفضل أحق من العالم والفاضل، وذكر الفضل بعد العلم من العام بعد الخاص، وسيأتي الكلام على ترتيب الأئمة بعد بابين. قوله: "حدثنا حسين" هو ابن علي الجعفي، والإسناد سوى الراوي عنه كلهم كوفيون، وأبو بردة هو ابن أبي موسى، ووهم من زعم أنه هنا أخوه. قوله: "رقيق" أي رقيق القلب. قوله: "لم يستطع" أي من البكاء. قوله: "فأتاه الرسول" هو بلال. قوله: "فصلى بالناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي إلى أن مات، وكذا صرح به موسى ابن عقبة في المغازي. الحديث:قوله: "عن أبيه عن عائشة" كذا رواه جماعة عن مالك موصولا، وهو في أكثر نسخ الموطأ مرسلا ليس فيه عائشة. قوله: "مه" هي كلمة زجر بنيت على السكون. قوله: "فليصل بالناس" في رواية الكشميهني: "للناس " وقد تقدم الكلام على فوائد هذين الحديثين في " باب حد المريض أن يشهد الجماعة " والظاهر أن حديث أبي موسى من مراسيل الصحابة، ويحتمل أن يكون تلقاه عن عائشة أو بلال. وحديث أنس من طريق الزهري سيأتي في الوفاة من آخر المغازي. قوله (حدثنا أبة معمر) هو عبد الله بن عمرو,لاإسماعيل بن إبراهيم.وعبد العزيز هو إبن صهيب . والاسناد كله بصريون . قوله (ثلاثا) كان ابتداؤها من حين خرج النبي عليه الصلاة والسلام فصلى بهم قاعدا كما تقدم .قوله(فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب) هو من إجراء قال مجرى فعل وهو كثير . قوله( مارأينا) في رواية الكشميهني " مانظرنا" وقوله " فأومأ بيده إلى أبي بكر أن يتقدم " ليس مخالفا لقوله في أوله" فتقدم أبو بكر " بل في السياق حذف يظهر من رواية الزهري حيث قال فيها "فنكص أبو بكر " والحاصل أنه تقدم ثم ظن أن النبي عليه الصلا والسلام خرج فتأخر ,فأشار إليه حينئذ أن يرجع إلى مكانه. (فائدة ) وقع في حديث ابن عباس في نحو هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم في تلك الحالة " ألا واني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا" الحديث, أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن معبد عنه قوله: "عن حمزة بن عبد الله" أي ابن عمر بن الخطاب، وفي كلام ابن بطال ما يوهم أنه حمزة ابن عمرو الأسلمي وهو خطأ. قوله: "فعاودته" بفتح الدال وسكون المثناة أي عائشة، وبسكون الدال وفتح النون، أي هي ومن معها من النساء. قوله: "تابعه الزبيدي" أي تابع يونس بن يزيد، ومتابعته هذه وصلها الطبراني في مسند الشاميين من طريق عبد الله بن سالم الحمصي عنه موصولا مرفوعا وزاد فيه قولها " فمر عمر " وقال فيه: "فراجعته عائشة". ومتابعة ابن أخي الزهري وصلها ابن عدي من رواية الدراوردي

(2/165)


عنه، ومتابعة إسحاق بن يحيى وصلها أبو بكر بن شاذان البغدادي في نسخة إسحاق بن يحيى في رواية يحيى بن صالح عنه. "تنبيه": ظن بعضهم أن قوله: "عن الزهري " أي موقوفا عليه، وهو فاسد لما بيناه. قوله: "وقال عقيل ومعمر الخ" قال الكرماني: الفرق بين رواية الزبيدي وابن أخي الزهري وإسحاق بن يحيى وبين رواية عقيل ومعمر أن الأولى متابعة والثانية مقاولة ا ه ومراده بالمقالة الإتيان فيها بصيغة قال، وليس في اصطلاح المحدثين صيغة مقاولة وإنما السر في تركه عطف رواية عقيل ومعمر على رواية يونس من تابعه أنهما أرسلا الحديث وأولئك وصلوه، أي أنهما خالفا يونس ومن تابعه فأرسلا الحديث، فأما رواية عقيل فوصلها الذهلي في الزهريات، وأما معمر فاختلف عليه فرواه ابن المبارك عنه رسلا كذلك أخرجه ابن سعد وأبو يعلى من طريقه، ورواه عبد الرزاق عن معمر موصولا لكن قال: "عن عائشة " بدل قوله: "عن أبيه " كذلك أخرجه مسلم، وكأنه رجح عنده لكون عائشة صاحبة القصة ولقاء حمزة لها ممكن، ورجح الأول عند البخاري لأن المحفوظ في هذا عن الزهري من حديث عائشة روايته لذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها، ومما يؤيده أن في رواية عبد الرزاق عن معمر متصلا بالحديث المذكور أن عائشة قالت: "وقد عاودته، وما حملني على معاودته إلا أني خشيت أن يتشاءم الناس بأبي بكر " الحديث. وهذه الزيادة إنما تحفظ من رواية الزهري عن عبيد الله عنها لا من رواية الزهري عن حمزة، وقد روى الإسماعيلي هذا الحديث عن الحسن بن سفيان عن يحيى بن سليمان شيخ البخاري فيه مفصلا، فجعل أوله من رواية الزهري عن حمزة عن أبيه بالقدر الذي أخرجه البخاري، وآخره من رواية الزهري عن عبيد الله عنها، والله أعلم.

(2/166)


47 - باب مَنْ قَامَ إِلَى جَنْبِ الإِمَامِ لِعِلَّةٍ
683- حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ قَالَ عُرْوَةُ فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ"
قوله: "باب من قام" أي صلى "إلى جنب الإمام لعلة" أي سبب اقتضى ذلك، وقد تقدم ما فيه في " باب حد المريض". قوله: "قال عروة فوجد" هو بالإسناد المذكور، ووهم من جعله معلقا. ثم إن ظاهره الإرسال من قوله: "فوجد الخ " لكن رواه ابن أبي شيبة عن ابن نمير بهذا الإسناد متصلا بما قبله، وأخرجه ابن ماجه عنه، وكذا وصله الشافعي عن يحيى بن حبان عن حماد بن سلمة عن هشام، وكذا وصله عن عروة عنها كما تقدم، ويحتمل أن يكون عروة أخذه عن عائشة وعن غيرها، فلذلك قطعه عن القدر الأول الذي أخذه عنها وحدها، والأصل في الإمام أن يكون متقدما على المأمومين إلا إن ضاق المكان أو لم يكن إلا مأموم واحد، وكذا لو كانوا عراة، وما عدا ذلك يجوز ولكن تفوت الفضيلة.

(2/166)


باب من دخل ليؤم الناس فدخل الإمام الأول
...
48 - باب مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الإِمَامُ الأَوَّلُ فَتَأَخَّرَ الأَوَّلُ أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ جَازَتْ صَلاَتُهُ
فِيهِ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
684- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتْ الصَّلاَةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ قَالَ نَعَمْ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ فِي الصَّلاَةِ فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ فَصَفَّقَ النَّاسُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ امْكُثْ مَكَانَكَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ التَّصْفِيقَ مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ "
[الحديث 684 – أطرافه في : 7190,2693,2690,1234,1218,1204,1201]
قوله باب من دخل أي إلى المحراب مثلا ليؤم الناس فجاء الإمام الأول أي الراتب فتأخر الأول أي الداخل فكل منهما أول باعتبار والمعرفة إذا أعيدت كانت عين الأولى إلا بقرينة وقرينة كونها غيرها هنا ظاهرة قوله فيه عائشة يشير بالشق الأول وهو ما إذا تأخر إلى رواية عروة عنها في الباب الذي قبله حيث قال فلما رآه استأخر وبالثانى وهو ما إذا لم يستأخر إلى رواية عبد الله عنها حيث قال فأراد أن يتأخر وقد تقدمت في باب حد المريض والجواز مستفاد من التقرير وكلا الامرين قد وقعا في حديث الباب 652 قوله عن سهل بن سعد في رواية النسائي من طريق سفيان عن أبي حازم سمعت سهلا قوله ذهب إلى بني عمرو بن عوف أي بن مالك بن الأوس والأوس أحد قبيلتى الأنصار وهما الأوس والخزرج وبنو عمرو بن عوف بطن كبير من الأوس فيه عدة أحياء كانت منازلهم بقباء منهم بنو أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف وبنو ضبيعة بن زيد وبنو ثعلبة بن عمرو بن عوف والسبب في ذهابه صلى الله عليه وسلم إليهم ما في رواية سفيان المذكورة قال وقع بين حيين من الأنصار كلام وللمؤلف في الصلح من طريق محمد بن جعفر عن أبي حازم أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال اذهبوا بنا نصلح بينهم وله فيه من رواية أبي غسان عن أبي حازم فخرج في أناس من أصحابه وسمى الطبراني منهم من طريق موسى بن محمد عن أبي حازم أبي بن كعب وسهيل بن بيضاء وللمؤلف في الأحكام من طريق حماد بن زيد عن أبي حازم أن توجهه كان بعد أن صلى الظهر وللطبرانى من طريق عمر بن على عن أبي حازم أن الخبر جاء بذلك وقد أذن بلال لصلاة الظهر قوله فحانت الصلاة أي صلاة العصر وصرح به في الأحكام ولفظه فلما عملا صلاة العصر أذن وأقام وأمر

(2/167)


أبا بكر فتقدم " ولم يسم فاعل ذلك، وقد أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان من رواية حماد المذكورة فبين الفاعل وأن ذلك كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه: "فقال لبلال إن حضرت العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت العصر أذن بلال ثم أقام ثم أمر أبا بكر فتقدم " ونحوه للطبراني من رواية موسى بن محمد عن أبي حازم، وعرف بهذا أن المؤذن بلال. وأما قوله لأبي بكر " أتصلي للناس " فلا يخالف ما ذكر لأنه يحمل على أنه استفهمه هل يبادر أول الوقت أو ينتظر قليلا ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم؟ ورجح عند أبي بكر المبادرة لأنها فضيلة متحققة فلا تترك لفضيلة متوهمة. قوله: "أقيم" بالنصب ويجوز الرفع. قوله: "قال نعم" زاد في رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه " إن شئت " وهو في " باب رفع الأيدي " عند المؤلف، وإنما فوض ذلك له لاحتمال أن يكون عنده زيادة علم من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. قوله: "فصلى أبو بكر" أي دخل في الصلاة، ولفظ عبد العزيز المذكور " وتقدم أبو بكر فكبر " وفي رواية المسعودي عن أبي حازم " فاستفتح أبو بكر الصلاة " وهي عند الطبراني، وبهذا يجاب عن الفرق بين المقامين حيث امتنع أبو بكر هنا أن يستمر إماما وحيث استمر في مرض موته صلى الله عليه وسلم حين صلى خلفه الركعة الثانية من الصبح كما صرح به موسى بن عقبة في المغازي، فكأنه لما أن مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار ولما أن لم يمض منها إلا اليسير لم يستمر. وكذا وقع لعبد الرحمن بن عوف حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلفه الركعة الثانية من الصبح فإنه استمر في صلاته إماما لهذا المعنى، وقصة عبد الرحمن عند مسلم من حديث المغيرة بن شعبة. قوله: "فتخلص" في رواية عبد العزيز " فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف يشقها شقا حتى قام في الصف الأول " ولمسلم: "فخرق الصفوف حتى قام عند الصف المتقدم". قوله: "فصفق الناس" في رواية عبد العزيز " فأخذ الناس في التصفيح. قال سهل: أتدرون ما التصفيح؟ هو التصفيق". انتهى. وهذا يدل على ترادفهما عنده فلا يلتفت إلى ما يخالف ذلك، وسيأتي البحث فيه في باب مفرد. قوله: "وكان أبو بكر لا يلتفت" قيل كان ذلك لعلمه بالنهي عن ذلك، وقد صح أنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد كما سيأتي في باب مفرد في صفة الصلاة " فلما أكثر الناس التصفيق " في رواية حماد بن زيد " فلما رأى التصفيح لا يمسك عنه التفت". قوله: "فأشار إليه أن امكث مكانك" في رواية عبد العزيز " فأشار إليه يأمره أن يصلي " وفي رواية عمر بن علي " فدفع في صدره ليتقدم فأبى". قوله: "فرفع أبو بكر يديه فحمد الله" ظاهره أنه تلفظ بالحمد، لكن في رواية الحميدي عن سفيان " فرفع أبو بكر رأسه إلى السماء شكرا لله ورجع القهقري " وادعى ابن الجوزي أنه أشار بالشكر والحمد بيده ولم يتكلم، وليس في رواية الحميدي ما يمنع أن يكون تلفظ، ويقوى ذلك ما عند أحمد من رواية عبد العزيز الماجشون عن أبي حازم " يا أبا بكر لم رفعت يديك وما منعك أن تثبت حين أشرت إليك؟ قال: رفعت يدي لأني حمدت الله على ما رأيت منك " زاد المسعودي " فلما تنحى تقدم النبي صلى الله عليه وسلم: "ونحوه في رواية حماد بن زيد. قوله: "أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الحمادين والماجشون " أن يؤم النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "أكثرتم التصفيق" ظاهره أن الإنكار إنما حصل عليهم لكثرته لا لمطلقه، وسيأتي البحث فيه. قوله: "من نابه" أي أصابه. قوله: "فليسبح" في رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم " فليقل سبحان الله " وسيأتي في باب الإشارة في الصلاة. قوله: "التفت إليه" بضم المثناة على البناء للمجهول. وفي رواية يعقوب المذكورة " فإنه لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت" . قوله: "وإنما التصفيق للنساء" في رواية عبد العزيز " وإنما التصفيح للنساء " زاد الحميدي " والتسبيح للرجال " وقد روى

(2/168)


المصنف هذه الجملة الأخيرة مقتصرا عليها من رواية الثوري عن أبي حازم كما سيأتي في " باب التصفيق للنساء " ووقع في رواية حماد بن زيد بصيغة الأمر ولفظه: "إذا نابكم أمر فليسبح الرجال وليصفح النساء" . وفي هذا الحديث فضل الإصلاح بين الناس وجمع كلمة القبيلة وحسم مادة القطيعة، وتوجه الإمام بنفسه إلى بعض رعيته لذلك، وتقديم مثل ذلك على مصلحة الإمامة بنفسه. واستنبط منه توجه الحاكم لسماع دعوى بعض الخصوم إذا رجح ذلك على استحضارهم. وفيه جواز الصلاة الواحدة بإمامين أحدهما بعد الآخر، وأن الإمام الراتب إذا غاب يستخلف غيره، وأنه إذا حضر بعد أن دخل نائبه في الصلاة يتخير بين أن يأتم به أو يؤم هو ويصير النائب مأموما من غير أن يقطع الصلاة، ولا يبطل شيء من ذلك صلاة أحد من المأمومين. وادعى ابن عبد البر أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وادعى الإجماع على عدم جواز ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم، ونوقض بأن الخلاف ثابت، فالصحيح المشهور عند الشافعية الجواز، وعن ابن القاسم في الإمام يحدث فيستخلف ثم يرجع فيخرج المستخلف ويتم الأول أن الصلاة صحيحة، وفيه جواز إحرام المأموم قبل الإمام، وأن المرء قد يكون في بعض صلاته إماما وفي بعضها مأموما، وأن من أحرم منفردا ثم أقيمت الصلاة جاز له الدخول مع الجماعة من غير قطع لصلاته، كذا استنبطه الطبري من هذه القصة، وهو مأخوذ من لازم جواز إحرام الإمام بعد المأموم كما ذكرنا، وفيه فضل أبي بكر على جميع الصحابة. واستدل به جمع من الشراح ومن الفقهاء كالروياني على أن أبا بكر كان عند الصحابة أفضلهم لكونهم اختاروه دون غيره، وعلى جواز تقديم الناس لأنفسهم إذا غاب إمامهم، قالوا: ومحل ذلك إذا أمنت الفتنة والإنكار من الإمام، وأن الذي يتقدم نيابة عن الإمام يكون أصلحهم لذلك الأمر وأقومهم به، وأن المؤذن وغيره يعرض التقدم على الفاضل وأن الفاضل يوافقه بعد أن يعلم أن ذلك برضا الجماعة ا هـ. وكل ذلك مبني على أن الصحابة فعلوا ذلك بالاجتهاد، وقد قدمنا أنهم إنما فعلوا ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أن الإقامة واستدعاء الإمام من وظيفة المؤذن، وأنه لا يقيم إلا بإذن الإمام، وأن فعل الصلاة - لا سيما العصر - في أول الوقت مقدم على انتظار الإمام الأفضل، وفيه جواز التسبيح والحمد في الصلاة لأنه من ذكر الله ولو كان مراد المسبح إعلام غيره بما صدر منه، وسيأتي في باب مفرد، وفيه رفع اليدين في الصلاة عند الدعاء والثناء وسيأتي كذلك، وفيه استحباب حمد الله لمن تجددت له نعمة ولو كان في الصلاة، وفيه جواز الالتفات للحاجة وأن مخاطبة المصلي بالإشارة أولى من مخاطبته بالعبارة. وأنها تقوم مقام النطق لمعاتبة النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على مخالفة إشارته. وفيه جواز شق الصفوف والمشي بين المصلين لقصد الوصول إلى الصف الأول لكنه مقصور على من يليق ذلك به كالإمام أو من كان بصدد أن يحتاج الإمام إلى استخلافه أو من أراد سد فرجة في الصف الأول أو ما يليه مع ترك من يليه سدها ولا يكون ذلك معدودا من الأذى. قال المهلب: لا تعارض بين هذا وبين النهي عن التخطي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في أمر الصلاة ولا غيرها، لأن له أن يتقدم بسبب ما ينزل عليه من الأحكام، وأطال في تقرير ذلك. وتعقب بأن هذا ليس من الخصائص، وقد أشار هو إلى المعتمد في ذلك فقال: ليس في ذلك شيء من الأذى والجفاء الذي يحصل من التخطي، وليس كمن شق الصفوف والناس جلوس لما فيه من تخطي رقابهم. وفيه كراهية التصفيق في الصلاة وسيأتي في باب مفرد، وفيه الحمد والشكر على الوجاهة في الدين وأن من أكرم بكرامة يتخير بين القبول والترك إذا فهم أن ذلك الأمر على غير جهة اللزوم وكأن القرينة التي بينت لأبي بكر ذلك هي كونه صلى الله عليه وسلم شق الصفوف إلى أن انتهى إليه فكأنه فهم من ذلك أن مراده

(2/169)


أن يؤم الناس، وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام له والتنويه بقدره، فسلك هو طريق الأدب والتواضع. ورجح ذلك عنده احتمال نزول الوحي في حال الصلاة لتغيير حكم من أحكامها، وكأنه لأجل هذا لم يتعقب صلى الله عليه وسلم اعتذاره برد عليه. وفيه جواز إمامة المفضول للفاضل، وفيه سؤال الرئيس عن سبب مخالفة أمره قبل الزجر عن ذلك، وفيه إكرام الكبير بمخاطبته بالكنية، واعتماد ذكر الرجل لنفسه بما يشعر بالتواضع من جهة استعمال أبي بكر خطاب الغيبة مكان الحضور. إذ كان حد الكلام أن يقول أبو بكر: ما كان لي، فعدل عنه إلى قوله: ما كان لابن أبي قحافة، لأنه أدل على التواضع من الأول، وفيه جواز العمل القليل في الصلاة لتأخر أبي بكر عن مقامه إلى الصف الذي يليه، وأن من احتاج إلى مثل ذلك يرجع القهقري ولا يستدبر القبلة ولا ينحرف عنها. واستنبط ابن عبد البر منه جواز الفتح على الإمام، لأن التسبيح إذا جاز جازت التلاوة من باب الأولى، والله أعلم.

(2/170)


باب إذا استووا في القراءة فليأمهم أكبرهم
...
49 - باب إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ
685- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا فَقَالَ لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى بِلاَدِكُمْ فَعَلَّمْتُمُوهُمْ مُرُوهُمْ فَلْيُصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَصَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ"
قوله: "باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم" هذه الترجمة مع ما سأبينه من زيادة في بعض طرق حديث الباب منتزعة من حديث أخرجه مسلم من رواية أبي مسعود الأنصاري مرفوعا: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانت قراءتهم سواء صلى الله عليه وسلم فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنا " الحديث. ومداره على إسماعيل بن رجاء عن أوس ضمعج عنه، وليسا جميعا من شرط البخاري، وقد نقل ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه أن شعبة كان يتوقف في صحة هذا الحديث، ولكن هو في الجملة يصلح للاحتجاج به عند البخاري، وقد علق منه طرفا بصيغة الجزم كما سيأتي، واستعمله هنا في الترجمة، وأورد في الباب ما يؤدي معناه وهو حديث مالك بن الحويرث لكن ليس فيه التصريح باستواء المخاطبين في القراءة، وأجاب الزين بن المنير وغيره بما حاصله أن تساوى هجرتهم وإقامتهم وغرضهم بها مع ما في الشباب غالبا من الفهم - ثم توجه الخطاب إليهم بأن يعلموا من وراءهم من غير تخصيص بعضهم دون بعض - دال على استوائهم في القراءة والتفقه في الدين. قلت: وقد وقع التصريح بذلك فيما رواه أبو داود من طريق مسلمة بن محمد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة في هذا الحديث قال: "وكنا يومئذ متقاربين في العلم " انتهى. وأظن في هذه الرواية إدراجا، فإن ابن خزيمة رواه من طريق إسماعيل بن علية عن خالد قال: "قلت لأبي قلابة فأين القراءة؟ قال: إنهما كانا متقاربين " وأخرجه مسلم من طريق حفص بن غياث عن خالد الحذاء وقال فيه: "قال الحذاء: وكانا متقاربين في القراءة". ويحتمل أن يكون مستند أبي قلابة في ذلك هو إخبار
ـــــــ
(1) هذا اللفظ هو إحدى روايتي حديث أبي مسعود المذكور . انظر الرواية الثانية في الصفحة الآتية .

(2/170)


مالك بن الحويرث، كما أن مستند الحذاء هو إخبار أبي قلابة له به فينبغي الإدراج عن الإسناد صلى الله عليه وسلم والله أعلم. "تنبيه": ضمعج والد أوس بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم وفتح العين المهملة بعدها جيم معناه الغليظ، وقوله في حديث أبي مسعود " أقرؤهم " قيل المراد به الأفقه وقيل هو على ظاهره، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء. قال النووي قال أصحابنا: الأفقه مقدم على الأقرأ، فإن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، فقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصلاة فيه إلا كامل الفقه، ولهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة على الباقين مع أنه صلى الله عليه وسلم نص على أن غيره أقرأ منه، كأنه عنى حديث أقرؤكم أبي. قال: وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه. قلت: وهذا الجواب يلزم منه أن من نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر فيفسد الاحتجاج بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه. ثم قال النووي بعد ذلك: إن قوله في حديث أبي مسعود " فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم في الهجرة " يدل على تقديم الأقرأ مطلقا انتهى. وهو واضح للمغايرة. وهذه الرواية أخرجها مسلم أيضا من وجه آخر عن إسماعيل بن رجاء، ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلا بذلك فلا يقدم اتفاقا، والسبب فيه أن أهل ذلك العصر كانوا يعرفون معاني القرآن لكونهم أهل اللسان، فالأقرأ منهم بل القارئ كان أفقه في الدين من كثير من الفقهاء الذين جاءوا بعدهم. قوله: "ونحن شببة" بفتح المعجمة والموحدتين جمع شاب، زاد في الأدب من طريق ابن علية عن أيوب " شببة متقاربون " والمراد تقاربهم في السن، لأن ذلك كان في حال قدومهم. قوله: "نحوا من عشرين" في رواية ابن علية المذكورة الجزم به ولفظه: "فأقمنا عنده عشرين ليلة " والمراد بأيامها، ووقع التصريح بذلك في روايته في خبر الواحد من طريق عبد الوهاب عن أيوب. قوله: "رحيما فقال لو رجعتم " في رواية ابن علية وعبد الوهاب " رحيما رقيقا " فظن أنا اشتقنا إلى أهلنا، وسألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم" ، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون عرض ذلك عليهم على طريق الإيناس بقوله: "لو رجعتم " إذ لو بدأهم بالأمر بالرجوع لأمكن أن يكون فيه تنفير فيحتمل أن يكونوا أجابوه بنعم فأمرهم حينئذ بقوله: "ارجعوا" ، واقتصار الصحابي على ذكر سبب الأمر برجوعهم بأنه الشوق إلى أهليهم دون قصد التعليم هو لما قام عنده من القرينة الدالة على ذلك، ويمكن أن يكون عرف ذلك بتصريح القول منه صلى الله عليه وسلم وإن كان سبب تعليمهم قومهم أشرف في حقهم، لكنه أخبر بالواقع ولم يتزين بما ليس فيهم، ولما كانت نيتهم صادقة صادف شوقهم إلى أهلهم الحظ الكامل في الدين وهو أهلية التعليم كما قال الإمام أحمد في الحرص على طلب الحديث: حظ وافق حقا. قوله: "وليؤمكم أكبركم" ظاهره تقديم الأكبر بكثير السن وقليله، وأما من جوز أن يكون مراده بالكبر ما هو أعم من السن أو القدر كالتقدم في الفقه والقراءة والدين فبعيد لما تقدم من فهم راوي الخبر حيث قال للتابعي " فأين القراءة " فإنه دال على أنه أراد كبر السن، وكذا دعوى من زعم أن قوله: "وليؤمكم أكبركم " معارض بقوله: "يؤم القوم أقرؤهم " لأن الأول يقتضي تقديم الأكبر على الأقرأ والثاني عكسه، ثم انفصل عنه بأن قصة مالك بن الحويرث واقعة عين قابلة للاحتمال بخلاف الحديث الآخر فإنه تقرير قاعدة تفيد التعميم، قال: فيحتمل أن يكون الأكبر منهم كان يومئذ هو الأفقه.
ـــــــ
(1) كذا في الأصلين , ولعل الصواب أن لا إدراج في الاسناد , فتأمل

(2/171)


انتهى. والتنصيص على تقاربهم في العلم يرد عليه، فالجمع الذي قدمناه أولى والله أعلم. وفي الحديث أيضا فضل الهجرة والرحلة في طلب العلم وفضل التعليم، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة والاهتمام بأحوال الصلاة وغيرها من أمور الدين، وإجازة خبر الواحد وقيام الحجة به، وتقدم الكلام على بقية فوائده في " باب من قال يؤذن في السفر مؤذن واحد". ويأتي الكلام على قوله صلوا كما رأيتموني أصلي في " باب إجازة خبر الواحد " إن شاء الله تعالى.

(2/172)


باب إذا زار الإمام قوم فأمهم
...
50 - باب إِذَا زَارَ الإِمَامُ قَوْمًا فَأَمَّهُمْ
686- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصارِيَّ قَالَ اسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَقَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ فَقَامَ وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا
قوله: "باب إذا زار الإمام قوما فأمهم" قيل أشار بهذه الترجمة إلى أن حديث مالك بن الحويرث الذي أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه مرفوعا: "من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم " محمول على من عدا الإمام الأعظم. وقال الزين بن المنير: مراده أن الإمام الأعظم ومن يجري مجراه إذا حضر بمكان مملوك لا يتقدم عليه مالك الدار أو المنفعة، ولكن ينبغي للمالك أن يأذن له ليجمع بين الحقين حق الإمام في التقدم، وحق المالك في منع التصرف بغير إذنه. انتهى ملخصا. ويحتمل أنه أشار إلى ما في حديث أبي مسعود المتقدم " ولا يؤم الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه " فإن مالك الشيء سلطان عليه، والإمام الأعظم سلطان على المالك، وقوله: "إلا بإذنه " يحمل عوده على الأمرين الإمامة والجلوس، وبذلك جزم أحمد كما حكاه الترمذي عنه، فتحصل بالإذن مراعاة الجانبين. قوله: "حدثنا معاذ بن أسد" هو مروزي سكن البصرة وليس هو أخا لمعلى بن أسد أحد شيوخ البخاري أيضا، كان معاذ المذكور كاتبا لعبد الله بن المبارك وهو شيخه في هذا الإسناد، وقد تقدم الكلام على حديث عتبان مستوفى في " باب المساجد التي في البيوت".

(2/172)


باب إنما جعل الإمام ليؤتم به وصلى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه بالناس وهو جالس
...
51 - باب إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ وَهُوَ جَالِسٌ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا رَفَعَ قَبْلَ الإِمَامِ يَعُودُ فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ ثُمَّ يَتْبَعُ الإِمَامَ
وَقَالَ الْحَسَنُ فِيمَنْ يَرْكَعُ مَعَ الإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُولَى بِسُجُودِهَا وَفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى قَامَ يَسْجُدُ
687- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ أَلاَ تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ بَلَى ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَصَلَّى النَّاسُ قُلْنَا لاَ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ قَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ قَالَتْ فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَلَّى النَّاسُ قُلْنَا لاَ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ

(2/172)


52 - باب مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإِمَامِ قَالَ أَنَسٌ فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا
690- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدًا ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ نَحْوَهُ بِهَذَا
[الحديث 690- طرفاه في : 811 ,747]
قوله: "باب متى يسجد من خلف الإمام" أي إذا اعتدل أو جلس بين السجدتين. قوله: "وقال أنس" هو طرف من حديثه الماضي في الباب قبله، لكن في بعض طرقه دون بعض، وسيأتي في " باب إيجاب التكبير " من رواية الليث عن الزهري بلفظه، ومناسبته لحديث الباب مما قدمناه أنه يقتضي تقديم ما يسمى ركوعا من الإمام بناء على تقدم الشرط على الجزاء وحديث الباب يفسره. قوله: "عن سفيان" هو الثوري، وأبو إسحاق هو السبيعي، وعبد الله بن يزيد هو الخطمي، كذا وقع منسوبا عند الإسماعيلي في رواية لشعبة عن أبي إسحاق، وهو منسوب إلى خطمة بفتح المعجمة وإسكان الطاء بطن من الأوس، وكان عبد الله المذكور أميرا على الكوفة في زمن ابن الزبير، ووقع للمصنف في " باب رفع البصر في الصلاة " أن أبا إسحاق قال: "سمعت عبد الله بن يزيد يخطب"، وأبو إسحاق معروف بالرواية عن البراء بن عازب لكنه سمع هذا عنه بواسطة. وفيه لطيفة وهي رواية صحابي ابن صحابي عن صحابي ابن صحابي من الأنصار ثم من الأوس وكلاهما سكن الكوفة. قوله: "وهو غير كذوب" الظاهر أنه من كلام عبد الله بن يزيد وعلى ذلك جرى الحميدي في جمعه وصاحب العمدة، لكن روى عباس الدوري في تاريخه عن يحيى بن معين أنه قال: قوله: "هو غير كذوب " إنما يريد عبد الله بن يزيد الراوي عن البراء لا البراء. ولا يقال لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كذوب، يعني أن هذه العبارة إنما تحسن في مشكوك في عدالته والصحابة كلهم عدول لا يحتاجون إلى تزكية. وقد تعقبه الخطابي فقال: هذا القول لا يوجب تهمة في الراوي إنما يوجب حقيقة الصدق له، قال: وهذه عادتهم إذا أرادوا تأكيد العلم بالراوي والعمل بما روى، كان أبو هريرة يقول: "سمعت خليلي الصادق المصدوق". وقال ابن مسعود " حدثني الصادق المصدوق " وقال عياض وتبعه النووي: لا وصم في هذا على الصحابة لأنه لم يرد به التعديل، وإنما أراد به تقوية الحديث إذ حدث به البراء وهو غير متهم، ومثل هذا قول أبي مسلم الخولاني: حدثني الحبيب الأمين. وقد قال ابن مسعود وأبو هريرة فذكرهما. قال: وهذا قالوه تنبيها على صحة الحديث لا أن قائله قصد به تعديل راويه. وأيضا فتنزيه ابن معين للبراء عن التعديل لأجل صحبته ولم ينزه عن ذلك عبد الله بن يزيد لا وجه له، فإن عبد الله بن يزيد معدود في الصحابة. انتهى كلامه. وقد علمت أنه أخذ كلام الخطابي فبسطه واستدرك عليه الإلزام الأخير، وليس بوارد لأن يحيى بن معين لا يثبت صحبة عبد الله بن يزيد، وقد نفاها أيضا مصعب الزبيري وتوقف فيها أحمد بن حنبل وأبو حاتم وأبو داود وأثبتها ابن البرقي والدار قطني وآخرون. وقال

(2/181)


النووي: معنى الكلام حدثني البراء وهو غير متهم كما علمتم فثقوا بما أخبركم به عنه، وقد اعترض بعض المتأخرين على التنظير المذكور فقال: كأنه لم يلم بشيء من علم البيان، للفرق الواضح بين قولنا فلان صدوق وفلان غير كذوب لأن في الأول إثبات الصفة للموصوف، وفي الثاني نفي ضدها عنه فهما مفترقان. قال: والسر فيه أن نفي الضد كأنه يقع جوابا لمن أثبته يخالف إثبات الصفة. انتهى. والذي يظهر لي أن الفرق بينهما أنه يقع في الإثبات بالمطابقة وفي النفي بالالتزام، لكن التنظير صحيح بالنسبة إلى المعنى المراد باللفظين، لأن كلا منهما يرد عليه أنه تزكية في حق مقطوع بتزكيته فيكون من تحصيل الحاصل، ويحصل الانفصال عن ذلك بما تقدم من أن المراد بكل منهما تفخيم الأمر وتقويته في نفس السامع. وذكر ابن دقيق العيد أن بعضهم استدل على أنه كلام عبد الله بن يزيد بقول أبي إسحاق في بعض طرقه: سمعت عبد الله بن يزيد وهو يخطب يقول: "حدثنا البراء وكان غير كذوب " قال وهو محتمل أيضا. قلت: لكنه أبعد من الأول. وقد وجدت الحديث من غير طريق أبي إسحاق عن عبد الله بن يزيد وفيه قوله أيضا: "حدثنا البراء وهو غير كذوب " أخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق محارب بن دثار قال: سمعت عبد الله بن يزيد على المنير يقول. فذكره. وأصله في مسلم، لكن ليس فيه قوله: "وكان غير كذوب " وهذا يقوى أن الكلام لعبد الله ابن يزيد، والله أعلم. "فائدة": روى الطبراني في مسند عبد الله بن يزيد هذا شيئا يدل على سبب روايته لهذا الحديث، فإنه أخرج من طريقه أنه كان يصلي بالناس بالكوفة فكان الناس يضعون رءوسهم قبل أن يضع رأسه ويرفعون قبل أن يرفع رأسه، فذكر الحديث في إنكاره عليهم. قوله: "إذا قال سمع الله لمن حمده" في رواية شعبة " إذا رفع رأسه من الركوع " ولمسلم من رواية محارب بن دثار " فإذا رفع رأسه من الركوع فقال سمع الله لمن حمده لم نزل قياما". قوله: "لم يحن" بفتح التحتانية وسكون المهملة أي لم يثن، يقال حنيت العود إذا ثنيته. وفي رواية لمسلم: "لا يحنو " وهي لغة صحيحة يقال حنيت وحنوت بمعنى. قوله: "حتى يقع ساجدا" في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق " حتى يضع جبهته على الأرض " وسيأتي في " باب سجود السهو"، ونحوه لمسلم من رواية زهير عن أبي إسحق، ولأحمد عن غندر عن شعبة " حتى يسجد ثم يسجدون " واستدل به ابن الجوزي على أن المأموم لا يشرع في الركن حتى يتمه الإمام، وتعقب بأنه ليس فيه إلا التأخر حتى يتلبس الإمام بالركن الذي ينتقل إليه بحيث يشرع المأموم بعد شروعه وقبل الفراغ منه. ووقع في حديث عمرو بن حريث عند مسلم: "فكان لا يحنى أحد منا ظهره حتى يستتم ساجدا " ولأبي يعلى من حديث أنس " حتى يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من السجود " وهو أوضح في انتفاء المقارنة. واستدل به على الطمأنينة وفيه نظر، وعلى جواز النظر إلى الإمام لاتباعه في انتقالاته. قوله: "حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان. نحوه" هكذا في رواية المستملى وكريمة، وسقط للباقين. وقد أخرجه أبو عوانة عن الصغاني وغيره عن أبي نعيم ولفظه: "كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم لم يحن أحد منا ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته".

(2/182)


53 - باب إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ
691- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ أَوْ لاَ يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ

(2/182)


يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ "
قوله: "باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام" أي من السجود كما سيأتي بيانه. قوله: "عن محمد بن زياد" هو الجمحي مدني سكن البصرة وله في البخاري أحاديث عن أبي هريرة، وفي التابعين أيضا محمد بن زياد الالهاني الحمصي وله عنده حديث واحد عن أبي أمامة في المزارعة. قوله: "أما يخشى أحدكم" في رواية الكشميهني: "أو لا يخشى " ولأبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة " أما يخشى أو ألا يخشى " بالشك. و " أما " بتخفيف الميم حرف استفتاح مثل ألا، وأصلها النافية دخلت عليها همزة الاستفهام وهو هنا استفهام توبيخ. قوله: "إذا رفع رأسه قبل الإمام" زاد ابن خزيمة من رواية حماد بن زيد عن محمد بن زياد " في صلاته". وفي رواية حفص بن عمر المذكورة " الذي يرفع رأسه والإمام ساجد " فتبين أن المراد الرفع من السجود ففيه تعقب على من قال إن الحديث نص في المنع من تقدم المأموم على الإمام في الرفع من الركوع والسجود معا، وإنما هو نص في السجود، ويلتحق به الركوع لكونه في معناه، ويمكن أن يفرق بينهما بأن السجود له مزيد مزية لأن العبد أقرب ما يكون فيه من ربه لأنه غاية الخضوع المطلوب منه، فلذلك خص بالتنصيص عليه، ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم إذا كان للمذكور مزية، وأما التقدم على الإمام في الخفض في الركوع والسجود فقيل يلتحق به من باب الأولى، لأن الاعتدال والجلوس بين السجدتين من الوسائل، والركوع والسجود من المقاصد، وإذا دل الدليل على وجوب الموافقة فيما هو وسيلة فأولى أن يجب فيما هو مقصد، ويمكن أن يقال ليس هذا بواضح لأن الرفع من الركوع والسجود يستلزم قطعه عن غاية كماله، ودخول النقص في المقاصد أشد من دخوله في الوسائل، وقد ورد الزجر عن الخفض والرفع قبل الإمام في حديث آخر أخرجه البزار من رواية مليح صلى الله عليه وسلم بن عبد الله السعدي عن أبي هريرة مرفوعا: "الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان". وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفا وهو المحفوظ. قوله: "أو يجعل الله صورته صورة حمار" الشك من شعبة، فقد رواه الطيالسي عن حماد بن سلمة وابن خزيمة من رواية حماد بن زيد ومسلم من رواية يونس بن عبيد والربيع بن مسلم كلهم عن محمد بن زياد بغير تردد، فأما الحمادان فقالا " رأس " وأما. يونس فقال: "صورة " وأما الربيع فقال: "وجه"، والظاهر أنه من تصرف الرواة. قال عياض: هذه الروايات متفقة لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه. قلت: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضا، وأما الرأس فرواتها أكثر وهي أشمل فهي المعتمدة، وخص وقوع الوعيد عليها لأن بها وقعت الجناية وهي أشمل، وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب، ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته، وعن ابن عمر تبطل وبه قال أحمد في رواية وأهل الظاهر بناء على أن النهي يقتضي الفساد، وفي المغني عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام صلاة لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لرجى له الثواب ولم يخش عليه العقاب. اختلف في معنى الوعيد المذكور فقيل: يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنوي، فإن الحمار موصوف بالبلادة فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة ومتابعة الإمام، ويرجح هذا المجازى
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض " فليح"

(2/183)


أن التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين، لكن ليس في الحديث ما يدل أن ذلك يقع ولا بد، وإنما يدل على كون فاعله متعرضا لذلك وكون فعله ممكنا لأن يقع عنه ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء، قاله ابن دقيق العيد. قال ابن بزيزة: يحتمل أن يراد بالتحويل المسخ أو تحويل الهيئة الحسية أو المعنوية أو هما معا. حمله آخرون على ظاهره إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك، وسيأتي في كتاب الأشربة الدليل على جواز وقوع المسخ في هذه الأمة، وهو حديث أبي مالك الأشعري في المغازي فإن فيه ذكر الخسف وفي آخره: "ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " وسيأتي مزيد لذلك في تفسير سورة الأنعام إن شاء الله تعالى. يقوى حمله على ظاهره أن في رواية ابن حبان من وجه آخر عن محمد بن زياد " أن يحول الله رأسه رأس كلب " فهذا يبعد المجاز لانتقاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار. مما يبعده أيضا إيراد الوعيد بالأمر المستقبل وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال مثلا فرأسه رأس حمار، وإنما قلت ذلك لأن الصفة المذكورة وهي البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور فلا يحسن أن يقال له يخشى إذا فعلت ذلك أن تصير بليدا، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة. قال ابن الجوزي في الرواية التي عبر فيها بالصورة: هذه اللفظة تمنع تأويل من قال المراد رأس حمار في البلادة، ولم يبين وجه المنع. في الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته وبيانه لهم الأحكام وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، واستدل به على جواز المقارنة، ولا دلالة فيه لأنه دل بمنطوقه على منع المسابقة، وبمفهومه على طلب المتابعة، وأما المقارنة فمسكوت عنها. قال ابن بزيزة: استدل بظاهره قوم لا يعقلون على جواز التناسخ. لت: وهو مذهب رديء مبني على دعاوى بغير برهان، والذي استدل بذلك منهم إنما استدل بأصل النسخ لا بخصوص هذا الحديث. لطيفة": قال صاحب " القبس ": ليس للتقدم قبل الإمام سبب إلا طلب الاستعجال، ودواؤه أن يستحضر أنه لا يسلم قبل الإمام فلا يستعجل في هذه الأفعال، والله أعلم.

(2/184)


54- باب إِمَامَةِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى
وَكَانَتْ عَائِشَةُ يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنْ الْمُصْحَفِ وَوَلَدِ الْبَغِيِّ وَالأَعْرَابِيِّ وَالْغُلاَمِ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ"
692- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ الْعُصْبَةَ مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا"
[الحديث 693 – طرفاه في: 7175]
693- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ "
[الحديث693- طرفاه في : 7142,696]
قوله: "باب إمامة العبد والمولى" أي العتيق، قال الزين بن المنير: لم يفصح بالجواز لكن لوح به لإيراده

(2/184)


أدلته. قوله: "وكانت عائشة الخ" وصله أبو داود صلى الله عليه وسلم في " كتاب المصاحف " من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة أن عائشة كان يؤمها غلامها ذكوان في المصحف، ووصله ابن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبي بكر بن أبي مليكة عن عائشة أنها أعتقت غلاما لها عن دبر، فكان يؤمها في رمضان في المصحف. ووصله الشافعي وعبد الرزاق من طريق أخرى عن ابن أبي مليكة أنه كان يأتي عائشة بأعلى الوادي - هو وأبوه وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير - فيؤمهم أبو عمرو مولى عائشة وهو يومئذ غلام لم يعتق، وأبو عمرو المذكور هو ذكوان، وإلى صحة إمامة العبد ذهب الجمهور. وخالف مالك فقال: لا يؤم الأحرار إلا إن كان قارئا وهم لا يقرءون فيؤمهم، إلا في الجمعة لأنها لا تجب عليه. وخالفه أشهب واحتج بأنها تجزئه إذا حضرها. قوله: "في المصحف" استدل به على جواز قراءة المصلي من المصحف، ومنع منه آخرون لكونه عملا كثيرا في الصلاة صلى الله عليه وسلم. قوله: "وولد البغي" بفتح الموحدة وكسر المعجمة والتشديد أي الزانية، ونقل ابن التين أنه رواه بفتح الموحدة وسكون المعجمة والتخفيف، والأول أولى، وهو معطوف على قوله: "والمولى " لكن فصل بين المتعاطفين بأثر عائشة، وغفل القرطبي في مختصر البخاري فجعله من بقية الأثر المذكور، وإلى صحة إمامة ولد الزنا ذهب الجمهور أيضا، وكان مالك يكره أن يتخذ إماما راتبا، وعلته عنده أنه يصير معرضا لكلام الناس فيأثمون بسببه، وقيل لأنه ليس في الغالب من يفقهه صلى الله عليه وسلم فيغلب عليه الجهل. قوله: "والأعرابي" بفتح الهمزة أي ساكن البادية، وإلى صحة إمامته ذهب الجمهور أيضا، وخالف مالك وعلته عنده غلبة الجهل على ساكن البوادي، وقيل لأنهم يديمون نقص السنن وترك حضور الجماعة غالبا قوله: "والغلام الذي لم يحتلم" ظاهره أنه أراد المراهق، ويحتمل الأعم لكن يخرج منه من كان دون سن التمييز بدليل آخر، ولعل المصنف راعى اللفظ الوارد في النهي عن ذلك وهو فيما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس مرفوعا: "لا يؤم الغلام حتى يحتلم " وإسناده ضعيف، وقد أخرج المصنف في غزوة الفتح حديث عمرو بن سلمة بكسر اللام أنه كان يؤم قومه وهو ابن سبع سنين، وقيل إنما لم يستدل به هنا لأن أحمد بن حنبل توقف فيه فقيل: لأنه ليس فيه اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقيل لاحتمال أن يكون أراد أنه كان يؤمهم في النافلة دون الفريضة، وأجيب عن الأول بأن زمان نزول الوحي لا يقع فيه لأحد من الصحابة التقرير على ما لا يجوز فعله، ولهذا استدل أبو سعيد وجابر على جواز العزل بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل كما سيأتي في موضعه، وأيضا فالوفد الذين قدموا عمرو بن سلمة كانوا جماعة من الصحابة، وقد نقل ابن حزم أنه لا يعلم لهم في ذلك مخالف منهم. وعن الثاني بأن سياق رواية المصنف تدل على أنه كان يؤمهم في الفرائض لقوله فيه: "صلوا صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة " الحديث. وفي رواية لأبي داود قال عمرو " فما شهدت مشهدا في جرم صلى الله عليه وسلم إلا كنت إمامهم " وهذا يعم الفرائض والنوافل واحتج ابن حزم على عدم الصحة بأنه صلى الله عليه وسلم أمر
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض " ابن أبي داود"
(2) الصوابالجواز كما فعلت عائشة رضي الله عنها , لأن الحاجة قد تدعوا . والعمل الكثير إذا كان لحاجة ولم يتوال لم يضر الصلاة لحمله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب في الصلاة , وتقدمه وتأخره في صلاة الكسوف , ولأدلة أخرى مدونه في موضعها . والله أعلم
(3) كذا ولعله " ممن يفقه "
(4) جرم بالجيم والراء الساكنة : هي قبيلة عمرو بن سلمة المذكور

(2/185)


أن يؤمهم أقرؤهم قال: فعلى هذا إنما يؤم من يتوجه إليه الأمر، والصبي ليس بمأمور لأن القلم رفع عنه فلا يؤم، كذا قال، ولا يخفى فساده لأنا نقول: المأمور من يتوجه إليه الأمر من البالغين بأنهم يقدمون من اتصف بكونه أكثر قرآنا فبطل ما احتج به، وإلى صحة إمامة الصبي ذهب أيضا الحسن البصري والشافعي وإسحاق، وكرهها مالك والثوري، وعن أبي حنيفة وأحمد روايتان والمشهور عنهما الإجزاء في النوافل دون الفرائض. قوله: "لقول النبي صلى الله عليه وسلم يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله" أي فكل من اتصف بذلك جازت إمامته من عبد وصبي وغيرها، وهذا طرف من حديث أبي مسعود الذي ذكرناه في " باب أهل العلم أحق بالإمامة " وقد أخرجه مسلم وأصحاب السنن بلفظ: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " الحديث. وفي حديث عمرو بن سلمة المذكور عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليؤمكم أكثركم قرآنا " وفي حديث أبي سعيد عند مسلم أيضا: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم " واستدل بقوله أقرؤهم على أن إمامة الكافر لا تصح لأنه لا قراءة له. قوله: "ولا يمنع العبد من الجماعة" هذا من كلام المصنف، وليس من الحديث المعلق. قوله: "بغير علة" أي بغير ضرورة لسيده، فلو قصد تفويت الفضيلة عليه بغير ضرورة لم يكن له ذلك، وسنذكر مستنده في الكلام على قصة سالم في أول حديثى الباب. قوله: "عن عبيد الله" هو العمري. قوله: "لما قدم المهاجرون الأولون" أي من مكة إلى المدينة وبه صرح في رواية الطبراني. قوله: "العصبة" بالنصب على الظرفية لقوله: "قدم " كذا في جميع الروايات. وفي رواية أبي داود " نزلوا العصبة " أي المكان المسمى بذلك وهو بإسكان الصاد المهملة بعدها موحدة، واختلف في أوله فقيل بالفتح وقيل بالضم، ثم رأيت في النهاية ضبطه بعضهم بفتح العين والصاد المهملتين، قال أبو عبيد البكري: لم يضبطه الأصيلي في روايته، والمعروف " المعصب " بوزن محمد بالتشديد وهو موضع بقباء. قوله: "وكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة" زاد في الأحكام من رواية ابن جريج عن نافع " وفيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة - أي ابن عبد الأسد - وزيد أي ابن حارثة وعامر بن ربيعة " واستشكل ذكر أبي بكر فيهم إذ في الحديث أن ذلك كان قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر كان رفيقه، ووجهه البيهقي باحتمال أن يكون سالم المذكور استمر على الصلاة بهم فيصح ذكر أبي بكر، ولا يخفى ما فيه. ووجه الدلالة منه إجماع كبار الصحابة القرشيين على تقديم سالم عليهم، وكان سالم المذكور مولى امرأة من الأنصار فأعتقته، وكأن إمامته بهم كانت قبل أن يعتق، وبذلك تظهر مناسبة قول المصنف " ولا يمنع العبد". وإنما قيل له مولى أبي حذيفة لأنه لازم أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بعد أن عتق فتبناه، فلما نهوا عن ذلك قيل له مولاه كما سيأتي في موضعه. واستشهد سالم باليمامة في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما. قوله: "وكان أكثرهم قرآنا" إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه. وفي رواية للطبراني " لأنه كان أكثرهم قرآنا". قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان. قوله: "اسمعوا وأطيعوا" أي فيما فيه طاعة لله. قوله: "وإن استعمل" أي جعل عاملا، وللمصنف في الأحكام عن مسدد عن يحيى " وإن استعمل عليكم عبد حبشي " وهو أصرح في مقصود الترجمة، وذكره بعد باب من طريق غندر عن شعبة بلفظ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبي ذر: اسمع وأطع " الحديث، وقد أخرجه مسلم من طريق غندر أيضا لكن بإسناد له آخر عن شعبة عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: "إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني أن اسمع وأطع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف". وأخرجه الحاكم والبيهقي من هذا الوجه، وفيه قصة أن أبا ذر انتهى إلى الربذة وقد أقيمت الصلاة فإذا عبد يؤمهم، قال فقيل: هذا أبو ذر، فذهب

(2/186)


يتأخر، فقال أبو ذر: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: "فذكر الحديث. وأخرج مسلم أيضا من طريق غندر أيضا عن شعبة عن يحيى بن الحصين سمعت جدتي تحدث أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: "ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله " وفي هذه الرواية فائدتان: تعيين جهة الطاعة، وتاريخ الحديث وأنه كان في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "كأن رأسه زبيبة" قيل شبهه بذلك لصغر رأسه، وذلك معروف في الحبشة، وقيل لسواده، وقيل لقصر شعر رأسه وتفلفله. ووجه الدلالة منه على صحة إمامة العبد أنه إذا أمر بطاعته فقد أمر بالصلاة خلفه قاله ابن بطال. ويحتمل أن يكون مأخوذا من جهة ما جرت به عادتهم أن الأمير هو الذي يتولى الإمامة بنفسه أو نائبه، واستدل به على المنع من القيام على السلاطين وإن جاروا لأن القيام عليهم يفضي غالبا إلى أشد مما ينكر عليهم، ووجه الدلالة منه أنه أمر بطاعة العبد الحبشي والإمامة العظمى إنما تكون بالاستحقاق في قريش فيكون غيرهم متغلبا، فإذا أمر بطاعته استلزم النهي عن مخالفته والقيام عليه. ورده ابن الجوزي بأن المراد بالعامل هنا من يستعمله الإمام لا من يلي الإمامة العظمى، وبأن المراد بالطاعة الطاعة فيما وافق الحق. انتهى. ولا مانع من حمله على أعم من ذلك، فقد وجد من ولى الإمامة العظمى من غير قريش من ذوى الشوكة متغلبا، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الأحكام. وقد عكسه بعضهم فاستدل به على جواز الإمامة في غير قريش، وهو متعقب، إذ لا تلازم بين الإجزاء والجواز، والله أعلم.

(2/187)


باب إذا لم يتم الإمام وأثم من خلفه
...
55 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الإِمَامُ وَأَتَمَّ مَنْ خَلْفَهُ
694- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الأَشْيَبُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ
قوله: "باب إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه" يشير بذلك إلى حديث عقبة بن عامر وغيره كما سيأتي. قوله: "حدثنا الفضل بن سهل" هو البغدادي المعروف بالأعرج من صغار شيوخ البخاري ومات قبله بسنة. قوله: "يصلون" أي الأئمة، واللام في قوله: "لكلم " للتعليل. قوله: "فإن أصابوا فلكم" أي ثواب صلاتكم، زاد أحمد عن الحسن بن موسى بهذا السند " ولهم " أي ثواب صلاتهم، وهو يغني عن تكلف توجيه حذفها، وتمسك ابن بطال بظاهر الرواية المحذوفة فزعم أن المراد بالإصابة هنا إصابة الوقت، واستدل بحديث ابن مسعود مرفوعا: "لعلكم تدركون أقواما يصلون الصلاة لغير وقتها، فإذا أدركتموهم فصلوا في بيوتكم في الوقت ثم صلوا معهم واجعلوها سبحة " وهو حديث حسن أخرجه النسائي وغيره، فالتقدير على هذا: فإن أصابوا الوقت وإن أخطؤوا الوقت فلكم يعني الصلاة التي في الوقت. انتهى. وغفل عن الزيادة التي في رواية أحمد فإنها تدل على أن المراد صلاتهم معهم لا عند الانفراد، وكذا أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طرق عن الحسن بن موسى، وقد أخرج ابن حبان حديث أبي هريرة من وجه آخر أصرح في مقصود الترجمة ولفظه: "يكون أقوام يصلون الصلاة، فإن أتموا فلكم ولهم " وروى أبو داود من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: "من أم الناس فأصاب الوقت فله ولهم" . وفي رواية أحمد في هذا الحديث: "فإن صلوا الصلاة لوقتها وأتموا الركوع والسجود فهي لكم ولهم " فهذا يبين أن المراد

(2/187)


ما هو أعم من ترك إصابة الوقت، قال ابن المنذر: هذا الحديث يرد على من زعم أن صلاة الإمام إذا فسدت فسدت صلاة من خلفه. قوله: "وإن أخطؤوا" أي ارتكبوا الخطيئة، ولم يرد به الخطأ المقابل للعمد لأنه لا إثم فيه. قال المهلب: فيه جواز الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف منه. ووجه غيره قوله إذا خيف منه بأن الفاجر إنما يؤم إذا كان صاحب شوكة. وقال البغوي في شرح السنة: فيه دليل على أنه إذا صلى بقوم محدثا أنه تصح صلاة المأمومين وعليه الإعادة. واستدل به غيره على أعم من ذلك وهو صحة الائتمام بمن يخل بشيء من الصلاة ركنا كان أو غيره إذا أتم المأموم، وهو عند الشافعية بشرط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه، والأصح عندهم صحة الاقتداء بمن علم أنه ترك واجبا. ومنهم من استدل به على الجواز مطلقا بناء على أن المراد بالخطأ ما يقابل العمد، قال: ومحل الخلاف في الأمور الاجتهادية كمن يصلي خلف من لا يرى قراءة البسملة ولا أنها من أركان القراءة ولا أنها آية من الفاتحة بل يرى أن الفاتحة تجزئ بدونها قال: فإن صلاة المأموم تصح إذا قرأ هو البسملة لأن غاية حال الإمام في هذه الحالة أن يكون أخطأ. وقد دل الحديث على أن خطأ الإمام لا يؤثر في صحة صلاة المأموم إذا أصاب. "تنبيه": حديث الباب من رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وفيه مقال، وقد ذكرنا له شاهدا عند ابن حبان، وروى الشافعي معناه من طريق صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "يأتي قوم فيصلون لكم، فإن أتموا كان لهم ولكم، وإن نقصوا كان عليهم ولكم" .

(2/188)


56 - باب إِمَامَةِ الْمَفْتُونِ وَالْمُبْتَدِعِ وَقَالَ الْحَسَنُ صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ
695- قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ فَقَالَ الصَّلاَةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ"
وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ قَالَ الزُّهْرِيُّ لاَ نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ لاَ بُدَّ مِنْهَا "
696- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي ذَرٍّ اسْمَعْ وَأَطِعْ وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ
قوله: "باب إمامة المفتون" أي الذي دخل في الفتنة فخرج على الإمام، ومنهم من فسره بما هو أعم من ذلك. قوله: "والمبتدع" أي من اعتقد شيئا مما يخالف أهل السنة والجماعة. قوله: "وقال الحسن صل وعليه بدعته" وصله سعيد بن منصور عن ابن المبارك عن هشام بن حسان أن الحسن سئل عن الصلاة خلف صاحب البدعة فقال الحسن " صل خلفه وعليه بدعته". قوله: "وقال لنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، قيل عبر بهذه الصيغة لأنه مما أخذه من شيخه في المذاكرة فلم يقل فيه حدثنا، وقيل إن ذلك مما تحمله بالإجازة أو المناولة أو العرض، وقيل: هو متصل من حيث اللفظ منقطع من حيث المعنى. والذي ظهر لي بالاستقراء خلاف ذلك، وهو أنه متصل لكنه لا يعبر بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن موقوفا أو كان فيه راو ليس على شرطه، والذي هنا من قبيل الأول، وقد وصله الإسماعيلي

(2/188)


من رواية محمد بن يحيى قال: حدثنا محمد بن يوسف الفريابي. قوله: "عن حميد بن عبد الرحمن" أي ابن عوف. وفي رواية الإسماعيلي: "أخبرني حميد". وأخرجه الإسماعيلي من طريق أخرى عن الأوزاعي، وخالفه يونس بن يزيد فقال: عن الزهري عن عروة أخرجه الإسماعيلي أيضا، وكذلك رواه معمر عن الزهري أخرجه عمر بن شبة في " كتاب مقتل عثمان " عن غندر عنه، ويحتمل أن يكون للزهري فيه شيخان. قوله: "عن عبيد الله بن عدي" في رواية ابن المبارك عن الأوزاعي عند الإسماعيلي وأبي نعيم " حدثني عبيد الله بن عدي بن الخيار من بني نوفل بن عبد مناف " وعبيد الله المذكور تابعي كبير معدود في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان عثمان من أقارب أمه كما سيأتي في موضعه. قوله: "إنك إمام عامة" أي جماعة. وفي رواية يونس " وأنت الإمام " أي الأعظم. قوله: "ونزل بك ما نرى" أي من الحصار. قوله: "ويصلي لنا" أي يؤمنا. قوله: "إمام فتنة" أي رئيس فتنة، واختلف في المشار إليه بذلك فقيل: هو عبد الرحمن بن عديس البلوى أحد رءوس المصريين الذين حصروا عثمان، قاله ابن وضاح فيما نقله عنه ابن عبد البر وغيره. وقاله ابن الجوزي وزاد: إن كنانة بن بشر أحد رءوسهم صلى بالناس أيضا. قلت: وهو المراد هنا، فإن سيف بن عمر روى حديث الباب في " كتاب الفتوح " من طريق أخرى عن الزهري بسنده فقال فيه: "دخلت على عثمان وهو محصور وكنانة يصلي بالناس فقلت كيف ترى " الحديث. وقد صلى بالناس يوم حصر عثمان أبو أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري لكن بإذن عثمان، ورواه عمر بن شبة بسند صحيح، ورواه ابن المديني من طريق أبي هريرة. وكذلك صلى بهم علي بن أبي طالب فيما رواه إسماعيل الخطي في " تاريخ بغداد " من رواية ثعلبة بن يزيد الحماني قال: فلما كان يوم عيد الأضحى جاء علي فصلى بالناس. وقال ابن المبارك فيما رواه الحسن الحلواني: لم يصل بهم غيرها. وقال غيره: صلى بهم عدة صلوات وصلى بهم أيضا سهل بن حنيف، رواه عمر بن شبة بإسناد قوى. وقيل صلى بهم أيضا أبو أيوب الأنصاري وطلحة بن عبيد الله، وليس واحد من هؤلاء مرادا بقوله إمام فتنة. وقال الداودي: معنى قوله: "إمام فتنة " أي إمام وقت فتنة، وعلى هذا لا اختصاص له بالخارجي. قال: ويدل على صحة ذلك أن عثمان لم يذكر الذي أمهم بمكروه بل ذكر أن فعله أحسن الأعمال. انتهى. وهذا مغاير لمراد المصنف من ترجمته، ولو كان كما قال لم يكن قوله: "ونتحرج " مناسبا. قوله: "ونتحرج" في رواية ابن المبارك " وأنا لنتحرج من الصلاة معه " والتحرج التأثم، أي نخاف الوقوع في الإثم، وأصل الحرج الضيق، ثم استعمل للإثم. لأنه يضيق على صاحبه. قوله: "فقال الصلاة أحسن" في رواية ابن المبارك " أن الصلاة أحسن " وفي رواية معقل بن زياد عن الأوزاعي عند الإسماعيلي: "من أحسن". قوله: "فإذا أحسن الناس فأحسن" ظاهره أنه رخص له في الصلاة معهم كأنه يقول لا يضرك كونه مفتونا، بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه واترك ما افتتن به، وهو المطابق لسياق الباب، وهو الذي فهمه الداودي حتى احتاج إلى تقدير حذف في قوله إمام فتنة، وخالف ابن المنير فقال: يحتمل أن يكون رأى أن الصلاة خلفه لا تصح فحاد عن الجواب بقوله إن الصلاة أحسن، لأن الصلاة التي هي أحسن هي الصلاة الصحيحة، وصلاة الخارجي غير صحيحة لأنه إما كافر أو فاسق. انتهى. وهذا قاله نصرة لمذهبه في عدم صحة الصلاة خلف الفاسق، وفيه نظر لأن سيفا روى في الفتوح عن سهل بن يوسف الأنصاري عن أبيه قال: كره الناس الصلاة خلف الذين حصروا عثمان إلا عثمان فإنه قال: من دعا إلى الصلاة فأجيبوه. انتهى. فهذا صريح في أن مقصوده بقوله: "الصلاة أحسن " الإشارة إلى الإذن

(2/189)


بالصلاة خلفه، وفيه تأييد لما فهمه المصنف من قوله إمام فتنة، وروى سعيد بن منصور من طريق مكحول قال: قالوا لعثمان إنا نتحرج أن نصلي خلف هؤلاء الذين حصروك، فذكر نحو حديث الزهري. وهذا منقطع إلا أنه اعتضد. قوله: "وإذا أساؤوا فاجتنب" فيه تحذير من الفتنة والدخول فيها ومن جميع ما ينكر من قول أو فعل أو اعتقاد، وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة ولا سيما في زمن الفتنة لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تكره الصلاة خلفه أولى من تعطيل الجماعة، وفيه رد على زعم أن الجمعة لا يجزئ أن تقام بغير إذن الإمام. قوله: "وقال الزبيدي" بضم الزاي هو محمد بن الوليد. قوله: "المخنث" رويناه بكسر النون وفتحها، فالأول المراد به من فيه تكسر وتثن وتشبه بالنساء. والثاني المراد به من يؤتي، وبه جزم أبو عبد الملك فيما حكاه ابن التين محتجا بأن الأول لا مانع من الصلاة خلفه إذا كان ذلك أصل خلقته. ورد بأن المراد من يتعمد ذلك فيتشبه بالنساء فإن ذلك بدعة قبيحة، ولهذا جوز الداودي أن يكون كل منهما مرادا. قال ابن بطال: ذكر البخاري هذه المسألة هنا لأن المخنث مفتتن في طريقته. قوله: "إلا من ضرورة" أي بأن يكون ذا شوكة أو من جهته فلا تعطل الجماعة بسببه، وقد رواه معمر عن الزهري بغير قيد أخرجه عبد الرزاق عنه ولفظه: "قلت: فالمخنث؟ قال: لا ولا كرامة، لا يؤتم به " وهو محمول على حالة الاختيار. قوله: "حدثنا محمد بن أبان" هو البلخي مستملى وكيع، وقيل الواسطي وهو محتمل لكن لم نجد للواسطي رواية عن غندر بخلاف البلخي، وقد تقدم عنه بموضع آخر في المواقيت وهذا جميع ما أخرج عنه البخاري. قوله: "اسمع وأطع" تقدم الكلام عليه قبل بباب، قال ابن المنير: وجه دخوله في هذا الباب أن الصفة المذكورة إنما توجد غالبا في عجمي حديث عهد بالإسلام لا يخلو من جهل بدينه، وما يخلو من هذه صفته ارتكاب البدعة، ولو لم يكن إلا افتتانه بنفسه حتى تقدم للإمامة وليس من أهلها.

(2/190)


باب يقوم عن يمين الإمام يحذائه سواء إذا كانا اثنين
...
57 - باب يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ
697- حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن الحكم قال سمعت سعيد بن جبير عن بن عباس رضي الله عنهما قال "بت في بيت خالتي ميمونة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم جاء فصلى أربع ركعات ثم نام ثم قام فجئت فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه فصلى خمس ركعات ثم صلى ركعتين ثم نام حتى سمعت غطيطه أو قال خطيطه ثم خرج إلى الصلاة"
[انظر الحديث 117 وأطرافه ]
قوله: "باب يقوم" أي المأموم "عن يمين الإمام بحذائه" بكسر المهملة وذال معجمة بعدها مدة، أي بجنبه، فأخرج بذلك من كان خلفه أو مائلا عنه. و قوله: "سواء" أخرج به من كان إلى جنبه لكن على بعد عنه، كذا قال الزين بن المنير، والذي يظهر أن قوله بحذائه يخرج هذا أيضا. وقوله سواء أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي انتزاع هذا من الحديث الذي أورده بعد. وقد قال أصحابنا: يستحب أن يقف المأموم دونه قليلا، وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه، فقد تقدم في الطهارة من رواية مخرمة عن كريب عن ابن عباس بلفظ: "فقمت إلى جنبه " وظاهره المساواة. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس نحوا من هذه القصة، وعن

(2/190)


ابن جريج قال قلت لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال: إلى شقه الأيمن. قلت: أيحاذى به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم. قلت: أتحب أن يساويه حتى لا تكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. وفي الموطأ عن عبد الله بن عتبة ابن مسعود قال: "دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح، فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه". قوله: "إذا كانا" أي إماما ومأموما، بخلاف ما إذا كانا مأمومين مع إمام فلهما حكم آخر. "تنبيه": هكذا في جميع الروايات " باب " بالتنوين " يقوم الخ"، وأورده الزين بن المنير بلفظ: "باب من يقوم " بالإضافة وزيادة من، وشرحه على ذلك، وتردد بين كونها موصولة أو استفهامية ثم أطال في حكمة ذلك وأن سببه كون المسألة مختلفا فيها. والواقع أن من محذوفه والسياق ظاهر في أن المصنف جازم بحكم المسألة لا متردد والله أعلم. وقد نقل بعضهم الاتفاق على أن المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام إلا النخعي فقال: "إذا كان الإمام ورجل قام الرجل خلف الإمام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه " أخرجه سعيد بن منصور، ووجهه بعضهم بأن الإمام مظنة الاجتماع فاعتبرت في موقف المأموم حتى يظهر خلاف ذلك، وهو حسن لكنه مخالف للنص، وهو قياس فاسد ثم ظهر لي أن إبراهيم إنما كان يقول بذلك حيث يظن ظنا قويا مجيء ثان، وقد روى سعيد بن منصور أيضا عنه قال: "ربما قمت خلف الأسود وحدي حتى يجيء المؤذن " وذكر البيهقي أنه يستفاد من حديث الباب امتناع تقديم المأموم على الإمام خلافا لمالك، لما في رواية مسلم: "فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه " وفيه نظر.

(2/191)


58 - باب إِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الإِمَامِ فَحَوَّلَهُ الإِمَامُ إِلَى يَمِينِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُمَا
698- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ فَأَخَذَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَصَلَّى ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ نَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ ثُمَّ أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَخَرَجَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ قَالَ عَمْرٌو فَحَدَّثْتُ بِهِ بُكَيْرًا فَقَالَ حَدَّثَنِي كُرَيْبٌ بِذَلِكَ" قوله: "باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام الخ " وجه الدلالة من حديث ابن عباس المذكور أنه صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاة ابن عباس مع كونه قام عن يساره أولا، وعن أحمد تبطل لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقره على ذلك، والأول هو قول الجمهور، بل قال سعيد بن المسيب: إن موقف المأموم الواحد يكون عن يسار الإمام، ولم يتابع على ذلك. قوله: "حدثنا أحمد" لم أره منسوبا في شيء من الروايات، لكن جزم أبو نعيم في المستخرج بأنه ابن صالح وأخرجه من طريقه. قوله: "عمرو" هو ابن الحارث المصري، وكذا وقع عند أبي نعيم. قوله: "عن عبد ربه" بفتح الراء وتشديد الموحدة وهو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين مدنيون على نسق. قوله: "نمت" في رواية الكشميهني: "بت". قوله: "فأخذني فجعلني" قد تقدم أنه أداره من خلفه، واستدل به على أن مثل ذلك من العمل لا يفسد الصلاة كما سيأتي. قوله: "قال عمرو" أي ابن الحارث المذكور بالإسناد المذكور إليه، ووهم من زعم أنه من تعليق البخاري، فقد ساقه أبو نعيم مثل سياقه، وبكير المذكور في هذا هو ابن عبد الله بن الأشج، واستفاد عمرو بن الحارث بهذه الرواية عنه العلو برجل.

(2/191)


باب إذا لم ينو الإمام أن يؤم ثم جاء فوم فأمهم
...
59 - باب إِذَا لَمْ يَنْوِ الإِمَامُ أَنْ يَؤُمَّ ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ فَأَمَّهُمْ
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ"
قوله: "باب إذا لم ينو الإمام أن يؤم الخ" لم يجزم يحكم المسألة لما فيه من الاحتمال، لأنه ليس في حديث ابن عباس التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينو الإمامة، كما أنه ليس فيه أنه نوى لا في ابتداء صلاته ولا بعد أن قام ابن عباس فصلى معه، لكن في إيقافه إياه منه موقف المأموم ما يشعر بالثاني، وأما الأول فالأصل عدمه، وهذه المسألة مختلف فيها، والأصح عند الشافعية لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الإمام الإمامة، واستدل ابن المنذر أيضا بحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في شهر رمضان قال: "فجئت فقمت إلى جنبه، وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطا، فلما أحس النبي صلى الله عليه وسلم بنا تجوز في صلاته " الحديث، وهو ظاهر في أنه لم ينو الإمامة ابتداء، وائتموا هم به وأقرهم. وهو حديث صحيح أخرجه مسلم وعلقه البخاري كما سيأتي في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى. وذهب أحمد إلى التفرقة بين النافلة والفريضة فشرط أن ينوي في الفريضة دون النافلة، وفيه نظر لحديث أبي سعيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه " أخرجه أبو داود وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. قوله: "عن عبد الله بن سعيد بن جبير" هو من أقران أيوب الراوي عنه، ورجال الإسناد كلهم بصريون، وسيأتي الكلام على بقية فوائد حديث ابن عباس المذكور في هذه الأبواب الثلاثة تاما في كتاب الوتر إن شاء الله تعالى

(2/192)


باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى
...
60 - باب إِذَا طَوَّلَ الإِمَامُوَكَانَ لِلرَّجُلِ حَاجَةٌ فَخَرَجَ فَصَلَّى
700- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ"
[الحديث700- أطرافه : 6106,711,705,701]
701- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى الْعِشَاءَ فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ فَكَأَنَّ مُعَاذًا تَنَاوَلَ مِنْهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فَتَّانٌ فَتَّانٌ فَتَّانٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ أَوْ قَالَ فَاتِنًا فَاتِنًا فَاتِنًا وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ قَالَ عَمْرٌو لاَ أَحْفَظُهُمَا
قوله باب إذا طول الإمام وكان للرجل أي المأموم حاجة فخرج وصلى وللكشميهني فصلى بالفاء وهذه الترجمة عكس التي قبلها لأن في الأولى جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة وفي الثانية جواز قطع الائتمام بعد

(2/192)


الدخول فيه وأما قوله في الترجمة فخرج فيحتمل أنه خرج من القدوة أو من الصلاة رأسا أو من المسجد قال بن رشيد الظاهر أن المراد خرج إلى منزله فصلى فيه وهو ظاهر قوله في الحديث فانصرف الرجل قال وكان سبب ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يصلي أصلاتان معا كما تقدم قلت وليس الواقع كذلك فإن في رواية النسائي فانصرف الرجل فصلى في ناحية المسجد وهذا يحتمل أن يكون قطع الصلاة أو القدوة لكن في مسلم فانحرف ثم صلى وحده واعلم أن هذا الحديث رواه عن جابر عمرو بن دينار ومحارب بن دثار وأبو الزبير وعبيد الله بن مقسم فرواية عمرو للمصنف هنا عن شعبة وفي الأدب عن سليم بن حيان ولمسلم عن أبي عيينة ثلاثتهم عنه ورواية محارب تأتي بعد بابين وهي ثم النسائي مقرونه بأبي صالح ورواية أبي الزبير ثم مسلم ورواية عبيد الله ثم بن خزيمة وله طرق هذه سأذكر ما يحتاج إليه منها معزوا وإنما قدمت ذكر هذه لتسهل الحوالة عليه قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، والظاهر أن روايته عن شعبة مختصرة كما هنا وكذلك أخرجها البيهقي من طريق محمد بن أيوب الرازي عنه. وقال الكرماني: الظاهر من قوله: "فصلى العشاء الخ " داخل تحت الطريق الأولى، وكان الحامل له على ذلك أنها لو خلت عن ذلك لم تطابق الترجمة ظاهرا. لكن لقائل أن يقول: إن مراد البخاري بذلك الإشارة إلى أصل الحديث على عادته، واستفاد بالطريق الأولى علو الإسناد، كما أن في الطريق الثانية فائدة التصريح بسماع عمرو من جابر.
قوله: "يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم" زاد سلم من رواية منصور عن عمرو " عشاء الآخرة " فكأن العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين.
قوله: "ثم يرجع فيؤم قومه" في رواية منصور المذكورة " فيصلي بهم تلك الصلاة " وللمصنف في الأدب " فيصلي بهم الصلاة " أي المذكورة، وفي هذا رد على من زعم أن المراد أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي صلى الله عليه وسلم غير الصلاة التي كان يصليها بقومه.
وفي رواية ابن عيينة " فصلى ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم أتى قومه فأمهم " وفي رواية الحميدي عن ابن عيينة " ثم يرجع إلى بني سلمة فيصليها بهم " ولا مخالفة فيه لأن قومه هم بنو سلمة.
وفي رواية الشافعي عنه " ثم يرجع فيصليها بقومه في بني سلمة " ولأحمد " ثم يرجع فيؤمنا".
"فصلى العشاء" كذا في معظم الروايات، ووقع في رواية لأبي عوانة والطحاوي من طريق محارب " صلى بأصحابه المغرب " وكذا لعبد الرزاق من رواية أبي الزبير، فإن حمل على تعدد القصة كما سيأتي أو على أن المراد بالمغرب العشاء مجازا تم، وإلا فما في الصحيح أصح. قوله: "فقرأ بالبقرة" استدل به على من يكره أن يقول البقرة بل سورة البقرة، لكن في رواية الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه: "فقرأ سورة البقرة " ولمسلم عن ابن عيينة نحوه، وللمصنف في الأدب " فقرأ بهم البقرة " فالظاهر أن ذلك من تصرفات الرواة، والمراد أنه ابتدأ في قراءتها، وبه صرح مسلم ولفظه: "فافتتح سورة البقرة " وفي رواية محارب " فقرأ بسورة البقرة أو النساء " على الشك، وللسراج من رواية مسعر عن محارب " فقرأ بالبقرة والنساء " كذا رأيته بخط الزكي البرزالي بالواو، فإن كان ضبطه احتمل أن يكون قرأ في الأولى بالبقرة وفي الثانية بالنساء، ووقع عند أحمد من حديث بريدة بإسناد قوى " فقرأ اقتربت الساعة " وهي شاذة إلا إن حمل على التعدد، ولم يقع في شيء من الطرق المتقدمة تسمية هذا الرجل، لكن روى أبو داود الطيالسي في مسنده والبزار من طريقه عن طالب بن حبيب عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه قال: "مر حزم بن أبي بن كعب بمعاذ بن جبل وهو يصلي بقومه صلاة العتمة فافتتح بسورة طويلة ومع حزم ناضح له " الحديث. قال البزار: لا

(2/193)


نعلم أحدا سماه عن جابر إلا ابن جابر ا هـ. وقد رواه أبو داود في السنن من وجه آخر عن طالب فجعله عن ابن جابر عن حزم صاحب القصة، وابن جابر لم يدرك حزما. ووقع عنده " صلاة المغرب " وهو نحو ما تقدم من الاختلاف في رواية محارب، ورواه ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر فسماه حازما وكأنه صحفه أخرجه ابن شاهين من طريقه، ورواه أحمد والنسائي وأبو يعلى وابن السكن بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: "كان معاذ يؤم قومه فدخل حرام وهو يريد أن يسقي نخله " الحديث كذا فيه براء بعدها ألف، وظن بعضهم أنه حرام بن ملحان خال أنس وبذلك جزم الخطيب في المبهمات، لكن لم أره منسوبا في الرواية، ويحتمل أن يكون تصحيفا من حزم فتجتمع هذه الروايات، وإلى ذلك يومئ صنيع ابن عبد البر فإنه ذكر في الصحابة حرام بن أبي بن كعب وذكر له. هذه القصة، وعزا تسميته لرواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس، ولم أقف في رواية عبد العزيز على تسمية أبيه وكأنه بنى على أن اسمه تصحف والأب واحد، سماه جابر ولم يسمه أنس، وجاء في تسميته قول آخر أخرجه أحمد أيضا من رواية معاذ بن رفاعة عن رجل من بني سلمة يقال له سليم أنه " أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، إنا نظل في أعمالنا فنأتي حين نمسي فنصلي، فيأتي معاذ بن جبل فينادي بالصلاة فنأتيه فيطول علينا " الحديث، وفيه أنه استشهد بأحد، وهذا مرسل لأن معاذ بن رفاعة لم يدركه، وقد رواه الطحاوي والطبراني من هذا الوجه عن معاذ ابن رفاعة أن رجلا من بني سلمة فذكره مرسلا، ورواه البزار من وجه آخر عن جابر وسماه سليما أيضا، لكن وقع عند ابن حزم من هذا الوجه أن اسمه سلم بفتح أوله وسكون اللام وكأنه تصحيف والله أعلم. وجمع بعضهم بين هذا الاختلاف بأنهما واقعتان، وأيد ذلك بالاختلاف في الصلاة هل هي العشاء أو المغرب وبالاختلاف في السورة هل هي البقرة أو اقتربت، وبالاختلاف في عذر الرجل هل هو لأجل التطويل فقط لكونه جاء من العمل وهو تعبان أو لكونه أراد أن يسقي نخله إذ ذاك أو لكونه خاف على الماء في النخل كما في حديث بريدة. واستشكل هذا الجمع لأنه لا يظن بمعاذ أنه صلى الله عليه وسلم يأمره بالتخفيف ثم يعود إلى التطويل، ويجاب عن ذلك باحتمال أن يكون قرأ أولا بالبقرة فلما نهاه قرأ اقتربت وهي طويلة بالنسبة إلى السور التي أمره أن يقرأ بها كما سيأتي، ويحتمل أن يكون النهي أولا وقع لما يخشى من تنفير بعض من يدخل في الإسلام، ثم لما اطمأنت نفوسهم بالإسلام ظن أن المانع زال فقرأ باقتربت لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فصادف صاحب الشغل، وجمع النووي باحتمال أن يكون قرأ في الأولى بالبقرة فانصرف رجل، ثم قرأ اقتربت في الثانية فانصرف آخر. ووقع في رواية أبي الزبير عند مسلم: "فانطلق رجل منا " وهذا يدل على أنه كان من بني سلمة، ويقوى رواية من سماه سليما، والله أعلم. قوله: "فانصرف الرجل" اللام فيه للعهد الذهني، ويحتمل أن يراد به الجنس، فكأنه قال واحد من الرجال، لأن المعرف تعريف الجنس كالنكرة في مؤداه. ووقع في رواية الإسماعيلي: "فقام رجل فانصرف " وفي رواية سليم بن حيان " فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة " ولابن عيينة عند مسلم: "فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده " وهو ظاهر في أنه قطع الصلاة، لكن ذكر البيهقي أن محمد بن عباد شيخ مسلم تفرد عن ابن عيينة بقوله: "ثم سلم"، وأن الحفاظ من أصحاب ابن عيينة وكذا من أصحاب شيخه عمرو بن دينار وكذا من أصحاب جابر لم يذكروا السلام، وكأنه فهم أن هذه اللفظة تدل على أن الرجل قطع الصلاة لأن السلام يتحلل به من الصلاة، وسائر الروايات تدل على أنه قطع القدوة فقط ولم يخرج من الصلاة بل استمر فيها منفردا. قال الرافعي في " شرح المسند " في الكلام

(2/194)


على رواية الشافعي عن ابن عيينة في هذا الحديث: "فتنحى رجل من خلفه فصلى وحده". هذا يحتمل من جهة اللفظ أنه قطع الصلاة وتنحى عن موضع صلاته واستأنفها لنفسه، لكنه غير محمول عليه لأن الفرض لا يقطع بعد الشروع فيه. انتهى. ولهذا استدل به الشافعية على أن للمأموم أن يقطع القدوة ويتم صلاته منفردا. ونازع النووي فيه فقال: لا دلالة فيه لأنه ليس فيه أنه فارقه وبنى على صلاته، بل في الرواية التي فيها أنه سلم دليل على أنه قطع الصلاة من أصلها ثم استأنفها، فيدل على جواز قطع الصلاة وإبطالها لعذر. قوله: "فكأن معاذ ينال منه" وللمستملى " تناول منه " وللكشميهني: "فكأن - بهمزة ونون مشددة - معاذا تناول منه " والأولى تدل على كثرة ذلك منه بخلاف الثانية، ومعنى ينال منه أو تناوله: ذكره بسوء، وقد فسره في رواية سليم بن حيان ولفظه: "فبلغ ذلك معاذا فقال إنه منافق " وكذا لأبي الزبير، ولابن عيينة " فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا، والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه " وكأن معاذا قال ذلك أولا ثم قاله أصحاب معاذ للرجل. قوله: "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم" بين ابن عيينة في روايته وكذا محارب وأبو الزبير أنه الذي جاء فاشتكى من معاذ. وفي رواية النسائي: "فقال معاذ: لئن أصبحت لأذكرن ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأرسل إليه فقال: ما حملك على الذي صنعت؟ فقال: يا رسول الله عملت على ناضح لي " فذكر الحديث، وكأن معاذل سبقه بالشكوى، فلما أرسل إليه جاء فاشتكى من معاذ. قوله: "فقال فتان" في رواية ابن عيينة " أفتان أنت " زاد محارب " ثلاثا". قوله: "أو قال فاتنا" شك من الراوي، وهو منصوب على أنه خبر كان المقدرة. وفي رواية أبي الزبير " أتريد أن تكون فاتنا " ولأحمد في حديث معاذ بن رفاعة المتقدم " يا معاذ لا تكن فاتنا " وزاد في حديث أنس " لا تطول بهم " ومعنى الفتنة هاهنا أن التطويل يكون سببا لخروجهم من الصلاة وللتكره للصلاة في الجماعة، وروى البيهقي في الشعب بإسناد صحيح عن عمر قال: "لا تبغضوا إلى الله عباده صلى الله عليه وسلم يكون أحدكم إماما فيطول على القوم الصلاة حتى يبغض إليهم ما هم فيه". وقال الداودي: يحتمل أن يريد بقوله: "فتان " أي معذب لأنه عذبهم بالتطويل، ومنه قول الله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين} قيل معناه عذبوهم. قوله: "وأمره بسورتين من أوسط المفصل، قال عمرو" أي ابن دينار "لا أحفظهما" وكأنه قال ذلك في حال تحديثه لشعبة، وإلا ففي رواية سليم بن حيان عن عمرو " اقرأ والشمس وضحاها وسبح اسم ربك الأعلى ونحوها". وقال في رواية ابن عيينة عند مسلم: "اقرأ بكذا واقرأ بكذا " قال ابن عيينة: فقلت لعمرو إن أبا الزبير حدثنا عن جابر أنه قال: "اقرأ بالشمس وضحاها والليل إذا يغشى وبسبح اسم ربك الأعلى " فقال عمرو نحو هذا، وجزم بذلك محارب في حديثه عن جابر. وفي رواية الليث عن أبي الزبير عند مسلم مع الثلاثة "اقرأ باسم ربك " زاد ابن جريج عن أبي الزبير " والضحى " أخرجه عبد الرزاق. وفي رواية الحميدي عن ابن عيينة مع الثلاثة الأول " والسماء ذات البروج والسماء والطارق " وفي المراد بالمفصل أقوال ستأتي في فضائل القرآن أصحها أنه من أول ق إلى آخر القرآن. قوله: "أوسط" يحتمل أن يريد به المتوسط والسور التي مثل بها من قصار المتوسط، ويحتمل أن يريد به المعتدل أي المناسب للحال من المفصل، والله أعلم. واستدل بهذا الحديث على صحة اقتداء المفترض بالمتنفل، بناء على أن معاذا كان ينوي بالأولى الفرض وبالثانية النفل، ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوي والدار قطني وغيرهم من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب زاد

(2/195)


"هي له تطوع ولهم فريضة " وهو حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه فانتفت تهمة تدليسه، فقول ابن الجوزي إنه لا يصح مردود، وتعليل الطحاوي له بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق ابن جريج ولم يذكر هذه الزيادة ليس بقادح في صحته، لأن ابن جريج أسن وأجل من ابن عيينة وأقدم أخذا عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه ولا أكثر عددا فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها. وأما رد الطحاوي لها باحتمال أن تكون مدرجة فجوابه أن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل، فمهما كان مضموما إلى الحديث فهو منه ولا سيما إذا روى من وجهين، والأمر هنا كذلك، فإن الشافعي أخرجها من وجه آخر عن جابر متابعا لعمرو بن دينار عنه، وقول الطحاوي هو ظن من جابر مردود لأن جابرا كان ممن يصلي مع معاذ فهو محمول على أنه سمع ذلك منه ولا يظن بجابر أنه يخبر عن شخص بأمر غير مشاهد إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه. وأما احتجاج أصحابنا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " فليس بجيد، لأن حاصله النهي عن التلبس بصلاة غير التي أقيمت من غير تعرض لنية فرض أو نفل، ولو تعينت نية الفريضة لامتنع على معاذ أن يصلي الثانية بقومه لأنها ليست حينئذ فرضا له، وكذلك قول بعض أصحابنا لا يظن بمعاذ أن يترك فضيلة الفرض خلف أفضل الأئمة في المسجد الذي هو من أفضل المساجد، فإنه وإن كان فيه نوع ترجيح لكن للمخالف أن يقول: إذا كان ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يمتنع أن يحصل له الفضل بالاتباع، وكذلك قول الخطابي إن العشاء في قوله: "كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء " حقيقة في المفروضة، فلا يقال كان ينوي بها التطوع لأن لمخالفه أن يقول: هذا لا ينافي أن ينوي بها التنفل. وأما قول ابن حزم: إن المخالفين لا يجيزون لمن عليه فرض إذا أقيم أن يصليه متطوعا فكيف ينسبون إلى معاذ ما لا يجوز عندهم؟ فهذا إن كان كما قال نقص قوي، وأسلم الأجوبة التمسك بالزيادة المتقدمة. وأما قول الطحاوي: لا حجة فيها لأنها لم تكن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقريره، فجوابه أنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة وفيهم ثلاثون عقبيا وأربعون بدريا، قاله ابن حزم، قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر وابن عمر وأبو الدرداء وأنس وغيرهم. وأما قول الطحاوي: لو سلمنا جميع ذلك لم يكن فيه حجة لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تصلي مرتين، أي فيكون منسوخا، فقد تعقبه ابن دقيق العيد بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال وهو لا يسوغ، وبأنه يلزمه إقامة الدليل على ما ادعاه من إعادة الفريضة ا هـ. وكأنه لم يقف على كتابه فإنه قد ساق فيه دليل ذلك وهو حديث ابن عمر رفعه: "لا تصلوا الصلاة في اليوم مرتين " ومن وجه آخر مرسل " إن أهل العالية كانوا يصلون في بيوتهم ثم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فنهاهم " ففي الاستدلال بذلك على تقدير صحته نظر، لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلوها مرتين على أنها فريضة، وبذلك جزم البيهقي جمعا بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ، لم يكن بعيدا، ولا يقال القصة قديمة لأن صاحبها استشهد بأحد لأنا نقول: كانت أحد في أواخر الثالثة فلا مانع أن يكون النهي في الأولى والإذن في الثالثة مثلا، وقد قال صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين لم يصليا معه " إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها نافلة " أخرجه أصحاب السنن من حديث يزيد بن الأسود

(2/196)


العامري وصححه ابن خزيمة وغيره، وكان ذلك في حجة الوداع في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على الجواز أيضا أمره صلى الله عليه وسلم لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها أن " صلوها في بيوتكم في الوقت ثم اجعلوها معهم نافلة" . وأما استدلال الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم نهي معاذا عن ذلك بقوله في حديث سليم بن الحارث " إما أن تصلي معي وإما أن تخفف بقومك " ودعواه أن معناه إما أن تصلي معي ولا تصل بقومك وإما أن تخفف بقومك ولا تصل معي، ففيه نظر لأن لمخالفه أن يقول: بل التقدير إما أن تصلي معي فقط إذا لم تخفف وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي، وهو أولى من تقديره، لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف لأنه هو المسئول عنه المتنازع فيه، وأما تقوية بعضهم بكونه منسوخا بأن صلاة الخوف وقعت مرارا على صفة فيها مخالفة ظاهرة بالأفعال المنافية في حال الأمن، فلو جازت صلاة المفترض خلف المتنفل لصلى النبي صلى الله عليه وسلم بهم مرتين على وجه لا تقع فيه منافاة، فلما لم يفعل دل ذلك على المنع، فجوابه أنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف مرتين كما أخرجه أبو داود عن أبي بكرة صريحا، ولمسلم عن جابر نحوه، وأما صلاته بهم على نوع من المخالفة فلبيان الجواز. وأما قول بعضهم كان فعل معاذ للضرورة لقلة القراء في ذلك الوقت فهو ضعيف كما قال ابن دقيق العيد، لأن القدر المجزئ من القراءة في الصلاة كان حافظوه كثيرا، وما زاد لا يكون سببا لارتكاب أمر ممنوع منه شرعا في الصلاة. وفي حديث الباب من الفوائد أيضا استحباب تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين، وأما من قال لا يكره التطويل إذا علم رضاء المأمومين فيشكل عليه أن الإمام قد لا يعلم حال من يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة كما في حديث الباب، فعلى هذا يكره التطويل مطلقا إلا إذا فرض في مصل بقوم محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم. وفيه أن الحاجة من أمور الدنيا عذر في تخفيف الصلاة، وجواز إعادة الواحدة في اليوم الواحد مرتين صلى الله عليه وسلم وجواز خروج المأموم من الصلاة لعذر، وأما بغير عذر فاستدل به بعضهم وتعقب. وقال ابن المنير: لو كان كذلك لم يكن لأمر الأئمة بالتخفيف فائدة، وفيه نظر لأن فائدة الأمر بالتخفيف المحافظة على صلاة الجماعة، ولا ينافي ذلك جواز الصلاة منفردا، وهذا كما استدل بعضهم بالقصة على وجوب صلاة الجماعة وفيه نحو هذا النظر. وفيه جواز صلاة المنفرد في المسجد الذي يصلي فيه بالجماعة إذا كان بعذر. وفيه الإنكار بلطف لوقوعه بصورة الاستفهام، ويؤخذ منه تعزيز كل أحد بحسبه، والاكتفاء في التعزيز بالقول، والإنكار في المكروهات، وأما تكراره ثلاثا فللتأكيد، وقد تقدم في العلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه. وفيه اعتذار من وقع منه خطأ في الظاهر، وجواز الوقوع في حق من وقع في محذور ظاهر وإن كان له عذر باطن للتنفير عن فعل ذلك، وأنه لا لوم على من فعل ذلك متأولا، وأن التخلف عن الجماعة من صفة المنافق.

(2/197)


61 - باب تَخْفِيفِ الإِمَامِ فِي الْقِيَامِ وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
702- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ سَمِعْتُ قَيْسًا قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لاَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فَمَا رَأَيْتُ
ـــــــ
(1) ليس هذا على إطلاقه , بل إنما يجوز ذلك لمسوغ شرعي كمن صلى وحده في جماعة ثم حضر جماعة أخرى شرع له أن يعيد الصلاة معهم لصحة الأحاديث بالأمر بذلك, ومثل ذلك لو كان أماما راتبا للجماعة الثانية كقصة معاذ . والله أعلم

(2/197)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ"
قوله: "باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود" قال الكرماني: الواو بمعنى مع كأنه قال باب التخفيف بحيث لا يفوقه شيء من الواجبات، فهو تفسير لقوله في الحديث: "فليتجوز " لأنه لا يأمر بالتجوز المؤدي إلى فساد الصلاة، قال ابن المنير وتبعه ابن رشيد وغيره: خص التخفيف في الترجمة بالقيام مع أن لفظ الحديث أعم حيث قال: "فليتجوز " لأن الذي يطول في الغالب إنما هو القيام، وما عداه لا يشق إتمامه على أحد، وكأنه حمل حديث الباب على قصة معاذ، فإن الأمر بالتخفيف فيها مختص بالقراءة. انتهى ملخصا. والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالترجمة إلى بعض ما ورد في بعض طرق الحديث كعادته، وأما قصة معاذ فمغايرة لحديث الباب لأن قصة معاذ كانت في العشاء وكان الإمام فيها معاذا وكانت في مسجد بني سلمة، وهذه كانت في الصبح وكانت في مسجد قباء، ووهم من فسر الإمام المبهم هنا بمعاذ، بل المراد به أبي بن كعب كما أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن من رواية عيسى بن جارية وهو بالجيم عن جابر قال: "كان أبي بن كعب يصلي بأهل قباء فاستفتح سورة طويلة، فدخل معه غلام من الأنصار في الصلاة، فلما سمعه استفتحها انفتل من صلاته، فغضب أبي فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أبيا، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه ثم قال: إن منكم منفرين، فإذا صليتم فأوجزوا، فإن خلفكم الضعيف والكبير والمريض وذا الحاجة " فأبان هذا الحديث أن المراد بقوله في حديث الباب: "مما يطيل بنا فلان " أي في القراءة، واستفيد منه أيضا تسمية الإمام وبأي موضع كان. وفي الطبراني من حديث عدي بن حاتم " من أمنا فليتم الركوع والسجود". وفي قول ابن المنير إن الركوع والسجود لا يشق إتمامهما نظر، فإنه إن أراد أقل ما يطلق عليه اسم تمام فذاك لا بد منه، وإن أراد غاية التمام فقد يشق، فسيأتي حديث البراء قريبا أنه صلى الله عليه وسلم كان قيامه وركوعه وسجوده قريبا من السواء. قوله: "حدثنا زهير" هو ابن معاوية الجعفي، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وأبو مسعود هو الأنصاري البدري، والإسناد كله كوفيون. قوله: "أن رجلا" لم أقف على اسمه، ووهم من زعم أنه حزم بن أبي كعب لأن قصته كانت مع معاذ لا مع أبي بن كعب. قوله: "إني لأتأخر عن صلاة الغداة" أي فلا أحضرها مع الجماعة لأجل التطويل. وفي رواية ابن المبارك في الأحكام " والله إني لأتأخر " بزيادة القسم، وفيه جواز مثل ذلك لأنه لم ينكر عليه، وتقدم في كتاب العلم في " باب الغضب في العلم " بلفظ: "إني لا أكاد أدرك الصلاة " وتقدم توجيهه. ويحتمل أيضا أن يكون المراد أن الذي ألفه من تطويله اقتضى له أن يتشاغل عن المجيء في أول الوقت وثوقا بتطويله، بخلاف ما إذا لم يكن يطول فإنه كان يحتاج إلى المبادرة إليه أول الوقت، وكأنه يعتمد على تطويله فيتشاغل ببعض شغله ثم يتوجه فيصادف أنه تارة يدركه وتارة لا يدركه فلذلك قال: "لا أكاد أدرك مما يطول بنا " أي بسبب تطويله. واستدل به على تسمية الصبح بذلك، ووقع في رواية سفيان الآتية قريبا " عن الصلاة في الفجر " وإنما خصها بالذكر لأنها تطول فيها القراءة غالبا، ولأن الانصراف منها وقت التوجه لمن له حرفة إليها. قوله: "أشد" بالنصب وهو نعت لمصدر محذوف أي غضبا أشد، وسببه إما لمخالفة الموعظة أو للتقصير في تعلم ما ينبغي تعلمه، كذا قاله ابن دقيق العيد،

(2/198)


وتعقبه تلميذه أبو الفتح اليعمري بأنه يتوقف على تقدم الإعلام بذلك، قال: ويحتمل أن يكون ما ظهر من الغضب لإرادة الاهتمام بما يلقيه لأصحابه ليكونوا من سماعه على بال لئلا يعود من فعل ذلك إلى مثله. وأقول: هذا أحسن في الباعث على أصل إظهار الغضب، أما كونه أشد فالاحتمال الثاني أوجه ولا يرد عليه التعقب المذكور. قوله: "إن منكم منفرين" فيه تفسير للمراد بالفتنة في قوله في حديث معاذ " أفتان أنت " ويحتمل أن تكون قصة أبي هذه بعد قصة معاذ، فلهذا أتى بصيغة الجمع. وفي قصة معاذ واجهه وحده بالخطاب، وكذا ذكر في هذا الغضب ولم يذكره في قصة معاذ، وبهذا يتوجه الاحتمال الأول لابن دقيق العيد. قوله: "فأيكم ما صلى" ما زائدة، ووقع في رواية سفيان " فمن أم الناس".
قوله: "فليخفف" قال ابن دقيق العيد: التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية فقد يكون الشيء خفيفا بالنسبة إلى عادة قوم طويلا بالنسبة لعادة آخرين. قال: وقول الفقهاء لا يزيد الإمام في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات لا يخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على ذلك لأن رغبة الصحابة في الخير تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلا قلت: وأولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " أنت إمام قومك، وأقدر القوم بأضعفهم " إسناده حسن وأصله في مسلم. قوله: "فإن فيهم" في رواية سفيان " فإن خلفه " وهو تعليل الأمر المذكور، ومقتضاه أنه متى لم يكن فيهم متصف بصفة من المذكورات لم يضر التطويل، وقد قدمت ما يرد عليه في الباب الذي قبله من إمكان مجيء من يتصف بإحداها. وقال اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقا. قال: وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر وعلل بالمشقة، وهو مع ذلك يشرع ولو لم يشق عملا بالغالب، لأنه لا يدري ما يطرأ عليه، وهنا كذلك. قوله: "الضعيف والكبير" كذا للأكثر، ووقع في رواية سفيان في العلم " فإن فيهم المريض والضعيف " وكأن المراد بالضعيف هنا المريض وهناك من يكون ضعيفا في خلقته كالنحيف والمسن، وسيأتي في الباب الذي بعده مزيد قول فيه.

(2/199)


62 - باب إِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ
703- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ مِنْهُمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ
قوله: "باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" يريد أن عموم الأمر بالتخفيف مختص بالأئمة، فأما المنفرد فلا حجر عليه في ذلك. لكن اختلف فيما إذا أطال القراءة حتى خرج الوقت كما سنذكره. قوله: "فإن فيهم" كذا للأكثر، وللكشميهني: "فإن منهم" . قوله: "الضعيف والسقيم" المراد بالضعيف هنا ضعيف الخلقة وبالسقيم من به مرض، زاد مسلم من وجه آخر عن أبي الزناد " والصغير والكبير " وزاد الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص " والحامل والمرضع " وله من حديث عدي بن حاتم " والعابر السبيل " وقوله في حديث أبي مسعود الماضي " وذا الحاجة " وهي أشمل الأوصاف المذكورة. قوله: "فليطول ما شاء" ولمسلم: "فليصل كيف شاء " أي مخففا أو مطولا

(2/199)


واستدل به على جواز إطالة القراءة ولو خرج الوقت، وهو المصحح عند بعض أصحابنا وفيه نظر، لأنه يعارضه عموم قوله في حديث أبي قتادة " إنما التفريط أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى " أخرجه مسلم، وإذا تعارضت مصلحة المبالغة في الكمال بالتطويل ومفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها كانت مراعاة ترك المفسدة أولى، واستدل بعمومه أيضا على جواز تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين.

(2/200)


63 - باب مَنْ شَكَا إِمَامَهُ إِذَا طَوَّلَ وَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ طَوَّلْتَ بِنَا يَا بُنَيَّ
704- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود قال قال رجل ثم يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضبا منه يومئذ ثم قال يا أيها الناس إن منكم منفرين فمن أم الناس فليتجوز فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة"
705- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ النِّسَاءِ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ أَوْ أَفَاتِنٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ " .. أَحْسِبُ هَذَا فِي الْحَدِيثِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ وَمِسْعَرٌ وَالشَّيْبَانِيُّ
قَالَ عَمْرٌو وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مِقْسَمٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَرَأَ مُعَاذٌ فِي الْعِشَاءِ بِالْبَقَرَةِ وَتَابَعَهُ الأَعْمَشُ عَنْ مُحَارِبٍ قوله: "باب من شكا إمامه إذا طول" فيه حديث أبي مسعود وهو ظاهر في الترجمة، وكذا حديث جابر، والتعليق عن أبي أسيد وهو الأنصاري وصله ابن أبي شيبة من رواية المنذر بن أبي أسيد قال: "كان أبي يصلي خلفي، فربما قال: يا بني طولت بنا اليوم " واستفيد منه تسمية الابن المذكور، وفيه حجة على من كره للرجل أن يؤم أباه كعطاء، ورأيت بخط البدر الزركشي أنه رأى في بعض نسخ البخاري " وكره عطاء أن يؤم الرجل أباه " فإن ثبت ذلك فقد وصل ابن أبي شيبة هذا التعليق، وكأن المنذر كان إماما راتبا في المسجد. "تنبيه": وقع في رواية المستملي: "أبو أسيد " بفتح الهمزة والصواب الضم كما للباقين. قوله في حديث محارب عن جابر "أقبل رجل بناضحين" الناضح بالنون والضاد المعجمة والحاء المهملة ما استعمل من الإبل في سقى النخل والزرع. قوله: "وقد جنح الليل" أي أقبل بظلمته، وهو يؤيد أن الصلاة المذكورة كانت العشاء كما تقدم. قوله: "بسورة البقرة أو النساء" زاد أبو داود الطيالسي عن شعبة شك محارب، وفي هذا رد على من زعم أن الشك فيه من جابر. قوله: "فلولا صليت" أي فهلا صليت. قوله: "فإنه يصلي وراءك" تقدم شرحه في الباب الذي قبله فكان هذا هو الحامل لمن وحد بين

(2/200)


القصتين، لكن في ثبوت هذه الزيادة في هذه القصة نظر، لقوله بعدها "أحسب هذا في الحديث" يعني هذه الجملة الأخيرة " فإنه يصلي الخ"، وقائل ذلك هو شعبة الراوي عن محارب، وقد رواه غير شعبة من أصحاب محارب عنه بدونها، وكذا أصحاب جابر. قوله: "تابعه سعيد بن مسروق" هو والد سفيان الثوري، وروايته هذه وصلها أبو عوانة من طريق أبي الأحوص عنه، ومتابعة مسعر وصلها السراج من رواية أبي نعيم عنه، ومتابعة الشيباني وهو أبو إسحاق وصلها البزار من طريقه كلهم عن محارب، والمراد أنهم تابعوا شعبة عن محارب في أصل الحديث لا في جميع ألفاظه. قوله: "قال عمرو" هو ابن دينار وقد تقدمت روايته قبل ببابين، ورواية عبيد الله بن مقسم وصلها ابن خزيمة من رواية محمد بن عجلان عنه وهي عند أبي داود باختصار، ورواية أبي الزبير وصلها عبد الرزاق عن ابن جريج عنه وهي عند مسلم من طريق الليث عنه لكن لم يعين أن السورة البقرة. قوله: "وتابعه الأعمش عن محارب" أي تابع شعبة، وروايته عند النسائي من طريق محمد بن فضيل عن الأعمش عن محارب وأبي صالح كلاهما عن جابر بطوله وقال فيه: "فيطول بهم معاذ " ولم يعين السورة.

(2/201)


64 - باب الإِيجَازِ فِي الصَّلاَةِ وَإِكْمَالِهَا
706- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِزُ الصَّلاَةَ وَيُكْمِلُهَا
قوله: "عبد العزيز" هو ابن صهيب، والإسناد كله بصريون.
والمراد بالإيجاز مع الإكمال الإتيان بأقل ما يمكن من الأركان والأبعاض.

(2/201)


65 - باب مَنْ أَخَفَّ الصَّلاَةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصَّبِيِّ
707- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي لاَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ تَابَعَهُ بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَبَقِيَّةُ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ
[ الحديث707- طرفه في:868]
708- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلاَةً وَلاَ أَتَمَّ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ

(2/201)


66- باب إِذَا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْمًا
711- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ قَالاَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ
تقدم الحديث من وجه آخر عن عمرو.

(2/203)


67- باب مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإِمَامِ
712- حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الله بن داود قال حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أتاه يؤذنه بالصلاة فقال مروا أبا بكر فليصل قلت إن أبا بكر رجل أسيف إن يقم مقامك يبك فلا يقدر على القراءة قال مروا أبا بكر فليصل فقلت مثله فقال في الثالثة أو الرابعة إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل فصلى وخرج النبي صلى الله عليه وسلم يهادى بين رجلين كأني أنظر إليه يخط برجليه الأرض فلما رآه أبو بكر ذهب يتأخر فأشار إليه أن صل فتأخر أبو بكر رضي الله عنه وقعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه وأبو بكر يسمع الناس التكبير تابعه محاضر عن الأعمش
قوله: "باب من أسمع الناس تكبير الإمام" تقدم الكلام على حديث عائشة في " باب حد المريض أن يشهد الجماعة " والشاهد فيه قوله: "وأبو بكر يسمع الناس التكبير " وهذه اللفظة مفسرة عند الجمهور للمراد بقوله في الرواية الماضية " وكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر " وقد ذكر البخاري أن

(2/203)


68 - باب الرَّجُلُ يَأْتَمُّ بِالإِمَامِ وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ
وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ
714- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِلاَلٌ يُؤذِنُهُ بِالصَّلاَةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى مَا يَقُمْ مَقَامَكَ لاَ يُسْمِعُ النَّاسَ فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لاَ يُسْمِعُ النَّاسَ فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ قَالَ إِنَّكُنَّ لاَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَقَامَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَرِجْلاَهُ يَخُطَّانِ فِي الأَرْضِ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَأَخَّرُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَاعِدًا يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مُقْتَدُونَ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قوله: "باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم" قال ابن بطال: هذا موافق لقول مسروق والشعبي إن الصفوف يؤم بعضها بعضا خلافا للجمهور، قلت: وليس المراد أنهم يأتمون بهم في التبليغ فقط كما فهمه بعضهم بل الخلاف معنوي، لأن الشعبي قال فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رءوسهم من الركعة: إنه أدركها ولو كان الإمام رفع قبل ذلك، لأن بعضهم لبعض أئمة. انتهى. فهذا يدل على أنه يرى أنهم يتحملون عن بعضهم بعض ما يتحمله الإمام، وأثر الشعبي الأول وصله عبد الرزاق، والثاني وصله ابن أبي شيبة، ولم يفصح البخاري باختياره في هذه المسألة لأنه بدأ بالترجمة الدالة على أن المراد بقوله: "ويأتم الناس بأبي بكر " أي أنه في مقام المبلغ، ثم ثنى بهذه الرواية التي أطلق فيها اقتداء الناس بأبي بكر، ورشح ظاهرها. بظاهر الحديث المعلق، فيحتمل أن يكون يذهب إلى قول الشعبي ويرى أن قوله في الرواية الأولى " يسمع الناس التكبير " لا ينفي كونهم يأتمون به لأن إسماعه لهم التكبير جزء من أجزاء ما يأتمون به فيه، وليس فيه نفي لغيره. ويؤيد ذلك رواية الإسماعيلي من طريق عبد الله بن داود المذكور ووكيع جميعا عن الأعمش بهذا الإسناد قال فيه: "والناس يأتمون بأبي بكر وأبو بكر يسمعهم" . قوله: "ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم" هذا طرف من حديث أبي سعيد الخدري قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه

(2/204)


تأخرا فقال: تقدموا وائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم " الحديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن من رواية أبي نضرة عنه. قيل: وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض لأن أبا نضرة ليس على شرطه لضعف فيه، وهذا عندي ليس بصواب، لأنه لا يلزم من كونه على غير شرطه أنه لا يصلح عنده للاحتجاج به، بل قد يكون صالحا للاحتجاج به عنده وليس هو على شرط صحيحه الذي هو أعلى شروط الصحة. والحق أن هذه الصيغة لا تختص بالضعيف بل قد تستعمل في الصحيح أيضا. بخلاف صيغة الجزم فإنها لا تستعمل إلا في الصحيح، وظاهره يدل لمذهب الشعبي. وأجاب النووي بأن معنى " وليأتم بكم من بعدكم " أي يقتدي بكم من خلفكم مستدلين على أفعالي بأفعالكم، قال: وفيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الإمام الذي لا يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه أو صف قدامه يراه متابعا للإمام، وقيل: معناه تعلموا مني أحكام الشريعة وليتعلم منكم التابعون بعدكم وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدنيا. قوله: "مروا أبا بكر يصلي" كذا فيه بإثبات الياء، وقد تقدم توجيه ابن مالك له. ووقع في رواية الكشميهني: "أن يصلي". قوله: "متى يقوم" كذا وقع للأكثر في الموضعين بإثبات الواو، ووجهه ابن مالك بأنه شبه متى بإذا فلم تجزم، كما شبه إذا بمتى في قوله: "إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعا وثلاثين " فحذف النون. ووقع في رواية الكشميهني: "متى ما يقم " ولا إشكال فيها. قوله: "تخطان الأرض" في رواية الكشميهني: "يخطان في الأرض". وقد تقدمت بقية مباحث الحديث في " باب حد المريض " وقوله في السند " الأعمش عن إبراهيم عن الأسود " كذا للجميع وهو الصواب، وسقط إبراهيم بين الأعمش والأسود من رواية أبي المروزي وهو وهم قاله الجياني.

(2/205)


69 - باب هَلْ يَأْخُذُ الإِمَامُ إِذَا شَكَّ بِقَوْلِ النَّاسِ
714- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك بن أنس عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق ذو اليدين فقال الناس نعم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول
715- حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين فقيل صليت ركعتين فصلى ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتين
قوله: "باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس" أورد فيه قصة ذي اليدين في السهو، وسيأتي الكلام عليها في موضعه. قال الزين بن المنير: أراد أن محل الخلاف في هذه المسألة هو ما إذا كان الإمام شاكا، أما إذا كان على يقين من فعل نفسه فلا خلاف أنه لا يرجع إلى أحد. انتهى. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم شك بأخبار ذي اليدين فسألهم إرادة تيقن أحد الأمرين، فلما صدقوا ذا اليدين علم صحة قوله، قال: وهذا الذي أراد البخاري بتبويبه. وقال ابن بطال بعد أن حكى الخلاف في هذه المسألة: حمل الشافعي رجوعه عليه الصلاة والسلام على أنه تذكر فذكر، وفيه نظر، لأنه لو كان كذلك لبينه لهم ليرتفع اللبس، ولو بينه لنقل، ومن ادعى ذلك فليذكره. قلت: قد ذكره أبو داود من طريق الأوزاعي عن الزهري عن سعيد وعبيد الله عن أبي هريرة بهذه القصة قال: "ولم

(2/205)


يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك".

(2/206)


70 - باب إِذَا بَكَى الإِمَامُ فِي الصَّلاَةِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}
حدثنا إسماعيل قال حدثنا مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم في مرضه مروا أبا بكر يصلي بالناس قالت عائشة قلت إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل فقال مروا أبا بكر فليصل للناس قالت عائشة لحفصة قولي له إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس ففعلت حفصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مه إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل للناس قالت حفصة لعائشة ما كنت لأصيب منك خيرا
قوله: "باب إذا بكى الإمام في الصلاة" أي هل تفسد أو لا؟ والأثر والخبر اللذان في الباب يدلان على الجواز، وعن الشعبي والنخعي والثوري أن البكاء والأنين يفسد الصلاة. وعن المالكية والحنفية إن كان لذكر النار والخوف لم يفسد، وفي مذهب الشافعي ثلاثة أوجه أصحها إن ظهر منه حرفان أفسد وإلا فلا. ثانيها وحكى عن نصه في الإملاء أنه لا يفسد مطلقا لأنه ليس من جنس الكلام ولا يكاد يبين منه حرف محقق فأشبه الصوت الغفل. ثالثها عن القفال إن كان فمه مطبقا لم يفسد وإلا أفسد إن ظهر منه حرفان، وبه قطع المتولي. والوجه الثاني أقوى دليلا. "فائدة": أطلق جماعة التسوية بين الضحك والبكاء. وقال المتولي: لعل الأظهر في الضحك البطلان مطلقا لما فيه من هتك حرمة الصلاة، وهذا أقوى من حيث المعنى، والله أعلم. قوله: "وقال عبد الله بن شداد" أي ابن الهاد، وهو تابعي كبير له رؤية ولأبيه صحبة. قوله: "سمعت نشيج عمر" النشيج - بفتح النون وكسر المعجمة وآخره جيم - قال ابن فارس: نشج الباكي ينشج نشيجا إذا غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب. وقال الهروي: النشيج صوت معه ترجيع كما يردد الصبي بكاءه في صدره. وفي " المحكم ": هو أشد البكاء. وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن إسماعيل بن محمد بن سعد سمع عبد الله بن شداد بهذا وزاد: "في صلاة الصبح". وأخرجه ابن المنذر من طريق عبيد بن عمير عن عمر نحوه، وقد تقدم الكلام على حديث أبي بكر وقوله فيه: "من البكاء " أي لأجل البكاء. وفي الباب حديث عبد الله بن الشخير " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء " رواه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل وإسناده قوى، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووهم من زعم أن مسلما أخرجه. والمرجل بكسر الميم وفتح الجيم القدر إذا غلت. والأزيز بفتح الهمزة بعدها زاي ثم تحتانية ساكنة ثم زاي أيضا وهو صوت القدر إذا غلت، وفي لفظ: "كأزيز الرحى" .

(2/206)


71 - باب تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ الإِقَامَةِ وَبَعْدَهَا
717- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمَ

(2/206)


باب إفبال الإمام على الناس عن تسوية الصفوف
...
72 - باب إِقْبَالِ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ
719- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي"
قوله: "باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف" أورد فيه حديث أنس الذي في الباب قبله، وقد تقدم الكلام عليه فيه. قوله: "حدثنا معاوية بن عمرو" هو من قدماء شيوخ البخاري، وروى له هنا بواسطة، فكأنه لم يسمعه منه وإنما نزل فيه لما وقع في الإسناد من تصريح حميد بتحديث أنس له فأمن بذلك تدليسه. قوله: "وتراصوا" بتشديد الصاد المهملة أي تلاصقوا بغير خلل، ويحتمل أن يكون تأكيدا لقوله أقيموا، والمراد بأقيموا سووا كما وقع في رواية معمر عن حميد عند الإسماعيلي بدل أقيموا واعتدلوا، وفيه جواز الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة، وقد تقدم في باب مفرد، وفيه مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة.

(2/208)


73 - باب الصَّفِّ الأَوَّلِ
720- حدثنا أبو عاصم عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم " الشهداء الغرق والمطعون والمبطون والهدم "
721- وقال "ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا ولو يعلمون ما في الصف المقدم لاستهموا "
قوله: "باب الصف الأول" والمراد به ما يلي الإمام مطلقا، وقيل أول صف تام يلي الإمام، لا ما تخلله شيء كمقصورة. وقيل المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصفوف قاله ابن عبد البر واحتج بالاتفاق على أن من جاء أول الوقت ولم يدخل في الصف الأول فهو أفضل ممن جاء في آخره وزاحم إليه، ولا حجة له في ذلك كما لا يخفى. قال النووي: القول الأول هو الصحيح المختار وبه صرح المحققون، والقولان الآخران غلط صريح. انتهى. وكأن صاحب القول الثاني لحظ أن المطلق ينصرف إلى الكامل، وما فيه خلل فهو ناقص، وصاحب القول الثالث لحظ المعنى في تفضيل الصف الأول دون مراعاة لفظه، وإلى الأول أشار البخاري لأنه ترجم بالصف الأول وحديث الباب فيه الصف المقدم وهو الذي لا يتقدمه إلا الإمام، قال العلماء: في الحض على الصف الأول المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين.

(2/208)


3 - باب إِقَامَةُ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ
722- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ

(2/208)


75 - باب إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِيُّ عَنْ بُشَيْرِ

(2/209)


ابْنِ يَسَارٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلاَّ أَنَّكُمْ لاَ تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ"
وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ قَدِمَ عَلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْمَدِينَةَ بِهَذَا
قوله: "باب إثم من لم يتم الصفوف" قال ابن رشيد: أورد فيه حديث أنس " ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف " وتعقب بأن الإنكار قد يقع على ترك السنة فلا يدل ذلك على حصول الإثم، وأجيب بأنه لعله حمل الأمر في قوله تعالى:{فليحذر الذين يخالفون عن أمره" على أن المراد بالأمر الشأن والحال لا مجرد الصيغة، فيلزم منه أن من خالف شيئا من الحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم أن يأثم لما يدل عليه الوعيد المذكور في الآية، وإنكار أنس ظاهر في أنهم خالفوا ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة الصفوف، فعلى هذا تستلزم المخالفة التأثيم. انتهى كلام ابن رشيد ملخصا. وهو ضعيف لأنه يفضي إلى أن لا يبقى شيء مسنون، لأن التأثيم إنما يحصل عن ترك واجب. وأما قول ابن بطال: إن تسوية الصفوف لما كانت من السنن المندوب إليها التي يستحق فاعلها المدح عليها دل على أن تاركها يستحق الذم، فهو متعقب من جهة أنه لا يلزم من ذم تارك السنة أن يكون آثما. سلمنا، لكن يرد عليه التعقب الذي قبله. ويحتمل أن يكون البخاري أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله: "سووا صفوفكم " ومن عموم قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي " ومن ورود الوعيد على تركه، فرجح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن، ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنسا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة. وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان، ونازع من ادعى الإجماع على عدم الوجوب بما صح عن عمر أنه ضرب قدم أبي عثمان النهدي لإقامة الصف، وبما صح عن سويد بن غفلة قال: "كان بلال يسوي مناكبنا ويضرب أقدامنا في الصلاة " فقال: ما كان عمر وبلال يضربان أحدا على ترك غير الواجب وفيه نظر، لجواز أنهما كانا يريان التعزير على ترك السنة. قوله: "بشير" هو بالمعجمة مصغر. قوله: "ما أنكرت منذ يوم عهدت" في رواية المستملي والكشميهني: "ما أنكرت منا منذ عهدت" قوله: "وقال عقبة بن عبيد" هو أبو الرحال بفتح الراء وتشديد الحاء المهملة وهو أخو سعيد بن عبيد راوي الإسناد الذي قبله، وليس لعقبة في البخاري إلا هذا الموضع المعلق، وأراد به بيان سماع بشير بن يسار له من أنس، وقد وصله أحمد في مسنده عن يحيى القطان عن عقبة بن عبيد الطائي " حدثني بشير بن يسار قال: جاء أنس إلى المدينة فقلنا ما أنكرت منا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أنكرت منكم شيئا غير أنكم لا تقيمون الصفوف". "تنبيه": هذه القدمة لأنس غير القدمة التي تقدم ذكرها في " باب وقت العصر"، فإن ظاهر الحديث فيها أنه أنكر تأخير الظهر إلى أول وقت العصر كما مضى، وهذا الإنكار أيضا غير الإنكار الذي تقدم ذكره في " باب تضييع الصلاة عن وقتها " حيث قال: "لا أعرف شيئا مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا الصلاة وقد ضيعت " فإن ذاك كان بالشام وهذا بالمدينة، وهذا يدل على أن أهل المدينة كانوا في ذلك الزمان أمثل من غيرهم في التمسك بالسنن.

(2/210)


إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصلاة
...
76 - باب إِلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ فِي الصَّفِّ
وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ
725- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ"
قوله: "باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف" المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله، وقد ورد الأمر بسد خلل الصف والترغيب فيه في أحاديث كثيرة أجمعها حديث ابن عمر عند أبي داود وصححه ابن خزيمة والحاكم ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله ". قوله: "وقال النعمان بن بشير" هذا طرف من حديث أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة من رواية أبي القاسم الجدلي واسمه حسين بن الحارث قال: "النعمان بن بشير يقول: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم ثلاثا، والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم . قال: فلقد رأيت الرجل منا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه " واستدل بحديث النعمان هذا على أن المراد بالكعب في آية الوضوء العظم الناتئ في جانبي الرجل - وهو عند ملتقى الساق والقدم - وهو الذي يمكن أن يلزق بالذي بجنبه، خلافا لمن ذهب أن المراد بالكعب مؤخر القدم، وهو قول شاذ ينسب إلى بعض الحنفية ولم يثبته محققوهم وأثبته بعضهم في مسألة الحج لا الوضوء، وأنكر الأصمعي قول من زعم أن الكعب في ظهر القدم. قوله: "عن أنس" رواه سعيد بن منصور عن هشيم فصرح فيه بتحديث أنس لحميد وفيه الزيادة التي في آخره وهي قوله: "وكان أحدنا الخ " وصرح بأنها من قول أنس. وأخرجه الإسماعيلي من رواية معمر عن حميد بلفظ: "قال أنس: فلقد رأيت أحدنا الخ " وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته، وزاد معمر في روايته: "ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس".

(2/211)


باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام وخلفه إلى يمينه تمت صلاته
...
77 - باب إِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الإِمَامِ وَحَوَّلَهُ الإِمَامُ خَلْفَهُ إِلَى يَمِينِهِ تَمَّتْ صَلاَتُهُ
726- حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا داود عن عمرو بن دينار عن كريب مولى بن عباس عن بن عباس رضي الله عنهما قال ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقمت عن يساره فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه فصلى ورقد فجاءه المؤذن فقام وصلى ولم يتوضأ "
قوله: "باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام وحوله الإمام خلفه إلى يمينه تمت صلاته" تقدم أكثر لفظ هذه الترجمة قبل بنحو من عشرين بابا لكن ليس هناك لفظ: "خلفه " وقال هناك " لم تفسد صلاتهما " بدل قوله: "تمت صلاته " وأخرج هناك حديث ابن عباس هذا لكن من وجه آخر، ولم ينبه أحد من الشراح على حكمة هذه الإعادة، بل أسقط بعضهم الكلام على هذا الباب. والذي يظهر لي أن حكمهما مختلف لاختلاف الجوابين، فقوله: "لم تفسد

(2/211)


صلاتهما " أي بالعمل الواقع منهما لكونه خفيفا وهو من مصلحة الصلاة أيضا، وقوله: "تمت صلاته " أي المأموم ولا يضر وقوفه عن يسار الإمام أولا مع كونه في غير موقفه، ولأنه معذور بعدم العلم بذلك الحكم. ويحتمل أن يكون الضمير للإمام وتوجيهه أن الإمام وحده في مقام الصف، ومحاولته لتحويل المأموم فيه التفات ببعض بدنه ولكن ليس تركا لإقامة الصف للمصلحة المذكورة، فصلاته على هذا لا نقص فيها من هذه الجهة والله أعلم. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الضمير للرجل لأن الفاعل وإن تأخر لفظا لكنه متقدم رتبة فلكل منها قرب من وجه. قلت: لكن إذا عاد الضمير للإمام أفاد أنه احترز أن يحوله من بين يديه لئلا يصير كالمار بين يديه.

(2/212)


78 - باب الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا
727- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا
" قوله: "باب المرأة وحدها تكون صفا" أي في حكم الصف، وبهذا يندفع اعتراض الإسماعيلي حيث قال: الشخص الواحد لا يسمى صفا، وأقل ما يقوم الصف باثنين. ثم إن هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه ابن عبد البر من حديث عائشة مرفوعا: "والمرأة وحدها صف". قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وإن كان عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قد روى هذا الحديث أيضا عن سفيان وهو ابن عيينة. قوله: "عن إسحاق عن أنس" في رواية الحميدي عند أبي نعيم وعلي بن المديني عند الإسماعيلي كلاهما عن سفيان " حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك". قوله: "صليت أنا ويتيم" كذا للجميع، وكذا وقع في خبر يحيى بن يحيى المشهور من روايته عن ابن عيينة. ووقع عند ابن فتحون فيما رواه عن ابن السكن بسنده في الخبر المذكور " صليت أنا وسليم " بسين مهملة ولام مصغرا فتصحفت على الراوي من لفظ: "يتيم " ومشى على ذلك ابن فتحون فقال في ذيله على الاستيعاب: سليم غير منسوب وساق هذا الحديث. ثم إن هذا طرف من حديث اختصره سفيان وطوله مالك كما تقدم في " باب الصلاة على الحصير " واستدل بقوله: "فصففت أنا واليتيم وراءه " على أن السنة في موقف الاثنين أن يصفا خلف الإمام، خلافا لمن قال من الكوفيين أن أحدهما يقف عن يمينه والآخر عن يساره، وحجتهم في ذلك حديث ابن مسعود الذي أخرجه أبو داود وغيره عنه أنه أقام علقمة عن يمينه والأسود عن شماله، وأجاب عنه ابن سيربن بأن ذلك كان لضيق المكان، رواه الطحاوي. قوله: "وأمي أم سليم خلفنا" فيه أن المرأة لا تصف مع الرجال، وأصله ما يخشى من الافتتان بها فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور، وعن الحنفية تفسد صلاة الرجل دون المرأة، وهو عجيب وفي توجيهه تعسف حيث قال قائلهم: دليله قول ابن مسعود " أخروهن من حيث أخرهن الله " والأمر للوجوب، وحيث ظرف مكان ولا مكان يجب تأخرهن فيه إلا مكان الصلاة فإذا حاذت الرجل فسدت صلاة الرجل لأنه ترك ما أمر به من تأخيرها، وحكاية هذا تغني عن تكلف جوابه، والله المستعان. فقد ثبت النهي عن الصلاة في الثوب المغصوب وأمر لابسه أن ينزعه، فلو خالف فصلى فيه ولم ينزعه أثم وأجزأته صلاته، فلم لا يقال في الرجل الذي حاذته المرأة ذلك؟ وأوضح منه لو كان لباب المسجد صفة مملوكة فصلى فيها شخص بغير إذنه مع اقتداره على أن ينتقل عنها إلى أرض المسجد بخطوة واحدة صحت صلاته وأثم، وكذلك الرجل مع المرأة التي حاذته ولا سيما إن

(2/212)


جاءت بعد أن دخل في الصلاة فصلت بجنبه. وقال ابن رشيد: الأقرب أن البخاري قصد أن يبين أن هذا مستثنى من عموم الحديث الذي فيه: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف " يعني أنه مختص بالرجال، والحديث المذكور أخرجه ابن حبان من حديث علي بن شيبان، وفي صحته نظر كما سنذكره في " باب إذا ركع دون الصف " واستدل به ابن بطال على صحة صلاة المنفرد خلف الصف خلافا لأحمد، قال: لأنه لما ثبت ذلك للمرأة كان للرجل أولى، لكن لمخالفه أن يقول: إنما ساغ ذلك لامتناع أن تصف مع الرجال، بخلاف الرجل فإن له أن يصف معهم وأن يزاحمهم وأن يجذب رجلا من حاشية الصف فيقوم معه فافترقا. وباقي مباحثه تقدمت في " باب الصلاة على الحصير".

(2/213)


79 - باب مَيْمَنَةِ الْمَسْجِدِ وَالإِمَامِ
828- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قُمْتُ لَيْلَةً أُصَلِّي عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِي أَوْ بِعَضُدِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ وَقَالَ بِيَدِهِ مِنْ وَرَائِي "
قوله: "باب ميمنة المسجد والإمام" أورد فيه حديث ابن عباس مختصرا، وهو موافق للترجمة: أما للإمام فبالمطابقة، وأما للمسجد فباللزوم. وقد تعقب من وجه آخر، وهو أن الحديث إنما ورد فيما إذا كان المأموم واحدا، أما إذا كثروا فلا دليل فيه على فضيلة ميمنة المسجد. وكأنه أشار إلى ما أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن البراء قال: "كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه" ، ولأبي داود بإسناد حسن عن عائشة مرفوعا: "أن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف". وأما ما رواه ابن ماجه عن ابن عمر قال: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ميسرة المسجد تعطلت، فقال: من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر " ففي إسناده مقال. وإن ثبت فلا يعارض الأول لأن ما ورد لمعنى عارض يزول بزواله. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل التبوذكي، وعاصم هو ابن سليمان. قوله: "وقال بيده" أي تناول، ويدل عليه رواية الإسماعيلي: "فأخذ بيدي". قوله: "من ورائي" في رواية الكشميهني: "من ورائه " وهو أوجه.

(2/213)


80 - باب إِذَا كَانَ بَيْنَ الإِمَامِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ حَائِطٌ أَوْ سُتْرَةٌ وَقَالَ الْحَسَنُ لاَ بَأْسَ أَنْ تُصَلِّيَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ نَهْرٌ
وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ يَأْتَمُّ بِالإِمَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَوْ جِدَارٌ إِذَا سَمِعَ تَكْبِيرَ الإِمَامِ
729- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ فَقَامَ مَعَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَخْرُجْ فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ فَقَالَ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ
ـــــــ
(1) في جواز الجذب المذكور نظر , لأن الحديث الوارد فيه ضعيف , ولأن الجذب يفضى إلى إيجاد فرجة في الصف والمشروع سد الخلل , فالأولى ترك الجذب وأن يلتمس موضعا في الصف أو يقف عن يمين الامام . والله أعلم

(2/213)


81 - باب صَلاَةِ اللَّيْلِ
730- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ حَصِيرٌ يَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ وَيَحْتَجِرُهُ بِاللَّيْلِ فَثَابَ إِلَيْهِ نَاسٌ فَصَلَّوْا وَرَاءَهُ"
731- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ حُجْرَةً قَالَ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ حَصِيرٍ فِي رَمَضَانَ فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ

(2/214)


قَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا مُوسَى سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ عَنْ بُسْرٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 731- طرفاه في: 7290,6113]
قوله: "باب صلاة الليل" كذا وقع في رواية المستملي وحده، ولم يعرج عليه أكثر الشراح ولا ذكره الإسماعيلي، وهو السياق لأن التراجم متعلقة بأبواب الصفوف وإقامتها، ولما كانت الصلاة بالحائل قد يتخيل أنها مانعة من إقامة الصف. ترجم لها وأوردها ما عنده فيها، فأما صلاة الليل بخصوصها فلها كتاب مفرد سيأتي في أواخر الصلاة، وكأن النسخة وقع فيها تكرير لفظ: "صلاة الليل " وهي الجملة التي في آخر الحديث الذي قبله فظن الراوي أنها ترجمة مستقلة فصدرها بلفظ: "باب " وقد تكلف ابن رشيد توجيهها بما حاصله: إن من صلى بالليل مأموما في الظلمة كانت فيه مشابهة بمن صلى وراء حائل. وأبعد منه من قال: يريد أن من صلى بالليل مأموما في الظلمة كان كمن صلى وراء حائط. ثم ظهر لي احتمال أن يكون المراد صلاة الليل جماعة فحذف لفظ جماعة. والذي يأتي في أبواب التهجد إنما هو حكم صلاة الليل وكيفيتها في عدد الركعات أو في المسجد أو البيت وهو ذلك. قوله: "عن المقبري" هو سعيد، والإسناد كله مدنيون. قوله: "ويحتجزه" كذا للأكثر بالراء أي يتخذه مثل الحجرة. وفي رواية الكشميهني بالزاي بدل الراء أي يجعله حاجزا بينه وبين غيره. قوله: "فثاب" كذا للأكثر بمثلثة ثم موحدة أي اجتمعوا، ووقع عند الخطابي " آبوا " أي رجعوا. وفي رواية الكشمهيني والسرخسي " فثار " بالمثلثة والراء أي قاموا. قوله: "فصلوا وراءه" كذا أورده مختصرا، وغرضه بيان أن الحجرة المذكورة في الرواية التي قبل هذه كانت حصيرا. وقد ساقه الإسماعيلي من وجه آخر عن ابن أبي ذئب تاما، وسنذكر الكلام على فوائده في كتاب التهجد إن شاء الله تعالى. قوله: "عن سالم أبي النضر" كذا لأكثر الرواة عن موسى بن عقبة، وخالفهم ابن جريج عن موسى فلم يذكر أبا النضر في الإسناد أخرجه النسائي، ورواية الجماعة أولى. وقد وافقهم مالك في الإسناد لكن لم يرفعه في الموطأ، وروى عنه خارج الموطأ مرفوعا، وفيه ثلاثة من التابعين مدنيون على نسق أولهم موسى المذكور. قوله: "حجرة" كذا للأكثر بالراء، وللكشميهني أيضا بالزاي. قوله: "من صنيعكم" كذا للأكثر وللكشميهني بضم الصاد وسكون النون، وليس المراد به صلاتهم فقط، بل كونهم رفعوا أصواتهم وسبحوا به ليخرج إليهم، وحصب بعضهم الباب لظنهم أنه نائم كما ذكر المؤلف ذلك في الأدب وفي الاعتصام، وزاد فيه: "حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به " وقد استشكل الخطابي هذه الخشية كما سنوضحه في كتاب التهجد إن شاء الله تعالى. قوله: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" ظاهره أنه يشمل جميع النوافل، لأن المراد بالمكتوبة المفروضة، لكنه محمول على ما لا يشرع فيه التجميع، وكذا ما لا يخص المسجد كركعتي التحية، كذا قال بعض أئمتنا. ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة ما يشرع في البيت وفي المسجد معا فلا تدخل تحية المسجد لأنها لا تشرع في البيت، وأن يكون المراد بالمكتوبة ما تشرع فيه الجماعة، وهل يدخل ما وجب بعارض كالمنذورة؟ فيه نظر، والمراد بالمكتوبة الصلوات الخمس لا ما وجب بعارض كالمنذورة، والمراد بالمرء جنس الرجال فلا يرد استثناء النساء لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوهن المساجد وبيوتهن خير لهن " أخرجه مسلم؛ قال النووي: إنما حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وليتبرك البيت بذلك فتنزل فيه الرحمة

(2/215)


وينفر منه الشيطان، وعلى هذا يمكن أن يخرج بقوله: "في بيته " بيت غيره ولو أمن فيه من الرياء. قوله: "قال عفان" كذا في رواية كريمة وحدها، ولم يذكره الإسماعيلي ولا أبو نعيم، وذكر خلف في الأطراف في رواية حماد بن شاكر " حدثنا عفان " وفيه نظر لأنه أخرجه في كتاب الاعتصام بواسطة بينه وبين عفان. ثم فائدة هذه الطريق بيان سماع موسى بن عقبة له من أبي النضر. والله أعلم. "خاتمة": اشتملت أبواب الجماعة والإمامة من الأحاديث المرفوعة على مائة واثنين وعشرين حديثا، الموصول منها ستة وتسعون، والمعلق ستة وعشرون، المكرر منها فيه وفيما مضى تسعون حديثا، الخالص اثنان وثلاثون، وافقه مسلم على تخريجها سوى تسعة أحاديث وهي: حديث أبي سعيد في فضل الجماعة، وحديث أبي الدرداء " ما أعرف شيئا"، وحديث أنس " كان رجل من الأنصار ضخما"، وحديث مالك بن الحويرث في صفة الصلاة، وحديث ابن عمر " لما قدم المهاجرون". وحديث أبي هريرة " يصلون فإن أصابوا"، وحديث النعمان المعلق في الصفوف، وحديث أنس " كان أحدنا يلزق منكبه"، وحديثه في إنكاره إقامة الصفوف. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين سبعة عشر أثرا كلها معلقة إلا أثر ابن عمر أنه " كان يأكل قبل أن يصلي"، وأثر عثمان " الصلاة أحسن ما يعمل الناس " فإنهما موصولان والله سبحانه وتعالى أعلم.

(2/216)


82 - باب إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَافْتِتَاحِ الصَّلاَةِ
732- حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أنس بن مالك الأنصاري ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا فجحش شقه الأيمن قال أنس رضي الله عنه فصلى لنا يومئذ صلاة من الصلوات وهو قاعد فصلينا وراءه قعودا قال لما سلم: إنما جعل الإمام,ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد"
733- حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا ليث عن بن شهاب عن أنس بن مالك أنه قال خر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس فجحش فصلى لنا قاعدا فصلينا معه قعودا ثم انصرف فقال ثم إنما الإمام أو إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا"
734- حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب قال حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون"
(أبواب صفة الصلاة) . قوله: "باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة" قيل: أطلق الإيجاب والمراد الوجوب تجوزا، لأن الإيجاب خطاب الشارع، والوجوب ما يتعلق بالمكلف وهو المراد هنا. ثم الظاهر أن الواو عاطفة

(2/216)


إما على المضاف وهو إيجاب وإما على المضاف إليه وهو التكبير، والأول أولى إن كان المراد بالافتتاح الدعاء لكنه لا يجب، والذي يظهر من سياقه أن الواو بمعنى مع، وأن المراد بالافتتاح الشروع في الصلاة.
وأبعد من قال إنها بمعنى الموحدة أو اللام، وكأنه أشار إلى حديث عائشة " كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح بالتكبير " وسيأتي بعد بابين حديث ابن عمر " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم افتتح التكبير في الصلاة " واستدل به وبحديث عائشة على تعين لفظ التكبير دون غيره من ألفاظ التعظيم، وهو قول الجمهور، ووافقهم أبو يوسف. وعن الحنفية تنعقد بكل لفظ يقصد به التعظيم. ومن حجة الجمهور حديث رفاعة في قصة المسيء صلاته أخرجه أبو داود بلفظ: "لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر " ورواه الطبراني بلفظ: "ثم يقول الله أكبر " وحديث أبي حميد " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ورفع يديه ثم قال: الله أكبر " أخرجه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وهذا فيه بيان المراد بالتكبير وهو قول " الله أكبر". وروى البزار بإسناد صحيح على شرط مسلم عن علي " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر " ولأحمد والنسائي من طريق واسع بن حبان أنه سأل ابن عمر عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "الله أكبر كلما وضع ورفع " ثم أورد المصنف حديث أنس " إنما جعل الإمام ليؤتم به " من وجهين ثم حديث أبي هريرة في ذلك، واعترضه الإسماعيلي فقال: ليس في الطريق الأول ذكر التكبير ولا في الثاني والثالث بيان إيجاب التكبير وإنما فيه الأمر بتأخير المأموم عن الإمام قال: ولو كان ذلك إيجابا للتكبير لكان قوله: "فقولوا ربنا ولك الحمد " إيجابا لذلك على المأموم. وأجيب عن الأول بأن مراد المصنف أن يبين أن حديث أنس من الطريقين واحد اختصره شعيب وأتمه الليث، وإنما احتاج إلى ذكر الطريق المختصرة لتصريح الزهري فيها بإخبار أنس له، وعن الثاني بأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وفعله بيان لمجمل الصلاة، وبيان الواجب واجب، كذا وجهه ابن رشيد، وتعقب بالاعتراض الثالث وليس بوارد على البخاري لاحتمال أن يكون قائلا بوجوبه كما قال به شيخه إسحاق بن راهويه. وقيل في الجواب أيضا، إذا ثبت إيجاب التكبير في حالة من الأحوال طابق الترجمة، ووجوبه على المأموم ظاهر من الحديث، وأما الإمام فمسكوت عنه. ويمكن أن يقال: في السياق إشارة إلى الإيجاب لتعبيره بإذا التي تختص بما يجزم بوقوعه. وقال الكرماني: الحديث دال على الجزء الثاني من الترجمة لأن لفظ: "إذا صلى قائما " متناول لكون الافتتاح في حال القيام فكأنه قال: إذا افتتح الإمام الصلاة قائما فافتتحوا أنتم أيضا قياما. قال: ويحتمل أن تكون الواو بمعنى مع والمعنى باب إيجاب التكبير عند افتتاح الصلاة، فحينئذ دلالته على الترجمة مشكل. انتهى. ومحصل كلامه أنه لم يظهر له توجيه إيجاب التكبير من هذا الحديث، والله أعلم. وقال في قوله: "فقولوا ربنا ولك الحمد " لولا الدليل الخارجي وهو الإجماع على عدم وجوبه لكان هو أيضا واجبا. انتهى. وقد قال بوجوبه جماعة من السلف منهم الحميدي شيخ البخاري، وكأنه لم يطلع على ذلك. وقد تقدم الكلام على فوائد المتن المذكور مستوفى في " باب إنما جعل الإمام ليؤتم به". ووقع في رواية المستملي وحده في طريق شعيب عن الزهري " وإذا سجد فاسجدوا". ووقع في رواية الكشميهني في طريق الليث " ثم انصرف " بدل قوله: "فلما انصرف " وزيادة الواو في قوله: "ربنا لك الحمد " وسقط لفظ: "جعل " عند السرخسي في حديث أبي هريرة من قوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به". "فائدة": تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور، وقيل شرط وهو عند الحنفية، ووجه عند الشافعية، وقيل سنة. قال ابن المنذر: لم يقل به أحد غير

(2/217)


الزهري، ونقله غيره عن سعيد بن المسيب والأوزاعي ومالك ولم يثبت عن أحد منهم تصريحا، وإنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعا تجزئه تكبيرة الركوع. نعم نقله الكرخي من الحنفية عن إبراهيم بن علية وأبي بكر الأصم، ومخالفتهما للجمهور كثيرة. "تنبيه": لم يختلف في إيجاب النية في الصلاة، وقد أشار إليه المصنف في أواخر الإيمان حيث قال: "باب ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنية " فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة إلى آخر كلامه.

(2/218)


83 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولَى مَعَ الِافْتِتَاحِ سَوَاءً
735- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَكَانَ لاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ"
[الحديث 735 أطرافه في:739,738,726]
قوله: "باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء" هو ظاهر قوله في حديث الباب: "يرفع يديه إذا افتتح الصلاة " وفي رواية شعيب الآتية بعد باب " يرفع يديه حين يكبر " فهذا دليل المقارنة. وقد ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه أخرجهما مسلم، ففي حديث الباب عنده من رواية ابن جريج وغيره عن ابن شهاب بلفظ: "رفع يديه ثم كبر " وفي حديث مالك بن الحويرث عنده " كبر ثم رفع يديه " وفي المقارنة وتقديم الرفع على التكبير خلاف بين العلماء، والمرجح عند أصحابنا المقارنة، ولم أر من قال بتقديم التكبير على الرفع، ويرجح الأول حديث وائل بن حجر عند أبي داود بلفظ: "رفع يديه مع التكبير " وقضية المعية أنه ينتهي بانتهائه، وهو الذي صححه النووي في شرح المهذب ونقله عن نص الشافعي، وهو المرجح عند المالكية. وصحح في الروضة - تبعا لأصلها - أنه لا حد لانتهائه. وقال صاحب الهداية من الحنفية: الأصح يرفع ثم يكبر، لأن الرفع نفي صفة الكبرياء عن غير الله، والتكبير إثبات ذلك له، والنفي سابق على الإثبات كما في كلمة الشهادة. وهذا مبني على أن الحكمة في الرفع ما ذكر. وقد قال فريق من العلماء: الحكمة في اقترانهما أن يراه الأصم ويسمعه الأعمى. وقد ذكرت في ذلك مناسبات أخر فقيل: معناه الإشارة إلى طرح الدنيا والإقبال بكليته على العبادة، وقيل إلى الاستسلام والانقياد ليناسب فعله قوله الله أكبر. وقيل إلى استعظام ما دخل فيه، وقيل إشارة إلى تمام القيام، وقيل إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود، وقيل ليستقبل بجميع بدنه، قال القرطبي: هذا أنسبها. وتعقب. وقال الربيع قلت للشافعي: ما معنى رفع اليدين؟ قال: تعظيم الله واتباع سنة نبيه. ونقل ابن عبد البر عن ابن عمر أنه قال: رفع اليدين من زينة الصلاة. وعن عقبة بن عامر قال: "بكل رفع عشر حسنات، بكل إصبع حسنة" . قوله: "حدثنا عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي، وفي روايته هذه عن مالك خلاف ما في روايته عنه في الموطأ، وقد أخرجه الإسماعيلي من روايته بلفظ الموطأ قال الدار قطني: رواه الشافعي والقعنبي، وسرد جماعة من رواة الموطأ فلم يذكروا فيه الرفع عند الركوع. قال: وحدث به عن مالك في غير الموطأ ابن المبارك وابن مهدي والقطان وغيرهم بإثباته. وقال ابن عبد البر كل من رواه عن ابن شهاب أثبته غير مالك في الموطأ خاصة، قال النووي في شرح مسلم: أجمعت الأمة على استحباب

(2/218)


رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، ثم قال بعد أسطر: أجمعوا على أنه لا يجب شيء من الرفع، إلا أنه حكى وجوبه عند تكبيرة الإحرام عن داود، وبه قال أحمد بن سيار من أصحابنا ا هـ. واعترض عليه بأنه تناقض، وليس كما قال المعترض، فلعله أراد إجماع من قبل المذكورين أو لم يثبت عنده عنهما أو لأن الاستحباب لا ينافي الوجوب، وبالاعتذار الأول يندفع اعتراض من أورد عليه أن مالكا قال في روايته عنه إنه لا يستحب، نقله صاحب التبصرة منهم، وحكاه الباجي عن كثير من متقدميهم. وأسلم العبارات قول ابن المنذر: لم يختلفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة . وقول ابن عبد البر: أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة. وممن قال بالوجوب أيضا الأوزاعي والحميدي شيخ البخاري وابن خزيمة من أصحابنا نقله عنه الحاكم في ترجمة محمد بن علي العلوي، وحكاه القاضي حسين على الإمام أحمد. وقال ابن عبد البر: كل من نقل عنه الإيجاب لا يبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي. قلت: ونقل بعض الحنفية عن أبي حنيفة يأثم تاركه، وأما قول النووي في شرح المهذب أجمعوا على استحبابه ونقله ابن المنذر ونقل العبدري عن الزيدية أنه لا يرفع ولا يعتد بخلافهم، ونقل القفال عن أحمد بن سيار أنه أوجبه، وإذا لم يرفع لم تصح صلاته، وهو مردود بإجماع من قبله، وفي نقل الإجماع نظر فقد نقل القول بالوجوب عن بعض من تقدمه ونقله القفال في فتاويه عن أحمد بن سيار الذي مضى ونقله القرطبي في أوائل تفسيره عن بعض المالكية وهو مقتضى قول ابن خزيمة إنه ركن، واحتج ابن حزم بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي " وسيأتي ما يرد عليه في ذلك في الباب الذي يليه، ويأتي الكلام على نهاية الرفع بعد بباب.

(2/219)


84 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا كَبَّرَ وَإِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ
736- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلاَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ وَيَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَيَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَلاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ
737- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّهُ رَأَى مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ إِذَا صَلَّى كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ هَكَذَا "
قوله: "باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع" قد صنف البخاري في هذه المسألة جزءا منفردا، وحكى فيه عن الحسن وحميد بن هلال أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال البخاري: ولم يستثن الحسن أحدا. وقال ابن عبد البر: كل من روى عنه ترك الرفع في الركوع والرفع منه روى عنه فعله إلا ابن مسعود. وقال محمد بن نصر المروزي:

(2/219)


أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة. وقال ابن عبد البر: لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم. والذي نأخذ به الرفع على حديث ابن عمر، وهو الذي رواه ابن وهب وغيره عن مالك، ولم يحك الترمذي عن مالك غيره، ونقل الخطابي وتبعه القرطبي في المفهم أنه آخر قولي مالك وأصحهما، ولم أر للمالكية دليلا على تركه ولا متمسكا إلا بقول ابن القاسم. وأما الحنفية فعولوا على رواية مجاهد أنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك. وأجيبوا بالطعن في إسناده لأن أبا بكر بن عياش راويه ساء حفظه بآخره، وعلى تقدير صحته فقد أثبت ذلك سالم ونافع وغيرهما عنه، وستأتي رواية نافع بعد بابين، والعدد الكثير أولى من واحد، لاسيما وهم مثبتون وهو ناف، مع أن الجمع بين الروايتين ممكن وهو أنه لم يكن يراه واجبا ففعله تارة وتركه أخرى. ومما يدل على ضعفه ما رواه البخاري في " جزء رفع اليدين " عن مالك أن ابن عمر كان إذا رأى رجلا لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصا، واحتجوا بحديث ابن مسعود " أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه عند الافتتاح ثم لا يعود " أخرجه أبو داود، ورده الشافعي بأنه لم يثبت، قال: ولو ثبت لكان المثبت مقدما على النافي، وقد صححه بعض أهل الحديث، لكنه استدل به على عدم الوجوب، والطحاوي إنما نصب الخلاف مع من يقول بوجوبه كالأوزاعي وبعض أهل الظاهر، ونقل البخاري عقب حديث ابن عمر في هذا الباب عن شيخه علي بن المديني قال: حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه لحديث ابن عمر هذا، وهذا في رواية ابن عساكر. وقد ذكره البخاري في " جزء رفع اليدين " وزاد: وكان علي أعلم أهل زمانه. ومقابل هذا قول بعض الحنفية أنه يبطل الصلاة. ونسب بعض متأخري المغاربة فاعله إلى البدعة، ولهذا مال بعض محققيهم كما حكاه ابن دقيق العيد إلى تركه درءا لهذه المفسدة. وقد قال البخاري في " جزء رفع اليدين ": من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه. قال: ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع. انتهى. والله أعلم. وذكر البخاري أيضا أنه رواه سبعة عشر رجلا من الصحابة، وذكر الحاكم وأبو القاسم بن منده ممن رواه العشرة المبشرة، وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ أنه تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين رجلا. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. وأفادت هذه الطريق تصريح الزهري بإخبار سالم له به. قوله: "عن أبيه" سماه غير أبي ذر فقالوا " عن عبد الله بن عمر". قوله: "حين يكبر للركوع" أي عند ابتداء الركوع، وهو مقتضى رواية مالك بن الحويرث المذكورة في الباب حيث قال: "وإذا أراد أن يركع رفع يديه " وسيأتي في " باب التكبير إذا قام من السجود " من حديث أبي هريرة " ثم يكبر حين يركع". قوله: "ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع" أي إذا أراد أن يرفع. ويؤيده رواية أبي داود من طريق الزبيدي عن الزهري بلفظ: "ثم إذا أراد أن يرفع صلبه رفعهما حتى يكونا حذو منكبيه " ومقتضاه أنه يبتدئ رفع يديه عند ابتداء القيام من الركوع، وأما رواية ابن عيينة عن الزهري التي أخرجها عنه أحمد وأخرجها عن أحمد أبو داود بلفظ: "وبعد ما يرفع رأسه من الركوع " فمعناه بعد ما يشرع في الرفع لتتفق الروايات. قوله: "ولا يفعل ذلك في السجود" أي لا في الهوى إليه ولا في الرفع منه كما في رواية شعيب في الباب الذي بعده حيث قال: "حين يسجد ولا حين يرفع رأسه " وهذا يشمل ما إذا نهض
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض" ابن عبد الحكم"

(2/220)


من السجود إلى الثانية والرابعة والتشهدين، ويشمل ما إذا قام إلى الثالثة أيضا لكن بدون تشهد لكونه غير واجب وإذا قلنا باستحباب جلسة الاستراحة لم يدل هذا اللفظ على نفي ذلك عند القيام منها إلى الثانية والرابعة، لكن قد روى يحيى القطان عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا هذا الحديث وفيه: "ولا يرفع بعد ذلك " أخرجه الدار قطني في الغرائب بإسناد حسن. وظاهره يشمل النفي عما عدا المواطن الثلاثة، وسيأتي إثبات ذلك في موطن رابع بعد بباب. قوله: "عن خالد" هو الحذاء. وفي رواية المستملي والسرخسي " حدثنا خالد". قوله: "إذا صلى كبر ورفع يديه" في رواية مسلم: "ثم رفع " وزاد مسلم من رواية نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث " حتى يحاذي بهما أذنيه " ووهم المحب الطبري فعزاه للمتفق. قوله: "وحدث" أي مالك بن الحويرث، وليس معطوفا على قوله: "رأى " فيبقى فاعله أبو قلابة فيصير مرسلا.

(2/221)


85 - باب إِلَى أَيْنَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ
738- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلاَةِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ يُكَبِّرُ حَتَّى يَجْعَلَهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَهُ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَعَلَ مِثْلَهُ وَقَالَ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَلاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَسْجُدُ وَلاَ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ"
قوله: "باب إلى أين يرفع يديه" لم يجزم المصنف بالحكم كما جزم به قبل وبعد جريا على عادته فيما إذا قوى الخلاف، لكن الأرجح عنده محاذاة المنكبين لاقتصاره على إيراد دليله. قوله: "وقال أبو حميد الخ" هذا التعليق طرف من حديث سيأتي في " باب سنة الجلوس في التشهد " وسنذكر هناك من عرفنا اسمه من أصحابه المذكورين إن شاء الله تعالى. قوله: "حذو منكبيه" بفتح المهملة وإسكان الذال المعجمة أي مقابلهما، والمنكب مجمع عظم العضد والكتف، وبهذا أخذ الشافعي والجمهور. وذهب الحنفية إلى حديث مالك بن الحويرث المقدم ذكره عند مسلم، وفي لفظ له عنه حتى يحاذي بهما فروع أذنيه، وعند أبي داود من رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر بلفظ: "حتى حاذتا أذنيه " ورجح الأول لكون إسناده أصح. وروى أبو ثور عن الشافعي أنه جمع بينهما فقال: يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أنامله الأذنين. ويؤيده رواية أخرى عن وائل عند أبي داود بلفظ: "حتى كانتا حيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه " وبهذا قال المتأخرون من المالكية فيما حكاه ابن شاس في الجواهر لكن روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه في الافتتاح، وفي غيره دون ذلك، أخرجه أبو داود. ويعارضه قول ابن جريج: قلت لنافع أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن؟ قال: لا. ذكره أبو داود أيضا وقال: لم يذكر رفعهما دون ذلك غير مالك فيما أعلم. قوله: "وإذا قال سمع الله لمن حمده فعل مثله" ظاهره أنه
ـــــــ
(1) مراده عند الشافعية وجماعة من أهل العلم , والصواب وجوبه كما هو مذهب أحمد وجماعة , لكونه صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه وسجد للسهو لما تركه سهوا , ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي" والله أعلم

(2/221)


يقول التسميع في ابتداء ارتفاعه من الركوع، وسيأتي الكلام عليه بعد أبواب قليلة. "فائدة": لم يرد ما يدل على التفرقة في الرفع بين الرجل والمرأة، وعن الحنفية يرفع الرجل إلى الأذنين والمرأة إلى المنكبين لأنه أستر لها. والله أعلم.

(2/222)


باب رفع اليدين إذا قام من الركتين
...
86 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ
739- حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ ابْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مُخْتَصَرًا
قوله: "باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين" أي بعد التشهد، فيخرج ما إذا تركه ونهض قائما من السجود لعموم قوله في الرواية التي قبله " ولا حين يرفع رأس من السجود" ، ويحتمل حمل النفي هناك على حالة رفع الرأس من السجود لا على ما بعد ذلك حين يستوي قائما. وأبعد من استدل بقول سالم في روايته: "ولا يفعل ذلك في السجود " على موافقة رواية نافع في حديث هذا الباب حيث قال: "وإذا قام من الركعتين " لأنه لا يلزم من كونه لم ينفه أنه أثبته بل هو ساكت عنه. وأبعد أيضا من استدل برواية سالم على ضعف رواية نافع، والحق أنه ليس بين روايتي نافع وسالم تعارض، بل في رواية نافع زيادة لم ينفها سالم، وستأتي الإشارة إلى أن سالما أثبتها من وجه آخر. قوله: "حدثنا عياش" هو بالمثناة التحتانية وبالمعجمة وهو ابن الوليد الرقام، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى، وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص. قوله: "ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية أبي ذر " إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم: "قال أبو داود: رواه الثقفي يعني عبد الوهاب عن عبيد الله فلم يرفعه وهو الصحيح، وكذا رواه الليث بن سعد وابن جريج ومالك يعني عن نافع موقوفا، وحكي الدار قطني في العلل الاختلاف في وقفه ورفعه وقال: الأشبه بالصواب قول عبد الأعلى. وحكى الإسماعيلي عن بعض مشايخه أنه أومأ إلى أن عبد الأعلى أخطأ في رفعه، قال الإسماعيلي: وخالفه عبد الله بن إدريس وعبد الوهاب الثقفي والمعتمر يعني عن عبيد الله فرووه موقوفا عن ابن عمر. قلت: وقفه معتمر وعبد الوهاب عن عبيد الله عن نافع كما قال، لكن رفعاه عن عبيد الله عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أخرجهما البخاري في " جزء رفع اليدين " وفيه الزيادة، وقد توبع نافع على ذلك عن ابن عمر، وهو فيما رواه أبو داود وصححه البخاري في الجزء المذكور من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه " وله شواهد منها حديث أبي حميد الساعدي وحديث علي بن أبي طالب أخرجهما أبو داود وصححهما ابن خزيمة وابن حبان. وقال البخاري في الجزء المذكور: ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة من الرفع عند القيام من الركعتين صحيح، لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة فاختلفوا فيها وإنما زاد بعضهم على بعض، والزيادة مقبولة من أهل العلم. وقال ابن بطال: هذه زيادة يجب قبولها لمن يقول بالرفع. وقال الخطابي: لم يقل به الشافعي، وهو لازم على أصله في قبول الزيادة. وقال ابن خزيمة: هو سنة، وإن لم يذكره

(2/222)


الشافعي فالإسناد صحيح، وقد قال: قولوا بالسنة ودعوا قولي. وقال ابن دقيق العيد: قياس نظر الشافعي أنه يستحب الرفع فيه لأنه أثبت الرفع عند الركوع والرفع منه لكونه زائدا على من اقتصر عليه عند الافتتاح، والحجة في الموضعين واحدة، وأول راض سيرة من يسيرها. قال: والصواب إثباته، وأما كونه مذهبا للشافعي لكونه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي ففيه نظر. انتهى. ووجه النظر أن محل العمل بهذه الوصية ما إذا عرف أن الحديث لم يطلع عليه الشافعي، أما إذا عرف أنه اطلع عليه ورده أو تأوله بوجه من الوجوه فلا، والأمر هنا محتمل. واستنبط البيهقي من كلام الشافعي أنه يقول به لقوله في حديث أبي حميد المشتمل على هذه السنة وغيرها: وبهذا نقول. وأطلق النووي في الروضة أن الشافعي نص عليه، لكن الذي رأيت في الأم خلاف ذلك فقال في " باب رفع اليدين في التكبير في الصلاة " بعد أن أورد حديث ابن عمر من طريق سالم وتكلم عليه: ولا نأمره أن يرفع يديه في شيء من الذكر في الصلاة التي لها ركوع وسجود إلا في هذه المواضع الثلاثة. وأما ما وقع في أواخر البويطي: يرفع يديه في كل خفض ورفع، فيحمل الخفض على الركوع والرفع على الاعتدال، وإلا فحمله على ظاهره يقتضي استحبابه في السجود أيضا وهو خلاف ما عليه الجمهور، وقد نفاه ابن عمر. وأغرب الشيخ أبو حامد في تعليقه فنقل الإجماع على أنه لا يشرع الرفع في غير المواطن الثلاثة، وتعقب بصحة ذلك عن ابن عمر وابن عباس وطاوس ونافع وعطاء كما أخرجه عبد الرزاق وغيره عنهم بأسانيد قوية، وقد قال به من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو علي الطبري والبيهقي والبغوي وحكاه ابن خويز منداد عن مالك وهو شاذ. وأصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في السجود ما رواه النسائي من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن نصر ابن عاصم عن مالك بن الحويرث " أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في صلاته إذا ركع، وإذا رفع رأسه من ركوعه، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه " وقد أخرج مسلم بهذا الإسناد طرفه الأخير كما ذكرناه في أول الباب الذي قبل هذا، ولم ينفرد به سعيد فقد تابعه همام عن قتادة عند أبي عوانة في صحيحه. وفي الباب عن جماعة من الصحابة لا يخلو شيء منها عن مقال، وقد روى البخاري في " جزء رفع اليدين " في حديث على المرفوع " ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد " وأشار إلى تضعيف ما ورد في ذلك. "تنبيه": روى الطحاوي حديث الباب في مشكله من طريق نصر بن علي عن عبد الأعلى بلفظ: "كان يرفع يديه في كل خفض ورفع وركوع وسجود وقيام وقعود وبين السجدتين ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك " وهذه رواية شاذة، فقد رواه الإسماعيلي عن جماعة من مشايخه الحفاظ عن نصر بن علي المذكور بلفظ عياش شيخ البخاري، وكذا رواه هو وأبو نعيم من طريق أخرى عن عبد الأعلى كذلك. قوله: "رواه حماد بن سلمة عن أيوب الخ" وصله البخاري في الجزء المذكور عن موسى بن إسماعيل عن حماد مرفوعا ولفظه: "كان إذا كبر رفع يديه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع" . قوله: "ورواه ابن طهمان" يعني إبراهيم عن أيوب وموسى بن عقبة، وهذا وصله البيهقي من طريق عمر بن عبد الله بن رزين عن إبراهيم بن طهمان بهذا السند موقوفا نحو حديث حماد وقال في آخره: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك". واعترض الإسماعيلي فقال: ليس في حديث حماد ولا ابن طهمان الرفع من الركعتين المعقود لأجله الباب،

(2/223)


قال: فلعل المحدث عنه دخل له باب في باب، يعني أن هذا التعليق يليق بحديث سالم الذي في الباب الماضي. وأجيب بأن البخاري قصد الرد على من جزم بأن رواية نافع لأصل الحديث موقوفة وأنه خالف في ذلك سالما كما نقله ابن عبد البر وغيره، وقد تبين بهذا التعليق أنه اختلف على نافع في وقفه ورفعه لا خصوص هذه الزيادة، والذي يظهر أن السبب في هذا الاختلاف أن نافعا كان يرويه موقوفا ثم يعقبه بالرفع، فكأنه كان أحيانا يقتصر على الموقوف أو يقتصر عليه بعض الرواة عنه، والله أعلم.

(2/224)


87 - باب وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلاَةِ
740- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاَةِ قَالَ أَبُو حَازِمٍ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِسْمَاعِيلُ يُنْمَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ "يَنْمِي"
قوله: "كان الناس يؤمرون" هذا حكمه الرفع لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. قوله: "على ذراعه" أبهم موضعه من الذراع، وفي حديث وائل عند أبي داود والنسائي: "ثم وضع يده اليمنى على ظهره كفه اليسرى والرسغ والساعد " وصححه ابن خزيمة وغيره، وأصله في صحيح مسلم بدون الزيادة، والرسغ بضم الراء وسكون السين المهملة بعدها معجمة هو المفصل بين الساعد والكف، وسيأتي أثر على نحوه في أواخر الصلاة، ولم يذكر أيضا محلهما من الجسد. وقد روى ابن خزيمة من حديث وائل أنه وضعهما على صدره، والبزار عند صدره، وعند أحمد في حديث هلب الطائي نحوه. وهلب بضم الهاء وسكون اللام بعدها موحدة، وفي زيادات المسند من حديث علي أنه وضعهما تحت السرة وإسناده ضعيف. واعترض الداني في أطراف الموطأ فقال: هذا معلول، لأنه ظن من أبي حازم، ورد بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلمه الخ لكان في حكم المرفوع، لأن قول الصحابي كنا نؤمر بكذا يصرف بظاهره إلى من له الأمر وهو النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع فيحمل على من صدر عنه الشرع، ومثله قول عائشة كنا نؤمر بقضاء الصوم فإنه محمول على أن الآمر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم. وأطلق البيهقي أنه لا خلاف في ذلك بين أهل النقل والله أعلم. وقد ورد في سنن أبي داود والنسائي وصحيح ابن السكن شيء يستأنس به على تعيين الآمر والمأمور، فروى عن ابن مسعود قال: "رآني النبي صلى الله عليه وسلم واضعا يدي اليسرى على يدي اليمنى فنزعها ووضع اليمنى على اليسرى " إسناده حسن، قيل: لو كان مرفوعا ما احتاج أبو حازم إلى قوله لا أعلمه الخ، والجواب أنه أراد الانتقال إلى التصريح، فالأول لا يقال له مرفوع وإنما يقال: له حكم الرفع، قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل، وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع، وكأن البخاري لحظ ذلك فعقبه بباب الخشوع. ومن اللطائف قول بعضهم: القلب موضع النية، والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه. قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره. وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة. ومنهم من كره الإمساك. ونقل ابن الحاجب أن ذلك حيث يمسك معتمدا لقصد الراحة.

(2/224)


قوله: "قال أبو حازم" يعني راويه بالسند المذكور إليه "لا أعلمه" أي سهل بن سعد "إلا ينمي" أوله وسكون النون وكسر الميم، قال أهل اللغة: نميت الحديث إلى غيري رفعته وأسندته وصرح بذلك معن بن عيسى وابن يوسف الإسماعيلي والدار قطني، وزاد ابن وهب: ثلاثتهم عن مالك بلفظ: "يرفع ذلك"، ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي ينميه فمراده يرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يقيده". قوله: "وقال إسماعيل ينمي ذلك ولم يقل ينمي" الأول بضم أوله وفتح الميم بلفظ المجهول، والثاني وهو المنفي كرواية القعنبي، فعلى الأول الهاء ضمير الشأن فيكون مرسلا لأن أبا حازم لم يعين من نماه له، وعلى رواية القعنبي الضمير لسهل شيخه فهو متصل. وإسماعيل هذا هو ابن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي في الجمع. وقرأت بخط مغلطاي هو إسماعيل بن إسحاق القاضي، وكأنه رأى الحديث عند الجوزقي والبيهقي وغيرهما من روايته عن القعنبي فظن أنه المراد، وليس كذلك لأن رواية إسماعيل بن إسحاق موافقة لرواية البخاري، ولم يذكر أحد أن البخاري روى عنه وهو أصغر سنا من البخاري وأحدث سماعا، وقد شاركه في كثير من مشايخه البصريين القدماء: ووافق إسماعيل بن أبي أويس على هذه الرواية عن مالك ابن سويد بن سعيد فيما أخرجه الدار قطني في الغرائب. "تنبيه" حكى في المطالع أن رواية القعنبي بضم أوله من أنمى، قال: وهو غلط؛ وتعقب بأن الزجاج ذكر في " كتاب فعلت وأفعلت ": نميت الحديث وأنميته، وكذا حكاه ابن دريد وغيره. ومع ذلك فالذي ضبطناه في البخاري عن القعنبي بفتح أوله من الثلاثي، فلعل الضم رواية القعنبي في الموطأ، والله أعلم.

(2/225)


88 - باب الْخُشُوعِ فِي الصَّلاَةِ
741- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا وَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلاَ خُشُوعُكُمْ وَإِنِّي لأَرَاكُمْ وَرَاءَ ظَهْرِي
742- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَوَ اللَّهِ إِنِّي لاَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي وَرُبَّمَا قَالَ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إِذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ
قوله: "باب الخشوع في الصلاة" سقط لفظ: "باب " من رواية أبي ذر. والخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية، وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل: لا بد من اعتبارهما حكاه الفخر الرازي في تفسيره. وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة. ويدل على أنه من عمل القلب حديث على " الخشوع في القلب " أخرجه الحاكم. وأما حديث: "لو خشع هذا خشعت جوارحه " ففيه إشارة إلى أن الظاهر عنوان الباطن. حديث أبي هريرة من هذا الوجه سبق الكلام عليه في " باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة " من أبواب القبلة. وأورد فيه أيضا حديث أنس من وجه آخر ببعض مغايرة. قوله: "عن أنس" عند الإسماعيلي من رواية أبي موسى عن غندر التصريح بقولي قتادة " سمعت أنس بن مالك". قوله: "أقيموا الركوع والسجود" أي أكملوهما. وفي رواية معاذ عن شعبة عن الإسماعيلي: "أتموا " بدل أقيموا. قوله: "فوالله إني لأراكم من بعدي" تقدم الكلام على معنى

(2/225)


هذه الرواية. وأغرب الداودي الشارح فحمل البعدية هنا على ما بعد الوفاة؛ يعني أن أعمال الأمة تعرض عليه، وكأنه لم يتأمل سياق حديث أبي هريرة حيث بين فيه سبب هذه المقالة، وقد تقدم في الباب المذكور ما يدل على أن حديث أبي هريرة وحديث أنس في قضية واحدة، وهو مقتضى صنيع البخاري في إيراده الحديثين في هذا الباب، وكذا أوردهما مسلم معا. واستشكل إيراد البخاري لحديث أنس هذا لكونه لا ذكر فيه للخشوع الذي ترجم له، وأجيب بأنه أراد أن ينبه على أن الخشوع يدرك بسكون الجوارح إذ الظاهر عنوان الباطن. وروى البيهقي بإسناد صحيح عن مجاهد قال: "كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود " وحدث أن أبا بكر الصديق كان كذلك. قال وكان يقال: ذاك الخشوع في الصلاة. واستدل بحديث الباب على أنه لا يجب إذ لم يأمرهم بالإعادة، وفيه نظر. نعم في حديث أبي هريرة من وجه آخر عند مسلم: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ثم انصرف فقال: يا فلان ألا تحسن صلاتك " وله في رواية أخرى " أتموا الركوع والسجود " وفي أخرى " أقيموا الصفوف " وفي أخرى " لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود " وعند أحمد " صلى بنا الظهر وفي مؤخر الصفوف رجل فأساء الصلاة " وعنده من حديث أبي سعيد الخدري أن بعض الصحابة تعمد المسابقة لينظر هل يعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا؟ فلما قضى الصلاة نهاه عن ذلك. واختلاف هذه الأسباب يدل على أن جميع ذلك صدر من جماعة في صلاة واحدة أو في صلوات، وقد حكى النووي الإجماع على أن الخشوع ليس بواجب، ولا يرد عليه قول القاضي حسين: إن مدافعة الأخبثين إذا انتهت إلى حد يذهب معه الخشوع أبطلت الصلاة. وقاله أيضا أبو زيد المروزي، لجواز أن يكون بعد الإجماع السابق أو المراد بالإجماع أنه لم يصرح أحد بوجوبه، وكلاهما في أمر يحصل من مجموع المدافعة وترك الخشوع، وفيه تعقب على من نسب إلى القاضي وأبى زيد أنهما قالا أن الخشوع شرط في صحة الصلاة، وقد حكاه المحب الطبري وقال: هو محمول على أن يحصل في الصلاة في الجملة لا في جميعها، والخلاف في ذلك عند الحنابلة أيضا، وأما قول ابن بطال: فإن قال قائل فإن الخشوع فرض في الصلاة، قيل له بحسب الإنسان أن يقبل على صلاته بقلبه ونيته يريد بذلك وجه الله عز وجل ولا طاقة له بما اعترضه من الخواطر. فحاصل كلامه أن القدر المذكور هو الذي يجب من الخشوع، وما زاد على ذلك فلا. وأنكر ابن المنير إطلاق الفرضية وقال: الصواب أن عدم الخشوع تابع لما يظهر عنه من الآثار وهو أمر متفاوت، فإن أثر نقصا في الواجبات كان حراما وكان الخشوع واجبا وإلا فلا. وقد سئل عن الحكمة في تحذيرهم من النقص في الصلاة برؤيته إياهم دون تحذيرهم برؤية الله تعالى لهم، وهو مقام الإحسان المبين في سؤال جبريل كما تقدم في كتاب الإيمان " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فأجيب بأن في التعليل برؤيته صلى الله عليه وسلم تنبيها على رؤية الله تعالى لهم، فإنهم إذا أحسنوا الصلاة لكون النبي صلى الله عليه وسلم يراهم أيقظهم ذلك إلى مراقبة الله تعالى مع ما تضمنه الحديث من المعجزة له صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكونه يبعث شهيدا عليهم يوم القيامة فإذا علموا أنه يراهم تحفظوا في عبادتهم ليشهد لهم بحسن عبادتهم.

(2/226)


89 - باب مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ
743- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ
ـــــــ
(1) كذا : ولعله " وكلاهما "

(2/226)


اللَّهُ عَنْهُمَا كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"
744- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ هُنَيَّةً فَقُلْتُ بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ "
قوله: "باب ما يقول بعد التكبير" في رواية المستملي: "باب ما يقرأ": بدل " ما يقول: "وعليها اقتصر الإسماعيلي. واستشكل إيراد حديث أبي هريرة إذ لا ذكر للقراءة فيه. وقال الزين بن المنير: ضمن قوله ما يقرأ ما يقول من الدعاء قولا متصلا بالقراءة، أو لما كان الدعاء والقراءة يقصد بهما التقرب إلى الله تعالى استغنى بذكر أحدهما عن الآخر كما جاء " علفتها تبنا وماء باردا". وقال ابن رشيد: دعاء الافتتاح يتضمن مناجاة الرب والإقبال عليه بالسؤال، وقراءة الفاتحة تتضمن هذا المعنى، فظهرت المناسبة بين الحديثين. قوله: "كانوا يفتتحون الصلاة" أي القراءة في الصلاة، وكذلك رواه ابن المنذر والجوزقي وغيرهما من طريق أبي عمر الدوري وهو حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ: "كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين " وكذلك رواه البخاري في " جزء القراءة خلف الإمام " عن عمرو بن مرزوق عن شعبة وذكر أنها أبين من رواية حفص بن عمر. قوله: "بالحمد لله رب العالمين" بضم الدال على الحكاية. واختلف في المراد بذلك فقيل: المعنى كانوا يفتتحون بالفاتحة، وهذا قول من أثبت البسملة في أولها، وتعقب بأنها إنما تسمى الحمد فقط، وأجيب بمنع الحصر، ومستنده ثبوت تسميتها بهذه الجملة وهي " الحمد لله رب العالمين " في صحيح البخاري أخرجه في فضائل القرآن من حديث أبي سعيد بن المعلى " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن " فذكر الحديث وفيه قال: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني " وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. وقيل المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسكا بظاهر الحديث، وهذا قول من نفى قراءة البسملة، لكن لا يلزم من قوله كانوا يفتتحون بالحمد أنهم لم يقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم سرا، وقد أطلق أبو هريرة السكوت على القراءة سرا كما في الحديث الثاني من الباب، وقد اختلف الرواة عن شعبة في لفظ الحديث: فرواه جماعة من أصحابه عنه بلفظ: "كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين " ورواه آخرون عنه بلفظ: "فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم " كذا أخرجه مسلم من رواية أبي داود الطيالسي ومحمد بن جعفر، وكذا أخرجه الخطيب من رواية أبي عمر الدوري شيخ البخاري فيه، وأخرجه ابن خزيمة من رواية محمد بن جعفر باللفظين، وهؤلاء من أثبت أصحاب شعبة، ولا يقال هذا اضطراب من شعبة لأنا نقول قد رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه باللفظين، فأخرجه البخاري في " جزء القراءة " والنسائي وابن ماجه من طريق أيوب وهؤلاء والترمذي من طريق أبي عوانة والبخاري في " جزء القراءة " وأبو داود من طريق هشام الدستوائي والبخاري فيه وابن حبان من طريق حماد بن سلمة والبخاري فيه والسراج من طريق همام كلهم عن قتادة باللفظ الأول، وأخرجه

(2/227)


مسلم من طريق الأوزاعي عن قتادة بلفظ: "لم يكونوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم"، وقد قدح بعضهم في صحته بكون الأوزاعي رواه عن قتادة مكاتبة، وفيه نظر فإن الأوزاعي لم ينفرد به فقد رواه أبو يعلى عن أحمد الدورقي والسراج عن يعقوب الدورقي وعبد الله بن أحمد بن عبد الله السلمي ثلاثتهم عن أبي داود الطيالسي عن شعبة بلفظ: "فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم". قال شعبة قلت لقتادة: سمعته من أنس؟ قال: نحن سألناه. لكن هذا النفي محمول على ما قدمناه أن المراد أنه لم يسمع منهم البسملة، فيحتمل أن يكونوا يقرءونها سرا، ويؤيده رواية من رواه عنه بلفظ: "فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " كذا رواه سعيد بن أبي عروبة عند النسائي وابن حبان وهمام عند الدار قطني وشيبان عند الطحاوي وابن حبان وشعبة أيضا من طريق وكيع عنه عند أحمد أربعتهم عن قتادة. ولا يقال هذا اضطراب من قتادة لأنا نقول: قد رواه جماعة من أصحاب أنس عنه كذلك: فرواه البخاري في " جزء القراءة " والسراج وأبو عوانة في صحيحه من طريق إسحاق بن أبي طلحة والسراج من طريق ثابت البناني والبخاري فيه من طريق مالك بن دينار كلهم عن أنس باللفظ الأول، ورواه الطبراني في الأوسط من طريق إسحاق أيضا وابن خزيمة من طريق ثابت أيضا والنسائي من طريق منصور بن زاذان وابن حبان من طريق أبي قلابة والطبراني من طريق أبي نعامة كلهم عن أنس باللفظ النافي للجهر، فطريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي القراءة على نفي السماع ونفي السماع على نفي الجهر، ويؤيده أن لفظ رواية منصور بن زاذان " فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم"، وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة بلفظ: "كانوا يسرون بسم الله الرحمن الرحيم " فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر، لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه. وأما من قدح في صحته بأن أبا سلمة سعيد بن يزيد سأل أنسا عن هذه المسألة فقال: "إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك " ودعوى أبي شامة أن أنسا سئل عن ذلك سؤالين فسؤال أبي سلمة " هل كان الافتتاح بالبسملة أو الحمدلة " وسؤال قتادة " هل كان يبدأ بالفاتحة أو غيرها " قال: ويدل عليه قول قتادة في صحيح مسلم: "نحن سألناه " انتهى. فليس بجيد، لأن أحمد روى في مسنده بإسناد الصحيحين أن سؤال قتادة نظير سؤال أبي سلمة، والذي في مسلم إنما قاله عقب رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة، ولم يبين مسلم صورة المسألة، وقد بينها أبو يعلى والسراج وعبد الله بن أحمد في رواياتهم التي ذكرناها عن أبي داود أن السؤال كان عن افتتاح القراءة بالبسملة، وأصرح من ذلك رواية ابن المنذر عن طريق أبي جابر عن شعبة عن قتادة قال: "سألت أنسا: أيقرأ الرجل في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم " فظهر اتحاد سؤال أبي سلمة وقتادة وغايته أن أنسا أجاب قتادة بالحكم دون أبي سلمة، فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية أبي سلمة " ما سألني عنه أحد قبلك " أو قاله لهما معا فحفظه قتادة دون أبي سلمة فإن قتادة أحفظ من أبي سلمة بلا نزاع، وإذا انتهى البحث إلى أن محصل حديث أنس نفي الجهر بالبسملة على ما ظهر من طريق الجمع بين مختلف الروايات عنه فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على نفيه، لا لمجرد تقديم رواية المثبت على النافي لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة عشر سنين ثم يصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة فلم يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة، بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم كأنه لبعد عهده به، ثم تذكر منه الجزم بالافتتاح بالحمد جهرا ولم يستحضر الجهر بالبسملة، فيتعين

(2/228)


الأخذ بحديث من أثبت الجهر. وسيأتي الكلام على ذلك في " باب جهر المأموم بالتأمين " إن شاء الله قريبا. وترجم له ابن خزيمة وغيره: "إباحة الإسرار بالبسملة في الجهرية " وفيه نظر لأنه لم يختلف في إباحته، بل في استحبابه، واستدل به المالكية على ترك دعاء الافتتاح، وحديث أبي هريرة الذي بعده يرد عليه، وكأن هذا هو السر في إيراده، وقد تحرر أن المراد بحديث أنس بيان ما يفتتح به القراءة، فليس فيه تعرض لنفي دعاء الافتتاح. "تنبيه": وقع ذكر عثمان في حديث أنس في رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عند البخاري في " جزء القراءة " وكذا في رواية حجاج بن محمد عن شعبة عند أبي عوانة، وهو في رواية شيبان وهشام والأوزاعي. وقد أشرنا إلى روايتهم فيما تقدم. قوله: "حدثنا أبو زرعة" هو ابن عمرو بن جرير البجلي. قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت" ضبطناه بفتح أوله من السكوت، وحكى الكرماني عن بعض الروايات بضم أوله من الإسكات، قال الجوهري: يقال تكلم الرجل ثم سكت بغير ألف، فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم قلت أسكت. قوله: "إسكاتة" بكسر أوله بوزن إفعالة من السكوت، وهو من المصادر الشاذة نحو أثبته إثباتة، قال الخطابي: معناه سكوت يقتضي بعده كلاما مع قصر المدة فيه، وسياق الحديث يدل على أنه أراد السكوت عن الجهر لا عن مطلق القول، أو السكوت عن القراءة لا عن الذكر. قوله: "قال أحسبه قال هنية" هذه رواية عبد الواحد بن زياد بالظن، ورواه جرير عند مسلم وغيره وابن فضيل عند ابن ماجه وغيره بلفظ: "سكت هنية " بغير تردد، وإنما اختار البخاري رواية عبد الواحد لوقوع التصريح بالتحديث فيها في جميع الإسناد. وقال الكرماني: المراد أنه قال - بدل إسكاتة - هنية. قلت: وليس بواضح، بل الظاهر أنه شك هل وصف الإسكاتة بكونها هنية أم لا، وهنية بالنون بلفظ التصغير، وهو عند الأكثر بتشديد الياء، وذكر عياض والقرطبي أن أكثر رواة مسلم قالوه بالهمزة، وأما النووي فقال: الهمز خطأ. قال: وأصله هنوة فلما صغر صار هنيوة فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغمت. قال غيره: لا يمنع ذلك إجازة الهمز، فقد تقلب الياء همزة. وقد وقع في رواية الكشميهني هنيهة بقلبها هاء، وهي رواية إسحاق والحميدي في مسنديهما عن جرير. قوله: "بأبي وأمي" الباء متعلقة بمحذوف اسم أو فعل والتقدير أنت مفدي أو أفديك، واستدل به على جواز قول ذلك، وزعم بعضهم أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم. قوله: "إسكاتك" بكسر أوله وهو بالرفع على الابتداء. وقال المظهري شارح المصابيح: هو بالنصب على أنه مفعول بفعل مقدر أي أسألك إسكاتك، أو على نزع الخافض. انتهى. والذي في روايتنا بالرفع للأكثر، ووقع في رواية المستملي والسرخسي بفتح الهمزة وضم السين على الاستفهام. وفي رواية الحميدي " ما تقول في سكتتك بين التكبير والقراءة " ولمسلم: "أرأيت سكوتك " وكله مشعر بأن هناك قولا لكونه قال: "ما تقول " ولم يقل هل تقول؟ نبه عليه ابن دقيق العيد قال: ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم كما استدل غيره على القراءة باضطراب اللحية. قلت: وسيأتي من حديث خباب بعد باب، ونقل ابن بطال عن الشافعي أن سبب هذه السكتة للإمام أن يقرأ
ـــــــ
(1) هذا فيه نظر , والصواب تقديم مادل عليه حديث أنس من شرعية الإسرار بالبسملة لصحته وصراحته في هذه المسألة . وكونه نسي ذلك ثم ذكره لايقدح في روايته كما علم ذلك في الأصول والمصطلح . وتحمل رواية من روى الجهر بالبسملة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها في بعض الأحيان ليعلم من وراءه أنه يقرأها , وبهذا تجتمع الأحاديث , وقد وردت أحاديث صحيحة تؤيد ما دل عليه حديث أنس من شرعية الإسرار بالبسملة , والله أعلم

(2/229)


المأموم فيها الفاتحة، ثم اعترضه بأنه لو كان كذلك لقال في الجواب: أسكت لكي يقرأ من خلفي. ورده ابن المنير بأنه لا يلزم من كونه أخبره بصفة ما يقول أن لا يكون سبب السكوت ما ذكر. انتهى. وهذا النقل من أصله غير معروف عن الشافعي ولا عن أصحابه، إلا أن الغزالي قال في الإحياء: إن المأموم يقرأ الفاتحة إذا اشتغل الإمام بدعاء الافتتاح. وخولف في ذلك، بل أطلق المتولي وغيره كراهة تقديم المأموم قراءة الفاتحة على الإمام. وفي وجه إن فرغها قبله بطلت صلاته، والمعروف أن المأموم يقرؤها إذا سكت الإمام بين الفاتحة والسورة، وهو الذي حكاه عياض وغيره عن الشافعي، وقد نص الشافعي على أن المأموم يقول دعاء الافتتاح كما يقوله الإمام، والسكتة التي بين الفاتحة والسورة ثبت فيها حديث سمرة عند أبي داود وغيره. قوله: "باعد" المراد بالمباعدة محو ما حصل منها والعصمة عما سيأتي منها، وهو مجاز لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل فكأنه أراد أنه لا يبقى لها منه اقتراب بالكلية. وقال الكرماني: كرر لفظ: "بين " لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض. قوله: "نقني" مجاز عن زوال الذنوب ومحو أثرها، ولما كان الدنس في الثوب الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التشبيه به، قاله ابن دقيق العيد. قوله: "بالماء والثلج والبرد" قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيد، أو لأنهما ما آن لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال. وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو، فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء، قال: ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو وكأنه كقوله تعالى: {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا} وأشار الطيبي إلى هذا بحثا فقال: يمكن أن يكون المطلوب من ذكر الثلج والبرد بعد الماء شمول أنواع الرحمة والمغفرة بعد العفو لإطفاء حرارة عذاب النار التي هي في غاية الحرارة، ومنه قولهم برد الله مضجعه أي رحمه ووقاه عذاب النار. انتهى. ويؤيده ورود وصف الماء بالبرودة في حديث عبد الله بن أبي أوفى عند مسلم، وكأنه جعل الخطايا بمنزلة جهنم لكونها مسببة عنها، فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيا عن الماء إلى أبرد منه. وقال التوربشتي: خص هذه الثلاثة بالذكر لأنها منزلة من السماء. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاث إشارة إلى الأزمنة الثلاثة " فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي " انتهى. وكأن تقديم المستقبل للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل. واستدل بالحديث على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة خلافا للمشهور عن مالك، وورد فيه أيضا حديث: "وجهت وجهي الخ " وهو عند مسلم من حديث علي لكن قيده بصلاة الليل. وأخرجه الشافعي وابن خزيمة وغيرهما بلفظ: "إذا صلى المكتوبة " واعتمده الشافعي في الأم، وفي الترمذي وصحيح ابن حبان من حديث أبي سعيد الافتتاح بسبحانك اللهم، ونقل الساجي عن الشافعي استحباب الجمع بين التوجيه والتسبيح وهو اختيار ابن خزيمة وجماعة من الشافعية وحديث أبي هريرة أصح ما ورد في ذلك، واستدل به على جواز الدعاء في الصلاة بما ليس في القرآن خلافا للحنفية. ثم هذا الدعاء صدر منه صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة في إظهار العبودية، وقيل قاله على سبيل التعليم لأمته، واعترض بكونه لو أراد ذلك لجهر به، وأجيب بورود الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزار، وفيه ما كان الصحابة عليه من المحافظة على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه حتى حفظ الله بهم الدين، واستدل

(2/230)


به بعض الشافعية على أن الثلج والبرد مطهران، واستبعده ابن عبد السلام، وأبعد منه استدلال بعض الحنفية به على نجاسة الماء المستعمل.

(2/231)


باب حدثنا ابن أبي مريم قال أخبرنا نافع بن عمر
...
90 – باب *745-حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلاَةَ الْكُسُوفِ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ قَدْ دَنَتْ مِنِّي الْجَنَّةُ حَتَّى لَوْ اجْتَرَأْتُ عَلَيْهَا لَجِئْتُكُمْ بِقِطَافٍ مِنْ قِطَافِهَا وَدَنَتْ مِنِّي النَّارُ حَتَّى قُلْتُ أَيْ رَبِّ وَأَنَا مَعَهُمْ فَإِذَا امْرَأَةٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ قُلْتُ مَا شَأْنُ هَذِهِ قَالُوا حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا لاَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ قَالَ نَافِعٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ خَشِيشِ أَوْ خَشَاشِ الأَرْضِ
[الحديث 745- طرفه في: 2364]
قوله: "باب" كذا في رواية الأصيلي وكريمة بلا ترجمة، وكذا قال الإسماعيلي: "باب " بلا ترجمة، وسقط من رواية أبي ذر وأبي الوقت، وكذا لم يذكره أبو نعيم. وعلى هذا فمناسبة الحديث غير ظاهرة للترجمة، وعلى تقدير ثبوت لفظ باب فهو كالفصل من الباب الذي قبله كما قررناه غير مرة فله به تعلق أيضا. قال الكرماني: وجه المناسبة أن دعاء الافتتاح مستلزم لتطويل القيام، وحديث الكسوف فيه تطويل القيام فتناسبا. وأحسن منه ما قال ابن رشيد: يحتمل أن تكون المناسبة في قوله: "حتى قلت أي رب أو أنا معهم " لأنه وإن لم يكن فيه دعاء ففيه مناجاة واستعطاف، فيجمعه مع الذي قبله جواز دعاء الله ومناجاته بكل ما فيه خضوع، ولا يختص بما ورد في القرآن خلافا لبعض الحنفية. قوله: "أو أنا معهم" كذا للأكثر بهمزة الاستفهام بعدها واو عاطفة وهي على مقدر. وفي رواية كريمة بحذف الهمزة وهي مقدرة. قوله: "حسبت أنه قال تخدشها" قائل ذلك هو نافع بن عمر راوي الحديث، بينه الإسماعيلي، فالضمير في " أنه " لابن أبي مليكة. قوله: "لا هي أطعمتها" سقط لفظ: "هي " من رواية الكشميهني والحموي. قوله: "تأكل من خشيش - أو خشاش - الأرض" كذا في هذه الرواية على الشك، وكل من اللفظين بمعجمات مفتوح الأول والمراد حشرات الأرض، وأنكر الخطابي رواية خشيش، وضبطها بعضهم بضم أوله على التصغير من لفظ خشاش، فعلى هذا لا إنكار، ورواها بعضهم بحاء مهملة. وقال عياض هو تصحيف. وسيأتي الكلام على بقية فوائده في كتاب الكسوف، وعلى قصة المرأة صاحبة الهرة في كتاب بدء الخلق إن شاء الله تعالى.

(2/231)


91 - باب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى الإِمَامِ فِي الصَّلاَةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ فَرَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ

(2/231)


92 - باب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاَةِ
750- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ
قوله: "باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة" قال ابن بطال: أجمعوا على كراهة رفع البصر في الصلاة، واختلفوا فيه خارج الصلاة في الدعاء، فكرهه شريح وطائفة، وأجازه الأكثرون لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة. قال عياض: رفع البصر إلى السماء في الصلاة فيه نوع إعراض عن القبلة، وخروج عن هيئة الصلاة. قوله: "حدثنا قتادة" فيه دفع لتعليل ما أخرجه ابن عدي في الكامل فأدخل بين سعيد بن أبي عروبة وقتادة رجلا، وقد أخرجه ابن ماجه من رواية عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن سعيد - وهو من أثبت أصحابه - وزاد في أوله بيان سبب هذا الحديث ولفظه: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بأصحابه، فلما قضى الصلاة أقبل عليهم بوجهه " فذكره، وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مرسلا لم يذكر نسا، وهي علة غير قادحة لأن سعيدا أعلم بحديث قتادة من معمر، وقد تابعه همام على وصله عن قتادة أخرجه السراج. قوله: "في صلاتهم" زاد مسلم من حديث أبي هريرة " عند الدعاء " فإن حمل المطلق على هذا المقيد اقتضى اختصاص الكراهة بالدعاء الواقع في الصلاة. وقد أخرجه ابن ماجه وابن حبان من حديث ابن عمر بغير تقييد ولفظه "لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء" يعني في الصلاة، وأخرجه بغير تقييد أيضا مسلم من حديث جابر بن سمرة والطبراني من حديث أبي سعيد الخدري وكعب بن مالك. وأخرج ابن

(2/233)


أبي شيبة من رواية هشام بن حسان عن محمد بن سيرين " كانوا يلتفتون في صلاتهم حتى نزلت: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} فأقبلوا على صلاتهم ونظروا أمامهم، وكانوا يستحبون أن لا يجاوز بصر أحدهم موضع سجوده". ووصله الحاكم بذكر أبي هريرة فيه، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال في آخره: "فطأطأ رأسه". قوله: "لينتهين" كذا للمستملي والحموي بضم الياء وسكون النون وفتح المثناة والهاء والياء وتشديد النون على البناء للمفعول والنون للتأكيد، وللباقين " لينتهن " بفتح أوله وضم الهاء على البناء للفاعل. قوله: "أو لتخطفن أبصارهم" ولمسلم من حديث جابر بن سمرة " أو لا ترجع إليهم " يعني أبصارهم. واختلف في المراد بذلك: فقيل هو وعيد، وعلى هذا فالفعل المذكور حرام، وأفرط ابن حزم فقال: يبطل الصلاة. وقيل المعنى أنه يخشى على الأبصار من الأنوار التي تنزل بها الملائكة على المصلين كما في حديث أسيد بن حضير الآتي في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى، أشار إلى ذلك الداودي، ونحوه في جامع حماد بن سلمة عن أبي مجلز أحد التابعين. و " أو " هنا للتخيير نظير قوله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون} أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة وإما الإسلام، وهو خبر في معنى الأمر .

(2/234)


93 - باب الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ قَالَ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ الْعَبْدِ"
[الحديث 751- طرفه في:3291]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلاَمٌ فَقَالَ شَغَلَتْنِي أَعْلاَمُ هَذِهِ اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةٍ "
قوله: "باب الالتفات في الصلاة" لم يبين المؤلف حكمه، لكن الحديث الذي أورده دل على الكراهة وهو إجماع، لكن الجمهور على أنها للتنزيه. وقال المتولي: يحرم إلا للضرورة، وهو قول أهل الظاهر. وورد في كراهية الالتفات صريحا على غير شرطه عدة أحاديث، منها عند أحمد وابن خزيمة من حديث أبي ذر رفعه: "لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه عنه انصرف " ومن حديث الحارث الأشعري نحوه وزاد: "فإذا صليتم فلا تلتفتوا " وأخرج الأول أيضا أبو داود والنسائي. والمراد بالالتفات المذكور ما لم يستدبر القبلة بصدره أو عنقه كله. وسبب كراهة الالتفات يحتمل أن يكون لنقص الخشوع، أو لترك استقبال القبلة ببعض البدن. قوله: "عن أبيه" هو أبو الشعثاء المحاربي، ووافق أبا الأحوص على هذا الإسناد شيبان عند ابن خزيمة وزائدة عند النسائي ومسعر عند ابن حبان، وخالفهم إسرائيل فرواه عن أشعث عن أبي عطية عن مسروق. ووقع عند البيهقي من رواية مسعر عن أشعث عن أبي وائل، فهذا اختلاف على أشعث، والراجح رواية أبي الأحوص. وقد رواه النسائي من طريق عمارة بن عمير عن أبي عطية عن عائشة ليس بينهما مسروق، ويحتمل أن يكون للأشعث فيه شيخان، أبوه وأبو عطية بناء على أن يكون أبو عطية حمله عن مسروق ثم لقي عائشة فحمله عنها.

(2/234)


وأما الرواية عن أبي وائل فشاذة لأنه لا يعرف من حديثه والله أعلم. قوله: "هو اختلاس" أي اختطاف بسرعة، ووقع في النهاية: والاختلاس افتعال من الخلسة وهي ما يؤخذ سلبا مكابرة، وفيه نظر. وقال غيره: المختلس الذي يخطف من غير غلبة ويهرب ولو مع معاينة المالك له والناهب يأخذ بقوة، والسارق يأخذ في خفية. فلما كان الشيطان قد يشغل المصلي عن صلاته بالالتفات إلى شيء ما بغير حجة يقيمها أشبه المختلس. وقال ابن بزيزة: أضيف إلى الشيطان لأن فيه انقطاعا. من ملاحظة التوجه إلى الحق سبحانه. وقال الطيبي: سمي اختلاسا تصويرا لقبح تلك الفعلة بالمختلس، لأن المصلي يقبل عليه الرب سبحانه وتعالى، والشيطان مرتصد له ينتظر فوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان الفرصة فسلبه تلك الحالة. قوله: "يختلس" كذا للأكثر بحذف المفعول، وللكشميهني: "يختلسه " وهي رواية أبي داود عن مسدد شيخ البخاري. قيل: الحكمة في جعل سجود السهو جابرا للمشكوك فيه دون الالتفات وغيره مما ينقص الخشوع لأن السهو لا يؤاخذ به المكلف، فشرع له الجبر دون العمد ليتيقظ العبد له فيجتنبه. ثم أورد المصنف حديث عائشة في قصة أنبجانية أبي جهم، وقد تقدم الكلام عليه في " باب إذا صلى في ثوب له أعلام " في أوائل الصلاة. ووجه دخوله في الترجمة أن أعلام الخميصة إذا لحظها المصلي وهي على عاتقه كان قريبا من الالتفات ولذلك خلعها معللا بوقوع بصره على أعلامها وسماه شغلا عن صلاته، وكأن المصنف أشار إلى أن علة كراهة الالتفات كونه يؤثر في الخشوع كما وقع في قصة الخميصة. ويحتمل أن يكون أراد أن ما لا يستطاع دفعه معفو عنه، لأن لمح العين يغلب الإنسان ولهذا لم يعد النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة. قوله: "شغلني" في رواية الكشميهني: "شغلتني " وهو أوجه، وكذا اختلفوا في " اذهبوا بها " أو " به". قوله: "إلى أبي جهم" كذا للأكثر وهو الصحيح، وللكشميهني جهيم بالتصغير.

(2/235)


94 - باب هَلْ يَلْتَفِتُ لِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ أَوْ يَرَى شَيْئًا أَوْ بُصَاقًا فِي الْقِبْلَةِ
وَقَالَ سَهْلٌ الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
753- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ فَحَتَّهَا ثُمَّ قَالَ حِينَ انْصَرَفَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ فَلاَ يَتَنَخَّمَنَّ أَحَدٌ قِبَلَ وَجْهِهِ فِي الصَّلاَةِ رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ
754- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ لَهُ الصَّفَّ فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ فَأَرْخَى السِّتْرَ وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ "
قوله: "باب هل يلتفت لأمر ينزل به أو يرى شيئا أو بصاقا في القبلة" الظاهر أن قوله: "في القبلة " يتعلق بقوله: "بصاقا " وأما قوله: "شيئا " فأعم من ذلك، والجامع بين جميع ما ذكر في الترجمة حصول التأمل المغاير للخشوع

(2/235)


وأنه لا يقدح إلا إذا كان لغير حاجة. قوله: "وقال سهل" هو ابن سعد، وهذا طرف من حديث تقدم موصولا في " باب من دخل ليؤم الناس"، ووجه الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أبا بكر بالإعادة، بل أشار إليه أن يتمادى على إمامته وكان التفاته لحاجة. قوله في حديث ابن عمر "بين يدي الناس" يحتمل أن يكون متعلقا بقوله: "وهو يصلي " أو بقوله: "رأى نخامة". قوله: "فحتها ثم قال حين انصرف" ظاهره أن الحت وقع منه داخل الصلاة، وقد تقدم من رواية مالك عن نافع غير مقيد بحال الصلاة، وسبق الكلام على فوائده في أواخر أبواب القبلة، وأورده هناك أيضا من رواية أبي هريرة وأبي سعيد وعائشة وأنس من طرق كلها غير مقيدة بحال الصلاة. قوله: "رواه موسى بن عقبة" وصله مسلم من طريقه. قوله: "وابن أبي رواد" اسم أبي رواد ميمون، ووصله أحمد عن عبد الرزاق عن عبد العزيز ابن أبي رواد المذكور وفيه أن الحك كان بعد الفراغ من الصلاة، فالغرض منه على هذا المتابعة في أصل الحديث. ثم أورد المصنف حديث أنس المتقدم في " باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة " قال ابن بطال: وجه مناسبته للترجمة أن الصحابة لما كشف صلى الله عليه وسلم الستر التفتوا إليه، ويدل على ذلك قول أنس " فأشار إليهم " ولولا التفاتهم لما رأوا إشارته ا هـ. ويوضحه كون الحجرة عن يسار القبلة فالناظر إلى إشارة من هو فيها يحتاج إلى أن يلتفت، ولم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل أقرهم على صلاتهم بالإشارة المذكورة، والله أعلم.

(2/236)


95 - باب وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَمَا يُجْهَرُ فِيهَا وَمَا يُخَافَتُ
755- حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا أُصَلِّي صَلاَةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ قَالَ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الْكُوفَةِ فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ وَلاَ يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ قَالَ سَعْدٌ أَمَا وَاللَّهِ لاَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَطِلْ فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَرِ وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ"
[الحديث755- طرفاه في: 770,758]
756- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ

(2/236)


الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ "
757- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ وَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلاَثًا فَقَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي فَقَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا
[الحديث 757- أطرافه في6667,6252,6251,793]
758- حدثنا أبو نعمان حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال : قال سعد " كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتي العشي لاأخرم عنها : أركد في الأوليين وأحذف في الأخريين .فقال عمر رضي الله عنه : ذلك الظن بك "
قوله: "باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر" لم يذكر المنفرد لأن حكمه حكم الإمام، وذكر السفر لئلا يتخيل أنه يترخص فيه بترك القراءة كما رخص فيه بحذف بعض الركعات. قوله:"وما يجهر فيها وما يخافت" هو بضم أول كل منهما على البناء للمجهول، وتقدير الكلام وما يجهر به وما يخافت، لأنه لازم فلا يبنى منه، قال ابن رشيد: قوله: "وما يجهر " معطوف على قوله: "في الصلوات " لا على القراءة، والمعنى وجوب القراءة فيما يجهر فيه ويخافت، أي أن الوجوب لا يختص بالسرية دون الجهرية خلافا لمن فرق في المأموم. انتهى. وقد اعتنى البخاري بهذه المسألة فصنف فيها جزءا مفردا سنذكر ما يحتاج إليه في هذا الشرح من فوائده إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل. قوله: "عن جابر بن سمرة" هو الصحابي، ولأبيه سمرة بن جنادة صحبة أيضا. وقد صرح ابن عيينة بسماع عبد الملك له من جابر أخرجه أحمد وغيره. قوله: "شكا أهل الكوفة سعدا" هو ابن أبي وقاص، وهو خال ابن سمرة الراوي عنه. وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك عن جابر بن سمرة قال: "كنت جالسا عند عمر إذ جاء أهل الكوفة يشكون إليه سعد بن أبي وقاص حتى قالوا إنه لا يحسن الصلاة " انتهى. وفي قوله أهل الكوفة مجاز، وهو من إطلاق الكل على البعض، لأن الذين شكوه بعض أهل الكوفة لا كلهم، ففي رواية زائدة عن عبد الملك في صحيح أبي عوانة " جعل ناس من أهل الكوفة"، ونحوه لإسحاق بن راهويه عن جرير عن عبد الملك وسمى منهم عند سيف والطبراني الجراح بن سنان وقبيصة وأربد الأسديون، وذكر العسكري في الأوائل أن منهم الأشعث بن قيس. قوله: "فعزله" كان عمر بن الخطاب أمر سعد بن أبي وقاص على قتال الفرس في سنة أربع عشرة ففتح الله العراق على يديه، ثم اختط الكوفة سنة سبع عشرة واستمر عليها أميرا إلى سنة إحدى وعشرين في قول خليفة بن خياط، وعند الطبري سنة عشرين، فوقع له مع أهل الكوفة ما ذكر.

(2/237)


قوله: "واستعمل عليهم عمارا" هو ابن ياسر، قال خليفة: استعمل عمارا على الصلاة وابن مسعود على بيت المال وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض. انتهى. وكأن تخصيص عمار بالذكر لوقوع التصريح بالصلاة دون غيرها مما وقعت فيه الشكوى. قوله: "فشكوا" ليست هذه الفاء عاطفة على قوله: "فعزله " بل هي تفسيرية عاطفة على قوله شكا عطف تفسير، وقوله: "فعزله واستعمل " اعتراض إذ الشكوى كانت سابقة على العزل، وبينته رواية معمر الماضية. قوله: "حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي" ظاهره أن جهات الشكوى كانت متعددة، ومنها قصة الصلاة. وصرح بذلك في رواية أبي عون الآتية قريبا، فقال عمر: لقد شكوك في كل شيء حتى في الصلاة. وذكر ابن سعد وسيف أنهم زعموا أنه حابى في بيع خمس باعه. وأنه صنع على داره بابا مبوبا من خشب، وكان السوق مجاورا له فكان يتأذى بأصواتهم، فزعموا أنه قال: انقطع التصويت. وذكر سيف أنهم زعموا أنه كان يلهيه الصيد عن الخروج في السرايا. وقال الزبير بن بكار في " كتاب النسب ": رفع أهل الكوفة عليه أشياء كشفها عمر فوجدها باطلة اهـ. ويقويه قول عمر في وصيته " فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة " وسيأتي ذلك في مناقب عثمان. قوله: "فأرسل إليه فقال" فيه حذف تقديره فوصل إليه الرسول فجاء إلى عمر، وسيأتي تسمية الرسول. قوله: "يا أبا إسحاق" هي كنية سعد، كني بذلك بأكبر أولاده، وهذا تعظيم من عمر له، وفيه دلالة على أنه لم تقدح فيه الشكوى عنده. قوله: "أما أنا والله" أما بالتشديد وهي للتقسيم، والقسيم هنا محلوف تقديره وأما هم فقالوا ما قالوا. وفيه القسم في الخبر لتأكيده في نفس السامع، وجواب القسم يدل عليه قوله: "فإني كنت أصلي بهم". قوله: "صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" بالنصب أي مثل صلاة. قوله: "ما أخرم" بفتح أوله وكسر الراء أي لا أنقص، وحكى ابن التين عن بعض الرواة أنه بضم أوله ففعله من الرباعي واستضعفه. قوله: "أصلي صلاة العشاء" كذا هنا بالفتح والمد للجميع، غير الجرجاني فقال: "العشي"، وفي الباب الذي بعده " صلاتي العشي " بالكسر والتشديد لهم إلا الكشميهني، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي عوانة بلفظ: "صلاتي العشي " وكذا في رواية عبد الرزاق عن معمر وكذا لزائدة في صحيح أبي عوانة وهو الأرجح، ويدل عليه التثنية، والمراد بهما الظهر والعصر ولا يبعد أن تقع التثنية في الممدود ويراد بهما المغرب والعشاء، لكن يعكر عليه قوله الأخريين لأن المغرب إنما لها أخرى واحدة والله أعلم. وأبدى الكرماني لتخصيص العشاء بالذكر حكمة، وهو أنه لما أتقن فعل هذه الصلاة التي وقتها وقت الاستراحة كان ذلك في غيرها بطريق الأولى وهو حسن، ويقال مثله في الظهر والعصر لأنهما وقت الاشتغال بالقائلة والمعاش. والأولى أن يقال: لعل شكواهم كانت في هاتين الصلاتين خاصة فلذلك خصهما بالذكر. قوله: "فأركد في الأوليين" قال القزاز: أركد أي أقيم طويلا، أي أطول فيهما القراءة. قلت: ويحتمل أن يكون التطويل بما هو أعم من القراءة كالركوع والسجود، لكن المعهود في التفرقة بين الركعات إنما هو في القراءة، وسيأتي قريبا من رواية أبي عون عن جابر بن سمرة " أمد في الأوليين " والأوليين بتحتانيتين تثنية الأولى وكذا الأخريين. قوله: "وأخف" بضم أوله وكسر الخاء المعجمة. وفي رواية الكشميهني وأحذف بفتح أوله وسكون المهملة، وكذا هو في رواية عثمان بن سعيد الدارمي عن موسى بن إسماعيل شيخ البخاري فيه أخرجه البيهقي، وكذا هو في جميع طرق هذا الحديث التي وقفت عليها، إلا أن في رواية محمد بن كثير عن شعبة عند الإسماعيلي بالميم
ـــــــ
(1) هو محمد بن عبيد الله الثقفي

(2/238)


بدل الفاء، والمراد بالحذف حذف التطويل لا حذف أصل القراءة فكأنه قال أحذف الركود. قوله: "ذلك الظن بك" أي هذا الذي تقول هو الذي كنا نظنه، زاد مسعر عن عبد الملك وابن عون معا " فقال سعد أتعلمني الأعراب الصلاة " أخرجه مسلم، وفيه دلالة على أن الذين شكوه لم يكونوا من أهل العلم، وكأنهم ظنوا مشروعية التسوية بين الركعات فأنكروا على سعد التفرقة، فيستفاد منه ذم القول بالرأي الذي لا يستند إلى أصل، وفيه أن القياس في مقابلة النص فاسد الاعتبار، قال ابن بطال: وجه دخول حديث سعد في هذا الباب أنه لما قال: "أركد وأخف " علم أنه لا يترك القراءة في شيء من صلاته، وقد قال إنها مثل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختصره الكرماني فقال: ركود الإمام يدل على قراءته عادة. قال ابن رشيد: ولهذا أتبع البخاري في الباب الذي بعده حديث سعد بحديث أبي قتادة كالمفسر له. قلت: وليس في حديث أبي قتادة هنا ذكر القراءة في الأخريين. نعم هو مذكور من حديثه بعد عشرة أبواب، وإنما تتم الدلالة على الوجوب إذا ضم إلى ما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي " فيحصل التطابق بهذا لقوله: "القراءة للإمام " وما ذكر من الجهر والمخافتة، وأما الحضر والسفر وقراءة المأموم فمن غير حديث سعد مما ذكر في الباب، وقد يؤخذ السفر والحضر من إطلاق قوله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يفصل بين الحضر والسفر، وأما وجوب القراءة على الإمام فمن حديث عبادة في الباب، ولعل البخاري اكتفى بقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته وهو ثالث أحاديث الباب: "وافعل ذلك في صلاتك كلها"، وبهذا التقرير يندفع اعتراض الإسماعيلي وغيره حيث قال: لا دلالة في حديث سعد على وجوب القراءة، وإنما فيه تخفيفها في الأخريين عن الأوليين. قوله: "فأرسل معه رجلا أو رجالا" كذا لهم بالشك. وفي رواية ابن عيينة " فبعث عمر رجلين " وهذا يدل على أنه أعاده إلى الكوفة ليحصل له الكشف عنه بحضرته ليكون أبعد من التهمة، لكن كلام سيف يدل على أن عمر إنما سأله عن مسألة الصلاة بعد ما عاد به محمد بن مسلمة من الكوفة. وذكر سيف والطبري أن رسول عمر بذلك محمد بن مسلمة قال: وهو الذي كان يقتص آثار من شكى من العمال في زمن عمر. وحكى ابن التين أن عمر أرسل في ذلك عبد الله بن أرقم، فإن كان محفوظا فقد عرف الرجلان. وروى ابن سعد من طريق مليح بن عوف السلمي قال: بعث عمر محمد بن مسلمة وأمرني بالمسير معه وكنت دليلا بالبلاد، فذكر القصة وفيها " وأقام سعدا في مساجد الكوفة يسألهم عنه " وفي رواية إسحاق عن جرير " فطيف به في مساجد الكوفة". قوله: "ويثنون عليه معروفا" في رواية ابن عيينة " فكلهم يثني عليه خيرا". قوله: "لبني عبس" بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها مهملة قبيلة كبيرة من قيس. قوله: "أبا سعدة" بفتح المهملة بعدها مهملة ساكنة، زاد سيف في روايته: "فقال محمد بن مسلمة: أنشد الله رجلا يعلم حقا إلا قال". قوله: "أما" بتشديد الميم، وقسيمها محذوف أيضا، قوله: "نشدتنا " أي طلبت منا القول. قوله: "لا يسير بالسرية" الباء للمصاحبة والسرية بفتح المهملة وكسر الراء المخففة قطعة من الجيش، ويحتمل أن يكون صفة لمحذوف أي لا يسير بالطريقة السرية أي العادلة، والأول أولى لقوله بعد ذلك: "ولا يعدل". والأصل عدم التكرار، والتأسيس أولى من التأكيد. ويؤيده رواية جرير وسفيان بلفظ: "ولا ينفر في السرية". قوله: "في القضية" أي الحكومة. وفي رواية سفيان وسيف " في الرعية". قوله: "قال سعد" في رواية جرير " فغضب سعد". وحكى ابن التين أنه قال: "أعلى تسجع". قوله: "أما والله" بتخفيف الميم حرف استفتاح. قوله: "لأدعون بثلاث" أي عليك، والحكمة في ذلك أنه نفى عنه الفضائل الثلاث وهي الشجاعة حيث قال: "لا ينفر " والعفة حيث قال: "لا

(2/239)


يقسم " والحكمة حيث قال: "لا يعدل " فهذه الثلاثة تتعلق بالنفس والمال والدين، فقابلها بمثلها: فطول العمر يتعلق بالنفس، وطول الفقر يتعلق بالمال، والوقوع في الفتن يتعلق بالدين، ولما كان في الثنتين الأوليين ما يمكن الاعتذار عنه دون الثالثة قابلهما بأمرين دنيويين والثالثة بأمر ديني، وبيان ذلك أن قوله: "لا ينفر بالسرية " يمكن أن يكون حقا لكن رأى المصلحة في إقامته ليرتب مصالح من يغزو ومن يقيم، أو كان له عذر كما وقع وهو في القادسية وقوله: "لا يقسم بالسوية " يمكن أن يكون حقا فإن للإمام تفضيل أهل الغناء في الحرب والقيام بالمصالح، وقوله: "لا يعدل في القضية " هو أشدها لأنه سلب عنه العدل مطلقا وذلك قدح في الدين، ومن أعجب العجب أن سعدا مع كون هذا الرجل واجهة بهذا وأغضبه حتى دعا عليه في حال غضبه راعى العدل والإنصاف في الدعاء عليه، إذ علقه بشرط أن يكون كاذبا وأن يكون الحامل له على ذلك الغرض الدنيوي. قوله: "رياء وسمعة" أي ليراه الناس ويسمعوه فيشهروا ذلك عنه فيكون له بذلك ذكر، وسيأتي مزيد في ذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "وأطل فقره" في رواية جرير " وشدد فقره " وفي رواية سيف " وأكثر عياله " قال الزين ابن المنير: في الدعوات الثلاث مناسبة للحال، أما طول عمره فليراه من سمع بأمره فيعلم كرامة سعد، وأما طول فقره فلنقيض مطلوبه لأن حاله يشعر بأنه طلب أمرا دنيويا، وأما تعرضه للفتن فلكونه قام فيها ورضيها دون أهل بلده". قوله: "فكان بعد" أي أبو سعدة، وقائل ذلك عبد الملك بن عمير بينه جرير في روايته. قوله: "إذا سئل" في رواية ابن عيينة " إذ قيل له كيف أنت". قوله: "شيخ كبير مفتون" قيل لم يذكر الدعوة الأخرى وهي الفقر لكن عموم قوله: "أصابتني دعوة سعد " يدل عليه. قلت: قد وقع التصريح به في رواية الطبراني من طريق أسد بن موسى. وفي رواية أبي يعلى عن إبراهيم بن الحجاج كلاهما عن أبي عوانة ولفظه: "قال عبد الملك: فأنا رأيته يتعرض للإماء في السكك، فإذا سألوه قال: كبير فقير مفتون " وفي رواية إسحاق عن جرير " فافتقر وافتتن " وفي رواية سيف " فعمى واجتمع عنده عشر بنات، وكان إذا سمع بحس المرأة تشبث بها، فإذا أنكر عليه قال: دعوة المبارك سعد " وفي رواية ابن عيينة " ولا تكون فتنة إلا وهو فيها " وفي رواية محمد بن جحادة عن مصعب ابن سعد نحو هذه القصة قال: "وأدرك فتنة المختار فقتل فيها " رواه المخلص في فوائده. ومن طريقه ابن عساكر. وفي رواية سيف أنه عاش إلى فتنة الجماجم وكانت سنة ثلاث وثمانين، وكانت فتنة المختار حين غلب على الكوفة من سنة خمس وستين إلى أن قتل سنة سبع وستين. قوله: "دعوة سعد" أفردها لإرادة الجنس وإن كانت ثلاث دعوات، وكان سعد معروفا بإجابة الدعوة، روى الطبراني من طريق الشعبي قال: "قيل لسعد متى أصبت الدعوة؟ قال: يوم بدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم استجب لسعد " وروى الترمذي وابن حبان والحاكم من طريق قيس بن أبي حازم عن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" . وفي هذا الحديث من الفوائد سوى ما تقدم جواز عزل الإمام بعض عماله إذا شكى إليه وإن لم يثبت عليه شيء إذا اقتضت ذلك المصلحة، قال مالك: قد عزل عمر سعدا وهو أعدل من يأتي بعده إلى يوم القيامة. والذي يظهر أن عمر عزله حسما لمادة الفتنة، ففي رواية سيف " قال عمر: لولا الاحتياط وأن لا يتقي من أمير مثل سعد لما عزلته". وقيل عزله إيثارا لقربه منه لكونه من أهل الشورى، وقيل لأن مذهب عمر أنه لا يستمر بالعامل أكثر من أربع سنين. وقال المازري: اختلفوا هل يعزل القاضي بشكوى الواحد أو الاثنين أو لا يعزل حتى يجتمع الأكثر على الشكوى منه؟ وفيه استفسار العامل عما قيل فيه، والسؤال

(2/240)


عمن شكى في موضع عمله، والاقتصار في المسألة على من يظن به الفضل. وفيه أن السؤال عن عدالة الشاهد ونحوه يكون ممن يجاوره، وأن تعريض العدل للكشف عن حاله لا ينافي قبول شهادته في الحال. وفيه خطاب الرجل الجليل بكنيته، والاعتذار لمن سمع في حقه كلام يسوؤه. وفيه الفرق بين الافتراء الذي يقصد به السب، والافتراء الذي يقصد به دفع الضرر، فيعزر قائل الأول دون الثاني. ويحتمل أن يكون سعد لم يطلب حقه منهم أو عفا عنهم واكتفى بالدعاء على الذي كشف قناعه في الافتراء عليه دون غيره فإنه صار كالمنفرد بأذيته. وقد جاء في الخبر " من دعا على ظالمه فقد انتصر " فلعله أراد الشفقة عليه بأن عجل له العقوبة في الدنيا، فانتصر لنفسه وراعى حال من ظلمه لما كان فيه من وفور الديانة. ويقال إنه إنما دعا عليه لكونه انتهك حرمة من صحب صاحب الشريعة، وكأنه قد انتصر لصاحب الشريعة. وفيه جواز الدعاء على الظالم المعين بما يستلزم النقص في دينه، وليس هو من طلب وقوع المعصية، ولكن من حيث أنه يؤدي إلى نكاية الظالم وعقوبته. ومن هذا القبيل مشروعية طلب الشهادة وإن كانت تستلزم ظهور الكافر على المسلم، ومن الأول قول موسى عليه السلام: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم} الآية. وفيه سلوك الورع في الدعاء، واستدل به على أن الأوليين من الرباعية متساويتان في الطول، وسيأتي البحث في ذلك في الباب الذي بعده. قوله: "عن محمود بن الربيع" في رواية الحميدي عن سفيان " حدثنا الزهري سمعت محمود بن الربيع " ولابن أبي عمر عن سفيان بالإسناد عند الإسماعيلي: "سمعت عبادة بن الصامت " ولمسلم من رواية صالح بن كيسان " عن ابن شهاب أن محمود بن الربيع أخبره أن عبادة بن الصامت أخبره"، وبهذا التصريح بالإخبار يندفع تعليل من أعله بالانقطاع لكون بعض الرواة أدخل بين محمود وعبادة رجلا وهي رواية ضعيفة عند الدار قطني. قوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" زاد الحميدي عن سفيان " فيها " كذا في مسنده. وهكذا رواه يعقوب بن سفيان عن الحميدي، أخرجه البيهقي. وكذا لابن أبي عمر عند الإسماعيلي، ولقتيبة وعثمان ابن أبي شيبة عند أبي نعيم في المستخرج، وهذا يعين أن المراد القراءة في نفس الصلاة، قال عياض: قيل يحمل على نفي الذات وصفاتها، لكن الذات غير منتفية فيخص بدليل خارج، ونوزع في تسليم عدم نفي الذات على الإطلاق لأنه إن ادعى أن المراد بالصلاة معناها اللغوي فغير مسلم، لأن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لأنه المحتاج إليه فيه لكونه بعث لبيان الشرعيات لا لبيان موضوعات اللغة، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام دعوى نفي الذات، فعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار الإجزاء ولا الكمال، لأنه يؤدي إلى الإجمال كما نقل عن القاضي أبي بكر وغيره حتى مال إلى التوقف، لأن نفي الكمال يشعر بحصول الإجزاء فلو قدر الإجزاء منتفيا لأجل العموم قدر ثابتا لأجل إشعار نفي الكمال بثبوته فيتناقض، ولا سبيل إلى إضمارهما معا لأن الإضمار إنما احتيج إليه للضرورة، وهي مندفعة بإضمار فرد فلا حاجة إلى أكثر منه، ودعوى إضمار أحدهما ليست بأولى من الآخر، قاله ابن دقيق العيد، وفي هذا الأخير نظر لأنا إن سلمنا تعذر الحمل على الحقيقة فالحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة أولى من الحمل على أبعدهما، ونفي الإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السابق إلى الفهم، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس فيكون أولى، ويؤيده رواية الإسماعيلي من طريق العباس بن الوليد النرسي أحد شيوخ البخاري عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " وتابعه على ذلك زياد بن أيوب أحد الإثبات أخرجه الدار قطني، وله شاهد من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا بهذا اللفظ، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، ولأحمد

(2/241)


من طريق عبد الله بن سوادة القشيري عن رجل عن أبيه مرفوعا: "لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " وقد أخرج ابن خزيمة عن محمد بن الوليد القرشي عن سفيان حديث الباب بلفظ: "لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب " فلا يمتنع أن يقال إن قوله: "لا صلاة " نفي بمعنى النهي أي لا تصلوا إلا بقراءة فاتحة الكتاب، ونظيره ما رواه مسلم من طريق القاسم عن عائشة مرفوعا: "لا صلاة بحضرة الطعام " فإنه في صحيح ابن حبان بلفظ: "لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام " أخرجه مسلم من طريق حاتم بن إسماعيل وغيره عن يعقوب بن مجاهد عن القاسم، وابن حبان من طريق حسين بن علي وغيره عن يعقوب به. وأخرج له ابن حبان أيضا شاهدا من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ، وقد قال بوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة الحنفية لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطا في صحة الصلاة لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة، والذي لا تتم الصلاة إلا به فرض، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن، وقد قال تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} فالفرض قراءة ما تيسر، وتعيين الفاتحة إنما ثبت بالحديث فيكون واجبا يأثم من يتركه وتجزئ الصلاة بدونه، وإذا تقرر ذلك لا ينقضي عجبي ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم وترك الطمأنينة فيصلي صلاة يريد أن يتقرب بها إلى الله تعالى وهو يتعمد ارتكاب الإثم فيها مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره، واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة بناء على أن الركعة الواحدة تسمى صلاة لو تجردت، وفيه نظر لأن قراءتها في ركعة واحدة من الرباعية مثلا يقتضي حصول اسم قراءتها في تلك الصلاة، والأصل عدم وجوب الزيادة على المرة الواحدة، والأصل أيضا عدم إطلاق الكل على البعض، لأن الظهر مثلا كلها صلاة واحدة حقيقة كما صرح به في حديث الإسراء حيث سمى المكتوبات خمسا، وكذا حديث عبادة " خمس صلوات كتبهن الله على العباد " وغير ذلك، فإطلاق الصلاة على ركعة منها يكون مجازا، قال الشيخ تقي الدين: وغاية ما في هذا البحث أن يكون في الحديث دلالة مفهوم على صحة الصلاة بقراءة الفاتحة في كل ركعة واحدة منها، فإن دل دليل خارج منطوق على وجوبها في كل ركعة كان مقدما. انتهى. وقال بمقتضى هذا البحث الحسن البصري رواه عنه ابن المنذر بإسناد صحيح، ودليل الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم: "وافعل ذلك في صلاتك كلها " بعد أن أمره بالقراءة. وفي رواية لأحمد وابن حبان: "ثم افعل ذلك في كل ركعة " ولعل هذا هو السر في إيراد البخاري له عقب حديث عبادة " واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم سواء أسر الإمام أم جهر، لأن صلاته صلاة حقيقة فتنتفي عند انتفاء القراءة إلا إن جاء دليل يقتضي تخصيص صلاة المأموم من هذا العموم فيقدم، قاله الشيخ تقي الدين، واستدل من أسقطها عن المأموم مطلقا كالحنفية بحديث: "من صلى خلف إمام فقراءة الإمام له قراءة " لكنه حديث ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب طرقه وعلله الدار قطني وغيره، واستدل من أسقطها عنه في الجهرية كالمالكية بحديث: "وإذا قرأ فأنصتوا " وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري، ولا دلالة فيه لإمكان الجمع بين الأمرين: فينصت فيما عدا الفاتحة، أو ينصت إذا قرأ الإمام ويقرأ إذا سكت، وعلى هذا فيتعين على الإمام السكوت في الجهرية ليقرأ المأموم لئلا يوقعه في ارتكاب النهي حيث لا ينصت إذا قرأ الإمام، وقد ثبت الإذن بقراءة المأموم الفاتحة في الجهرية بغير قيد، وذلك فيما أخرجه البخاري في " جزء القراءة " والترمذي وابن حبان وغيرهما من رواية مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة " أن النبي صلى الله عليه وسلم ثقلت عليه القراءة في الفجر، فلما فرغ قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم. قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" ، والظاهر أن حديث الباب مختصر

(2/242)


من هذا وكان هذا سببه والله أعلم. وله شاهد من حديث أبي قتادة عند أبي داود والنسائي، ومن حديث أنس عند ابن حبان، وروى عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: لابد من أم القرآن، ولكن من مضى كان الإمام يسكت ساعة قدر ما يقرأ المأموم بأم القرآن. "فائدة": زاد معمر عن الزهري في آخر حديث الباب: "فصاعدا " أخرجه النسائي وغيره، واستدل به على وجوب قدر زائد على الفاتحة. وتعقب بأنه ورد لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة، قال البخاري في " جزء القراءة ": هو نظير قوله: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا " وادعى ابن حبان والقرطبي وغيرهما الإجماع على عدم وجوب قدر زائد عليها، وفيه نظر لثبوته عن بعض الصحابة ومن بعدهم فيما رواه ابن المنذر وغيره، ولعلهم أرادوا أن الأمر استقر على ذلك، وسيأتي بعد ثمانية أبواب حديث أبي هريرة " وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت " ولابن خزيمة من حديث ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فصلى ركعتين لم يقرأ فيها إلا بفاتحة الكتاب" حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته سيأتي الكلام عليه بعد أربعة وعشرين بابا، وموضع الحاجة منه هنا قوله: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " وكأنه أشار بإبراده عقب حديث عبادة أن الفاتحة إنما تتحتم على من يحسنها، وأن من لا يحسنها يقرأ بما تيسر عليه، وأن إطلاق القراءة في حديث أبي هريرة مقيد بالفاتحة كما في حديث عبادة والله أعلم. قال الخطابي: قوله: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " ظاهر الإطلاق التخيير، لكن المراد به فاتحة الكتاب لمن أحسنها بدليل حديث عبادة، وهو كقوله تعالى: {فما استيسر من الهدى} ثم عينت السنة المراد. وقال النووي: قوله: "ما تيسر " محمول على الفاتحة فإنها متيسرة، أو على ما زاد من الفاتحة بعد أن يقرأها، أو على من عجز عن الفاتحة. وتعقب بأن قوله: "ما تيسر " لا إجمال فيه حتى يبين بالفاتحة، والتقييد بالفاتحة ينافي التيسير الذي يدل عليه الإطلاق فلا يصح حمله عليه. وأيضا فسورة الإخلاص متيسرة وهي أقصر من الفاتحة فلم ينحصر التيسير في الفاتحة، وأما الحمل على ما زاد فمبني على تسليم تعين الفاتحة وهي محل النزاع. وأما حمله على من عجز فبعيد، والجواب القوي عن هذا أنه ورد في حديث المسيء صلاته تفسير ما تيسر بالفاتحة كما أخرجه أبو داود من حديث رفاعة بن رافع رفعه: "وإذا قمت فتوجهت فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ، وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك " الحديث. ووقع فيه في بعض طرقه: "ثم اقرأ إن كان معك قرآن، فإن لم يكن فاحمد الله وكبر وهلل " فإذا جمع بين ألفاظ الحديث كان تعين الفاتحة هو الأصل لمن معه قرآن، فإن عجز عن تعلمها وكان معه شيء من القرآن قرأ ما تيسر، وإلا انتقل إلى الذكر. ويحتمل الجمع أيضا أن يقال: المراد بقوله: "فاقرأ ما تيسر معك من القرآن " أي بعد الفاتحة، ويؤيده حديث أبي سعيد عند أبي داود بسند قوي " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر" .

(2/243)


96 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ
759- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ يُطَوِّلُ فِي الأُولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الأُولَى وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ "

(2/243)


[الحديث 759 – أطرافه : 779.778.776.762]
760- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ سَأَلْنَا خَبَّابًا أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَالَ نَعَمْ قُلْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ قَالَ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ "
قوله: "باب القراءة في الظهر" هذه الترجمة والتي بعدها يحتمل أن يكون المراد بهما إثبات القراءة فيهما وأنها تكون سرا إشارة إلى من خالف في ذلك كابن عباس كما سيأتي البحث فيه بعد ثمانية أبواب، ويحتمل أن يراد به تقدير المقروء أو تعينه، والأول أظهر لكونه لم يتعرض في البابين لإخراج شيء مما يتعلق بالاحتمال الثاني، وقد أخرج مسلم وغيره في ذلك أحاديث مختلفة سيأتي بعضها، وجمع بينها بوقوع ذلك في أحوال متغايرة، إما لبيان الجواز أو لغير ذلك من الأسباب، واستدل ابن العربي باختلافها على عدم مشروعية سورة معينة في صلاة معينة، وهو واضح فيما اختلف لا فيما لم يختلف كتنزيل وهل أتى في صبح الجمعة. قوله: "حدثنا شيبان" هو ابن عبد الرحمن، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه" في رواية الجوزقي من طريق عبيد الله بن موسى عن شيبان التصريح بالإخبار ليحيى من عبد الله ولعبد الله من أبيه، وكذا للنسائي من رواية الأوزاعي عن يحيى لكن بلفظ التحديث فيهما، وكذا عنده من رواية أبي إبراهيم القناد عن يحيى حدثني عبد الله فأمن بذلك تدليس يحيى. قوله: "الأوليين" بتحتانيتين الأولى. قوله: "صلاة الظهر" فيه جواز تسمية الصلاة بوقتها. قوله: "وسورتين" أي في كل ركعة سورة كما سيأتي صريحا في الباب الذي بعده، واستدل به على أن قراءة سورة أفضل من قراءة قدرها من طويلة قاله النووي، وزاد البغوي: ولو قصرت السورة عن المقروء، كأنه مأخوذ من قوله كان يفعل، لأنها تدل على الدوام أو الغالب قوله: "يطول في الأولى ويقصر في الثانية" قال الشيخ تقي الدين: كان السبب في ذلك أن النشاط في الأولى يكون أكثر فناسب التخفيف في الثانية حذرا من الملل. انتهى. وروى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى في آخر هذا الحديث: "فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة"، ولأبي داود وابن خزيمة نحوه من رواية أبي خالد عن سفيان عن معمر، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: إني لأحب أن يطول الإمام الركعة الأولى من كل صلاة حتى يكثر الناس، واستدل به على استحباب تطويل الأولى على الثانية وسيأتي في باب مفرد، وجمع بينه وبين حديث سعد الماضي حيث قال: "أمد في الأوليين " أن المراد تطويلهما على الأخريين لا التسوية بينهما في الطول. وقال من استحب استواءهما: إنما طالت الأولى بدعاء الافتتاح والتعوذ، وأما في القراءة فهما سواء، ويدل عليه حديث أبي سعيد عند مسلم: "كان يقرأ في الظهر في الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية " وفي رواية لابن ماجه أن الذين حزروا ذلك كانوا ثلاثين من الصحابة، وادعى ابن حبان أن الأولى إنما طالت على الثانية بالزيادة في الترتيل فيها مع استواء المقروء فيهما، وقد روى مسلم من حديث حفصة " أنه صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها" ، واستدل به بعض الشافعية على جواز تطويل الإمام في الركوع لأجل الداخل، قال القرطبي: ولا حجة فيه، لأن الحكمة لا يعلل بها لخفائها أو لعدم انضباطها، ولأنه لم يكن يدخل في الصلاة يريد تقصير تلك الركعة ثم يطيلها لأجل الآتي، وإنما كان يدخل فيها ليأتي بالصلاة على سنتها من

(2/244)


تطويل الأولى، فافترق الأصل والفرع فامتنع الإلحاق. انتهى. وقد ذكر البخاري في " جزء القراءة " كلاما معناه أنه لم يرد عن أحد من السلف في انتظار الداخل في الركوع شيء والله أعلم. ولم يقع في حديث أبي قتادة هذا هنا ذكر القراءة في الأخريين، فتمسك به بعض الحنفية على إسقاطها فيهما، لكنه ثبت في حديثه من وجه آخر كما سيأتي من حديثه بعد عشرة أبواب. قوله: "ويسمع الآية أحيانا" في الرواية الآتية " ويسمعنا " وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية شيبان، وللنسائي من حديث البراء " كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات " ولابن خزيمة من حديث أنس نحوه لكن قال: "بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية " واستدل به على جواز الجهر في السرية وأنه لا سجود على من فعل ذلك خلافا لمن قال ذلك من الحنفية وغيرهم سواء قلنا كان يفعل ذلك عمدا لبيان الجواز أو بغير قصد للاستغراق في التدبر، وفيه حجة على من زعم أن الإسرار شرط لصحة الصلاة السرية. وقوله: "أحيانا " يدل على تكرر ذلك منه. وقال ابن دقيق العيد: فيه دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية، وكأنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها.ويحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عقب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين، وهو بعيد جدا والله أعلم. قوله: "حدثنا عمر" هو ابن حفص بن غياث. قوله: "حدثني عمارة" هو ابن عمير كما في الباب الذي بعده. قوله: "عن أبي معمر" هو عبد الله بن سخبرة بفتح المهملة والموحدة بينهما خاء معجمة ساكنة الأزدي، وأفاد الدمياطي أن لأبيه صحبة، ووهمه بعضهم في ذلك فإن الصحابي أخرج حديثه الترمذي وقال في سياقه " عن سخبرة وليس بالأزدي". قلت: لكن جزم البخاري وابن أبي خيثمة وابن حبان بأنه الأزدي، والعلم عند الله. قوله: "باضطراب لحيته" فيه الحكم بالدليل لأنهم حكموا باضطراب لحيته على قراءته، لكن لا بد من قرينة تعين القراءة دون الذكر والدعاء مثلا لأن اضطراب اللحية يحصل بكل منهما، وكأنهم نظروه بالصلاة الجهرية لأن ذلك المحل منها هو محل القراءة لا الذكر والدعاء، وإذا انضم إلى ذلك قول أبي قتادة " كان يسمعنا الآية أحيانا " قوي الاستدلال، والله أعلم. وقال بعضهم: احتمال الذكر ممكن لكن جزم الصحابي بالقراءة مقبول، لأنه أعرف بأحد المحتملين فيقبل تفسيره، واستدل به المصنف على مخافتته القراءة في الظهر والعصر كما سيأتي، وعلى رفع بصر المأموم إلى الإمام كما مضى، واستدل به البيهقي على أن الإسرار بالقراءة لا بد فيه من إسماع المرء نفسه، وذلك لا يكون إلا بتحريك اللسان والشفتين، بخلاف ما لو أطبق شفتيه وحرك لسانه بالقراءة فإنه لا تضطرب بذلك لحيته فلا يسمع نفسه. انتهى وفيه نظر لا يخفى.

(2/245)


97 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْعَصْرِ
761- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ قُلْتُ لِخَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَالَ نَعَمْ قَالَ قُلْتُ بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قِرَاءَتَهُ قَالَ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ "

(2/245)


762- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ سُورَةٍ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا "
قوله: "باب القراءة في العصر" أورد فيه حديث خباب المذكور قبله، وكذا حديث أبي قتادة مختصرا، وقد تقدم الكلام عليهما في الباب الذي قبله وعلى ما يؤخذ من الترجمة تصريحا أو إشارة. قوله: "قلنا" في رواية الحموي والمستملي: "قلت لخباب". قوله: "ابن الأرت" بفتح الراء وتشديد المثناة الفوقانية.قوله: "هشام" هو الدستوائي.

(2/246)


98 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ
763- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفًا فَقَالَتْ يَا بُنَيَّ وَاللَّهِ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ إِنَّهَا لاَخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ "
[الحديث 763- طرفه في 4429]
764- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارٍ وَقَدْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ
قوله: "باب القراءة في المغرب" المراد تقديرها لا إثباتها لكونها جهرية، بخلاف ما تقدم في " باب القراءة في الظهر " من أن المراد إثباتها. قوله: "أن أم الفضل" هي والدة ابن عباس الراوي عنها، وبذلك صرح الترمذي في روايته فقال: "عن أمه أم الفضل " وقد تقدم في المقدمة أن اسمها لبابة بنت الحارث الهلالية، ويقال إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، والصحيح أخت عمر زوج سعيد بن زيد لما سيأتي في المناقب من حديثه " لقد رأيتني وعمر موثقي وأخته على الإسلام " واسمها فاطمة. قوله: "سمعته" أي سمعت ابن عباس، وفيه التفات لأن السياق يقتضي أن يقول سمعتني. قوله: "لقد ذكرتني" أي شيئا نسيته، وصرح عقيل في روايته عن ابن شهاب أنها آخر صلوات النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: "ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله " أورده المصنف في " باب الوفاة " وقد تقدم في " باب إنما جعل الإمام ليؤتم به " من حديث عائشة أن الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مرض موته كانت الظهر، وأشرنا إلى الجمع بينه وبين حديث أم الفضل هذا بأن الصلاة التي حكتها عائشة كانت في المسجد، والتي حكتها أم الفضل كانت في بيته كما رواه النسائي، لكن يعكر عليه رواية ابن إسحاق عن ابن شهاب في هذا الحديث بلفظ: "خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب " الحديث أخرجه الترمذي، ويمكن حمل قولها " خرج إلينا " أي من مكانه الذي كان راقدا فيه إلى من في البيت فصلى بهم، فتلتئم الروايات. قوله: "يقرأ بها" هو في موضع الحال أي سمعته في حال قراءته. قوله: "عن ابن أبي مليكة" في رواية عبد الرزاق عن ابن جريج " حدثني ابن أبي مليكة " ومن طريقة أخرجه أبو داود وغيره. قوله: "عن عروة" في رواية الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج " سمعت ابن أبي مليكة أخبرني عروة أن مروان أخبره". قوله: "قال لي زيد بن ثابت مالك تقرأ" كان مروان حينئذ أميرا على المدينة من قبل معاوية. قوله: "بقصار" كذا للأكثر بالتنوين وهو عوض عن

(2/246)


المضاف إليه. وفي رواية الكشميهني: "بقصار المفصل " وكذا للطبراني عن أبي مسلم الكجي، وللبيهقي من طريق الصغاني كلاهما عن أبي عاصم شيخ البخاري فيه، وكذا في جميع الروايات عند أبي داود والنسائي وغيرهما، لكن في رواية النسائي: "بقصار السور " وعند النسائي من رواية أبي الأسود عن عروة عن زيد بن ثابت أنه قال لمروان " أبا عبد الملك، أتقرأ في المغرب بقل هو الله أحد وإنا أعطيناك الكوثر"، وصرح الطحاوي من هذا الوجه بالإخبار بين عروة وزيد، فكأن عروة سمعه من مروان عن زيد ثم لقي زيدا فأخبره. قوله: "وقد سمعت" استدل به ابن المنير على أن ذلك وقع منه صلى الله عليه وسلم نادرا، قال: لأنه لو لم يكن كذلك لقال كان يفعل يشعر بأن عادته كانت كذلك. انتهى. وغفل عما في رواية البيهقي من طريق أبي عاصم شيخ البخاري فيه بلفظ: "لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ" ، ومثله في رواية حجاج عن ابن جريج عند الإسماعيلي. قوله: "بطولي الطوليين" أي بأطول السورتين الطويلتين وطولي تأنيث أطول، والطوليين بتحتانيتين تثنية طولى، وهذه رواية الأكثر. ووقع في رواية كريمة: "بطول " بضم الطاء وسكون الواو، ووجهه الكرماني بأنه أطلق المصدر وأراد الوصف أي كان يقرأ بمقدار طول الطوليين وفيه نظر لأنه يلزم منه أن يكون قرأ بقدر السورتين، وليس هو المراد كما سنوضحه. وحكى الخطابي أنه ضبطه عن بعضهم بكسر الطاء وفتح الواو. قال: وليس بشيء، لأن الطول الحبل ولا معنى له هنا. انتهى. ووقع في رواية الإسماعيلي: "بأطول الطوليين " بالتذكير، ولم يقع تفسيرهما في رواية البخاري. ووقع في رواية أبي الأسود المذكورة " بأطول الطوليين المص " وفي رواية أبي داود " قال قلت وما طولي الطوليين؟ قال: الأعراف " وبين النسائي في رواية له أن التفسير من قول عروة ولفظه: "قال قلت يا أبا عبد الله " وهي كنية عروة. وفي رواية البيهقي " قال فقلت لعروة". وفي رواية الإسماعيلي: "قال ابن أبي مليكة وما طولي الطوليين " زاد أبو داود " قال - يعني ابن جريج - وسألت أنا ابن أبي مليكة فقال لي من قبل نفسه المائدة والأعراف " كذا رواه عن الحسن بن علي عن عبد الرزاق. وللجوزقي من طريق عبد الرحمن بن بشر عن عبد الرزاق مثله لكن قال: "الأنعام " بدل المائدة وكذا في رواية حجاج بن محمد والصغاني المذكورتين، وعند أبي مسلم الكجي عن أبي عاصم بدل الأنعام يونس أخرجه الطبراني وأبو نعيم في المستخرج، فحصل الاتفاق على تفسير الطولي بالأعراف، وفي تفسير الأخرى ثلاثة أقوال المحفوظ منها الأنعام، قال ابن بطال: البقرة أطول السبع الطوال فلو أرادها لقال طولى الطوال، فلما لم يردها دل على أنه أراد الأعراف لأنها أطول السور بعد البقرة. وتعقب بأن النساء أطول من الأعراف، وليس هذا التعقيب بمرضي لأنه اعتبر عدد الآيات وعدد آيات الأعراف أكثر من عدد آيات النساء وغيرها من السبع بعد البقرة والمتعقب اعتبر عدد الكلمات لأن كلمات النساء تزيد على كلمات الأعراف بمائتي كلمة. وقال ابن المنير: تسمية الأعراف والأنعام بالطوليين إنما هو لعرف فيهما لا أنهما أطول من غيرهما والله أعلم. واستدل بهذين الحديثين على امتداد وقت المغرب، وعلى استحباب القراءة فيها بغير قصار المفصل، وسيأتي البحث في ذلك في الباب الذي بعده.

(2/247)


بابا الجهر في المغرب
...
99 - باب الْجَهْرِ فِي الْمَغْرِبِ
765- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ"
[الحديث765- أطرافه في: 4854,4023,3050]

(2/247)


قوله: "باب الجهر في المغرب" اعترض الزين بن المنير على هذه الترجمة والتي بعدها بأن الجهر فيهما لا خلاف فيه، وهو عجيب لأن الكتاب موضوع لبيان الأحكام من حيث هي، وليس هو مقصورا على الخلافيات.
قوله: "عن محمد بن جبير" في رواية ابن خزيمة من طريق سفيان عن الزهري " حدثني محمد ابن جبير". قوله: "قرأ في المغرب بالطور" في رواية ابن عساكر: "يقرأ: { وكذا هو في الموطأ وعند مسلم، زاد المصنف في الجهاد من طريق محمد بن عمرو عن الزهري " وكان جاء في أسارى بدر " ولابن حبان من طريق محمد بن عمرو عن الزهري " في فداء أهل بدر " وزاد الإسماعيلي من طريق معمر " وهو يومئذ مشرك " وللمصنف في المغازي من طريق معمر أيضا في آخره قال: "وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي " وللطبراني من رواية أسامة بن زيد عن الزهري نحوه وزاد: "فأخذني من قراءته الكرب " ولسعيد بن منصور عن هشيم عن الزهري " فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن " واستدل به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا الفسق إذا أداه في حال العدالة. وستأتي الإشارة إلى زوائد أخرى فيه لبعض الرواة. قوله: "بالطور" أي بسورة الطور. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن تكون الباء بمعنى من كقوله تعالى: {عينا يشرب بها عباد الله" وسنذكر ما فيه قريبا. قال الترمذي: ذكر عن مالك أنه كره أن يقرأ في المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات. وقال الشافعي: لا أكره ذلك بل أستحبه. وكذا نقله البغوي في شرح السنة عن الشافعي، والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهية في ذلك ولا استحباب. وأما مالك فاعتمد العمل بالمدينة بل وبغيرها. قال ابن دقيق العيد: استمر العمل على تطويل القراءة في الصبح وتقصيرها في المغرب، والحق عندنا أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وثبتت مواظبته عليه فهو مستحب، وما لم تثبت مواظبته عليه فلا كراهة قيه. قلت: الأحاديث التي ذكرها البخاري في القراءة هنا ثلاثة مختلفة المقادير لأن الأعراف من السبع الطوال، والطور من طوال المفصل، والمرسلات من أوساطه. وفي ابن حبان من حديث ابن عمر أنه قرأ بهم في المغرب بالذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، ولم أر حديثا مرفوعا فيه التنصيص على القراءة فيها بشيء من قصار المفصل إلا حديثا في ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على الكافرون والإخلاص، ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة. فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول، قال الدار قطني: أخطأ فيه بعض رواته. وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعيد بن سماك وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب واعتمد بعض أصحابنا وغيرهم حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال: "ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، قال سليمان: فكان يقرأ في الصبح بطوال المفصل وفي المغرب بقصار المفصل " الحديث أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة وغيره. وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك، لكن في الاستدلال به نظر يأتي مثله في " باب جهر الإمام بالتأمين " بعد ثلاثة عشر بابا. نعم حديث رافع الذي تقدم في المواقيت أنهم كانوا ينتضلون بعد صلاة المغرب يدل على تخفيف القراءة فيها، وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يطيل القراءة في المغرب إما لبيان الجواز وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين، وليس في حديث جبير بن مطعم دليل على أن ذلك تكرر منه، وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يرد زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أم الفضل إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات لكونه كان في

(2/248)


حال شدة مرضه وهو مظنة التخفيف، وهو يرد على أبي داود ادعاء نسخ التطويل لأنه روى عقب حديث زيد بن ثابت من طريق عروة أنه كان يقرأ في المغرب بالقصار، قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد، ولم يبين وجه الدلالة، وكأنه لما رأى عروة راوي الخبر عمل بخلافه حمله على أنه اطلع على ناسخة، ولا يخفى بعد هذا الحمل، وكيف تصح دعوى النسخ وأم الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بالمرسلات. قال ابن خزيمة في صحيحه: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماما استحب له أن يخفف في القراءة كما تقدم ا هـ. وهذا أولى من قول القرطبي: ما ورد في مسلم وغيره من تطويل القراءة فيما استقر عليه التقصير أو عكسه فهو متروك، وادعى الطحاوي أنه لا دلالة في شيء الأحاديث الثلاثة على تطويل القراءة، لاحتمال أن يكون المراد أنه قرأ بعض السورة. ثم استدل لذلك بما رواه من طريق هشيم عن الزهري في حديث جبير بلفظ: فسمعته يقول: {إن عذاب ربك لواقع} قال فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هي هذه الآية خاصة ا هـ. وليس في السياق ما يقتضي قوله: "خاصة " مع كون رواية هشيم عن الزهري بخصوصها مضعفة، بل جاء في روايات أخرى ما يدل على أنه قرأ السورة كلها، فعند البخاري في التفسير " سمعته يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" الآيات إلى قوله: "المصيطرون" كاد قلبي يطير " ونحوه لقاسم بن أصبغ. وفي رواية أسامة ومحمد بن عمرو المتقدمتين " سمعته يقرأ والطور وكتاب مسطور " ومثله لابن سعد، وزاد في أخرى فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد. ثم ادعى الطحاوي أن الاحتمال المذكور يأتي في حديث زيد بن ثابت، وكذا أبداه الخطابي احتمالا، وفيه نظر لأنه لو كان قرأ بشيء منها يكون قدر سورة من قصار المفصل لما كان لإنكار زيد معنى. وقد روى حديث زيد هشام بن عروة عن أبيه عنه أنه قال لمروان " إنك لتخف القراءة في الركعتين من المغرب فوالله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بسورة الأعراف في الركعتين جميعا " أخرجه ابن خزيمة. واختلف على هشام في صحابيه والمحفوظ عن عروة أنه زيد بن ثابت. وقال أكثر الرواة: عن هشام عن زيد بن ثابت أو أبي أيوب، وقيل عن عائشة أخرجه النسائي مقتصرا على المتن دون القصة، واستدل به الخطابي وغيره على امتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق، وفيه نظر لأن من قال إن لها وقتا واحدا لم يحده بقراءة معينة بل قالوا: لا يجوز تأخيرها عن أول غروب الشمس، وله أن يمد القراءة فيها ولو غاب الشفق. واستشكل المحب الطبري إطلاق هذا، وحمله الخطابي قبله على أنه يوقع ركعة في أول الوقت ويديم الباقي ولو غاب الشفق، ولا يخفى ما فيه، لأن تعمد إخراج بعض الصلاة عن الوقت ممنوع، ولو أجزأت فلا يحمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. واختلف في المراد بالمفصل مع الاتفاق على أن منتهاه آخر القرآن هل هو من أول الصافات أو الجاثية أو القتال أو الفتح أو الحجرات أو ق أو الصف أو تبارك أو سبح أو الضحى إلى آخر القرآن أقوال أكثرها مستغرب اقتصر في شرح المهذب على أربعة من الأوائل سوى الأول والرابع، وحكى الأول والسابع والثامن ابن أبي الصيف اليمني، وحكى الرابع والثامن الدزماري في " شرح التنبيه " وحكى التاسع المرزوقي في شرحه، وحكى الخطابي والماوردي العاشر، والراجح الحجرات صلى الله عليه وسلم ذكره النووي. ونقل المحب الطبري قولا شاذا أن المفصل جميع القرآن، وأما

(2/249)


ما أخرجه الطحاوي من طريق زرارة بن أوفى قال: أقرأني أبو موسى كتاب عمر إليه: اقرأ في المغرب آخر المفصل. وآخر المفصل من "لم يكن" إلى آخر القرآن فليس تفسيرا للمفصل بل لآخره، فدل على أن أوله قبل ذلك.

(2/250)


100 - باب الْجَهْرِ فِي الْعِشَاءِ
766- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ فَقُلْتُ لَهُ قَالَ سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ
[الحديث:766 – أطرافه في : 1078,1074,768]
767- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيٍّ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ "
[الحديث767- أطرافه في:7546,4952,769]
قوله: "باب الجهر في العشاء" قدم ترجمة الجهر على ترجمة القراءة عكس ما صنع في المغرب ثم الصبح، والذي في المغرب أولى ولعله من النساخ. قوله: "حدثنا معتمر" هو ابن سليمان التيمي، وبكر هو ابن عبد الله المزني، وأبو رافع هو الصائغ، وهو ومن قبله من رجال الإسناد بصريون، وهو من كبار التابعين وبكر من أوساطهم وسليمان من صغارهم. قوله: "فقلت له" أي في شأن السجدة يعني سألته عن حكمها، وفي الرواية التي بعدها " فقلت ما هذه؟". قوله: "سجدت" زاد غير أبي ذر " بها " أي بالسجدة، أو الباء للظرف أي فيها يعني السورة، وفي الرواية الآتية لغير الكشميهني: "سجدت فيها". قوله: "خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم" أي في الصلاة، وبه يتم استدلال المصنف لهذه الترجمة والتي بعدها، ونوزع في ذلك لأن سجوده في السورة أعم من أن يكون داخل الصلاة أو خارجها فلا ينهض الدليل. وقال ابن المنير: لا حجة فيه على مالك حيث كره السجدة في الفريضة يعني في المشهور عنه، لأنه ليس مرفوعا، وغفل عن رواية أبي الأشعث عن معتمر بهذا الإسناد بلفظ: "صليت خلف أبي القاسم فسجد بها " أخرجه ابن خزيمة، وكذلك أخرجه الجوزقي من طريق يزيد بن هارون عن سليمان التيمي بلفظ: "صليت مع أبي القاسم فسجد فيها". قوله: "حتى ألقاه" كناية عن الموت، وسيأتي الكلام على بقية فوائده في أبواب سجود التلاوة إن شاء الله تعالى. قوله: "عن عدي" هو ابن ثابت كما في الرواية الآتية بعد باب. قوله: "في سفر" زاد الإسماعيلي: "فصلى العشاء ركعتين". قوله: "في إحدى الركعتين" في رواية النسائي: "في الركعة الأولى". قوله: "بالتين" أي بسورة التين، وفي الرواية الآتية " والتين " على الحكاية، وإنما قرأ في العشاء بقصار المفصل لكونه كان مسافرا والسفر يطلب فيه التخفيف، وحديث أبي هريرة محمول على الحضر فلذلك قرأ فيها بأوساط المفصل.

(2/250)


101 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ بِالسَّجْدَةِ
768- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنِي التَّيْمِيُّ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ صَلَّيْتُ

(2/250)


102 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ
769- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ سَمِعَ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فِي الْعِشَاءِ وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ أَوْ قِرَاءَةً "
قوله: "باب القراءة في العشاء" تقدم أيضا وقوله فيه "وما سمعت أحدا أحسن صوتا منه" يأتي الكلام عليه في أواخر كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(2/251)


103 - باب يُطَوِّلُ فِي الأُولَيَيْنِ وَيَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ
حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن أبي عون قال سمعت جابر بن سمرة قال قال عمر لسعد ثم لقد شكوك في كل شيء حتى الصلاة قال أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صدقت ذاك الظن بك أو ظني بك"
قوله: "باب يطول في الأوليين" أي من صلاة العشاء، ذكر فيه حديث سعد، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في " باب وجوب القراءة"، ووجهه هنا إما الإشارة إلى إحدى الروايتين في قوله: "صلاتي العشاء أو العشي " وإما لإلحاق العشاء بالظهر والعصر لكون كل منهن رباعية.

(2/251)


باب القراءة في الفجر وقالت أم سلمة قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالطور
...
104 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ
771- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ سَلاَمَةَ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَوَاتِ فَقَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ وَالْعَصْرَ وَيَرْجِعُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ وَلاَ يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَلاَ يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَلاَ الْحَدِيثَ بَعْدَهَا وَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ فَيَعْرِفُ جَلِيسَهُ وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ
772- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي كُلِّ صَلاَةٍ يُقْرَأُ فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَعْنَاكُمْ وَمَا أَخْفَى عَنَّا أَخْفَيْنَا عَنْكُمْ وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْ وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ "

(2/251)


105 - باب الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ صَلاَةِ الْفَجْرِ
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ طُفْتُ وَرَاءَ النَّاسِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَيَقْرَأُ بِالطُّورِ
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا مَا لَكُمْ فَقَالُوا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالُوا مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلاَّ شَيْءٌ حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ فَقَالُوا هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَقَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ}
وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ[الحديث 773 – طرفه في : 4921]
774- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أُمِرَ وَسَكَتَ فِيمَا أُمِرَ { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قوله: "باب الجهر بقراءة صلاة الصبح" ولغير أبي ذر " صلاة الفجر " وهو موافق للترجمة الماضية، وعلى رواية أبي ذر فلعله أشار إلى أنها تسمى بالأمرين. قوله: "وقالت أم سلمة الخ" وصله المصنف في " باب طواف النساء " من كتاب الحج من رواية مالك عن أبي الأسود عن عروة عن زينب عن أمها أم سلمة قالت: "شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكي - أي أن بها مرضا - فقال: طوفي وراء الناس وأنت راكبة. قالت: فطفت حينئذ والنبي صلى الله عليه وسلم: "الحديث، وليس فيه بيان أن الصلاة حينئذ كانت الصبح، ولكن تبين ذلك من رواية أخرى أوردها بعد ستة أبواب من طريق يحيى بن أبي زكريا الغساني عن هشام بن عروة عن أبيه ولفظه: "فقال: إذا أقيمت الصلاة للصبح فطوفي " وهكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية حسان بن إبراهيم عن هشام، وأما ما أخرجه ابن خزيمة من طريق ابن وهب عن مالك وابن لهيعة جميعا عن أبي الأسود في هذا الحديث قال فيه: "قالت وهو يقرأ في العشاء الآخرة " فشاذ، وأظن سياقه لفظ ابن لهيعة، لأن ابن وهب رواه في الموطأ عن مالك فلم يعين الصلاة كما رواه أصحاب مالك كلهم أخرجه الدار قطني في الموطآت له من طرق كثيرة عن مالك، منها رواية ابن وهب المذكورة. وإذا تقرر ذلك فابن لهيعة لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف، وعرف بهذا اندفاع الاعتراض الذي حكاه ابن التين عن بعض المالكية حيث أنكر أن تكون الصلاة المذكورة صلاة الصبح فقال: ليس في الحديث بيانها، والأولى أن

(2/253)


تحمل على النافلة لأن الطواف يمتنع إذا كان الإمام في صلاة الفريضة. انتهى. وهو رد للحديث الصحيح بغير حجة، بل يستفاد من هذا الحديث جواز ما منعه، بل يستفاد من الحديث التفصيل فنقول: إن كان الطائف بحيث يمر بين يدي المصلين فيمتنع كما قال وإلا فيجوز، وحال أم سلمة هو الثاني لأنها طافت من وراء الصفوف. ويستنبط منه أن الجماعة في الفريضة ليست فرضا على الأعيان، إلا أن يقال كانت أم سلمة حينئذ شاكية فهي معذورة، أو الوجوب يختص بالرجال. وسيأتي بقية مباحث هذا الحديث في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. وقال ابن رشيد: ليس في حديث أم سلمة نص على ما ترجم له من الجهر بالقراءة، إلا أنه يؤخذ بالاستنباط من حيث أن قولها " طفت وراء الناس " يستلزم الجهر بالقراءة لأنه لا يمكن سماعها للطائف من ورائهم إلا إن كانت جهرية، قال: ويستفاد منه جواز إطلاق " قرأ: وإرادة جهر، والله أعلم. ذكر البخاري حديث ابن عباس في قصة سماع الجن القرآن، وسيأتي الكلام عليه في موضعه من التفسير، ويأتي بيان عكاظ في كتاب الحج في شرح حديث ابن عباس أيضا: "كانت عكاظ من أسواق الجاهلية " والمقصود منه هنا قوله: "وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له " وهو ظاهر في الجهر، ثم ذكر حديث ابن عباس أيضا قال: "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر وسكت فيما أمر، {وما كان ربك نسيا } ، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ووجه المناسبة منه ما تقدم من إطلاق " قرأ: على جهر، لكن كان يبقى خصوص تناول ذلك لصلاة الصبح فيستفاد ذلك من الذي قبله، فكأنه يقول: هذا الإجمال هنا مفسر بالبيان في الذي قبله، لأن المحدث بهما واحد، أشار إلى ذلك ابن رشيد. ويمكن أن يكون مراد البخاري بهذا ختم تراجم القراءة في الصلوات إشارة منه إلى أن المعتمد في ذلك هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينبغي لأحد أن يغير شيئا مما صنعه. وقال الإسماعيلي: إيراد حديث ابن عباس هنا يغاير ما تقدم من إثبات القراءة في الصلوات، لأن مذهب ابن عباس كان ترك القراءة في السرية. وأجيب بأن الحديث الذي أورده البخاري ليس فيه دلالة على الترك، وأما ابن عباس فكان يشك في ذلك تارة وينفي القراءة أخرى وربما أثبتها، أما نفيه فرواه أبو داود وغيره من طريق عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عمه " أنهم دخلوا عليه فقالوا له: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: لا. قيل: لعله كان يقرأ في نفسه؟ قال: هذه شر من الأولى، كان عبدا مأمورا بلغ ما أمر به " وأما شكه فرواه أبو داود أيضا والطبري من رواية حصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: "ما أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا " انتهى. وقد أثبت قراءته فيهما خباب وأبو قتادة وغيرهما كما تقدم، فروايتهم مقدمة على من نفى، فضلا على من شك. ولعل البخاري أراد بإيراد هذا إقامة الحجة عليه، لأنه احتج بقوله تعالى:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" فيقال له قد ثبت أنه قرأ فيلزمك أن تقرأ، والله أعلم. وقد جاء عن ابن عباس إثبات ذلك أيضا رواه أيوب عن أبي العالية البراء قال: "سألت ابن عباس: أقرأ في الظهر والعصر؟ قال هو أمامك اقرأ منه ما قل أو كثر". أخرجه ابن المنذر والطحاوي وغيرهما. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن إبراهيم المعروف بابن علية. قوله: {وما كان ربك نسيا} - و - {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} قال الخطابي: مراده أنه لو شاء الله أن ينزل بيان أحوال الصلاة حتى تكون قرآنا يتلى لفعل ولم يتركه عن نسيان، ولكنه وكل الأمر في ذلك إلى بيان نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم شرع الاقتداء به. قال: ولا خلاف في وجوب أفعاله التي هي لبيان مجمل الكتاب. و قوله: "أسوة" بكسر الهمزة وضمها أي قدوة.

(2/254)


106- باب الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ
وَالْقِرَاءَةِ بِالْخَوَاتِيمِ وَبِسُورَةٍ قَبْلَ سُورَةٍ وَبِأَوَّلِ سُورَةٍ وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ :
" قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الصُّبْحِ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ
وَقَرَأَ عُمَرُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنْ الْبَقَرَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنْ الْمَثَانِي وَقَرَأَ الأَحْنَفُ بِالْكَهْفِ فِي الأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ أَوْ يُونُسَ وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصُّبْحَ بِهِمَا
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ الأَنْفَالِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ
وَقَالَ قَتَادَةُ فِيمَنْ يَقْرَأُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ يُرَدِّدُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ كُلٌّ كِتَابُ اللَّهِ
774م- وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلاَةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لاَ تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى فَقَالَ مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ فَلَمَّا أَتَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ يَا فُلاَنُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّهَا فَقَالَ حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ
775- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ فَقَالَ هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ من آل حاميم فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
[الحديث775-طرفاه في:5043,49996]
قوله: "باب الجمع بين السورتين في ركعة، والقراءة بالخواتم، وبسورة قبل سورة، وبأول سورة" هذا الباب على أربع مسائل: فأما الجمع بين سورتين فظاهر من حديث ابن مسعود ومن حديث أنس أيضا، وأما القراءة بالخواتم فيؤخذ بالإلحاق من القراءة بالأوائل والجامع بينهما أن كلا منهما بعض سورة، ويمكن أن يؤخذ من قوله: "قرأ عمر بمائة من البقرة " ويتأيد بقول قتادة " كل كتاب الله " وأما تقديم السورة على السورة على ما في ترتيب المصحف فمن حديث أنس أيضا ومن فعل عمر في رواية الأحنف عنه، وأما القراءة بأول سورة فمن حديث عبد الله بن السائب ومن حديث ابن مسعود أيضا. قوله: "ويذكر عن عبد الله بن السائب" أي ابن السائب بن صيفي بن عابد بموحدة ابن عبد الله ابن عمر بن مخزوم، وحديثه هذا وصله مسلم من طريق ابن جريج قال: "سمعت

(2/255)


محمد بن عباد بن جعفر يقول أخبرني أبو سلمة بن سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المسيب العابدي كلهم عن عبد الله ابن السائب قال: صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة فاستفتح بسورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون - أو ذكر عيسى، شك محمد بن عباد - أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة فركع " وفي رواية بحذف " فركع". وقوله: "ابن عمرو بن العاص " وهم من بعض أصحاب ابن جريج، وقد رويناه في مصنف عبد الرزاق عنه فقال: "عبد الله بن عمرو القارئ " وهو الصواب. واختلف في إسناده على ابن جريج فقال ابن عيينة عنه عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن السائب أخرجه ابن ماجه. وقال أبو عاصم عنه عن محمد بن عباد عن أبي سلمة بن سفيان - أو سفيان بن أبي سلمة - وكأن البخاري علقه بصيغة " ويذكر " لهذا الاختلاف، أن إسناده مما تقوم به الحجة. قال النووي: قوله: "ابن العاص " غلط عند الحفاظ، فليس هذا عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي المعروف، بل هو تابعي حجازي، قال: وفي الحديث جواز قطع القراءة وجواز القراءة ببعض السورة، وكرهه مالك. انتهى. وتعقب بأن الذي كرهه مالك أن يقتصر على بعض السورة مختارا، والمستدل به ظاهر في أنه كان للضرورة فلا يرد عليه، وكذا يرد على من استدل به على أنه لا يكره قراءة بعض الآية أخذا من قوله: "حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى"، لأن كلا من الموضعين يقع في وسط آية وفيه ما تقدم. نعم الكراهة لا تثبت إلا بدليل، وأدلة الجواز كثيرة، وقد تقدم حديث زيد بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الأعراف في الركعتين ولم يذكر ضرورة ففيه القراءة بالأول وبالأخير، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق أنه أم الصحابة في صلاة الصبح بسورة البقرة فقرأها في الركعتين، وهذا إجماع منهم. وروى محمد بن عبد السلام الخشني بضم الخاء المعجمة بعدها معجمة مفتوحة خفيفة ثم نون - من طريق الحسن البصري قال: "غزونا خراسان ومعنا ثلاثمائة من الصحابة فكان الرجل منهم يصلي بنا فيقرأ الآيات من السورة ثم يركع " أخرجه ابن حزم محتجا به، وروى الدار قطني بإسناد قوي عن ابن عباس أنه قرأ الفاتحة وآية من البقرة في كل ركعة صلى الله عليه وسلم. قوله: "أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة" بفتح أوله من السعال، ويجوز الضم، ولابن ماجه: "شرقة " بمعجمة وقاف. وقوله في رواية مسلم: "فحذف " أي ترك القراءة. وفسره بعضهم برمي النخامة الناشئة عن السعلة، والأول أظهر لقوله: "فركع " ولو كان أزال ما عاقه عن القراءة لتمادى فيها. واستدل به على أن السعال لا يبطل الصلاة، وهو واضح فيما إذا غلبه. وقال الرافعي في شرح المسند: قد يستدل به على أن سورة المؤمنين مكية وهو قول الأكثر، قال: ولمن خالف أن يقول يحتمل أن يكون قوله: "بمكة " أي في الفتح أو حجة الوداع. قلت: قد صرح بقضية الاحتمال المذكور النسائي في روايته فقال: "في فتح مكة " ويؤخذ منه أن قطع القراءة لعارض السعال ونحوه أولى من التمادي في القراءة مع السعال والتنحنح، ولو استلزم تخفيف القراءة فيما استحب فيه تطويلها. قوله: "وقرأ عمر الخ" وصله ابن أبي شيبة من طريق أبي رافع قال: "كان عمر يقرأ في الصبح بمائة من البقرة ويتبعها بسورة من المثاني". انتهى. والمثاني قيل ما لم يبلغ مائة آية أو بلغها (2)
ـــــــ
(1) ويدل على ما ذكره الشارح من جواز قراءة بعض السورة مارواه البخاري عن ابن عباس أن النبي ثلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر من البقرة وآل عمران { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } الاية, و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا} الاية , وماجاز في النافلة جاز في الفريضة مالم يرد مخصص. والله أعلم
(2) هذه الكلمة سقطت من المخطوطة , ولعل سقوطها أولى . والله أعلم

(2/256)


وقيل ما عدا السبع الطوال إلى المفصل، قيل سميت مثاني لأنها ثنيت السبع، وسميت الفاتحة المثاني لأنها تثنى في كل صلاة. وأما قوله سبحانه وتعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} فالمراد بها سورة الفاتحة وقيل غير ذلك. قوله: "وقرأ الأحنف" وصله جعفر الفريابي في " كتاب الصلاة " له من طريق عبد الله بن شقيق قال: "صلى بنا الأحنف " فذكره وقال: "في الثانية يونس " ولم يشك. قال: وزعم أنه صلى خلف عمر كذلك. ومن هذا الوجه أخرجه أبو نعيم في المستخرج. قوله: "وقرأ ابن مسعود الخ" وصله عبد الرزاق بلفظه من رواية عبد الرحمن بن يزيد النخعي عنه، وأخرجه هو وسعيد بن منصور من وجه آخر عن عبد الرزاق صلى الله عليه وسلم بلفظ: "فافتتح الأنفال حتى بلغ ونعم النصير". انتهى. وهذا الموضع هو رأس أربعين آية، فالروايتان متوافقتان، وتبين بهذا أنه قرأ بأربعين من أولها، فاندفع الاستدلال به على قراءة خاتمة السورة بخلاف الأثر عن عمر فإنه محتمل. قال ابن التين إن لم تؤخذ القراءة بالخواتم من أثر عمر أو ابن مسعود وإلا فلم يأت البخاري بدليل على ذلك، وفاته ما قدمناه من أنه مأخوذ بالإلحاق مؤيد بقول قتادة. قوله: "وقال قتادة" وصله عبد الرزاق، وقتادة تابعي صغير يستدل لقوله ولا يستدل به، وإنما أراد البخاري منه قوله: "كل كتاب الله" فإنه يستنبط منه جواز خمس ما ذكر في الترجمة، وأما قول قتادة في ترديد السورة فلم يذكره المصنف في الترجمة، فقال ابن رشيد: لعله لا يقول به، لما روي فيه من الكراهة عن بعض العلماء. قلت: وفيه نظر، لأنه لا يراعي هذا القدر إذا صح له الدليل. قال الزين ابن المنير: ذهب مالك إلى أن يقرأ المصلي في كل ركعة بسورة كما قال ابن عمر: لكل سورة حظها من الركوع والسجود. قال: ولا تقسم السورة في ركعتين، ولا يقتصر على بعضها ويترك الباقي، ولا يقرأ بسورة قبل سورة يخالف ترتيب المصحف، قال: فإن فعل ذلك كله لم تفسد صلاته، بل هو خلاف الأولى. قال: وجميع ما استدل به البخاري لا يخالف ما قال مالك، لأنه محمول على بيان الجواز. انتهى. وأما حديث ابن مسعود ففيه إشعار بالمواظبة على الجمع بين سورتين كما سيأتي في الكلام عليه. وقد نقل البيهقي في مناقب الشافعي عنه أن ذلك مستحب، وما عدا ذلك مما ذكر أنه خلاف الأولى هو مذهب الشافعي أيضا، وعن أحمد والحنفية كراهية قراءة سورة قبل سورة تخالف ترتيب المصحف، واختلف هل رتبه الصحابة بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم أو باجتهاد منهم؟ قال القاضي أبو بكر: الصحيح الثاني، وأما ترتيب الآيات فتوقيفي بلا خلاف. ثم قال ابن المنير؛ والذي يظهر أن التكرير أخف من قسم السورة في ركعتين انتهى. وسبب الكراهة فيما يظهر أن السورة مرتبط بعضها ببعض فأي موضع قطع فيه لم يكن كانتهائه إلى آخر السورة، فإنه إن قطع في وقف غير تام كانت الكراهة ظاهرة، وإن قطع في وقف تام فلا يخفى أنه خلاف الأولى. وقد تقدم في الطهارة قصة الأنصاري الذي رماه العدو بسهم فلم يقطع صلاته وقال: "كنت في سورة فكرهت أن أقطعها " وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال عبيد الله بن عمر" أي ابن حفص بن عاصم، وحديثه هذا وصله الترمذي والبزار عن البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس، والبيهقي من رواية محرز بن سلمة كلاهما عن عبد العزيز الدراوردي عنه بطوله، قال الترمذي: حسن صحيح غريب من حديث عبيد الله عن ثابت، قال: وقد روى مبارك ابن فضالة عن ثابت فذكر طرفا من آخره، وذكر الطبراني في الأوسط أن الدراوردي تفرد به عن عبيد الله،
ـــــــ
(1) في المخطوطة " عبد الرحمن "
(2) لكن سبق قريبا مايدل على عدم كراهة قسم السورة في ركعتين" فتنبه.

(2/257)


وذكر الدار قطني في العلل أن حماد بن سلمة خالف عبيد الله في إسناده فرواه عن ثابت عن حبيب بن سبيعة مرسلا قال: وهو أشبه بالصواب، وإنما رجحه لأن حماد سلمة مقدم في حديث ثابت، لكن عبيد الله ابن عمر حافظ حجة، وقد وافقه مبارك في إسناده فيحتمل أن يكون لثابت فيه شيخان. قوله: "كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء" هو كلثوم بن الهدم، رواه ابن منده في كتاب التوحيد من طريق أبي صالح عن ابن عباس، كذا أورده بعضهم. والهدم بكسر الهاء وسكون الدال، وهو من بني عمرو بن عوف سكان قباء، وعليه نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم في الهجرة إلى قباء. قيل وفي تعيين المبهم به هنا نظر، لأن في حديث عائشة في هذه القصة أنه كان أمير سرية. وكلثوم بن الهدم مات في أوائل ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فيما ذكره الطبري وغيره من أصحاب المغازي، وذلك قبل أن يبعث السرايا. ثم رأيت بخط بعض من تكلم على رجال العمدة كلثوم بن زهدم وعزاه لابن منده، لكن رأيت أنا بخط الحافظ رشيد الدين العطار في حواشي مبهمات الخطيب نقلا عن صفة التصوف لابن طاهر: أخبرنا عبد الوهاب بن أبي عبد الله بن منده عن أبيه فسماه كرز بن زهدم، فالله أعلم. وعلى هذا فالذي كان يؤم في مسجد قباء غير أمير السرية، ويدل على تغايرهما أن في رواية الباب أنه كان يبدأ بقل هو الله أحد وأمير السرية كان يختم بها، وفي هذا أنه كان يصنع ذلك في كل ركعة ولم يصرح بذلك في قصة الآخر، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله وأمير السرية أمر أصحابه أن يسألوه، وفي هذا أنه قال إنه يحبها فبشره بالجنة وأمير السرية قال إنها صفة الرحمن فبشره بأن الله يحبه. والجمع بين هذا التغاير كله ممكن لولا ما تقدم من كون كلثوم بن الهدم مات قبل البعوث والسرايا، وأما من فسره بأنه قتادة بن النعمان فأبعد جدا، فإن في قصة قتادة أنه كان يقرؤها في الليل يرددها، ليس فيه أنه أم بها لا في سفر ولا في حضر، ولا أنه سئل عن ذلك ولا بشر. وسيأتي ذلك واضحا في فضائل القرآن. وحديث عائشة الذي أشرنا إليه أورده المصنف في أوائل كتاب التوحيد كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قوله: "مما يقرأ به" أي من السورة بعد الفاتحة. قوله: "افتتح بقل هو الله أحد" تمسك به من قال: لا يشترط قراءة الفاتحة، وأجيب بأن الراوي لم يذكر الفاتحة اعتناء بالعلم لأنه لا بد منها فيكون معناه افتتح بسورة بعد الفاتحة، أو كان ذلك قبل ورود الدليل الدال على اشتراط الفاتحة. قوله: "فكلمه أصحابه" يظهر منه أن صنيعه ذلك خلاف ما ألفوه من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وكرهوا أن يؤمهم غيره" إما لكونه من أفضلهم كما ذكر في الحديث، وإما لكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قرره. قوله: "ما يأمرك به أصحابك" أي يقولون لك، ولم يرد الأمر بالصيغة المعروفة لكنه لازم من التخيير الذي ذكروه كأنهم قالوا له افعل كذا وكذا. قوله: "ما يمنعك وما يحملك" سأله عن أمرين فأجابه بقوله: إني أحبها، وهو جواب عن الثاني مستلزم للأول بانضمام شيء آخر وهو إقامة السنة المعهودة في الصلاة، فالمانع مركب من المحبة والأمر المعهود، والحامل على الفعل المحبة وحدها، ودل تبشيره له بالجنة على الرضا بفعله، وعبر بالفعل الماضي في قوله: "أدخلك " وإن كان دخول الجنة مستقبلا تحقيقا لوقوع ذلك، قال ناصر الدين بن المنير: في هذا الحديث أن المقاصد تغير أحكام الفعل لأن الرجل لو قال إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها لأمكن أن يأمره بحفظ غيرها، لكنه اعتل بحبها فظهرت صحة قصده فصوبه. قال: وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه والاستكثار منه ولا يعد ذلك هجرانا لغيره، وفيه ما يشعر بأن سورة الإخلاص مكية. قوله: "جاء رجل إلى ابن مسعود" هو نهيك بفتح النون وكسر الهاء ابن سنان البجلي، سماه منصور في روايته عن

(2/258)


أبي وائل عند مسلم، وسيأتي من وجه آخر. قوله: "قرأت المفصل" تقدم أنه من ق إلى آخر القرآن على الصحيح، وسمي مفصلا لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة على الصحيح. ولقول هذا الرجل قرأت المفصل سبب بينه مسلم في أول حديثه من رواية وكيع عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف "من ماء غير آسن" أو غير ياسن؟ فقال عبد الله: كل القرآن أحصيت غير هذا، قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة. قوله: "هذا" بفتح الهاء وتشديد الذال المعجمة، أي سردا وإفراطا في السرعة، وهو منصوب على المصدر، وهو استفهام إنكار بحذف أداة الاستفهام، وهي ثابتة في رواية منصور عند مسلم وقال ذلك لأن تلك الصفة كانت عادتهم في إنشاد الشعر. وزاد فيه مسلم من رواية وكيع أيضا أن أقواما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وزاد أحمد عن أبي معاوية وإسحاق عن عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش فيه: "ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع " وهو في رواية مسلم دون قوله نفع صلى الله عليه وسلم. قوله: "لقد عرفت النظائر" أي السور المماثلة في المعاني كالموعظة أو الحكم أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي، لما سيظهر عند تعيينها. قال المحب الطبري: كنت أظن أن المراد أنها متساوية في العد، حتى اعتبرتها فلم أجد فيها شيئا متساويا. قوله: "يقرن" بضم الراء وكسرها. قوله: "عشرين سورة من المفصل وسورتين من آل حم في كل ركعة" وقع في فضائل القرن من رواية واصل عن أبي وائل " ثماني عشرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم " وبين فيه من رواية أبي حمزة عن الأعمش أن قوله عشرين سورة إنما سمعة أبو وائل من علقمة عن عبد الله ولفظه: "فقام عبد الله ودخل علقمة معه ثم خرج علقمة فسألناه فقال: عشرون سورة من المفصل على تأليف ابن مسعود آخرهن حم الدخان وعم يتساءلون " ولابن خزيمة من طريق أبي خالد الأحمر عن الأعمش مثله وزاد فيه: "فقال الأعمش: أولهن الرحمن وآخرهن الدخان " ثم سردها، وكذلك سردها أبو إسحاق عن علقمة والأسود عن عبد الله فيما أخرجه أبو داود متصلا بالحديث بعد قوله: "كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة: الرحمن والنجم في ركعة واقتربت والحاقة في ركعة والذاريات والطور في ركعة والواقعة ونون في ركعة وسأل والنازعات في ركعة وويل للمطففين وعبس في ركعة والمدثر والمزمل في ركعة وهل أتى ولا أقسم في ركعة وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة وإذا الشمس كورت والدخان في ركعة " هذا لفظ أبي داود والآخر مثله إلا أنه لم يقل " في ركعة " في شيء منها، وذكر السورة الرابعة قبل الثالثة والعاشرة قبل التاسعة ولم يخالفه في الاقتران، وقد سردها أيضا محمد بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي وائل فيما أخرجه الطبراني لكن قدم وأخر في بعض وحذف بعضها، ومحمد ضعيف. وعرف بهذا أن قوله في رواية واصل " وسورتين من آل حم " مشكل لأن الروايات لم تختلف أنه ليس في العشرين من الحواميم غير الدخان فيحمل على التغليب. أو فيه حذف كأنه قال وسورتين إحداهما من آل حم، وكذا قول في رواية أبي حمزة " آخرهن حم الدخان وعم يتساءلون " مشكل لأن حم الدخان آخرهن في جميع الروايات. وأما عم فهي في رواية أبي خالد السابعة عشرة وفي رواية أبي إسحاق الثامنة عشرة فكأن فيه تجوزا، لأن عم وقعت في الركعتين الأخيرتين في الجملة، ويتبين بهذا أن في قوله في حديث الباب: "عشرين سورة من المفصل " تجوزا لأن الدخان ليست منه، ولذلك فصلها من المفصل في رواية واصل. نعم يصح
ـــــــ
(1) قوله " دون قوله نفع" هذا سهو من الشارح رحمه الله , بل هذا اللفظ موجود في صحيح مسلم , ولفظه " ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع " انتهى . والله أعلم

(2/259)


ذلك على أحد الآراء في حد المفصل كما تقدم وكما سيأتي بيانه أيضا في فضائل القرآن. وفي هذا الحديث من الفوائد كراهة الإفراط في سرعة التلاوة لأنه ينافي المطلوب من التدبر والتفكر في معاني القرآن، ولا خلاف في جواز السرد بدون تدبر لكن القراءة بالتدبر أعظم أجرا، وفيه جواز تطويل الركعة الأخيرة على ما قبلها، وهذا الحديث أول حديث موصول أورده في هذا الباب، فلهذا صدر الترجمة بما دل عليه، وفيه ما ترجم له وهو الجمع بين السور لأنه إذا جمع بين السورتين ساغ الجمع بين ثلاث فصاعدا لعدم الفرق، وقد روى أبو داود وصححه ابن خزيمة من طريق عبد الله بن شقيق قال: "سألت عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين السور؟ قالت: نعم من المفصل " ولا يخالف هذا ما سيأتي في التهجد أنه جمع بين البقرة وغيرها من الطوال، لأنه يحمل على النادر. وقال عياض في حديث ابن مسعود هذا يدل على أن هذا القدر كان قدر قراءته غالبا، وأما تطويله فإنما كان في التدبر والترتيل، وما ورد غير ذلك من قراءة البقرة وغيرها في ركعة فكان نادرا. قلت: لكن ليس في حديث ابن مسعود ما يدل على المواظبة، بل فيه أنه كان يقرن بين هذه السور المعينات إذا قرأ من المفصل، وفيه موافقة لقول عائشة وابن عباس: إن صلاته بالليل كانت عشر ركعات غير الوتر، وفيه ما يقوي قول القاضي أبي بكر المتقدم: إن تأليف السور كان عن اجتهاد من الصحابة، لأن تأليف عبد الله المذكور مغاير لتأليف مصحف عثمان، وسيأتي ذلك في باب مفرد في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى.

(2/260)


107 - باب يَقْرَأُ فِي الأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
776- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مَا لاَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ "
قوله: "باب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب" يعني بغير زيادة، وسكت عن ثالثة المغرب رعاية للفظ الحديث مع أن حكمها حكم الآخريين من الرباعية، ويحتمل أن يكون لم يذكرها لما رواه مالك من طريق الصنابحي أنه سمع أبا بكر الصديق يقرأ فيها {ربنا لا تزغ قلوبنا} الآية. قوله باب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب يعني بغير زيادة وسكت عن ثالثة المغرب رعاية للفظ الحديث مع أن حكمها حكم الأخريين من الرباعية ويحتمل أن يكون لم يذكرها لما رواه مالك من طريق الصنابحي أنه سمع أبا بكر الصديق يقرأ فيها ربنا لا تزغ قلوبنا الآية 743 قوله عن يحيى هو بن أبي كثير قوله بأم الكتاب فيه ما ترجم له وفيه التنصيص على قراءة الفاتحة في كل ركعة وقد تقدم البحث فيه قال بن خزيمة قد كنت زمانا أحسب أن هذا اللفظ لم يروه عن همام وتابعه أبان إلى أن رأيت الأوزاعي قد رواه أيضا عن يحيى يعني أن أصحاب يحيى اقتصروا على قوله كان يقرأ في الأوليين بأم الكتاب وسورة كما تقدم عنه من طرق وأن هماما زاد هذه الزيادة وهي الاقتصار على الفاتحة في الأخريين فكان يخشى شذوذها إلى أن قويت عنده بمتابعة من ذكر لكن أصحاب الأوزاعي لم يتفقوا على ذكرها كما سيظهر ذلك بعد باب قوله ما لا يطيل كذا للأكثر ولكريمة ما لا المطلوب وما نكرة موصوفة أو مصدرية وفي رواية المستملى والحموي بما لا يطيل واستدل به على تطويل الركعة الأولى على الثانية وقد تقدم البحث في ذلك في باب القراءة في الظهر وسيأتي أيضا

(2/260)


108 - باب مَنْ خَافَتَ الْقِرَاءَةَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
777- حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا جرير عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي معمر ثم قلت لخباب أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر قال نعم قلنا من أين علمت قال باضطراب لحيته "
قوله: "باب من خافت القراءة" أي أسر. وفي رواية الكشميهني: "خافت بالقراءة " وهو أوجه. ودلالة حديث خباب للترجمة واضحة، وقد تقدم الكلام على بقية فوائده قريبا.
وفي رواية الكشميهني: "خافت بالقراءة " وهو أوجه.
ودلالة حديث خباب للترجمة واضحة، وقد تقدم الكلام على بقية فوائده قريبا.

(2/261)


109 - باب إِذَا أَسْمَعَ الإِمَامُ الْآيَةَ
778- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بأم الكتاب وسورة معها في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر وصلاة العصر ويسمعنا الآية أحيانا وكان يطيل في الركعة الأولى"
قوله: "باب إذا أسمع" وللكشميهني: "إذا سمع " بتشديد الميم "الإمام الآية" أي في السرية، خلافا لمن قال يسجد للسهو إن كان ساهيا، وكذا لمن قال يسجد مطلقا حديث أبي قتادة واضح في الترجمة وقد تقدم الكلام عليه أيضا.

(2/261)


110 - باب يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى
حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام عن يحيى بن كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان المطلوب في الركعة الأولى من صلاة الظهر ويقصر في الثانية ويفعل ذلك في صلاة الصبح "
قوله: "باب يطول في الركعة الأولى" أي في جميع الصلوات، وهو ظاهر الحديث المذكور في الباب، وقد تقدم البحث فيه أيضا، وعن أبي حنيفة يطول في أولى الصبح خاصة. وقال البيهقي في الجمع بين أحاديث المسألة: يطول في الأولى إن كان ينتظر أحدا وإلا فليسو بين الأوليين. وروى عبد الرزاق نحوه عن ابن جريج عن عطاء قال: إني لأحب أن يطول الإمام الأولى من كل صلاة حتى يكثر الناس، فإذا صليت لنفسي فإني أحرص على أن أجعل الأوليين سواء. وذهب بعض الأئمة إلى استحباب تطويل الأولى من الصبح دائما، وأما غيرها فإن كان يترجى كثرة المأمومين ويبادر هو أول الوقت فينتظر وإلا فلا. وذكر في حكمة اختصاص الصبح بذلك أنها تكون عقب النوم والراحة وفي ذلك الوقت يواطئ السمع واللسان القلب لفراغه وعدم تمكن الاشتغال بأمور المعاش وغيرها منه، والعلم عند الله.
"تنبيه" أبو يعفور المذكور في السند هو الأكبر، واسمه واقد بالقاف وقيل وقدان، وجزم النووي في شرح مسلم بأنه الأصغر واسمه عبد الرحمن بن عبيد، وبالأول جزم أبو علي الجياني والمزي وغيرهما وهو الصواب

(2/261)


111 - باب جَهْرِ الإِمَامِ بِالتَّأْمِينِ
وَقَالَ عَطَاءٌ آمِينَ دُعَاءٌ أَمَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَنْ وَرَاءَهُ حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُنَادِي الإِمَامَ لاَ تَفُتْنِي بِآمِينَ
وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَدَعُهُ وَيَحُضُّهُمْ وَسَمِعْتُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا
70- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ آمِينَ"
[الحديث780 – طرفه في : 6402]
قوله: "باب جهر الإمام بالتأمين" أي بعد الفاتحة في الجهر، والتأمين مصدر أمن بالتشديد أي قال آمين وهي بالمد والتخفيف في جميع الروايات وعن جميع القراء، وحكى الواحدي عن حمزة والكسائي الإمالة، وفيها ثلاث لغات أخرى شاذة: القصر حكاه ثعلب وأنشد له شاهدا، وأنكره ابن درستويه وطعن في الشاهد بأنه لضرورة الشعر، وحكى عياض ومن تبعه عن ثعلب أنه إنما أجازه في الشعر خاصة. والتشديد مع المد والقصر. وخطأهما جماعة من أهل اللغة. وآمين من أسماء الأفعال مثل صه للسكوت، وتفتح في الوصل لأنها مبنية بالاتفاق مثل كيف، وإنما لم تكسر لثقل الكسرة بعد الياء ومعناها اللهم استجب عند الجمهور، وقيل غير ذلك مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى، كقول من قال: معناه اللهم آمنا بخير، وقيل كذلك يكون، وقيل درجة في الجنة تجب لقائلها، وقيل لمن استجيب له كما استجيب للملائكة، وقيل هو اسم من أسماء الله تعالى رواه عبد الرزاق عن أبي هريرة بإسناد ضعيف وعن هلال بن يساف التابعي مثله، وأنكره جماعة. وقال من مد وشدد: معناها قاصدين إليك ونقل ذلك عن جعفر الصادق؛ وقال من قصر وشدد: هي كلمة عبرانية أو سريانية. وعند أبي داود من حديث أبي زهير النميري الصحابي أن آمين مثل الطابع على الصحيفة، ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "إن ختم بآمين فقد أوجب" . قوله: "وقال عطاء إلى قوله بآمين" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: قلت له أكان ابن الزبير يؤمن على أثر أم القرآن؟ قال: نعم ويؤمن من وراءه؛ حتى إن للمسجد للجة. ثم قال: إنما آمين دعاء. قال: وكان أبو هريرة يدخل المسجد وقد قام الإمام فيناديه فيقول: لا تسبقني بآمين. وقوله حتى إن بكسر الهمزة للمسجد أي لأهل المسجد للجة اللام للتأكيد واللجة قال أهل اللغة: الصوت المرتفع، وروى " للجبة " بموحدة وتخفيف الجيم حكاه ابن التين، وهي الأصوات المختلطة. ورواه البيهقي " لرجة " بالراء بدل اللام كما سيأتي. قوله: "لا تفتني" بضم الفاء وسكون المثناة، وحكى بعضهم عن بعض النسخ بالفاء والشين المعجمة ولم أر ذلك في شيء من الروايات، وإنما فيها بالمثناة من الفوات وهي بمعنى ما تقدم عند عبد الرزاق من السبق، ومراد أبي هريرة أن يؤمن مع الإمام داخل الصلاة، وقد تمسك به بعض المالكية في أن الإمام لا يؤمن وقال: معناه لا تنازعني بالتأمين الذي هو من وظيفة المأموم، وهذا تأويل بعيد، وقد جاء عن أبي هريرة وجه آخر أخرجه البيهقي من طريق حماد عن ثابت عن أبي رافع قال: كان أبو

(2/262)


هريرة يؤذن لمروان، فاشترط أن لا يسبقه بالضالين حتى يعلم أنه دخل في الصف، وكأنه كان يشتغل بالإقامة وتعديل الصفوف، وكان مروان يبادر إلى الدخول في الصلاة قبل فراغ أبي هريرة وكان أبو هريرة ينهاه عن ذلك، وقد وقع له ذلك مع غير مروان: فروى سعيد بن منصور من طريق محمد بن سيربن أن أبا هريرة كان مؤذنا بالبحرين وأنه اشترط على الإمام أن لا يسبقه بآمين، والإمام بالبحرين كان العلاء بن الحضرمي، بينه عبد الرزاق من طريق أبي سلمة عنه، وقد روى نحو قول أبي هريرة عن بلال أخرجه أبو داود من طريق أبي عثمان عن بلال أنه قال: "يا رسول الله، لا تستبقني بآمين " ورجاله ثقات. لكن قيل إن أبا عثمان لم يلق بلالا، وقد روي عنه بلفظ: "أن بلالا قال: "وهو ظاهر الإرسال، ورجحه الدار قطني وغيره على الموصول، وهذا الحديث يضعف التأويل السابق لأن بلالا لا يقع منه ما حمل هذا القائل كلام أبي هريرة عليه، وتمسك به بعض الحنفية بأن الإمام يدخل في الصلاة قبل فراغ المؤذن من الإقامة، وفيه نظر لأنها واقعة عين وسببها محتمل فلا يصح التمسك بها، قال ابن المنير: مناسبة قول عطاء للترجمة أنه حكم بأن التأمين دعاء فاقتضى ذلك أن يقوله الإمام لأنه في مقام الداعي، بخلاف قول المانع إنها جواب للدعاء فيختص بالمأموم، وجوابه أن التأمين قائم مقام التلخيص بعد البسط، فالداعي فصل المقاصد بقوله: "اهدنا الصراط المستقيم" إلى آخره، والمؤمن أتى بكلمة تشمل الجميع فإن قالها الإمام فكأنه دعا مرتين مفصلا ثم مجملا. قوله: "وقال نافع الخ" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرنا نافع أن ابن عمر كان إذا ختم أم القرآن قال آمين لا يدع أن يؤمن إذا ختمها ويحضهم على قولها، قال: "وسمعت منه في ذلك خيرا". وقوله: "ويحضهم" بالضاد المعجمة، و قوله: "خيرا" بسكون التحتانية أي فضلا وثوابا وهي رواية الكشميهني، ولغيره: "خيرا " بفتح الموحدة أي حديثا مرفوعا، ويشعر به ما أخرجه البيهقي " كان ابن عمر إذا أمن الناس أمن معهم ويرى ذلك من السنة". ورواية عبد الرزاق مثل الأول، وكذلك رويناه في فوائد يحيى بن معين قال حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج، ومناسبة أثر ابن عمر من جهة أنه كان يؤمن إذا ختم الفاتحة، وذلك أعم من أن يكون إماما أو مأموما. قوله: "عن ابن شهاب" في الترمذي من طريق زيد بن الحباب عن مالك " أخبرنا ابن شهاب". قوله: "أنهما أخبراه" ظاهره أن لفظهما واحد، لكن سيأتي في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة مغايرة يسيرة للفظ الزهري. قوله: "إذا أمن الإمام فأمنوا" ظاهر في أن الإمام يؤمن، وقيل معناه إذا دعا، والمراد دعاء الفاتحة من قوله: "اهدنا" إلى آخره بناء على أن التأمين دعاء. وقيل معناه إذا بلغ إلى موضع استدعى التأمين وهو قوله: "ولا الضالين" ويرد ذلك التصريح بالمراد في حديث الباب، واستدل به على مشروعية التأمين للإمام، قيل وفيه نظر لكونها قضية شرطية، وأجيب بأن التعبير بإذا يشعر بتحقيق الوقوع، وخالف مالك في إحدى الروايتين عنه وهي رواية ابن القاسم فقال: لا يؤمن الإمام في الجهرية. وفي رواية عنه لا يؤمن مطلقا. وأجاب عن حديث ابن شهاب هذا بأنه لم يره في حديث غيره، وهي علة غير قادحة فإن ابن شهاب إمام لا يضره التفرد، مع ما سيذكر قريبا أن ذلك جاء في حديث غيره، ورجح بعض المالكية كون الإمام لا يؤمن من حيث المعنى بأنه داع فناسب أن يختص المأموم التأمين، وهذا يجيء على قولهم إنه لا قراءة على المأموم، وأما من أوجبها عليه فله أن يقول: كما اشتركا في القراءة فينبغي أن يشتركا في التأمين، ومنهم من أول قوله: "إذا أمن الإمام " فقال: معناه دعا، قال وتسمية الداعي مؤمنا سائغة لأن المؤمن يسمى داعيا كما جاء في قوله تعالى: {قد أجيبت دعوتكما} وكان موسى داعيا وهارون مؤمنا كما رواه

(2/263)


ابن مردويه من حديث أنس، وتعقب بعدم الملازمة فلا يلزم من تسمية المؤمن داعيا عكسه قاله ابن عبد البر، على أن الحديث في الأصل لم يصح، ولو صح فإطلاق كون هارون داعيا إنما هو للتغليب. وقال بعضهم: معنى قوله: "إذا أمن " بلغ موضع التأمين كما يقال أنجد إذا بلغ نجدا وإن لم يدخلها، قال ابن العربي: هذا بعيد لغة وشرعا. وقال ابن دقيق العيد: وهذا مجاز، فإن وجد دليل يرجحه عمل به وإلا فالأصل عدمه. قلت: استدلوا له برواية أبي صالح عن أبي هريرة الآتية بعد باب بلفظ: "إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين " قالوا فالجمع بين الرواتين يقتضي حمل قوله: "إذا أمن " على المجاز. وأجاب الجمهور - على تسليم المجاز المذكور - بأن المراد بقوله إذا أمن أي أراد التأمين ليتوافق تأمين الإمام والمأموم معا، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها الإمام، وقد ورد التصريح بأن الإمام يقولها وذلك في رواية، ويدل على خلاف تأويلهم رواية معمر عن ابن شهاب في هذا الحديث بلفظ: "إذا قال الإمام ولا الضالين فقالوا آمين فإن الملائكة تقول آمين وإن الإمام يقول آمين " الحديث، أخرجه أبو داود والنسائي والسراج وهو صريح في كون الإمام يؤمن. وقيل في الجمع بينهما: المراد بقوله: "إذا قال ولا الضالين فقولوا آمين " أي ولو لم يقل الإمام آمين، وقيل يؤخذ من الخبرين تخيير المأموم في قولها مع الإمام أو بعده قاله الطبري، وقيل الأول لمن قرب من الإمام والثاني لمن تباعد عنه، لأن جهر الإمام بالتأمين أخفض من جهره بالقراءة، فقد يسمع قراءته من لا يسمع تأمينه، فمن سمع تأمينه أمن معه، وإلا يؤمن إذا سمعه يقول ولا الضالين لأنه وقت تأمينه قاله الخطابي. وهذه الوجوه كلها محتملة وليست بدون الوجه الذي ذكروه، وقد رده ابن شهاب بقوله: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين " كأنه استشعر التأويل المذكور فبين أن المراد بقوله: "إذا أمن " حقيقة التأمين، وهو وإن كان مرسلا فقد اعتضد بصنيع أبي هريرة راويه كما سيأتي بعد باب، وإذا ترجح أن الإمام يؤمن فيجهر به في الجهرية كما ترجم به المصنف وهو قول الجمهور، خلافا للكوفيين ورواية عن مالك فقال: يسر به مطلقا. ووجه الدلالة من الحديث أنه لو لم يكن التأمين مسموعا للمأموم لم يعلم به وقد علق تأمينه بتأمينه، وأجابوا بأن موضعه معلوم فلا يستلزم الجهر به وفيه نظر لاحتمال أن يخل به فلا يستلزم علم المأموم به، وقد روى روح بن عبادة عن مالك في هذا الحديث قال ابن شهاب " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ولا الضالين جهر بآمين " أخرجه السراج، ولابن حبان من رواية الزبيدي في حديث الباب عن ابن شهاب " كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال آمين " وللحميدي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة نحوه بلفظ: "إذا قال ولا الضالين " ولأبي داود من طريق أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة عن أبي هريرة مثله وزاد: "حتى يسمع من يليه من الصف الأول " ولأبي داود وصححه ابن حبان من حديث وائل ابن حجر نحو رواية الزبيدي، وفيه رد على من أومأ إلى النسخ فقال: إنما كان صلى الله عليه وسلم يجهر بالتأمين في ابتداء الإسلام ليعلمهم فإن وائل بن حجر إنما أسلم في أواخر الأمر. قوله: "فأمنوا" استدل به على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام لأنه رتب عليه بالفاء، لكن تقدم في الجمع بين الروايتين أن المراد المقارنة وبذلك قال الجمهور. وقال الشيخ أبو محمد الجويني: لا تستحب مقارنة الإمام في شيء من الصلاة غيره، قال إمام الحرمين: يمكن تعليله بأن التأمين لقراءة الإمام لا لتأمينه، فلذلك لا يتأخر عنه وهو واضح. ثم إن هذا الأمر عند الجمهور للندب، وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم عملا بظاهر الأمر، قال: وأوجبه الظاهرية على كل مصل ثم في مطلق أمر المأموم بالتأمين أنه يؤمن ولو كان مشتغلا بقراءة الفاتحة، وبه قال أكثر الشافعية. ثم اختلفوا هل تنقطع بذلك الموالاة؟

(2/264)


على وجهين: أصحهما لا تنقطع لأنه مأمور بذلك لمصلحة الصلاة، بخلاف الأمر الذي لا يتعلق بها كالحمد للعاطس (1) والله أعلم. قوله: "فإنه من وافق" زاد يونس عن ابن شهاب عند مسلم: "فإن الملائكة تؤمن " قبل قوله: "فمن وافق " وكذا لابن عيينة عن ابن شهاب كما سيأتي في الدعوات، وهو دال على أن المراد الموافقة في القول والزمان، خلافا لمن قال المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع كابن حبان فإنه لما ذكر الحديث قال: يريد موافقة الملائكة في الإخلاص بغير إعجاب، وكذا جنح إليه غيره فقال نحو ذلك من الصفات المحمودة، أو في إجابة الدعاء، أو في الدعاء بالطاعة خاصة، أو المراد بتأمين الملائكة استغفارهم للمؤمنين. وقال ابن المنير: الحكمة في إيثار الموافقة في القول والزمان أن يكون المأموم على يقظة للإتيان بالوظيفة في محلها، لأن الملائكة لا غفلة عندهم، فمن وافقهم كان متيقظا. ثم إن ظاهره أن المراد الملائكة جميعهم، واختاره ابن بزيزة. وقيل: الحفظة منهم، وقيل الذين يتعاقبون منهم إذا قلنا إنهم غير الحفظة. والذي يظهر أن المراد بهم من يشهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض أو في السماء. وسيأتي في رواية الأعرج بعد باب " وقالت الملائكة في السماء آمين " وفي رواية محمد بن عمرو الآتية أيضا: "فوافق ذلك قول أهل السماء " ونحوها لسهيل عن أبيه عند مسلم، وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال: "صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد " انتهى. ومثله لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى. قوله: "غفر له ما تقدم من ذنبه" ظاهره غفران جميع الذنوب الماضية، وهو محمول عند العلماء على الصغائر، وقد تقدم البحث في ذلك في الكلام على حديث عثمان فيمن توضأ كوضوئه صلى الله عليه وسلم في كتاب الطهارة. "فائدة": وقع في أمالي الجرجاني عن أبي العباس الأصم عن بحر بن نصر عن ابن وهب عن يونس في آخر هذا الحديث: "وما تأخر " وهي زيادة شاذة فقد رواه ابن الجارود في المنتقى عن بحر بن نصر بدونها، وكذا رواه مسلم عن حرملة وابن خزيمة عن يونس بن عبد الأعلى كلاهما عن ابن وهب وكذلك في جميع الطرق عن أبي هريرة إلا أني وجدته في بعض النسخ من ابن ماجه عن هشام بن عمار وأبي بكر بن أبي شيبة كلاهما عن ابن عيينة بإثباتها، ولا يصح، لأن أبا بكر قد رواه في مسنده ومصنفه بدونها، وكذلك حفاظ أصحاب ابن عيينة الحميدي وابن المديني وغيرهما. وله طريق أخرى ضعيفة من رواية أبي فروة محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه عن عثمان والوليد ابني ساج عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. قوله: "قال ابن شهاب" هو متصل إليه برواية مالك عنه، وأخطأ من زعم أنه معلق. ثم هو من مراسيل ابن شهاب، وقد قدمنا وجه اعتضاده. وروي عنه موصولا أخرجه الدار قطني في الغرائب والعلل من طريق حفص بن عمر العدني عن مالك عنه. وقال الدار قطني: تفرد به حفص بن عمر وهو ضعيف، وفي الحديث حجة على الإمامية (2) في قولهم إن التأمين يبطل الصلاة، لأنه ليس بلفظ قرآن ولا ذكر، ويمكن أن يكون مستندهم ما نقل عن جعفر الصادق أن معنى آمين أي قاصدين إليك، وبه تمسك من قال إنه بالمد والتشديد، وصرح المتولي من الشافعية بأن من قاله هكذا بطلت صلاته. وفيه فضيلة الإمام لأن تأمين الإمام يوافق
ـــــــ
(1) الصواب أن تأمين المأموم وحده إذا عطس لايقطع عليه قراءته لكونه شيئا يسيرا مشروعا . والله أعلم
(2) ما كان يحسن من الشارح أن يذكر خلاف الإمامية , لأنها طائفة ضالة , وهي من أخبث طوائف الشيعة. وقد سبق للشارح أن خلاف الزيدية لايعتبر , والإمامية شر من الزيدية وكلاهما من الشيعة وليسوا أهلا لأن يذكر خلافهم في مسائل الإجماع والخلاف . والله أعلم

(2/265)


تأمين الملائكة، ولهذا شرعت للمأموم موافقته. وظاهر سياق الأمر أن المأموم إنما يؤمن إذا أمن الإمام لا إذا ترك. وقال به بعض الشافعية كما صرح به صاحب " الذخائر " وهو مقتضى إطلاق الرافعي الخلاف. وادعى النووي في " شرح المهذب " الاتفاق على خلافه، ونص الشافعي في " الأم " على أن المأموم يؤمن ولو تركه الإمام عمدا أو سهوا، واستدل به القرطبي على تعيين قراءة الفاتحة للإمام، وعلى أن المأموم ليس عليه أن يقرأ فيما جهر به إمامه، فأما الأول فكأنه أخذه من أن التأمين مختص بالفاتحة فظاهر السياق يقتضي أن قراءة الفاتحة كان أمرا معلوما عندهم، وأما الثاني فقد يدل على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة حال قراءة الإمام لها لا أنه لا يقرؤها أصلا.

(2/266)


112 - باب فَضْلِ التَّأْمِينِ
781- حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه "
قوله: "باب فضل التأمين" أورد فيه رواية الأعرج لأنها مطلقة غير مقيدة بحال الصلاة. قال ابن المنير: وأي فضل أعظم من كونه قولا يسيرا لا كلفه فيه، ثم قد ترتبت عليه المغفرة ا هـ. ويؤخذ منه مشروعية التأمين لكل من قرأ الفاتحة سواء كان داخل الصلاة أو خارجها لقوله: "إذا قال أحدكم " لكن في رواية مسلم من هذا الوجه " إذا قال أحدكم في صلاته " فيحمل المطلق على المقيد. نعم في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد - وساق مسلم إسنادها - " إذا أمن القارئ فأمنوا " فهذا يمكن حمله على الإطلاق فيستحب التأمين إذا أمن القارئ مطلقا لكل من سمعه من مصل أو غيره. ويمكن أن يقال: المراد بالقارئ الإمام إذا قرأ الفاتحة. فإن الحديث واحد اختلفت ألفاظه. واستدل به بعض المعتزلة على أن الملائكة أفضل من الآدميين، وسيأتي البحث في ذلك في " باب الملائكة " من بدء الخلق إن شاء الله تعالى.

===============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............